محمد إلهامي's Blog, page 50
January 17, 2016
ما هي الحضارة؟
ما هي تلك الحضارة التي تكثر الألسنة من تردادها، ويحب المثقفون تكرارها، بل وأحيانا تُقام باسمها الحروب؟!لقد أطال المؤرخون وعلماء الحضارات في تعريف الحضارة ومجالاتها، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، ومنهم من يفرِّق بين "الحضارة" و"الثقافة" باعتبار أن الحضارة هي صورة النشاط المادي بينما الثقافة هي صورة النشاط الروحي والفكري، وأصحاب هذا الفصل بين الكلمتين والمعنييْن هم الفلاسفة الألمان بشكل رئيسيومنهم من يجعل الحضارة كلمة جامعة تشمل صورة النشاط المادي والثقافي معا.
وأصل كلمة "الحضارة" في لسان العرب وفي الغرب تعني المدينة أو ما هو فوق البادية أو فوق القرية، ففي لسان العرب "الحضارة هي الإقامة في الحضر، والحاضرة خلاف البادية"وقد ظلت دلالة المعنى العام الإجمالي لم تتغير عبر القرون، رغم ما حلَّ بالتعريف من منازعات هي نفسها من آثار المعركة الحضارية المشتعلة في هذه القرون، فقد اعتبر بعضهم أن الحضارة إنما تعني المنجزات المادية، فمن ذلك تعريف ابن خلدون بأن الحضارة "أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر"بينما البعض الآخر شاع في تعريفاتهم التركيز على الروح والفكر والثقافة، فمن ذلك تعريف كريستوفر داوسون بأن الحضارة "تتأسس من عملية أصيلة خاصة من الإبداع الثقافي لشعب بعينه"وسعى قوم آخرون إلى الجمع بين الأمرين؛ إما كمحاولة للتوفيق أو عن قناعة بأن النشاط المادي لا بد حتما أن يصدر عن منظومة فكرية ويكون ثمرة لنشاط ثقافي، كما أن مجرد النشاط الفكري الثقافي الذي لم يصدر عنه نشاط وإنتاج مادي لا يُمكن أن يُطلق عليه "حضارة"، فكم وُجِد بشرٌ من غير حضارة بينما لم يوجد بشر من غير فكر وثقافة أبدا. ومن أولئك أوسولد شبنجلر الذي يقول بأن "الحضارة هي المصير الحتمي للثقافة"ومما يلفت النظر ويثير التأمل هو المقارنة بين تعريف الحضارة لدى أشهر رجليْن خاضا هذا الموضوع: ابن خلدون، وول ديورانت.
فابن خلدون عَرَّف الحضارة وهو في ظلال بيئة إسلامية، فكان أميل بها إلى النشاط المادي؛ فالحضارة عنده "هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه؛ من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه"بينما مال ول ديورانت وهو في ظلال بيئة مادية، فكان أميل بها إلى النشاط الثقافي؛ يقول: "الحضارة هي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي"وأيا ما كان الاختلاف حول التعريف فلقد درج المؤلفون في الحضارات على تناول الحضارة من خلال دراسة "العلوم والآداب والفنون والصناعات والنظم والمعتقدات"وكالعادة ليس ثمة اتفاق كامل على وصف الموضوعات وتقسيمها، ولكن المخطط العام يدور حول هذه المجالات التي وضعناها في هذا المخطط:
وغير خافٍ أن لكل مجال من هذه المجالات تقسيمات فرعية أخرى، وغير خافٍ كذلك ما يكون بين هذه المجالات وبعضها من التشابك والعلاقة والتأثير المتبادل، فالحضارة هي مزجٌ ومزاج مستخلص من هذا كله بعد عملية تفاعلات غير محدودة عبر زمن زاخر بالتفاصيل والمؤثرات غير المرئية.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "كانت هذه الحضارة (الغربية)، بمعناها الواسع، مجموع عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم سياسية واقتصادية، وعلوما طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب الأوروبية التي تزعمت هذه الحضارة في رحلتها الطويلة، وكانت مظهر تقدم العلم البشري وعلوم الطبيعة، وعلم الآلات والعلوم الرياضية، ومجموع نتائج جهود علماء وباحثين عبر القرون؛ فكانت مزيجا غريبا من أجزاء لا يكون الحكم عليها واحدا متشابها"نشر في الخليج أون لاين
فرناندو بروديل: تاريخ وقواعد الحضارات ص5 وما بعدها. علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب ص94، 95. ابن منظور: لسان العرب 4/196. Oxford Dictionary "civis". ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/461. فرناندو بروديل: تاريخ وقواعد الحضارات ص6. Christopher Dawson: The Dynamics Of World History, p. 402. Fernand Braudel: On History, p. 202. مجلة الرسالة، العدد 366، بتاريخ 8/7/1940م). Oswald Spengler: The Decline of the West, p. 24. مالك بن نبي: القضايا الكبرى ص43 بتصرف. د. حسين مؤنس: الحضارة ص13. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/216. ول ديورانت: قصة الحضارة 1/3. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص33. ول ديورانت: قصة الحضارة 1/3. الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص10. الندوي: الإسلام أثره على الحضارة وفضله على الإنسانية ص12، 13.
وأصل كلمة "الحضارة" في لسان العرب وفي الغرب تعني المدينة أو ما هو فوق البادية أو فوق القرية، ففي لسان العرب "الحضارة هي الإقامة في الحضر، والحاضرة خلاف البادية"وقد ظلت دلالة المعنى العام الإجمالي لم تتغير عبر القرون، رغم ما حلَّ بالتعريف من منازعات هي نفسها من آثار المعركة الحضارية المشتعلة في هذه القرون، فقد اعتبر بعضهم أن الحضارة إنما تعني المنجزات المادية، فمن ذلك تعريف ابن خلدون بأن الحضارة "أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر"بينما البعض الآخر شاع في تعريفاتهم التركيز على الروح والفكر والثقافة، فمن ذلك تعريف كريستوفر داوسون بأن الحضارة "تتأسس من عملية أصيلة خاصة من الإبداع الثقافي لشعب بعينه"وسعى قوم آخرون إلى الجمع بين الأمرين؛ إما كمحاولة للتوفيق أو عن قناعة بأن النشاط المادي لا بد حتما أن يصدر عن منظومة فكرية ويكون ثمرة لنشاط ثقافي، كما أن مجرد النشاط الفكري الثقافي الذي لم يصدر عنه نشاط وإنتاج مادي لا يُمكن أن يُطلق عليه "حضارة"، فكم وُجِد بشرٌ من غير حضارة بينما لم يوجد بشر من غير فكر وثقافة أبدا. ومن أولئك أوسولد شبنجلر الذي يقول بأن "الحضارة هي المصير الحتمي للثقافة"ومما يلفت النظر ويثير التأمل هو المقارنة بين تعريف الحضارة لدى أشهر رجليْن خاضا هذا الموضوع: ابن خلدون، وول ديورانت.
فابن خلدون عَرَّف الحضارة وهو في ظلال بيئة إسلامية، فكان أميل بها إلى النشاط المادي؛ فالحضارة عنده "هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه؛ من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه"بينما مال ول ديورانت وهو في ظلال بيئة مادية، فكان أميل بها إلى النشاط الثقافي؛ يقول: "الحضارة هي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي"وأيا ما كان الاختلاف حول التعريف فلقد درج المؤلفون في الحضارات على تناول الحضارة من خلال دراسة "العلوم والآداب والفنون والصناعات والنظم والمعتقدات"وكالعادة ليس ثمة اتفاق كامل على وصف الموضوعات وتقسيمها، ولكن المخطط العام يدور حول هذه المجالات التي وضعناها في هذا المخطط:

وغير خافٍ أن لكل مجال من هذه المجالات تقسيمات فرعية أخرى، وغير خافٍ كذلك ما يكون بين هذه المجالات وبعضها من التشابك والعلاقة والتأثير المتبادل، فالحضارة هي مزجٌ ومزاج مستخلص من هذا كله بعد عملية تفاعلات غير محدودة عبر زمن زاخر بالتفاصيل والمؤثرات غير المرئية.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "كانت هذه الحضارة (الغربية)، بمعناها الواسع، مجموع عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم سياسية واقتصادية، وعلوما طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب الأوروبية التي تزعمت هذه الحضارة في رحلتها الطويلة، وكانت مظهر تقدم العلم البشري وعلوم الطبيعة، وعلم الآلات والعلوم الرياضية، ومجموع نتائج جهود علماء وباحثين عبر القرون؛ فكانت مزيجا غريبا من أجزاء لا يكون الحكم عليها واحدا متشابها"نشر في الخليج أون لاين
فرناندو بروديل: تاريخ وقواعد الحضارات ص5 وما بعدها. علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب ص94، 95. ابن منظور: لسان العرب 4/196. Oxford Dictionary "civis". ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/461. فرناندو بروديل: تاريخ وقواعد الحضارات ص6. Christopher Dawson: The Dynamics Of World History, p. 402. Fernand Braudel: On History, p. 202. مجلة الرسالة، العدد 366، بتاريخ 8/7/1940م). Oswald Spengler: The Decline of the West, p. 24. مالك بن نبي: القضايا الكبرى ص43 بتصرف. د. حسين مؤنس: الحضارة ص13. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/216. ول ديورانت: قصة الحضارة 1/3. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص33. ول ديورانت: قصة الحضارة 1/3. الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص10. الندوي: الإسلام أثره على الحضارة وفضله على الإنسانية ص12، 13.
Published on January 17, 2016 06:47
January 15, 2016
لماذا صار "المهندس" أسطورة؟!
قال حكيم التاريخ ابن خلدون: "واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع وقد زعموا أنّه كان مكتوبا على باب أفلاطون: «من لم يكن مهندسا فلا يدخلنّ منزلنا» وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: «ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصّابون للثّوب الّذي يغسل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران». وإنّما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه" [المقدمة 1/639، 640 ط دار الفكر].
وقبل أن تفكر في الاختلاف أو الاتفاق مع ابن خلدون، اعلم أننا لا نسوق كلامه في مدح المهندسين، وإنما نتخذه مدخلا للحديث عن "المهندس" الذي صار أسطورة!
إنه.. يحيى عياش!
تمر بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد عياش (6/1/1996م)، المعروف بلقبه وحده "المهندس"، فإذا قيل هذا اللقب في سياق الجهاد والمقاومة انصرفت الأذهان إلى شخصه، دون غيره من أجيال المهندسين الذين تلقي بهم الجامعات أفواجا في كل سنة!
فلماذا صار "المهندس" أسطورة؟!
يذكرني يحيى عياش بالصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإن سعدًا كان سيد قومه ولم يزل في العشرينيات من عمره بعد حرب بعاث التي أهلكت صناديد الأوس والخزرج، ثم إنه صاحب الفتح الكبير حين أسلم فكان إسلامه سببا لدخول عشيرته في الدين، وهم الذين كانوا بعدئذ الأنصار.. الأنصار الذين نصر الله بهم هذا الدين، والذين أُمِرْنا بحبهم، والذين يتمنى صاحب كل دعوة وفكرة رجالا مثلهم، والذين حملوا الدين حتى استقرت دولته وارتفعت رايته، ثم لم يخرجوا من هذا الجهاد الطويل كله بشيء من متاع الدنيا!
لم يعش سعد في الإسلام طويلا، خمس سنوات فقط أو تزيد، ثم استشهد في غزوة الأحزاب وهو في السادسة والثلاثين، خمس سنوات فقط ولما مات اهتز لموته عرش الرحمن! فأي همة وأي عظمة وأي مكانة هذه! وكم عاش في الإسلام أناس أعمارا مديدة فلا انتفع الإسلام منهم بشيء، ولا اهتز لموتهم جفن في عين!
من هذا الوجه يشبهه يحيى عياش!
لم يكن عمر عياش في الجهاد سوى أربع سنوات (1992 – 1996م) ولما استشهد اهتزت لموته الأمة كلها، بل واهتز –فرحا- أعداء الأمة الذين تخلصوا من هذا الشاب الضئيل النحيل، الذي لم يكمل الثلاثين عاما بعد (ولد 1966 – استشهد 1996م)!
لما وُلِد كان ضئيلا صغيرا لا يحسب من يراه أنه سيعيش، ولما نما تعلق قلبه بالمساجد وصار ملازما لمسجد قريته، وكان حريصا على الصلاة في الصف الأول، تعلم القرآن، وعُرف بهدوء الطبع ولزوم الخجل، فما كان لأحد من غير ذوي الفراسة أن يبصر النفسية العظيمة في الإهاب الخجول، ولا النار المضطرمة في المطلع الهادئ، واندرج في سلك الدراسة وظهر تفوقه ونبوغه، ثم دخل كلية الهندسة، قسم الكهرباء، وتخرج فيها متفوقا، ثم منعه الاحتلال من الخروج إلى الأردن لاستكمال دراسته العليا، فبقي في الداخل ليذيقهم العذاب، حتى ارتقى شهيدا، فكان اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، فلو أنه حصَّل مئات الشهادات العلمية ما كان ليبلغ هذه المكانة!
إلا أن يحيى لم يصر أسطورة بهذا، بل صار أسطورة لما هو آت..
كانت المقاومة الإسلامية لليهود تعاني من نقص في كل شيء، الرجال والمال والسلاح والتنظيم، حتى إن عماد عقل –وهو من رواد المقاومة وبواسلها الكبار قبل يحيى عياش- لما رأى بندقية M16 أخذ يُقَبِّلها ويبكي ويضمها إليه ويقلبها بين يديه كمن رأى كنزا ثمينا، لقد بدأ الأمر ببندقية واحدة تنتقل بين الضفة وغزة، وربما بعض المسدسات الخفيفة التي حُصِّلت من هنا وهناك والتي لا تزيد عن أصابع اليد كما يُفهم ممن أرخوا لتأسيس حماسحتى جاء يحيى عياش فصنع قفزة في مسار المقاومة، بتمكنه من تصنيع المتفجرات بأدوات محلية موجودة في البيئة الفلسطينية، كان عياش مخترعا مبتكرا، أقام على ترجمة أبحاث البارود حتى تمكن من الوصول إلى هدفه، وهنا صارت المقاومة تستطيع أن توقع النكاية في العدو مع الحفاظ على عناصرها وكوادرها، أو إن اضطرت فإن العلميات الاستشهادية سيذهب فيها الاستشهادي ولكن بعد أن يوقع في العدو خسائر فادحة.
هنا تغير الميزان بين المقاومة والعدو.. وهنا بدأت أسطورة المهندس في البزوغ!
وجهٌ آخر من أسطورته كامنٌ في قدرته على تضليل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، المدعومة بالأجهزة الأمنية العميلة للسلطة الفلسطينية، فبرغم الرقابة اللصيقة استطاع أن يبقى حرا في الضفة، ثم استطاع الهروب إلى غزة، بل واستطاع تهريب زوجته وابنه إلى غزة، ثم استطاع تهريب والدته فالتقى بها ثم عادت مرة أخرى إلى الضفة، وهذا أمرٌ لا يعرف صعوبته إلا من عاينه وعايشه.
بعد أربع سنوات استطاعت المخابرات الإسرائيلية –بعد مئات الاجتماعات والخطط وتجنيد العملاء- أن تتوصل إلى يحيى عياش من خلال عميل فلسطيني، فسرَّبت إليه هاتفا محمولا مشحونا بمتفجرات خفيفة في بطاريته، وكان الشهيد ينتظر مكالمة من والده فعمل هذا العميل على فصل الخط الأرضي ليضطر الشهيد لاستعمال الهاتف المحمول، وكانت تحوم فوق البيت الذي رُصِد فيه طائرة، فلما تمت المكالمة لم يأخذ الأمر خمس عشرة ثانية حتى تأكد الإسرائيليون من صوت الشهيد ففُجِّر الهاتف، ليتشوه نصف الوجه الأيمن والكف اليمنى للشهيد، ويُكتب ختام الأسطورة!
إن استشهاد عياش كان –للمفارقة- بابتكار هندسي أيضا، بطارية محمول تحتوي متفجرات خفيفة يتم تفجيرها بذبذبات الاتصال، وهو ما يكشف الفارق بين أن تكون مهندسا في ظل سلطة تسعى لنهضة الدولة وبين أن تكون مهندسا في ظل سلطة عميلة!! في الحالة الأولى تستطيع أن تكتب ختام أسطورة تمثل تهديدا خطيرا، وفي الثانية تظل مُطارَدًا مطلوبا حتى ينتهي بك الحال شهيدا أو أسيرا أو طريدا!
لولا العملاء، ولولا السلطة الفلسطينية العميلة التي كان يقودها الهالك المقبور ياسر عرفات، لحققت المقاومة الفلسطينية نجاحات هائلة غير مسبوقة، دليل ذلك أن أهل الضفة ما زالوا يعانون ولا يجدون غير السكاكين رغم أنهم أهل الاستشهاد والفداء، بينما غزة التي تحررت منهم تصنع الصواريخ والطائرات بغير طيار وتنفذ عمليات أمنية في غاية الخطورة ولا يستطيع الوحش الإسرائيلي الذي اغتصب أربعة بلاد عربية في أيام أن يجتاح قطاع غزة الضئيل المكشوف جغرافيا المراقب على مدار الساعة بعد أربعة حروب!! هذا مع أن القطاع مُحاصَر من العملاء في السلطة المصرية والسلطة الفلسطينية، ولولا هذا الحصار لكانت إنجازاته العسكرية والتقنية أكبر بكثير.
استشهاد عياش يفتح ملف هذه الأنظمة العربية العميلة المجرمة التي هي عين العدو وذراعه وسيفه ولسانه، بل هي أشد من العدو، لأنها من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أمر ينبغي أن يرسخ في يقين الأمة ويقين الحركة الإسلامية، فالواقع الفعلي أن زوال هذه الأنظمة –ولو كان البديل هو الفوضى- أفضل من بقائها، والواقع أن الاحتلال المباشر الصريح لم يفعل فينا ما فعلته هذه الأنظمة، بل لم يستطع أن يستفيد ولا أن يترسخ وجوده إلا بهذه الأنظمة العميلة ذاتها.
هل تعلم مثلا أن حسن سلامة، قائد عمليات الثأر للشهيد يحيى عياش، هو الآن أسير في سجون الاحتلال الصهيوني؟ فهل تعلم أنه كان معتقلا لدى السلطة الفلسطينية أيضا؟ ثم هل تعلم أن هذا الأسير متهم لدى السلطة المصرية بأنه اقتحم الحدود في ثورة يناير وأخرج المساجين، وحاكمه القضاء المصري "الشامخ خدا" ثم حكم عليه بالإعدام؟!!
في بلادنا العربية لا تجد العلماء إلا في القبور أو السجون أو المنافي أو في أحسن أحوالهم يموتون بحسرتهم من العجز والفساد الذي يمنعهم أن يفعلوا شيئا، وأتذكر يوما (ربما في 2002 إن لم تخني الذاكرة) أن قرأت في بريد الأهرام رسالة من أستاذ للهندسة النووية يستعيد فيها ذكرياته حول دفعة قسم الهندسة النووية في جامعة الإسكندرية، ويتذكر كيف صار صديقه الآن أستاذا في أمريكا والآخر في كندا والآخر في استراليا، حتى إذا انتهى طرح السؤال المقصود: ما فائدة قسم الهندسة النووية إذا كان كل خريجيه سيكملون مسيرتهم في الخارج؟
والروايات في شأن من حاولوا اختراع أسلحة أو تطويرها، أو صناعة تطبيقات عسكرية لنظريات مدنية، تفيض بالمآسي المروعة التي لا تُصَدَّق.. لسنا أمة متخلفة ولكن أمة فرضت عليها هذه الأنظمة العميلة أن تكون متخلفة! بقرار واعٍ وعمد وإصرار لا بمجرد الفساد والغفلة والبلاهة، وهو أمر يعرفه من حاولوا حقّ المعرفة.
والآن، لا يعرف أحد حجم النكبة التي نزلت بمصر إلا إن كان يعرف بعض من ماتوا في رابعة أو بعض من هم الآن في السجون، ولقد كان منهم عباقرة ومخترعون ومن يفيضون طاقة ونشاطا في صناعة المستقبل.
كان سيد قطب، ببصيرته النافذة، قد أوصى أهل القدس في مطلع الخمسينات ألا يفكروا في الاعتماد على الجيوش العربية، بل ليعتمدوا على أنفسهم، وهي الكلمة التي رسخت في ذهن وقلب إبراهيم غوشة مؤسس حماس ووعاها منذ صغره، منذ سمعها من الشهيد.
ولو أنك سمعت حلقات شاهد على العصر للشيخ أحمد ياسين، لوجدته في الحلقة الأولى يصرح بأنه لولا الجيوش العربية لما كانت النكبة، ذلك أن الجيوش العربية كانت تدخل القرى الفلسطينية فتسحب السلاح من الناس، فإذا جاءت المواجهة انهزموا وانسحبوا أمام اليهود فتركوا الناس بلا سلاح!!
يمكن أن نفيض في التاريخ العسكري الأسود لهذه الأنظمة العربية التي لم تحقق ولا نصرا واحدا على عدوها، ولئن كان لها انتصار جزئي هنا أو هناك في معارك فرعية فإنه لم يكن إلا بدعم وجهود المقاومة الشعبية، ولولا ذلك لما فعلوا! بينما لم تكن تتردد هذه الجيوش في سحق المدن والبلاد وتنفيذ المجازر في شعوبها فحسب. وهو ما يعني بالواقع المجرد –لا بمجرد التوقع أو التحليل- أن زوال هذه الأنظمة خير من بقائها في كل الأحوال، وأن المجتمع في أشد لحظات الفوضى لم يأكل بعضه كما كان مأكولا على مذبح هذه الأنظمة!
هذا هو درس الأمة الكبير، الذي يجب ويتحتم على الحركة الإسلامية أن تعيه وتستفيد منه!
ثمة درس آخر.. وهو توظيف المواهب!
إذ يتحتم على الحركة الإسلامية أن تعمل على توظيف المواهب والقدرات، بل أن تسعى في اكتشافها وتنميتها ما استطاعت، ولو أن عياش استهلك في أعمال إدارية أو تنظيمية أو إعلامية أو دعوية أو أي شيء آخر بخلاف موهبته العملية لما صار يحيى عياش، ولما أضاف إلى الأمة ما أضافه.. فالسؤال المرير الآن: كم تقتل الحركة الإسلامية بسوء القيادة من أساطير كان يمكن أن تحقق قفزات كبرى في تاريخها؟ كم يحيى عياش استنزفت موهبته في عمل خيري أو دعوي أو إداري لقصر نظر المسؤولين عنه؟!
لئن كان العدو اغتال المهندس الأسطورة.. فكم أسطورة هي بيننا في حكم الموؤودة؟!!
ويبقى الدرس الأخير لكل صاحب موهبة، لا سيما إن كانت في الجانب العلمي، أن يسعى ليصنع أسطورته الخاصة، وكل موهوب داخله أسطورة تنتظر أن تخرج، لكنها تنتظر بذل الغالي والنفيس من المجهود والأوقات والأموال، ولئن كنا نلوم على من قصر نظره من القيادة فيجب أن نلوم في ذات الوقت من استسلم لقصر النظر وخضع للقرار الخطأ ولم يجاهد ليصنع أسطورته الخاصة فيضع نفسه حيث يرضى الله وحيث تنتفع الأمة على الزمن الطويل والمدى الواسع لا على مستوى التكلفة العاجلة التي يحتاجها التنظيم الآن في القرية أو الحي أو النقابة أو البرلمان.
أبرز المصادر في تأسيس حماس كتب: § حماس.. الجذور والميثاق – عبد الله عزام (في المجلد الأول من المجموعة الكاملة لعبد الله عزام من ص826)§ المئذنة الحمراء – إبراهيم أبو غوشة [من إصدارات مركز الزيتونة]§ حلقات مراجعات – إبراهيم أبو غوشة§ حلقات شاهد على العصر – أحمد ياسين§ حلقات شاهد على العصر – عبد الحكيم حنيني
وقبل أن تفكر في الاختلاف أو الاتفاق مع ابن خلدون، اعلم أننا لا نسوق كلامه في مدح المهندسين، وإنما نتخذه مدخلا للحديث عن "المهندس" الذي صار أسطورة!
إنه.. يحيى عياش!
تمر بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد عياش (6/1/1996م)، المعروف بلقبه وحده "المهندس"، فإذا قيل هذا اللقب في سياق الجهاد والمقاومة انصرفت الأذهان إلى شخصه، دون غيره من أجيال المهندسين الذين تلقي بهم الجامعات أفواجا في كل سنة!
فلماذا صار "المهندس" أسطورة؟!
يذكرني يحيى عياش بالصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإن سعدًا كان سيد قومه ولم يزل في العشرينيات من عمره بعد حرب بعاث التي أهلكت صناديد الأوس والخزرج، ثم إنه صاحب الفتح الكبير حين أسلم فكان إسلامه سببا لدخول عشيرته في الدين، وهم الذين كانوا بعدئذ الأنصار.. الأنصار الذين نصر الله بهم هذا الدين، والذين أُمِرْنا بحبهم، والذين يتمنى صاحب كل دعوة وفكرة رجالا مثلهم، والذين حملوا الدين حتى استقرت دولته وارتفعت رايته، ثم لم يخرجوا من هذا الجهاد الطويل كله بشيء من متاع الدنيا!
لم يعش سعد في الإسلام طويلا، خمس سنوات فقط أو تزيد، ثم استشهد في غزوة الأحزاب وهو في السادسة والثلاثين، خمس سنوات فقط ولما مات اهتز لموته عرش الرحمن! فأي همة وأي عظمة وأي مكانة هذه! وكم عاش في الإسلام أناس أعمارا مديدة فلا انتفع الإسلام منهم بشيء، ولا اهتز لموتهم جفن في عين!
من هذا الوجه يشبهه يحيى عياش!
لم يكن عمر عياش في الجهاد سوى أربع سنوات (1992 – 1996م) ولما استشهد اهتزت لموته الأمة كلها، بل واهتز –فرحا- أعداء الأمة الذين تخلصوا من هذا الشاب الضئيل النحيل، الذي لم يكمل الثلاثين عاما بعد (ولد 1966 – استشهد 1996م)!
لما وُلِد كان ضئيلا صغيرا لا يحسب من يراه أنه سيعيش، ولما نما تعلق قلبه بالمساجد وصار ملازما لمسجد قريته، وكان حريصا على الصلاة في الصف الأول، تعلم القرآن، وعُرف بهدوء الطبع ولزوم الخجل، فما كان لأحد من غير ذوي الفراسة أن يبصر النفسية العظيمة في الإهاب الخجول، ولا النار المضطرمة في المطلع الهادئ، واندرج في سلك الدراسة وظهر تفوقه ونبوغه، ثم دخل كلية الهندسة، قسم الكهرباء، وتخرج فيها متفوقا، ثم منعه الاحتلال من الخروج إلى الأردن لاستكمال دراسته العليا، فبقي في الداخل ليذيقهم العذاب، حتى ارتقى شهيدا، فكان اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، فلو أنه حصَّل مئات الشهادات العلمية ما كان ليبلغ هذه المكانة!
إلا أن يحيى لم يصر أسطورة بهذا، بل صار أسطورة لما هو آت..
كانت المقاومة الإسلامية لليهود تعاني من نقص في كل شيء، الرجال والمال والسلاح والتنظيم، حتى إن عماد عقل –وهو من رواد المقاومة وبواسلها الكبار قبل يحيى عياش- لما رأى بندقية M16 أخذ يُقَبِّلها ويبكي ويضمها إليه ويقلبها بين يديه كمن رأى كنزا ثمينا، لقد بدأ الأمر ببندقية واحدة تنتقل بين الضفة وغزة، وربما بعض المسدسات الخفيفة التي حُصِّلت من هنا وهناك والتي لا تزيد عن أصابع اليد كما يُفهم ممن أرخوا لتأسيس حماسحتى جاء يحيى عياش فصنع قفزة في مسار المقاومة، بتمكنه من تصنيع المتفجرات بأدوات محلية موجودة في البيئة الفلسطينية، كان عياش مخترعا مبتكرا، أقام على ترجمة أبحاث البارود حتى تمكن من الوصول إلى هدفه، وهنا صارت المقاومة تستطيع أن توقع النكاية في العدو مع الحفاظ على عناصرها وكوادرها، أو إن اضطرت فإن العلميات الاستشهادية سيذهب فيها الاستشهادي ولكن بعد أن يوقع في العدو خسائر فادحة.
هنا تغير الميزان بين المقاومة والعدو.. وهنا بدأت أسطورة المهندس في البزوغ!
وجهٌ آخر من أسطورته كامنٌ في قدرته على تضليل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، المدعومة بالأجهزة الأمنية العميلة للسلطة الفلسطينية، فبرغم الرقابة اللصيقة استطاع أن يبقى حرا في الضفة، ثم استطاع الهروب إلى غزة، بل واستطاع تهريب زوجته وابنه إلى غزة، ثم استطاع تهريب والدته فالتقى بها ثم عادت مرة أخرى إلى الضفة، وهذا أمرٌ لا يعرف صعوبته إلا من عاينه وعايشه.
بعد أربع سنوات استطاعت المخابرات الإسرائيلية –بعد مئات الاجتماعات والخطط وتجنيد العملاء- أن تتوصل إلى يحيى عياش من خلال عميل فلسطيني، فسرَّبت إليه هاتفا محمولا مشحونا بمتفجرات خفيفة في بطاريته، وكان الشهيد ينتظر مكالمة من والده فعمل هذا العميل على فصل الخط الأرضي ليضطر الشهيد لاستعمال الهاتف المحمول، وكانت تحوم فوق البيت الذي رُصِد فيه طائرة، فلما تمت المكالمة لم يأخذ الأمر خمس عشرة ثانية حتى تأكد الإسرائيليون من صوت الشهيد ففُجِّر الهاتف، ليتشوه نصف الوجه الأيمن والكف اليمنى للشهيد، ويُكتب ختام الأسطورة!
إن استشهاد عياش كان –للمفارقة- بابتكار هندسي أيضا، بطارية محمول تحتوي متفجرات خفيفة يتم تفجيرها بذبذبات الاتصال، وهو ما يكشف الفارق بين أن تكون مهندسا في ظل سلطة تسعى لنهضة الدولة وبين أن تكون مهندسا في ظل سلطة عميلة!! في الحالة الأولى تستطيع أن تكتب ختام أسطورة تمثل تهديدا خطيرا، وفي الثانية تظل مُطارَدًا مطلوبا حتى ينتهي بك الحال شهيدا أو أسيرا أو طريدا!
لولا العملاء، ولولا السلطة الفلسطينية العميلة التي كان يقودها الهالك المقبور ياسر عرفات، لحققت المقاومة الفلسطينية نجاحات هائلة غير مسبوقة، دليل ذلك أن أهل الضفة ما زالوا يعانون ولا يجدون غير السكاكين رغم أنهم أهل الاستشهاد والفداء، بينما غزة التي تحررت منهم تصنع الصواريخ والطائرات بغير طيار وتنفذ عمليات أمنية في غاية الخطورة ولا يستطيع الوحش الإسرائيلي الذي اغتصب أربعة بلاد عربية في أيام أن يجتاح قطاع غزة الضئيل المكشوف جغرافيا المراقب على مدار الساعة بعد أربعة حروب!! هذا مع أن القطاع مُحاصَر من العملاء في السلطة المصرية والسلطة الفلسطينية، ولولا هذا الحصار لكانت إنجازاته العسكرية والتقنية أكبر بكثير.
استشهاد عياش يفتح ملف هذه الأنظمة العربية العميلة المجرمة التي هي عين العدو وذراعه وسيفه ولسانه، بل هي أشد من العدو، لأنها من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أمر ينبغي أن يرسخ في يقين الأمة ويقين الحركة الإسلامية، فالواقع الفعلي أن زوال هذه الأنظمة –ولو كان البديل هو الفوضى- أفضل من بقائها، والواقع أن الاحتلال المباشر الصريح لم يفعل فينا ما فعلته هذه الأنظمة، بل لم يستطع أن يستفيد ولا أن يترسخ وجوده إلا بهذه الأنظمة العميلة ذاتها.
هل تعلم مثلا أن حسن سلامة، قائد عمليات الثأر للشهيد يحيى عياش، هو الآن أسير في سجون الاحتلال الصهيوني؟ فهل تعلم أنه كان معتقلا لدى السلطة الفلسطينية أيضا؟ ثم هل تعلم أن هذا الأسير متهم لدى السلطة المصرية بأنه اقتحم الحدود في ثورة يناير وأخرج المساجين، وحاكمه القضاء المصري "الشامخ خدا" ثم حكم عليه بالإعدام؟!!
في بلادنا العربية لا تجد العلماء إلا في القبور أو السجون أو المنافي أو في أحسن أحوالهم يموتون بحسرتهم من العجز والفساد الذي يمنعهم أن يفعلوا شيئا، وأتذكر يوما (ربما في 2002 إن لم تخني الذاكرة) أن قرأت في بريد الأهرام رسالة من أستاذ للهندسة النووية يستعيد فيها ذكرياته حول دفعة قسم الهندسة النووية في جامعة الإسكندرية، ويتذكر كيف صار صديقه الآن أستاذا في أمريكا والآخر في كندا والآخر في استراليا، حتى إذا انتهى طرح السؤال المقصود: ما فائدة قسم الهندسة النووية إذا كان كل خريجيه سيكملون مسيرتهم في الخارج؟
والروايات في شأن من حاولوا اختراع أسلحة أو تطويرها، أو صناعة تطبيقات عسكرية لنظريات مدنية، تفيض بالمآسي المروعة التي لا تُصَدَّق.. لسنا أمة متخلفة ولكن أمة فرضت عليها هذه الأنظمة العميلة أن تكون متخلفة! بقرار واعٍ وعمد وإصرار لا بمجرد الفساد والغفلة والبلاهة، وهو أمر يعرفه من حاولوا حقّ المعرفة.
والآن، لا يعرف أحد حجم النكبة التي نزلت بمصر إلا إن كان يعرف بعض من ماتوا في رابعة أو بعض من هم الآن في السجون، ولقد كان منهم عباقرة ومخترعون ومن يفيضون طاقة ونشاطا في صناعة المستقبل.
كان سيد قطب، ببصيرته النافذة، قد أوصى أهل القدس في مطلع الخمسينات ألا يفكروا في الاعتماد على الجيوش العربية، بل ليعتمدوا على أنفسهم، وهي الكلمة التي رسخت في ذهن وقلب إبراهيم غوشة مؤسس حماس ووعاها منذ صغره، منذ سمعها من الشهيد.
ولو أنك سمعت حلقات شاهد على العصر للشيخ أحمد ياسين، لوجدته في الحلقة الأولى يصرح بأنه لولا الجيوش العربية لما كانت النكبة، ذلك أن الجيوش العربية كانت تدخل القرى الفلسطينية فتسحب السلاح من الناس، فإذا جاءت المواجهة انهزموا وانسحبوا أمام اليهود فتركوا الناس بلا سلاح!!
يمكن أن نفيض في التاريخ العسكري الأسود لهذه الأنظمة العربية التي لم تحقق ولا نصرا واحدا على عدوها، ولئن كان لها انتصار جزئي هنا أو هناك في معارك فرعية فإنه لم يكن إلا بدعم وجهود المقاومة الشعبية، ولولا ذلك لما فعلوا! بينما لم تكن تتردد هذه الجيوش في سحق المدن والبلاد وتنفيذ المجازر في شعوبها فحسب. وهو ما يعني بالواقع المجرد –لا بمجرد التوقع أو التحليل- أن زوال هذه الأنظمة خير من بقائها في كل الأحوال، وأن المجتمع في أشد لحظات الفوضى لم يأكل بعضه كما كان مأكولا على مذبح هذه الأنظمة!
هذا هو درس الأمة الكبير، الذي يجب ويتحتم على الحركة الإسلامية أن تعيه وتستفيد منه!
ثمة درس آخر.. وهو توظيف المواهب!
إذ يتحتم على الحركة الإسلامية أن تعمل على توظيف المواهب والقدرات، بل أن تسعى في اكتشافها وتنميتها ما استطاعت، ولو أن عياش استهلك في أعمال إدارية أو تنظيمية أو إعلامية أو دعوية أو أي شيء آخر بخلاف موهبته العملية لما صار يحيى عياش، ولما أضاف إلى الأمة ما أضافه.. فالسؤال المرير الآن: كم تقتل الحركة الإسلامية بسوء القيادة من أساطير كان يمكن أن تحقق قفزات كبرى في تاريخها؟ كم يحيى عياش استنزفت موهبته في عمل خيري أو دعوي أو إداري لقصر نظر المسؤولين عنه؟!
لئن كان العدو اغتال المهندس الأسطورة.. فكم أسطورة هي بيننا في حكم الموؤودة؟!!
ويبقى الدرس الأخير لكل صاحب موهبة، لا سيما إن كانت في الجانب العلمي، أن يسعى ليصنع أسطورته الخاصة، وكل موهوب داخله أسطورة تنتظر أن تخرج، لكنها تنتظر بذل الغالي والنفيس من المجهود والأوقات والأموال، ولئن كنا نلوم على من قصر نظره من القيادة فيجب أن نلوم في ذات الوقت من استسلم لقصر النظر وخضع للقرار الخطأ ولم يجاهد ليصنع أسطورته الخاصة فيضع نفسه حيث يرضى الله وحيث تنتفع الأمة على الزمن الطويل والمدى الواسع لا على مستوى التكلفة العاجلة التي يحتاجها التنظيم الآن في القرية أو الحي أو النقابة أو البرلمان.
أبرز المصادر في تأسيس حماس كتب: § حماس.. الجذور والميثاق – عبد الله عزام (في المجلد الأول من المجموعة الكاملة لعبد الله عزام من ص826)§ المئذنة الحمراء – إبراهيم أبو غوشة [من إصدارات مركز الزيتونة]§ حلقات مراجعات – إبراهيم أبو غوشة§ حلقات شاهد على العصر – أحمد ياسين§ حلقات شاهد على العصر – عبد الحكيم حنيني
Published on January 15, 2016 00:24
January 12, 2016
ماذا لو أعادت تركيا العلاقات مع مصر
تقدم السياسة التركية نفسها للعالم، وللعالم الإسلامي خصوصا، على أنها تقوم على المبادئ والأخلاق، ولئن كان هذا لا يهم الغربيين كثيرا فإن هذا هو رأس مالها الحقيقي لدى الشعوب الإسلامية، وبغيره لا تختلف تركيا أردوغان عن تركيا أتاتورك، ولم تكسب تركيا سمعتها في هذا العالم إلا بمواقفها من غزة ومصر وسوريا وبورما وتركستان الشرقية والصومال! وبعض من اهتم أكثر بالمتابعة يعرف لتركيا آياديها البيضاء في البلقان وفي رعاية النشاط الإسلامي في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي والمدارس الإسلامية في أوروبا.
ولئن كان وصف "العثمانيين الجدد" يثير في أوروبا البغضاء، فإن ذات اللفظ يثير في العالم الإسلامي شوقا وحنينا لأيام المجد الغابرة.
ومن قرأ لأحمد داود أوغلو بالعربية فسيكون قد قرأ له ثلاث كتب هي ما ترجم إلى العربية، تلك هي: "الفلسفة السياسية"، و"العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، و"العمق الاستراتيجي"، وهذه الكتب الثلاثة على الترتيب تشرح ثلاثة أفكار رئيسية في السياسة التركية الجديدة هي:
1. النظام الإسلامي يتناقض جوهريا مع النظام الغربي ولا يمكن الالتقاء بينهما (الفلسفة السياسية).
2. الحضارة الغربية في مرحلة الإفلاس ولا يوجد في كل العالم بديل حضاري سوى البديل الحضاري الإسلامي (العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية).
3. لا يمكن لتركيا أن تتبوأ موقعا في الساحة العالمية إلا بإعادة بعث هويتها الإسلامية وإسناد عبقرية موقعها الجغرافي بثقلها وعمقها التاريخي الذي لا يمكن تجاهله ولا تغييبه.
وهكذا، فالسياسة التركية قدَّمت نفسا "نظريا" و"عمليا" على أنها وريثة العثمانيين، حاملة القيم والمبادئ الحضارية، وصاحبة البديل الحضاري القادم.
في ظل هذا كله.. ماذا لو أعادت تركيا العلاقات مع مصر في ظل نظام حكم السيسي؟
النتيجة الأولى والأهم: هي الخسارة الاستراتيجية لما ظلت تبنيه نظريا منذ عشرين سنة وعمليا منذ أربع عشرة سنة، لأنها خسارة السمعة التي بُنِيَت أصلا على هذه المبادئ، هو انتصار للعلمانية الكمالية والمصالح المادية على البديل الموعود والمبادئ المرفوعة! وهي خسارة استراتيجية خطيرة، إنها على الحقيقية إعلان لفشل التجربة في الصمود أمام قواعد وإرادة النظام العالمي.
ثم هي خسارة مادية استراتيجية بحجم الجمهور الذي كان يرى تركيا موضع أمل، فيتوجه نحوها بالتجارة ورؤوس الأموال، أو بالابتكارات والاختراعات، أو بالسفر والسياحة والإقامة، أو حتى بشراء المنتجات التركية والتعامل مع المصانع والمؤسسات والشركات التركية... إلخ!
وهذا الفشل لتجربة "إسلامية" في هذا الظرف بالتحديد ليس إلا هدية يستثمرها جهتان: العلمانيون من جهة، والمتطرفون من جهة أخرى، وهو إثبات جديد لتهمة أن "حزب العدالة والتنمية" ليس إلا الطلاء الإسلامي لجوهر علماني قح، وأن من نفذوا انقلاب 1980 و 1997 قد انتصروا في النهاية!
سيُقال: لا بد لكل دولة أن تبحث عن مصالحها، وفي السياسة لا مكان للمبادئ بل للمصالح، أو بالأحرى المصالح هي التي تحدد المبادئ بل إن المبادئ لا تستعمل إلا للتغطية على المصالح!
والجواب: أن هذا الكلام نفسه علماني شكلا ومضمونا، بينما النموذج الإسلامي يجعل المبادئ ذاتها هي المصالح، ولذلك يُعبِّر علماء الأصول عن المصلحة من حيث نظر الشرع لها فتصير بهذا الميزان: مصالح معتبرة، أو ملغاة، أو مرسلة.. وأحيانا يعبرون عنها بألفاظ: مصلحة مُعْتَبَرة ومصلحة مُتَوَهَّمَة. فالمبادئ أو المقاصد الشرعية في الإسلام هي التي تحدد المصالح وتضبطها.. ولا يُصار إلى ارتكاب مفسدة إلا لدفع مفسدة أكبر منها، وهذه هي حالة الاضطرار والإكراه!
فهل تركيا مضطرة أو مكرهة لفتح علاقات مع مصر في ظل النظام العسكري؟
الجواب: ربما، لا سيما في ظل انتشار أخبار ضغوط سعودية باتجاه هذه المصالحة، وربما قيل بأن مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية تنمو وتنتعش أكثر في ظل علاقات مع النظام المصري أيا كان هذا النظام، لا سيما إن كان هذا النظام قد استقر واستتبت له الأمور.
ولا ريب أن مثل هذه الأمور لا يمكن نقاشها فضلا عن حسمها في مقال، إلا أن المقال يتسع للتذكير ببعض أمور لعلها تنفع صانع القرار:
أولا: من حيث وجود رغبة سعودية، فإنه مهما اختلف الرأي في شأن السعودية ومدى كونها حليفا يُعتمَد عليه، ومدى كونها تملك ضغطا حقيقيا على نظام السيسي.. مهما اختلف الرأي في هذا فإن قرارا كإعادة العلاقات مع نظام العسكر لن يكون نهاية العلاقات مع السعودية، فحاجة السعودية في هذه اللحظة لتركيا لا يمكن أن تتوقف عند هذا الموضوع، فكيف إذا كان القرار يحمل خسارة استراتيجية وفقدانا لسمعة تركيا لدى الشعوب المسلمة ولدى طلائعها الثورية والفكرية والاقتصادية والعلمية كذلك؟!!
ثانيا: من حيث وجود مصالح اقتصادية وسياسية، فينبغي أن يكون معلوما أن مساحة استقلال النظام المصري الآت تقترب من الصفر، فهو ليس سوى واجهة للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، ولهذا فإن تجديد هذه العلاقة لا يساهم في نمو المصالح التركية بقدر ما يضيف قيدا جديدا وسقفا جديدا إسرائيليا أمريكيا تدخل تركيا تحته.. النظام المصري لا يفكر في مصلحة البلد بحال، بل هو مجرد ذراع لا يمكن الوثوق به ولا البناء على العلاقات معه.
ولو لبسنا قناع العلمانية، وفكرنا كعلمانيين وفقط، فإن أي مصلحة اقتصادية أو سياسية في مصر يمكن الحصول عليها بطرق غير رسمية وغير معلنة ومن خلال الرشاوى وشراء الذمم، من غير تفريط في الشعار "الإسلامي" المرفوع للسياسة التركية والذي جلب لها الكثير من المصالح وفتح لها طريقا لمستقبل تقود فيه العالم الإسلامي (راجع مقال: تركيا في توقعات جورج فريدمان)! أي أن الأمر لا يحتاج إلى إعادة علاقات على الحقيقة. وهو ذات الأمر الذي قد يُلْجَأ إليه في حال الاضطرار والإكراه المُفْضِي إلى اختيار أهون الضررين وأقل المفسدتين.
ثالثا: هل استقر فعلا النظام المصري؟
هنا أذكر مرة أخرى بما كتبته في مقال سابق بعنوان "موقع مصر في المشروع التركي"، وقلت فيه ما يلي:
"ينتشر في التقارير المرفوعة للإدارة الأمريكية من لجان متخصصة أو مراكز دراسات نغمة تقول باستحالة الاعتماد على السيسي في مكافحة "الإرهاب"، فقد انتهى تقرير مطول لخبير مرموق في الشأن المصري إلى أن النظام المصري لا يستطيع أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل عبئا في هذا الملفوالمقصود أن المصلحة التركية تقتضي الدفع ضد هذا النظام الذي يمثل الآن تهديدا لمصالحها وستزيد خطورته وتهديده كلما استقر أكثر".
إن المراهنة على استقرار النظام المصري ليست مراهنة رابحة ولا مضمونة حتى اللحظة، بينما الخسارة إذا أعيدت العلاقات متحققة ظاهرة.
نشر في تركيا بوست
Shadi Hamid: Sisi’s Regime Is a Gift to the Islamic State, (Foreign Policy, 6 Aug 2015). Elliott Abrams: Is President Sisi a Bulwark Against Terrorism?, (Council on Foreign Relations, 19 Aug 2015). Eric Trager: Egypt's Durable Misery: Why Sisi's Regime Is Stable, (The Washington Institute 21 Jul 2015). Steven A. Cook: How to Get Egypt’s Generals Back on Our Side, (Foreign Policy, 5 jan 2015); Thanassis Cambanis: Egypt’s Sisi Is Getting Pretty Good … at Being a Dictator, (Foreign Policy, 22 May 2015).
ولئن كان وصف "العثمانيين الجدد" يثير في أوروبا البغضاء، فإن ذات اللفظ يثير في العالم الإسلامي شوقا وحنينا لأيام المجد الغابرة.
ومن قرأ لأحمد داود أوغلو بالعربية فسيكون قد قرأ له ثلاث كتب هي ما ترجم إلى العربية، تلك هي: "الفلسفة السياسية"، و"العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، و"العمق الاستراتيجي"، وهذه الكتب الثلاثة على الترتيب تشرح ثلاثة أفكار رئيسية في السياسة التركية الجديدة هي:
1. النظام الإسلامي يتناقض جوهريا مع النظام الغربي ولا يمكن الالتقاء بينهما (الفلسفة السياسية).
2. الحضارة الغربية في مرحلة الإفلاس ولا يوجد في كل العالم بديل حضاري سوى البديل الحضاري الإسلامي (العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية).
3. لا يمكن لتركيا أن تتبوأ موقعا في الساحة العالمية إلا بإعادة بعث هويتها الإسلامية وإسناد عبقرية موقعها الجغرافي بثقلها وعمقها التاريخي الذي لا يمكن تجاهله ولا تغييبه.
وهكذا، فالسياسة التركية قدَّمت نفسا "نظريا" و"عمليا" على أنها وريثة العثمانيين، حاملة القيم والمبادئ الحضارية، وصاحبة البديل الحضاري القادم.
في ظل هذا كله.. ماذا لو أعادت تركيا العلاقات مع مصر في ظل نظام حكم السيسي؟
النتيجة الأولى والأهم: هي الخسارة الاستراتيجية لما ظلت تبنيه نظريا منذ عشرين سنة وعمليا منذ أربع عشرة سنة، لأنها خسارة السمعة التي بُنِيَت أصلا على هذه المبادئ، هو انتصار للعلمانية الكمالية والمصالح المادية على البديل الموعود والمبادئ المرفوعة! وهي خسارة استراتيجية خطيرة، إنها على الحقيقية إعلان لفشل التجربة في الصمود أمام قواعد وإرادة النظام العالمي.
ثم هي خسارة مادية استراتيجية بحجم الجمهور الذي كان يرى تركيا موضع أمل، فيتوجه نحوها بالتجارة ورؤوس الأموال، أو بالابتكارات والاختراعات، أو بالسفر والسياحة والإقامة، أو حتى بشراء المنتجات التركية والتعامل مع المصانع والمؤسسات والشركات التركية... إلخ!
وهذا الفشل لتجربة "إسلامية" في هذا الظرف بالتحديد ليس إلا هدية يستثمرها جهتان: العلمانيون من جهة، والمتطرفون من جهة أخرى، وهو إثبات جديد لتهمة أن "حزب العدالة والتنمية" ليس إلا الطلاء الإسلامي لجوهر علماني قح، وأن من نفذوا انقلاب 1980 و 1997 قد انتصروا في النهاية!
سيُقال: لا بد لكل دولة أن تبحث عن مصالحها، وفي السياسة لا مكان للمبادئ بل للمصالح، أو بالأحرى المصالح هي التي تحدد المبادئ بل إن المبادئ لا تستعمل إلا للتغطية على المصالح!
والجواب: أن هذا الكلام نفسه علماني شكلا ومضمونا، بينما النموذج الإسلامي يجعل المبادئ ذاتها هي المصالح، ولذلك يُعبِّر علماء الأصول عن المصلحة من حيث نظر الشرع لها فتصير بهذا الميزان: مصالح معتبرة، أو ملغاة، أو مرسلة.. وأحيانا يعبرون عنها بألفاظ: مصلحة مُعْتَبَرة ومصلحة مُتَوَهَّمَة. فالمبادئ أو المقاصد الشرعية في الإسلام هي التي تحدد المصالح وتضبطها.. ولا يُصار إلى ارتكاب مفسدة إلا لدفع مفسدة أكبر منها، وهذه هي حالة الاضطرار والإكراه!
فهل تركيا مضطرة أو مكرهة لفتح علاقات مع مصر في ظل النظام العسكري؟
الجواب: ربما، لا سيما في ظل انتشار أخبار ضغوط سعودية باتجاه هذه المصالحة، وربما قيل بأن مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية تنمو وتنتعش أكثر في ظل علاقات مع النظام المصري أيا كان هذا النظام، لا سيما إن كان هذا النظام قد استقر واستتبت له الأمور.
ولا ريب أن مثل هذه الأمور لا يمكن نقاشها فضلا عن حسمها في مقال، إلا أن المقال يتسع للتذكير ببعض أمور لعلها تنفع صانع القرار:
أولا: من حيث وجود رغبة سعودية، فإنه مهما اختلف الرأي في شأن السعودية ومدى كونها حليفا يُعتمَد عليه، ومدى كونها تملك ضغطا حقيقيا على نظام السيسي.. مهما اختلف الرأي في هذا فإن قرارا كإعادة العلاقات مع نظام العسكر لن يكون نهاية العلاقات مع السعودية، فحاجة السعودية في هذه اللحظة لتركيا لا يمكن أن تتوقف عند هذا الموضوع، فكيف إذا كان القرار يحمل خسارة استراتيجية وفقدانا لسمعة تركيا لدى الشعوب المسلمة ولدى طلائعها الثورية والفكرية والاقتصادية والعلمية كذلك؟!!
ثانيا: من حيث وجود مصالح اقتصادية وسياسية، فينبغي أن يكون معلوما أن مساحة استقلال النظام المصري الآت تقترب من الصفر، فهو ليس سوى واجهة للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، ولهذا فإن تجديد هذه العلاقة لا يساهم في نمو المصالح التركية بقدر ما يضيف قيدا جديدا وسقفا جديدا إسرائيليا أمريكيا تدخل تركيا تحته.. النظام المصري لا يفكر في مصلحة البلد بحال، بل هو مجرد ذراع لا يمكن الوثوق به ولا البناء على العلاقات معه.
ولو لبسنا قناع العلمانية، وفكرنا كعلمانيين وفقط، فإن أي مصلحة اقتصادية أو سياسية في مصر يمكن الحصول عليها بطرق غير رسمية وغير معلنة ومن خلال الرشاوى وشراء الذمم، من غير تفريط في الشعار "الإسلامي" المرفوع للسياسة التركية والذي جلب لها الكثير من المصالح وفتح لها طريقا لمستقبل تقود فيه العالم الإسلامي (راجع مقال: تركيا في توقعات جورج فريدمان)! أي أن الأمر لا يحتاج إلى إعادة علاقات على الحقيقة. وهو ذات الأمر الذي قد يُلْجَأ إليه في حال الاضطرار والإكراه المُفْضِي إلى اختيار أهون الضررين وأقل المفسدتين.
ثالثا: هل استقر فعلا النظام المصري؟
هنا أذكر مرة أخرى بما كتبته في مقال سابق بعنوان "موقع مصر في المشروع التركي"، وقلت فيه ما يلي:
"ينتشر في التقارير المرفوعة للإدارة الأمريكية من لجان متخصصة أو مراكز دراسات نغمة تقول باستحالة الاعتماد على السيسي في مكافحة "الإرهاب"، فقد انتهى تقرير مطول لخبير مرموق في الشأن المصري إلى أن النظام المصري لا يستطيع أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل عبئا في هذا الملفوالمقصود أن المصلحة التركية تقتضي الدفع ضد هذا النظام الذي يمثل الآن تهديدا لمصالحها وستزيد خطورته وتهديده كلما استقر أكثر".
إن المراهنة على استقرار النظام المصري ليست مراهنة رابحة ولا مضمونة حتى اللحظة، بينما الخسارة إذا أعيدت العلاقات متحققة ظاهرة.
نشر في تركيا بوست
Shadi Hamid: Sisi’s Regime Is a Gift to the Islamic State, (Foreign Policy, 6 Aug 2015). Elliott Abrams: Is President Sisi a Bulwark Against Terrorism?, (Council on Foreign Relations, 19 Aug 2015). Eric Trager: Egypt's Durable Misery: Why Sisi's Regime Is Stable, (The Washington Institute 21 Jul 2015). Steven A. Cook: How to Get Egypt’s Generals Back on Our Side, (Foreign Policy, 5 jan 2015); Thanassis Cambanis: Egypt’s Sisi Is Getting Pretty Good … at Being a Dictator, (Foreign Policy, 22 May 2015).
Published on January 12, 2016 07:18
January 10, 2016
"تسريبات الإخوان" الرائعة
بلا مقدمات، ظهرت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي باسم "تسريبات الإخوان"، في ديسمبر 2015م، وقدَّمت وعودا كبرى بأنها ستكشف أسرارا خطيرة للجماعة وأنها تمتلك 15 ساعة صوتية مسجلة للإخوان في بيوتهم ومكاتبهم.. وخرجت بـ "برومو" مُتْقَن -إلى حدٍّ ما- يبشر بهذه الصاعقة التي ستصيب الإخوان في مقتل، واتخذت لنفسها شعار "إرهاب بإرهاب وتسريب بتسريب"!
لم تمض بضعة أيام إلا وتناقلت وسائل الإعلام المصرية شأن هذه الصفحة، فيما يبدو أحد أمرين: إما أنه وسيلة أمنية جديدة تخرج قبيل ذكرى يناير وهذه ألسنتها الإعلامية تروج وتفضح، أو أنها محاولة فردية لكن الإعلام المُغْتَلِم (أي ذي الشهوة الطاغية) لم يتمالك نفسه أن يصبر وينتظر فهرع ليقضي شهوته من نهش الإخوان، فلم ينتظر أن يظهر أول تسريب ولا أن يعرف من وراء هذه المحاولة وما أغراضه.. كأنه لم يكفهم ما نهشوه من الجثث وما شربوه من الدماء.
في أيام انتشر خبر الصفحة على معظم الصحف المصرية (الوطن، اليوم السابع، الفجر، التحرير، الدستور، البوابة، النبأ ...) وبعض القنوات الفضائية (صدى البلد)، وبعض المواقع العربية (موقع قناة العربية)، بل تطوع أحمد موسى –وهو مخبر أمن دولة قديم ومعروف- أن يقدم للصفحة دعاية محمومة ويذيع أول "برومو" ويبشر مشاهديه بأن القادم أقوى، في مشهد يتوقع المرء فيه أن أحمد موسى نفسه صاحب هذه الصفحة!!
المهم أن الصفحة وبعد طول انتظار محفوف بمثيرات إعلامية تقليدية أخرجت التسريب الأول، والحق أنه كان مفاجأة!!
كان التسريب الأول لخيرت الشاطر –نائب المرشد العام- جالسا في بيته، في حوار خاص مع بعض الشباب، يشرح لهم فكرة الجماعة وطريقتها الدعوية واختلافها مع غيرها من الجماعات الإسلامية، وذلك في سياق تاريخي مبسط للغاية، وبنَفَسٍ هادئ ولغة معتدلة وأفكار منظمة.. وكان الشاطر يعلم أن أحد الحضور يصوِّره، وتبادل مع المصور الكلام، أي أنه ليس تسريبا على الحقيقة وإنما محاضرة لا يخجل الرجل من تصويرها.
المفاجأة الأهم أن الكلام الذي قاله الشاطر هو كلام يصب في مصلحة الجماعة تماما، فقد تحدث عن منهج النبي في الدعوة وحال الأمة الإسلامية واختلاف الاجتهادات في استعادة المجد الإسلامي ورؤية الإخوان وسعيهم نحو وحدة الدول الإسلامية ... إلى آخر ما هو معروف. فلم يكن في الأمر جديد، بل إن ما أراده صاحب الصفحة –أو هكذا أوهم الناس- أنه فضيحة وجريمة يكون شرفا وفخرا! وهو ما سبب ارتباكا كبيرا في الصفحة من خلال التعليقات على هذا التسريب.. إذ فجأة تكهرب الجو تماما، وحدث ما لم يكن متوقعا:
كان صاحب الصفحة يقول بأن الإخوان لا يؤمنون بالحدود الوطنية وإنما بالخلافة الإسلامية، فجاءته تعليقات لم يتوقعها، إذ كان جمهور الصفحة –المعادي للإخوان- لا يرى في هذه المسألة أي إشكال، بل يمتدحها ويرى أن هذا التسريب تلميع للإخوان وتحسين لصورتهم، وبدأ البعض في الهجوم على صاحب الصفحة بأنه إخواني متنكر وأنها محاولة إخوانية لاجتذاب مزيد من المعجبين بالإخوان. وفي ذات الوقت دخل شباب الإخوان –من بعد ما كانوا يترقبون ويهاجمون الصفحة- ليفخروا بالكلام الموجود في التسريب ويرونه شرفا وكلاما جميلا حسنا.. مما أوقع صاحب الصفحة في توتر وحرج بالغ بدا واضحا في تعليقاته التي سيطرت عليها العصبية والارتباك وتبادل الشتائم بينه وبين المعلقين عليه. فإذا علق شاب من الإخوان مفتخرا قال له: ولماذا لا تنشره على صفحتك ما دمت تراه صحيحا؟ وإذا هاجمه أحد بأنه إخواني متنكر قال له بل أنت الإخواني المندس الذي تريد تضليل الناس وصرفهم عن متابعة فضائحكم. وإذا هاجمه أحد بأن التسريب ليس تسريبا وليس فيه جديد تحجج بأنه ينقل الواقع ولا يصنع الأفلام التي يطلبها المستعمون!
وهكذا انقلب الأمر رأسا على عقب..
وزاد في كهربة الأجواء أن أحمد موسى الذي بذل أقوى دعاية للصفحة عاد ليهاجمها هجوما محموما ويقول بأنها صفحة إخوانية متنكرة وأنهم كانوا يريدون منه أموالا مقابل إذاعة التسريبات، مما دفع صاحب الصفحة أن يعلن عن نفسه (أو هكذا أوهم الناس) فاختلق قصة مرتبكة أخرى عن أنه رائد في الشرطة المصرية أصيب في فض رابعة إصابة بالغة وأثناء مطاردته لبعض العناصر حصل على "هارد ديسك" ظل معه طوال فترة علاجه دون أن يعرف محتوياته، ثم لما أفاق بعد هذه الشهور فتح الهارد ووجد فيه هذه التسجيلات، فعرضها على وزير الداخلية فلم يهتم بها (؟!!) ثم عرضها على خالد صلاح مدير اليوم السابع الذي اهتم به ووفر له فريقا لأعمال "المونتاج" ومعالجة الفيديو.. ويؤكد صاحب الصفحة صحة روايته بأن أحدا من هؤلاء لم ينف هذه الرواية!
إلا أن هذه الرواية لم تقنع بعض المعلقين عنده، فظلوا يرددون أنه إخواني متنكر، ويستدلون على هذا بكلام أحمد موسى وبأن التسريب المنشور ليس فيه ما يدين الإخوان بل إنه يلمع صورتهم ويحسن موقفهم! وبدأت عدد من الصحف التابعة للسلطة عزف نفس نغمة أنها صفحة إخوانية متخفية، وبعضهم حدد صاحبها، وهي هي ذات الصحف التي احتفت واحتفلت واستبشرت وساقت لقرائها خبر نشر الصفحة.
وصاحب الصفحة يعد بتسريب جديد بعد أيام!!
بعض أمور هنا تستحق التعليق:
1. ما يبدو من الارتباك الإعلامي يدل على رداءة مستوى وكفاءة هذا القطيع الإعلامي العسكري الغبي، الذي ينشر الشيء بالأمس ثم يحذر منه غدا، بذات القوة في الحالتين، وهذا ما يوحي بأنها وقعت ضحية لشاب من الهواة الذي يبدو أنه أراد أن يحوز أموالا مقابل تسجيلات عادية، بل هي مشرفة على الحقيقة. أو أن ثمة وسيلة أمنية كانت على وشك التنفيذ لكنها أُلغيت أو انفلتت بعض خيوطها من أيديهم بعد الإعلان عنها فعادوا يحذرون منها ويهاجمونها ويشككون فيها.
2. أن الجمهور المنخدع بالسلطة العسكرية والذي لا زال يؤيدها ولا زال يبغض الإخوان ويتمنى هلاكهم، هذا الجمهور نفسه إسلامي في أعماقه، بل هو على الحقيقة يؤيد "فكر" الإخوان ويتحمس له، لكنه من كثرة الضغط الإعلامي كَرِه "اسم" الإخوان وأشخاصهم، حتى إنه لما سمع "فكرهم" انزعج لأن في ذلك تحسين لصورتهم وتسويق لهم. أي أن جمهور السيسي لو نجا من ضغط الإعلام لأحب الإخوان وأيَّدهم، أو أن هذا الفكر نفسه لو قدَّمه له آخرون بوجوده جديدة في مناخ ليس فيه إعلام الشيطان هذا لأقبلوا عليه ودعموه كذلك.. وهذا درس في غاية الأهمية للحركات الإسلامية جميعا، درس يفهمون منه طبيعة الشعوب المسلمة وانحيازها لدينها، ويفهمون منه أثر الإعلام في تشويه الأسماء والأشخاص، ويفهمون منه فشل الإعلام في زحزحة القيم العميقة التي للأسف ينظر بعض الإسلاميين لتجاوزها والانفلات منها.
الأمر يشبه تماما سحرة فرعون، لا يستطيعون تغيير الحقائق لكنهم يستطيعون خداع الأبصار، وهم يبرعون في هذا إلى الحد الذي يلقي الخيفة في قلوب المؤمنين، وهي الصورة التي أوجزها ربنا في آيتين من كتابه، قال تعالى {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 66، 67].
3. أن السلطة المصرية صاحبة الفضائح التي جابت الآفاق وبلغت ما لم يبلغه أحد في هذه الآونة لم تستطع أن تسرب للإخوان ما يشينهم ويفضحهم رغم أنه بشر وفيهم لا شك عيوب وأخطاء، وذلك في ذروة حربها عليهم، بينما يتسرب من مكتب قائد السلطة العسكرية ما يفضحه ويعريه ويكشف طبيعته ونهجه في السياسة حتى مع داعميه!!
نشر في الخليج أون لاين
لم تمض بضعة أيام إلا وتناقلت وسائل الإعلام المصرية شأن هذه الصفحة، فيما يبدو أحد أمرين: إما أنه وسيلة أمنية جديدة تخرج قبيل ذكرى يناير وهذه ألسنتها الإعلامية تروج وتفضح، أو أنها محاولة فردية لكن الإعلام المُغْتَلِم (أي ذي الشهوة الطاغية) لم يتمالك نفسه أن يصبر وينتظر فهرع ليقضي شهوته من نهش الإخوان، فلم ينتظر أن يظهر أول تسريب ولا أن يعرف من وراء هذه المحاولة وما أغراضه.. كأنه لم يكفهم ما نهشوه من الجثث وما شربوه من الدماء.
في أيام انتشر خبر الصفحة على معظم الصحف المصرية (الوطن، اليوم السابع، الفجر، التحرير، الدستور، البوابة، النبأ ...) وبعض القنوات الفضائية (صدى البلد)، وبعض المواقع العربية (موقع قناة العربية)، بل تطوع أحمد موسى –وهو مخبر أمن دولة قديم ومعروف- أن يقدم للصفحة دعاية محمومة ويذيع أول "برومو" ويبشر مشاهديه بأن القادم أقوى، في مشهد يتوقع المرء فيه أن أحمد موسى نفسه صاحب هذه الصفحة!!
المهم أن الصفحة وبعد طول انتظار محفوف بمثيرات إعلامية تقليدية أخرجت التسريب الأول، والحق أنه كان مفاجأة!!
كان التسريب الأول لخيرت الشاطر –نائب المرشد العام- جالسا في بيته، في حوار خاص مع بعض الشباب، يشرح لهم فكرة الجماعة وطريقتها الدعوية واختلافها مع غيرها من الجماعات الإسلامية، وذلك في سياق تاريخي مبسط للغاية، وبنَفَسٍ هادئ ولغة معتدلة وأفكار منظمة.. وكان الشاطر يعلم أن أحد الحضور يصوِّره، وتبادل مع المصور الكلام، أي أنه ليس تسريبا على الحقيقة وإنما محاضرة لا يخجل الرجل من تصويرها.
المفاجأة الأهم أن الكلام الذي قاله الشاطر هو كلام يصب في مصلحة الجماعة تماما، فقد تحدث عن منهج النبي في الدعوة وحال الأمة الإسلامية واختلاف الاجتهادات في استعادة المجد الإسلامي ورؤية الإخوان وسعيهم نحو وحدة الدول الإسلامية ... إلى آخر ما هو معروف. فلم يكن في الأمر جديد، بل إن ما أراده صاحب الصفحة –أو هكذا أوهم الناس- أنه فضيحة وجريمة يكون شرفا وفخرا! وهو ما سبب ارتباكا كبيرا في الصفحة من خلال التعليقات على هذا التسريب.. إذ فجأة تكهرب الجو تماما، وحدث ما لم يكن متوقعا:
كان صاحب الصفحة يقول بأن الإخوان لا يؤمنون بالحدود الوطنية وإنما بالخلافة الإسلامية، فجاءته تعليقات لم يتوقعها، إذ كان جمهور الصفحة –المعادي للإخوان- لا يرى في هذه المسألة أي إشكال، بل يمتدحها ويرى أن هذا التسريب تلميع للإخوان وتحسين لصورتهم، وبدأ البعض في الهجوم على صاحب الصفحة بأنه إخواني متنكر وأنها محاولة إخوانية لاجتذاب مزيد من المعجبين بالإخوان. وفي ذات الوقت دخل شباب الإخوان –من بعد ما كانوا يترقبون ويهاجمون الصفحة- ليفخروا بالكلام الموجود في التسريب ويرونه شرفا وكلاما جميلا حسنا.. مما أوقع صاحب الصفحة في توتر وحرج بالغ بدا واضحا في تعليقاته التي سيطرت عليها العصبية والارتباك وتبادل الشتائم بينه وبين المعلقين عليه. فإذا علق شاب من الإخوان مفتخرا قال له: ولماذا لا تنشره على صفحتك ما دمت تراه صحيحا؟ وإذا هاجمه أحد بأنه إخواني متنكر قال له بل أنت الإخواني المندس الذي تريد تضليل الناس وصرفهم عن متابعة فضائحكم. وإذا هاجمه أحد بأن التسريب ليس تسريبا وليس فيه جديد تحجج بأنه ينقل الواقع ولا يصنع الأفلام التي يطلبها المستعمون!
وهكذا انقلب الأمر رأسا على عقب..
وزاد في كهربة الأجواء أن أحمد موسى الذي بذل أقوى دعاية للصفحة عاد ليهاجمها هجوما محموما ويقول بأنها صفحة إخوانية متنكرة وأنهم كانوا يريدون منه أموالا مقابل إذاعة التسريبات، مما دفع صاحب الصفحة أن يعلن عن نفسه (أو هكذا أوهم الناس) فاختلق قصة مرتبكة أخرى عن أنه رائد في الشرطة المصرية أصيب في فض رابعة إصابة بالغة وأثناء مطاردته لبعض العناصر حصل على "هارد ديسك" ظل معه طوال فترة علاجه دون أن يعرف محتوياته، ثم لما أفاق بعد هذه الشهور فتح الهارد ووجد فيه هذه التسجيلات، فعرضها على وزير الداخلية فلم يهتم بها (؟!!) ثم عرضها على خالد صلاح مدير اليوم السابع الذي اهتم به ووفر له فريقا لأعمال "المونتاج" ومعالجة الفيديو.. ويؤكد صاحب الصفحة صحة روايته بأن أحدا من هؤلاء لم ينف هذه الرواية!
إلا أن هذه الرواية لم تقنع بعض المعلقين عنده، فظلوا يرددون أنه إخواني متنكر، ويستدلون على هذا بكلام أحمد موسى وبأن التسريب المنشور ليس فيه ما يدين الإخوان بل إنه يلمع صورتهم ويحسن موقفهم! وبدأت عدد من الصحف التابعة للسلطة عزف نفس نغمة أنها صفحة إخوانية متخفية، وبعضهم حدد صاحبها، وهي هي ذات الصحف التي احتفت واحتفلت واستبشرت وساقت لقرائها خبر نشر الصفحة.
وصاحب الصفحة يعد بتسريب جديد بعد أيام!!
بعض أمور هنا تستحق التعليق:
1. ما يبدو من الارتباك الإعلامي يدل على رداءة مستوى وكفاءة هذا القطيع الإعلامي العسكري الغبي، الذي ينشر الشيء بالأمس ثم يحذر منه غدا، بذات القوة في الحالتين، وهذا ما يوحي بأنها وقعت ضحية لشاب من الهواة الذي يبدو أنه أراد أن يحوز أموالا مقابل تسجيلات عادية، بل هي مشرفة على الحقيقة. أو أن ثمة وسيلة أمنية كانت على وشك التنفيذ لكنها أُلغيت أو انفلتت بعض خيوطها من أيديهم بعد الإعلان عنها فعادوا يحذرون منها ويهاجمونها ويشككون فيها.
2. أن الجمهور المنخدع بالسلطة العسكرية والذي لا زال يؤيدها ولا زال يبغض الإخوان ويتمنى هلاكهم، هذا الجمهور نفسه إسلامي في أعماقه، بل هو على الحقيقة يؤيد "فكر" الإخوان ويتحمس له، لكنه من كثرة الضغط الإعلامي كَرِه "اسم" الإخوان وأشخاصهم، حتى إنه لما سمع "فكرهم" انزعج لأن في ذلك تحسين لصورتهم وتسويق لهم. أي أن جمهور السيسي لو نجا من ضغط الإعلام لأحب الإخوان وأيَّدهم، أو أن هذا الفكر نفسه لو قدَّمه له آخرون بوجوده جديدة في مناخ ليس فيه إعلام الشيطان هذا لأقبلوا عليه ودعموه كذلك.. وهذا درس في غاية الأهمية للحركات الإسلامية جميعا، درس يفهمون منه طبيعة الشعوب المسلمة وانحيازها لدينها، ويفهمون منه أثر الإعلام في تشويه الأسماء والأشخاص، ويفهمون منه فشل الإعلام في زحزحة القيم العميقة التي للأسف ينظر بعض الإسلاميين لتجاوزها والانفلات منها.
الأمر يشبه تماما سحرة فرعون، لا يستطيعون تغيير الحقائق لكنهم يستطيعون خداع الأبصار، وهم يبرعون في هذا إلى الحد الذي يلقي الخيفة في قلوب المؤمنين، وهي الصورة التي أوجزها ربنا في آيتين من كتابه، قال تعالى {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 66، 67].
3. أن السلطة المصرية صاحبة الفضائح التي جابت الآفاق وبلغت ما لم يبلغه أحد في هذه الآونة لم تستطع أن تسرب للإخوان ما يشينهم ويفضحهم رغم أنه بشر وفيهم لا شك عيوب وأخطاء، وذلك في ذروة حربها عليهم، بينما يتسرب من مكتب قائد السلطة العسكرية ما يفضحه ويعريه ويكشف طبيعته ونهجه في السياسة حتى مع داعميه!!
نشر في الخليج أون لاين
Published on January 10, 2016 01:17
January 7, 2016
اقتباس أوروبا من المسلمين (2) قوة المجتمع
ذكرنا في مقال سابق أننا سنركز على ثلاثة اقتباسات استفادتها أوروبا من المسلمين في سياق الاحتكاك الحضاري بينهما، هذه الثلاثة تندرج في حديثنا عن منهج الإسلام في بناء المجتمع والذي خصصنا له مجموعة المقالات السابقة، والحاصل: أن هذه الاستفادات كان لها إسهام كبير في النهضة الأوروبية المعاصرة.
تكلمنا عن "التخلص منسيطرة الكنيسة والإقطاع"، ونجعل هذه السطور للحديث عن "قوة المجتمع"، ونترك تكوين الاتحاد للمقال القادم إن شاء الله تعالى.
تأثر المجتمع الغربي بهذا النمط الهيكلي الذي يجعل أفراد المجتمع منتظمين في تنظيمات هرمية، ففي الجانب الديني يتوزع الكهنة ورجال الدين في تنظيم هرمي على رأسه البابا، وفي الجانب الدنيوي فإن عامة الناس تابعون للإقطاعي، الذي هو -أيضًا- درجة من درجات الهيكل الهرمي الذي يترأسه الإمبراطور. هذان النظامان تسببا في إضعاف القوة الاجتماعية لعموم الناس؛ بل إن ضعف هذه القوة الاجتماعية هو في ذاته شرط لاستقرار المؤسسات الحاكمة: البلاط والكنيسة، ومن ثم كان الحرص قائمًا على أن تظل قوة العامة مفككة ومتناثرة.
بينما الحال على نقيض ذلك في عالم الإسلام، فلا وساطات كهنوتية، ولا أمراء إقطاع، يهيمن المنهج على الجميع، ولا يندرج الناس في تنظيمات هرمية، بل إن صورة المجتمع الإسلامي على غرار صورة صلاة الجماعة، لا يضبط الناس خلف الإمام ولا يؤم الإمام جموع الناس إلا برباط المنهج والإسلام، كما أن صوت الإمام يصل إلى الناس جميعًا في اللحظة ذاتها، ويفضل بعض الباحثين تشبيه صورة المجتمع الإسلامي بشروق الشمس على الأرض، حيث مركز التأثير خارج نطاق الناس، وتأثر الناس به رباط معنوي غير عضوي، ووصول الأمر أو الأثر يكون لكل الناس في وقت واحد. وفي حين تمثل جماعة العلماء ضغطًا لتصحيح الأوضاع؛ فإنهم بلا سلطة مادية على الناس، ثم إن لكل مسلم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانتظام في روابط طبيعية: كالقبيلة والعشيرة والرحم والجغرافيا، أو اختيارية كجماعات الحرف والمهن وطلبة العلم وغيرهم، كل هذا دون معوق من سلطة، وكان المجتمع يوقف الأوقاف على أوجه الخير؛ فيمول حركته الحضارية تمويلاً ذاتيًّا يجعل الأمة مزدهرة حضاريًّا؛ حتى إن ضعفت سياسيًّا وعسكريًّا.
منذ القرن الحادي عشر –وهو عصر الحروب الصليبية- بدأ ظهور تنظيمات شعبية في أوروبا كانت بذرة النقابات، وقد بدأت بطبقة "جديدة من الناس الأحرار المستقلين من الوكلاء التجاريين، والتجار، والحرفيين، والعمال المهرة، وهم في الغالب يكتسبون قوة من التنظيم في طوائف مهنية وهيئات جماعية من الأفراد"(إن قوة المجتمع كانت فرعًا عن التحرر من استبداد الدولة؛ ذلك أن أوروبا عرفت فلسفة "التعاقد" بين الشعب والسلطة؛ حيث تأخذ السلطة شرعيتها من كونها عقدًا واتفاقًا بين الناس، لا من حيث تمتعها بحق إلهي للحكم، ولقد "أجمع كل رواد العقد الاجتماعي الذين سبقوا الثورة الفرنسية على أن المجتمع المدني ما هو إلا ثمرة تعاقد الأفراد، وأن الدولة هي الضامن لاستمراريته"(لقد تأخرت أوروبا نحو اثنتي عشر قرنًا حتى وصلت إلى بعض ما قرره النظام الإسلامي؛ فالعلاقة "بين الأمة والإمام تقوم على أساس عقد بين طرفين، تكون الأمة فيه هي الأصيل والإمام هو الوكيل"(وفي مسار تقوية المجتمع اقتبس الغربيون -أيضًا- نظام الوقف الإسلامي، حيث يستطيع المجتمع من تلقاء نفسه تنظيم أمواله الطوعية في أمور النفع العام، وقد ظهرت أول إشارة إلى الوقف في النظم القانونية الغربية في القانون الإنجليزي (1601م)، ثم اتخذت الأوقاف شكل الشخصية المعنوية باسم مؤسسة (Foundation)، وصارت تُعَرَّف بأنها "مؤسسة غير حكومية لا تقصد الربح وتهدف إلى رعاية هدف أو مصلحة ذات نفع عام"، ومن أشهر هذه الأوقاف وقف كارنيجي؛ الذي أَسَّسه رجل الأعمال الأمريكي أندرو كارنيجي (1911م)؛ ليعود بالتمويل على مؤسسة كارنيجي للسلام ومجلس كارنيجي للأخلاق والعلاقات الدولية، وكذلك وقف روكفلر؛ الذي تأسَّس عام (1913م)، وهناك الأوقاف المتخصِّصة بالتعليم، أو الصحَّة، أو البحث العلمي، أو مساعدة مرضى القلب، أو مرضى الكُلْيَتَيْنِ، وغير ذلك، مع ملاحظة أن فكرة المؤسسة (Foundation) ما زالت لا تشمل كل الأشكال القانونية لفكرة الوقف الإسلامي(بهذه التطورات صارت المجتمعات الغربية عوامل قوة، وصارت منظمات المجتمع المدني إحدى العناصر الأساسية في المشهد الغربي، وهي تمارس ضغوطًا كثيرة ومفيدة في مجالات عديدة.
نشر في ساسة بوست
([1])ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص231. ([2])د. سعيد عبد الفتاح عاشور: أوروبا العصور الوسطى 2/105 وما بعدها. ([3])صالح السنوسي: إشكالية المجتمع المدني العربي ص24. ([4])د. حاكم المطيري: الحرية أو الطوفان ص21. ([5])د. منذر قحف: الوقف الإسلامي ص23 وما بعدها.
تكلمنا عن "التخلص منسيطرة الكنيسة والإقطاع"، ونجعل هذه السطور للحديث عن "قوة المجتمع"، ونترك تكوين الاتحاد للمقال القادم إن شاء الله تعالى.
تأثر المجتمع الغربي بهذا النمط الهيكلي الذي يجعل أفراد المجتمع منتظمين في تنظيمات هرمية، ففي الجانب الديني يتوزع الكهنة ورجال الدين في تنظيم هرمي على رأسه البابا، وفي الجانب الدنيوي فإن عامة الناس تابعون للإقطاعي، الذي هو -أيضًا- درجة من درجات الهيكل الهرمي الذي يترأسه الإمبراطور. هذان النظامان تسببا في إضعاف القوة الاجتماعية لعموم الناس؛ بل إن ضعف هذه القوة الاجتماعية هو في ذاته شرط لاستقرار المؤسسات الحاكمة: البلاط والكنيسة، ومن ثم كان الحرص قائمًا على أن تظل قوة العامة مفككة ومتناثرة.
بينما الحال على نقيض ذلك في عالم الإسلام، فلا وساطات كهنوتية، ولا أمراء إقطاع، يهيمن المنهج على الجميع، ولا يندرج الناس في تنظيمات هرمية، بل إن صورة المجتمع الإسلامي على غرار صورة صلاة الجماعة، لا يضبط الناس خلف الإمام ولا يؤم الإمام جموع الناس إلا برباط المنهج والإسلام، كما أن صوت الإمام يصل إلى الناس جميعًا في اللحظة ذاتها، ويفضل بعض الباحثين تشبيه صورة المجتمع الإسلامي بشروق الشمس على الأرض، حيث مركز التأثير خارج نطاق الناس، وتأثر الناس به رباط معنوي غير عضوي، ووصول الأمر أو الأثر يكون لكل الناس في وقت واحد. وفي حين تمثل جماعة العلماء ضغطًا لتصحيح الأوضاع؛ فإنهم بلا سلطة مادية على الناس، ثم إن لكل مسلم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانتظام في روابط طبيعية: كالقبيلة والعشيرة والرحم والجغرافيا، أو اختيارية كجماعات الحرف والمهن وطلبة العلم وغيرهم، كل هذا دون معوق من سلطة، وكان المجتمع يوقف الأوقاف على أوجه الخير؛ فيمول حركته الحضارية تمويلاً ذاتيًّا يجعل الأمة مزدهرة حضاريًّا؛ حتى إن ضعفت سياسيًّا وعسكريًّا.
منذ القرن الحادي عشر –وهو عصر الحروب الصليبية- بدأ ظهور تنظيمات شعبية في أوروبا كانت بذرة النقابات، وقد بدأت بطبقة "جديدة من الناس الأحرار المستقلين من الوكلاء التجاريين، والتجار، والحرفيين، والعمال المهرة، وهم في الغالب يكتسبون قوة من التنظيم في طوائف مهنية وهيئات جماعية من الأفراد"(إن قوة المجتمع كانت فرعًا عن التحرر من استبداد الدولة؛ ذلك أن أوروبا عرفت فلسفة "التعاقد" بين الشعب والسلطة؛ حيث تأخذ السلطة شرعيتها من كونها عقدًا واتفاقًا بين الناس، لا من حيث تمتعها بحق إلهي للحكم، ولقد "أجمع كل رواد العقد الاجتماعي الذين سبقوا الثورة الفرنسية على أن المجتمع المدني ما هو إلا ثمرة تعاقد الأفراد، وأن الدولة هي الضامن لاستمراريته"(لقد تأخرت أوروبا نحو اثنتي عشر قرنًا حتى وصلت إلى بعض ما قرره النظام الإسلامي؛ فالعلاقة "بين الأمة والإمام تقوم على أساس عقد بين طرفين، تكون الأمة فيه هي الأصيل والإمام هو الوكيل"(وفي مسار تقوية المجتمع اقتبس الغربيون -أيضًا- نظام الوقف الإسلامي، حيث يستطيع المجتمع من تلقاء نفسه تنظيم أمواله الطوعية في أمور النفع العام، وقد ظهرت أول إشارة إلى الوقف في النظم القانونية الغربية في القانون الإنجليزي (1601م)، ثم اتخذت الأوقاف شكل الشخصية المعنوية باسم مؤسسة (Foundation)، وصارت تُعَرَّف بأنها "مؤسسة غير حكومية لا تقصد الربح وتهدف إلى رعاية هدف أو مصلحة ذات نفع عام"، ومن أشهر هذه الأوقاف وقف كارنيجي؛ الذي أَسَّسه رجل الأعمال الأمريكي أندرو كارنيجي (1911م)؛ ليعود بالتمويل على مؤسسة كارنيجي للسلام ومجلس كارنيجي للأخلاق والعلاقات الدولية، وكذلك وقف روكفلر؛ الذي تأسَّس عام (1913م)، وهناك الأوقاف المتخصِّصة بالتعليم، أو الصحَّة، أو البحث العلمي، أو مساعدة مرضى القلب، أو مرضى الكُلْيَتَيْنِ، وغير ذلك، مع ملاحظة أن فكرة المؤسسة (Foundation) ما زالت لا تشمل كل الأشكال القانونية لفكرة الوقف الإسلامي(بهذه التطورات صارت المجتمعات الغربية عوامل قوة، وصارت منظمات المجتمع المدني إحدى العناصر الأساسية في المشهد الغربي، وهي تمارس ضغوطًا كثيرة ومفيدة في مجالات عديدة.
نشر في ساسة بوست
([1])ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص231. ([2])د. سعيد عبد الفتاح عاشور: أوروبا العصور الوسطى 2/105 وما بعدها. ([3])صالح السنوسي: إشكالية المجتمع المدني العربي ص24. ([4])د. حاكم المطيري: الحرية أو الطوفان ص21. ([5])د. منذر قحف: الوقف الإسلامي ص23 وما بعدها.
Published on January 07, 2016 13:44
January 6, 2016
تركيا في توقعات جورج فريدمان
لم يترجم للعربية بعد كتاب "المائة عام القادمة" للمحلل الأمريكي الشهير جورج فريدمان، وذلك رغم مرور سبع سنوات على صدوره (صدر 2009م)، وبرغم شهرة صاحبه كمحلل –ويعتقد الكثيرون أنه ليس محللا بل مخطط وموجِّه- للسياسة الأمريكية، إذ هو مدير واحدة من أهم وأشهر المؤسسات العاملة في مجال المعلومات والاستخبارات وهي مؤسسة ستراتفور (توقعات استراتيجية)، وأخيرا: برغم أهمية الكتاب على الأقل لقراءة كيف يفكر الأمريكان في مستقبلهم.
ملخص الكتاب أن القرن القادم هو العصر الأمريكي، وأن أمريكا ليست في أفول كما يشعر الكثيرون داخلها، كذلك فإن الأعداء التقليديين للأمريكان كالصين وروسيا لا يمثلون أي خطر في المستقبل القريب، بل ولا يتوقع منهم أي خطر، فالصين إقليم معزول جغرافيا من الناحية البرية إذ يمنعه عن التمدد الجبال في الغرب والسهول من الشمال، ثم إنها ضعيفة على مستوى القوة البحرية، ثم إن اقتصادها يعاني من أزمات دورية وهي الأزمات التي يتوقع معها أن تستهلك القوة الصينية أو حتى تمزقها داخليا. والروس لم يعودوا كما كانوا أيام الاتحاد السوفيتي مهما حاولوا أن يستعيدوا هذا الدور.
وفي نفس الوقت يلفت النظر إلى أن قوى أخرى ستبرز وتسطع في هذا القرن هي: اليابان وتركيا وبولندا والمكسيك، مع خفوت وذبول في قوة الاتحاد الأوروبي، ومع بقاء القوة الأمريكية مهيمنة على العالم، وقد أخذ يعرض يعرض بالأرقام تفوقها الهائل عمن بعدها في سلم القوة.
ثلاث من القوى الصاعدة ستستفيد من الانهيار الثاني للروس، وهي تركيا واليابان وبولندا، إذ يتوقع فريدمان أن روسيا ستحاول توسيع قوتها مرة أخرى بحلول منتصف العقد الثاني (2010 – 2020) لكنها ستفشل وستنكمش، وساعتها ستتمدد تركيا على حساب روسيا إلى حد التوغل العسكري في القوقاز وستغلق على الروس الملاحة في مضيق البوسفور، كذلك فإن اليابان ستطمع في روسيا الغنية بالخامات الأولية اللازمة لاستمرار الصناعة والتقدم الياباني، ثم بولندا التي ستبرز كقوة إقليمية في شرق أوروبا لتتمدد هي الأخرى على حساب الروس.
لقد صدر الكتاب في (2009م) أي قبل اندلاع الثورات العربية، إلا أنه توقع أن تكون المنطقة العربية بحرا من الفوضى، وسيجعلها هذا نهبا لكل طامع، وستبلغ من التمزق حدا يتجاوز التوقعات، وهذا التمزق نفسه هو حقيقة النجاح الأمريكي في الحرب على الجهاديين، لأن الأمريكان لم يستهدفوا القضاء على الإسلام بنصر عسكري، وإنما استهدفوا منع انبعاث المارد الإسلامي مرة أخرى، وحيث ظلت المنطقة العربية ممزقة فإن هذا الهدف قد تحقق.
ثمة ثلاث دول مرشحة لأن تلعب دورا في العالم الإسلامي: مصر وتركيا وإيران، إلا أن ضعف مصر وانهيار اقتصادها يسحبها من هذه المنافسة، كذلك فإن ما تعانيه إيران من عزلة جيوسياسية وحجم العداء بينها وبين العرب وضعف اقتصادها وانشغالها بتأمين نفسها ضد صدام أمريكي يحرمها كذلك من هذا الدور، فليس يبقى إلا الأتراك!
يقرر فريدمان أن الأتراك هم من سيستفيدون واقعيا من هذا التمزق الحاصل في المنطقة العربية، وسيكون هذا عاملا من عوامل صعود القوة التركية، التي ستجد نفسها عمليا قائدة للعالم الإسلامي، بل يتوقع فريدمان أن الاضطرابات التي ستحصل في مصر ستدفع تركيا إلى إنزال قواتها للسيطرة على قناة السويس، ذلك أن مصر لا يتوقع أن يكون لها أي دور في القرن القادم بل ستظل في موقع التبعية لغيرها كما كانت في القرن الماضي، لكن في القرن الجديد لن تكون الهيمنة على مصر أمريكية أو روسية فحسب، بل قد تكون تركية.
تعتمد تركيا في بزوغ قوتها على عدد من أسباب القوة؛ فتركيا التي حققت المركز السابع عشر ضمن الاقتصاد العالمي سيستمر نمو اقتصادها بثبات حتى يصير ضمن أقوى عشر اقتصادات في العالم، كما أن موقع تركيا الجغرافي من أهم أسباب قوتها إذ يجعلها متصلة بالعالم العربي وإيران والقوقاز وأوروبا، كذلك فإن الأتراك كانوا تاريخيا قيادة للعالم الإسلامي، ثم إن الجيش التركي هو أقوى جيوش المنطقة. لكن التمدد الحقيقي للأتراك سيكون بعد فشل الروس في استعادة دور الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي ستحاوله روسيا لتعيش المنطقة في ظلاله صورة مصغرة من أجواء الحرب الباردة، وستكون تركيا حينئذ من طلائع إسقاط هذه المحاولة الروسية، فإذا تم هذا، فإنها سترث ما كان تحت النفوذ الروسي فتكثف وجودها العسكري في آسيا الوسطى وتتوغل في القوقاز لضمان أمنها القومي من خلال قوات عسكرية متقدمة، وستتولى توسيع تجارتها في أنحاء المنطقة كما ستغلق المضايق في وجه الروس لتأمين نفوذها في البلقان من العبث الروسي.
وبهذا ستكون تركيا عمليا قائدة العالم الإسلامي، كما يرى فريدمان، وعندئذ ستبذل تركيا كل طاقتها من خلال قوتها الناعمة في تحسين صورتها لما عساه يكون نفورا عربيا من القيادة التركية للمسلمين لما ترسب لديهم من حكم الدولة العثمانية، وفي هذا السياق ستقدم تركيا نفسها للعرب باعتبارها زعيمة لتحالف إسلامي لمواجهة الهيمنة الأمريكية.
يتوقع فريدمان أن أمريكا لن تعارض هذا التمدد بل ستطمئن له باعتبار تركيا حليفا موثوقا به، كما أن النفوذ التركي في الخليج العربي (الفارسي) هو أفضل لها من السيطرة الإيرانية، لكن استمرار التمدد التركي في مصر والجزيرة العربية والخليج والمحيط الهندي سيجعل التقاءها مؤكدا باليابان التي ستبزغ هي الأخرى بقوة اقتصادية كبرى ناتجة عن استثمار أزمات الصين وروسيا، إذ ستستفيد من أزماتهما في العمالة وفي وفرة المواد الأولية التي تحتاجها.
حينئذ سيشكل التحالف التركي الياباني قوة خطيرة تصطدم بالقوة الأمريكية والتي ستتحرك لمحاصرة اليابان من خلال دعم الصينيين والكوريين، ومحاصرة الأتراك من خلال دعم البولنديين والكتلة الشرقية وإثارة "القومية العربية" مرة أخرى. لكن المزية المتوفرة هنا للأمريكان هي أنهم قد استطاعوا التفوق بفارق كبير في برامج الفضاء مما سيجعلهم قادرين على مراقبة ومعاقبة تركيا واليابان من خلال الفضاء التي ستحتوي حينها على منصات إطلاق صواريخ موجهة. وعندئذ يظهر الصدام بين القوتين: الأمريكية وحلفائها من جهة، واليابان وتركيا من جهة أخرى مما سيتسبب في حرب عالمية ثالثة.
الكتاب على صغره يحتوي كثيرا من التفاصيل، وهو مثير للتحليل والتعليق، إلا أن المهم في سياقنا الآن أمران:
الأول: غياب تفسير السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا تترك أمريكا تركيا حتى تصبح ذلك المارد الكبير الذي يناطحها؟ ولماذا تستثنيها من إثارة الفوضى والتمزق في هذه المنطقة؟ إن فكرة الاطمئنان إلى كون تركيا حليفا تبدو ساذجة للغاية.
والثاني: هو غياب إسرائيل عن خريطة المستقبل التي يرسمها الكتاب، فهل كان هذا غياب مقصود أم أن المؤلف يرى إسرائيل دولة تافهة لا تملك إمكانية أن تصنع شيئا ذا بال في المستقبل؟
يراودني الشعور أن هذان الأمران لم يَغِيبا نسيانا ولا سهوا، وإنما غُيِّبا قصدًا! وهو ما يستدعي التفكير في مقاصد هذا الغياب، وهل كان ثمة توصيات لم يُرد لها أن تنشر؟ لا سيما وثمة تقارير أخرى مختلفة ترسم بعض التوصيات في تمزيق تركيا وتعظيم دور إسرائيل في المنطقة.
غنيٌّ عن القول أن توقعات فريدمان تخالف غيرها من التوقعات الأمريكية الأخرى التي ترسم مشهدا مختلفا تماما لطبيعة الخرائط القادمة، ولئن كانت توقعاته تبدو قد تحققت حرفيا في النزول الروسي إلى العمق العربي فإنها تبدو وقد طاشت تماما في مسألة العلاقة الأمريكية الإيرانية، وهي المسألة التي كانت عمودا صلبا في رؤيته لبزوغ القوة التركية.في كل الأحوال يظل الكتاب جديرا بالقراءة، ولعل مترجما ينهض لترجمته للقارئ العربي فيكون له بذلك أجر إن شاء الله!
نشر في تركيا بوست
ملخص الكتاب أن القرن القادم هو العصر الأمريكي، وأن أمريكا ليست في أفول كما يشعر الكثيرون داخلها، كذلك فإن الأعداء التقليديين للأمريكان كالصين وروسيا لا يمثلون أي خطر في المستقبل القريب، بل ولا يتوقع منهم أي خطر، فالصين إقليم معزول جغرافيا من الناحية البرية إذ يمنعه عن التمدد الجبال في الغرب والسهول من الشمال، ثم إنها ضعيفة على مستوى القوة البحرية، ثم إن اقتصادها يعاني من أزمات دورية وهي الأزمات التي يتوقع معها أن تستهلك القوة الصينية أو حتى تمزقها داخليا. والروس لم يعودوا كما كانوا أيام الاتحاد السوفيتي مهما حاولوا أن يستعيدوا هذا الدور.
وفي نفس الوقت يلفت النظر إلى أن قوى أخرى ستبرز وتسطع في هذا القرن هي: اليابان وتركيا وبولندا والمكسيك، مع خفوت وذبول في قوة الاتحاد الأوروبي، ومع بقاء القوة الأمريكية مهيمنة على العالم، وقد أخذ يعرض يعرض بالأرقام تفوقها الهائل عمن بعدها في سلم القوة.
ثلاث من القوى الصاعدة ستستفيد من الانهيار الثاني للروس، وهي تركيا واليابان وبولندا، إذ يتوقع فريدمان أن روسيا ستحاول توسيع قوتها مرة أخرى بحلول منتصف العقد الثاني (2010 – 2020) لكنها ستفشل وستنكمش، وساعتها ستتمدد تركيا على حساب روسيا إلى حد التوغل العسكري في القوقاز وستغلق على الروس الملاحة في مضيق البوسفور، كذلك فإن اليابان ستطمع في روسيا الغنية بالخامات الأولية اللازمة لاستمرار الصناعة والتقدم الياباني، ثم بولندا التي ستبرز كقوة إقليمية في شرق أوروبا لتتمدد هي الأخرى على حساب الروس.
لقد صدر الكتاب في (2009م) أي قبل اندلاع الثورات العربية، إلا أنه توقع أن تكون المنطقة العربية بحرا من الفوضى، وسيجعلها هذا نهبا لكل طامع، وستبلغ من التمزق حدا يتجاوز التوقعات، وهذا التمزق نفسه هو حقيقة النجاح الأمريكي في الحرب على الجهاديين، لأن الأمريكان لم يستهدفوا القضاء على الإسلام بنصر عسكري، وإنما استهدفوا منع انبعاث المارد الإسلامي مرة أخرى، وحيث ظلت المنطقة العربية ممزقة فإن هذا الهدف قد تحقق.
ثمة ثلاث دول مرشحة لأن تلعب دورا في العالم الإسلامي: مصر وتركيا وإيران، إلا أن ضعف مصر وانهيار اقتصادها يسحبها من هذه المنافسة، كذلك فإن ما تعانيه إيران من عزلة جيوسياسية وحجم العداء بينها وبين العرب وضعف اقتصادها وانشغالها بتأمين نفسها ضد صدام أمريكي يحرمها كذلك من هذا الدور، فليس يبقى إلا الأتراك!
يقرر فريدمان أن الأتراك هم من سيستفيدون واقعيا من هذا التمزق الحاصل في المنطقة العربية، وسيكون هذا عاملا من عوامل صعود القوة التركية، التي ستجد نفسها عمليا قائدة للعالم الإسلامي، بل يتوقع فريدمان أن الاضطرابات التي ستحصل في مصر ستدفع تركيا إلى إنزال قواتها للسيطرة على قناة السويس، ذلك أن مصر لا يتوقع أن يكون لها أي دور في القرن القادم بل ستظل في موقع التبعية لغيرها كما كانت في القرن الماضي، لكن في القرن الجديد لن تكون الهيمنة على مصر أمريكية أو روسية فحسب، بل قد تكون تركية.
تعتمد تركيا في بزوغ قوتها على عدد من أسباب القوة؛ فتركيا التي حققت المركز السابع عشر ضمن الاقتصاد العالمي سيستمر نمو اقتصادها بثبات حتى يصير ضمن أقوى عشر اقتصادات في العالم، كما أن موقع تركيا الجغرافي من أهم أسباب قوتها إذ يجعلها متصلة بالعالم العربي وإيران والقوقاز وأوروبا، كذلك فإن الأتراك كانوا تاريخيا قيادة للعالم الإسلامي، ثم إن الجيش التركي هو أقوى جيوش المنطقة. لكن التمدد الحقيقي للأتراك سيكون بعد فشل الروس في استعادة دور الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي ستحاوله روسيا لتعيش المنطقة في ظلاله صورة مصغرة من أجواء الحرب الباردة، وستكون تركيا حينئذ من طلائع إسقاط هذه المحاولة الروسية، فإذا تم هذا، فإنها سترث ما كان تحت النفوذ الروسي فتكثف وجودها العسكري في آسيا الوسطى وتتوغل في القوقاز لضمان أمنها القومي من خلال قوات عسكرية متقدمة، وستتولى توسيع تجارتها في أنحاء المنطقة كما ستغلق المضايق في وجه الروس لتأمين نفوذها في البلقان من العبث الروسي.
وبهذا ستكون تركيا عمليا قائدة العالم الإسلامي، كما يرى فريدمان، وعندئذ ستبذل تركيا كل طاقتها من خلال قوتها الناعمة في تحسين صورتها لما عساه يكون نفورا عربيا من القيادة التركية للمسلمين لما ترسب لديهم من حكم الدولة العثمانية، وفي هذا السياق ستقدم تركيا نفسها للعرب باعتبارها زعيمة لتحالف إسلامي لمواجهة الهيمنة الأمريكية.
يتوقع فريدمان أن أمريكا لن تعارض هذا التمدد بل ستطمئن له باعتبار تركيا حليفا موثوقا به، كما أن النفوذ التركي في الخليج العربي (الفارسي) هو أفضل لها من السيطرة الإيرانية، لكن استمرار التمدد التركي في مصر والجزيرة العربية والخليج والمحيط الهندي سيجعل التقاءها مؤكدا باليابان التي ستبزغ هي الأخرى بقوة اقتصادية كبرى ناتجة عن استثمار أزمات الصين وروسيا، إذ ستستفيد من أزماتهما في العمالة وفي وفرة المواد الأولية التي تحتاجها.
حينئذ سيشكل التحالف التركي الياباني قوة خطيرة تصطدم بالقوة الأمريكية والتي ستتحرك لمحاصرة اليابان من خلال دعم الصينيين والكوريين، ومحاصرة الأتراك من خلال دعم البولنديين والكتلة الشرقية وإثارة "القومية العربية" مرة أخرى. لكن المزية المتوفرة هنا للأمريكان هي أنهم قد استطاعوا التفوق بفارق كبير في برامج الفضاء مما سيجعلهم قادرين على مراقبة ومعاقبة تركيا واليابان من خلال الفضاء التي ستحتوي حينها على منصات إطلاق صواريخ موجهة. وعندئذ يظهر الصدام بين القوتين: الأمريكية وحلفائها من جهة، واليابان وتركيا من جهة أخرى مما سيتسبب في حرب عالمية ثالثة.
الكتاب على صغره يحتوي كثيرا من التفاصيل، وهو مثير للتحليل والتعليق، إلا أن المهم في سياقنا الآن أمران:
الأول: غياب تفسير السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا تترك أمريكا تركيا حتى تصبح ذلك المارد الكبير الذي يناطحها؟ ولماذا تستثنيها من إثارة الفوضى والتمزق في هذه المنطقة؟ إن فكرة الاطمئنان إلى كون تركيا حليفا تبدو ساذجة للغاية.
والثاني: هو غياب إسرائيل عن خريطة المستقبل التي يرسمها الكتاب، فهل كان هذا غياب مقصود أم أن المؤلف يرى إسرائيل دولة تافهة لا تملك إمكانية أن تصنع شيئا ذا بال في المستقبل؟
يراودني الشعور أن هذان الأمران لم يَغِيبا نسيانا ولا سهوا، وإنما غُيِّبا قصدًا! وهو ما يستدعي التفكير في مقاصد هذا الغياب، وهل كان ثمة توصيات لم يُرد لها أن تنشر؟ لا سيما وثمة تقارير أخرى مختلفة ترسم بعض التوصيات في تمزيق تركيا وتعظيم دور إسرائيل في المنطقة.
غنيٌّ عن القول أن توقعات فريدمان تخالف غيرها من التوقعات الأمريكية الأخرى التي ترسم مشهدا مختلفا تماما لطبيعة الخرائط القادمة، ولئن كانت توقعاته تبدو قد تحققت حرفيا في النزول الروسي إلى العمق العربي فإنها تبدو وقد طاشت تماما في مسألة العلاقة الأمريكية الإيرانية، وهي المسألة التي كانت عمودا صلبا في رؤيته لبزوغ القوة التركية.في كل الأحوال يظل الكتاب جديرا بالقراءة، ولعل مترجما ينهض لترجمته للقارئ العربي فيكون له بذلك أجر إن شاء الله!
نشر في تركيا بوست
Published on January 06, 2016 13:30
January 4, 2016
ما الفارق بين الفتح الإسلامي والاحتلال الغربي
ما الذي يفرق الفتوحات الإسلامية عن أن تكون احتلالا كسائر الغزوات التوسعية لغيرها الأمم؟!
الجواب يطول ويتشعب، لكن خلاصته ومختصره هو النظر إلى طبيعة "الحروب" في كل من التصور الإسلامي والتصور الغربي.
في التصور الإسلامي تقوم الحياة على التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، وهذا التدافع بدأ منذ اللحظة الأولى لخلق البشرية، حين أبى إبليس السجود لآدم فاستعلنت العداوة بين الطرفين إذ تعهد إبليس أن يبذل ما استطاع لإضلال بني آدم ليستكثر منهم في أهل النار، ثم كانت أول الوقائع الكبرى في التاريخ الإنساني هي إخراج آدم وزوجه من الجنة، وهو الذي كان بداية الامتحان الكبير للبشرية، والذي سُجِّلت خلاصته في الآية الكريمة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124]. والقرآن من أوله إلى آخره هو تسجيل لمراحل هذا الصراع بين الأنبياء وخصومهم، وهذه الأمة التي هي آخر الأمم تحمل رسالة الهداية للعالمين والتي عرَّفها ربعي بن عامر بقوله الموجز البليغ "ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
فالخلاصة أن المسلمين ينظرون إلى هذه الحياة من منظار التدافع بين الحق والباطل، مهتهم فيها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، بمعنى إدخالهم في الدين ورفع المظالم عن المستضعفين.. ومن ثَمَّ فهي رؤية رسالية تماما، تتعلق بالأفكار والعقائد والقناعات والتصورات.
بينما الرؤية الغربية كما تعرض نفسها تحوم حول "الرخاء والرفاهية"، أي أنها رؤية مادية في طبيعتها، وتختلف حول هذا الهدف النظريات والفلسفات، فيختلفون حول تحقق هذا الهدف من خلال السيطرة على الأسواق بنظام مركزي أم من خلال ترك الحرية للأسواق لتنظيم نفسها أم ببعض الخلط بين الطريقتين. وبغير دخول في تفاصيل تاريخية وفلسفية فإن المسار العام للحضارة الغربية تاريخيا انتهى إلى العلمانية المادية والتفسير الوضعي للعلوم الإنسانية، وسيادة "القوة" كمعيار وحيد يُقاس عليه وإليه. ولهذا أخرجت هذه الفلسفة تفسيرا صراعيا للحياة، يجعل الصراع من قوانين الحياة وطبائعها ليهلك فيه الضعيف لصالح الأقوى، وليس في هذا أي ضرر أخلاقي، لأن الأخلاق نفسها صارت من العلوم الوضعية لا المعيارية، بمعنى: أن علم الأخلاق هو "دراسة الأخلاق كما تظهر في الواقع كطبائع وقوانين" لا "دراستها كمطلق ينبغي أن يُتطلع إليه".
ولهذا فيمكن بسهولة أن تنشأ في سياق الحضارة الغربية فلسفات ترى أن التخلص من الضعفاء والفقراء عمل جليل وواجب، بينما يمتنع تماما أن تظهر مثل هذه الآراء في سياق الحضارة الإسلامية لتناقضها الكامل مع أصول التصور الإسلامي ونصوصه الصريحة.
في ظلال الفلسفة الغربية يتأسس علم الاقتصاد –كمثال- على قاعدة أن الموارد محدودة بينما احتياجات البشر غير محدودة، فيكون التعريف البسيط للاقتصاد هو: إدارة الموارد المحدودة لتلبية الاحتياجات غير المحدودة، بينما يمتنع هذا التصور كله في التصور الإسلامي الذي يؤمن أن الله خلق الكون بحكمة وتدبير وميزان، وأن احتياجات البشر تكفيها الموارد المخلوقة لهم في الأرض، إذ الأرض كلها مسخرة لهم، وكل ما فيها قد خُلِق بتقدير {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 19 - 21].
وإذن، فالإشكال في الحضارة الغربية إشكال في طبيعة الكون نفسه، ذلك الذي يحتوي على موارد محدودة لا تكفي البشر، ومن ثم يكون منطقيا أن تظهر حلول تقوم على التخلص من البشر في كل مراحل تاريخ الغرب وفي كل مذاهبهم، وهو ما كان: فإن الملك ليكورجوس (الوثني) حاكم إسبرطة كان يقتل الأطفال الضعفاء والمشوهين لأنهم لن ينفعوا المجتمع ولا الدولة، وهو ما نادى به بعد قرون طويلة نيتشه (الملحد) الموغل في الفردية والساعي إلى إيجاد الإنسان السوبر مان، وبينهما القس (المسيحي) الشهير مالتوس صاحب نظرية أن الفقر والمرض والزلازل أشياء إيجابية، وهي نوع من تكفير الطبيعة عن خطاياها في الإتيان ببشر أكثر من مواردها.
وهنا نعود إلى موضوعنا عن الجهاد والاحتلال:
إن انطلاقة المسلمين إلى الجهاد وفتح الأراضي لم يكن يحمل أية قيمة مادية تهتم بجباية الأموال واستخلاصها من البلدان المفتوحة، بل بنشر الدين ودعوة الناس إليه، ولهذا فإن هذه الحركة سعت في تعمير البلدان المفتوحة لا في إفقارها واستخلاص أموالها لصالح العاصمة الإسلامية، بل وكثيرا ما تكرر في التاريخ أن تنهض عاصمة في أقصى المشرق أو أقصى المغرب بينما تكون العاصمة الإسلامية أقل منها حالا في الحضارة والعمران، بينما لم يكن ممكنا أن يحدث هذا في حقبة الاحتلال الغربي الذي كان منهجه استخلاص موارد البلاد لحساب تحقيق رفاهية بلاده.
ليس يوجد في التاريخ عاصمة تحت استطاعت أن تفوق باريس أو لندن أو واشنطن أو موسكو، بينما نستطيع أن نعدد مناطق على وجه هذه الأرض لم تكن شيئا مذكورا في التاريخ إلا في فترة الحكم الإسلامي مثل إسبانيا وصقلية وعواصم آسيا الوسطى، فلقد دخل الإسلام هذه المناطق ولم تكن قبله شيئا، ثم أُخْرج منها فعادت بعده لا شيء في مسرح التاريخ، ولم تكن فيها عواصم الخلافة الإسلامية، بل كلها كان بعيدا عن عاصمة الخلافة.
وليس يوجد في التاريخ قوم دخلوا في دين المحتل أفواجا دون أن ترصد واقعة واحدة فيها إكراه على اعتناق هذا الدين، بل قوم يجاهدون مع الفاتحين لفتح المناطق التي تليهم (مثلا: طارق بن زياد فاتح الأندلس مغربي وليس عربيا)، بينما لست تجد في عصر المحتلين الغربيين جنودا من الأقوام الواقعين تحت الاحتلال في الجيوش إلا بطريقة الإكراه والإجبار، وهذا كله فضلا عن الأخوة الحقيقية التي يتعامل بها المسلمون مع من دخل في دينهم مقابل العنصرية والطبقية القبيحة التي يتعامل بها المحتلون الغربيون مع الجنود الذين أجبروهم على الحرب في صفوفهم.
ونستطيع أن نعدد مع ذلك كله أخلاق المسلمين في الحروب مقارنة مع أخلاق غيرهم في الاحتلال، وهذا حديث يطول ويطول، ونستطيع أن نكتب فيه كتابا كاملا لا يقل عن ألف صفحة نعتمد فيه فقط على أقوال المؤرخين الغربيين دون سواهم. فإن شهرة هذا تُعجز عن كتمانه أو إخفائه.
إن مجرد الانطلاق من رؤية رسالية قيمية ترى واجبها في نشر دين ورفع مظالم عن المظلومين يختلف اختلافا هائلا في طبائعه وسياساته عن الانطلاق من رؤية مادية نفعية غايتها تحقيق "القوة"، وقد صدق من قال:
حكمنا فكان العدل منا سجية .. فلما حكمتم سال بالدم أبطحوأحللتم قتل الأسارى وقد كنا .. نمرّ على الأسرى نمن ونصفحفحسبكم هذا التفاوت بيننا .. وكل إناء بالذي فيه ينضح
نشر في الخليج أون لاين
الجواب يطول ويتشعب، لكن خلاصته ومختصره هو النظر إلى طبيعة "الحروب" في كل من التصور الإسلامي والتصور الغربي.
في التصور الإسلامي تقوم الحياة على التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، وهذا التدافع بدأ منذ اللحظة الأولى لخلق البشرية، حين أبى إبليس السجود لآدم فاستعلنت العداوة بين الطرفين إذ تعهد إبليس أن يبذل ما استطاع لإضلال بني آدم ليستكثر منهم في أهل النار، ثم كانت أول الوقائع الكبرى في التاريخ الإنساني هي إخراج آدم وزوجه من الجنة، وهو الذي كان بداية الامتحان الكبير للبشرية، والذي سُجِّلت خلاصته في الآية الكريمة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124]. والقرآن من أوله إلى آخره هو تسجيل لمراحل هذا الصراع بين الأنبياء وخصومهم، وهذه الأمة التي هي آخر الأمم تحمل رسالة الهداية للعالمين والتي عرَّفها ربعي بن عامر بقوله الموجز البليغ "ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
فالخلاصة أن المسلمين ينظرون إلى هذه الحياة من منظار التدافع بين الحق والباطل، مهتهم فيها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، بمعنى إدخالهم في الدين ورفع المظالم عن المستضعفين.. ومن ثَمَّ فهي رؤية رسالية تماما، تتعلق بالأفكار والعقائد والقناعات والتصورات.
بينما الرؤية الغربية كما تعرض نفسها تحوم حول "الرخاء والرفاهية"، أي أنها رؤية مادية في طبيعتها، وتختلف حول هذا الهدف النظريات والفلسفات، فيختلفون حول تحقق هذا الهدف من خلال السيطرة على الأسواق بنظام مركزي أم من خلال ترك الحرية للأسواق لتنظيم نفسها أم ببعض الخلط بين الطريقتين. وبغير دخول في تفاصيل تاريخية وفلسفية فإن المسار العام للحضارة الغربية تاريخيا انتهى إلى العلمانية المادية والتفسير الوضعي للعلوم الإنسانية، وسيادة "القوة" كمعيار وحيد يُقاس عليه وإليه. ولهذا أخرجت هذه الفلسفة تفسيرا صراعيا للحياة، يجعل الصراع من قوانين الحياة وطبائعها ليهلك فيه الضعيف لصالح الأقوى، وليس في هذا أي ضرر أخلاقي، لأن الأخلاق نفسها صارت من العلوم الوضعية لا المعيارية، بمعنى: أن علم الأخلاق هو "دراسة الأخلاق كما تظهر في الواقع كطبائع وقوانين" لا "دراستها كمطلق ينبغي أن يُتطلع إليه".
ولهذا فيمكن بسهولة أن تنشأ في سياق الحضارة الغربية فلسفات ترى أن التخلص من الضعفاء والفقراء عمل جليل وواجب، بينما يمتنع تماما أن تظهر مثل هذه الآراء في سياق الحضارة الإسلامية لتناقضها الكامل مع أصول التصور الإسلامي ونصوصه الصريحة.
في ظلال الفلسفة الغربية يتأسس علم الاقتصاد –كمثال- على قاعدة أن الموارد محدودة بينما احتياجات البشر غير محدودة، فيكون التعريف البسيط للاقتصاد هو: إدارة الموارد المحدودة لتلبية الاحتياجات غير المحدودة، بينما يمتنع هذا التصور كله في التصور الإسلامي الذي يؤمن أن الله خلق الكون بحكمة وتدبير وميزان، وأن احتياجات البشر تكفيها الموارد المخلوقة لهم في الأرض، إذ الأرض كلها مسخرة لهم، وكل ما فيها قد خُلِق بتقدير {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 19 - 21].
وإذن، فالإشكال في الحضارة الغربية إشكال في طبيعة الكون نفسه، ذلك الذي يحتوي على موارد محدودة لا تكفي البشر، ومن ثم يكون منطقيا أن تظهر حلول تقوم على التخلص من البشر في كل مراحل تاريخ الغرب وفي كل مذاهبهم، وهو ما كان: فإن الملك ليكورجوس (الوثني) حاكم إسبرطة كان يقتل الأطفال الضعفاء والمشوهين لأنهم لن ينفعوا المجتمع ولا الدولة، وهو ما نادى به بعد قرون طويلة نيتشه (الملحد) الموغل في الفردية والساعي إلى إيجاد الإنسان السوبر مان، وبينهما القس (المسيحي) الشهير مالتوس صاحب نظرية أن الفقر والمرض والزلازل أشياء إيجابية، وهي نوع من تكفير الطبيعة عن خطاياها في الإتيان ببشر أكثر من مواردها.
وهنا نعود إلى موضوعنا عن الجهاد والاحتلال:
إن انطلاقة المسلمين إلى الجهاد وفتح الأراضي لم يكن يحمل أية قيمة مادية تهتم بجباية الأموال واستخلاصها من البلدان المفتوحة، بل بنشر الدين ودعوة الناس إليه، ولهذا فإن هذه الحركة سعت في تعمير البلدان المفتوحة لا في إفقارها واستخلاص أموالها لصالح العاصمة الإسلامية، بل وكثيرا ما تكرر في التاريخ أن تنهض عاصمة في أقصى المشرق أو أقصى المغرب بينما تكون العاصمة الإسلامية أقل منها حالا في الحضارة والعمران، بينما لم يكن ممكنا أن يحدث هذا في حقبة الاحتلال الغربي الذي كان منهجه استخلاص موارد البلاد لحساب تحقيق رفاهية بلاده.
ليس يوجد في التاريخ عاصمة تحت استطاعت أن تفوق باريس أو لندن أو واشنطن أو موسكو، بينما نستطيع أن نعدد مناطق على وجه هذه الأرض لم تكن شيئا مذكورا في التاريخ إلا في فترة الحكم الإسلامي مثل إسبانيا وصقلية وعواصم آسيا الوسطى، فلقد دخل الإسلام هذه المناطق ولم تكن قبله شيئا، ثم أُخْرج منها فعادت بعده لا شيء في مسرح التاريخ، ولم تكن فيها عواصم الخلافة الإسلامية، بل كلها كان بعيدا عن عاصمة الخلافة.
وليس يوجد في التاريخ قوم دخلوا في دين المحتل أفواجا دون أن ترصد واقعة واحدة فيها إكراه على اعتناق هذا الدين، بل قوم يجاهدون مع الفاتحين لفتح المناطق التي تليهم (مثلا: طارق بن زياد فاتح الأندلس مغربي وليس عربيا)، بينما لست تجد في عصر المحتلين الغربيين جنودا من الأقوام الواقعين تحت الاحتلال في الجيوش إلا بطريقة الإكراه والإجبار، وهذا كله فضلا عن الأخوة الحقيقية التي يتعامل بها المسلمون مع من دخل في دينهم مقابل العنصرية والطبقية القبيحة التي يتعامل بها المحتلون الغربيون مع الجنود الذين أجبروهم على الحرب في صفوفهم.
ونستطيع أن نعدد مع ذلك كله أخلاق المسلمين في الحروب مقارنة مع أخلاق غيرهم في الاحتلال، وهذا حديث يطول ويطول، ونستطيع أن نكتب فيه كتابا كاملا لا يقل عن ألف صفحة نعتمد فيه فقط على أقوال المؤرخين الغربيين دون سواهم. فإن شهرة هذا تُعجز عن كتمانه أو إخفائه.
إن مجرد الانطلاق من رؤية رسالية قيمية ترى واجبها في نشر دين ورفع مظالم عن المظلومين يختلف اختلافا هائلا في طبائعه وسياساته عن الانطلاق من رؤية مادية نفعية غايتها تحقيق "القوة"، وقد صدق من قال:
حكمنا فكان العدل منا سجية .. فلما حكمتم سال بالدم أبطحوأحللتم قتل الأسارى وقد كنا .. نمرّ على الأسرى نمن ونصفحفحسبكم هذا التفاوت بيننا .. وكل إناء بالذي فيه ينضح
نشر في الخليج أون لاين
Published on January 04, 2016 07:45
December 31, 2015
أعظم دروس النكبة الأندلسية
لئن كنا نحتاج إلى التاريخ لنتذكر به كيف كنا أمة عظيمة في ظل طوفان الهجوم والتغريب والتشويه، فنحن نحتاج إليه في ذات الوقت لندرك سنن الله في كونه وقوانين الاجتماع والصراع. ولا ينبغي أن يصرفنا التذكير بما كنا فيه من عظمة عما يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا.
لقد كانت النكبة الأندلسية من أعظم ما تألمت له الأمة في تاريخها، أن تغرب شمس الإسلام عن أرض أضاءتها ثمانية قرون، ولذلك لم يزل اسم الأندلس بعد خمسة قرون يثير في نفوس المسلمين شجونا ولوعة، إلا أننا نظلم أنفسنا ونظلم التاريخ والحقيقة ونظلم جيلنا والأجيال القادمة إن لم نأخذ منها ما ينفعنا في يومنا الحاضر هذا.
في المقالين السابقين (عظماء المحنة الأندلسية، عمالقة في جحيم المحنةالأندلسية) أردت إثبات ما كان عليه الأندلسيون من العظمة والبسالة في التمسك بدينهم رغم الجحيم الذي أنزله الإسبان بهم وتحت ميزان قوى منهار تماما، إلا أن الحقيقة لا تكتمل إذا توقفنا عند هذه الصورة، وإني لأحسب أن التوقف عندها والسكوت عن نصف الصورة الآخر من قبيل الخيانة التي لا تليق بمن يحترم نفسه فضلا عمن يخشى الله ويتحملها كأمانة.
نصف الحقيقة الآخر هو ما نعرض لصورة منه في هذه السطور:
(1)ماذا يفعل الحكام المستبدون بالأمة
لقد عاشت غرناطة أياما عصيبة حقا حتى اضطرت إلى الاستسلام في نهاية الأمر، إلا أن هذا الاستسلام لم يكن الخيار الوحيد المتاح، بل لم يصل إليه الغرناطيون إلا بتأثير الحرب النفسية التي شارك فيها ملكهم نفسه، تشير النصوص إلى أن حاكم غرناطة كان يتواصل مع القشتاليين سرا وأن له يدا في إشاعة "الاستسلام" بين الناس، حتى تقدم إليه وفد من التجار (رجال الأعمال بمصطلح العصر) يطلبون منه الوصول إلى اتفاق تسليم المدينة فاتخذ ذلك ذريعة لعقد هذا الاتفاق الذي هو تتويج لمراسلات سرية جعلت فريدناند يوقف الحرب ويشدد الحصار، ولم يحفل برأي من أرادوا الاستمرار في الجهاد والحرب والمقاومة. وهكذا حصل الحاكم لنفسه على مزايا ومنافع ثم سلَّم البلدوهكذا هي سنة المستبدين، يملكون البلاد فيتنعمون بخيراتها ويذلون أهلها حتى إذا جاء دورهم وواجبهم سلموا البلاد وتركوها ونجوا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم إن استطاعوا. والمسلمون حين يغفلون عن هذه السنة الماضية التي تكررت قبل كل قصة احتلال وسقوط يسيرون إلى نهايتهم بأيديهم، ويكون ذلك حين يرون في الخروج على المستبد فتنة ويتساهلون في ترك الشورى وفي الأخذ على يد الظالم وأطره على الحق، يحسبون بذلك أنهم يحافظون على أمان الناس وأموالهم وأعراضهم ويحفظون البلاد من طمع الأجنبي، بينما الوضع على العكس من هذا: إن ترك جهاد المستبد هو ما يفعل كل هذا، فهو يستذلهم ويستضعفهم في وقت تمكنه، فإذا جاء وقت ضعفه تركهم للأجنبي، بل مهد البلاد والعباد للأجنبي بما نشره فيهم من ضعف وذلة ورغبة في الاستسلام، فيذوق العباد والبلاد مرارة الاستبداد ثم مرارة الاحتلال، وقد تكون مرارة طويلة طويلة طويلة بحجم زوال الإسلام من البلد وإكراه الناس على التنصر وترك دين الله.
ولذلك لا ينبغي أن يستهين أحد بخطورة مسألة الحكم والسلطة في مصائر الناس، وآثار ذلك على دينهم ودنياهم، وعلى الأمة جميعا.
(2)الناس على دين ملوكهم
صحيح أن الأندلسيين صمدوا كما لم تصمد أمة، تمسكوا بدينهم كما لم يحدث مثله في التاريخ فيما نعلم، مآثرهم سجلته وثائق محاكم التفتيش نفسها كما نقلنا في المقاليْن السابقيْن، حتى لم يعد أمام الإسبان بعد مائة وعشرين عاما إلا أن يطردوهم تماما من الأندلس، ولقد أثار ذهولي المتجدد قصة الإسبانية التي أسلم ولدها فرأته يصلي فتذكرت أنها حينما كانت صغيرة كانت ترى جدها يفعل مثل هذا، أي أن بعض الأندلسيين ورث دينه لأولاده على امتداد خمسة قرون رهيبة!!
هذا صحيح، وهو مثير للإبهار.. لكن الصحيح أيضا أن الأمة الأندلسية اختفت وانهارت، وأن شمس الإسلام قد غربت عن الأندلس، وأنها الآن صارت ديار كفر تشارك في الحرب على المسلمين.
ولهذا فمهما كان الأندلسيون عظماء كأمة، ومهما ظهر فيما أفذاذ كأفراد، فإن المحصلة النهائية هي زوال هذه الأمة وزوال هؤلاء الأفذاذ، فالناس على دين ملوكهم، ويا ليت شعري كم أندلسي لم يستطع منع ابنه من التنصر ولا ابنته من الزواج من إسباني ولا استطاع تعليم أبنائه اللغة العربية أو شعائر الإسلام.. لقد نجح أناسٌ، لكن المستحيل كل المستحيل أن نطالب الأندلسيين بالبقاء على دينهم لهذه القرون الطوال كأن شيئا لم يتغير عليهم، هذا هو الخيال والوهم، هذه هي مناقضة القوانين ومعاكسة التاريخ ومخالفة السنن.
ذلك ما نحتاجه في واقعنا، أن نفهم أثر السلطة في تغييب دين الناس وإدخالهم في الكفر بعد الإيمان، وتشويهها لهم وتبديلها لهويتهم ومعاركهم.. وهذا الانقلاب في مصر دليل شاهد؛ كيف يتحول الناس معه إلى الانهيار: تصير حركة المقاومة عدوا ويصير الصهاينة حلفاء، وتقف البلاد مع إسرائيل إذا حاربت غزة، ويُقتل الفلسطيني إذا عبر الحدود بينما يُفرج عن الجواسيس الصهاينة، ويُحذف من المناهج سير عقبة وصلاح الدين وتحرق كتب الأئمة والعلماء فيما تصير الراقصات أمهات مثالية ويصير الأسافل الأراذل حثالة البشر قادة وموجهين يعتلون المنابر ووسائل الإعلام.
إن دين الله باقٍ لا شك، لكن لا يعني هذا أن كل بلد أو شعب اعتنق الإسلام سيظل مسلما، الأمر أكبر وأخطر وأعظم من هذا الوهم، بل استطاعت الدول أن تخرج من بين المسلمين من تنصر ومن تعلمن ومن ألحد ومن تشيع ومن صار حربا على الدين.
إن ترك المستبدين، لا سيما إن كانوا عملاء وخدم لأعداء الأمة، يخرج جيلا مثلهم في نهاية الأمر رغم كل ما يمكن أن يبديه الجيل الأول والثاني والثالث من الصمود والتمسك بالدين.
اقرأ: الناس على دين ملوكهم، وليس كما تكونوا يولى عليكم.
(3)مشاهد أندلسية
ولئن كان الجيل الأول هو الأصلب فلا يعني هذا أنه ينجو من المصائر الموعودة، بل يظهر فيه الفتق الأول في الأمة، ثم يضعف ويستمر ضعفه باستمرار السلطة القاهرة وتمكنها وتغلبها في النهاية.
ومثلما ذكرنا مشاهد العظمة، ينبغي أن نذكر مشاهد المأساة كذلك، وسنأخذها من ذات السجلات المتاحة لمحاكم التفتيش كما في دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الأندلسيون الموريسكيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية".
1. لقد شهدت الكتب التعليمية التي يتوارثها الأندلسيون سرا لتعليم أبنائهم الإسلام بالتطور المنحدر في اللغة العربية، ولربما تحتفظ العائلة بكتاب واحد تجمع فيه التعاليم ثم يضيف الجيل اللاحق إلى السابق، وهنا يظهر كيف ينحدر مستوى اللغة ومستوى الخط العربي من جيل إلى جيل، ثم لم تأت سنة 1540 إلا وكانت قشتالة وطليطلة خاليتان تماما ممن يعرف اللغة العربية2. ولقد تحول بعض المسلمين إلى النصرانية، ليس هذا فحسب، بل عمل كجاسوس وعين على غيره من المسلمين، وبعضهم وشى بمسلم رأى عنده كتابا لتعليم الإسلام أو رآه يكتب بالخط العربي أو حتى سمع منه كلاما "يُشَمّ منه رائحة الشعر"، وكثيرا ما سُجِّل إبلاغ بعض الناس عن أهاليهم، منهم امرأة أبلغت عن أختها وزوجها وخادمتهما أنهما لا زالا يمارسان الإسلام سرا، ومن أولئك رجل أبلغ عن والديه وخصَّ والدته بمزيد من الإبلاغ، وسجل لوي كاردياك أن "وشاية الأهل لم تكن نادرة"3. وينتشر في المجتمع المستضعف أنواع الضلال:
§ فيظهر الدجالون الذين يدعون الكرامات والاتصال بالسماء والقدرة على مخاطبة الأموات والتنبؤ بالمستقبل§ ويتحول البعض عن دينهم ليس بدافع النجاة بل بأثر الفتنة في الدين، فمن ذلك حالة أندلسي تحول إلى اليهودية وقد كان اليهود مضطهدون كالمسلمين أمام محاكم التفتيش4. ويظهر في الأمة المغلوبة أخلاق الاستضعاف، كالخوف والخبث واللؤم والكذب، حتى إن فقيها أندلسيا كان يعظ إخوانه الذين سيهربون إلى تونس بضرورة أن يتخلصوا من هذه الطباع إذا وصلوا إلى أرض الإسلام لأنه لا يُقبل منهم إضمار شيء وإظهار ضده حينئذ5. أما اللاجئون أو المهاجرون فإنهم يصيرون رهينة وأداة في صراعات الكبار، لا سيما المهاجرين والمطاردين منهم، وهكذا صار الأندلسيون الذين استعملهم الولاة والملوك أحيانا في صراعاتهم الداخلية، وقُتِل بعضهم شنقا أو تعذيبا أو في المعارك التي تنشب بين الأطراف المتعارضة، فقد استعملهم والي بايرن في أطماعه للتوسع في أرض نافار، وكذلك هنري الرابع ملك فرنسا في صراعاتهوأختم هذه السطور بقصة مأساوية لامرأة أندلسية، تكاد تتلخص في حياتها قصة المأساة نفسها من سائر وجوهها:
وُلدت ماريا لويز لعائلة أندلسية في قرية غرناطية، وعلمها أهلها الإسلام بعد الحادية عشرة كما كانت عادتهم، وذلك أن القساوسة كانوا يحاولون استدراج الأطفال لمعرفة إخلاص أهليهم فحملهم ذلك على تأخير تعليم الإسلام لأبنائهم حتى سنّ التمييز، وهكذا نشأت ماريا وتعلمت وفهمت وأخلصت للإسلام كما تعلمت كيف تخفي دينها وتراوغ في الاحتفاظ به، وحيث كانت ضمن قرية غرناطية فقد كانت الحياة هادئة إلا في الأيام التي يفاجئهم فيها القساوسة، وصارت تصلي في المساء وتصوم رمضان كغيرها من أهل القرية، إلا أن تطورا مثيرا حدث في حياتها لا نملك تفاصيله إذ تزوجت في الرابعة عشرة من أحد "النبلاء" وأخذها معه إلى أمريكا، إلا أنها استمرت محتفظة بدينها حتى السابعة والعشرين، ولما طال عليها الأمد وبلغت الخامسة والأربعين اعترفت للكاهن في جلسة الاعتراف بأنها كانت مسلمة وأنه لم يزل في نفسها بعض آثار من تعلقها به، وطالبت بأن تُحرق إن كان هذا يطهر روحها. إلا أنهم –ولأسباب اجتماعية سياسية- قرروا عليها غرامة بسيطة إذ استوثقوا من صدق "توبتها"!!
فمن منا يرضى لبناته هذا المصير؟!!
هذا المصير ليس مستحيلا ولا بعيدا.. فقط لو استقر في بلاد الإسلام نظام علماني استبدادي يُطارد الدين وأهله وينشر الكفر ويعمل له.
نشر في ساسة بوست
مجهول: نبذة العصر ص121 وما بعدها، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/242. لوي كاردياك ص70، 72. لوي كاردياك ص70، 76. لوي كاردياك ص104. لوي كاردياك ص75. لوي كاردياك ص87. لوي كاردياك ص87، 132، 133، 136 وما بعدها. لوي كاردياك: ص126 وما بعدها. لوي كاردياك ص95، 96. لوي كاردياك ص92. لوي كاردياك ص134، 135. لوي كاردياك ص140 وما بعدها.
لقد كانت النكبة الأندلسية من أعظم ما تألمت له الأمة في تاريخها، أن تغرب شمس الإسلام عن أرض أضاءتها ثمانية قرون، ولذلك لم يزل اسم الأندلس بعد خمسة قرون يثير في نفوس المسلمين شجونا ولوعة، إلا أننا نظلم أنفسنا ونظلم التاريخ والحقيقة ونظلم جيلنا والأجيال القادمة إن لم نأخذ منها ما ينفعنا في يومنا الحاضر هذا.
في المقالين السابقين (عظماء المحنة الأندلسية، عمالقة في جحيم المحنةالأندلسية) أردت إثبات ما كان عليه الأندلسيون من العظمة والبسالة في التمسك بدينهم رغم الجحيم الذي أنزله الإسبان بهم وتحت ميزان قوى منهار تماما، إلا أن الحقيقة لا تكتمل إذا توقفنا عند هذه الصورة، وإني لأحسب أن التوقف عندها والسكوت عن نصف الصورة الآخر من قبيل الخيانة التي لا تليق بمن يحترم نفسه فضلا عمن يخشى الله ويتحملها كأمانة.
نصف الحقيقة الآخر هو ما نعرض لصورة منه في هذه السطور:
(1)ماذا يفعل الحكام المستبدون بالأمة
لقد عاشت غرناطة أياما عصيبة حقا حتى اضطرت إلى الاستسلام في نهاية الأمر، إلا أن هذا الاستسلام لم يكن الخيار الوحيد المتاح، بل لم يصل إليه الغرناطيون إلا بتأثير الحرب النفسية التي شارك فيها ملكهم نفسه، تشير النصوص إلى أن حاكم غرناطة كان يتواصل مع القشتاليين سرا وأن له يدا في إشاعة "الاستسلام" بين الناس، حتى تقدم إليه وفد من التجار (رجال الأعمال بمصطلح العصر) يطلبون منه الوصول إلى اتفاق تسليم المدينة فاتخذ ذلك ذريعة لعقد هذا الاتفاق الذي هو تتويج لمراسلات سرية جعلت فريدناند يوقف الحرب ويشدد الحصار، ولم يحفل برأي من أرادوا الاستمرار في الجهاد والحرب والمقاومة. وهكذا حصل الحاكم لنفسه على مزايا ومنافع ثم سلَّم البلدوهكذا هي سنة المستبدين، يملكون البلاد فيتنعمون بخيراتها ويذلون أهلها حتى إذا جاء دورهم وواجبهم سلموا البلاد وتركوها ونجوا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم إن استطاعوا. والمسلمون حين يغفلون عن هذه السنة الماضية التي تكررت قبل كل قصة احتلال وسقوط يسيرون إلى نهايتهم بأيديهم، ويكون ذلك حين يرون في الخروج على المستبد فتنة ويتساهلون في ترك الشورى وفي الأخذ على يد الظالم وأطره على الحق، يحسبون بذلك أنهم يحافظون على أمان الناس وأموالهم وأعراضهم ويحفظون البلاد من طمع الأجنبي، بينما الوضع على العكس من هذا: إن ترك جهاد المستبد هو ما يفعل كل هذا، فهو يستذلهم ويستضعفهم في وقت تمكنه، فإذا جاء وقت ضعفه تركهم للأجنبي، بل مهد البلاد والعباد للأجنبي بما نشره فيهم من ضعف وذلة ورغبة في الاستسلام، فيذوق العباد والبلاد مرارة الاستبداد ثم مرارة الاحتلال، وقد تكون مرارة طويلة طويلة طويلة بحجم زوال الإسلام من البلد وإكراه الناس على التنصر وترك دين الله.
ولذلك لا ينبغي أن يستهين أحد بخطورة مسألة الحكم والسلطة في مصائر الناس، وآثار ذلك على دينهم ودنياهم، وعلى الأمة جميعا.
(2)الناس على دين ملوكهم
صحيح أن الأندلسيين صمدوا كما لم تصمد أمة، تمسكوا بدينهم كما لم يحدث مثله في التاريخ فيما نعلم، مآثرهم سجلته وثائق محاكم التفتيش نفسها كما نقلنا في المقاليْن السابقيْن، حتى لم يعد أمام الإسبان بعد مائة وعشرين عاما إلا أن يطردوهم تماما من الأندلس، ولقد أثار ذهولي المتجدد قصة الإسبانية التي أسلم ولدها فرأته يصلي فتذكرت أنها حينما كانت صغيرة كانت ترى جدها يفعل مثل هذا، أي أن بعض الأندلسيين ورث دينه لأولاده على امتداد خمسة قرون رهيبة!!
هذا صحيح، وهو مثير للإبهار.. لكن الصحيح أيضا أن الأمة الأندلسية اختفت وانهارت، وأن شمس الإسلام قد غربت عن الأندلس، وأنها الآن صارت ديار كفر تشارك في الحرب على المسلمين.
ولهذا فمهما كان الأندلسيون عظماء كأمة، ومهما ظهر فيما أفذاذ كأفراد، فإن المحصلة النهائية هي زوال هذه الأمة وزوال هؤلاء الأفذاذ، فالناس على دين ملوكهم، ويا ليت شعري كم أندلسي لم يستطع منع ابنه من التنصر ولا ابنته من الزواج من إسباني ولا استطاع تعليم أبنائه اللغة العربية أو شعائر الإسلام.. لقد نجح أناسٌ، لكن المستحيل كل المستحيل أن نطالب الأندلسيين بالبقاء على دينهم لهذه القرون الطوال كأن شيئا لم يتغير عليهم، هذا هو الخيال والوهم، هذه هي مناقضة القوانين ومعاكسة التاريخ ومخالفة السنن.
ذلك ما نحتاجه في واقعنا، أن نفهم أثر السلطة في تغييب دين الناس وإدخالهم في الكفر بعد الإيمان، وتشويهها لهم وتبديلها لهويتهم ومعاركهم.. وهذا الانقلاب في مصر دليل شاهد؛ كيف يتحول الناس معه إلى الانهيار: تصير حركة المقاومة عدوا ويصير الصهاينة حلفاء، وتقف البلاد مع إسرائيل إذا حاربت غزة، ويُقتل الفلسطيني إذا عبر الحدود بينما يُفرج عن الجواسيس الصهاينة، ويُحذف من المناهج سير عقبة وصلاح الدين وتحرق كتب الأئمة والعلماء فيما تصير الراقصات أمهات مثالية ويصير الأسافل الأراذل حثالة البشر قادة وموجهين يعتلون المنابر ووسائل الإعلام.
إن دين الله باقٍ لا شك، لكن لا يعني هذا أن كل بلد أو شعب اعتنق الإسلام سيظل مسلما، الأمر أكبر وأخطر وأعظم من هذا الوهم، بل استطاعت الدول أن تخرج من بين المسلمين من تنصر ومن تعلمن ومن ألحد ومن تشيع ومن صار حربا على الدين.
إن ترك المستبدين، لا سيما إن كانوا عملاء وخدم لأعداء الأمة، يخرج جيلا مثلهم في نهاية الأمر رغم كل ما يمكن أن يبديه الجيل الأول والثاني والثالث من الصمود والتمسك بالدين.
اقرأ: الناس على دين ملوكهم، وليس كما تكونوا يولى عليكم.
(3)مشاهد أندلسية
ولئن كان الجيل الأول هو الأصلب فلا يعني هذا أنه ينجو من المصائر الموعودة، بل يظهر فيه الفتق الأول في الأمة، ثم يضعف ويستمر ضعفه باستمرار السلطة القاهرة وتمكنها وتغلبها في النهاية.
ومثلما ذكرنا مشاهد العظمة، ينبغي أن نذكر مشاهد المأساة كذلك، وسنأخذها من ذات السجلات المتاحة لمحاكم التفتيش كما في دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الأندلسيون الموريسكيون والمسيحيون.. المجابهة الجدلية".
1. لقد شهدت الكتب التعليمية التي يتوارثها الأندلسيون سرا لتعليم أبنائهم الإسلام بالتطور المنحدر في اللغة العربية، ولربما تحتفظ العائلة بكتاب واحد تجمع فيه التعاليم ثم يضيف الجيل اللاحق إلى السابق، وهنا يظهر كيف ينحدر مستوى اللغة ومستوى الخط العربي من جيل إلى جيل، ثم لم تأت سنة 1540 إلا وكانت قشتالة وطليطلة خاليتان تماما ممن يعرف اللغة العربية2. ولقد تحول بعض المسلمين إلى النصرانية، ليس هذا فحسب، بل عمل كجاسوس وعين على غيره من المسلمين، وبعضهم وشى بمسلم رأى عنده كتابا لتعليم الإسلام أو رآه يكتب بالخط العربي أو حتى سمع منه كلاما "يُشَمّ منه رائحة الشعر"، وكثيرا ما سُجِّل إبلاغ بعض الناس عن أهاليهم، منهم امرأة أبلغت عن أختها وزوجها وخادمتهما أنهما لا زالا يمارسان الإسلام سرا، ومن أولئك رجل أبلغ عن والديه وخصَّ والدته بمزيد من الإبلاغ، وسجل لوي كاردياك أن "وشاية الأهل لم تكن نادرة"3. وينتشر في المجتمع المستضعف أنواع الضلال:
§ فيظهر الدجالون الذين يدعون الكرامات والاتصال بالسماء والقدرة على مخاطبة الأموات والتنبؤ بالمستقبل§ ويتحول البعض عن دينهم ليس بدافع النجاة بل بأثر الفتنة في الدين، فمن ذلك حالة أندلسي تحول إلى اليهودية وقد كان اليهود مضطهدون كالمسلمين أمام محاكم التفتيش4. ويظهر في الأمة المغلوبة أخلاق الاستضعاف، كالخوف والخبث واللؤم والكذب، حتى إن فقيها أندلسيا كان يعظ إخوانه الذين سيهربون إلى تونس بضرورة أن يتخلصوا من هذه الطباع إذا وصلوا إلى أرض الإسلام لأنه لا يُقبل منهم إضمار شيء وإظهار ضده حينئذ5. أما اللاجئون أو المهاجرون فإنهم يصيرون رهينة وأداة في صراعات الكبار، لا سيما المهاجرين والمطاردين منهم، وهكذا صار الأندلسيون الذين استعملهم الولاة والملوك أحيانا في صراعاتهم الداخلية، وقُتِل بعضهم شنقا أو تعذيبا أو في المعارك التي تنشب بين الأطراف المتعارضة، فقد استعملهم والي بايرن في أطماعه للتوسع في أرض نافار، وكذلك هنري الرابع ملك فرنسا في صراعاتهوأختم هذه السطور بقصة مأساوية لامرأة أندلسية، تكاد تتلخص في حياتها قصة المأساة نفسها من سائر وجوهها:
وُلدت ماريا لويز لعائلة أندلسية في قرية غرناطية، وعلمها أهلها الإسلام بعد الحادية عشرة كما كانت عادتهم، وذلك أن القساوسة كانوا يحاولون استدراج الأطفال لمعرفة إخلاص أهليهم فحملهم ذلك على تأخير تعليم الإسلام لأبنائهم حتى سنّ التمييز، وهكذا نشأت ماريا وتعلمت وفهمت وأخلصت للإسلام كما تعلمت كيف تخفي دينها وتراوغ في الاحتفاظ به، وحيث كانت ضمن قرية غرناطية فقد كانت الحياة هادئة إلا في الأيام التي يفاجئهم فيها القساوسة، وصارت تصلي في المساء وتصوم رمضان كغيرها من أهل القرية، إلا أن تطورا مثيرا حدث في حياتها لا نملك تفاصيله إذ تزوجت في الرابعة عشرة من أحد "النبلاء" وأخذها معه إلى أمريكا، إلا أنها استمرت محتفظة بدينها حتى السابعة والعشرين، ولما طال عليها الأمد وبلغت الخامسة والأربعين اعترفت للكاهن في جلسة الاعتراف بأنها كانت مسلمة وأنه لم يزل في نفسها بعض آثار من تعلقها به، وطالبت بأن تُحرق إن كان هذا يطهر روحها. إلا أنهم –ولأسباب اجتماعية سياسية- قرروا عليها غرامة بسيطة إذ استوثقوا من صدق "توبتها"!!
فمن منا يرضى لبناته هذا المصير؟!!
هذا المصير ليس مستحيلا ولا بعيدا.. فقط لو استقر في بلاد الإسلام نظام علماني استبدادي يُطارد الدين وأهله وينشر الكفر ويعمل له.
نشر في ساسة بوست
مجهول: نبذة العصر ص121 وما بعدها، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 7/242. لوي كاردياك ص70، 72. لوي كاردياك ص70، 76. لوي كاردياك ص104. لوي كاردياك ص75. لوي كاردياك ص87. لوي كاردياك ص87، 132، 133، 136 وما بعدها. لوي كاردياك: ص126 وما بعدها. لوي كاردياك ص95، 96. لوي كاردياك ص92. لوي كاردياك ص134، 135. لوي كاردياك ص140 وما بعدها.
Published on December 31, 2015 01:46
December 29, 2015
موقع مصر في المشروع التركي
قال المفكر ورئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو، في واحدة من آخر أوراقه البحثية المنشورة: "تركيا، بجغرافيتها وتاريخها وحيوتها البشرية واحدة من تلك الدول التي تستطيع لعب دور رئيسي في كل هذه المجالات، تعتمد هذه القدرة على استطاعة تركيا التكيف مع التحولات السريعة للعناصر التي وفرها لها العمق التاريخي والجغرافي والاستفادة منها دون الفصل بينها، وبصيغة أوضح: إذا فشلت تركيا في مواكبة التغيرات فإنها ستُلقى خارج التاريخ أو ستكون من ضحايا أمواجه المتدفقة. إن تاريخ تركيا وموقعها الجغرافي يستحيل معه أن تقف من التغيرات العالمية موقفا سلبيا"قبل هذه المقولة بخمس سنوات كان جورج فريدمان –رئيس مركز ستراتفور الاستخباري- يتوقع في كتابه "المائة عام القادمة" بتطور في القوة التركية، قال: "عبر التاريخ، كانت تركيا القوة الأقدر على تكوين إمبراطورية خارج حدود العالم الإسلامي، بالتحديد منذ غزوات المغول في القرن الثالث عشر، يبدو القرن بين 1917 و 2020 كشذوذ إذ تقلص حكم تركيا ليشمل فقط آسيا الصغرى، بينما كانت القوة التركية العثمانية التي حكمت ما سوى إيران حقيقة واقعة لزمن طويل. لقد حكمت تركيا البلقان والقوقاز والجزيرة العربية والشمال الإفريقي. في سنة 2020 ستعود هذه القوة إلى الظهور مرة أخرى"وإن دولة ينتظرها هذا المصير، لا بد إذ تخطط له أن تنظر إلى الخريطة من حولها، وكنا قد ذكرنا في مقال سابق أن المحيط التركي ينابذها العداوة لأسباب تاريخية وأن سياسة تصفير المشكلات لم تعد صالحة لعصر ما بعد الثورات، وأن الهوية هي المزاج السائد لصراعات المستقبل.
أقرب مشاريع تركيا الكبرى هو مشروع 2023، وقد أطال أردوغان وداود أوغلو الحديث عنه، فضلا عن المشروع الطموح لما بعد نصف قرن آخر.
وإذا حاولنا الدخول إلى عقل صانع القرار التركي فلا بد أن تكون مصر ضمن أهم أوراق تفكيره، إذ لا غنى لتركيا في مشروعها الكبير عن مصر، فمصر هي مفتاح العالم العربي، وهي أكبر البلاد العربية سكانا (لا سيما وتركيا ستعاني انخفاضا في الخصوبة ونسبة الشبابوبالإضافة إلى ذلك فإن مصر ذات ثقل ثقافي وتاريخي عظيم، وهي العضد الأهم لتركيا كرأس حربة للمشروع السني في المواجهة المرتقبة ضد الخطر الروسي وضد المشروع الإيراني، وفيها الأزهر الشريف الذي يمثل سمعة تاريخية ودينية أكثر منه آلة عمل ذات فاعلية، وإن كان يمكن في ظل نظام آخر أن تعمل آلته بفاعلية وبقوة أيضا. وفي مصر أقوى الحركات الإسلامية العربية التي تمثل رأس الحربة الفكرية والدعوية ضد المشروعين: الروسي والشيعي، كما تمثل رأس الحربة في دعم المشروع السني. وتمتلك الحركة الإسلامية العربية قدرة فائقة على تجييش الشعوب العربية والمسلمة إذا امتلكت بحق ناصية التوجيه.
فمصر –تظل بهذه المعطيات- هي أقوى حلفاء المنطقة إن كانت على توافق مع تركيا، وهي كذلك أسوأ ما يضر بتركيا ويهدد مصالحها إن كانت على خلاف معها، ولا يمكن ضمان التوافق بين مصر وتركيا إلا بنظام سياسي يعبر عن مصالح الشعب المصري حقيقة.
تشير توقعات المخابرات الأمريكية بأن منطقة الجزيرة العربية والشام والعراق مقبلتان على فوضى خلال العقود القادمةولهذا يلتقي في مصر الخياران المتاحان أمام السياسة التركية، ونقصد بهما الخيار المصالح الاقتصادية وخيار الهوية الإسلامية، بل هما في الحالة المصرية يتضافران بحيث يعطيان في اجتماعهما التأثير التضافري الذي هو أكبر من مجموع تأثيرهما حسابيا.
وفي اللحظة الحالية يبدو النظام المصري القائم الآن تهديدا واضحا لتركيا ومصالحها، إلا أن فشله العام قد يتحول إلى فرصة سانحة لتركيا بدخولها على خط مواجهته، إذ ينتشر في التقارير المرفوعة للإدارة الأمريكية من لجان متخصصة أو مراكز دراسات نغمة تقول باستحالة الاعتماد على السيسي في مكافحة "الإرهاب"، فقد انتهى تقرير مطول لخبير مرموق في الشأن المصري إلى أن النظام المصري لا يستطيع أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل عبئا في هذا الملفوالمقصود أن المصلحة التركية تقتضي الدفع ضد هذا النظام الذي يمثل الآن تهديدا لمصالحها وستزيد خطورته وتهديده كلما استقر أكثر.
فهل يمكن أن تندفع تركيا أكثر في دعم الثورة المصرية لإسقاط نظام العسكر؟ لا سيما إن كان بينها وبين هذه الغاية عقبات أهمها على الإطلاق: إسرائيل.
نشر في تركيا بوست
Ahmet Davutoglu: “The Restoration of Turkey: Strong Democracy, Dynamic Economy, and Active Diplomacy”, (Ankara, SAM, Vision Papers, no. 7, August 2014), p. 3. George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 146. NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. 25. Simon Henderson: Egyptian Offshore Gas Find Curtails Israel's Options, (the Washington Institute, 31 Aug. 2015) NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. 74, 75. George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 145. Shadi Hamid: Sisi’s Regime Is a Gift to the Islamic State, (Foreign Policy, 6 Aug 2015). Elliott Abrams: Is President Sisi a Bulwark Against Terrorism?, (Council on Foreign Relations, 19 Aug 2015). Eric Trager: Egypt's Durable Misery: Why Sisi's Regime Is Stable, (The Washington Institute 21 Jul 2015). Steven A. Cook: How to Get Egypt’s Generals Back on Our Side, (Foreign Policy, 5 jan 2015); Thanassis Cambanis: Egypt’s Sisi Is Getting Pretty Good … at Being a Dictator, (Foreign Policy, 22 May 2015).
أقرب مشاريع تركيا الكبرى هو مشروع 2023، وقد أطال أردوغان وداود أوغلو الحديث عنه، فضلا عن المشروع الطموح لما بعد نصف قرن آخر.
وإذا حاولنا الدخول إلى عقل صانع القرار التركي فلا بد أن تكون مصر ضمن أهم أوراق تفكيره، إذ لا غنى لتركيا في مشروعها الكبير عن مصر، فمصر هي مفتاح العالم العربي، وهي أكبر البلاد العربية سكانا (لا سيما وتركيا ستعاني انخفاضا في الخصوبة ونسبة الشبابوبالإضافة إلى ذلك فإن مصر ذات ثقل ثقافي وتاريخي عظيم، وهي العضد الأهم لتركيا كرأس حربة للمشروع السني في المواجهة المرتقبة ضد الخطر الروسي وضد المشروع الإيراني، وفيها الأزهر الشريف الذي يمثل سمعة تاريخية ودينية أكثر منه آلة عمل ذات فاعلية، وإن كان يمكن في ظل نظام آخر أن تعمل آلته بفاعلية وبقوة أيضا. وفي مصر أقوى الحركات الإسلامية العربية التي تمثل رأس الحربة الفكرية والدعوية ضد المشروعين: الروسي والشيعي، كما تمثل رأس الحربة في دعم المشروع السني. وتمتلك الحركة الإسلامية العربية قدرة فائقة على تجييش الشعوب العربية والمسلمة إذا امتلكت بحق ناصية التوجيه.
فمصر –تظل بهذه المعطيات- هي أقوى حلفاء المنطقة إن كانت على توافق مع تركيا، وهي كذلك أسوأ ما يضر بتركيا ويهدد مصالحها إن كانت على خلاف معها، ولا يمكن ضمان التوافق بين مصر وتركيا إلا بنظام سياسي يعبر عن مصالح الشعب المصري حقيقة.
تشير توقعات المخابرات الأمريكية بأن منطقة الجزيرة العربية والشام والعراق مقبلتان على فوضى خلال العقود القادمةولهذا يلتقي في مصر الخياران المتاحان أمام السياسة التركية، ونقصد بهما الخيار المصالح الاقتصادية وخيار الهوية الإسلامية، بل هما في الحالة المصرية يتضافران بحيث يعطيان في اجتماعهما التأثير التضافري الذي هو أكبر من مجموع تأثيرهما حسابيا.
وفي اللحظة الحالية يبدو النظام المصري القائم الآن تهديدا واضحا لتركيا ومصالحها، إلا أن فشله العام قد يتحول إلى فرصة سانحة لتركيا بدخولها على خط مواجهته، إذ ينتشر في التقارير المرفوعة للإدارة الأمريكية من لجان متخصصة أو مراكز دراسات نغمة تقول باستحالة الاعتماد على السيسي في مكافحة "الإرهاب"، فقد انتهى تقرير مطول لخبير مرموق في الشأن المصري إلى أن النظام المصري لا يستطيع أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل عبئا في هذا الملفوالمقصود أن المصلحة التركية تقتضي الدفع ضد هذا النظام الذي يمثل الآن تهديدا لمصالحها وستزيد خطورته وتهديده كلما استقر أكثر.
فهل يمكن أن تندفع تركيا أكثر في دعم الثورة المصرية لإسقاط نظام العسكر؟ لا سيما إن كان بينها وبين هذه الغاية عقبات أهمها على الإطلاق: إسرائيل.
نشر في تركيا بوست
Ahmet Davutoglu: “The Restoration of Turkey: Strong Democracy, Dynamic Economy, and Active Diplomacy”, (Ankara, SAM, Vision Papers, no. 7, August 2014), p. 3. George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 146. NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. 25. Simon Henderson: Egyptian Offshore Gas Find Curtails Israel's Options, (the Washington Institute, 31 Aug. 2015) NIC: Global Trends 2030, (Dec. 2012), p. 74, 75. George Friedman: The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century, (New York, Double day, 2009), p. 145. Shadi Hamid: Sisi’s Regime Is a Gift to the Islamic State, (Foreign Policy, 6 Aug 2015). Elliott Abrams: Is President Sisi a Bulwark Against Terrorism?, (Council on Foreign Relations, 19 Aug 2015). Eric Trager: Egypt's Durable Misery: Why Sisi's Regime Is Stable, (The Washington Institute 21 Jul 2015). Steven A. Cook: How to Get Egypt’s Generals Back on Our Side, (Foreign Policy, 5 jan 2015); Thanassis Cambanis: Egypt’s Sisi Is Getting Pretty Good … at Being a Dictator, (Foreign Policy, 22 May 2015).
Published on December 29, 2015 04:06
December 28, 2015
في ذكرى وفاة جلال كشك
كنت قد اكتشفت جلال كشك في صيف (2002م) مصادفة، صديق لي اشترى كتبا ظنها للشيخ عبد الحميد كشك، فلما اكتشف أنها لشخص آخر أعطانيها وقال: ستنفعك أنت ولن تنفعني، كتب عن الفكر والسياسة. وليس يعرف فرحة الشاب الفقير –حينها- المحب للقراءة بمن يهديه كتابا إلا من ذاق حاله، وفي أيام التهمت الكتابين ثم شغفت بالرجل فبحثت عن كتاب ثالث فوجدت أمامي كتابه "ثورة يوليو الأمريكية" فالتهمته، لكنه سبب لي صدمة معرفية كبرى، فالشاب ذي التسعة عشر عاما وإن كان يبغض عبد الناصر بشدة لم يكن يتوقع إطلاقا أن ثورة يوليو تدبير أمريكي! ولا أن هيكل مزور تاريخ مفضوح وكذاب إلى هذا الحد!
كنت ساعتها في إجازة الصيف وعزمت أني حين أسافر للجامعة سأبحث عن المؤلف في القاهرة وألتقيه. لم تمرَّ أيام حتى كنت اقرأ حوارا صحفيا مع الناصري عبد الحليم قنديل بمناسبة ذكرى يوليو، فسأله الصحفي: ماذا تقول في الوثائق التي نشرها جلال كشك؟ فقال عبد الحليم: جلال كشك رحمه الله .....
طاحت رأسي وغامت الدنيا أمام عيني حين قرأت "رحمه الله"، وصرت أحدق في العبارة أريدها أن تكون خيالا أو توهما مني فإذا بها ترقد أمامي واضحة صارخة تعذبني وتقطع أملي وتهدم أحلام تتلمذي عليه!!
مضى على وفاة جلال كشك اثنا عشر عاما (توفي 5 ديسمبر 1993م، بأزمة قلبية أثناء مناظرة له مع نصر حامد أبو زيد)، وما زال تراثه يحتاج لمن يجمعه وينهض به ويحلله ويفيد منه. كان عملاقا عظيما، كما كانت له أخطاء وزلات قاسية، وجلَّ من لا يخطئ، إلا أنه يظل أحد الأقلام السامقة في تاريخ القرن العشرين بل في كل التاريخ الحديث.
في هذه السطور أنقل بعضا من كلماته التي حفرت نفسها في قلبي، تذكيرا به وإشارة له.
(1)
"الإسلام هو دين التوحيد المطلق، الدين الذي اعترف بالألوهية المطلقة الكاملة لله سبحانه تعالى، فليس في مفهوم الله، عند المسلم، شبهة نقص ولا شبهة مماثلة للكون أو المادية أو الكائنات الفانية أو المتحولة... وليس في الفقه الإسلامي، أو التصور الإسلامي، تلك الملامح البشرية للإله، كما في أساطير اليونان حيث الرب يعشق ويسرق ويتآمر ويغدر ويخضع لقانون عام بل وتنزل به العقوبات! ولا كما في الأساطير المنسوبة للتوراة، حيث يصارع الرب الإنسان... كما رفض الإسلام رفضا قاطعا صريحا أية مجاملة لمحاولة خلق صلة عضوية بين الله والإنسان كما في العقيدة المسيحية عن "الابن" وما صاحبها عن "الطبيعة الواحدة" و"الطبيعتين". نفى الإسلام ذلك واعتبر أن مجرد ترديده كفيل بتدمير الكون. والخلاف الذي دار حول خلق القرآن، ينطلق من هذا التأكيد على التوحيد والتنزيه. فالذين قالوا بخلق القرآن رفضوا مقولة "في البدء كانت الكلمة" إذ ليس في الإسلام بداية ولا بدء إلا بالله سبحانه وتعالى وحده، والذين رفضوا القول بخلق القرآن نزَّهوا "كلام الله" أن يكون مخلوقا باعتباره صفة منسوبة لله سبحانه وتعالى، والله لا "تلحق" به صفة، ولا "تتأخر" عنه صفه، فهو منذ الأزل وإلى الأبد"(2)
"التوحيد هو قاعدة الفكر الإسلامي، ومن ثَمَّ القوة المُحَرِّكة والمُوَجِّهَة لفلسفة ونظام المجتمع الإسلامي، فنقطة الانطلاق هي تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وعبودية الأوهام، وعبودية الكائنات والطبيعة، فهو حرٌّ مطلق، منذ لحظة تسليمه بالعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أو بقبوله شرح معنى "لا إله إلا الله .. نفي وإثبات" وطرح هذا الفهم وقبوله، يقود إلى رفض الاستكانة لاستبداد السلطة، أي يطرح تلقائيا قضية السلطة وهي أهم القضايا السياسية، أو القضية الرئيسية في كل ثورة كما قيل"(3)
"الجاسوس مهما تكن مهارته، يحتاج إلى مناخ خاص لكي ينجح في إنزال ضربات حاسمة، يحتاج إلى مناخ مجتمع متفسخ لكي يستطيع أن ينفذ فيه. ولا شك أن الخمر والنساء لا يمكن أن تكونا أسلحة مثمرة في مجتمع قيادته متدينة. كما أن المال لا يُجدي في مجتمع يحاسب قياداته ويسألها "من أين لك هذا؟". وأهم من ذلك كله، هو إرادة القتال، ففي مجتمع يعيش حقيقة الصراع المصيري ضد عدو قومي متربص عند حدوده، يصبح كل مواطن جهاز أمن، وتصبح كل قراراته وسلوكه في خدمة المعركة المنتظرة"(4)
"كل كنائس العالم العربي لم تظهر في مواجهة الإسلام –كما يهمس اليوم في آذانها المفسدون- ولا احتمت بالصحراء أو الجبل خوفا من المسلمين، بالعكس لقد ظهرت كانشقاق عن كنيسة الغرب، كعصيان في وجه السلطة الأجنبية، سلطة المسيحية الغربية وليس ضد الإسلام. وما من دارس للتاريخ ينكر أنه لولا الفتح الإسلامي، لولا سيوف المسلمين، لاختفت هذه الكنائس في ظل الهيمنة الرومانية أو البيزنطية فالأوروبية، ولسيطرت كنيسة واحدة واختفت تماما الأقليات والكنائس المنشقة، كما حدث في أوروبا قبل عصر النهضة، أو ظهور القوميات. وهذه حقائق يعرفها المخلصون من أبناء وقادة هذه الكنائس مع المسلمين لا يحدث إلا في فترات النفوذ الأجنبي في البلاد العربية"(5)
"المخابرات لا تصنع الثورات، إنما الثورات تتجمع لعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية، ولعبة المخابرات (الأجنبية) المفضلة هي مسايرة التاريخ لتبديدها وتفجيرها سلميا.. وليست معارضتها.. فعندما يدرك خبراؤها أن سقوط النظام القائم حتمي، يبدأ التخطيط لما بعد سقوطه.. ومن هنا بدأ التخطيط للسيطرة على الثورة، لإجهاضها وحرفها، بل واستغلالها في تدمير ذات الأهداف التي قامت الثورة من أجلها"(6)
"لا أحد يجادل في أن الحل الإسلامي يحتل المرتبة الأولى في تفكير الجماهير وقطاع عريض من قياداتها الوطنية، ودعنا من الطفح [يقصد النخبة العلمانية] الذي يشوه وجه المجتمع بفعل إصابته بمرض الإفرنجي.
الجماهير وطليعتها الوطنية المخلصة تطرح الحل الإسلامي باعتباره الحل الأجدر بالتجربة ومن ثم جاءت شركات توظيف الأموال في إطار هذا الاقتناع أو إن شئت لاستثمار هذا الاقتناع... وكما قلنا أكثر من مرة ليست الفتوى الشرعية هي أهم ما في دعوى وقف التعامل بالربا، ومن ثم لا يجوز أن يشغلنا حوار الفقهاء والمتفقهين عن الاهتمام بنتائج هذه الدعوة.. أو على الأقل هكذا ينظر إليها خصومها.. فهي تشكل تحديا خطيرا للنظام المالي العالمي لأنها برفض الفائدة وطرح فكرة المشاركة في التمويل والمسؤولية والعائد فإن أول نتائجها هو حرمان النظام المالي من مدخرات وودائع المسلمين، مما يشكل نقصا كبيرا في مواردها، ومن الطبيعي أن تتصدى هذه البنوك لمثل هذه الدعوة بكل وسائل المقاومة ومنها شراء الكُتَّاب والخبراء وبعض رجال الدين المتحررين للفتوى ضد صيغة شركات توظيف الأموال... وكلها محاولات لإخفاء جوهر القضية وهو إخراج أموال المسلمين من قبضة البنوك الأجنبية، من قبضة الرأسمالية العالمية.. أما الشعارات فهي مجرد وسائل.. فالحرام هو إعانة عدونا بمالنا، والحلال هو الاستقلال بمواردنا ومدخراتنا، وكل فتوى تتعارض مع هذا الهدف فهي الكفر البواح"(7)
"وبعدُ، فما حيلتي .. وقد حُرمت من فرصة تغيير التاريخ بالوسيلة الحاسمة والفعالة -أي السيف-، ما حيلتي إلا أن أُعين أولئك الذين فضَّلهم الله على القاعدين، الذين يقفون اليوم أو غدًا للذود عن حرية الوطن، وسيادته واستقلاله. ما حيلتي إلا أن أعين هؤلاء الذين يصنعون مستقبلنا المشرق، وينسجون من حلكة الواقع فجر الغد المنتصر .. أقول ما حيلتي أنا العاجز عن القتال، إلا أن أعينهم على فهم التاريخ، أُجاهد معهم بقلمي، أُعرّفهم بأن أجدادهم قاتلوا وانتصروا؛ لأنهم آمنوا، {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين}. اللهم فاغفر لي ضعفي وعجزي، ويسِّر لي من القراء مَن إذا انتفع عمِل، ومَن إذا وجد خطأ نبّه إليه .. واغفر لي ما أكون قد نسيت أو تأولت فأخطأت"رحم الله محمد جلال كشك، وعوضنا خيرا منه.
نشر في الخليج أون لاين
خواطر في الجهاد والأقليات والأناجيل ص11، 12. السعوديون والحل الإسلامي ص89، 90. النابالم الفكري ص61، 62. رسالة التوحيد 1/7، 8. القومية والغزو الفكري ص217، 218. الناصريون قادمون ص155. ودخلت الخيل الأزهر ص29، 30.
كنت ساعتها في إجازة الصيف وعزمت أني حين أسافر للجامعة سأبحث عن المؤلف في القاهرة وألتقيه. لم تمرَّ أيام حتى كنت اقرأ حوارا صحفيا مع الناصري عبد الحليم قنديل بمناسبة ذكرى يوليو، فسأله الصحفي: ماذا تقول في الوثائق التي نشرها جلال كشك؟ فقال عبد الحليم: جلال كشك رحمه الله .....
طاحت رأسي وغامت الدنيا أمام عيني حين قرأت "رحمه الله"، وصرت أحدق في العبارة أريدها أن تكون خيالا أو توهما مني فإذا بها ترقد أمامي واضحة صارخة تعذبني وتقطع أملي وتهدم أحلام تتلمذي عليه!!
مضى على وفاة جلال كشك اثنا عشر عاما (توفي 5 ديسمبر 1993م، بأزمة قلبية أثناء مناظرة له مع نصر حامد أبو زيد)، وما زال تراثه يحتاج لمن يجمعه وينهض به ويحلله ويفيد منه. كان عملاقا عظيما، كما كانت له أخطاء وزلات قاسية، وجلَّ من لا يخطئ، إلا أنه يظل أحد الأقلام السامقة في تاريخ القرن العشرين بل في كل التاريخ الحديث.
في هذه السطور أنقل بعضا من كلماته التي حفرت نفسها في قلبي، تذكيرا به وإشارة له.
(1)
"الإسلام هو دين التوحيد المطلق، الدين الذي اعترف بالألوهية المطلقة الكاملة لله سبحانه تعالى، فليس في مفهوم الله، عند المسلم، شبهة نقص ولا شبهة مماثلة للكون أو المادية أو الكائنات الفانية أو المتحولة... وليس في الفقه الإسلامي، أو التصور الإسلامي، تلك الملامح البشرية للإله، كما في أساطير اليونان حيث الرب يعشق ويسرق ويتآمر ويغدر ويخضع لقانون عام بل وتنزل به العقوبات! ولا كما في الأساطير المنسوبة للتوراة، حيث يصارع الرب الإنسان... كما رفض الإسلام رفضا قاطعا صريحا أية مجاملة لمحاولة خلق صلة عضوية بين الله والإنسان كما في العقيدة المسيحية عن "الابن" وما صاحبها عن "الطبيعة الواحدة" و"الطبيعتين". نفى الإسلام ذلك واعتبر أن مجرد ترديده كفيل بتدمير الكون. والخلاف الذي دار حول خلق القرآن، ينطلق من هذا التأكيد على التوحيد والتنزيه. فالذين قالوا بخلق القرآن رفضوا مقولة "في البدء كانت الكلمة" إذ ليس في الإسلام بداية ولا بدء إلا بالله سبحانه وتعالى وحده، والذين رفضوا القول بخلق القرآن نزَّهوا "كلام الله" أن يكون مخلوقا باعتباره صفة منسوبة لله سبحانه وتعالى، والله لا "تلحق" به صفة، ولا "تتأخر" عنه صفه، فهو منذ الأزل وإلى الأبد"(2)
"التوحيد هو قاعدة الفكر الإسلامي، ومن ثَمَّ القوة المُحَرِّكة والمُوَجِّهَة لفلسفة ونظام المجتمع الإسلامي، فنقطة الانطلاق هي تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وعبودية الأوهام، وعبودية الكائنات والطبيعة، فهو حرٌّ مطلق، منذ لحظة تسليمه بالعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أو بقبوله شرح معنى "لا إله إلا الله .. نفي وإثبات" وطرح هذا الفهم وقبوله، يقود إلى رفض الاستكانة لاستبداد السلطة، أي يطرح تلقائيا قضية السلطة وهي أهم القضايا السياسية، أو القضية الرئيسية في كل ثورة كما قيل"(3)
"الجاسوس مهما تكن مهارته، يحتاج إلى مناخ خاص لكي ينجح في إنزال ضربات حاسمة، يحتاج إلى مناخ مجتمع متفسخ لكي يستطيع أن ينفذ فيه. ولا شك أن الخمر والنساء لا يمكن أن تكونا أسلحة مثمرة في مجتمع قيادته متدينة. كما أن المال لا يُجدي في مجتمع يحاسب قياداته ويسألها "من أين لك هذا؟". وأهم من ذلك كله، هو إرادة القتال، ففي مجتمع يعيش حقيقة الصراع المصيري ضد عدو قومي متربص عند حدوده، يصبح كل مواطن جهاز أمن، وتصبح كل قراراته وسلوكه في خدمة المعركة المنتظرة"(4)
"كل كنائس العالم العربي لم تظهر في مواجهة الإسلام –كما يهمس اليوم في آذانها المفسدون- ولا احتمت بالصحراء أو الجبل خوفا من المسلمين، بالعكس لقد ظهرت كانشقاق عن كنيسة الغرب، كعصيان في وجه السلطة الأجنبية، سلطة المسيحية الغربية وليس ضد الإسلام. وما من دارس للتاريخ ينكر أنه لولا الفتح الإسلامي، لولا سيوف المسلمين، لاختفت هذه الكنائس في ظل الهيمنة الرومانية أو البيزنطية فالأوروبية، ولسيطرت كنيسة واحدة واختفت تماما الأقليات والكنائس المنشقة، كما حدث في أوروبا قبل عصر النهضة، أو ظهور القوميات. وهذه حقائق يعرفها المخلصون من أبناء وقادة هذه الكنائس مع المسلمين لا يحدث إلا في فترات النفوذ الأجنبي في البلاد العربية"(5)
"المخابرات لا تصنع الثورات، إنما الثورات تتجمع لعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية، ولعبة المخابرات (الأجنبية) المفضلة هي مسايرة التاريخ لتبديدها وتفجيرها سلميا.. وليست معارضتها.. فعندما يدرك خبراؤها أن سقوط النظام القائم حتمي، يبدأ التخطيط لما بعد سقوطه.. ومن هنا بدأ التخطيط للسيطرة على الثورة، لإجهاضها وحرفها، بل واستغلالها في تدمير ذات الأهداف التي قامت الثورة من أجلها"(6)
"لا أحد يجادل في أن الحل الإسلامي يحتل المرتبة الأولى في تفكير الجماهير وقطاع عريض من قياداتها الوطنية، ودعنا من الطفح [يقصد النخبة العلمانية] الذي يشوه وجه المجتمع بفعل إصابته بمرض الإفرنجي.
الجماهير وطليعتها الوطنية المخلصة تطرح الحل الإسلامي باعتباره الحل الأجدر بالتجربة ومن ثم جاءت شركات توظيف الأموال في إطار هذا الاقتناع أو إن شئت لاستثمار هذا الاقتناع... وكما قلنا أكثر من مرة ليست الفتوى الشرعية هي أهم ما في دعوى وقف التعامل بالربا، ومن ثم لا يجوز أن يشغلنا حوار الفقهاء والمتفقهين عن الاهتمام بنتائج هذه الدعوة.. أو على الأقل هكذا ينظر إليها خصومها.. فهي تشكل تحديا خطيرا للنظام المالي العالمي لأنها برفض الفائدة وطرح فكرة المشاركة في التمويل والمسؤولية والعائد فإن أول نتائجها هو حرمان النظام المالي من مدخرات وودائع المسلمين، مما يشكل نقصا كبيرا في مواردها، ومن الطبيعي أن تتصدى هذه البنوك لمثل هذه الدعوة بكل وسائل المقاومة ومنها شراء الكُتَّاب والخبراء وبعض رجال الدين المتحررين للفتوى ضد صيغة شركات توظيف الأموال... وكلها محاولات لإخفاء جوهر القضية وهو إخراج أموال المسلمين من قبضة البنوك الأجنبية، من قبضة الرأسمالية العالمية.. أما الشعارات فهي مجرد وسائل.. فالحرام هو إعانة عدونا بمالنا، والحلال هو الاستقلال بمواردنا ومدخراتنا، وكل فتوى تتعارض مع هذا الهدف فهي الكفر البواح"(7)
"وبعدُ، فما حيلتي .. وقد حُرمت من فرصة تغيير التاريخ بالوسيلة الحاسمة والفعالة -أي السيف-، ما حيلتي إلا أن أُعين أولئك الذين فضَّلهم الله على القاعدين، الذين يقفون اليوم أو غدًا للذود عن حرية الوطن، وسيادته واستقلاله. ما حيلتي إلا أن أعين هؤلاء الذين يصنعون مستقبلنا المشرق، وينسجون من حلكة الواقع فجر الغد المنتصر .. أقول ما حيلتي أنا العاجز عن القتال، إلا أن أعينهم على فهم التاريخ، أُجاهد معهم بقلمي، أُعرّفهم بأن أجدادهم قاتلوا وانتصروا؛ لأنهم آمنوا، {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين}. اللهم فاغفر لي ضعفي وعجزي، ويسِّر لي من القراء مَن إذا انتفع عمِل، ومَن إذا وجد خطأ نبّه إليه .. واغفر لي ما أكون قد نسيت أو تأولت فأخطأت"رحم الله محمد جلال كشك، وعوضنا خيرا منه.
نشر في الخليج أون لاين
خواطر في الجهاد والأقليات والأناجيل ص11، 12. السعوديون والحل الإسلامي ص89، 90. النابالم الفكري ص61، 62. رسالة التوحيد 1/7، 8. القومية والغزو الفكري ص217، 218. الناصريون قادمون ص155. ودخلت الخيل الأزهر ص29، 30.
Published on December 28, 2015 04:58