محمد إلهامي's Blog, page 51
December 25, 2015
جلال كشك والدولة العثمانية
كلما أطل علينا شهر ديسمبر حمل معه ذكرى رحيل الأستاذ العملاق والمفكر الكبير محمد جلال كشك، والذي توفي (5 ديسمبر 1993م) أثناء مناظرة مع العلماني نصر أبو زيد عن الكتاب الفضيحة لهذا الأخير "الإمام الشافعي وتأسيس الأيدولوجية الوسطية"، وكانت أظهر فضائحه أنه جعل الشافعي عميلا لبني أمية وهو الذي وُلِد بعد غروب دولتهم بعشرين سنة! وكان جلال كشك قد تعرض لهذا الكتاب بفصل في غاية القوة ضمن كتابه "قراءة في فكر التبعية" والذي كان آخر كتبه ونُشِر بعد وفاته رحمه الله.
لم يمت جلال بالسرطان الذي كان قد أصابه قبل وفاته بسنين وحدد له الأطباء في أمريكا ستة أشهر، ولكنه عاش بعدها سنين ليموت بأزمة قلبية في هذه المناظرة، فكانت ميتة شرف وحسن ختام لرجل ظل يكافح أعداء الأمة وينازلهم ويسحقهم ويكشف سوآتهم، وأحسب أنه لولا جلال كشك ما استطاع أحد أن يخدش مكانة محمد حسنين هيكل، رأس الثقافة والسياسة في عصره والذي ما يزال يحظى بتقدير كبير في دائرة الإعلام العربي لا لشيء إلا لأنه من زعماء العصابة الإعلامية العربية ربيبة الاحتلال وخادمته.
من يقرأ في التاريخ الحديث يعرف أن جلال كشك يكاد يكون الوحيد الذي تصدى لهيكل بكل عنف، وتحداه بكل قسوة، وصلت إلى أن ينابذه علنا ويستفزه أن يذهب به إلى المحكمة، وهيكل لم يحاول أن يرد أبدا، لكنه كان دائما يطلق صبيانه على جلال كشك ويدعمهم معنويا وقضائيا لينالوا منه، ولكن: ماذا يأخذ الكلاب من بين يدي الأسد!
طالت المقدمة، فسامحني أخي القارئ، ولكن جلال كشك بالنسبة لي هو أبي الروحي الذي لم أعرف مثله ولم أجد مثله حتى ظهر حازم أبو إسماعيل فملأ بعض ذلك الفراغ، لقد كان جلال كشك عقلية فذة تنطلق من معرفة غزيرة موسوعية متعددة المشارب والاهتمامات يعبر عنها لسان ناري يُذَكِّر بلسان ابن حزم رحمه الله. ولقد كان كذلك لأن الإسلاميين –لظروف كثيرة ليس هذا موضع بيانها- يندر فيهم من يفهم السياسة والإسلام معا، كما يندر فيهم الثوري على بصيرة وفطنة، ولقد كان جلال كشك هكذا: طاقة ثورية مع قراءة بصيرة للتاريخ مع اعتزاز كامل بثقافته الإسلامية مع يقظة تامة للأوضاع والأحوال السياسية، ولهذا كانت كتبه –حتى الصغير منها- وجبة فكرية وروحية دسمة!
صحيح أنه لا يمكن أن نصفه بالعالم في الشريعة لكنه كان عميقا في فهم النموذج الإسلامي وتميزه الحضاري عن النموذج الغربي وكان يضع يديه بكفاءة على نقاط الافتراق والتناقض. وصحيح أنه لا يمكن وصفه بالمؤرخ بالميزان الأكاديمي إلا أن ما لديه من فهم سنن التاريخ والجمع بين إدراك مساره العام والتقاط تفاصيله مع سعة الاطلاع في التواريخ يجعله في عداد عظماء المؤرخين، بل وجدت في كلامه من روائع هذا الفهم ما لم أجده في معظم من تشربوا التاريخ أكاديميا.
ونحن نستثمر حلول ذكراه، ونستثمر تخصص هذا الموقع في الشأن التركي، لنورد بعضا مما كتبه جلال كشك في شأن الدولة العثمانية والسياسة التركية.
(1)
ينادي جلال كشك على العرب بالحذر من المصادر التي يتلقون عنها التاريخ العثماني، وذلك في كتابه المكتوب في منتصف الستينات، أي في ذروة طغيان القومية العربية، وحيث لا يُرى الأتراك إلا بعيون الكراهية والبغضاء، فيقول:"حتى نحدد العلاقة السليمة بين العروبة والإسلام، كان لابد للبحث أن يتناول بالتحليل تاريخ الدولة العثمانية، حيث كنا نحن العرب خلال القرون الأربعة الأخيرة، وحيث وصل التناقض إلى أقصاه لأول مرة في تاريخنا الإسلامي والعربي.
والدولة العثمانية كانت العدو الأول لأوروبا الصليبية في نهضتها، اصطدمت بها عند بداية توسعها، وهددت الدولة العثمانية هذا التوسع وأوقفته، بل وغزت أوروبا في عقر دارها وحملة راية الإسلام إلى أسوار فيينا، وارتبطت بعداوة أبدية مع روسيا القيصرية، إذ كان التوسع القيصري الروسي يصكدم بها ويتم على حسابها، ثم كانت هي الفريسة التي تقاسمتها الدول الأوروبية وتنازعتها.
من هنا كان يجب على المفكرين المسلمين والعرب أن ينظروا بعين الشك لكل ما وصلهم من تفسير أو تحليل لتاريخ الدولة العثمانية.. لأن مصادره هي العدو.. العد الذي نجح في رسم صورة مزرية لآخر ممثلي حضارة المسلمين. صورة كانت تهدف إلى تذكية حماسة شعوبه لمواجهتها ولتبرير سلوكه الإجرامي ضدها وتآمره، بل تجاهره في تفتيتها وتمزيقها والتهامها عضوا عضوا وهي حية"(2)
ويمضى خطوة أخرى إلى الأمام فينادي بأن حديث الحق عن القومية العربية لابد أن يتذكر فضل العثمانيين عليه، وألا يكون تابعا أعمى لحركات مسيحية كانت قد نبتت ضد الدولة العثمانية في الشام فاتخذت لافتة القومية العربية، يقول:
"قضية القومية العربية اللا إسلامية مرتبطة تمام الارتباط بقضية الدولة العثمانية؛ فهذه الحركات قد نبتت ضد الدولة العثمانية وفي الشام بالذات، وحجتها الوحيدة هي مقاومتها للسلطة التركية، ومن ثَمَّ كان التقويم السليم للدولة العثمانية ضروريا لتحديد طبيعة هذه الحركات.
وإذا أردنا أن نخرج بحكم موضوعي على الدولة العثمانية فيجب أن نفتش عن الحقائق بعيدا عن كتابات الأوروبيين وآرائهم، فالدولة العثمانية كانت آخر حاجز إسلامي في وجه صليبية أوروبا.. إنها هي التي منعت الغزو الصليبي للعالم الإسلامي على الأقل من بوابته الأمامية طوال ثلاثة قرون. وهي التي حالت دون احتلال الوطن العربي أربعة قرون كاملة، فمنعت فناءه القومي.
الدولة العثمانية هي التي انتزعت القسطنطينية وأسمتها إسلام بول بعد أن صمدت القسطنطينية للزحف الإسلامي قرابة تسعة قرون، فتركت الدولة العثمانية بفتحها جرحا داميا في كل صليبي أوروبي، لم يمحه إلا عودة الصلبان تطل من جديد في كنيسة آيا صوفيا بعد أربعة قرون تردد الآذان من مآذنها.
والدولة العثمانية هي التي طرقت أبواب فيينا وقهرت شرق أوروبا حتى أصبح اسم "تركي" (وهو ما زال إلى عهدنا هذا يعني "مسلم" عند العامة في أوروبا) مصدر رعب يخيفون به الأطفال. فمن الوجهة الصليبية البحتة، أي بالتفسير الذي يرى في الصراع الديني أحد عوامل تكوين تاريخ العلاقات بين أوروبا والشرق.. بهذا التفسير نرى أنه من الطبيعي جدا أن تكون الدولة العثمانية هدفا لحملات تشهير غير علمية وغير منصفة تهدف إلى تلطيخ سمعة الإسلام وإثارة التعصب الديني عند مقاتلي أوروبا للهجوم على البرابرة: الدولة العثمانية واستئصال الإسلام الشرير!
وهذه الهستريا التشنجية هي التي حركت التضامن الأوروبي خلف كل انتفاضة مسيحية ضد الدولة العثمانية.. فالحرب الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر، ثم حملت لواءها البرتغال وإسبانيا.. لتعم بعد ذلك أوروبا، هذه الحروب الصليبية اصطدمت بموجة إسلامية جارفة، أنقذت الإسلام من أن تطويه الموجة المسيحية الزاحفة..
هذا اللقاء أو الصدام، أورث أوروبا الحقد والعداوة ضد الدولة العثمانية..
وإذا نحينا هذا المنهاج في التفسير واستبعدنا الدافع الديني تماما لنكون "شُطَّارًا" من أبناء العصر "المتنورين" فسنرى أن الدولة العثمانية كانت منذ أواخر القرن الثامن عشر تمثل الفريسة المطروحة أمام الذئاب الاستعمارية للتقسيم والنهض والابتلاع.
كل التوسع الاستعماري كان يصطدم بها ويقتطع منها.. فرنسا في شمال إفريقيا وساحل الشام، انجلترا في جنوب الجزيرة العربية والخليج.. ثم مصر وإفريقيا فالعراق.. إيطاليا في طرابلس.. روسيا على طول امتدادها وتوسعها سواء في الولايات الإسلامية التي لجأت إلى ضمها أو في البلقان حيث جرى طرد المسلمين وإبادتهم..
كان من الطبيعي أن يبرر هؤلاء الذئاب حرصهم على تحطيم الدولة العثماية واقتطاع أجزائها.. تبرير ذلك بدافع إنساني وتقدمي.. لا بد أن تكون الفريسة رجعية وكريهة وغير جديرة بالبقاء حتى تغدو عملية غزوها إنسانية رحيمة، ومن أجل تقدم البشرية وتحرير الشعوب البائسة من النير التركي.. رسالة الرجل الأبيض الذي حمَّلتْه الأقدار مسؤولية تحرير كل الجنس البشري.. تحريره من كل عبودية إلا عبودية السيد الأبيض واستغلاله.
من هنا يجب أن نتحفظ عندما يقول جلادستون أن السلطان عبد الحميد هو الشيطان، لأن جلادستون هو "إبليس عينه"، فهو الذي قضى على استقلالنا..
لنرفض هذه الأحكام المسبقة والصورة الرهيبة التي تكتبها أقلام صليبية واستعمارية عن الدولة العثمانية فقد كانت هذه الدولة وما زالت هدفا ممتازا لعمليات الغزو الفكري.. ولنحاول أن نتفهم ماذا كانت الدولة تمثل في التاريخ، وكيف قامت، ولماذا قامت، وكيف انهارت.
(3)
ثم يمضى خطوة أخرى للأمام في كتابه التالي الذي صدر في مطلع السبعينيات "حوار في أنقرة"، فدافع عن الدولة العثمانية ضد اتهامات الأتراك الأتاتوركية، فمن ذلك أنه سُئل: هل تنكر أن الدول العربية فقدت عروبتها بالفتح التركي؟
قال: "العكس هو الصحيح، البلاد التي فتحها العثمانيون هي التي بقيت عربية؛ إسبانيا، البرتغال، صقلية، رودس، كريت، مالطة، وشرق وغرب ووسط أفريقيا، كلها كانت عربية وفقدت عروبتها لأن السيوف التركية لم تحمها.. الاستعمار الغربي الذي ظهر مع قيام الدولة العثمانية كامبراطورية كبرى كان يحمل طابع الإبادة القومية.. ولو امتد الغزو الغربي من إسبانيا والبرتغال إلى الشاطئ الإفريقي، ثم لو انتشر إلى الشاطئ السوري لما بقينا عربا حتى الآن.. بل لكُنّا شيئا شبيها بالمالطيين، أو حتى كسكان أمريكا اللاتينية في أفضل الأحوال. الذي أبقانا عربا هم الأتراك والمدفعية التركية والأسطول التركي والدم التركي الذي دافع عن شواطئنا ثلاثة قرون حتى نضجت عوامل المقاومة وتغير شكل الاستعمار الغربي، ولم يعد الاحتلال الغربي يحمل خطر الإبادة القومية التي كان يمثلها في القرن الخامس عشر أو السادس عشر"نشر في تركيا بوست
جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص29. جلال كشك: حوار في أنقرة ص21، 22.
لم يمت جلال بالسرطان الذي كان قد أصابه قبل وفاته بسنين وحدد له الأطباء في أمريكا ستة أشهر، ولكنه عاش بعدها سنين ليموت بأزمة قلبية في هذه المناظرة، فكانت ميتة شرف وحسن ختام لرجل ظل يكافح أعداء الأمة وينازلهم ويسحقهم ويكشف سوآتهم، وأحسب أنه لولا جلال كشك ما استطاع أحد أن يخدش مكانة محمد حسنين هيكل، رأس الثقافة والسياسة في عصره والذي ما يزال يحظى بتقدير كبير في دائرة الإعلام العربي لا لشيء إلا لأنه من زعماء العصابة الإعلامية العربية ربيبة الاحتلال وخادمته.
من يقرأ في التاريخ الحديث يعرف أن جلال كشك يكاد يكون الوحيد الذي تصدى لهيكل بكل عنف، وتحداه بكل قسوة، وصلت إلى أن ينابذه علنا ويستفزه أن يذهب به إلى المحكمة، وهيكل لم يحاول أن يرد أبدا، لكنه كان دائما يطلق صبيانه على جلال كشك ويدعمهم معنويا وقضائيا لينالوا منه، ولكن: ماذا يأخذ الكلاب من بين يدي الأسد!
طالت المقدمة، فسامحني أخي القارئ، ولكن جلال كشك بالنسبة لي هو أبي الروحي الذي لم أعرف مثله ولم أجد مثله حتى ظهر حازم أبو إسماعيل فملأ بعض ذلك الفراغ، لقد كان جلال كشك عقلية فذة تنطلق من معرفة غزيرة موسوعية متعددة المشارب والاهتمامات يعبر عنها لسان ناري يُذَكِّر بلسان ابن حزم رحمه الله. ولقد كان كذلك لأن الإسلاميين –لظروف كثيرة ليس هذا موضع بيانها- يندر فيهم من يفهم السياسة والإسلام معا، كما يندر فيهم الثوري على بصيرة وفطنة، ولقد كان جلال كشك هكذا: طاقة ثورية مع قراءة بصيرة للتاريخ مع اعتزاز كامل بثقافته الإسلامية مع يقظة تامة للأوضاع والأحوال السياسية، ولهذا كانت كتبه –حتى الصغير منها- وجبة فكرية وروحية دسمة!
صحيح أنه لا يمكن أن نصفه بالعالم في الشريعة لكنه كان عميقا في فهم النموذج الإسلامي وتميزه الحضاري عن النموذج الغربي وكان يضع يديه بكفاءة على نقاط الافتراق والتناقض. وصحيح أنه لا يمكن وصفه بالمؤرخ بالميزان الأكاديمي إلا أن ما لديه من فهم سنن التاريخ والجمع بين إدراك مساره العام والتقاط تفاصيله مع سعة الاطلاع في التواريخ يجعله في عداد عظماء المؤرخين، بل وجدت في كلامه من روائع هذا الفهم ما لم أجده في معظم من تشربوا التاريخ أكاديميا.
ونحن نستثمر حلول ذكراه، ونستثمر تخصص هذا الموقع في الشأن التركي، لنورد بعضا مما كتبه جلال كشك في شأن الدولة العثمانية والسياسة التركية.
(1)
ينادي جلال كشك على العرب بالحذر من المصادر التي يتلقون عنها التاريخ العثماني، وذلك في كتابه المكتوب في منتصف الستينات، أي في ذروة طغيان القومية العربية، وحيث لا يُرى الأتراك إلا بعيون الكراهية والبغضاء، فيقول:"حتى نحدد العلاقة السليمة بين العروبة والإسلام، كان لابد للبحث أن يتناول بالتحليل تاريخ الدولة العثمانية، حيث كنا نحن العرب خلال القرون الأربعة الأخيرة، وحيث وصل التناقض إلى أقصاه لأول مرة في تاريخنا الإسلامي والعربي.
والدولة العثمانية كانت العدو الأول لأوروبا الصليبية في نهضتها، اصطدمت بها عند بداية توسعها، وهددت الدولة العثمانية هذا التوسع وأوقفته، بل وغزت أوروبا في عقر دارها وحملة راية الإسلام إلى أسوار فيينا، وارتبطت بعداوة أبدية مع روسيا القيصرية، إذ كان التوسع القيصري الروسي يصكدم بها ويتم على حسابها، ثم كانت هي الفريسة التي تقاسمتها الدول الأوروبية وتنازعتها.
من هنا كان يجب على المفكرين المسلمين والعرب أن ينظروا بعين الشك لكل ما وصلهم من تفسير أو تحليل لتاريخ الدولة العثمانية.. لأن مصادره هي العدو.. العد الذي نجح في رسم صورة مزرية لآخر ممثلي حضارة المسلمين. صورة كانت تهدف إلى تذكية حماسة شعوبه لمواجهتها ولتبرير سلوكه الإجرامي ضدها وتآمره، بل تجاهره في تفتيتها وتمزيقها والتهامها عضوا عضوا وهي حية"(2)
ويمضى خطوة أخرى إلى الأمام فينادي بأن حديث الحق عن القومية العربية لابد أن يتذكر فضل العثمانيين عليه، وألا يكون تابعا أعمى لحركات مسيحية كانت قد نبتت ضد الدولة العثمانية في الشام فاتخذت لافتة القومية العربية، يقول:
"قضية القومية العربية اللا إسلامية مرتبطة تمام الارتباط بقضية الدولة العثمانية؛ فهذه الحركات قد نبتت ضد الدولة العثمانية وفي الشام بالذات، وحجتها الوحيدة هي مقاومتها للسلطة التركية، ومن ثَمَّ كان التقويم السليم للدولة العثمانية ضروريا لتحديد طبيعة هذه الحركات.
وإذا أردنا أن نخرج بحكم موضوعي على الدولة العثمانية فيجب أن نفتش عن الحقائق بعيدا عن كتابات الأوروبيين وآرائهم، فالدولة العثمانية كانت آخر حاجز إسلامي في وجه صليبية أوروبا.. إنها هي التي منعت الغزو الصليبي للعالم الإسلامي على الأقل من بوابته الأمامية طوال ثلاثة قرون. وهي التي حالت دون احتلال الوطن العربي أربعة قرون كاملة، فمنعت فناءه القومي.
الدولة العثمانية هي التي انتزعت القسطنطينية وأسمتها إسلام بول بعد أن صمدت القسطنطينية للزحف الإسلامي قرابة تسعة قرون، فتركت الدولة العثمانية بفتحها جرحا داميا في كل صليبي أوروبي، لم يمحه إلا عودة الصلبان تطل من جديد في كنيسة آيا صوفيا بعد أربعة قرون تردد الآذان من مآذنها.
والدولة العثمانية هي التي طرقت أبواب فيينا وقهرت شرق أوروبا حتى أصبح اسم "تركي" (وهو ما زال إلى عهدنا هذا يعني "مسلم" عند العامة في أوروبا) مصدر رعب يخيفون به الأطفال. فمن الوجهة الصليبية البحتة، أي بالتفسير الذي يرى في الصراع الديني أحد عوامل تكوين تاريخ العلاقات بين أوروبا والشرق.. بهذا التفسير نرى أنه من الطبيعي جدا أن تكون الدولة العثمانية هدفا لحملات تشهير غير علمية وغير منصفة تهدف إلى تلطيخ سمعة الإسلام وإثارة التعصب الديني عند مقاتلي أوروبا للهجوم على البرابرة: الدولة العثمانية واستئصال الإسلام الشرير!
وهذه الهستريا التشنجية هي التي حركت التضامن الأوروبي خلف كل انتفاضة مسيحية ضد الدولة العثمانية.. فالحرب الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر، ثم حملت لواءها البرتغال وإسبانيا.. لتعم بعد ذلك أوروبا، هذه الحروب الصليبية اصطدمت بموجة إسلامية جارفة، أنقذت الإسلام من أن تطويه الموجة المسيحية الزاحفة..
هذا اللقاء أو الصدام، أورث أوروبا الحقد والعداوة ضد الدولة العثمانية..
وإذا نحينا هذا المنهاج في التفسير واستبعدنا الدافع الديني تماما لنكون "شُطَّارًا" من أبناء العصر "المتنورين" فسنرى أن الدولة العثمانية كانت منذ أواخر القرن الثامن عشر تمثل الفريسة المطروحة أمام الذئاب الاستعمارية للتقسيم والنهض والابتلاع.
كل التوسع الاستعماري كان يصطدم بها ويقتطع منها.. فرنسا في شمال إفريقيا وساحل الشام، انجلترا في جنوب الجزيرة العربية والخليج.. ثم مصر وإفريقيا فالعراق.. إيطاليا في طرابلس.. روسيا على طول امتدادها وتوسعها سواء في الولايات الإسلامية التي لجأت إلى ضمها أو في البلقان حيث جرى طرد المسلمين وإبادتهم..
كان من الطبيعي أن يبرر هؤلاء الذئاب حرصهم على تحطيم الدولة العثماية واقتطاع أجزائها.. تبرير ذلك بدافع إنساني وتقدمي.. لا بد أن تكون الفريسة رجعية وكريهة وغير جديرة بالبقاء حتى تغدو عملية غزوها إنسانية رحيمة، ومن أجل تقدم البشرية وتحرير الشعوب البائسة من النير التركي.. رسالة الرجل الأبيض الذي حمَّلتْه الأقدار مسؤولية تحرير كل الجنس البشري.. تحريره من كل عبودية إلا عبودية السيد الأبيض واستغلاله.
من هنا يجب أن نتحفظ عندما يقول جلادستون أن السلطان عبد الحميد هو الشيطان، لأن جلادستون هو "إبليس عينه"، فهو الذي قضى على استقلالنا..
لنرفض هذه الأحكام المسبقة والصورة الرهيبة التي تكتبها أقلام صليبية واستعمارية عن الدولة العثمانية فقد كانت هذه الدولة وما زالت هدفا ممتازا لعمليات الغزو الفكري.. ولنحاول أن نتفهم ماذا كانت الدولة تمثل في التاريخ، وكيف قامت، ولماذا قامت، وكيف انهارت.
(3)
ثم يمضى خطوة أخرى للأمام في كتابه التالي الذي صدر في مطلع السبعينيات "حوار في أنقرة"، فدافع عن الدولة العثمانية ضد اتهامات الأتراك الأتاتوركية، فمن ذلك أنه سُئل: هل تنكر أن الدول العربية فقدت عروبتها بالفتح التركي؟
قال: "العكس هو الصحيح، البلاد التي فتحها العثمانيون هي التي بقيت عربية؛ إسبانيا، البرتغال، صقلية، رودس، كريت، مالطة، وشرق وغرب ووسط أفريقيا، كلها كانت عربية وفقدت عروبتها لأن السيوف التركية لم تحمها.. الاستعمار الغربي الذي ظهر مع قيام الدولة العثمانية كامبراطورية كبرى كان يحمل طابع الإبادة القومية.. ولو امتد الغزو الغربي من إسبانيا والبرتغال إلى الشاطئ الإفريقي، ثم لو انتشر إلى الشاطئ السوري لما بقينا عربا حتى الآن.. بل لكُنّا شيئا شبيها بالمالطيين، أو حتى كسكان أمريكا اللاتينية في أفضل الأحوال. الذي أبقانا عربا هم الأتراك والمدفعية التركية والأسطول التركي والدم التركي الذي دافع عن شواطئنا ثلاثة قرون حتى نضجت عوامل المقاومة وتغير شكل الاستعمار الغربي، ولم يعد الاحتلال الغربي يحمل خطر الإبادة القومية التي كان يمثلها في القرن الخامس عشر أو السادس عشر"نشر في تركيا بوست
جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص29. جلال كشك: حوار في أنقرة ص21، 22.
Published on December 25, 2015 06:37
December 24, 2015
عمالقة في جحيم المحنة الأندلسية
ذكرنا في المقال السابق (عظماء المحنة الأندلسية) جانبا من عظمة الأمة الأندلسية في زمن محاكم التفتيش بعد الاستيلاء الإسباني على الأندلس، ونقض العهود والمواثيق التي بناء عليها استسلمت غرناطة، وآثرنا أن يكون المقال السابق لجانب العظمة الذي سطرته الأمة الأندلسية بعامة، فذكرنا منها أربعة جوانب:
1. فشل الإسبان في تنشئة أطفال المسلمين على المسيحية برغم كل الأموال والمجهود المبذول2. فشل الإسبان في إغراء أو ترهيب الأندلسيين للدخول في المسيحية3. احتفاظ المسلمين بالكتب العربية وإنشاء نظام تعليم سري رغم العقوبات المشددة على الاحتفاظ بأي نص عربي4. عودة بعض من تمكن من الهجرة إلى الأندلس ليجاهد فيها.
وفي هذه السطور –وما زلنا ننقل عن وثائق محاكم التفتيشلقد مثَّل تماسك المجتمع الأندلسي الوسيلة الأهم في الحفاظ على الدين، وفي دعوة المترددين ومن قد يميل إلى الإسبان أو يتهاون في أمور يفرضها عليهم الإسبان كأكل لحم الخنزير وغيره، إلا أن المثير للدهشة أكثر أن من بين فقهاء المسلمين الأندلسيين –في كل تلك الأجواء الرهيبة- من استمر في الدعوة إلى الإسلام بين المسيحيين أنفسهم، واحتفظت سجلات محاكم التفتيش بفقيه دعا المسيحيين إلى ترك عبادة الأوثان وبيَّن لهم كيف يدخلون الإسلاموبينما كان همُّ الجميع أن يثبت أمام محاكم التفتيش أنه برئ من تهمة الإسلام وأنه قد وُشِيَ به، رصدت سجلات محكمة طليطلة حالة أندلسي أخذ يدعو إلى الإسلام وهو في السجن، كان يدعو رفقاء الحبس ويعلمهم شعائر الإسلام ويحثهم على إنقاذ أنفسهم والخروج من الظلمات إلى النور بالدخول في الإسلامووُجِد من بين الأندلسيين من يمارس الدعوة مع عبيده وخدمه، وحوكم أحد أولئك بتهمة دعوة راعي غنمه "الشديد التعلق بالمسيحية" إلى الإسلام، وقد كان ذلك من الكثرة بحيث اضطر الإسبان إلى إصدار قانون (1560م: أي بعد سبعين سنة من سقوط غرناطة) يحرم على الأندلسيين اتخاذ عبيد، وجاء فيه "يبدو أن موريسكيين في هذه المملكة (غرناطة) قد حولوا كل العبيد السود الذين لديهم إلى عرب"بل سعى بعض الأندلسيين لإدخال القيم الإسلامية ضمن الأعمال الفنية الإسبانية، فيما يمكن أن نسميه الآن "اختراق الجهاز الإعلامي"، فقد تدخل ممثلو محاكم التفتيش لإيقاف مسرحية تعرض في مدريد يُذكر فيها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بحثوا وتحروا حتى وصلوا إلى مؤلف المسرحية وحققوا معه فتذرع بأنها مسرحية تاريخية ليست من تأليفه وإنما نقل بعض أجزائها عن كتاب مؤرخ مسلم. والحقيقة أن مثل هذا العمل هو شجاعة كبرى لا سيما في مثل تلك الأحوال.
وتورد سجلات محاكم التفتيش اسم ثري أندلسي اسمه جوان في منطقة آراجون، وكان جوان هذا ينشر الإسلام في منطقة المانش، إلا أن الطريف في أمره أنه كان داعية ثريا أنفق الأموال الطائلة على تعليم الأندلسيين دينهم للحفاظ عليهم، وكان يتردد عليهم في بيوتهم وينظم اللقاءات والمجالس السرية فيقرأ عليهم القرآن والكتب الإسلامية، ثم إنه كان محاميا "بمصطلح هذه الأيام" إذ يتقدم باستشاراته للمسلمين، ويوصي الأندلسيين المشتبه بهم أو الموضوعين تحت الرقابة بأن يحفظوا الثغرات القانونية المفيدة لهم، ومنها مثلا أن البابا إدريان –وقد تولى لفترة ديوان محاكم التفتيش- صدر عنه أن القبض يكون في حالة "التلبس بالبدع"، وأن الامتناع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ليس دليلا كافيا على البدعة. وقد سعى جوان إلى جمع أموال لتمويل تكوين وفد يذهب إلى البابا إدريان للحصول منه على "فتوى" أو "تأكيد" على هذه التصريحات، إلا أن الوفد لم ينجح فيما يبدو أن القس قد انتبه لأغراضهم في استعمال هذه الفتوى لحماية الأندلسيين، ليس هذا فحسب، بل صار خوان مطلوبا للقبض عليه إلا أنه استطاع الهرب إلى الجزائر قبل أن تُمسك به الشرطةونختم بواحدة من أعظم الأعمال المغمورة للأندلسيين في الدعوة إلى الإسلام، ذلك هو مجهودهم في نشر الإسلام حيث نزلوا بعد أن استطاعوا الهجرة إلى المغرب العربي، وهناك انتشروا في البلاد، فمن ذلك أن جماعة منهم وجدوا في جبال الجزائر أقواما قد تطاول عليهم الزمن وقلَّ عندهم الدعاة لما في مواقعهم من وعورة، وبحسب ما يرويه المستشرق الفرنسي تروميللي في كتابه "أولياء الإسلام" فإنه لم ينتهض لهذه المهمة إلا قوما لا يكاد يتوقعهم أحد، أولئك هم المطرودين المهجرين من الأندلس عقب سقوطها، فتجاسروا عما تكاسل عنه كثير من دعاة هذه الأنحاء، ونجحوا فيما أخفق فيه غيرهم، فلقد وجههم شيخ من هذه الأنحاء إلى دعوة تلك القبائل، وجاء في حديثه لهم: "إنه لواجب قد ألقى على عاتقنا أن نحمل مشعل الإسلام إلى تلك الأصقاع التي ضيعت ما ورثته من بركات هذا الدين، ذلك أن هذه القبائل البائسة لم تزود مطلقًا بالمدارس، وليس لديهم شيخ يعلم أبناءهم مبادئ الأخلاق وفضائل الإسلام، لهذا فهم يعيشون كالحيوان الأعجم لا يعرفون إلهًا ولا دينًا. ولكي تنزع عنهم هذه الشقاوات، عقدت النية على أن أناشد غيرتكم الدينية وهدايتكم. لا تَدَعوا بعد اليوم سكان هذه الجبال غارقين في حالة يرثي لها من الجهل بحقائق ديننا العظمى؛ انطلقوا وانفخوا في نيران دينهم الزائلة، وأعيدوا إنارة جذوتها الخامدة. طهروهم مما يظل عالقًا بهم من أثر من آثام اعتقادهم القديم في النصرانية. فطّنوهم إلى أن الله لا يقبل الرجس في دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما لا يقبله في النصرانيةفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نروي الوجه الآخر من هذه الصورة، فالله المستعان.
نشر في ساسة بوست
ونعتمد على دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية"، وهي منشورة ومتاحة على الانترنت. لوي كاردياك ص77. لوي كاردياك ص79. لوي كاردياك ص79. لوي كاردياك ص78، 79. وهنا يعلق توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: قارن هذا بالمواد التي نشرها المجلس الذي عقد في مدريد سنة 1566م, وهو يتعلق بتنصير المسلمين المقيمين في أسبانيا (أي بعد زوال الحكم العربي منها), ومنها مادة تقول: "لا يسمح مطقًا لهم ولا لنسائهم ولا لأي فرد آخر أن يغتسلوا أو يستحموا في منازلهم أو في أي مكان آخر, كما يجب أن تهدم وتخرب حماماتهم كلها". نقلا عن: توماس أرنولد: الدعوة إلى السلام ص151 وما بعدها.
1. فشل الإسبان في تنشئة أطفال المسلمين على المسيحية برغم كل الأموال والمجهود المبذول2. فشل الإسبان في إغراء أو ترهيب الأندلسيين للدخول في المسيحية3. احتفاظ المسلمين بالكتب العربية وإنشاء نظام تعليم سري رغم العقوبات المشددة على الاحتفاظ بأي نص عربي4. عودة بعض من تمكن من الهجرة إلى الأندلس ليجاهد فيها.
وفي هذه السطور –وما زلنا ننقل عن وثائق محاكم التفتيشلقد مثَّل تماسك المجتمع الأندلسي الوسيلة الأهم في الحفاظ على الدين، وفي دعوة المترددين ومن قد يميل إلى الإسبان أو يتهاون في أمور يفرضها عليهم الإسبان كأكل لحم الخنزير وغيره، إلا أن المثير للدهشة أكثر أن من بين فقهاء المسلمين الأندلسيين –في كل تلك الأجواء الرهيبة- من استمر في الدعوة إلى الإسلام بين المسيحيين أنفسهم، واحتفظت سجلات محاكم التفتيش بفقيه دعا المسيحيين إلى ترك عبادة الأوثان وبيَّن لهم كيف يدخلون الإسلاموبينما كان همُّ الجميع أن يثبت أمام محاكم التفتيش أنه برئ من تهمة الإسلام وأنه قد وُشِيَ به، رصدت سجلات محكمة طليطلة حالة أندلسي أخذ يدعو إلى الإسلام وهو في السجن، كان يدعو رفقاء الحبس ويعلمهم شعائر الإسلام ويحثهم على إنقاذ أنفسهم والخروج من الظلمات إلى النور بالدخول في الإسلامووُجِد من بين الأندلسيين من يمارس الدعوة مع عبيده وخدمه، وحوكم أحد أولئك بتهمة دعوة راعي غنمه "الشديد التعلق بالمسيحية" إلى الإسلام، وقد كان ذلك من الكثرة بحيث اضطر الإسبان إلى إصدار قانون (1560م: أي بعد سبعين سنة من سقوط غرناطة) يحرم على الأندلسيين اتخاذ عبيد، وجاء فيه "يبدو أن موريسكيين في هذه المملكة (غرناطة) قد حولوا كل العبيد السود الذين لديهم إلى عرب"بل سعى بعض الأندلسيين لإدخال القيم الإسلامية ضمن الأعمال الفنية الإسبانية، فيما يمكن أن نسميه الآن "اختراق الجهاز الإعلامي"، فقد تدخل ممثلو محاكم التفتيش لإيقاف مسرحية تعرض في مدريد يُذكر فيها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بحثوا وتحروا حتى وصلوا إلى مؤلف المسرحية وحققوا معه فتذرع بأنها مسرحية تاريخية ليست من تأليفه وإنما نقل بعض أجزائها عن كتاب مؤرخ مسلم. والحقيقة أن مثل هذا العمل هو شجاعة كبرى لا سيما في مثل تلك الأحوال.
وتورد سجلات محاكم التفتيش اسم ثري أندلسي اسمه جوان في منطقة آراجون، وكان جوان هذا ينشر الإسلام في منطقة المانش، إلا أن الطريف في أمره أنه كان داعية ثريا أنفق الأموال الطائلة على تعليم الأندلسيين دينهم للحفاظ عليهم، وكان يتردد عليهم في بيوتهم وينظم اللقاءات والمجالس السرية فيقرأ عليهم القرآن والكتب الإسلامية، ثم إنه كان محاميا "بمصطلح هذه الأيام" إذ يتقدم باستشاراته للمسلمين، ويوصي الأندلسيين المشتبه بهم أو الموضوعين تحت الرقابة بأن يحفظوا الثغرات القانونية المفيدة لهم، ومنها مثلا أن البابا إدريان –وقد تولى لفترة ديوان محاكم التفتيش- صدر عنه أن القبض يكون في حالة "التلبس بالبدع"، وأن الامتناع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ليس دليلا كافيا على البدعة. وقد سعى جوان إلى جمع أموال لتمويل تكوين وفد يذهب إلى البابا إدريان للحصول منه على "فتوى" أو "تأكيد" على هذه التصريحات، إلا أن الوفد لم ينجح فيما يبدو أن القس قد انتبه لأغراضهم في استعمال هذه الفتوى لحماية الأندلسيين، ليس هذا فحسب، بل صار خوان مطلوبا للقبض عليه إلا أنه استطاع الهرب إلى الجزائر قبل أن تُمسك به الشرطةونختم بواحدة من أعظم الأعمال المغمورة للأندلسيين في الدعوة إلى الإسلام، ذلك هو مجهودهم في نشر الإسلام حيث نزلوا بعد أن استطاعوا الهجرة إلى المغرب العربي، وهناك انتشروا في البلاد، فمن ذلك أن جماعة منهم وجدوا في جبال الجزائر أقواما قد تطاول عليهم الزمن وقلَّ عندهم الدعاة لما في مواقعهم من وعورة، وبحسب ما يرويه المستشرق الفرنسي تروميللي في كتابه "أولياء الإسلام" فإنه لم ينتهض لهذه المهمة إلا قوما لا يكاد يتوقعهم أحد، أولئك هم المطرودين المهجرين من الأندلس عقب سقوطها، فتجاسروا عما تكاسل عنه كثير من دعاة هذه الأنحاء، ونجحوا فيما أخفق فيه غيرهم، فلقد وجههم شيخ من هذه الأنحاء إلى دعوة تلك القبائل، وجاء في حديثه لهم: "إنه لواجب قد ألقى على عاتقنا أن نحمل مشعل الإسلام إلى تلك الأصقاع التي ضيعت ما ورثته من بركات هذا الدين، ذلك أن هذه القبائل البائسة لم تزود مطلقًا بالمدارس، وليس لديهم شيخ يعلم أبناءهم مبادئ الأخلاق وفضائل الإسلام، لهذا فهم يعيشون كالحيوان الأعجم لا يعرفون إلهًا ولا دينًا. ولكي تنزع عنهم هذه الشقاوات، عقدت النية على أن أناشد غيرتكم الدينية وهدايتكم. لا تَدَعوا بعد اليوم سكان هذه الجبال غارقين في حالة يرثي لها من الجهل بحقائق ديننا العظمى؛ انطلقوا وانفخوا في نيران دينهم الزائلة، وأعيدوا إنارة جذوتها الخامدة. طهروهم مما يظل عالقًا بهم من أثر من آثام اعتقادهم القديم في النصرانية. فطّنوهم إلى أن الله لا يقبل الرجس في دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما لا يقبله في النصرانيةفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نروي الوجه الآخر من هذه الصورة، فالله المستعان.
نشر في ساسة بوست
ونعتمد على دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية"، وهي منشورة ومتاحة على الانترنت. لوي كاردياك ص77. لوي كاردياك ص79. لوي كاردياك ص79. لوي كاردياك ص78، 79. وهنا يعلق توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: قارن هذا بالمواد التي نشرها المجلس الذي عقد في مدريد سنة 1566م, وهو يتعلق بتنصير المسلمين المقيمين في أسبانيا (أي بعد زوال الحكم العربي منها), ومنها مادة تقول: "لا يسمح مطقًا لهم ولا لنسائهم ولا لأي فرد آخر أن يغتسلوا أو يستحموا في منازلهم أو في أي مكان آخر, كما يجب أن تهدم وتخرب حماماتهم كلها". نقلا عن: توماس أرنولد: الدعوة إلى السلام ص151 وما بعدها.
Published on December 24, 2015 02:40
December 21, 2015
رحلة الفقيه الأندلسي الطريد
سنَّ الشباب المسلم على مواقع التواصل سنة حسنة: إحياء ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير) من كل عام، وتذكير المسلمين بهذه القطعة الغالية من الأرض والحضارة الإسلامية، واستجابة لهذه السنة نجعل هذا المقال عن الأندلس.
وحديثنا في هذه السطور عن أندلسي عاش متخفيا بإسلامه، تلقى الإسلام وتعلم اللغة العربية سرًّا من أبيه، كحال الأندلسيين الذين طاردتهم محاكم التفتيش وأجبرتهم على التنصر وعاقبتهم على كل فعل يُشْتَمُّ منه رائحة الارتباط بالإسلام واللغة العربية.. ذلك هو أحمد بن قاسم الحاجري المشهور بـ "أفوقاي الأندلسي"، الذي ترك لنا كتابه "مختصر رحلة الشهاب إلى بلاد الأحباب"، ويقصد ببلاد الأحباب: ديارَ الإسلام، وذلك أنه نفذ مغامرة هروب جريئة من إسبانيا إلى البرتغال إلى المغرب، وحكى أنه لاقى فيها أهوالا، حتى إذا وصل هناك كان بانتظاره الفرج والأمل، إذ احتضنه أمراء المغرب السعديين في ذلك الوقت وجعلوه ترجمانا وسفيرا لهم، لما له من علم وإجادة للغات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية.
وضع أفوقاي رحلته التي يصف فيها هذه السفارات وما كان فيها، خصوصا وقد خاض مجادلات كثيرة مع النصارى في دينهم، ولما كان عائدا من رحلة الحج زار مصر فعرض رحلته على الشيخ المالكي المصري علي الأجهوري الذي أعجب بما فيها وأوصاه أن يستخلص المناظرات مع النصارى فتكون كتابا مستقلا، واستجاب أفوقاي فاستخلص المناظرات وسمَّاها ""السيف الأشهر على كل من كفر" أو "ناصر الدين على القوم الكافرين"، فذلك هو "مختصر رحلة الشهاب"! وكان من بركات الشيخ المالكي أن الرحلة الأصلية قد فُقِدت وضاعت بينما بقي هذا المختصر!
تعلم أفوقاي لغة الإسبان كلاما وقراءة وكتابة وأتقنها كي لا يرتابوا في أمره إذا وجده في السواحل يريد العبور للمغرب، وذلك أنهم شددوا الحراسة جدا لمنع الأندلسيين من الهجرة إلى ديار الإسلام وكان من وسائل تعرفهم عليهم قلة إجادتهم للغة، فكان أن فتح الله عليه بهذا العلم فصار إلى أن يكون سفيرا! ثم نفعه ذلك أيضا حين صار يترجم بعض الكتب منها كتاب ألفه أندلسي موريسكي لا يجيد العربية عن الحرب في البحر والآلات الحربية أعطى أفوقاي له عنوانا "كتاب العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع". إن هذا الصبر والعزم على الهروب الذي يكلف المرء تعلم لغة جديدة وإتقانها لمثير للإعجاب والاحترام والتقدير.
ما بقي لنا من هذه الرحلة يكشف أمورا عزيزة، أهمها: أحوال الأندلسيين في ذلك الوقت تحت الحكم الإسباني، وكيف جاهدوا للحفاظ على دينهم سرًّا، والسياسة الإسبانية في تعقب الدين واللسان العربي، كما نفهم منها بعضا من جوانب العلاقات السياسية بين دول المغرب والإسبان وفرنسا وهولندا والدولة العثمانية، وقد عرضت هولندا التحالف مع المغرب ضد الإسبان لإعادة الحكم الإسلامي إلى الأندلس، إلا أن هذا التحالف كان بحاجة إلى انضمام العثمانيين أيضا، وهو ما خشيت منه إسبانيا فكان من أهم أسباب تغير سياستها من سياسة التنصير قسرا ومنع الأندلسيين من الخروج والهجرة إلى سياسة الطرد والتهجير.
وقد كانت سفارة أفوقاي إلى فرنسا تحمل مهمة تحسين أوضاع الأندلسيين المسلمين الذين هاجروا إلى فرنسا من إسبانيا، وكان من فرج الله يومها أن العلاقات الفرنسية الإسبانية كانت سيئة كما كانت العلاقات الفرنسية العثمانية حسنة فكان في هذا الفرج لمن هاجروا، وقد بلغ عدد المهاجرين من الأندلس –كما نقل أفوقاي عن إحصائية صادرة من الديوان الملكي الإسباني- ثمانمائة ألف، وهو رقم ضخم هائل بميزان اليوم، فكيف بميزان ما قبل خمسة قرون؟!!!
وكان التجار الفرنسيون قد نهبوا المهاجرين الأندلسيين وغصبوا ما كانوا معهم، فكان من مهمات سفارة أفوقاي ردُّ ما نهب إليهم، وقد ناور الفرنسيون في الاستجابة لهذا ففي حين أصدر الملك منشورا وزعه على الولايات يأمر بردّ ما نهب استطاع التجار رشوة والي أولونه لكي لا ينفذ الأمر، واعتذر الوالي بأن الأمر صعب ولا يمكن استدراكه بعدما تفرق في أموال التجار.
وروى عن سفارة متبادلة بين سلطان المغرب وملك هولندا لتكوين تحالف ضد إسبانيا، وذلك أن هولندا كانت قد دخلت في البروتستانتية وخلعت عنها الحكم الإسباني الكاثوليكي.
وتسرد رحلة أفوقاي بعض مظاهر المجهود السياسي العثماني في رعاية أحوال الأندلسيين، وحديثه عن السلطان العثماني محفوف دائما بالتعظيم والتبجيل، وذكر أن يسر أحوال الأندلسيين في فرنسا راجع إلى اهتمام السلطان العثماني، وكيف أن الفرنسيين يهابونه ويسمونه "السيد الكبير"، وفيها كذلك صورة عن المجهود المغربي في إنقاذ المسلمين، ومن ذلك سفارة أفوقاي إلى فرنسا، ومنها أن ملك هولندا أهدى ثلاثمائة أسير أندلسي أوقع بهم بعص تجار هولندا ليبيعوهم عبيدا، فكان صنيعه هذا دليلا على اهتمام سلاطين المغرب بأمر إخوانهم الأندلسيين.
ونرى في رحلة أفوقاي صورة لأوروبا في ذلك الوقت، وصورة عن المسيحية التي يبدل فيها القساوسة والرهبان فيحلون ما كان بالأمس حراما ويحرمون ما كان بالأمس حلالا، والبابا الذي اكتُشِف أنه أنثى، والبروتستانتية التي بدأ يعلو نجمها في أوروبا والتي كان بينها وبين المسلمين علاقات طيبة، بل كان البروتستانت يرون المسلمين "سيف الله في أرضه على عباد الأوثان (الكاثوليك)".
كما نرى فيها صورة لتصور الأوروبيين وخرافاتهم حول الإسلام؛ فمن ذلك أن بعضهم فهم أن الإسلام يجيز الزنا والسرقة من حديث أبي الدرداء أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يزني المؤمن؟ قال: بلى وإن كره أبو الدرداء، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: إنما يفتري الكذب من لا يؤمن"!!، وفهم بعض علمائهم أن الإسلام يجيز اللواط من قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، ومن علمائهم من كان يظن أن المسلمين يزورون مكة ليروا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديدية موضوعة في نقطة اتزان وسط قبة حجر مغناطيسي فيحسب المسلمون أن نبيهم معلق في الهواء وأنها من معجزاته!! كما يعترف بعض علمائهم بأن المسلمين أذكياء وقد "منحهم الله عقولا وافرة".
وفي رحلته ما يلفت النظر إلى علمه ومواهبه، ففضلا عن علمه بالنصرانية وكتبها، فإن له علما بالتقاويم والفلك فقد حدد بدقة تاريخ المولد النبي بالتقويم الميلادي، وله علم أصيل بالجغرافيا والأقطار وملوكها، وترجم كتابا ضخما فيها إلى العربية للسلطان المغربي، واستعمل معلوماته تلك في الرد على اليهود والنصارى ونقض ما جاء بالتوراة المحرفة من معلومات مغلوطة كمثل أن أنهار الدنيا وأنها لا تنبع من مصدر واحد.
ومن أعجب ما نجده في هذه الرحلة أن العلاقات العثمانية الإسبانية كانت منهارة لسببين: غدر الإسبان بالمسلمين الأندلسيين، وغدر الإسبان بملك المكسيك مُتَشُمَه، مما يعني سعة اطلاع العثمانيين بما يحدث في أقصى الغرب عند المكسيك، وأن لهم هناك صلات يثير الاعتداء عليها عداوات في أوروبا. كذلك فإن وجود السفارات الدائمة في أول أمرها لم يكن تعبيرا عن قوة الصداقة كما يتبادر إلى أذهاننا الآن، بل هو يعبر عن الذِّلة، فالطرف الأضعف هو الحريص على وجود سفارة دائمة له عند الطرف الأقوى بينما لا يحفل الأقوى بذلك، بهذا فسَّر أفوقاي الأندلسي وجود سفراء أوروبيين دائمين لدى العثمانيين بينما لم يهتم العثمانيون بإيجاد سفارات لهم في بلاد أوروبا.
هذا كله بعض ما يُلتقط من مختصر الرحلة التي خصصها لسرد جدالاته مع النصارى، ما يجعل كل مهتم بالتاريخ في شوق عظيم للعثور على الرحلة الأصلية التي كان مخصصة لوصف البلدان والسفارات وتفاصيل السياسة في ذلك الوقت، ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا! فإن مأساة فقد الرحلة الأصلية هي فرع عن مأساة ما فقده التراث الإسلامي كله من المخطوطات والمؤلفات النفيسة بفعل الاحتلال وبفعل الجهل –وهو وليد وربيب الاحتلال- كما أن مأساة الأندلسي أفوقاي هي فرع عن مأساة الأمة الأندلسية التي هي وليدة وربيبة "الحضارة" الغربية!!
نشر في الخليج أون لاين
وحديثنا في هذه السطور عن أندلسي عاش متخفيا بإسلامه، تلقى الإسلام وتعلم اللغة العربية سرًّا من أبيه، كحال الأندلسيين الذين طاردتهم محاكم التفتيش وأجبرتهم على التنصر وعاقبتهم على كل فعل يُشْتَمُّ منه رائحة الارتباط بالإسلام واللغة العربية.. ذلك هو أحمد بن قاسم الحاجري المشهور بـ "أفوقاي الأندلسي"، الذي ترك لنا كتابه "مختصر رحلة الشهاب إلى بلاد الأحباب"، ويقصد ببلاد الأحباب: ديارَ الإسلام، وذلك أنه نفذ مغامرة هروب جريئة من إسبانيا إلى البرتغال إلى المغرب، وحكى أنه لاقى فيها أهوالا، حتى إذا وصل هناك كان بانتظاره الفرج والأمل، إذ احتضنه أمراء المغرب السعديين في ذلك الوقت وجعلوه ترجمانا وسفيرا لهم، لما له من علم وإجادة للغات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية.
وضع أفوقاي رحلته التي يصف فيها هذه السفارات وما كان فيها، خصوصا وقد خاض مجادلات كثيرة مع النصارى في دينهم، ولما كان عائدا من رحلة الحج زار مصر فعرض رحلته على الشيخ المالكي المصري علي الأجهوري الذي أعجب بما فيها وأوصاه أن يستخلص المناظرات مع النصارى فتكون كتابا مستقلا، واستجاب أفوقاي فاستخلص المناظرات وسمَّاها ""السيف الأشهر على كل من كفر" أو "ناصر الدين على القوم الكافرين"، فذلك هو "مختصر رحلة الشهاب"! وكان من بركات الشيخ المالكي أن الرحلة الأصلية قد فُقِدت وضاعت بينما بقي هذا المختصر!
تعلم أفوقاي لغة الإسبان كلاما وقراءة وكتابة وأتقنها كي لا يرتابوا في أمره إذا وجده في السواحل يريد العبور للمغرب، وذلك أنهم شددوا الحراسة جدا لمنع الأندلسيين من الهجرة إلى ديار الإسلام وكان من وسائل تعرفهم عليهم قلة إجادتهم للغة، فكان أن فتح الله عليه بهذا العلم فصار إلى أن يكون سفيرا! ثم نفعه ذلك أيضا حين صار يترجم بعض الكتب منها كتاب ألفه أندلسي موريسكي لا يجيد العربية عن الحرب في البحر والآلات الحربية أعطى أفوقاي له عنوانا "كتاب العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع". إن هذا الصبر والعزم على الهروب الذي يكلف المرء تعلم لغة جديدة وإتقانها لمثير للإعجاب والاحترام والتقدير.
ما بقي لنا من هذه الرحلة يكشف أمورا عزيزة، أهمها: أحوال الأندلسيين في ذلك الوقت تحت الحكم الإسباني، وكيف جاهدوا للحفاظ على دينهم سرًّا، والسياسة الإسبانية في تعقب الدين واللسان العربي، كما نفهم منها بعضا من جوانب العلاقات السياسية بين دول المغرب والإسبان وفرنسا وهولندا والدولة العثمانية، وقد عرضت هولندا التحالف مع المغرب ضد الإسبان لإعادة الحكم الإسلامي إلى الأندلس، إلا أن هذا التحالف كان بحاجة إلى انضمام العثمانيين أيضا، وهو ما خشيت منه إسبانيا فكان من أهم أسباب تغير سياستها من سياسة التنصير قسرا ومنع الأندلسيين من الخروج والهجرة إلى سياسة الطرد والتهجير.
وقد كانت سفارة أفوقاي إلى فرنسا تحمل مهمة تحسين أوضاع الأندلسيين المسلمين الذين هاجروا إلى فرنسا من إسبانيا، وكان من فرج الله يومها أن العلاقات الفرنسية الإسبانية كانت سيئة كما كانت العلاقات الفرنسية العثمانية حسنة فكان في هذا الفرج لمن هاجروا، وقد بلغ عدد المهاجرين من الأندلس –كما نقل أفوقاي عن إحصائية صادرة من الديوان الملكي الإسباني- ثمانمائة ألف، وهو رقم ضخم هائل بميزان اليوم، فكيف بميزان ما قبل خمسة قرون؟!!!
وكان التجار الفرنسيون قد نهبوا المهاجرين الأندلسيين وغصبوا ما كانوا معهم، فكان من مهمات سفارة أفوقاي ردُّ ما نهب إليهم، وقد ناور الفرنسيون في الاستجابة لهذا ففي حين أصدر الملك منشورا وزعه على الولايات يأمر بردّ ما نهب استطاع التجار رشوة والي أولونه لكي لا ينفذ الأمر، واعتذر الوالي بأن الأمر صعب ولا يمكن استدراكه بعدما تفرق في أموال التجار.
وروى عن سفارة متبادلة بين سلطان المغرب وملك هولندا لتكوين تحالف ضد إسبانيا، وذلك أن هولندا كانت قد دخلت في البروتستانتية وخلعت عنها الحكم الإسباني الكاثوليكي.
وتسرد رحلة أفوقاي بعض مظاهر المجهود السياسي العثماني في رعاية أحوال الأندلسيين، وحديثه عن السلطان العثماني محفوف دائما بالتعظيم والتبجيل، وذكر أن يسر أحوال الأندلسيين في فرنسا راجع إلى اهتمام السلطان العثماني، وكيف أن الفرنسيين يهابونه ويسمونه "السيد الكبير"، وفيها كذلك صورة عن المجهود المغربي في إنقاذ المسلمين، ومن ذلك سفارة أفوقاي إلى فرنسا، ومنها أن ملك هولندا أهدى ثلاثمائة أسير أندلسي أوقع بهم بعص تجار هولندا ليبيعوهم عبيدا، فكان صنيعه هذا دليلا على اهتمام سلاطين المغرب بأمر إخوانهم الأندلسيين.
ونرى في رحلة أفوقاي صورة لأوروبا في ذلك الوقت، وصورة عن المسيحية التي يبدل فيها القساوسة والرهبان فيحلون ما كان بالأمس حراما ويحرمون ما كان بالأمس حلالا، والبابا الذي اكتُشِف أنه أنثى، والبروتستانتية التي بدأ يعلو نجمها في أوروبا والتي كان بينها وبين المسلمين علاقات طيبة، بل كان البروتستانت يرون المسلمين "سيف الله في أرضه على عباد الأوثان (الكاثوليك)".
كما نرى فيها صورة لتصور الأوروبيين وخرافاتهم حول الإسلام؛ فمن ذلك أن بعضهم فهم أن الإسلام يجيز الزنا والسرقة من حديث أبي الدرداء أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يزني المؤمن؟ قال: بلى وإن كره أبو الدرداء، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: إنما يفتري الكذب من لا يؤمن"!!، وفهم بعض علمائهم أن الإسلام يجيز اللواط من قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، ومن علمائهم من كان يظن أن المسلمين يزورون مكة ليروا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديدية موضوعة في نقطة اتزان وسط قبة حجر مغناطيسي فيحسب المسلمون أن نبيهم معلق في الهواء وأنها من معجزاته!! كما يعترف بعض علمائهم بأن المسلمين أذكياء وقد "منحهم الله عقولا وافرة".
وفي رحلته ما يلفت النظر إلى علمه ومواهبه، ففضلا عن علمه بالنصرانية وكتبها، فإن له علما بالتقاويم والفلك فقد حدد بدقة تاريخ المولد النبي بالتقويم الميلادي، وله علم أصيل بالجغرافيا والأقطار وملوكها، وترجم كتابا ضخما فيها إلى العربية للسلطان المغربي، واستعمل معلوماته تلك في الرد على اليهود والنصارى ونقض ما جاء بالتوراة المحرفة من معلومات مغلوطة كمثل أن أنهار الدنيا وأنها لا تنبع من مصدر واحد.
ومن أعجب ما نجده في هذه الرحلة أن العلاقات العثمانية الإسبانية كانت منهارة لسببين: غدر الإسبان بالمسلمين الأندلسيين، وغدر الإسبان بملك المكسيك مُتَشُمَه، مما يعني سعة اطلاع العثمانيين بما يحدث في أقصى الغرب عند المكسيك، وأن لهم هناك صلات يثير الاعتداء عليها عداوات في أوروبا. كذلك فإن وجود السفارات الدائمة في أول أمرها لم يكن تعبيرا عن قوة الصداقة كما يتبادر إلى أذهاننا الآن، بل هو يعبر عن الذِّلة، فالطرف الأضعف هو الحريص على وجود سفارة دائمة له عند الطرف الأقوى بينما لا يحفل الأقوى بذلك، بهذا فسَّر أفوقاي الأندلسي وجود سفراء أوروبيين دائمين لدى العثمانيين بينما لم يهتم العثمانيون بإيجاد سفارات لهم في بلاد أوروبا.
هذا كله بعض ما يُلتقط من مختصر الرحلة التي خصصها لسرد جدالاته مع النصارى، ما يجعل كل مهتم بالتاريخ في شوق عظيم للعثور على الرحلة الأصلية التي كان مخصصة لوصف البلدان والسفارات وتفاصيل السياسة في ذلك الوقت، ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا! فإن مأساة فقد الرحلة الأصلية هي فرع عن مأساة ما فقده التراث الإسلامي كله من المخطوطات والمؤلفات النفيسة بفعل الاحتلال وبفعل الجهل –وهو وليد وربيب الاحتلال- كما أن مأساة الأندلسي أفوقاي هي فرع عن مأساة الأمة الأندلسية التي هي وليدة وربيبة "الحضارة" الغربية!!
نشر في الخليج أون لاين
Published on December 21, 2015 02:44
December 17, 2015
عظماء المحنة الأندلسية
جريا على السنة الحسنة التي استنها الشباب المسلم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالإحياء السنوي لذكرى سقوط الأندلس، نتوقف مؤقتا عن سلسلة مقالات "البناء الإسلامي للمجتمع"، لنكتب سلسلة مقالات أندلسية كما فعلنا في العام الماضي (راجع: عشرة كتب نرشحها لك في تاريخ الأندلس، عشرة تواريخأندلسية بأيد أندلسية، بالخرائط: كيفتفهم تاريخ الأندلس، الموريسكيونالمصريون).
لقد سقطت الأندلس، ولم يحفظ الإسبان عهودهم في ترك الحرية للمسلمين، بل بدأت واحدة من أبشع المآسي الإنسانية: الإجبار على التنصر بكل الوسائل، واختراع محاكم التفتيش التي تختبر الإيمان بالمسيحية، واستعمل التحقيق كل ما تفتقت عنه العقلية الشيطانية من وسائل التعذيب، مع حملات إعلامية وإجراءات اقتصادية واجتماعية في غاية القسوة، ولم يُختم هذا كله بالطرد والتهجير، حتى صارت الأندلس الزاهرة الناضرة بلا مسلمين!
ويمثل تاريخ الموريسكيين (الأندلسيين الذين أجبروا على التنصر) نموذجا في تاريخ شعب مضطهد، ففي المحنة تظهر أنصع معادن الناس وأخلصها وأشرفها، وفي المحنة كذلك تُسحق الكرامة الإنسانية وتظهر طبائع الاستضعاف والذل، ومن أراد التعلم من التاريخ حقا فلينظر إلى الجانبيْن معا، إلا أن الجانب الناصع المشرق هو الذي يثير الفخر ويلهم الأجيال وهو الذي يتشوق التاريخ إلى كتابته وتسجيله لأنه خلاف العادة ونقيض المطبوع.
ولقد كانت عظمة أجدادنا الأندلسيين فائقة في أن مآثرهم قد سجلها أعداؤهم، وهذه السطور التي نروي فيها بعضا من عظمتهم إنما نأخذها من سجلات محاكم التفتيش، ونعتمد فيها على دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية"، وهي دراسة تستثير الدموع وتهيج الأحزان.
ثمة عظمة عامة وعظمة خاصة، فالعامة هي ما كان عليه عموم الأندلسيين من تمسك عجيب بالدين والاحتيال في مقاومة التنصير وتداول دينهم سرا والمحافظة عليه، وقد أثبتت سجلات محاكم التفتيش أمورا مدهشة في هذا الباب، منها:
1. فشل الإسبان في تنشئة أطفال الأندلسيين على المسيحية، فبرغم الأموال الهائلة المرصودة لتعليم الأطفال إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال، وتبادل القساوسة تحميل المسؤولية عن هذا الفشل، وتذرع بعضهم بضعف الإمكانيات المالية، وبعضهم بقلة الاهتمام بهذا الملف، وبعضهم بأن الوسائل التي استعملت في تعليم الأطفال كانت فاشلة ولا تستطيع مقاومة ما يزرعه فيهم آباؤهم سرا من تعاليم الإسلام، وتظهر سجلات محاكم التفتيش أن الأندلسيين طوروا نظاما تعليميا سريا خاصا بهم، فوجدت لديهم مراتب علمية كما وجدت لديهم كتب لتعليم الأطفال وكتب تعليم العادات والشعائر، وكتب تتوارثها العائلة الواحدة وتزيد سنة بعد سنة (انظر: ص47، 48، 69 وما بعدها).
2. فشل الإسبان في إغراء الأندلسيين بالدخول في المسيحية، فقد حاولت الدولة والكنيسة أكثر من مرة أن تقدم إعلانا للعفو (أو: نداء المصالحة بمصطلح العصر)، وفيه يتقدم كل أندلسي إلى الكنيسة بالاعتراف على أن يُعفى عنه فلا يقدم للتحقيق ولا محاكم التفتيش، وكانوا يعتقدون أن هذا سيدفع الكثيرين للنجاة من الخوف والانكباب على هذه الفرصة، لكن الذي حدث أنه لم يتقدم لطلب العفو هذا إلا الذين كانوا قد وُشِي بهم وكانوا في حكم المُطارَدين لكيلا تطاردهم محاكم التفتيش، وتكرر هذا المشهد في سائر المدن الأندلسية حتى أثار غيظ وغضب الكنيسة والدولة فأيقنوا أن لا أمل في تخلي هؤلاء عن دينهم، وأتقن الأندلسيون الحيل للنجاة من جحيم التعذيب حتى بالغ المؤرخ الإسبانلي ليورانت وقال بأن محاكم التفتيش عاقبت فقط "الذين لا يعرفون المكر، ولكنها لم تُوَفَّق في تبديل دين أحد منهم"، ولذلك شاعت وسادت في الوثائق كثير من العبارات الحانقة الهائجة التي تسب الأندلسيين وتصفهم بأقذع الأوصاف وترميهم بأنهم مثل الوحوش والطفيليات والذئاب والعقارب والعناكب والخطر الكبير، فاتخذوا قرار الطرد والتهجير، وهو قرار يثبت الفشل الكبير واليأس التام في الانتصار على الموريسكيين، ومن المثير للإعجاب أن الموريسكيين ما إن علموا بقرار الطرد حتى أظهروا دينهم دون خوف وجادلوا عنه جهرة (ص53، 54، 91، 95، 97 وما بعدها، 116 وما بعدها).
وكانت محاولة الهجرة قبل هذا من الجرائم في قوانين محاكم التفتيش، ولم يستطع من خرج من المسلمين إلى المغرب إلا أن يخرج سرا بعد أهوال ومصاعب شتى، وكانت تهمة تسهيل الهرب إلى المغرب تكلف صاحبها أحيانا حياته (ص105).
ولأجل هذين الأمرين: الفشل في التنصير والفشل في تعليم الأطفال المسيحية، عمل الإسبان على انتزاع الأطفال من آبائهم، إما لحظة طردهم وتهجيرهم، أو انتزاعهم في حال الشك فيهم ليوضع أطفالهم ضمن أسر مسيحية خالصة، فكان ينتزع الأطفال الأقل من عشر سنوات، ثم خُفِّض إلى من هم أقل من سبع سنوات!
3. احتفاظ المسلمين بالكتب العربية برغم أنها جريمة عقوبتها الغرامة المالية الفادحة وقد يضاف إليها الحكم بالعبودية على ظهر سفينة، بل إن أندلسيا حُكِم عليه بالحرق لأنه قرأ كتبا موريسكية، ولم تفلح الغرامات والعقوبات في وقف كتابة الكتب والمخطوطات التي كان يكتشف منها المزيد بعد كل فترة، ثم اكتشفت كميات ضخمة بعد قرار الطرد والتهجير، حتى وصفتها وثيقة بالقول "كتب دينهم وقواعدهم ومعتقداتهم متوفرة جدا مثل حبات رمال البحر. ففي كل بيت وفي كل ركن منه تعثر على مثل هذه المجموعات"، وكانت الكتب أنواعا فأكثر ما فيها القرآن الكريم والأدعية وتعاليم الشعائر الإسلامية، وفيها كتب أدب وشعر، وفيها كذلك كتب علمية، وكانت محاكم التفتيش تحرق ما تصل إليه يدها من هذه الكتب ولم يفلت منها إلا القليل، وضاعت بهذه السياسة الوحشية علوم عزيزة وغزيرة على الإنسانية كلها (ص69 وما بعدها، 105).
4. وإن بعض الموريسكيين من بعد ما استطاع الهرب من هذا الجحيم في إسبانيا إلى المغرب عاد مرة أخرى للمشاركة في المقاومة أيام ثورة البشرات الأندلسية، أو لدعم جهاد المتطوعين من المسلمين في البحر المتوسط، وقد نظم الأندلسيون حركات مقاومة، واستهدفوا قضاة محاكم التفتيش ومنازلهم وأعاقوا أحيانا عمليات القبض والمطاردة، وكان قضاة محاكم التفتيش قد نشروا الفزع والرعب في كل مكان، بل كانوا يهنئون أنفسهم بمقدار ما نشروه من الرعب في نفوس الناس، فكان إذا جاء الخبر بوصولهم إلى قرية ما ينكبُّ الناس جميعا بما فيهم العجائز والأطفال على تعلم العقيدة المسيحية، وقد لاحظوا أن الأندلسيين "بسبب هذا الخوف، فإنهم يتعلمون العقيدة في ظرف وجيز جدا كما لاحظنا ذلك بالتجربة" (ص106، 119، 120).
هذه بعض ملامح سريعة لعظمة أجدادنا الموريسكيين وتمسكهم بدينهم، ولك أن تعلم أن بعضهم ظل محتفظا بدينه لأربعة قرون تحت الحكم الإسباني الذي بدا وكأنه قضى تماما على الوجود الإسلامي بالأندلس واستأصله بالكلية. ولئن كنا في هذا المقال قد سردنا ملامح العظمة العامة التي تشملهم كشعب، فسنورد بإذن الله تعالى في المقال القادم ملامح من العظمة الشخصية لأفذاذ أندلسيين كانت لهم وقائع عجيبة ومدهشة لمن كان في مثل حالهم هذه. ثم نتبع ذلك كله بالجانب الآخر من الدروس: جانب المثالب والسلبيات التي أنتجتها المحنة الأندلسية لنتعلم منها لواقعنا فنعلم أن المقاومة خير من الذل، وأن الموت على درب الجهاد خير من الموت في ساحات الذل، وأن الثورة على الحاكم الطاغية خير من تركه يُسَلِّم البلاد والعباد لعدوهم فيستبيحهم بلا رحمة!
نشر في ساسة بوست
لقد سقطت الأندلس، ولم يحفظ الإسبان عهودهم في ترك الحرية للمسلمين، بل بدأت واحدة من أبشع المآسي الإنسانية: الإجبار على التنصر بكل الوسائل، واختراع محاكم التفتيش التي تختبر الإيمان بالمسيحية، واستعمل التحقيق كل ما تفتقت عنه العقلية الشيطانية من وسائل التعذيب، مع حملات إعلامية وإجراءات اقتصادية واجتماعية في غاية القسوة، ولم يُختم هذا كله بالطرد والتهجير، حتى صارت الأندلس الزاهرة الناضرة بلا مسلمين!
ويمثل تاريخ الموريسكيين (الأندلسيين الذين أجبروا على التنصر) نموذجا في تاريخ شعب مضطهد، ففي المحنة تظهر أنصع معادن الناس وأخلصها وأشرفها، وفي المحنة كذلك تُسحق الكرامة الإنسانية وتظهر طبائع الاستضعاف والذل، ومن أراد التعلم من التاريخ حقا فلينظر إلى الجانبيْن معا، إلا أن الجانب الناصع المشرق هو الذي يثير الفخر ويلهم الأجيال وهو الذي يتشوق التاريخ إلى كتابته وتسجيله لأنه خلاف العادة ونقيض المطبوع.
ولقد كانت عظمة أجدادنا الأندلسيين فائقة في أن مآثرهم قد سجلها أعداؤهم، وهذه السطور التي نروي فيها بعضا من عظمتهم إنما نأخذها من سجلات محاكم التفتيش، ونعتمد فيها على دراسة المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية"، وهي دراسة تستثير الدموع وتهيج الأحزان.
ثمة عظمة عامة وعظمة خاصة، فالعامة هي ما كان عليه عموم الأندلسيين من تمسك عجيب بالدين والاحتيال في مقاومة التنصير وتداول دينهم سرا والمحافظة عليه، وقد أثبتت سجلات محاكم التفتيش أمورا مدهشة في هذا الباب، منها:
1. فشل الإسبان في تنشئة أطفال الأندلسيين على المسيحية، فبرغم الأموال الهائلة المرصودة لتعليم الأطفال إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال، وتبادل القساوسة تحميل المسؤولية عن هذا الفشل، وتذرع بعضهم بضعف الإمكانيات المالية، وبعضهم بقلة الاهتمام بهذا الملف، وبعضهم بأن الوسائل التي استعملت في تعليم الأطفال كانت فاشلة ولا تستطيع مقاومة ما يزرعه فيهم آباؤهم سرا من تعاليم الإسلام، وتظهر سجلات محاكم التفتيش أن الأندلسيين طوروا نظاما تعليميا سريا خاصا بهم، فوجدت لديهم مراتب علمية كما وجدت لديهم كتب لتعليم الأطفال وكتب تعليم العادات والشعائر، وكتب تتوارثها العائلة الواحدة وتزيد سنة بعد سنة (انظر: ص47، 48، 69 وما بعدها).
2. فشل الإسبان في إغراء الأندلسيين بالدخول في المسيحية، فقد حاولت الدولة والكنيسة أكثر من مرة أن تقدم إعلانا للعفو (أو: نداء المصالحة بمصطلح العصر)، وفيه يتقدم كل أندلسي إلى الكنيسة بالاعتراف على أن يُعفى عنه فلا يقدم للتحقيق ولا محاكم التفتيش، وكانوا يعتقدون أن هذا سيدفع الكثيرين للنجاة من الخوف والانكباب على هذه الفرصة، لكن الذي حدث أنه لم يتقدم لطلب العفو هذا إلا الذين كانوا قد وُشِي بهم وكانوا في حكم المُطارَدين لكيلا تطاردهم محاكم التفتيش، وتكرر هذا المشهد في سائر المدن الأندلسية حتى أثار غيظ وغضب الكنيسة والدولة فأيقنوا أن لا أمل في تخلي هؤلاء عن دينهم، وأتقن الأندلسيون الحيل للنجاة من جحيم التعذيب حتى بالغ المؤرخ الإسبانلي ليورانت وقال بأن محاكم التفتيش عاقبت فقط "الذين لا يعرفون المكر، ولكنها لم تُوَفَّق في تبديل دين أحد منهم"، ولذلك شاعت وسادت في الوثائق كثير من العبارات الحانقة الهائجة التي تسب الأندلسيين وتصفهم بأقذع الأوصاف وترميهم بأنهم مثل الوحوش والطفيليات والذئاب والعقارب والعناكب والخطر الكبير، فاتخذوا قرار الطرد والتهجير، وهو قرار يثبت الفشل الكبير واليأس التام في الانتصار على الموريسكيين، ومن المثير للإعجاب أن الموريسكيين ما إن علموا بقرار الطرد حتى أظهروا دينهم دون خوف وجادلوا عنه جهرة (ص53، 54، 91، 95، 97 وما بعدها، 116 وما بعدها).
وكانت محاولة الهجرة قبل هذا من الجرائم في قوانين محاكم التفتيش، ولم يستطع من خرج من المسلمين إلى المغرب إلا أن يخرج سرا بعد أهوال ومصاعب شتى، وكانت تهمة تسهيل الهرب إلى المغرب تكلف صاحبها أحيانا حياته (ص105).
ولأجل هذين الأمرين: الفشل في التنصير والفشل في تعليم الأطفال المسيحية، عمل الإسبان على انتزاع الأطفال من آبائهم، إما لحظة طردهم وتهجيرهم، أو انتزاعهم في حال الشك فيهم ليوضع أطفالهم ضمن أسر مسيحية خالصة، فكان ينتزع الأطفال الأقل من عشر سنوات، ثم خُفِّض إلى من هم أقل من سبع سنوات!
3. احتفاظ المسلمين بالكتب العربية برغم أنها جريمة عقوبتها الغرامة المالية الفادحة وقد يضاف إليها الحكم بالعبودية على ظهر سفينة، بل إن أندلسيا حُكِم عليه بالحرق لأنه قرأ كتبا موريسكية، ولم تفلح الغرامات والعقوبات في وقف كتابة الكتب والمخطوطات التي كان يكتشف منها المزيد بعد كل فترة، ثم اكتشفت كميات ضخمة بعد قرار الطرد والتهجير، حتى وصفتها وثيقة بالقول "كتب دينهم وقواعدهم ومعتقداتهم متوفرة جدا مثل حبات رمال البحر. ففي كل بيت وفي كل ركن منه تعثر على مثل هذه المجموعات"، وكانت الكتب أنواعا فأكثر ما فيها القرآن الكريم والأدعية وتعاليم الشعائر الإسلامية، وفيها كتب أدب وشعر، وفيها كذلك كتب علمية، وكانت محاكم التفتيش تحرق ما تصل إليه يدها من هذه الكتب ولم يفلت منها إلا القليل، وضاعت بهذه السياسة الوحشية علوم عزيزة وغزيرة على الإنسانية كلها (ص69 وما بعدها، 105).
4. وإن بعض الموريسكيين من بعد ما استطاع الهرب من هذا الجحيم في إسبانيا إلى المغرب عاد مرة أخرى للمشاركة في المقاومة أيام ثورة البشرات الأندلسية، أو لدعم جهاد المتطوعين من المسلمين في البحر المتوسط، وقد نظم الأندلسيون حركات مقاومة، واستهدفوا قضاة محاكم التفتيش ومنازلهم وأعاقوا أحيانا عمليات القبض والمطاردة، وكان قضاة محاكم التفتيش قد نشروا الفزع والرعب في كل مكان، بل كانوا يهنئون أنفسهم بمقدار ما نشروه من الرعب في نفوس الناس، فكان إذا جاء الخبر بوصولهم إلى قرية ما ينكبُّ الناس جميعا بما فيهم العجائز والأطفال على تعلم العقيدة المسيحية، وقد لاحظوا أن الأندلسيين "بسبب هذا الخوف، فإنهم يتعلمون العقيدة في ظرف وجيز جدا كما لاحظنا ذلك بالتجربة" (ص106، 119، 120).
هذه بعض ملامح سريعة لعظمة أجدادنا الموريسكيين وتمسكهم بدينهم، ولك أن تعلم أن بعضهم ظل محتفظا بدينه لأربعة قرون تحت الحكم الإسباني الذي بدا وكأنه قضى تماما على الوجود الإسلامي بالأندلس واستأصله بالكلية. ولئن كنا في هذا المقال قد سردنا ملامح العظمة العامة التي تشملهم كشعب، فسنورد بإذن الله تعالى في المقال القادم ملامح من العظمة الشخصية لأفذاذ أندلسيين كانت لهم وقائع عجيبة ومدهشة لمن كان في مثل حالهم هذه. ثم نتبع ذلك كله بالجانب الآخر من الدروس: جانب المثالب والسلبيات التي أنتجتها المحنة الأندلسية لنتعلم منها لواقعنا فنعلم أن المقاومة خير من الذل، وأن الموت على درب الجهاد خير من الموت في ساحات الذل، وأن الثورة على الحاكم الطاغية خير من تركه يُسَلِّم البلاد والعباد لعدوهم فيستبيحهم بلا رحمة!
نشر في ساسة بوست
Published on December 17, 2015 22:25
December 16, 2015
العثمانيون في أحلام الأندلسيين
تزورنا من جديد ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير)، وهي الذكرى التي ابتكر الشباب المسلم على مواقع التواصل الاجتماعي فكرة إحيائها وتقليدها، وأسفر هذا عن ثمار عملية ومؤتمرات وندوات عُقِدت في القاهرة وعمان واسطنبول وغيرها، وما تزال أفكار الشباب وهممهم تجود بالمزيد.
لقد كان سقوط الأندلس واحد من المآسي العظمى في التاريخ الإنساني، لما احتوى عليه من عمليات الطرد والإبادة ومحاكم التفتيش الشنيعة التي نشرت الرعب والفزع وابتكرت فنونا من وسائل التعذيب وتحطيم الجسد والنفس الإنسانية، وهي وحدها عار ضخم تحمله "الحضارة" الغربية إلى جانب سوءاتها العظمى: إبادة السكان الأصليين للعالم الجديد والعبودية في إفريقيا وإبادة المدنيين في الحروب العالمية أو موجات الاحتلال.
ولئن كان الكثير من ملفات الموريسكيين (الأندلسيين الذين أجبروا على التنصر) كانت معروفة منذ قديم، فإن المجهود العثماني في استنقاذ المسلمين لم يُعرف حتى في أوساط المثقفين إلا في بداية التسعينات، ويعود السبب الرئيسي في هذا إلى المعوقات التي وُضِعت أمام الباحثين في الأرشيف العثماني، فلما فتح الأرشيف ظهرت كثير من الدراسات التي كشفت عن صفحة مجيدة من تاريخ الدولة العثمانية.
لقد سقطت الأندلس بعد وفاة محمد الفاتح باثنتي عشرة عاما، أي أنها سقطت والدولة العثمانية في ذروة قوتها، إلا أن المساحة الجغرافية الهائلة بين القسطنطينية وغرناطة غلَّت يد الدولة العثمانية عن تقديم عون حاسم لمسلمي غرناطة؛ كانت الدولة العثمانية الشمس الوحيدة الباقية في عالم الإسلام يومئذ، لكنها شمس بعيدة عن الأندلسيين، فما يكاد شعاعها يصلهم إلا ويكون ضعيفا.
كان العثمانيون يتقدمون في شرق أوروبا إلا أن الصفويين كانوا يطعنونهم من الخلف ويجبرونهم على سحب جيوشهم وإيقاف فتوحهم في أوروبا ليحاربوا في المشرق، وكان المماليك في مصر والشام على ضعفهم عائق كبير أمام استفادة العثمانيين من موارد مصر والشام البشرية والمالية والجغرافية، ولم يكن بالإمكان اختراق كل أوروبا ومحاربة جميع أممها حتى الوصول إلى الأندلس، ولذلك كانت المساعدة العثمانية للأندلسيين بثلاث طرق:
1. بحرية من خلال دعم المجاهدين في البحر، وإرسال الأسطول لإنقاذ الأندلسيين أو لدعمهم ماليا وعسكريا.
2. وسياسية من خلال بعض الإجراءات التي خففت بعض ما يلقاه الأندلسيون من العذاب، كرسائل التهديد، والإنذار بإحراق الأسرى من النصارى (وهو ما أدى إلى قرار الطرد بدلا من قرار الإبادة للموريسكيين) والعلاقات مع فرنسا وهولندا إذ كانتا مناطق لجوء وعبور للأندلسيين من الجحيم الإسباني.
3. وإنسانية من خلال استقبالهم في أراضيها.
واستطاعت الدولة العثمانية بعد القضاء على خطر الصفويين وإسقاط دولة المماليك أن تدافع عن الحدود الإسلامية أمام الأساطيل البرتغالية، فكانت تحارب في الخليج العربي وخليج عدن والبحر الأحمر والبحر المتوسط، فحفظ الله بها تلك الديار عربية حتى هذه اللحظة ولو لم يكن العثمانيون لكنا نكتب الآن تاريخا آخر ما أشبهه بتاريخ أمريكا اللاتينية!
إلا أن الأندلسيين، بطبيعة الحال، لم يكونوا يقدِّرون كل هذا، مثلما ينظر المسلمون الآن إلى تركيا ويعلقون عليها الآمال الكِبار رغم أنها لم تعد الدولة العثمانية التي هي قوة عالمية في وقتها، بل كان الأندلسيون ينتظرون أن ينقذهم العثمانيون مما هم فيه، وكانوا يتوقعون أن تصل جيوش السلطان في أية لحظة، وقد أعطاهم هذا الأمل دفعة جديدة في استمرار مقاومتهم التي حكمت عليها عوامل القوة والجغرافيا والسياسة بالهزيمة.
لقد سجلت محاكم التفتيش عددا من الروايات المثيرة للأسى عن العثمانيين في خيال الأندلسيين، ونحن نعتمد هنا بالأساس على كتاب المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية" وهو دراسة من واقع سجلات محاكم التفتيش، وهو كتاب مثير للبكاء مهيج للقلوب يرى المرء بين صفحاته قصة مأساة إنسانية بالغة القسوة.
وقد عُثِر في المخطوطات الموريسكية على ذِكْر وصية من محمد العثماني (محمد الفاتح) لأبنائه أن يستمروا في فتح روما ورودس والبندقية وإيطاليا ولمباردي و"كل إسبانيا"، واهتم الموريسكيون بهذه الوصية لأنها تمثل بالنسبة لهم وعد التحرير الذي ينتظر التنفيذ من خلفاء محمد الفاتح. وقد كانت ثورة البشرات الأندلسية تعتمد نفسيا وروحيا على انتظار الدعم من الأتراك الذين سيأتون لا محالة، فإما أدركوهم وهم يثورون فانتصروا بهم، وإما كانت هذه الثورة هي الممهدة لانتصار الأتراك حين قدومهم.
كان الأندلسيون يعتبرون أن ما ينزل بهم هو فتن وملاحم آخر الزمان، وحيث أنه قد فتحت القسطنطينية قبل نصف قرن وواصل الأتراك تقدمهم في شرق أوروبا، فلا ريب أن النبوءة النبوية ستكتمل بفتح روما التي سيصل إليها العثمانيون ثم يستكملون طريقهم نحو الأندلس، وهنا يتحقق انتصار الإسلام الذي وعدت به نصوص القرآن والسنة.
وأحيانا كانوا يتوقعون أن المهدي المذكور هو سلطان العثمانيين، أو هو جندي عربي في واحد من جيوشهم، أو هو سلطان سيظهر في العرب، أو عربي سيظهر في الأندلس من ابنائهم، وحددوا له صفة كأن يولد من رجل أصم وامرأة زرقاء العينيين وله أخ يولد مختونا. وسجَّلت وثائق محاكم التفتيش قصة رجل يسمى الكسندر كاستالانو، وهذا اسمه النصراني الذي أجبر عليه لكنه أندلسي مسلم، والذي كان قد هرب إلى الدولة العثمانية (1560م) ثم عاد بعد عشرين سنة من هناك (1582م) وقد كلفه السلطان العثماني بالتأكد من "بعض العلامات" في قشتالة وبلنسية، والتحقق مما إذا كانت هذه العلامات توافق ما نصلت عليه نبوءة شائعة في تركيا تتحدث عن زمان إعادة افتتاح الأندلس. وقال إلكسندر بأن علامة من هذه العلامات قد تحققت بالفعل، فلقد رأى في بلنسية شابا صغيرا تنطبق عليه العلامات المذكورة: ضخم الجثة، في كل يد من يديه ستة أصابع، ذو مخالب. ومن ثَمَّ فإنه سيكون خلال ثلاثين عاما قائد للأندلسيين كما تنص النبوءة. وهكذا اختلطت النصوص بالرؤى بالنبوءات بالخرافات في ذلك الوقت، إذ كانت أحوال الذل والاستضعاف والسرية الشديدة دافعة لانتشار التفكير بالتمنّي.
وقد حوكم الكثير من الأندلسيين على مشاعرهم تجاه العثمانيين وحلفائهم الفرنسيين، واعتبر ابتهاجهم لانتصار العثمانيين أو العرب على الإسبان أو حزنهم في حال الهزيمة مؤشر على إخلاصهم لدينهم السابق، وكانت الهزيمة الكبرى للأسطول الإسباني في معركة باب الواد في الجزائر مما أقيمت له الأفراح في مناطق الموريسكيين في الأندلس، ومما أُخِذ به كثير من الناس نحو المحاكم، وكانت متابعة الأخبار تمتد حتى تصل إلى القرى الموريسكية النائية وصار الأندلسيون يحفظون أسماء القلاع التي استولى عليها العثمانيون ولو كانت صغيرة وغير معروفة.
وأحيانا لم يكن الأندلسي يملك نفسه، فقد خطَّط جوان بوتستا للهرب من مدريد إلى فرنسا، التي كانت على علاقة طيبة بالعثمانيين واستثمر العثمانيون هذه العلاقة في إنقاذ الأندلسيين، حيث ستسقط عنه هذه العبودية إذا ما وصل فرنسا، وهناك سينتظر السفنية العثمانية التي تحمل الأندلسيين إلى بلادهم، لكنه من فرط غيظه أراد أن يغيظ الإسبان، فدخل إلى كنيسة وأعطى ظهره للقربان "المقدس" (في إهانة لطقوسهم) ثم انطلق هاربا، لكنه قُبض عليه وسيق إلى محاكم التفتيش.
وقد تسربت الأحلام التي تخص العثمانيين إلى المسيحيين كذلك، فلقد كان لديهم من المنجمين وأصحاب الأحلام والمتنبئين من يفسرون ظواهر النجوم أو الأحلام أو النصوص التوراتية على أن هذا هو زمان نهاية الإسلام من العالم، وأنه ليس إلا قليلا وستنتصر جيوش شارلكان على العرب ثم تحطم الجيوش العثمانية وإبادتها.
تقول الحقيقة التاريخية بأنه لم تحقق أحلام هؤلاء ولا أولئك، لم ينتصر الأندلسيون ولم يتحطم العثمانيون تحت جيوش شارلكان.. وفي هذا عبرة جليلة!
نشر في تركيا بوست
لقد كان سقوط الأندلس واحد من المآسي العظمى في التاريخ الإنساني، لما احتوى عليه من عمليات الطرد والإبادة ومحاكم التفتيش الشنيعة التي نشرت الرعب والفزع وابتكرت فنونا من وسائل التعذيب وتحطيم الجسد والنفس الإنسانية، وهي وحدها عار ضخم تحمله "الحضارة" الغربية إلى جانب سوءاتها العظمى: إبادة السكان الأصليين للعالم الجديد والعبودية في إفريقيا وإبادة المدنيين في الحروب العالمية أو موجات الاحتلال.
ولئن كان الكثير من ملفات الموريسكيين (الأندلسيين الذين أجبروا على التنصر) كانت معروفة منذ قديم، فإن المجهود العثماني في استنقاذ المسلمين لم يُعرف حتى في أوساط المثقفين إلا في بداية التسعينات، ويعود السبب الرئيسي في هذا إلى المعوقات التي وُضِعت أمام الباحثين في الأرشيف العثماني، فلما فتح الأرشيف ظهرت كثير من الدراسات التي كشفت عن صفحة مجيدة من تاريخ الدولة العثمانية.
لقد سقطت الأندلس بعد وفاة محمد الفاتح باثنتي عشرة عاما، أي أنها سقطت والدولة العثمانية في ذروة قوتها، إلا أن المساحة الجغرافية الهائلة بين القسطنطينية وغرناطة غلَّت يد الدولة العثمانية عن تقديم عون حاسم لمسلمي غرناطة؛ كانت الدولة العثمانية الشمس الوحيدة الباقية في عالم الإسلام يومئذ، لكنها شمس بعيدة عن الأندلسيين، فما يكاد شعاعها يصلهم إلا ويكون ضعيفا.
كان العثمانيون يتقدمون في شرق أوروبا إلا أن الصفويين كانوا يطعنونهم من الخلف ويجبرونهم على سحب جيوشهم وإيقاف فتوحهم في أوروبا ليحاربوا في المشرق، وكان المماليك في مصر والشام على ضعفهم عائق كبير أمام استفادة العثمانيين من موارد مصر والشام البشرية والمالية والجغرافية، ولم يكن بالإمكان اختراق كل أوروبا ومحاربة جميع أممها حتى الوصول إلى الأندلس، ولذلك كانت المساعدة العثمانية للأندلسيين بثلاث طرق:
1. بحرية من خلال دعم المجاهدين في البحر، وإرسال الأسطول لإنقاذ الأندلسيين أو لدعمهم ماليا وعسكريا.
2. وسياسية من خلال بعض الإجراءات التي خففت بعض ما يلقاه الأندلسيون من العذاب، كرسائل التهديد، والإنذار بإحراق الأسرى من النصارى (وهو ما أدى إلى قرار الطرد بدلا من قرار الإبادة للموريسكيين) والعلاقات مع فرنسا وهولندا إذ كانتا مناطق لجوء وعبور للأندلسيين من الجحيم الإسباني.
3. وإنسانية من خلال استقبالهم في أراضيها.
واستطاعت الدولة العثمانية بعد القضاء على خطر الصفويين وإسقاط دولة المماليك أن تدافع عن الحدود الإسلامية أمام الأساطيل البرتغالية، فكانت تحارب في الخليج العربي وخليج عدن والبحر الأحمر والبحر المتوسط، فحفظ الله بها تلك الديار عربية حتى هذه اللحظة ولو لم يكن العثمانيون لكنا نكتب الآن تاريخا آخر ما أشبهه بتاريخ أمريكا اللاتينية!
إلا أن الأندلسيين، بطبيعة الحال، لم يكونوا يقدِّرون كل هذا، مثلما ينظر المسلمون الآن إلى تركيا ويعلقون عليها الآمال الكِبار رغم أنها لم تعد الدولة العثمانية التي هي قوة عالمية في وقتها، بل كان الأندلسيون ينتظرون أن ينقذهم العثمانيون مما هم فيه، وكانوا يتوقعون أن تصل جيوش السلطان في أية لحظة، وقد أعطاهم هذا الأمل دفعة جديدة في استمرار مقاومتهم التي حكمت عليها عوامل القوة والجغرافيا والسياسة بالهزيمة.
لقد سجلت محاكم التفتيش عددا من الروايات المثيرة للأسى عن العثمانيين في خيال الأندلسيين، ونحن نعتمد هنا بالأساس على كتاب المستشرق الإسباني لوي كاردياك "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية" وهو دراسة من واقع سجلات محاكم التفتيش، وهو كتاب مثير للبكاء مهيج للقلوب يرى المرء بين صفحاته قصة مأساة إنسانية بالغة القسوة.
وقد عُثِر في المخطوطات الموريسكية على ذِكْر وصية من محمد العثماني (محمد الفاتح) لأبنائه أن يستمروا في فتح روما ورودس والبندقية وإيطاليا ولمباردي و"كل إسبانيا"، واهتم الموريسكيون بهذه الوصية لأنها تمثل بالنسبة لهم وعد التحرير الذي ينتظر التنفيذ من خلفاء محمد الفاتح. وقد كانت ثورة البشرات الأندلسية تعتمد نفسيا وروحيا على انتظار الدعم من الأتراك الذين سيأتون لا محالة، فإما أدركوهم وهم يثورون فانتصروا بهم، وإما كانت هذه الثورة هي الممهدة لانتصار الأتراك حين قدومهم.
كان الأندلسيون يعتبرون أن ما ينزل بهم هو فتن وملاحم آخر الزمان، وحيث أنه قد فتحت القسطنطينية قبل نصف قرن وواصل الأتراك تقدمهم في شرق أوروبا، فلا ريب أن النبوءة النبوية ستكتمل بفتح روما التي سيصل إليها العثمانيون ثم يستكملون طريقهم نحو الأندلس، وهنا يتحقق انتصار الإسلام الذي وعدت به نصوص القرآن والسنة.
وأحيانا كانوا يتوقعون أن المهدي المذكور هو سلطان العثمانيين، أو هو جندي عربي في واحد من جيوشهم، أو هو سلطان سيظهر في العرب، أو عربي سيظهر في الأندلس من ابنائهم، وحددوا له صفة كأن يولد من رجل أصم وامرأة زرقاء العينيين وله أخ يولد مختونا. وسجَّلت وثائق محاكم التفتيش قصة رجل يسمى الكسندر كاستالانو، وهذا اسمه النصراني الذي أجبر عليه لكنه أندلسي مسلم، والذي كان قد هرب إلى الدولة العثمانية (1560م) ثم عاد بعد عشرين سنة من هناك (1582م) وقد كلفه السلطان العثماني بالتأكد من "بعض العلامات" في قشتالة وبلنسية، والتحقق مما إذا كانت هذه العلامات توافق ما نصلت عليه نبوءة شائعة في تركيا تتحدث عن زمان إعادة افتتاح الأندلس. وقال إلكسندر بأن علامة من هذه العلامات قد تحققت بالفعل، فلقد رأى في بلنسية شابا صغيرا تنطبق عليه العلامات المذكورة: ضخم الجثة، في كل يد من يديه ستة أصابع، ذو مخالب. ومن ثَمَّ فإنه سيكون خلال ثلاثين عاما قائد للأندلسيين كما تنص النبوءة. وهكذا اختلطت النصوص بالرؤى بالنبوءات بالخرافات في ذلك الوقت، إذ كانت أحوال الذل والاستضعاف والسرية الشديدة دافعة لانتشار التفكير بالتمنّي.
وقد حوكم الكثير من الأندلسيين على مشاعرهم تجاه العثمانيين وحلفائهم الفرنسيين، واعتبر ابتهاجهم لانتصار العثمانيين أو العرب على الإسبان أو حزنهم في حال الهزيمة مؤشر على إخلاصهم لدينهم السابق، وكانت الهزيمة الكبرى للأسطول الإسباني في معركة باب الواد في الجزائر مما أقيمت له الأفراح في مناطق الموريسكيين في الأندلس، ومما أُخِذ به كثير من الناس نحو المحاكم، وكانت متابعة الأخبار تمتد حتى تصل إلى القرى الموريسكية النائية وصار الأندلسيون يحفظون أسماء القلاع التي استولى عليها العثمانيون ولو كانت صغيرة وغير معروفة.
وأحيانا لم يكن الأندلسي يملك نفسه، فقد خطَّط جوان بوتستا للهرب من مدريد إلى فرنسا، التي كانت على علاقة طيبة بالعثمانيين واستثمر العثمانيون هذه العلاقة في إنقاذ الأندلسيين، حيث ستسقط عنه هذه العبودية إذا ما وصل فرنسا، وهناك سينتظر السفنية العثمانية التي تحمل الأندلسيين إلى بلادهم، لكنه من فرط غيظه أراد أن يغيظ الإسبان، فدخل إلى كنيسة وأعطى ظهره للقربان "المقدس" (في إهانة لطقوسهم) ثم انطلق هاربا، لكنه قُبض عليه وسيق إلى محاكم التفتيش.
وقد تسربت الأحلام التي تخص العثمانيين إلى المسيحيين كذلك، فلقد كان لديهم من المنجمين وأصحاب الأحلام والمتنبئين من يفسرون ظواهر النجوم أو الأحلام أو النصوص التوراتية على أن هذا هو زمان نهاية الإسلام من العالم، وأنه ليس إلا قليلا وستنتصر جيوش شارلكان على العرب ثم تحطم الجيوش العثمانية وإبادتها.
تقول الحقيقة التاريخية بأنه لم تحقق أحلام هؤلاء ولا أولئك، لم ينتصر الأندلسيون ولم يتحطم العثمانيون تحت جيوش شارلكان.. وفي هذا عبرة جليلة!
نشر في تركيا بوست
Published on December 16, 2015 13:46
December 13, 2015
بيجوفيتش.. مسلم صلب أمام أعاصير الغرب
يمثل الرئيس المجاهد والمفكر المتميز علي عزت بيجوفيتش نموذجا متميزا للمسلم الذي استوعب الثلاثية التي ينبغي أن يحوزها من أراد فهم الغرب: الإسلام، الغرب، الفوارق بينهما. وهذا مع أنه نشأ في الغرب لا في الشرق، مما يدعم ما ذهبنا إليه من أن الاستغراب في حقيقته ليس مفهوما جغرافيا.
ويُعَدّ كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" نموذجا في شرح ما نعنيه من تأسيس الأصول لعلم الاستغراب، ولا أحسب أحدا يبحث في مجال الفكر والحضارة يسعه أن لا يقرأ هذا الكتاب لما فيه من عمق ورسوخ ودقة نظر وسمو فهم، ثم هو بعد ذلك قد صيغ في عبارات سلسلة ومبسطة(1) نقلت المعنى العميق الدقيق في ثوب رفيق رقيق.
وُلِد علي عزت بيجوفيتش في مدينة "بوسنة كروبا" شمال غرب البوسنة، وكانت وقتها جزءا من الاتحاد اليوغسلافي، عام 1925م، واندرج في النشاط الإسلامي منذ كان في الخامسة عشرة من عمره، وأسس جمعية "الشبان المسلمين" في ظل الهيمنة الشيوعية لجوزيف تيتو على يوغسلافيا، فذاق السجن وهو في الحادية والعشرين لمدة ثلاث سنوات لأجل مقالات كتبها يدفع فيها هجمات شيوعية على الإسلام والمسلمين، ثم سجن مرة أخرى في عهد جوزيف تيتو بتهمة أنه ضد الشيوعية حتى أفرج عنه عام 1954م، وكان في التاسعة والعشرين من عمره، عمل بعد هذا محاميا حتى أكمل دراسته العليا في القانون عام1962م، ثم سجن مرة ثالثة بتهمة أنه يريد إنشاء دولة إسلامية واحدة من خلال مقالاته التي جُمِعت في كتابه "الإعلان الإسلامي"، فحكم عليه عام 1983م بالسجن لمدة أربعة عشر عام، لكنه قضى منها ستة فقط ثم أعيدت المحاكمة مع ضعف النظام السياسي الشيوعي قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، ولما خرج من السجن أنشأ حزب العمل الديمقراطي عام 1989م، ليكون سبيله إلى إنقاذ الوضع الإسلامي في البوسنة، إذ ها هو الاتحاد اليوغسلافي ينهار ويوشك ألا يُظلم إلا المسلمون الذين كانت قياداتهم الرسمية شيوعية، بينما تحولت قيادات باقي دول الاتحاد من الشيوعية البغيضة إلى العنصرية البغيضة، وأثبت ملوسوفيتش أنه يريد وراثة الاتحاد المتفكك ليصنع مشروعه "صربيا الكبرى" حيث تُمتَصّ خيرات باقي دول الاتحاد لمصلحة صربيا وحدها. وبالفعل دخل الحزب الانتخابات في البوسنة وفاز بها علي عزت بيجوفيتش ليكون أول رئيس للبوسنة بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي وقادها في محنتها الشنيعة التي أحيط بها فيها من كافة العالم في واحدة من أقسى مآسي القرن في أوروبا، بل هي الأقسى بعد الحرب العالمية الثانية(2)
وقد نقل مترجم الكتاب عن المؤلف أن أفكار الكتاب استقرت في ذهن المؤلف قبل صدور الكتاب بنحو عشرين سنة، أي في عقد الستينات، وقد وضع المؤلف كتابه في قسمين هذه خلاصتهما(3):
في القسم الأول يستعرض المؤلف الرؤى التي تفسر العالم:
إن الرؤى التي تفسر العالم ثلاث: المادية، الدينية، الإسلامية؛ فالرؤية المادية متعلقة بالجسد، والدينية متعلقة بالروح، بينما الإنسان كائن مزدوج يحمل في جسده روحا، فلذلك تنحاز كل رؤية لما تتعلق به، فالرؤية المادية لا تقيم اعتبارا للروح، والرؤية الدينية لا تقيم اعتبارا للجسد، وهذا يضع الإنسانية في مشكلة حقيقية.
الماديون يؤمنون بإنسان دارون إذ الإنسان كائن متطور، بينما الدينيون يؤمنون بالإنسان الذي رسمه مايكل أنجلو على سقف كنيسة السستن طبقا لما ورد في "الكتاب المقدس"، وهو الإنسان الذي خلقه الله بأمر منه وأنشأ فيه الروح بلا تطور ولا تاريخ. ومن هنا يفترق القوم إلى جهتين لا تلتقيان، إذ إن "الإنسان" في مفهوم الماديين ليس هو "الإنسان" في مفهوم الدينيين، فكلاهما يتحدث عن شيء يختلف عن الآخر.
ولهذا تظهر الثنائيات المتناقضة بين الجسد وحاجاته (كيف أعيش) والروح وطموحاتها (لماذا أعيش)، بين الحضارة (التقدم المادي = تأثير الذكاء على الطبيعة) والثقافة (الموقف الفكري = تأثير الدين على الإنسان أو الإنسان على نفسه)، بين الأداة (استعمال المادة) والعبادة (إشباع الروح)، بين التعليم (كعملية تستهدف تحصيل مهارة) والتأمل (كعملية تستهدف الوصول إلى المعاني والحقائق)، بين اليوتوبيا (التي تصنع مجتمعا على مثال واحد) والدراما (التي تصف حياة مركبة فيها ما لا يحصى من التنوعات والاختلافات)، بين المصلحة (المادية النفعية) والواجب (الإنساني الأخلاقي)، بين العلم (حقائق تُكْتَشَف، ويخرج منتجات للاستعمال) والفن (إبداع يُخلق، ومنتجاته للاستمتاع)... إلخ.
وينعكس هذا الاختلاف بين التيارين على الكثير من المفاهيم، فالتقدم والتخلف لهما معانٍ مختلفة لدى كل منهما، هذا يقيسها بتراكم العلم والتطور، وهذا يقيسها بمدى القرب أو البعد عن القيم المقدسة(4)، والمساواة لها معنى مختلف فهي مقاييس آلية رقمية لدى الماديين، بينما هي تتعلق بالتنوعات والخصائص لدى الدينيين، بل حتى ما يبدو أنها مفاهيم محايدة مثل "الزمن" ليس كذلك، فالزمن في مفهوم المادة والحضارة زمن مستقيم مستمر ترمز إليه الساعة، بينما الزمن في مفهوم الروح والثقافة دائري، فيه عودة دائمة وإعادة تخيل للزمن.
وفي النهاية يعاني كل فريق من مشكلات، ففيما تقوم ضد الماديين حقائق إنسانية راسخة، لا يسع الدينيين رفض الحضارة ولو أرادوا. فلا الماديون استطاعوا التخلص من آثار الروح، ولا الدينيون استطاعوا التخلص من ضرورات الجسد. لأن الثنائية (والوحدة) للجسد والروح هي "أكبر وأرسخ وأقدم تجربة بشرية، لم تستطع أي فلسفة بشرية أن تتجاوز هذه المشكلة".
وبعد أن انتهى من توضيح الرؤيتين: المادية والدينية، يطرح علي عزت بيجوفيتش -في القسم الثاني من الكتاب- الرؤية الإسلامية، ويعطي لها لفظا جديدا هو "الوحدة ثنائية القطب"، ويشرح كيف يمثل الإسلام الفهم الشامل للإنسان، الفهم الذي يجمع بين الروح والمادة، وكيف أنه بهذا يمثل "طريقا ثالثا" بين الرؤيتين: المادية والدينية، ويصف كيف قامت عبادات الإسلام وشعائره، ومؤسساته وشريعته، على تحقيق الغايتين معا؛ إذ الفصل بين هذه الحاجات مستحيل ولا سبيل إليه.
ومن هنا فإن النجاح الديني والدنيوي لمحمد rهو التعبير الأمثل عن رؤية الإسلام في الحياة، لأنه نجاح الرسالة الدينية الأخلاقية في هذا العالم الأرضي، وهذا النجاح هو نفسه سبيل الوصول للنجاح المنشود في الحياة الآخرة، ولا أدل على هذا من أن النبي rوقبل وفاته بقليل كان يجهز لحملة عسكرية في شمال الجزيرة العربية.
وبعد أن شرح الملامح التي تجعل الإسلام طريقا ثالثا، أراد أن يقول بأن فكرة الطريق الثالث نفسها ممكنة، ولها تجليات خارج الإسلام، فاختار نموذج بريطانيا الذي يسير وسطا بين التيارات الأوروبية، فهو يتمتع بالديمقراطية والملكية معا، لا تأخذ ثوراتها مجراها إلى النهاية بل هم مغرمون بالوصول إلى حلول وسط.
وهذا القسم الثاني الذي شرح فيه الإسلام يبدو أكثر وضوحا إذا ضممنا إليه كتابه الآخر "الإعلان الإسلامي"، إذ هو مختص بشرح الفكرة الإسلامية وتحديد نقاط الخلل لدى المسلمين ثم طرح الحل من خلال تصحيح فهم الإسلام وتطبيق ما لا يطبق منه.
يمكن قول الكثير في شأن بيجوفيتش وأفكاره، إلا أن المهم في سياقنا الآن، هو نموذجه كمسلم درس الغرب وهضم حضارته ونقدها من قاعدة إسلامية، فحقق بهذا الثلاثية التي ذكرناها، وهي:
1. فهم الإسلام
فالبرغم من نشأة الرجل في الغرب وعدم تلقيه دراسة دينية تقليدية، كذلك بالرغم من غياب النصوص الإسلامية عن كتبه إلا قليلا، فإن فهمه للإسلام وطبيعته كان من الوضوح والقوة إلى حد لا يظفر به كثير ممن تلقى دراسة شرعية تقليدية، وهو حين أراد أن ينقل نصوصا تدعم فكرته من "علماء" مسلمين، استعان بنصوص يوصف أصحابها في عالمنا العربي -أحيانا- بالمتشددين، مثل سيد قطب، وكثير من استنباطاته جديدة تماما على إنسان نشأ وتعلم في الغرب، فلئن كانت من إبداعاته فهو أمر مدهش يستحق التتبع والبحث عن تكوينه العلمي، وإن كانت من ترجمات منقولة عن مصادر عربية فهذا يشهد باتساع حصيلته العلمية.
2. فهم الغرب
وبرغم الحصيلة الواسعة لدى بيجوفيتش من الحضارة الغربية -والتي تشهد بها النصوص الكثيرة المنقولة عن المفكرين والفلاسفة الغربيين- فإنه لم يُستَلَب في تفاصيلها ولم يضع في دهاليزها، بل استطاع أن يرد كل هذه التفاصيل إلى أصولها وثوابتها وكليَّاتها حتى استقرت كافة التفاصيل في مسارين متمايزين: الرؤية الدينية والرؤية المادية، ثم ينسجم هذان المساران في كونهما "نظرة أحادية" إلى الإنسان، وهي الفكرة العميقة الغائرة في كل هذه التفاصيل التي تبدو كثيرة ومشوشة ومنتثرة لا يجمعها رابط أبدا. وعندئذ قام بيجوفيتش بنقد هذه الفكرة الأصلية الكلية وطرح في مقابلها المفهوم الإسلامي الذي يرفض النظر إلى الإنسان على أنه كائن أحادي الجانب، بل هو كائن يجمع بين الطبيعتين: البشرية (الجسد) والإلهية (نفخة الروح)، فلكل منهما طبائع وخصائض كما لكل منهما آثار ونتائج، ومن هنا فلا يصلح لهذا الإنسان إلا رؤية تجمع بينهما، وهذه الرؤية لا توجد إلا في الإسلام الذي يجمع في عباداته وشعائره ومؤسساته بين الجسد والروح.
3. فهم الفوارق بين الإسلام والغرب
وهو ما بدا في رسالة الكتاب والغرض منه، وفي تقسيمه إلى قسمين: قسم عن الغرب، وقسم عن الإسلام، والفوارق بينهما منثورة فيه ولكنها متركزة أكثر في القسم الثاني.
إن عظمة بيجوفيتش لا تقتصر فحسب على إنتاجه الفكري، ولكنها تمتد لتشمل مواقفه العملية، فلقد وُضِع الرجل على المحكّ العملي، بل لا نبالغ أن نقول إنه قد وضِع في صراع ضخم، أضخم بكثير من إمكانياته، وصار عليه أن يواجه طوال حياته أمواجا عاصفة: بدءا بالشيوعية، ثم النازية -أثناء الاجتياح الألماني ليوغسلافيا في الحرب العالمية الثانية- ثم الشيوعية من جديد، ثم القومية الصربية، ثم البراجماتية الغربية التي خانت كل مبادئها وأسلمت شعبا للذبح والقتل، ثم طرحت حلا يشرعن ما أُخِذ بالسيف. وهو في كل هذا لم ينبهر ويُفتن، أو يضعف ويسقط.
فهكذا كان نموذجا علميا وعمليا لفهم الغرب ودراسته برؤية إسلامية.
نشر في الخليج أون لاين
وهنا لا ننسى أن نشكر د. محمد يوسف عدس الذي نقل هذا الكتاب إلى العربية، وكانت ترجمته لا تقل روعة ولا دقة ولا حسن فهم وصياغة عن النص الأصلي، فصار النص الفلسفي بقلمه نصا بديعا ذا لمسة أدبية متفننة. انظر مقدمة المترجم د. محمد يوسف عدس لكتاب بيجوفيتش "الإعلان الإسلامي" ص17 وما بعدها، د. محمد يوسف عدس: مذكرات علي عزت بيجوفيتش. ننقل هنا عن النسخة العربية الصادرة في القاهرة، عام 1997م، عن دار الجامعات، بينما أخذت معلومة أن أفكار الكتاب كانت في ذهن مؤلفه قبل عشرين سنة من صدوره من المقدمة التي كتبها المترجم لطبعة دار الشروق الصادرة في القاهرة 2013م. وقد كانت للمؤلف تقديم وملاحظات على الطبعة العربية أدرجت في طبعة دار الجامعات، ثم كتب تعليقا آخر على الكتاب في كتابه "هروبي إلى الحرية" ص227 وما بعدها، من الطبعة العربية التي صدرت عن دار الفكر في دمشق عام 2002م. فالماديون مثلا يرون صلب المسيح فشلا، بينما يراه المسيحيون لحظة النجاح ورمز الخلاص، بينما "نجاح" محمد r أمر لا يرحب به المسيحيون.
ويُعَدّ كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" نموذجا في شرح ما نعنيه من تأسيس الأصول لعلم الاستغراب، ولا أحسب أحدا يبحث في مجال الفكر والحضارة يسعه أن لا يقرأ هذا الكتاب لما فيه من عمق ورسوخ ودقة نظر وسمو فهم، ثم هو بعد ذلك قد صيغ في عبارات سلسلة ومبسطة(1) نقلت المعنى العميق الدقيق في ثوب رفيق رقيق.
وُلِد علي عزت بيجوفيتش في مدينة "بوسنة كروبا" شمال غرب البوسنة، وكانت وقتها جزءا من الاتحاد اليوغسلافي، عام 1925م، واندرج في النشاط الإسلامي منذ كان في الخامسة عشرة من عمره، وأسس جمعية "الشبان المسلمين" في ظل الهيمنة الشيوعية لجوزيف تيتو على يوغسلافيا، فذاق السجن وهو في الحادية والعشرين لمدة ثلاث سنوات لأجل مقالات كتبها يدفع فيها هجمات شيوعية على الإسلام والمسلمين، ثم سجن مرة أخرى في عهد جوزيف تيتو بتهمة أنه ضد الشيوعية حتى أفرج عنه عام 1954م، وكان في التاسعة والعشرين من عمره، عمل بعد هذا محاميا حتى أكمل دراسته العليا في القانون عام1962م، ثم سجن مرة ثالثة بتهمة أنه يريد إنشاء دولة إسلامية واحدة من خلال مقالاته التي جُمِعت في كتابه "الإعلان الإسلامي"، فحكم عليه عام 1983م بالسجن لمدة أربعة عشر عام، لكنه قضى منها ستة فقط ثم أعيدت المحاكمة مع ضعف النظام السياسي الشيوعي قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، ولما خرج من السجن أنشأ حزب العمل الديمقراطي عام 1989م، ليكون سبيله إلى إنقاذ الوضع الإسلامي في البوسنة، إذ ها هو الاتحاد اليوغسلافي ينهار ويوشك ألا يُظلم إلا المسلمون الذين كانت قياداتهم الرسمية شيوعية، بينما تحولت قيادات باقي دول الاتحاد من الشيوعية البغيضة إلى العنصرية البغيضة، وأثبت ملوسوفيتش أنه يريد وراثة الاتحاد المتفكك ليصنع مشروعه "صربيا الكبرى" حيث تُمتَصّ خيرات باقي دول الاتحاد لمصلحة صربيا وحدها. وبالفعل دخل الحزب الانتخابات في البوسنة وفاز بها علي عزت بيجوفيتش ليكون أول رئيس للبوسنة بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي وقادها في محنتها الشنيعة التي أحيط بها فيها من كافة العالم في واحدة من أقسى مآسي القرن في أوروبا، بل هي الأقسى بعد الحرب العالمية الثانية(2)
وقد نقل مترجم الكتاب عن المؤلف أن أفكار الكتاب استقرت في ذهن المؤلف قبل صدور الكتاب بنحو عشرين سنة، أي في عقد الستينات، وقد وضع المؤلف كتابه في قسمين هذه خلاصتهما(3):
في القسم الأول يستعرض المؤلف الرؤى التي تفسر العالم:
إن الرؤى التي تفسر العالم ثلاث: المادية، الدينية، الإسلامية؛ فالرؤية المادية متعلقة بالجسد، والدينية متعلقة بالروح، بينما الإنسان كائن مزدوج يحمل في جسده روحا، فلذلك تنحاز كل رؤية لما تتعلق به، فالرؤية المادية لا تقيم اعتبارا للروح، والرؤية الدينية لا تقيم اعتبارا للجسد، وهذا يضع الإنسانية في مشكلة حقيقية.
الماديون يؤمنون بإنسان دارون إذ الإنسان كائن متطور، بينما الدينيون يؤمنون بالإنسان الذي رسمه مايكل أنجلو على سقف كنيسة السستن طبقا لما ورد في "الكتاب المقدس"، وهو الإنسان الذي خلقه الله بأمر منه وأنشأ فيه الروح بلا تطور ولا تاريخ. ومن هنا يفترق القوم إلى جهتين لا تلتقيان، إذ إن "الإنسان" في مفهوم الماديين ليس هو "الإنسان" في مفهوم الدينيين، فكلاهما يتحدث عن شيء يختلف عن الآخر.
ولهذا تظهر الثنائيات المتناقضة بين الجسد وحاجاته (كيف أعيش) والروح وطموحاتها (لماذا أعيش)، بين الحضارة (التقدم المادي = تأثير الذكاء على الطبيعة) والثقافة (الموقف الفكري = تأثير الدين على الإنسان أو الإنسان على نفسه)، بين الأداة (استعمال المادة) والعبادة (إشباع الروح)، بين التعليم (كعملية تستهدف تحصيل مهارة) والتأمل (كعملية تستهدف الوصول إلى المعاني والحقائق)، بين اليوتوبيا (التي تصنع مجتمعا على مثال واحد) والدراما (التي تصف حياة مركبة فيها ما لا يحصى من التنوعات والاختلافات)، بين المصلحة (المادية النفعية) والواجب (الإنساني الأخلاقي)، بين العلم (حقائق تُكْتَشَف، ويخرج منتجات للاستعمال) والفن (إبداع يُخلق، ومنتجاته للاستمتاع)... إلخ.
وينعكس هذا الاختلاف بين التيارين على الكثير من المفاهيم، فالتقدم والتخلف لهما معانٍ مختلفة لدى كل منهما، هذا يقيسها بتراكم العلم والتطور، وهذا يقيسها بمدى القرب أو البعد عن القيم المقدسة(4)، والمساواة لها معنى مختلف فهي مقاييس آلية رقمية لدى الماديين، بينما هي تتعلق بالتنوعات والخصائص لدى الدينيين، بل حتى ما يبدو أنها مفاهيم محايدة مثل "الزمن" ليس كذلك، فالزمن في مفهوم المادة والحضارة زمن مستقيم مستمر ترمز إليه الساعة، بينما الزمن في مفهوم الروح والثقافة دائري، فيه عودة دائمة وإعادة تخيل للزمن.
وفي النهاية يعاني كل فريق من مشكلات، ففيما تقوم ضد الماديين حقائق إنسانية راسخة، لا يسع الدينيين رفض الحضارة ولو أرادوا. فلا الماديون استطاعوا التخلص من آثار الروح، ولا الدينيون استطاعوا التخلص من ضرورات الجسد. لأن الثنائية (والوحدة) للجسد والروح هي "أكبر وأرسخ وأقدم تجربة بشرية، لم تستطع أي فلسفة بشرية أن تتجاوز هذه المشكلة".
وبعد أن انتهى من توضيح الرؤيتين: المادية والدينية، يطرح علي عزت بيجوفيتش -في القسم الثاني من الكتاب- الرؤية الإسلامية، ويعطي لها لفظا جديدا هو "الوحدة ثنائية القطب"، ويشرح كيف يمثل الإسلام الفهم الشامل للإنسان، الفهم الذي يجمع بين الروح والمادة، وكيف أنه بهذا يمثل "طريقا ثالثا" بين الرؤيتين: المادية والدينية، ويصف كيف قامت عبادات الإسلام وشعائره، ومؤسساته وشريعته، على تحقيق الغايتين معا؛ إذ الفصل بين هذه الحاجات مستحيل ولا سبيل إليه.
ومن هنا فإن النجاح الديني والدنيوي لمحمد rهو التعبير الأمثل عن رؤية الإسلام في الحياة، لأنه نجاح الرسالة الدينية الأخلاقية في هذا العالم الأرضي، وهذا النجاح هو نفسه سبيل الوصول للنجاح المنشود في الحياة الآخرة، ولا أدل على هذا من أن النبي rوقبل وفاته بقليل كان يجهز لحملة عسكرية في شمال الجزيرة العربية.
وبعد أن شرح الملامح التي تجعل الإسلام طريقا ثالثا، أراد أن يقول بأن فكرة الطريق الثالث نفسها ممكنة، ولها تجليات خارج الإسلام، فاختار نموذج بريطانيا الذي يسير وسطا بين التيارات الأوروبية، فهو يتمتع بالديمقراطية والملكية معا، لا تأخذ ثوراتها مجراها إلى النهاية بل هم مغرمون بالوصول إلى حلول وسط.
وهذا القسم الثاني الذي شرح فيه الإسلام يبدو أكثر وضوحا إذا ضممنا إليه كتابه الآخر "الإعلان الإسلامي"، إذ هو مختص بشرح الفكرة الإسلامية وتحديد نقاط الخلل لدى المسلمين ثم طرح الحل من خلال تصحيح فهم الإسلام وتطبيق ما لا يطبق منه.
يمكن قول الكثير في شأن بيجوفيتش وأفكاره، إلا أن المهم في سياقنا الآن، هو نموذجه كمسلم درس الغرب وهضم حضارته ونقدها من قاعدة إسلامية، فحقق بهذا الثلاثية التي ذكرناها، وهي:
1. فهم الإسلام
فالبرغم من نشأة الرجل في الغرب وعدم تلقيه دراسة دينية تقليدية، كذلك بالرغم من غياب النصوص الإسلامية عن كتبه إلا قليلا، فإن فهمه للإسلام وطبيعته كان من الوضوح والقوة إلى حد لا يظفر به كثير ممن تلقى دراسة شرعية تقليدية، وهو حين أراد أن ينقل نصوصا تدعم فكرته من "علماء" مسلمين، استعان بنصوص يوصف أصحابها في عالمنا العربي -أحيانا- بالمتشددين، مثل سيد قطب، وكثير من استنباطاته جديدة تماما على إنسان نشأ وتعلم في الغرب، فلئن كانت من إبداعاته فهو أمر مدهش يستحق التتبع والبحث عن تكوينه العلمي، وإن كانت من ترجمات منقولة عن مصادر عربية فهذا يشهد باتساع حصيلته العلمية.
2. فهم الغرب
وبرغم الحصيلة الواسعة لدى بيجوفيتش من الحضارة الغربية -والتي تشهد بها النصوص الكثيرة المنقولة عن المفكرين والفلاسفة الغربيين- فإنه لم يُستَلَب في تفاصيلها ولم يضع في دهاليزها، بل استطاع أن يرد كل هذه التفاصيل إلى أصولها وثوابتها وكليَّاتها حتى استقرت كافة التفاصيل في مسارين متمايزين: الرؤية الدينية والرؤية المادية، ثم ينسجم هذان المساران في كونهما "نظرة أحادية" إلى الإنسان، وهي الفكرة العميقة الغائرة في كل هذه التفاصيل التي تبدو كثيرة ومشوشة ومنتثرة لا يجمعها رابط أبدا. وعندئذ قام بيجوفيتش بنقد هذه الفكرة الأصلية الكلية وطرح في مقابلها المفهوم الإسلامي الذي يرفض النظر إلى الإنسان على أنه كائن أحادي الجانب، بل هو كائن يجمع بين الطبيعتين: البشرية (الجسد) والإلهية (نفخة الروح)، فلكل منهما طبائع وخصائض كما لكل منهما آثار ونتائج، ومن هنا فلا يصلح لهذا الإنسان إلا رؤية تجمع بينهما، وهذه الرؤية لا توجد إلا في الإسلام الذي يجمع في عباداته وشعائره ومؤسساته بين الجسد والروح.
3. فهم الفوارق بين الإسلام والغرب
وهو ما بدا في رسالة الكتاب والغرض منه، وفي تقسيمه إلى قسمين: قسم عن الغرب، وقسم عن الإسلام، والفوارق بينهما منثورة فيه ولكنها متركزة أكثر في القسم الثاني.
إن عظمة بيجوفيتش لا تقتصر فحسب على إنتاجه الفكري، ولكنها تمتد لتشمل مواقفه العملية، فلقد وُضِع الرجل على المحكّ العملي، بل لا نبالغ أن نقول إنه قد وضِع في صراع ضخم، أضخم بكثير من إمكانياته، وصار عليه أن يواجه طوال حياته أمواجا عاصفة: بدءا بالشيوعية، ثم النازية -أثناء الاجتياح الألماني ليوغسلافيا في الحرب العالمية الثانية- ثم الشيوعية من جديد، ثم القومية الصربية، ثم البراجماتية الغربية التي خانت كل مبادئها وأسلمت شعبا للذبح والقتل، ثم طرحت حلا يشرعن ما أُخِذ بالسيف. وهو في كل هذا لم ينبهر ويُفتن، أو يضعف ويسقط.
فهكذا كان نموذجا علميا وعمليا لفهم الغرب ودراسته برؤية إسلامية.
نشر في الخليج أون لاين
وهنا لا ننسى أن نشكر د. محمد يوسف عدس الذي نقل هذا الكتاب إلى العربية، وكانت ترجمته لا تقل روعة ولا دقة ولا حسن فهم وصياغة عن النص الأصلي، فصار النص الفلسفي بقلمه نصا بديعا ذا لمسة أدبية متفننة. انظر مقدمة المترجم د. محمد يوسف عدس لكتاب بيجوفيتش "الإعلان الإسلامي" ص17 وما بعدها، د. محمد يوسف عدس: مذكرات علي عزت بيجوفيتش. ننقل هنا عن النسخة العربية الصادرة في القاهرة، عام 1997م، عن دار الجامعات، بينما أخذت معلومة أن أفكار الكتاب كانت في ذهن مؤلفه قبل عشرين سنة من صدوره من المقدمة التي كتبها المترجم لطبعة دار الشروق الصادرة في القاهرة 2013م. وقد كانت للمؤلف تقديم وملاحظات على الطبعة العربية أدرجت في طبعة دار الجامعات، ثم كتب تعليقا آخر على الكتاب في كتابه "هروبي إلى الحرية" ص227 وما بعدها، من الطبعة العربية التي صدرت عن دار الفكر في دمشق عام 2002م. فالماديون مثلا يرون صلب المسيح فشلا، بينما يراه المسيحيون لحظة النجاح ورمز الخلاص، بينما "نجاح" محمد r أمر لا يرحب به المسيحيون.
Published on December 13, 2015 13:34
December 11, 2015
اقتباس أوروبا من المسلمين (1) التحرر من الكنيسة والإقطاع
لم تكن نكبة المسلمين العسكرية أمام أوروبا هي النكبة الوحيدة، بل صحبتها نكبة ثقافية ناتجة عن تناقض كامل بين النموذجين الإسلامي والغربي، فلم يكن ممكنا فرض النموذج الغربي على العالم الإسلامي إلا في ظل حراب الاستعمار.
لقد كان الخلاف الذي بين الشرق والغرب مثيرًا للتأمل، ومن خلال الاحتكاك بين الطرفين في الأندلس وصقلية والشام ومصر -أيام الحروب الصليبية- استوعب الطرفان كثيرًا من أوجه الخلاف بينهما، لكن اليد الحضارية العليا كانت للمسلمين، بينما جاءت أيام الاحتلال والاستبداد لينقلب الحال، وقديمًا بدأ المصلحون عندهم يقتبسون من أفكارنا وأنظمتنا وعقائدنا؛ لكنهم وُوجهوا بالكنيسة والاستبداد، حتى إذا تخلصوا من ذلك وبدأت نهضتهم كان نقلهم لما لدينا أسهل وأيسر وأسرع.
ومما ينبغي أن يُلاحظ في هذا الاقتباس أمران؛ الأول: أن ثمة اقتباسات اجتماعية حضارية طويلة بطيئة سارت عبر الزمن سيرًا بطيئًا؛ لطبيعة ما بين الطرفين من خلافات، وهي أمور لا يمكن نسبتها لأحد بعينه ولا لحادثة بعينها، والثاني: هي الاقتباسات الواعية التي قام بها مفكرون وفلاسفة ومصلحون، وهؤلاء –كعادة كل معتز بدينه وهويته- كان حريصًا على اقتباس العلم والفكرة دون جذورها العقدية الدينية، بل كان أكثرهم اقتباسًا لما لدى المسلمين هم أكثرهم هجومًا على المسلمين ودينهم ونبيهموأهم ما يسعنا الكلام عنه في سياق الاقتباس الغربي من العالم الإسلامي ثلاثة أمور هي: التحرر من سلطتي الكنيسة والإقطاع، تقوية المجتمع، تكوين "أمة واحدة"، فنجعل هذه السطور القادمة لإلقاء الضوء على "التحرر من سلطتي الكنيسة والإقطاع"، ثم نترك الآخريْن لمقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
على الرغم من أن المسيحية لا تحتوي نُظمًا سياسية واجتماعية –اللهم إلا الزواج والأحكام الشخصية الضيقة جدًّا- فإن تطور المسيحية في الغرب كان ناحيًا إلى السيطرة على المؤسسات الدنيوية، وفيما كانت بداية المسيحيين انعزالية عن السلطة والدولة؛ نابعة من العبارة الشهيرة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فإن الكنيسة سعت تدريجيًّا لتكون فوق السلطة وفوق الإمبراطور، وبلغت ذروة هذا في الثورة البابوية التي قادها البابا جريجوري السابع في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وبلغ انتصاره فيها حد أن اضطر الإمبراطور الألماني هنري الرابع إلى أن يتقدم إلى البابا (1077م) حافيًا لابسًا الصوف في البرد الرهيب ليقف على باب قلعة كانوسا –حيث البابا- يطلب الغفران، ويعلن التوبة لثلاث ليال حتى عفا عنه الباباوبالإضافة إلى هذه السلطة الروحية القاهرة للكنيسة، فقد كانت لها أملاك وأراضٍ تمثل إقطاعيات كبيرة، وكان على الأجراء والفلاحين أن يعملوا يومًا في الأسبوع في أملاك الكنيسة بلا أجر، وكان لها –بعد هذا- فرق عسكرية تطورت أحيانًا إلى جيوش كبيرة لا تتبع إلا البابا؛ تدافع عن أملاك الكنيسة أو تضم إليها أملاكًا جديدة؛ وبهذا كانت الكنيسة سلطة أخرى بجوار سلطة الأباطرة، فهي تملك السلطة الروحية منفردة وتشارك في السلطة الدنيويةولم تقصر الكنيسة في استعمال سلطتها متى أرادت واستطاعت، فقد أعلنتها حربًا شعواء على أي اكتشاف علمي أو نظرية قد تخالف الكتاب المقدس، وأباحت لنفسها التفتيش في ضمائر الناس ومعاقبة من لم تره مخلصًا للمسيحية، فاندلع في أوروبا عصر النزاع بين العلم والكنيسة، فكانت سنوات الدماء والمحارق.
وبينما كانت الكنيسة هي السلطة الروحية، فقد كان الملوك والنبلاء هم السلطة الواقعية، حيث تنقسم الأرض في أوروبا إلى إقطاعيات، يملك كل إقطاعية منها نبيل من النبلاء، وهو يمتلك من عليها من العمال والفلاحين، الذين يعملون في الخدمة ثم يدفعون له الضريبة، التي تستنزف معظم دخلهم؛ مقابل الحماية التي يوفرها السادة الإقطاعيون لهم، وكان هذا النظام فلسفة ضاربة بجذورها إلى أرسطو، وتحظى برضا المسيحية كذلك، فقد "كان القديس توماس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم، وأنه وسيلة اقتصادية في عالم يجب أن يكدح فيه بعض الناس ليمكنوا بعضهم الآخر من الدفاع عنهم"لقد كان العالم الإسلامي يمثل النموذج المشرق لهذا السواد الحالك، فهناك لا وساطة بين العبد وربه، ولا اعتراف لكهان أو علماء، ولا يملك أحد بيع صكوك الغفران أو إصدار قرارات الحرمان، ونظام الإقطاع في أسوأ درجاته في العالم الإسلامي كان يمثل حلمًا وأملاً عظيمًا بالنسبة للأوروبي، ولا وجود لطبقة نبلاء في عالم الإسلام، بل إن العبيد المماليك صاروا أمراء وسلاطين، وكان منهم الأسود والأبيض والأحمر والأصفر، العربي والفارسي والتركي والديلمي والكردي والنوبي والحبشي والشركسي والتتري والأمازيغي، وأبناء المولدين من العرب وسائر الأجناس.
وما زال يتفاعل الظلم الداخلي في أوروبا، ويتعرفون على عالم الإسلام عبر سنين الاحتكاك والاستعمار، حتى ثارت الشعوب الأوروبية فحطمت سلطتي الكنيسة والإقطاع، وقالت بالشعار المشهور: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، وبدأت رحلتها في التحرر وتأسيس الجمهوريات.
كان لهذا التحرر آثار كثيرة فارقة، لكن الذي يهمنا في موضوع البحث، هو أثر انطلاق المجتمع الغربي من قيوده، ومساهمة أفراده ومجموعاته في صنع الحضارة بغير تقييد ولا تعطيل، يحدوهم شعور أن البلاد صارت لهم، وأن خيرها عائد عليهم لا على طبقة من النبلاء أو القساوسة، ولهذا كانت المسئولية الاجتماعية للناس في صعود وازدهار.
نشر في ساسة بوست
مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية ص106 وما بعدها. ([2])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/395 وما بعدها، أنتوني بلاك: الغرب والإسلام ص193 وما بعدها. ([3])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/409، إدوار بروي: تاريخ الحضارات العام 3/284 وما بعدها. ([4])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/409. ([5])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/409 وما بعدها، إدوار بروي: تاريخ الحضارات العام 3/293 وما بعدها.
لقد كان الخلاف الذي بين الشرق والغرب مثيرًا للتأمل، ومن خلال الاحتكاك بين الطرفين في الأندلس وصقلية والشام ومصر -أيام الحروب الصليبية- استوعب الطرفان كثيرًا من أوجه الخلاف بينهما، لكن اليد الحضارية العليا كانت للمسلمين، بينما جاءت أيام الاحتلال والاستبداد لينقلب الحال، وقديمًا بدأ المصلحون عندهم يقتبسون من أفكارنا وأنظمتنا وعقائدنا؛ لكنهم وُوجهوا بالكنيسة والاستبداد، حتى إذا تخلصوا من ذلك وبدأت نهضتهم كان نقلهم لما لدينا أسهل وأيسر وأسرع.
ومما ينبغي أن يُلاحظ في هذا الاقتباس أمران؛ الأول: أن ثمة اقتباسات اجتماعية حضارية طويلة بطيئة سارت عبر الزمن سيرًا بطيئًا؛ لطبيعة ما بين الطرفين من خلافات، وهي أمور لا يمكن نسبتها لأحد بعينه ولا لحادثة بعينها، والثاني: هي الاقتباسات الواعية التي قام بها مفكرون وفلاسفة ومصلحون، وهؤلاء –كعادة كل معتز بدينه وهويته- كان حريصًا على اقتباس العلم والفكرة دون جذورها العقدية الدينية، بل كان أكثرهم اقتباسًا لما لدى المسلمين هم أكثرهم هجومًا على المسلمين ودينهم ونبيهموأهم ما يسعنا الكلام عنه في سياق الاقتباس الغربي من العالم الإسلامي ثلاثة أمور هي: التحرر من سلطتي الكنيسة والإقطاع، تقوية المجتمع، تكوين "أمة واحدة"، فنجعل هذه السطور القادمة لإلقاء الضوء على "التحرر من سلطتي الكنيسة والإقطاع"، ثم نترك الآخريْن لمقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
على الرغم من أن المسيحية لا تحتوي نُظمًا سياسية واجتماعية –اللهم إلا الزواج والأحكام الشخصية الضيقة جدًّا- فإن تطور المسيحية في الغرب كان ناحيًا إلى السيطرة على المؤسسات الدنيوية، وفيما كانت بداية المسيحيين انعزالية عن السلطة والدولة؛ نابعة من العبارة الشهيرة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فإن الكنيسة سعت تدريجيًّا لتكون فوق السلطة وفوق الإمبراطور، وبلغت ذروة هذا في الثورة البابوية التي قادها البابا جريجوري السابع في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وبلغ انتصاره فيها حد أن اضطر الإمبراطور الألماني هنري الرابع إلى أن يتقدم إلى البابا (1077م) حافيًا لابسًا الصوف في البرد الرهيب ليقف على باب قلعة كانوسا –حيث البابا- يطلب الغفران، ويعلن التوبة لثلاث ليال حتى عفا عنه الباباوبالإضافة إلى هذه السلطة الروحية القاهرة للكنيسة، فقد كانت لها أملاك وأراضٍ تمثل إقطاعيات كبيرة، وكان على الأجراء والفلاحين أن يعملوا يومًا في الأسبوع في أملاك الكنيسة بلا أجر، وكان لها –بعد هذا- فرق عسكرية تطورت أحيانًا إلى جيوش كبيرة لا تتبع إلا البابا؛ تدافع عن أملاك الكنيسة أو تضم إليها أملاكًا جديدة؛ وبهذا كانت الكنيسة سلطة أخرى بجوار سلطة الأباطرة، فهي تملك السلطة الروحية منفردة وتشارك في السلطة الدنيويةولم تقصر الكنيسة في استعمال سلطتها متى أرادت واستطاعت، فقد أعلنتها حربًا شعواء على أي اكتشاف علمي أو نظرية قد تخالف الكتاب المقدس، وأباحت لنفسها التفتيش في ضمائر الناس ومعاقبة من لم تره مخلصًا للمسيحية، فاندلع في أوروبا عصر النزاع بين العلم والكنيسة، فكانت سنوات الدماء والمحارق.
وبينما كانت الكنيسة هي السلطة الروحية، فقد كان الملوك والنبلاء هم السلطة الواقعية، حيث تنقسم الأرض في أوروبا إلى إقطاعيات، يملك كل إقطاعية منها نبيل من النبلاء، وهو يمتلك من عليها من العمال والفلاحين، الذين يعملون في الخدمة ثم يدفعون له الضريبة، التي تستنزف معظم دخلهم؛ مقابل الحماية التي يوفرها السادة الإقطاعيون لهم، وكان هذا النظام فلسفة ضاربة بجذورها إلى أرسطو، وتحظى برضا المسيحية كذلك، فقد "كان القديس توماس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم، وأنه وسيلة اقتصادية في عالم يجب أن يكدح فيه بعض الناس ليمكنوا بعضهم الآخر من الدفاع عنهم"لقد كان العالم الإسلامي يمثل النموذج المشرق لهذا السواد الحالك، فهناك لا وساطة بين العبد وربه، ولا اعتراف لكهان أو علماء، ولا يملك أحد بيع صكوك الغفران أو إصدار قرارات الحرمان، ونظام الإقطاع في أسوأ درجاته في العالم الإسلامي كان يمثل حلمًا وأملاً عظيمًا بالنسبة للأوروبي، ولا وجود لطبقة نبلاء في عالم الإسلام، بل إن العبيد المماليك صاروا أمراء وسلاطين، وكان منهم الأسود والأبيض والأحمر والأصفر، العربي والفارسي والتركي والديلمي والكردي والنوبي والحبشي والشركسي والتتري والأمازيغي، وأبناء المولدين من العرب وسائر الأجناس.
وما زال يتفاعل الظلم الداخلي في أوروبا، ويتعرفون على عالم الإسلام عبر سنين الاحتكاك والاستعمار، حتى ثارت الشعوب الأوروبية فحطمت سلطتي الكنيسة والإقطاع، وقالت بالشعار المشهور: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، وبدأت رحلتها في التحرر وتأسيس الجمهوريات.
كان لهذا التحرر آثار كثيرة فارقة، لكن الذي يهمنا في موضوع البحث، هو أثر انطلاق المجتمع الغربي من قيوده، ومساهمة أفراده ومجموعاته في صنع الحضارة بغير تقييد ولا تعطيل، يحدوهم شعور أن البلاد صارت لهم، وأن خيرها عائد عليهم لا على طبقة من النبلاء أو القساوسة، ولهذا كانت المسئولية الاجتماعية للناس في صعود وازدهار.
نشر في ساسة بوست
مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية ص106 وما بعدها. ([2])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/395 وما بعدها، أنتوني بلاك: الغرب والإسلام ص193 وما بعدها. ([3])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/409، إدوار بروي: تاريخ الحضارات العام 3/284 وما بعدها. ([4])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/409. ([5])ول ديورانت: قصة الحضارة 14/409 وما بعدها، إدوار بروي: تاريخ الحضارات العام 3/293 وما بعدها.
Published on December 11, 2015 12:05
December 8, 2015
هل تكون الطائرة الروسية شرارة المعركة الحضارية؟
كان من منافع إسقاط الطائرة الروسية إثارة الانتباه إلى الوضع التركي ضمن معادلة القوى العالمية، ولعل السؤال الأبرز في هذا الموقف كان: أي إلى أحد ينبغي أن تطمئن تركيا لكونها عضوا في حلف الناتو؟ وأحسب أن الخلاف الحاصل في تقييم الموقف التركي هو في أصله خلاف حول إجابة هذا السؤال.
إن موقع تركيا الجغرافي يفرض عليها أن تكون جزءا من خريطة الصراع العالمي، حتى إنه ليُنسَب إلى نابليون قولا "لو كان العالم دولة واحدة لكانت عاصمتها القسطنطينية"، فإن هي لم تختر أن تكون قوة عالمية فَرَضَ عليها موقعها أن تكون ملعبا لصراع القوى العالمية، وما كلمة "جسر بين الشرق والغرب" إلا لفظ مهذب لكونها موقع صراع الشرق والغرب كما يقول الباحث التركي كِرِم أوكْتِم في كتابه "الأمة الغاضبة".
لقد سوَّق أتاتورك أنه يريد تجنيب تركيا الصراعات العالمية، وفي الحقيقة فإنه ألقاها في حضن الغرب، ثم لم يستطع خلفاؤه إلا أن يدخلوا صراحة وعلنا ضمن المعسكر الغربي فتكون تركيا جزءا من حلف الناتو منذ تأسيسه لتكون خط المواجهة الأول بين الشيوعية والرأسمالية، وهكذا فرضت الجغرافيا نفسها على السياسة وكانت تركيا من أكبر ساحات الصراعات المخابراتية في العالم.
يختلف المحللون حول ما إذا كانت روسيا تعيد تقديم نفسها من جديد كقوة عظمى تندفع للحفاظ على مصالحها ولو بتسيير الجيوش أو ما إذا كانت مجرد ورقة غربية يلقيها المعسكر الأمريكي ليزيد بها استنزاف القوى ويطيل بها أمد الصراع حتى يحصد هو الثمرة في النهاية كما حدث ذلك كثيرا.. وسواء أكان هذا أو ذاك فإن الواقع أن تركيا –بموقعها الجغرافي- ستكون طرفا في الصراع، وهي من ستدفع الثمن!
عَبْرَ الحقبة العلمانية في تركيا نشب الصراع بين اتجاهيْن عمليا؛ اتجاه يرى عظمتها في اللحاق بركب الغرب، واتجاه يرى عظمتها في إحياء هويتها وعمقها الإسلامي، كلا الاتجاهيْن فشلا على المستوى القريب، فلقد ظلت أوروبا ترفض ضمَّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتعاملت مع هذا الملف بكل صلف عبر مفاوضات استمرت نحو نصف قرن، وأما الاتجاه الإسلامي فلم يستطع انتزاع سلطة يحقق بها برنامجه فلم يأت الغد على اجتماع مجلس الدول الصناعية الإسلامية الثمانية الذي أطلقه أربكان إلا وكان العسكر ينقلبون عليه، وأحسب أن أربكان ولو أتيحت له الفرصة ما كان ليبلغ شيئا عظيما فإن حكام العرب والمسلمين لا يعملون لمصلحة بلادهم بل لمصلحة الغرب نفسه.
جاء أردوغان بسياسة جديدة، نظَّر لها أحمد داود أوغلو، وهي تصفير المشاكل مع الجيران وتعميق العلاقات الاقتصادية واستعادة العلاقات الثقافية والتاريخية مع الشعوب العربية والتركية في آسيا والبلقانية في أوروبا، مع الإصرار على الانضمام للاتحاد الأوروبي وتبني السياسة الغربية في معايير الإدارة. وعشية اشتعال الثورات العربية كانت هذه السياسة تمضي قدما نحو النجاح، بل صرَّح أردوغان في حلقة لبرنامج بلا حدود (12 يناير 2011م) أن هذه السياسة نجحت، وليس هذا بالأمر السهل إذ أن كل جيران تركيا هم أعداء تاريخيين لها، إما منذ الدولة العثمانية (كروسيا وجورجيا وأرمينيا وإيران واليونان وبلغاريا) أو بفعل الحقبة العلمانية (كالعراق وسوريا وبقية الدول العربية في البحر المتوسط).
لهذا كانت الثورات العربية اختبارا أخلاقيا كبيرا أمام السياسة التركية، بل مأزقا تاريخيا هائلا، ولو أن هدف السياسة التركية رعاية مصالحها وما حققته من إنجازات لكان الأولى لها الانحياز للأنظمة، غير أنها لما انحازت إلى الشعوب انهارت علاقاتها السياسية بدول المحيط هذه ودخلت في نفق جديد، وليس يخفى أن هذا الاختبار انقسم بشأنه أعضاء حزب العدالة والتنمية أنفسهم، ففيمَ صار عبد الله جل يشعر بأن تركيا بحاجة إلى إعادة تقييم لسياستها في الشرق الأوسط يظل أردوغان سائرا في تلك السياسة.
والآن، بعد خمس سنوات من الثورات العربية والانقلابات العسكرية والمؤامرات الدولية، صارت تركيا من جديد وسط محيط معادٍ لها، فثورة سوريا أهاجت عليها إيران والعراق وسوريا وروسيا، وثورة مصر أهاجت عليها إسرائيل ومصر وقبرص واليونان، وهذا كله بالإضافة إلى النغمة العثمانية المتصاعدة أهاج الأرمن واليونان، ثم لا يُدرى حتى الآن كيف سينتهي الأمر مع روسيا، ولا كيف سيتصرف الناتو عمليا وواقعيا فيما إذا وقع اشتباك بين روسيا وتركيا.
هذا الموقف في وجه من وجوهه يعبر عن القاعدة المضطردة: انتصار الهوية (الأيدلوجيا) على الاقتصاد.
كسبت تركيا الشعوب التي صارت تتطلع إلى أردوغان كزعيم إسلامي حتى وإن لم يكن بيده الكثير ليفعله لهم، لكنها دخلت معركة عظام طاحنة مع أنظمة الجوار ومن ورائهم أنظمة الطغيان والاستبداد، وما بُنِي من السياسة في وضع السِّلْم –حيث تغيب الأيدلوجيا ويبرز الاقتصاد- صار مهددا في زمن الثورات والانقلابات والحروب حيث تنتصر الهوية على الاقتصاد، فما تبالي إيران كم تخسر من مال ورجال ولا يسقط الأسد، ولا تبالي الإمارات ودول الخليج كم تدفع ولا ينجح الإخوان، ولا يبالي العالم كله كم يموت من السوريين ولا كم يتدمر ولا يأتي "المتطرفون".. ولذلك تصاعد السؤال الفاصل الكبير: هل تنظر أوروبا إلى تركيا حقا كجزء منها ينبغي الحفاظ عليه أم تنتصر الهوية الأوروبية (التي تنفر من الأتراك) على المصالح لتلقي بها في أتون معركة مع الروس؟!!
يقول المؤرخ المشهور كريستوفر داوسون في كتابه "حركة تاريخ العالم" بأن الحضارات الكبرى عبر التاريخ إنما تأسست على الديانات الكبرى. وهو بقوله هذا يؤكد قاعدة انتصار الهوية على ما سواها من التصنيفات. وإن أضخم ما تعانيه الأمة –وتركيا في هذه اللحظة- أنها لم تعد امبراطورية في عالم الامبراطوريات، بل صارت ممزقة متناثرة، أقوى جزء منها مساحة صغيرة اكتفى بها أتاتورك، أو بالأحرى تُرِكت له، وسماها "تركيا".
فلئن وقر هذا لدى صانع القرار التركي، فأحسب أنه لا يملك بديلا سوى دعم الثورات العربية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأهمها قاطبة: الثورة المصرية، فإن تهدد نظام العسكر في مصر يفكُّ طوقا حديديا ضخما يقيد كل الشمال الإفريقي بل ويعزز قيدا يلقي بثقله على الشام ويفصم الحلف بين العسكر وإسرائيل وقبرص واليونان على مياه وغاز البحر المتوسط، وأقل فوائده أنه يخفف الضغط عن تركيا ويعيد فتح مساحات حركة في منطقة قد زادت ارتباكا.
إن الشعوب هي حاملة الهوية ووقودها وجيوشها، ولكن الشعوب وحدها أضعف من أن تغير معادلة القوى في زماننا هذا، ويبقى القرار أمام نظام لا يملك أوراق قوة لبقائه حضاريا سوى هذه الشعوب، لا سيما إن كان هذا النظام قد سار شوطا في الطريق، وصارت العودة عنه ذات ثمن فادح؛ أهونه: الثمن الأخلاقي، وأفدحه: ثمن الانهيار الحضاري وسقوط التجربة كلها.
المعارك الحضارية تستلزم قرارات في غاية الخطورة وفي غاية الصعوبة، ولكن على قدر المغارم تكون المغانم، ومثلما قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغير في عين العظيم العظائم
نشر في تركيا بوست
إن موقع تركيا الجغرافي يفرض عليها أن تكون جزءا من خريطة الصراع العالمي، حتى إنه ليُنسَب إلى نابليون قولا "لو كان العالم دولة واحدة لكانت عاصمتها القسطنطينية"، فإن هي لم تختر أن تكون قوة عالمية فَرَضَ عليها موقعها أن تكون ملعبا لصراع القوى العالمية، وما كلمة "جسر بين الشرق والغرب" إلا لفظ مهذب لكونها موقع صراع الشرق والغرب كما يقول الباحث التركي كِرِم أوكْتِم في كتابه "الأمة الغاضبة".
لقد سوَّق أتاتورك أنه يريد تجنيب تركيا الصراعات العالمية، وفي الحقيقة فإنه ألقاها في حضن الغرب، ثم لم يستطع خلفاؤه إلا أن يدخلوا صراحة وعلنا ضمن المعسكر الغربي فتكون تركيا جزءا من حلف الناتو منذ تأسيسه لتكون خط المواجهة الأول بين الشيوعية والرأسمالية، وهكذا فرضت الجغرافيا نفسها على السياسة وكانت تركيا من أكبر ساحات الصراعات المخابراتية في العالم.
يختلف المحللون حول ما إذا كانت روسيا تعيد تقديم نفسها من جديد كقوة عظمى تندفع للحفاظ على مصالحها ولو بتسيير الجيوش أو ما إذا كانت مجرد ورقة غربية يلقيها المعسكر الأمريكي ليزيد بها استنزاف القوى ويطيل بها أمد الصراع حتى يحصد هو الثمرة في النهاية كما حدث ذلك كثيرا.. وسواء أكان هذا أو ذاك فإن الواقع أن تركيا –بموقعها الجغرافي- ستكون طرفا في الصراع، وهي من ستدفع الثمن!
عَبْرَ الحقبة العلمانية في تركيا نشب الصراع بين اتجاهيْن عمليا؛ اتجاه يرى عظمتها في اللحاق بركب الغرب، واتجاه يرى عظمتها في إحياء هويتها وعمقها الإسلامي، كلا الاتجاهيْن فشلا على المستوى القريب، فلقد ظلت أوروبا ترفض ضمَّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتعاملت مع هذا الملف بكل صلف عبر مفاوضات استمرت نحو نصف قرن، وأما الاتجاه الإسلامي فلم يستطع انتزاع سلطة يحقق بها برنامجه فلم يأت الغد على اجتماع مجلس الدول الصناعية الإسلامية الثمانية الذي أطلقه أربكان إلا وكان العسكر ينقلبون عليه، وأحسب أن أربكان ولو أتيحت له الفرصة ما كان ليبلغ شيئا عظيما فإن حكام العرب والمسلمين لا يعملون لمصلحة بلادهم بل لمصلحة الغرب نفسه.
جاء أردوغان بسياسة جديدة، نظَّر لها أحمد داود أوغلو، وهي تصفير المشاكل مع الجيران وتعميق العلاقات الاقتصادية واستعادة العلاقات الثقافية والتاريخية مع الشعوب العربية والتركية في آسيا والبلقانية في أوروبا، مع الإصرار على الانضمام للاتحاد الأوروبي وتبني السياسة الغربية في معايير الإدارة. وعشية اشتعال الثورات العربية كانت هذه السياسة تمضي قدما نحو النجاح، بل صرَّح أردوغان في حلقة لبرنامج بلا حدود (12 يناير 2011م) أن هذه السياسة نجحت، وليس هذا بالأمر السهل إذ أن كل جيران تركيا هم أعداء تاريخيين لها، إما منذ الدولة العثمانية (كروسيا وجورجيا وأرمينيا وإيران واليونان وبلغاريا) أو بفعل الحقبة العلمانية (كالعراق وسوريا وبقية الدول العربية في البحر المتوسط).
لهذا كانت الثورات العربية اختبارا أخلاقيا كبيرا أمام السياسة التركية، بل مأزقا تاريخيا هائلا، ولو أن هدف السياسة التركية رعاية مصالحها وما حققته من إنجازات لكان الأولى لها الانحياز للأنظمة، غير أنها لما انحازت إلى الشعوب انهارت علاقاتها السياسية بدول المحيط هذه ودخلت في نفق جديد، وليس يخفى أن هذا الاختبار انقسم بشأنه أعضاء حزب العدالة والتنمية أنفسهم، ففيمَ صار عبد الله جل يشعر بأن تركيا بحاجة إلى إعادة تقييم لسياستها في الشرق الأوسط يظل أردوغان سائرا في تلك السياسة.
والآن، بعد خمس سنوات من الثورات العربية والانقلابات العسكرية والمؤامرات الدولية، صارت تركيا من جديد وسط محيط معادٍ لها، فثورة سوريا أهاجت عليها إيران والعراق وسوريا وروسيا، وثورة مصر أهاجت عليها إسرائيل ومصر وقبرص واليونان، وهذا كله بالإضافة إلى النغمة العثمانية المتصاعدة أهاج الأرمن واليونان، ثم لا يُدرى حتى الآن كيف سينتهي الأمر مع روسيا، ولا كيف سيتصرف الناتو عمليا وواقعيا فيما إذا وقع اشتباك بين روسيا وتركيا.
هذا الموقف في وجه من وجوهه يعبر عن القاعدة المضطردة: انتصار الهوية (الأيدلوجيا) على الاقتصاد.
كسبت تركيا الشعوب التي صارت تتطلع إلى أردوغان كزعيم إسلامي حتى وإن لم يكن بيده الكثير ليفعله لهم، لكنها دخلت معركة عظام طاحنة مع أنظمة الجوار ومن ورائهم أنظمة الطغيان والاستبداد، وما بُنِي من السياسة في وضع السِّلْم –حيث تغيب الأيدلوجيا ويبرز الاقتصاد- صار مهددا في زمن الثورات والانقلابات والحروب حيث تنتصر الهوية على الاقتصاد، فما تبالي إيران كم تخسر من مال ورجال ولا يسقط الأسد، ولا تبالي الإمارات ودول الخليج كم تدفع ولا ينجح الإخوان، ولا يبالي العالم كله كم يموت من السوريين ولا كم يتدمر ولا يأتي "المتطرفون".. ولذلك تصاعد السؤال الفاصل الكبير: هل تنظر أوروبا إلى تركيا حقا كجزء منها ينبغي الحفاظ عليه أم تنتصر الهوية الأوروبية (التي تنفر من الأتراك) على المصالح لتلقي بها في أتون معركة مع الروس؟!!
يقول المؤرخ المشهور كريستوفر داوسون في كتابه "حركة تاريخ العالم" بأن الحضارات الكبرى عبر التاريخ إنما تأسست على الديانات الكبرى. وهو بقوله هذا يؤكد قاعدة انتصار الهوية على ما سواها من التصنيفات. وإن أضخم ما تعانيه الأمة –وتركيا في هذه اللحظة- أنها لم تعد امبراطورية في عالم الامبراطوريات، بل صارت ممزقة متناثرة، أقوى جزء منها مساحة صغيرة اكتفى بها أتاتورك، أو بالأحرى تُرِكت له، وسماها "تركيا".
فلئن وقر هذا لدى صانع القرار التركي، فأحسب أنه لا يملك بديلا سوى دعم الثورات العربية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأهمها قاطبة: الثورة المصرية، فإن تهدد نظام العسكر في مصر يفكُّ طوقا حديديا ضخما يقيد كل الشمال الإفريقي بل ويعزز قيدا يلقي بثقله على الشام ويفصم الحلف بين العسكر وإسرائيل وقبرص واليونان على مياه وغاز البحر المتوسط، وأقل فوائده أنه يخفف الضغط عن تركيا ويعيد فتح مساحات حركة في منطقة قد زادت ارتباكا.
إن الشعوب هي حاملة الهوية ووقودها وجيوشها، ولكن الشعوب وحدها أضعف من أن تغير معادلة القوى في زماننا هذا، ويبقى القرار أمام نظام لا يملك أوراق قوة لبقائه حضاريا سوى هذه الشعوب، لا سيما إن كان هذا النظام قد سار شوطا في الطريق، وصارت العودة عنه ذات ثمن فادح؛ أهونه: الثمن الأخلاقي، وأفدحه: ثمن الانهيار الحضاري وسقوط التجربة كلها.
المعارك الحضارية تستلزم قرارات في غاية الخطورة وفي غاية الصعوبة، ولكن على قدر المغارم تكون المغانم، ومثلما قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغير في عين العظيم العظائم
نشر في تركيا بوست
Published on December 08, 2015 13:01
December 6, 2015
في فهم روح الغرب (2)
ذكرنا في المقال الماضي أن من لوازم فهم الغرب محاولة استكناه الكليات الجامعة للجزئيات، وسبر أغوار التفاصيل وصولا للقواعد الكلية التي تفسرها معا، وضربنا لذلك أمثلة من كلام بعض كبار المفكرين.
ولو سمحت لنفسي أن أقول في هذا الموطن قولا، فإن الملاحظة التي تشيع في الكتابات الغربية والمتغربة هي ذلك الغرام بالتفريق بين ما يمكن الجمع بينهما، أو لنقل التطرف في التفريق وإثبات التناقض، وضيق الذهن عن قبول فكرة تبدو جامعة، فأفلاطون -مثلا- أراد أن يكون الولاء للوطن فحمله ذلك على محاربة الولاء للأسرة فنادى بشيوع النساء والأولاد كي لا ينشأ ولاء للأسرة الصغيرة يهدد الولاء للوطن، رغم أنه يمكن الجمع بين الولاء للأسرة الصغيرة والولاء للوطن وليس حتميا -بل ولا راجحا- أن يثور تناقض بين الولاء. ويتكرر هذا المظهر في الحرب بين المسيحية والعلم حتى صار التناقض ظاهرا بين كل ما هو علم وكل ما هو دين، حتى ولو كان العلم ما زال فرضية لم يبلغ الحقيقة العلمية وحتى لو كان الدين ليس مناقضا للعلمونحن حين نطالع الكتب الغربية التي تحلل الغرب، ينبغي أن نميز بين ثلاث فئات منها:
الأولى: هي الكتب والدراسات العامة التي تناقش طبيعة الغرب وروحه وحضارته وخصائصه، وقد ذهب المؤلفون مذاهب شتى في المدح والقدح، والثناء والهجاء، ولكن محصلة هذه الكتب تفضي إلى مادة ثرية تفيدنا من وجهين؛ الأول: هو التعرف على الأصول والثوابت والكليات التي يعتنقها الغرب كما يراها بنفسه، والثاني: هو التعرف على ما يناقشونه من هذه الأصول والثوابت (ويرون أن مناقشته ونقده وتجاوزه أمر مطلوب ومرغوب) وما هو بمثابة المقدس الذي لا يُمسّ ولا يُناقش (ويرون أن التمسك به والازدياد منه هو المطلوب والمرغوب).
والثانية: هي الكتب المتخصصة في بعض العلوم، ولكنها لم تكتف بالوصف بل قامت بدور التحليل والتشريح واستخلاص الثوابت والأصول والكليات من أجزاء هذه العلوم.
والثالثة: هي الكتب التي تناقش مشكلات الغرب على وجه التحديد، وهذه الفئة تُعَدُّ عظيمة الفائدة من وجهين؛ الأول: هو التعرف على هذه المشكلات وحجمها، والثاني: هو تحليل الطرق الغربية في معالجتها.
وإذا أردنا أن نضرب مثالا على هذه الفئات الثلاث، نقول:
1. يُعَدُّ كتاب "انتحار الغرب" مثالا على محاولة تحليل الروح الغربية وطبيعتها، ويرى المؤلفان –ريتشارد كوك وكريس سميث- أن روح الغرب تقوم على ستة أعمدة: المسيحية، التفاؤل، العلم، النمو، الليبرالية، الفردية. ويدور الكتاب حول كيف تتعرض هذه الأسس الأصيلة للتآكل والانهيار في الوقت المعاصر، ولكنها تمتلك من المرونة ما قد تتمكن به من إعادة بناء نفسها، فهو يمزج بين النظرة المتخوفة مع الأمل والتفاؤل والقدرة على استيعاب المتغيرات والاستجابة الصحية لها.
2. كذلك يُعَدُّ كتاب "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها" من أفضل الكتب التي اطلعت عليها في مجال استخلاص الخلاصة من تفاصيل كثيرة ومتنوعة، وإن تكن الخلاصة نفسها مبذولة في كثير من الدراسات التي كتبها نُقَّاد الرأسمالية مثل نورينا هيرتس في كتابها "السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية"، كذلك كافة ما كُتِب عن هيمنة الشركات الكبرى عابرة القارات والتي تمثل الآن قوميات جديدة بما صار لها من ولاء عابر للحدود. وهذه الدراسات تكشف كيف أن الديمقراطية في صيغتها الغربية تحت ظل الرأسمالية ليست أكثر من "ملكية جديدة" تمارس استبدادا "ناعما"، وهو ما يصعب أن يفهمه كثير من أهل بلادنا الذين يعانون الملكية الصريحة والاستبداد الخشن.
3. ومن أبرز الكتب التي تناقش مشكلات الغرب كتاب "موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب"، ويأخذ هذا الكتاب قيمته من كونه واحدا من أوسع الكتب مبيعا، كما أن مؤلفه باتريك بوكانان كان مستشارًا لثلاثة رؤساء أمريكيين، وكاد يكون مرشحا للحزب الجمهوري مرتين في الأعوام (1992، 1996م) ثم ترشح للرئاسة عن حزب "الإصلاح" عام (2000م). وفي هذا الكتاب لوعة وحسرة ونقاش متوتر للمشكلات التي تهدد الحضارة الغربية، والتي تنحصر في شيخوخة السكان وقلة عددهم في مقابل تكاثر غير الغربيين وهجراتهم المتزايدة إلى الغرب، وكيف أن شيخوخة السكان راجعة إلى الثقافة "المسمومة" والأفكار "المسرطنة" التي تبيح -تحت عنوان الحرية- الإجهاض واللواط والعزوف عن الزواج والإنجاب وتحارب المسيحية.
ومما يجعل الكتاب ذا أهمية خاصة كونه صادرا عن غربي، ومسؤول، ومن قادة الحزب الجمهوري المعبر عن الجانب المتشدد في السياسة، وأنه موجه بالأساس إلى الغرب، وأنه وجد صدى بينهم. فكل ذلك يفضي إلى قراءته باهتمام ثم تحليل منطلقاته في علاج ما طرحه من مشكلات.
ومن المهم التنبيه عليه في هذا السياق أن مسألة البحث عن الأصول والكليات والثوابت لا تتعلق بالمدح أو الذم للحضارة الغربية بقدر ما تتعلق بالفهم، فإبصار ما تميزوا فيه وفهمه ضروري ومهم بذات قدر إبصار ما انحرفوا فيه وفهمه أيضا.
نشر في الخليج أون لاين
وهذا يفسر كيف راجت في الغرب نظرية دارون أكثر بكثير من إثباتات مندل، فنظرية دارون تذهب إلى نفي الإله ومنح المخلوقات القدرة الذاتية على التطور، بينما تجارب مندل -التي لا تثبت أكثر من القدرة على تحسين النوع الواحد بتدخلات خارجية- لا تخدم هذا التناقض بين العلم والدين. الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن "الأعمال الكاملة" 2/246، 247. انظر مثلا: ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة ص108، د. نازك سابا يارد: الرحالون العرب وحضارة الغرب ص32، 33.
ولو سمحت لنفسي أن أقول في هذا الموطن قولا، فإن الملاحظة التي تشيع في الكتابات الغربية والمتغربة هي ذلك الغرام بالتفريق بين ما يمكن الجمع بينهما، أو لنقل التطرف في التفريق وإثبات التناقض، وضيق الذهن عن قبول فكرة تبدو جامعة، فأفلاطون -مثلا- أراد أن يكون الولاء للوطن فحمله ذلك على محاربة الولاء للأسرة فنادى بشيوع النساء والأولاد كي لا ينشأ ولاء للأسرة الصغيرة يهدد الولاء للوطن، رغم أنه يمكن الجمع بين الولاء للأسرة الصغيرة والولاء للوطن وليس حتميا -بل ولا راجحا- أن يثور تناقض بين الولاء. ويتكرر هذا المظهر في الحرب بين المسيحية والعلم حتى صار التناقض ظاهرا بين كل ما هو علم وكل ما هو دين، حتى ولو كان العلم ما زال فرضية لم يبلغ الحقيقة العلمية وحتى لو كان الدين ليس مناقضا للعلمونحن حين نطالع الكتب الغربية التي تحلل الغرب، ينبغي أن نميز بين ثلاث فئات منها:
الأولى: هي الكتب والدراسات العامة التي تناقش طبيعة الغرب وروحه وحضارته وخصائصه، وقد ذهب المؤلفون مذاهب شتى في المدح والقدح، والثناء والهجاء، ولكن محصلة هذه الكتب تفضي إلى مادة ثرية تفيدنا من وجهين؛ الأول: هو التعرف على الأصول والثوابت والكليات التي يعتنقها الغرب كما يراها بنفسه، والثاني: هو التعرف على ما يناقشونه من هذه الأصول والثوابت (ويرون أن مناقشته ونقده وتجاوزه أمر مطلوب ومرغوب) وما هو بمثابة المقدس الذي لا يُمسّ ولا يُناقش (ويرون أن التمسك به والازدياد منه هو المطلوب والمرغوب).
والثانية: هي الكتب المتخصصة في بعض العلوم، ولكنها لم تكتف بالوصف بل قامت بدور التحليل والتشريح واستخلاص الثوابت والأصول والكليات من أجزاء هذه العلوم.
والثالثة: هي الكتب التي تناقش مشكلات الغرب على وجه التحديد، وهذه الفئة تُعَدُّ عظيمة الفائدة من وجهين؛ الأول: هو التعرف على هذه المشكلات وحجمها، والثاني: هو تحليل الطرق الغربية في معالجتها.
وإذا أردنا أن نضرب مثالا على هذه الفئات الثلاث، نقول:
1. يُعَدُّ كتاب "انتحار الغرب" مثالا على محاولة تحليل الروح الغربية وطبيعتها، ويرى المؤلفان –ريتشارد كوك وكريس سميث- أن روح الغرب تقوم على ستة أعمدة: المسيحية، التفاؤل، العلم، النمو، الليبرالية، الفردية. ويدور الكتاب حول كيف تتعرض هذه الأسس الأصيلة للتآكل والانهيار في الوقت المعاصر، ولكنها تمتلك من المرونة ما قد تتمكن به من إعادة بناء نفسها، فهو يمزج بين النظرة المتخوفة مع الأمل والتفاؤل والقدرة على استيعاب المتغيرات والاستجابة الصحية لها.
2. كذلك يُعَدُّ كتاب "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها" من أفضل الكتب التي اطلعت عليها في مجال استخلاص الخلاصة من تفاصيل كثيرة ومتنوعة، وإن تكن الخلاصة نفسها مبذولة في كثير من الدراسات التي كتبها نُقَّاد الرأسمالية مثل نورينا هيرتس في كتابها "السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية"، كذلك كافة ما كُتِب عن هيمنة الشركات الكبرى عابرة القارات والتي تمثل الآن قوميات جديدة بما صار لها من ولاء عابر للحدود. وهذه الدراسات تكشف كيف أن الديمقراطية في صيغتها الغربية تحت ظل الرأسمالية ليست أكثر من "ملكية جديدة" تمارس استبدادا "ناعما"، وهو ما يصعب أن يفهمه كثير من أهل بلادنا الذين يعانون الملكية الصريحة والاستبداد الخشن.
3. ومن أبرز الكتب التي تناقش مشكلات الغرب كتاب "موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب"، ويأخذ هذا الكتاب قيمته من كونه واحدا من أوسع الكتب مبيعا، كما أن مؤلفه باتريك بوكانان كان مستشارًا لثلاثة رؤساء أمريكيين، وكاد يكون مرشحا للحزب الجمهوري مرتين في الأعوام (1992، 1996م) ثم ترشح للرئاسة عن حزب "الإصلاح" عام (2000م). وفي هذا الكتاب لوعة وحسرة ونقاش متوتر للمشكلات التي تهدد الحضارة الغربية، والتي تنحصر في شيخوخة السكان وقلة عددهم في مقابل تكاثر غير الغربيين وهجراتهم المتزايدة إلى الغرب، وكيف أن شيخوخة السكان راجعة إلى الثقافة "المسمومة" والأفكار "المسرطنة" التي تبيح -تحت عنوان الحرية- الإجهاض واللواط والعزوف عن الزواج والإنجاب وتحارب المسيحية.
ومما يجعل الكتاب ذا أهمية خاصة كونه صادرا عن غربي، ومسؤول، ومن قادة الحزب الجمهوري المعبر عن الجانب المتشدد في السياسة، وأنه موجه بالأساس إلى الغرب، وأنه وجد صدى بينهم. فكل ذلك يفضي إلى قراءته باهتمام ثم تحليل منطلقاته في علاج ما طرحه من مشكلات.
ومن المهم التنبيه عليه في هذا السياق أن مسألة البحث عن الأصول والكليات والثوابت لا تتعلق بالمدح أو الذم للحضارة الغربية بقدر ما تتعلق بالفهم، فإبصار ما تميزوا فيه وفهمه ضروري ومهم بذات قدر إبصار ما انحرفوا فيه وفهمه أيضا.
نشر في الخليج أون لاين
وهذا يفسر كيف راجت في الغرب نظرية دارون أكثر بكثير من إثباتات مندل، فنظرية دارون تذهب إلى نفي الإله ومنح المخلوقات القدرة الذاتية على التطور، بينما تجارب مندل -التي لا تثبت أكثر من القدرة على تحسين النوع الواحد بتدخلات خارجية- لا تخدم هذا التناقض بين العلم والدين. الطهطاوي: تخليص الإبريز، ضمن "الأعمال الكاملة" 2/246، 247. انظر مثلا: ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة ص108، د. نازك سابا يارد: الرحالون العرب وحضارة الغرب ص32، 33.
Published on December 06, 2015 08:13
December 4, 2015
جذور النكبة الثقافية الإسلامية
لم يكن الاحتلال مجرد تفوق عسكري، بل سعى المحتلون إلى زراعة ثقافتهم ونظمهم وقيمهم وأفكارهم وفلسفتهم في الشعوب المُحْتَلَّة، واهتموا بصناعة النخب، التي تتشرب روحهم وتمكينهم من مواطن الحكم والتأثير، ثم سلموا إليهم تلك البلاد قبل أن يرحلوا منها، فواصل هؤلاء مسيرة أولئك!
وأهم ما يعنينا في هذا الموضوع هو رصد الفوارق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي والعلماني؛ لكي نرى بعدها كيف أن الغرب والشرق كالزيت والماء لا يختلطان إلا قَسْرًا وبعمليات كيمائية قاهرة، فهما يحملان من التاريخ والثقافة والنظم وطبائع البشر ما يجعلهما متناقضان، فما كان بالإمكان فرض النموذج الغربي إلا بتحطيم النظام الإسلامي.
وبطبيعة الحال فليس بالإمكان تتبع كل الفوارق المؤثرة في هذا المقام؛ لذا اقتصر حديثنا على أهم هذه الفوارق؛ لا سيما ما كان منها مؤثر في سياق حديثنا هذا.
(1)الحضارة والدين
يمثل هذا أهم الفوارق قاطبة؛ ذلك أن العرب كانوا قومًا بلا حضارة ولا فلسفة ولا دولة حتى نزل عليهم الإسلام، فأنشأهم خلقًا آخر؛ فجعلهم ذوي تصور ورؤية ودولة وحضارة، وكل هذا مستمد منه، بينما جذور الغرب الحضارية امتداد للفلسفة اليونانية، وما تعرضت له من تعديل وتبديل على مر العصور، فلما اعتنق قسطنطين المسيحية لم يكن للدين كبير أثر في تعديل شكل الحياة؛ بل تأثرت المسيحية بما هو موجود(هذا الفارق له آثاره الهائلة على كل السياق التاريخي والحضاري للشرق والغرب، فالدين أساس رئيسي في نهضة الشرق وانبعاثه وحضارته، بينما لم يكن الأمر كذلك في الغرب.
(2)الصلات الاجتماعية
تُحَدِّد طبيعة الصلات الاجتماعية شكل المجتمع وفكره وميوله، ومن ثم شكل الدولة ونظامها وسياستها.
ففي صلات الأقارب والأرحام سنجد أن النظرة الأوروبية تميل إلى العائلة الصغيرة على حساب العائلة الكبيرة أو العشيرة، وعلى خلاف القرآن فإن الكتاب المقدس أميل إلى الفرد والأسرة الصغيرة والخلاص الفردي، وعبر التاريخ كان الغربيون أميل إلى الزواج المتأخر وإنجاب أطفال أقل؛ إذ كان الطلاق مستحيلاً عمليًّا، وكان زواج الأقارب المقربين ممنوعًا؛ فعمل كل ذلك على منع تكوُّن العائلات الكبيرة أو العشائر، وبعضُ الغربيين(وفي العلاقات بين الطبقات الاجتماعية سنجد أن العلاقة الأهم في أوروبا هي "الإقطاع" الذي أنتج علاقة السيد – الخادم، وكان المجتمع الغربي عبارة عن سلسلة من أناس يخضعون لبعضهم من أول الملك، الذي كان يخدمه طبقة من النبلاء، والذين هم أسياد لرجال أقل منهم في الرتبة، وهكذا حتى الوصول إلى الفلاح البسيط الذي يزرع الأرض، وجدير بالذكر أن الإقطاع كان وراثيًّا، فكانت علاقة السيد والخادم قابلة للتجديد عند موت أحدهما، وهو ما انطبق على كل العلاقات: الحاكم والمواطن، الراعي والزبون، صاحب العمل والأجير، الضابط والجندي.. وهكذا، وهذا خلاف رئيسي مع العلاقات الاجتماعية في الإسلام؛ إذ لا يملك أحد أحدًا، ولا يملك أن يورثه ويُعاد توزيع الأرض إن مات صاحبها أو نزعت منه، ولم يكن لأصحاب الأملاك تأثير في الحرب والسياسة مثلما كان في أوروبا((3)التصور السياسي
كان للجغرافيا حكمها في تشكيل الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي تمتد جذورها الأولى إلى اليونان؛ فلقد مثلت فلسفة اليونان الأساس الراسخ للحضارة الغربية في سائر عصورها حتى الآن، فحتى روما عندما صارت الأقوى عسكريًّا كانت الأضعف حضاريًّا فأسرتها فلسفة اليونان، وحين تَنَصَّر قسطنطين فإن "النصارى ترومت ولم تتنصر الروم"(
خريطة اليونان وتظهر فيها طبيعته الجبلية الخشنة
إن "اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسل من الجبال القاحلة تقسم الأرض مما يجعل الانتقال البري من واد إلى واد أمرًا عسيرًا.. ومن ثم فقد نمت في السهول الخصبة مجتمعات محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع، كان البعض منهم يشد عصا الترحال إلى عبر البحر لإنشاء مستوطنات، وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ القرن الثامن ق. م"(وكان الأثر المباشر لهذه الجغرافيا أن تأصلت فكرة "الوطنية" في النفسية اليونانية؛ حتى تحولت إلى "عنصرية" تنفر من الأجانب وتحتقرهم، ولا ترى بأسًا في قهرهم(وإذا كانت الفلسفة اليونانية هي جذور الحضارة الغربية، فإن عنصر "الوطنية" هذا صار من "لوازم الطبيعة الأوروبية" التي لا تختلف كثيرًا عن جغرافيا اليونان؛ إذ "التنازع على البقاء فيها شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار والأجناس الأوروبية في نطاقٍ طبعيٍ دائمٍ، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي؛ ولذلك كان التصور السياسي في أوروبا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالاً تامًّا"؛ بينما "المناطق الطبيعية في آسيا [وإفريقيا] واسعة جدًّا، وتشتمل على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثيرة للبشر؛ فالمملكة في آسيا تجنح بحكم الطبيعة إلى السعة والعموم"(
خريطة أوروبا الطبيعية ويظهر انتشار الجبال لا سيما في المناطق الوسطى والجنوبية
ولذلك فبينما "كان مجتمع اللغة والدين، والشعور التاريخي المشترك والوعي العام لدى المواطنين والغرباء في العالم الإسلامي متوجهًا كله إلى الأمة، كان هذا موجهًا في أوروبا نحو القوميات، ولا يزال هذا إحدى السمات المميزة للثقافة السياسية الأوروبية"(***
وحيث لا اتفاق في أسس الحضارة ومنبعها، ولا في صورة العلاقات الاجتماعية التي تحدد طبيعة النظم والثقافة والسلوك، ولا في التصور السياسي –الداخلي أو الخارجي- النابع من طبيعة مجتمعاتهم وجغرافية بلدانهم؛ حيث كان هذا فإننا إزاء اختلاف هائل، سنعرض له إن شاء الله تعالى في المقالات القادمة.
نشر في ساسة بوست
([1])لأن المسيحية أصلاً ليس لها تطبيقات سياسية واجتماعية، فهي مجرد تعاليم أخلاقية روحية، ولعل هذا ما دعا قسطنطين لاعتناقها لتوفير اقتتال داخلي في الإمبراطورية الرومانية. ([2]) مثل: جاك جودي في دراسته "تطور العائلة والزواج في أوروبا" (صَدَر في كامبريدج 1983م). ([3])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص117، 118. ([4])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص119. ([5])القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة ص173. ([6])انظر مثلاً: برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 1/183، رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص19. ([7])برتراند رسل: حكمة الغرب 1/30. ([8])برتراند رسل: حكمة الغرب 1/100، 143، 157، أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 1/93. ([9])مونتسكيو: روح الشرائع 2/146. ([10])الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص144، 145 باختصار وتصرف بسيط. ([11])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص121.
وأهم ما يعنينا في هذا الموضوع هو رصد الفوارق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي والعلماني؛ لكي نرى بعدها كيف أن الغرب والشرق كالزيت والماء لا يختلطان إلا قَسْرًا وبعمليات كيمائية قاهرة، فهما يحملان من التاريخ والثقافة والنظم وطبائع البشر ما يجعلهما متناقضان، فما كان بالإمكان فرض النموذج الغربي إلا بتحطيم النظام الإسلامي.
وبطبيعة الحال فليس بالإمكان تتبع كل الفوارق المؤثرة في هذا المقام؛ لذا اقتصر حديثنا على أهم هذه الفوارق؛ لا سيما ما كان منها مؤثر في سياق حديثنا هذا.
(1)الحضارة والدين
يمثل هذا أهم الفوارق قاطبة؛ ذلك أن العرب كانوا قومًا بلا حضارة ولا فلسفة ولا دولة حتى نزل عليهم الإسلام، فأنشأهم خلقًا آخر؛ فجعلهم ذوي تصور ورؤية ودولة وحضارة، وكل هذا مستمد منه، بينما جذور الغرب الحضارية امتداد للفلسفة اليونانية، وما تعرضت له من تعديل وتبديل على مر العصور، فلما اعتنق قسطنطين المسيحية لم يكن للدين كبير أثر في تعديل شكل الحياة؛ بل تأثرت المسيحية بما هو موجود(هذا الفارق له آثاره الهائلة على كل السياق التاريخي والحضاري للشرق والغرب، فالدين أساس رئيسي في نهضة الشرق وانبعاثه وحضارته، بينما لم يكن الأمر كذلك في الغرب.
(2)الصلات الاجتماعية
تُحَدِّد طبيعة الصلات الاجتماعية شكل المجتمع وفكره وميوله، ومن ثم شكل الدولة ونظامها وسياستها.
ففي صلات الأقارب والأرحام سنجد أن النظرة الأوروبية تميل إلى العائلة الصغيرة على حساب العائلة الكبيرة أو العشيرة، وعلى خلاف القرآن فإن الكتاب المقدس أميل إلى الفرد والأسرة الصغيرة والخلاص الفردي، وعبر التاريخ كان الغربيون أميل إلى الزواج المتأخر وإنجاب أطفال أقل؛ إذ كان الطلاق مستحيلاً عمليًّا، وكان زواج الأقارب المقربين ممنوعًا؛ فعمل كل ذلك على منع تكوُّن العائلات الكبيرة أو العشائر، وبعضُ الغربيين(وفي العلاقات بين الطبقات الاجتماعية سنجد أن العلاقة الأهم في أوروبا هي "الإقطاع" الذي أنتج علاقة السيد – الخادم، وكان المجتمع الغربي عبارة عن سلسلة من أناس يخضعون لبعضهم من أول الملك، الذي كان يخدمه طبقة من النبلاء، والذين هم أسياد لرجال أقل منهم في الرتبة، وهكذا حتى الوصول إلى الفلاح البسيط الذي يزرع الأرض، وجدير بالذكر أن الإقطاع كان وراثيًّا، فكانت علاقة السيد والخادم قابلة للتجديد عند موت أحدهما، وهو ما انطبق على كل العلاقات: الحاكم والمواطن، الراعي والزبون، صاحب العمل والأجير، الضابط والجندي.. وهكذا، وهذا خلاف رئيسي مع العلاقات الاجتماعية في الإسلام؛ إذ لا يملك أحد أحدًا، ولا يملك أن يورثه ويُعاد توزيع الأرض إن مات صاحبها أو نزعت منه، ولم يكن لأصحاب الأملاك تأثير في الحرب والسياسة مثلما كان في أوروبا((3)التصور السياسي
كان للجغرافيا حكمها في تشكيل الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي تمتد جذورها الأولى إلى اليونان؛ فلقد مثلت فلسفة اليونان الأساس الراسخ للحضارة الغربية في سائر عصورها حتى الآن، فحتى روما عندما صارت الأقوى عسكريًّا كانت الأضعف حضاريًّا فأسرتها فلسفة اليونان، وحين تَنَصَّر قسطنطين فإن "النصارى ترومت ولم تتنصر الروم"(

خريطة اليونان وتظهر فيها طبيعته الجبلية الخشنة
إن "اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسل من الجبال القاحلة تقسم الأرض مما يجعل الانتقال البري من واد إلى واد أمرًا عسيرًا.. ومن ثم فقد نمت في السهول الخصبة مجتمعات محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع، كان البعض منهم يشد عصا الترحال إلى عبر البحر لإنشاء مستوطنات، وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ القرن الثامن ق. م"(وكان الأثر المباشر لهذه الجغرافيا أن تأصلت فكرة "الوطنية" في النفسية اليونانية؛ حتى تحولت إلى "عنصرية" تنفر من الأجانب وتحتقرهم، ولا ترى بأسًا في قهرهم(وإذا كانت الفلسفة اليونانية هي جذور الحضارة الغربية، فإن عنصر "الوطنية" هذا صار من "لوازم الطبيعة الأوروبية" التي لا تختلف كثيرًا عن جغرافيا اليونان؛ إذ "التنازع على البقاء فيها شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار والأجناس الأوروبية في نطاقٍ طبعيٍ دائمٍ، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي؛ ولذلك كان التصور السياسي في أوروبا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالاً تامًّا"؛ بينما "المناطق الطبيعية في آسيا [وإفريقيا] واسعة جدًّا، وتشتمل على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثيرة للبشر؛ فالمملكة في آسيا تجنح بحكم الطبيعة إلى السعة والعموم"(

خريطة أوروبا الطبيعية ويظهر انتشار الجبال لا سيما في المناطق الوسطى والجنوبية
ولذلك فبينما "كان مجتمع اللغة والدين، والشعور التاريخي المشترك والوعي العام لدى المواطنين والغرباء في العالم الإسلامي متوجهًا كله إلى الأمة، كان هذا موجهًا في أوروبا نحو القوميات، ولا يزال هذا إحدى السمات المميزة للثقافة السياسية الأوروبية"(***
وحيث لا اتفاق في أسس الحضارة ومنبعها، ولا في صورة العلاقات الاجتماعية التي تحدد طبيعة النظم والثقافة والسلوك، ولا في التصور السياسي –الداخلي أو الخارجي- النابع من طبيعة مجتمعاتهم وجغرافية بلدانهم؛ حيث كان هذا فإننا إزاء اختلاف هائل، سنعرض له إن شاء الله تعالى في المقالات القادمة.
نشر في ساسة بوست
([1])لأن المسيحية أصلاً ليس لها تطبيقات سياسية واجتماعية، فهي مجرد تعاليم أخلاقية روحية، ولعل هذا ما دعا قسطنطين لاعتناقها لتوفير اقتتال داخلي في الإمبراطورية الرومانية. ([2]) مثل: جاك جودي في دراسته "تطور العائلة والزواج في أوروبا" (صَدَر في كامبريدج 1983م). ([3])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص117، 118. ([4])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص119. ([5])القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة ص173. ([6])انظر مثلاً: برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 1/183، رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص19. ([7])برتراند رسل: حكمة الغرب 1/30. ([8])برتراند رسل: حكمة الغرب 1/100، 143، 157، أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 1/93. ([9])مونتسكيو: روح الشرائع 2/146. ([10])الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص144، 145 باختصار وتصرف بسيط. ([11])أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص121.
Published on December 04, 2015 01:29