محمد إلهامي's Blog, page 55

September 29, 2015

قراءة في كتاب “التجربة النهضوية التركية”

-       الكتاب: التجربة النهضوية التركية: كيف قاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى التقدم؟-       المؤلف: محمد زاهد جُل-       دار النشر: مركز نماء للبحوث والدراسات - السعودية-       سنة النشر: 2013م-       عدد الصفحات: 240
رغم مُضِيّ ثلاثة عشر عاما على بدء تجربة أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" في تركيا، وبرغم ما أسفرت عنه هذه التجربة من تغير كبير في تركيا: سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ومن تغير في المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وبرغم ما حققه أردوغان من شعبية عالية في الأوساط العربية.. برغم كل هذا إلا أن الكتب المتوفرة عن هذه التجربة في لغة العرب قليلة للغاية، وأقل منها تلك التي كتبها أتراك في رصد وتقييم هذه التجربة.
من هنا يأخذ هذا الكتاب الذي بين أيدينا أهميته، إذ مؤلفه باحث تركي يتقن العربية، وهو مقرب من حزب العدالة والتنمية، فهو إن لم يكن أحد المساهمين في التجربة ولو بقدر قليل فإنه في الحد الأدنى شاهد عيان عليها، فيكون لروايته قيمة إضافية.
ويزيد في أهمية الكتاب أن مؤلفه صرَّح في مقدمته بأنه قَصَد إلى تأليفه لأن "مرحلة الربيع العربي نفسها تحتاج إلى الدراسات العميقة التي تفهم التجربة النهضوية التركية في كافة مجالاتها"، إذ أن أسباب إخفاقات المحاولات العربية إنما كان "لافتقاده الرؤية المتكاملة للمشروع النهضوي، ولافتقاره إلى إخوة صادقين يشاركونه المعاناة والرغبة الصادقة بتحقيق نهضته دون طمع ولا خداع ولا غدر ولا دوافع استعمارية ولا هيمنة امبريالية ولا عولمة مستعلية ولا شركات عابرة للقارات متوحشة، وإنما بأخوة مؤكدة ومصالح مشتركة ومنافع متبادلة".
ولمحاولة تحقيق هذا الهدف قَسَّم المؤلف كتابه إلى تمهيد وأربعة فصول وخاتمة.
يستعرض التمهيد لما سَمَّاه المؤلف "مفتاح النهضة التركية"، ويقصد به "الهوية الإسلامية" للشعب التركي، إذ هي المفتاح الذي أصرت التجربة العلمانية التركية على اطراحه بل ومحاربته ففشلت دائما في صناعة نهضة، فما من نهضة لشعب إلا وكانت "الهوية" حاضرة فيها. ولقد كان حزب العدالة والتنمية مستوعبا لهذا المعنى كما كان وريث المحاولات الإسلامية الممتدة عبر القرن السابق.
ويستعرض الفصل الأول الأسس الفكرية للنهضة التركية، وهو فصل تاريخي يلقي الضوء سريعا على تجربة الإصلاح التركية منذ أواخر العصر العثماني وتأسيس الجمهورية، ومختصر هذا الفصل أن الدولة العثمانية ثبت ضعفها وفشلها في أواخر عمرها ولم يكن من بديل عن إصلاحات جذرية إلا أن الذي انتصر في النهاية هم العلمانيون فأسسوا الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وبهذا التأسيس نبتت مشكلات الهوية في المجالات كافة؛ ففي باب السياسة والدستور تفاقمت إشكاليات الديمقراطية والأحزاب –كوسيلة تمثيل شعبي- مما جعل الديمقراطية نفسها موضع صراع كبير بين الشعب وبين الدولة، يختار الشعب من يمثله فيقوم الجيش بانقلابات عسكرية تعيد الدورة من جديد. كما تفاقمت مشكلة العلاقة بين الدين والدولة، ومن منهما يسيطر على مساحة الآخر أو يهيمن على مساحات التداخل بينهما، وقد أثمر كل هذا إشكاليات اقتصادية، فالاقتصاد جزء من السياسة التي هي رؤية شاملة، كما أثمر مشكلات في التعامل مع العرقيات والطوائف التركية التي انعكست آثارها على انسجام الشعب التركي وحقوق الإنسان.
كما يستعرض الفصل الثاني الرؤية التربوية والتعليمية للنهضة التركية، وكيف أدرك حزب العدالة والتنمية أن التعليم جزء لا يتجزأ من الهوية ومن أسباب التنمية، وهو حين أدرك هذا فإنه استدرك فشل العثمانيين حين لم يستطيعوا إنتاج إصلاحات تتلافى سقوطهم وفشل العلمانيين حين اعتنقوا الهوية الأوروبية وأنزلوا تطبيقاتها على التربية والتعليم، ثم إنه أكمل مسيرة المحاولات الإسلامية لمقاومة العلمانية منذ عدنان مندريس معتقدا أن التعليم هو ركن أساسي في صناعة الإنسان التركي الذي هو محور النهضة المنشودة.. وطفقت باقي المباحث تستعرض فقرات من برنامج الحزب في شأن التعليم، كما استعرضت بالأرقام إنجاز الحزب في مجال التربية والتعليم: المدارس والجامعات والبحث العلمي.
وفي الفصل الثالث حديث عن النهضة الاقتصادية التركية، وشمل هذا الفصل الإنجازات الاجتماعية والقانونية القضائية أيضا، وقد احتشد هذا الفصل كذلك بوصف رؤية الحزب لهذه المجالات وبإنجازاته –مدعومة بالأرقام- في هذه الأبواب، مع التأكيد في كل باب على استيعاب الحزب لموقع تركيا وإمكاناتها الاقتصادية وما تستطيع أن تقوم به من استثمار لتاريخها وجغرافيتها وثقافتها في صناعة النهضة.
ويتناول الفصل الرابع العلاقات الدبلوماسية والسياسة الخارجية التركية، وكيف أن تركيا وضعت نفسها في الحضن الأوروبي تماما منذ تأسيس الجمهورية، وكانت أوروبا تحتاجها –لموقعها الفريد- لتكون ضمن خطوطها الدفاعية الأمامية ضد الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو مما جعل انضمامها إلى حلف الناتو وعلاقتها بإسرائيل تحصيل حاصل. إلا أن أوروبا أعرضت عن تركيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ولم تعد ترحب باقترابها، ومن ثم كانت رؤية حزب العدالة والتنمية تعتمد على فتح العمق الجغرافي والإسلامي لنفسها، لتكون ذات بيئة إقليمية آمنة، ولتكون موضع اعتماد وركن أساس في استقرار المنطقة، مع تطويع سياستها الخارجية لتناسب البيئة السياسية المتغيرة. وأفرد المؤلف مبحثا في هذا الفصل لرصد تأثير التجربة التركية على العالم العربي، وهو من أفضل مباحث الكتاب وأطولها، ورأى أن التجربة التركية تفيد العرب في تقديم نموذج لحكم يجمع بين الإسلام والمعاصرة، إلا أن هذا النموذج تعترضه ثلاثة مخاطر: خطر الصراع الداخلي: بين الإسلاميين والعلمانيين وبين الأقليات غير المسلمة خصوصا والثورات لا تتحمل الاختلافات والشقاقات وتحتاج إلى الاتفاق، وخطر الفراغ الدستوري الذي هو ضرورة ديمقراطية والتي لم يستطع أردوغان –كما يقول المؤلف- أن يحسمه رغم تسع سنوات من حكمه، وخطر التخويف الدولي الآتي من العالم الغربي.
ثم تأتي الخاتمة لتطرح سؤال "كيف يمكن الاستفادة عربيا من التجربة التركية" وفيها نصائح عامة مجملة تتركز في خمسة؛ الأول: امتلاك رؤية واضحة تعتمد على جعل الشعب فوق السياسيين لا تابعا خاضعا لهم، والثاني: أن السلطة خدمة لا مغنم وأن يكون هذا بالعمل والإنجاز لا بالشعارات، والثالث: محاسبة المسؤول عما أنجزه مما وعد به وجعل هذا شرطا لبقائه في السلطة، والرابع: العمل المؤسسي وفق خطط مدروسة لا العمل العشوائي، والخامس: وصول النهضة إلى كل أنحاء الوطن لا تركزها في منطقة بعينها أو في طبقة بعينها.
لقد كُتِب هذا الكتاب في أواخر عام 2012، حين كان الربيع العربي في واحدة من أفضل لحظاته، تبدو الثورات جميعها سائرة في طريق النجاح، وقد تولى حكم مصر رئيس إسلامي لا يخفي رغبته في اقتفاء التجربة التركية.. ولا ريب أنه لو كتب الآن في ظل الخريف العربي –بعد سلسلة الانقلابات- وربما الخريف التركي أيضا بعد الأزمات التي حاصرت أردوغان لكان سيكون على منوال آخر.
وهنا أول ما نأخذه على الكتاب: أنه أراد تقديم تجربة نجحت في ظل استقرار سياسي، وداخل نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها ليكون دليلا لتجارب ثورية تقوم بالأساس على كسر هذه النظم التي لم تسمح ولا بعشر معشار ما سمحت به العلمانية التركية طوال تاريخ الجمهورية.
إلا أن المأخذ الأهم الذي ننقد به الكتاب هو أنه لم يقدم حتى هذه التجربة..
لا ريب أن تقييم المرء لكتاب إنما يعتمد في الأساس على توقعاته منه، فإن جاء محققا لتوقعاته مجيبا عن إشكاليته أو كان أعلى منها كان المرء منبهرا، وإن كان دون ذلك كان القارئ محبطا.. ولقد كنت مع هذا الكتاب من المحبطين!فالكاتب باحث مقرب من حزب العدالة والتنمية، وعلى اطلاع بما لا يطلع عليه العامة من الدهاليز، وكنت أتوقع أن يأتي تحليله للتجربة التركية عميقا ومهموما بالمفاصل والخطوات المهمة والكبرى.. إلا أن هذا لم يكن.
لقد كانت المساحة الأطول مرصودة لسرد إنجازات حزب العدالة والتنمية في كافة المجالات، فتحول معظم الكتاب إلى نشرة إخبارية أو تقريرا حكوميا عن الإنجازات، لأنه مجرد سرد للبرنامج ثم سرد للأرقام.. لذلك فمن أراد أن يقرأ "حصاد" التجربة التركية فسيجد في هذا الكتاب بغيته.. لكن من أراد أن يفهم ما وراء هذه النجاحات فسيعود محبطا لأن سر النهضات ليس في نصوص البرامج ولا في ظواهر الأرقام. وحتى ما كان في الكتاب من التاريخ أو من أثر التجربة التركية على العالم العربي كان الكلام عنه سريعا ومختصرا وإن كان لا يخلو من عمق ورصانة. وجاءت الخاتمة بنصائح نظرية وسريعة أيضا يمكن لكل صحفي أو متابع أن يكتب مثلها، فهي أقل من المنتظر من رجل مقرب من الحزب ويعرف دهاليزه.
إن الكتاب في مجمله دعائي لا تحليلي، وهذه المشكلة أقابلها للمرة الثانية في كتاب تركي يعرض للتجربة التركية (الكتاب الأول كان: رجب طيب أردوغان:قصة زعيم) مما يحمل على الظن بأن الأتراك أنفسهم غير واثقين في استقرار نجاحهم ولذلك يسيطر عليهم التسويق له بدلا من تقديمه كتجربة يستفاد منها.. وهذا الكتاب يعترف أن المعركة الديمقراطية لم تنته بعد حتى بعد تسع سنوات من التصدر للحكم.
ومن العيوب الخطيرة للكتاب، وهو عيب كذلك في كتاب قصة زعيم، هو تجنبهم التام للحديث عن الخارج وتأثيراته في التجربة التركية، إنهم يسوقونها كتجربة محلية بحتة قامت ونجحت لمجرد قدرتها على التعامل مع الشعب.. وهذا الخطاب هو خطاب صحفي دعائي، بينما في ساحة السياسة يكون العامل الخارجي أقوى بكثير من العامل الداخلي، خصوصا في منطقتنا الإسلامية الواقعة تحت الهيمنة الغربية منذ قرن على الأقل. ولئن شئنا إنضاجا حقيقيا للفكر الحركي الإسلامي فلا بد من أن يُعرض هذا الباب في التجربة بأمانة وعدل رغم خشية التشنيع عليه ممن يزايدون أو لا يفهمون طبائع الحكم والسياسة وموازين القوى.
ومن المدهش في هذا الكتاب: الاعتماد على مصادر عربية لا تركية، فالكاتب تركي ومقرب من الحزب وسياسته، إلا أنه ينقل عن المصادر العربية التي كتبت عن الشأن التركي! حتى المصادر التركية ككتاب داود أوغلو "العمق الاستراتيجي" ينقل عن ترجمته العربية لا عن الأصل التركي، وهي مسألة غريبة جدا، إذ لا يحتاج العرب أن يقرأوا في شأن التجربة التركية أقوال المحللين والدارسين العرب، وإلا فإن هذا مبذول سهل المنال، إنما يطلبون عند التركي بضاعة لا يجدونها عند العربي، لكن الذي حدث هو أننا ذهبنا إلى الكتاب فوجدنا بضاعتنا رُدَّت إلينا!

نشر في تركيا بوست
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2015 08:30

September 27, 2015

خلايا القرامطة النائمة في الخليج (5)

مما يثير التأمل في شأن القرامطة أنهم ظلوا قوة مرهوبة الجانب على رغم عددهم وعتادهم، تنهار أمامهم جيوش الخلافة التي تبلغ أضعافهم، ويتكرر انتصارهم على من لا يُتَخيَّل أنهم يقفون أمامهم ساعة من نهار، بل لقد كان جيش الخلافة الرئيسي وقائده العام مؤنس الخادم –وهو صاحب جهاد واسع للروم وغيرهم- يجبن عن مواجهتهم ويتحصن منهم بالجغرافيا ويكتفي بالدفاع.
ما كان ذلك إلا لأن القرامطة امتلكوا أمريْن: صلابة عقدية مع قائد فذ صلب وإن كان صغير السن.. وبذلك استطاعوا أن يكونوا قوة ضاربة في عصور الضعف والاضطراب التي ضربت أطنابها في أنحاء قصر الخلافة العباسية. واستطاعوا أن يبلغوا من الفجور والإفساد في الأرض وارتكاب الجرائم ما لم يسبقه إليهم أحد في تاريخ الإسلام.
وما إن انهار هذان الأمران: الصلابة العقدية والقيادة الصلبة حتى انهار خبر القرامطة واضمحلوا حتى قاربوا على الاختفاء من المشهد السياسي، وقد كان ذلك حين نبت فيهم داعية عُرِف في التاريخ بالداعية الأصفهاني، والذي استطاع أن يكسر قوة القيادة الواحدة ويكسر معها الصلابة العقدية إذ دعا إلى نفسه وبلغ نفوذه أن يأمر الرجل بقتل أخيه فيفعل، واغتال كبار قادة القرامطة، لكنهم استطاعوا أن يتداركوا الأمر فاغتالوه. ولم يلبث وقت طويل حتى مات زعيم القرامطة أبو طاهر القرمطي (رمضان 332هـ).
هنا فقط بدأت شمس القرامطة في الذبول ثم الغروب، وفي هذا درس كبير لمن يتولى التخطيط وصناعة القرار في عالمنا المعاصر، والذي يعاني من خطر القرامطة الجدد!!
نعود إلى التاريخ.. الذي سردنا أوله منذ أربعة مقالات سابقة (ج1، ج2، ج3، ج4)
مات زعيم القرامطة أبو طاهر القرمطي الذي ارتكب من الجرائم ما لم يرتكبه أحد قبله في تاريخ الإسلام، من انتهاك الحرم الشريف ونزع الحجر الأسود وقتل الحجاج في الطريق إلى وفي جوار الكعبة.
ولا ريب أن خبر موت القرمطي نزل بردا وسلاما على المسلمين في سائر البلاد..
ولقد جاء موته نعمة عظمى من الله تعالى في ذلك الوقت، فإن الخلافة العباسية قد صارت إلى أسوأ وأقبح حال في هذه الأيام، وصارت أضعف كثيرا كثيرا مما كانت عليه إذ كانت تواجه القرامطة.. لقد ساء الحال أكثر بعد الانقلابات العسكرية المتكررة على الخلفاء: المقتدر بالله ثم القاهر بالله ثم الراضي بالله، ومن بعد الراضي صار الخليفة لا يمثل شيئا في ميزان القوة بل صار أمراء العراق يتصارعون من حوله فيتكرر بينهم الانقلابات العسكرية على بعضهم ليحوز كل منهم على منصب الرجل الثاني "أمير الأمراء" فلا يلبث فيه أحدهم إلا شهورا ثم ينقلب عليه آخر، وصار عسكر الخلافة أشبه بالمرتزقة، تكثر فيهم التحزبات والانقسامات، وهم إن وجدوا المال رضوا وقنعوا وإن لم يجدوه أخذوا في السلب والنهب والانتقال إلى ولاء أمير آخر، فما إن ينتقلون حتى تنتعش آمال هذا الأمير في الانقلاب فتتكرر الدورة التاريخية القصيرة: يستولي على بغداد، تقابله أزمة الأموال، ينتقل ولاء الجند إلى غيره، ينهزم أمام الانقلابي الجديد.. وهكذا!
لقد قُتِل الخلفاء: المقتدر بالله، والقاهر بالله، والمتقي لله بانقلابات عسكرية، والخليفة الوحيد الذي لم يُقتل وهو الراضي بالله ورث الخلافة ضعيفا وكان عمره خمس وعشرون سنة ثم لم يمهله الأجل فمات وهو في الحادية والثلاثين من عمره فحسب، فوصلت الخلافة إلى المستكفي بالله الذي توسل الجند أن يجعلوه خليفة مقابل أموال وعدهم ببذلها واستخلاصها من أهل بيت الخلافة وعهود وضمانات ألا يروا منه سوءا.. وهو ما كان!
وهكذا لطف الله بعباده إذ ضعف حال القرامطة في الوقت الذي صار حال الخلافة بائسا.
ولقد حاول أبو عبد الله البريدي، أمير البصرة وأحد أمراء الحرب في الزمن المضطرب، أن يجذب القرامطة إلى صفه في الصراع الدائر بين الأمراء، فحين وُلِد لأبي طاهر مولود (331هـ) أهدى إليه هدايا كثيرة، منها مَهْدٌ من ذهب مرصع بالجواهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك. ولكن القدر كان أسبق إلى أبي طاهر من ثمرة التحالف معه.
تولى أمر القرامطة بعد وفاة أبي طاهر إخوته أبو العباس وأبو القاسم وأبو يعقوب، وكانوا ذوي اتفاق وانسجام في الرأي، وكذلك وزراؤهم السبعة.. وهذا دليل على مقدار الفراغ الذي تركه أبو طاهر وعلى انهيار أمر القيادة من بعده، إذ احتاجوا إلى "مجلس قيادة" لا يُعرف فيه زعيم بارز مسموع الكلمة وله مواهب القيادة.
وقد دلَّ على هذا أنهم حين دخلوا على خط صراع الأمراء الدائر في العراق اكتفوا بدعم طرف من المتصارعين، وهو أمير البصرة، بينما كان المتوقع في الزمن القديم، أيام زعامة أبي طاهر قبل فتنة الداعية الأصفهاني، أن يجتاحوا العراق كلها بلا تردد.
لقد دعموا أبا الحسين البريدي، أخي أبي عبد الله البريدي ووارث الحكم من بعده في البصرة، ولكن هذا أساء الحكم والسياسة فانقلب عليه الجُند حتى هرب منهم إلى القرامطة، فحاولوا إعانته بجيش يرده إلى ملكه غير أنهم فشلوا بعد حصار فاشل للبصرة، فتركوا سبيل الحرب وسلكوا سبيل السياسة فَسَعَوْا في الصلح بينه وبين ابن أخيه الذي تولى أمر البريديين، فتمَّ لهم ذلك فعادوا إلى بلادهم. ثم بحث أبو الحسين عن حليف آخر يستند إليه في صراعه.
وبذلك يكون القرامطة في الخليج قد انتهوا عمليا، وخرجوا من المشهد السياسي الكبير، وإن كانوا قد بقوا كقوة إقليمية.
إلا أن القوة الإقليمية ما كان لها أن تقف أمام التغيرات الضخمة التي جرت على مشهد الخلافة، فقد ذهب عصر الأتراك، وجاء عصر البويهيين، واجتاح البويهيون بغداد وأنهوا صراع الأمراء فيه وصاروا أصحاب الأمر والنهي، وأصحاب الدولة التي تستقبل أيامها.
وكما يفعل أي ثائر أو ملك يؤسس لسلطته، بدأ معز الدولة البويهي في تحطيم كل مراكز القوى المتبقية من العهد القديم، ليفرض وضعا جديدا يكون فيه الوحيد صاحب اليد العليا والسلطة الكاملة، ولهذا دخل معز الدولة في صراعات مع سبعة أطراف منهم: القرامطة.
كان أول اشتباك بين القرامطة والبويهيين حين انطلق جيش معز الدولة (336هـ) للاستيلاء على البصرة معقل البريديين، فرأى القرامطة أن مسيره بالجيش اعتداء على منطقة نفوذهم في صحراء هذه المنطقة فأرسلوا إليه يستنكرون مسيره بغير استئذانهم أو مشورتهم، فما كان من معز الدولة إلا أن عامل مبعوث القرامطي بالاستعلاء واستهان بهم فلم يكتب ردا على رسالتهم وهددهم قائلا لحامل الرسالة: قل لهم من أنتم حتى تُسْتَأْذَنوا؟! بل أنتم المقصودون بعد البصرة لأفتح بلادكم.
كان طبيعيا أن تنهار العلاقة السلمية بعد هذا الرد، وهو ما استغله الوالي على عمان في ذلك الوقت يوسف بن وجيه، فراسل القرامطة (341هـ) يخبرهم أنه ينوي أن يهاجم البصرة، وأغراهم بالتحالف معه ومساعدته بجيش بري يساند جيشه البحري السائر في الخليج حتى البصرة، فتم له ما أراد، وكان دخول هذا اللاعب الجديد على ساحة الصراع يسبب همًّا كبيرا لمعز الدولة، فسعى لتركيز كل طاقته في تحصين البصرة وشحنها بالرجال والسلاح والعتاد وجعل قيادتها لوزيره المهلبي الذي أسرع بالوصول إلى البصرة حتى جاءها قبل جيش القرامطة ويوسف بن وجيه، وظل معز الدولة يتابع أمره ويمده بالأعداد والعتاد، حتى اندلعت الحرب بين الجيشين واستمرت أياما ثم كانت نهايتها لصالح المهلبي الذي هزم يوسف بن وجيه والقرامطة وأسر بعضا من قادتهم واستولى على مراكبهم وأسلحتهم، فانزاح همُّ معز الدولة وثبتت سلطته ونفوذه وعلت يده على القرامطة.
وهكذا انتهى عصر نفوذ القرامطة، وسكنت أحوالهم وانكمشوا، ولم يُعرف لهم خبر طيلة عصر القوة البويهي، والذي بلغ ذروته في عهد عضد الدولة البويهي، ولما مات عضد الدولة كانت الوهجة الأخيرة للقرامطة!
فما إن توفي عضد الدولة حتى طمع القرامطة في الاستيلاء على بغداد نفسها!! فخرج جيش منهم إلى بغداد حتى صاروا قريبا منها (373هـ)، لكن صمصام الدولة البويهي استطاع مفاوضتهم وردهم عن بغداد مقابل مبلغ كبير من المال. وكان للقرامطة نائب في بغداد من أثر اتفاق سابق بينهم وبين البويهيين، ويبدو أنه انتعشت آماله أيضا بموت الرجل القوي عضد الدولة فاصطدم بصمصام الدولة، فقبض عليه هذا الأخير وحبسه، فحرَّك القرامطة جيشا (375هـ) إلى الكوفة بزعامة اثنين من مجلس السادة للقرامطة، فبايعا لشرف الدولة البويهي –الأخ المنافس على السلطة- فدخلوا بهذا على خط الصراع السياسي الرئيسي بين الأخوين، فاستوليا على الكوفة وأخذا في جمع الأموال وجباية أهل الكوفة. ثم تطور الأمر فأرسلوا جيشا بقيادة الحسن بن المنذر -وهو من كبار القرامطة- إلى "الجامعين". فلم يعد أمام صمصام الدولة إلا الحرب فأخرج جيشه واستنفر معهم العرب، فعبروا الفرات وقاتلوا الحسن وهزموه هزيمة منكرة وقع فيها هو أسيرا، فأرسل القرامطة جيشا آخر أكثر عددا فاشتعلت المعركة بينهما وأسفرت عن نصر كبير لجيوش صمصام الدولة حتى لقد قُتِل قادة جيش القرامطة أو أُسِروا، ثم انطلقت الجيوش إلى الكوفة لكن القرامطة هناك كانوا قد هربوا منها فلم يلحقوهم، وكانت هذه الهزيمة من أقوى ما نزل بهم، وبها خُتِمت في السياسة والقتال صحيفة أخبارهم!
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2015 11:53

الحج في قلب الصراع الحضاري

أركان الإسلام من أظهر الفوارق ودلائل التناقض بين طبيعة الإسلام ومنهجه وبين الفكر الغربي المادي ونموذجه الحضاري.
1. إن النطق بالشهادتين يرتب أوضاعا جديدة قانونية وشرعية وحقوقية لمن تلفظ بهما في الدولة الإسلامية، لأن قاعدة الدولة الإسلامية وصلبها وروحها وقطبها هو "الدين".. مع مساحة واسعة من الحرية والتسامح مع الأديان الأخرى، ولكن في ظل الهيمنة الكاملة للإسلام.. ولئن كان ثمة خلاف حول تولي غير المسلمين وظائف مهمة في الدولة الإسلامية، فإن الذي لا خلاف فيه بين العلماء هو هيمنة النظام الإسلامي على وظيفة الدولة.
بينما لم يزل الأساس النظري (ودعنا الآن من الأوضاع العملية) في النموذج الغربي أن يكون الدين أمرا شخصيا بحتا.. ومن المكفول لكل أحد أن يتنقل بين ما شاء من الأديان، أو يخرج من دين ثم يعود إليه ثم يخرج منه، أو أن يبقى بلا دين بالكلية.. ذلك أن عمود هذا النموذج هو "الدولة" لا الدين! ففي حين يتحسس النظام الإسلامي لكل ما يهدد "الدين"، بل ولا يعتبر تهديد الدولة الإسلامية نفسها خطرا إلا لكونه تهديدا للدين التي هي قائمة على شأنه.. يكون النظام الغربي حساسا لما يهدد "الدولة"، ولهذا فإن قانون "الدولة" يعاقب على كل ما من شأنه تقسيمها أو إنشاء كيانات لا تعترف بسلطتها أو التعامل مع أطراف تعتبرهم تهديدا لها أو الدخول في مساحات تراها الدولة من خصوصياتها واحتكارها.
2. وتبدو الصلاة هنا مثالا في غاية القوة والوضوح على هذا الموضوع.. ففي الإسلام تحوز الصلاة قدرا كبيرا من مساحة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فرض على المرء في السفر والحضر والصحة والمرض، يصليها قائما أو قاعدا أو نائما أو يصليها إيماء أو بعينيه أو بقلبه.. ولا يُسمح بترك الصلاة، بل يختلف العلماء حول تارك الصلاة: هل هو مسلم أم كافر؟ ولا يعني اختلافهم هذا مجرد حكم أخروي ديني بل هو يرتب لأوضاع وعقوبات قانونية دنيوية، فهم لا يختلفون في عقوبته بالقتل (وانظر وتأمل ضخامة العقوبة) ولكن يختلفون هل يُقتل ردة أم يُقتل حدا.. يعني: هل عقوبة قتله هي عقوبة لارتداده عن الإسلام أم عقوبة على فعل يستوجب القتل مع كونه مسلما (كالقاتل، والزاني المحصن، والمفسد في الأرض).
بينما لن يحفل النموذج الغربي بشأن العبادة أصلا، ولن تجد في دساتيره أو قوانينه شيئا يوجب أو يحث على الالتزام بالعبادة.. بل هو يتكون ويقوم من أوله إلى آخره لكي يحفظ "كيان الدولة".. وهو بطبيعة الحال لا يهتم بأن يراقب عبادة أحد ولكنه ينمي كل لحظة أجهزته الأمنية والاستخباراتية ليراقب تصرفات كل مواطن في مجال "تهديد الدولة".. وهو لا يبالي في هذا أن يخرق ستر الناس وأن يتنصت على هواتفهم ورسائلهم وإنما يرى هذا من صميم حق السلطة.. كما أنه لا يسمح بوجود وسائل إعلام تمارس أو تحرض على "تهديد الدولة".. بل على الحقيقة هو يسخر كل طاقاته وإمكانياته لصناعة "المواطن الصالح" بالنسبة للدولة، ذلك الذي يرى قيمها عقيدة وقانونها كتابا مقدسا وترابها غاليا ومختلفا عن كل أنواع التراب وعلمها راية تبذل لها الدماء بلا تردد.
3. ويبدو مثال الزكاة مثالا فريدا في الدلالة على الموضوع، ويبدو هذا أوضح ما يكون في دولنا التي فُرضت عليها العلمانية.. إذ الدولة نفسها تنشيء القوانين والمؤسسات لجمع الضرائب بينما تترك أمر الزكاة لحرية كل فرد.
في الإسلام تقوم الدولة بمهمة جمع الزكاة، لأنها فرض ديني، ولأن الزكاة نزلت في كتاب الله وطبقها رسول الله فهي بطبيعة الحال سابقة على هذه الدولة وسلطتها، ومساحة استلاب الدولة الإسلامية لأموال الناس ضيقة ومحدودة لأن كافة الموارد المالية قتلت بحثا ورسخت فيها آراء فقهية عبر قرون طويلة.. فما يستطيع الحاكم في الدولة الإسلامية إلا أن يتلاعب في مساحات محدودة، ثم يكون تلاعبه مكشوفا.. وأهم من هذا: يكون تلاعبه ذريعة لمقاومته لا دفاعا عن المال بل دفاعا عن الدين وعن عباد الله المسلمين.. دفاع من منطلق الجهاد والإصلاح الديني لا من منطلق الإصلاح الاقتصادي أو الكفاح الطبقي، والفارق بينهما في القوة والاتساع واضح!
بينما دولة النموذج الغربي تستطيع في كل حين اختراع ضرائب جديدة، وما عليها إلا أن تجعل ذلك "قانونا" يقره البرلمان المنتخب (والديمقراطية في الدولة الحديثة هي عملية خداع ضخمة تأتي بمن هم على هوى الدولة.. وانظر مثلا كتابي: السيطرة الصامتة لنورينا هيرتس، وأفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها لجريج بالاست).. ولهذا فإن مساحة استلاب المال من الشعوب هي مساحة واسعة بل مساحة مفتوحة.. وكلما زادت العلمانية والحداثة كلما ضعف المجتمع وكلما ازداد الغني غنى والفقير فقرا، وكلما تراكمت القوة في يد السلطة ورجالها.
4. أما الصيام فكالصلاة في كونه عبادة تحفظها الدولة الإسلامية، فللمجاهر بفطره عقوبة قانونية، إلا أنه يزيد عنها في كونه نظاما يؤثر في حياة الناس ويومهم ويغير من عاداتهم وأوقات طعامهم وشرابهم وعبادتهم.. وهي لحظة تخضع فيها حياة الناس لنظام تفرضه العبادة.. وكل ذلك ممزوج بالسعادة والارتياح لما لشهر رمضان وفضله من مكانة في النفوس.. مكانة بناها ورسخها الدين بنصوص القرآن والسنة وتراث طويل من سيرة الصالحين.
لكن نظام الدولة الحديثة لا يحفل بصوم أحد أو بفطره، هي بالنسبة له مجرد اختيار شخصي، لا الصائم يستحق الثواب ولا المفطر يستحق العقاب.. وقد لا يمثل هذا مشكلة كبيرة في الدول ذات الأقليات الصغيرة المسلمة، بينما هو يمثل إرباكا في الدول التي يكثر فيها المسلمون أو بلادنا التي فُرضت عليها العلمانية.. ذلك أن الصوم يمثل "ظاهرة اجتماعية" بما يغيره من عادات الناس وأسلوب حياتهم، كما أن نظام الدولة الحديثة حساس لكل تحرك جماعي لأنه مبني على التعامل مع "المواطن الفرد"، والنموذج المثالي له هو سلطة الدولة التي تدير شؤون أفراد لا شؤون كتل ومجموعات وطوائف وقبائل (نظام القبيلة نظام مضاد للدولة الحديثة).. ولهذا فإن الدول التي اشتدت فيها شوكة العلمانية حاولت -وإن لم تفلح- أن تنهي مسألة الصيام قسرا (كما فعل بورقيبة في تونس) أو تتجاهله تماما اعتمادا على أن يتناقض نظام الناس مع نظام عبادتهم، فيكونون أقرب اندماجا في نظام الحياة من نظام العبادة.أما الذي يهدد الدولة الحديثة وتتحرك له بكل ما تملك من قوة، فهو الخرق الجماعي لقوانينها وعاداتها المستقرة، وهي في هذا تعاقب فاعليه أفرادا أو بالجملة.. كالإضراب عن العمل أو التمرد العسكري.. فهذا هو المثال الذي يقرب مسألة عقوبة المفطر في الدولة الإسلامية إلى أذهان من يعيشون في عالم الدولة الحديثة.
5. وأما الحج فلا مثيل له، فإنه ظاهرة عالمية مضادة للتقسيم القطري في أصلها وجوهرها، وهو تذكير سنوي بمعنى الأمة.. ذلك المعنى الذي لطالما هفت نفوس الغربيين وعملاؤهم إلى اجتثاثه من النفوس لزرع ولاءات أخرى تكون أعظم منه كالوطنية والقومية والإقليمية واللغوية والعرقية وسائر هذه التقسيمات.. إن الحج يمثل سببا مثيرا للتوتر والارتباك في كتابات المستشرقين والمنصرين لأنه "عبادة" وهو في ذات الوقت "ذا مغزى وأهداف سياسية" كما يقولون..
إن الحج يعيد سنويا جمع هذه الأمة وتعريفها بنفسها وبأصلها وبوحيها وبأرضها المقدسة وبآمالها في التوحد والنظام، أن تكون الأمة كالحجيج: اتفاق في المظهر والحركة والغاية وإن اختلفت الألوان واللغات والبلدان والأعراق والسمات!
الحج يعيد تذكير الأمة بأصلها (إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام) ووحيها (الكعبة) ونبيها (خذوا عني مناسككم) وعدوها (الشيطان وحزبه) وبانتمائها (أمة الإسلام) وغايتها (اليوم الآخر) ورسالتها (الجهاد والزهد.. وليس من مشهد أقوى في الجهاد والزهد من مشهد ذوي الأكفان البيضاء وهم يطوفون ويلبون ويكبرون ويسعون بين جبلين ويبيتون في الضيق والزحام).

إنه مشهد مناقض لكل ما تريد الهيمنة الغربية أن تحققه!! ولذلك فإنه يثير حنقهم كما تشي بذلك كتاباتهم هم.
نشر في ساسة بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2015 00:09

September 22, 2015

معارك المصطلحات في الواقع الإسلامي

ألقي القبض على أحمد عرابي بعد هزيمته أمام الجيش الإنجليزي، ومن بين أسئلة الاستجواب الطويل الذي استغرق عدة أيام، وُجِّهت له تهمة رئاسته لـ "الحزب الوطني" ووجه بورقة وُجِدت عند بعض الضباط فيها قول عرابي وتوقيعه بأنه "رئيس الحزب الوطني"، ثم سُئل: "ألم تعلموا أنه بالممالك المنتظمة ووجود الحضرة الخديوية بمقر الحكومة لا يجوز وجود أحزاب حتى تمضوا تلك المكاتبة بصفتكم رئيس الحزب، فهل تَصَرَّحَ لكم من الحضرة الخديوية بذلك؟ وإن كان لم يَتَصَرَّح لكم فهل جَعْل نفسكم رئيسا لحزب داخل الحكومة لا يُعدّ عصيانا؟"
وكان من جواب عرابي قوله: "من المعلوم بداهة أن مصر مأهولة بأجناس مختلفة وعناصر متنوعة وكل عنصر منهم يعتبر نفسه حزبا كما أن أهل البلاد هم حزب قائم بذاته يُعتبر عند الآخرين منحطا عنهم ويُطلقون عليه لفظ فلاحين إذلالا لهم وتحقيرا، أولئك هم الحزب الوطني وهم أهل البلاد حقيقة...".
وقد اتخذ تيموثي ميتشل –المؤرخ المعروف- من إجابة عرابي هذه مثالا أراد أن يثبت به الطبيعة المتقلبة للغة في إطار مناقشته لسلطة اللغة والمؤلف وفلسفة الشيء، متأثرا بجاك دريداوبهذه الإجابة التي لا تعتمد إلا على تلاعب بالمعنى، نقل عرابي موقفه من كونه خارجا عن سلطة الدولة إلى كونه ممثلا لمصلحة الشعب، وأن هذا ليس بدعا من الأمر، "لأن كل أمة من الأمم المتمدنة الراقية فيها أحزاب مختلفة قائمون بحفظ حرية بلادهم والمدافعة عن حقوقهم"وقد نجحت حيلة عرابي هذه –نظريا وعلى سبيل الجدل- فلم يكررها المحقق كتهمة، ومن يقرأ محضر التحقيقات –وهو طويل- يرى ويشهد أنه لا يتجاهل أمرا إلا إذا أُفْحِم وأعوزته الحجة، أما في غير ذلك فهو يستمر في الإلحاح على المتهم ومحاصرته.
بعد هذه الواقعة بأكثر من قرن من الزمان، وفي تركيا، جاء حزب العدالة والتنمية، وهو يحمل ميراثا من التجارب التاريخية وفي بيئة حاكمة ترى أن "العلمانية مقدسة" وترى أن الإسلاميين يضادونها، وقد نفذوا العديد من الانقلابات العسكرية ومن أحكام حل الأحزاب الإسلامية.. فكان الحل عندهم شبيها بما فعله عرابي.
يقول محمد زاهد جل –وهو باحث مثرب من الحزب- بأن حزب العدالة والتنمية قد "قدَّم مقاربة جديدة لمفهوم العلمانية، تعبر عن المضامين الصحيحة داخل هذا المفهوم وتبعد عنها المضامين الأخرى، فهو لم يجعل من العلمانية الأوروبية معياره ولا نموذجه ولا محرابه، ولم يجعل من العلمانيين الغربيين قدوته ولا أئمته ولا وعاظه، وإنما فهم أن العلمانية هي أنها الدعوة إلى العلم وتحرير تفكير الإنسان وعقله، ورفض الأفكار التي تلغي حرية الإنسان وتحرمه من عقله وتمنعه من اتباع العلم واكتشاف الحياة وتسخيرها لمصلحة الإنسان والناس والبشرية جمعاء.
إن حزب العدالة والتنمية بحسب هذه المقاربة التي يقدمها لمفهوم العلمانية يرفض من يحصر العلمانية على معنى الإلحاد أو رفض الدين أو رفض المتدينين في الحياة العامة أو الفصل بين الدين والدولة، أو الفصل بين الدين والحياة، إنما أراد أن يفرض تصورا خاصا للعلمانية قد لا يكون موجودا في الحاضر ولا في التاريخ، فالجميع لم يمكن التخلص من الفكرة الدينية، وعلى فرض وجوده في التاريخ، فهو تصور لا يقصده المسلمون ولا يسعون إليه، وهو ليس مما يسعى إليه العقلاء ولا العلماء ولا الأحرار.
وبناء عليه فهو يرى أن كل دعوة إلى العلمانية على أنها فلسفة ضد الدين الإسلامي ينبغي أن يعلم أنها ليست علمانية صادقة ولا حرة ولا عقلانية ولا عالمة، وإنما هي تصورات مستوردة عن علمانيات قاصرة أو جزئية أو تاريخية بظروفها وزمانها ومكانها الخاص، وهي ليست جديرة بأن تكون فلسفة منقذة في مشروع النهوض العربي الحديث، في مقابل علمانية مؤمنة تملك مقومات المشروعية العلمية والعقلية للنهوض بالدول العربية الناشئة في ربيع الحرية والعقلانية والعلم.
على هذه الأسس، استطاعت التجربة التركية الحديثة أن تخوض تجربتها مع معركة جدل العلمانية، وهي تؤمن بالدين والإسلام دون تناقض بينهما ولا تعارض، وأن تقيم نهضتها وتخطط لتنميتها، وبالأخص في عهد حزب العدالة والتنمية، في توظيفه لتلك المضامين التي قدمها نحو هذا المفهوم، كقوة فكرية تنهض بمقومات المجتمع التركي المسلم دون اصطناع معارك بينهما لتوهم أن الإسلام يقف ضد التقدم والتنمية والعقل"وهكذا كان الحل هو تفريغ اللفظ من معناه المستقر لحساب معنى آخر مقصود، مما يجعل المعركة السجالية الكلامية أكثر إرباكا وتعقيدا وأبعد عن التهمة.. كأنما هي أقرب إلى التورية والمعاريض الذي أبيح اللجوء إليه عند الضرورة والاضطرار.
بعد هذا بنحو عشر سنوات، كانت المعركة الكلامية في مصر –عقيب ثورة يناير- تدور هي الأخرى حول مصطلح "الديمقراطية"، وفيما يبدو أن جميع من في الساحة السياسية يقبل الديمقراطية، إلا أن الجميع أيضا يدرك أن معناها عند قوم ليس كمعناها عند الآخرين.. فأما الإسلاميون فهم يعبرون عنها باعتبارها وسيلة وأداة للكشف عن "الإرادة الشعبية"، وهي الطريقة التي وصلت إليها التجربة البشرية لتحقيق اختيار الحاكم وعزله، لذلك صدَّر حزب الحرية والعدالة –الذي انبثق عن جماعة الإخوان المسلمين- برنامجه السياسي بعبارة "الشورى هي جوهر الديمقراطية" في محاولة لإفراغ معنى الديمقراطية (وهي اللفظ الغربي) ليوضع فيه "الشورى" التي هي القيمة الإسلامية.
وكان أبسط تعبير عن هذه الفلسفة هي العبارة البسيطة الدقيقة والعميقة للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، إذ ما كان يُسأل عن الديمقراطية حتى يقول: "الديمقراطية حلال ما لم تحل حراما أو تحرم حلالا". وهو بهذا يجعلها وسيلة محكومة بالإسلام.
إلا أن خصوم الإسلاميين أصروا –في إطار هذه المعركة السجالية- على أن الديمقراطية ليست صندوقا فقط وإنما هي منظومة قيمية، وهي ليست مجرد وسيلة وإنما ثقافة، وهم في هذا مصرون على أنها جزء من المنظومة القيمية الغربية التي أنتجتها.
تلك ثلاثة أمثلة تاريخية قصدنا منها أن نقول الآتي:
أولا: إن هيمنة المصطلحات في بيئة حاكمة تُلجئ المقهور المغلوب إلى استعمال هذه المصطلحات المهيمنة وتحديد موقفه منها، وبمقدار ما تحظى به هذه المصطلحات من هيمنة بمقدار ما يكون العجز عن التخلص منها، وحينئذ تجري معركة صراع حول معنى هذه المصطلحات.
إن المعركة هي معركة المعاني، لكن جولة الصراع حكمت في بعض الأوقات بسيادة مصطلح بعينه، وفي عصور الدولة الحديثة فإن السلطة قادرة على ترويج مصطلحاتها عبر وسائل الإعلام ومناهج التعليم ومنافذ الثقافة، مما يجعل التعامل مع المصطلح ضرورة لا فكاك منها.
ثانيا: إن تحديد الأحكام الشرعية في المصطلحات الملتبسة التي سادت في مثل هذه الأجواء، مثل العلمانية والديمقراطية والأحزاب والحرية والانفتاح ... إلخ، لا يمكن أن يتم إلا بعد فهم مقصد القائل به، إذ المصطلح في نفسه لم يعد معبرا عن معنى محدد، ولا حتى كونه صدر ضمن سياق فلسفي بعينه أو في بيئة ثقافية بعينها، لم يعد تعريف أهل المصطلح له هو الحاكم في بيان الحكم الشرعي، لأن مدلول المصطلح ومعناه قد انتشر، ورُوِّج له بمعان أخرى لأغراض مختلفة، ثم تلقاه كثيرون ففهموا منه معاني متباينة. فلا بد من تحرير المعنى الذي يقصده قائله به قبل أن يُنظر في حكمه الشرعي، وبطبيعة الحال فسيختلف الحكم الشرعي مع كل قائل، فنفس المصطلح قد يقصد به قائله أشد الكفر وقد يقصد به قائله مقاصد الشرع.
هذا مع التشديد والتأكيد وبيان أن الأصل هو استعمال الألفاظ التي لا شبهة فيها ولا تحتمل المعنى الملتبس، وأن لا يُلجأ إلى هذا الالتباس إلا في حالات الضرورة –لغرض الإفهام والإفصاح، أو تحت ضغط الواقع الأكيد- وقد أمر الله تعالى عباده بقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] لأن اليهود كانوا يقولون "راعنا" وهم يقصدون معنى "الرعونة" لا "المراعاة"، ووجهم ربنا إلى لفظ لا يلتبس وهو "انظرنا".
نشر في تركيا بوست

تيموثي ميتشل: استعمار مصر ص228، 229. مذكرات أحمد عرابي 2/784 وما بعدها. محمد زاهد جل: التجربة النهضوية التركية ص89 وما بعدها.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 22, 2015 07:30

September 20, 2015

خلايا القرامطة النائمة في الخيج (4)

ما زلنا في استعراض تاريخ القرامطة، وهو التاريخ الذي يجبرنا على تذكره ما تعاني منه الأمة اليوم من بزوغ قرن قرامطة جدد، لا يخفون مشاريعهم في تهديد الحرمين..
وقد سردنا ذلك التاريخ في ثلاث حلقات سابقة (ج1، ج2، ج3) ونواصلها في هذه السطور التي تعرض لأبشع جريمة ارتكبت في تاريخ الإسلام على يد القرامطة.
لم يفلت أبو طاهر القرمطي فرصة التنازع في قصر الخلافة، والذي بلغ ذروته في الانقلاب العسكري الفاشل الذي قاده القاهر بالله على أخيه المقتدر بالله عام (317)، فقد هاجم القرامطة مكة المكرمة يوم التروية (8 ذي الحجة 317هـ) فاستباحوها ودخلوا إلى المسجد الحرام، وارتكب مذبحة مجرمة شنيعة في قلب الحرم المكي ذاته، ولم يكن ينجو أحد ولو طاف بالكعبة أو حتى تعلق بأستارها، بل كان السيف دائرا على الجميع، فقتل في رحاب الكعبة خلقا كثيرا وتركهم في دمائهم حتى دفنهم بثيابهم في أماكنهم، وألقى كثيرا من الجثث في بئر زمزم، كل هذا وهو يصيح: أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ولم يقف الإجرام على البشر بل تجرأ على الكعبة ذاتها فنزع كسوتها ومزقها وفرقها على أصحابه، ونزع باب الكعبة، وهدم القبة المبنية على زمزم، ثم أمر أحد رجاله باقتلاع ميزاب الكعبة فلما صعد إليه وقع على رأسه ميتا فلم يحاول ذلك مرة أخرى، ثم أمر باقتلاع الحجر الأسود من مكانه فتقدم إليه رجل فضربه بحديد في يده وهو يصيح: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟ وأخذوه معهم إلى بلادهم! ونهبوا ديار أهل مكة وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا حتى لقد بلغ عدد القتلى نحو ثلاثين ألفا، ثم عادوا إلى ديارهم!
وحاول ابن محلب أمير مكة ومعه جماعة من الأشراف أن يتشفعوا له بكل وسيلة ليعيد الحجر الأسود إلى مكانه وبذلوا له كل ما معهم من الأموال، وفي رواية أخرى أن الأمير التركي بجكم عرض من أمواله خمسين ألفا أيضا، ولكنه رفض وأصر على أخذه وقال: أخذناه بالأمر [يعني بأمر إلهي] ولا نرده إلا بالأمر! فقاتلوه فقتلهم جميعا، يقول ابن كثير: "قد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادا لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه، وسيجازيه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد".
ولا شك أن حدثا كهذا اهتز له عالم الإسلام كله، بل تزلزل من أجله، وافتضح أمر القرامطة لمن بقي في نفسه ذرة من بصر أو عقل، فعلم القاصي والداني أنهم على غير ملة الإسلام وأنهم خارجون عنها بالكلية، حتى لقد طارت السهام صوب الخليفة العبيدي المهدي في عاصمته في الشمال الإفريقي باعتبار أن القرامطة أعلنوا ولاءهم له، فأرسل إلى أبى طاهر القرمطي "يُنْكِر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة"، فردَّ بعض الأموال إلى أهل مكة، وماطل في رد الحجر الأسود، واعتذر بأن كسوة الكعبة وأموال الحجاج قد تفرقت بين الناس ولا يستطيع رد هذا مرة أخرى.
وعند هذا الحد من الفجور يكون القرامطة قد أفصحوا عن حقيقة معتقداتهم، فقد بدأ الأمر فارسيا متنكرا بالتشيع على المذهب الإسماعيلي، وبهذا أخذ في نشر الضلال بين الناس، ثم تدرج هذا حتى وصل من الرفض إلى الكفر المحض، يروي بعض المأسورين عند القرامطة أن آسره "سَكر ليلة وأقامني حياله، وَقَالَ: ما تقول في مُحَمَّد هذا صاحبكم؟ فقلت: لا أدري، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن أقوله، فَقَالَ: كان رجلا سائسا، قال: فما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري، قال: كان رجلا ضعيفا مهينا، قال: فما تقول في عمر؟ قلت: لا أدري، قَالَ: كَانَ والله فظا غليظا، فما تقول في عثمان؟ قلت: لا أدري، قَالَ: كَانَ جاهلا أحمق، فما تقول في عَلي؟ قلت: لا أدري، قَالَ: كَانَ ممخرقا أليس يقول: إن ها هنا علما لو أصبت له حملة، أما كَانَ في ذلك الخَلْق العظيم بحضرته من يودع كل واحد منهم كلمة حتى يفرغ ما عنده. هل هذه إلا مخرقة؟ ونام فلما كَانَ من غد دعاني، فَقَالَ: ما قلت لك البارحة؟ فأريته أني لم أفهمه، فحذرني من إعادته والإخبار عنه بذلك"، ويعقب ابن الجوزي على هذا بقوله: "فإذًا القوم زنادقة لا يؤمنون بالله ولا يفكرون في أحد من الصحابة"، وينقل دليلا آخر، ذلك "أن أبا طاهر القرمطي دخل الكوفة دفعات، فما دخل إلى قبر عَلي عليه السلام واجتاز بالحائر فما زار الحسين" على نحو ما يفعله المتشيع!
فكان هذا العام (317هـ) مما لا ينسى في تاريخ الإسلام، وتاريخ البلد الحرام، وبه ختموا نشاطهم في عهد المقتدر، إذ لم ترد أخبار عن هجوم آخر في عامي (318هـ) أو (319هـ) على الحجاج أو مكة أو غيرها، وكان الحجاج يخرجون في فرقة مسلحة من الجيش بقيادة بدرقة (318هـ)، وسار ركب الحجاج العراقي في هذا العام على طريق (العراق - الموصل - الشام - مصر) خوفا من القرامطة ثم عادوا برفقة جيش كثيف خرج به مؤنس لحمايتهم فدخلوا بغداد (المحرم 319هـ) بعد أن سلك بهم طريقا غير مأهول بعد أنباء عن وجود القرامطة في الطريق.
دخلت الخلافة آنئذ في صراع جديد من صراعات الحكم المستمرة، ووقع النزاع بين أجنحة الحكم وانتهى إلى انقلاب عسكري ناجح قُتِل به الخليفة المقتدر بالله وجاء أخوه القاهر بالله، وكان طاغية مجرما، ثم لم يلبث هو أيضا أن أشاع القتل في رجال الدولة، ثم ما لبثوا أن قتلوه ولم يكمل في الحكم ثلاث سنوات!
وقبيل انتهاء عهد القاهر بالله كان حاجبه محمد بن ياقوت قد أرسل إلى أبى طاهر القرمطي (322هـ) يطالبه بالدخول في طاعة الخليفة والكف عن التعرض لقوافل الحجاج وإعادة الحجر الأسود إلى مكة في مقابل أن تعطيه الخلافة شرعية الولاية على ما تحت يده من البلاد، فأجاب أبو طاهر بأنه لن يتعرض للحجاج ولم يستجب لرد الحجر الأسود إلى مكانه، وطلب من الخلافة أن تأمر بفتح الطرق التجارية بينه وبين البصرة، فحينئذ يخطب للخليفة العباسي ويخلع طاعة الخليفة العبيدي (الفاطمي).
لقد كان هذا تنازلا كبيرا من جانب الخلافة إلا أن الظروف في ذلك الوقت تدعو إلى تفهم هذا، وعلى كل حال فإن الخلافة لم تستفد إلا أن أبا طاهر لم يتعرض للحجاج في هذا العام، ثم اضطربت أحوال الخلافة جميعا فلم يستقر أي اتفاق بين الطرفين.
لهذا، ما إن جاء العام التالي حتى هاجم القرمطي الحجاج (12 ذي القعدة 323هـ) وقاتلهم عند القادسية، ثم توسط بعض وجهاء العلويين من الكوفة لوقف القتال فاشترط القرمطي ألا يحجوا هذا العام، فعادوا إلى بغداد، ولم يحج في هذا العام أحد من جهة العراق وما وراءها من البلاد، وربما أراد أن يظهر القرمطي قوته فسار نحو الكوفة وأقام بها عدة أيام ثم رحل عنها.
ويبدو أنه آثر ألا يدخل في الصراع المحتدم عند البصرة بين البريدي من جهة وابن رائق وواليه على البصرة ابن يزداد من جهة أخرى، فلا نجد له ذكرا إلا في (23 ربيع الآخر 325هـ) حيث خرج بجيش إلى الكوفة، فخرج ابن رائق في مواجهته ثم عاد عنها دون أن يقع بينهم لا حرب ولا اتفاق.
ثم اندلعت فتنة داخلية لدى القرامطة (326هـ) شغلتهم عن الإفساد في الأرض، إذ ظهر فيهم رجل يدعي أنه المهدي المنتظر واستطاع خداع أبي طاهر فَمَلَّكوه عليهم، وبلغ من النفوذ أنه كان يأمر الرجل بقتل أخيه فلا يتردد، فسعى في التخلص من كبار القادة القرامطة ليصفو له الأمر، غير أنه كشفوا خداعه بعد مدة فقتلوه بعد أن خسروا على يديه كثيرا من كبارهم، فكان هذا مما خفف الله به على الناس في هذا العام والذي بعده.
وقد تأثر المسلمون في العراق وما وراءها من البلاد أعمق الأثر بحرمانهم من الحج بفعل القرامطة، وكانت الخلافة في مشغلة عن هذا، فالخليفة ضعيف، وقواد العراق يتصارعون: بجكم وابن رائق والبريدي وابن مقلة، فسعى بعض الناس في توسيط شريف علوي من أهل الكوفة ذي سمعة طيبة لدى القرامطة فاستقر مع القرامطة على أن يعبر الحجاج ويأخذ القرامطة ضريبة على "كل جمل خمسة دنانير، وعلى المحمل سبعة دنانير"، وبهذا الشرط استطاع الناس الحج.
وما زال للحديث بقية.. 

نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 20, 2015 01:37

September 19, 2015

هل تسقط الأنظمة بالمقاومة الاقتصادية

يحلو لكثير من رافضي الانقلاب العسكري أن يبصروا الفشل الاقتصادي للانقلابيين في مصر، يحسبون أن هذا مما يؤلب عليهم الناس، ويساهم في اشتعال الثورة وإزاحة الانقلاب.
ليس هذا حقيقيا للأسف، وقد أدى هذا الوهم إلى الانشغال بالملف الاقتصادي قبل ملفات الأمن والعسكر والإعلام في عهد الرئيس مرسي، فلم يغن الإنجاز الاقتصادي شيئا، بل ولم يشعر الناس به ولم يقدروا قيمته بفعل التوحش الإعلامي ثم جاءت ضربة الأمن والعسكر فجعلت كل ذلك هباء منثورا.
حسبما نعلم من التاريخ، فإن المجاعات لا تؤدي إلى ثورة، وإن الجياع حين يمسهم الألم لا يتوجهون إلى قصر السلطة لإفراغ غضبهم، بل يأكلون أنفسهم وينفجرون في بعضهم، فتشيع بينهم السرقات والسلب والنهب والإجرام، فيما يظل قصر السلطة آمنا.. بل إن التاريخ يحمل إلينا أنباء من جاعوا حتى أكلوا الحمير والقطط والكلاب بل وأكلوا أولادهم من الجوع دون أن يفكروا في تحطيم قصر السلطة.
ترى لماذا؟.. ببساطة: لأن قصر السلطة تحرسه القوة، فيكون أكل الأولاد أهون من التعرض للموت عند قصر السلطة.
حالات نادرة تلك التي توجه فيها الغضب إلى ذلك القصر، الذي هو أساس البلايا ونبع الشرور، وذلك حين يوجد القائد الذي يوجه الغضب إليه، أو حين يكون القصر ضعيف التأمين قد اختلف رجاله وأجنحة الحكم فيه، فساعتها يتوجه الجائعون إلى القصر، لا لإعدام الرئيس المجرم، بل لنهب الخزائن والثروات!!
ولهذا فإن الملف الأمني والعسكري هو الملف الأول أمام كل سلطة، إن استقر لها فقد استقر لها الحكم وخضعت لها الرقاب، طوعا أو كرها.. وها نحن نرى "أشاوس الثورة" الذين امتهنوا النباح على مرسي لا تسمع لهم همهمة على أضعاف أضعاف أضعاف ما نبحوا عليه قديما، بل صار بعضهم ينافق ويتملق ويحرك ذيله على نحو قول الشاعر:
حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة .. خضعت إليه وحركت أذنابهاوإذا رأت يوما فقيرا عابرا .. نبحت عليه وكشرت أنيابها
إن الفشل الاقتصادي لا يسقط الأنظمة، لا سيما تلك المدعومة بأنظمة الشرق والغرب، فحتى لو توقفت أموال الداعمين، فإن السلطة لا تعدم وسيلة لغصب الأموال من الشعب لتكنزها وتراكمها في الطبقة التي تشد أركان الحكم (العسكر، الشرطة، القضاء)، وفي بلاد كثيرة يقتصر دور السلطة على تأمين العاصمة (أو حتى جزء منها: حيث مؤسسات الحكم) وتأمين موارد الثروة (بترول أو غاز أو معادن.. إلخ) فيما ترسف باقي البلد كلها في فشل اقتصادي وأمني مريع، ولا تحدث –مع ذلك- ثورة، فالمهم هو قوة الأمن والعسكر وقدرتهم على السيطرة على الموارد التي تجلب الأموال التي تبقيهم في مواقعهم.
السلطة لا تعدم وسيلة لغصب الأموال، فهي تستطيع في كل وقت فرض ضرائب جديدة على أشياء جديدة، ولكل سلطة متفننون في اختراع الضرائب، فثمة ضرائب على الأموال وأخرى على المشتريات وثالثة على العقارات ورابعة على المبيعات وخامسة على أنواع بعينها من الأنشطة وسادسة على أنواع بعينها من المنتجات، هذا بخلاف ما يؤخذ في الجمارك وما يُحصَّل في المصالح الحكومية عند الأختام وعلى الطرق السريعة وفي مراحل تسيير الأعمال ... إلخ!
فإذا فنيت الضرائب فإن السلطة لا تعد وسيلة لاجتلاب الأموال ببيع موارد الدولة وثرواتها وتأجير مواردها الدائمة كحقول الغاز والبترول وقناة السويس والموانئ والمناطق الأثرية ولفترات طويلة فتكون بهذا قد باعت حق الأحياء وحق من لم يُخلقوا بعد من الأجيال القادمة.
بل إن بعض البلاد أجرت أراضيها لدفن النفايات النووية التي أراد الغرب التخلص منها، وقد كان للدكتور مصطفى كمال طلبة -المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة- تصريح خطير يقول فيه: إن دفن الطن في إفريقيا والدول العربية مثلا بلغ 40 دولارا، مشيرا إلى تورط وزراء وسياسيين وشخصيات عالمية كان منهم زوج مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، بل أنشئت شركات لهذه التجارة، حيث وصل سعر دفن الطن عن طريق شركات إيطالية إلى 800 دولار، والتي تنقلها إلى إفريقيا بسعر 40 دولارا للطن الواحد.
ولذلك ينبغي التخلص من وهم أن الضغط الاقتصادي على الناس يؤدي بهم إلى ثورة في وجه السلطة، فما دامت السلطة قوية وما دامت القيادة غائبة فلا أمل في أن يتحول ألم الجوع إلى ثورة.
إن تاريخنا القريب، منذ ابتلينا بالحقبة العلمانية التي بدأت بمحمد علي قبل قرنين من الزمان، شاهد حاضر وقوي على هذا الذي نقول: لقد كان الناس في عصر محمد علي لا يجدون مهربا إلا أن يهربوا من قراهم ويتركوا أملاكهم من الأراضي والبيوت لينجوا من الضرائب المفروضة عليهم، وكان بطش السلطة من القوة والجبروت بحيث يطارد هؤلاء الهاربين بأنفسهم فيعاقبهم لهروبهم من الضرائب ويسلط عليهم أجهزة شرطته في مشهد تحكيه كتب التاريخ بسطور من دم.
حتى حفيده الخديوي إسماعيل الذي أنفق مالية مصر كلها على شهواته ونزواته وقصوره الفاخرة (بنى وحده ثلاثين قصرا لا يُعرف على وجه اليقين مقدار ما أنفق عليها من أموال) قد تفنن في اختراع الضرائب، وكان ينتزعها منهم قبل وقتها، ويضاعفها كلما أراد، حتى ألجأ الناس إلى الاقتراض بالربا من الأجانب، فصاروا بعد فترة مُلاَّك البلد على الحقيقة، وعادت من جديد ظاهرة الهرب وترك القرى والأراضي!
لم تقم ثورة على محمد علي بل مات وهو آمن في قصره..
وأما إسماعيل فقد كادت تودي به ثورة لأنه ارتكب خطأ فادحا، ذلك أنه لم يجعل العسكر معه في الدعة والراحة، بل ذاق العسكر مما ذاق منه عموم الناس، فتشكلت قيادة شعبية حركت الغضب نحو قصر السلطة، فسارع النظام الدولي في ذلك الوقت (إنجلترا وفرنسا) فخلعوه، ثم لما لم يستطيعوا وأد الثورة القادمة نزلوا بجيوشهم لمنع نجاح ثورة عرابي، وقد كان!
ليس يعني هذا الذي سبق التقليل من شأن الملف الاقتصادي على أزمة السلطة، بل يعني أن الملف الاقتصادي ليس هو الملف الذي تسقط به الأنظمة، بل هي تسقط بالكفاح والمقاومة، وإن انتظار قيام الناس نحو السلطة إذا مسهم ألم الجوع تماما كانتظار أن يبسط أحدهم كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه!

ولنا في قصة قارون الأول عبرة، انظرها ها هنا.. وفي قصة قارون العصر (أمريكا) عبرة أخرى انظرها ها هنا..
نشر في مصري 24
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 19, 2015 14:38

September 18, 2015

المناورات اللئيمة لفلاسفة السلمية

صرخت الأم في ابنها: ذاكر لتنجح
فقال الابن بلا مبالاة: وهل كل من ذاكروا نجحوا؟!
***
مَثَل هذا الابن كمَثَل فلاسفة السلمية، يُقال لهم: لم تنجح ثورة بغير قوة، فيقولون ببردوهم العجيب: وهل كل من حمل السلاح انتصر؟!
بهذه الإجابة العقيمة، أو قل: بهذه المناورة اللئيمة، يتصدر القوم منابر الكلام والكتابة ليمارسوا تزوير التاريخ والوقائع، ولهم في هذا طريقتان:
الأولى: تصدير تاريخ جديد لثورات يقولون إنها نجحت بالسلمية، وقد صعدوا وهبطوا وركبوا الوعر والسهل ولم يخرجوا إلا بثلاثة أمثلة فحسب: الهند وإيران وجنوب إفريقيا، وجميعها مارسوا تزوير تاريخه ليثبتوا نجاحه بالسلمية، وهو ما لم يكن في ثورة من هذه، فجميعها جاهد وكافح واستعمل السلاح (يحبون أن يسمونه: العنف، كما يفعل أعداؤهم)، ولم يحسم الأمر في أي من هذه الثلاثة إلا بالقوة؛ إما قوة الثوار وحدهم، أو قوتهم مدعومة بقوة دولية.
وحتى إذا قلنا بأن هذه الثورات نجحت بالسلمية وحدها، فما حجم ثلاثة أمثلة فحسب في بحر التاريخ كله؟ وأي عقل هذا الذي يتمسك بنجاح ثلاثة أمثلة من بين كل النماذج المعروفة يريد أن يقهر تاريخه وواقعه ليكرر فيها هذا النموذج؟!
أجل.. إنه عقل الطالب الذي لم يجد فيمن يعرفهم سوى ثلاثة أمثلة: لم يذاكروا ولكنهم نجحوا!!!
وقد كان من الغرائب المدهشة أن أستاذا في العلوم السياسية في جامعة أمريكية قال –وكله ثقة- في برنامج تلفزيوني: "لم تنجح ثورة بشكل حقيقي استخدمت العنف.. هذا بالإحصائيات.. معظم الثورات التي استخدمت العنف تعرضت بشكل أو بآخر للإجهاض أو تحولت إلى الحرب الأهلية أو ما إلى ذلك"، فذهبت أبحث في مقالاته عن هذه الإحصائيات فوجدت مقالا له نشره في وقت مقارب، ولكنه قال فيه: "حقيقة الأمر، لا يوجد نمط تفسيري واحد لمدى ارتباط العنف بنجاح الثورة من عدمه. كما أن العلاقة بين الأمرين ليست بالضرورة ارتباطية أو طردية، وإنما تختلف باختلاف السياقات والظروف لكل حالة على حدة"!!!
ولا تعليق!
***
يبدو أنهم بعدما أفلسوا في التنظير للسلمية من خلال هذه الثورات الثلاث، والتي لم تسعفهم في غرضهم طفقوا يقرأون لنا التجارب التي استعملت السلاح (يسمونه: العنف) ولم تنجح، ومَثَلُهُم في هذا مَثَل الطالب الذي قال لأمه: فلان وفلان وفلان ذاكروا ولم ينجحوا!
ولذلك فقد تدفقت علينا، خصوصا في الأسابيع الماضية، مقالات تدعي أنها تقرأ تجارب من حملوا السلاح في مصر كتنظيم الجهاد المصري والجماعة الإسلامية، أو تجربة الإخوان المسلمين في سوريا (الطليعة المقاتلة)، أو غيرها. ولولا أن المنتفعين من مواقعهم "السلمية" طفقوا يوزعون هذه المقالات بين الصفوف ليخذلونهم ويحفظون لأنفسهم مكانتهم لما استحق الأمر خوض نقاش فيه أصلا!
ومع الاحترام لأشخاص بعض من كتبوا، فإن مقالاتهم غلبت عليها العاطفية والسطحية والاختزال وظهر فيها شحّ المصادر التي اعتمدوا عليها، مما يستدعي ردودا مطولة ربما عرضنا لها فيما بعد إن شاء الله، ولكن لا بأس.. لنصدقهم في كل ما قالوا ولنعتبر أن قراءتهم صحيحة ولنرى:
افتخر أحدهم بأن سياسة الجماعة حفظت عليها وجودها وكيانها في الوقت الذي انتهى فيه تأثير الجماعة الإسلامية والجهاد من مصر.. وهنا يأتي السؤال: ما قيمة بقاء الجماعة في وضع المفعول به المُتَحَكَّم فيه المُسَيطَر عليه؟! ما قيمة بقائها وهي لا تملك لنفسها فضلا عن غيرها نفعا ولا ضرا، إن شاء النظام أدخلهم السجون وإن شاء أدخلهم البرلمان، ثم إن شاء أخرجهم منه وأدخلهم السجون مرة أخرى، إن شاء سمح لهم بصحيفة محدودة التوزيع وإن شاء حرمهم منها، بل لقد بلغ شأن الجماعة من الضعف والهزال أن تُمَثَّل مسرحية كنسية تسب النبي محمدا وتثير أزمة عاصفة ثم لا يكون للجماعة همٌّ إلا إثبات براءتهم من موجة الغضب هذه وأنهم لم يشاركوا فيها!! بل لقد كانت تُسَلَّم المسلمات مرة أخرى إلى الكنيسة والجماعة لا تريد أن تشتبك مع هذا الملف لأنه حساس وشائك ويأتي بالمتاعب!!
نعم.. يُفخر بالبقاء إن كان البقاء فعالا ومؤثرا، أما كيف يُفخر ببقاء الجماعة إذا كانت تشتري بقاءها ببيع دعوتها والتنازل عن صميم أفكارها؟!!
هذا مَثَلُ من لم يذاكر خوفا على صحته وأعصابه، ثم لما لم ينجح أشار إلى صديقه الذي نجح ولكن قد ضعف بصره أو شاب بعض رأسه أو انحنى ظهره، أو غير ذلك من تكاليف خوض الاختبار ومعاناة المذاكرة والامتحانات!
وشَدَّد كاتب آخر –قرأ لنا تجربة إخوان سوريا- على أن تنظيم الطليعة المقاتلة في سوريا لم يحقق نجاحا ضد حزب البعث، واستشهد قائده مروان حديد وشُرِّدَتْ القيادات. ليثبت أن المقاومة نهج لم ينجح.
ولئن اتبعنا هذا الرأي فإن من الحق علينا أن ندين كل تجربة مقاومة لكل طغيان ولكل استبداد، فلم تظهر مقاومة إلا في ظل انهيار ميزان القوى بين القوي والضعيف، ولم تكلل كل مجهودات مقاومة الاحتلال بالتحرر ولا  كل الثورات انتهت إلى النجاح.. لكن المهم هنا هو: ما موقفنا الأخلاقي من هذه المحاولات؟
هل هو إدانتها لأنها افتقدت الحكمة وبعد النظر وأقدمت على مواجهة في ظل ميزان قوى لغير صالحها؟ وساعتها سندين قسما عظيما من تاريخنا يشمل سليمان الحلبي وعمر مكرم وجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم وأحمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وعمر المختار والبشير الإبراهيمي وعبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس وعبد الكريم الخطابي وعز الدين القسام وأحمد ياسين ... إلخ، سندين على الحقيقة كل حركات التحرر والجهاد في عالمنا الإسلامي على مدار القرنين الأخيرين، بل ومعظم الحركات على مدار القرون الخمسة السابقة!
أم يكون موقفنا هو الإشادة بها وبعظمتها وتخليد مآثرها، وفي ذات الوقت: البحث في عوامل نقصانها وعيوب تجربتها وسلبياتها؟! ونحن إذا اتخذنا هذا الموقف فإنما سيكون على قاعدة ضرورة الجهاد والمقاومة كأصل ثابت ثم البحث في سؤال الخطأ عند التطبيق والتنفيذ.
ساعتئذ سيكون أصل المقاومة والجهاد متفقا عليه، ويكون البحث في الوسائل التفصيلية هو المساحة التي يسع فيها الخلاف، ويكون الخلاف فيها خلاف ثراء وتنوع.
***
القاعدة البسيطة هي: كل الثورات نجحت بالقوة.
هذه القاعدة لا تساوي ولا تعني بالضرورة أن كل استعمال للقوة يساوي ثورة ناجحة!
وهي بالطبع تناقض تماما الخرافة القائلة أن الثورات يمكن أن تنجح بالسلمية!
إنه من المؤسف المثير للمرارة أن نتناقش في هذا الكلام بعد عامين ونيف من انقلاب عسكري دموي، عَلَّمَنا بالدم لا بغيره كيف تجري السياسة وكيف تكون الثورات واحتواؤها والانقلاب عليها.. والمفترض أن نكون قد تعلمنا مواضع خطئنا وعيوبنا التي نفذ إلينا منها هؤلاء حتى نفذوا انقلابا ولا أسهل ولا أبسط.. انقلاب أبيض تماما لهم أحمر تماما علينا، لم يُخدشوا خدشا لما خطفوا الرئيس ولا سائر القيادات، ثم أداروا مذبحة تاريخية لآلاف العزل بغير تردد.

وأشد من الأسف السابق أن من نجا ممن أوردونا هذه المهالك لا يزالون على نهجهم وفي كراسيهم، لا يحاسبهم أحد ولا هم يستقيلون من أنفسهم، بل هم لا يعترفون بأنهم فشلوا ولا أنهم سبب المشكلة، ويتعاملون مع الأمر باعتبارها محنة يجب أن نصبر عليها لتعبر وتبقى الجماعة!! أو بالأحرى: ليبقوا هم على رأس الجماعة!
نشر في ساسة بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 18, 2015 08:24

September 15, 2015

في فهم النظام العالمي والخروج منه

كان من فضل الله على هذه الأمة أن منَّ عليها بثورات الربيع العربي، التي –ومهما كان حجم التضحيات فيها- تؤسس لمرحلة جديدة في وعي الأمة وبعثها من جديد. وكان من آثار ذلك اهتمام كثير من الناس، لا سيما الشباب الثائر، بمسألة: النظام العالمي، فهما ومقاومة!
على أن هذا الانتباه وإن كان مُقَدَّرًا إلا أنه يكتنفه كثيرا نوع من الحماسة المثالية، وهي ظاهرة طبيعية في الأجواء الثورية، فهم لا يقبلون بغير الخروج من النظام العالمي كله، ومقاومته كله ورميه عن قوس واحدة! ويرون أن أي تعامل سياسي أو حتى تصريح سياسي يُمكن تفسيره على أنه اعتراف بالنظام العالمي أو إقرار له.. يرون ذلك خطأ ثوريا أو حتى خيانة ثورية!
ولهذا تنطلق الألسنة تقدح في كثير من الحركات والدول التي تمثل أملا لهذه الأمة مثل: تركيا وحماس والإخوان المسلمين وأحرار الشام وأمثالهم وحتى جبهة النصرة (التابعة لتنظيم القاعدة المتأسس أصلا على مواجهة النظام العالمي علانية).. فكل هذه الحركات والدول لها من السياسات والتحالفات والتصريحات ما يخرق "مثالية الثوار على النظام العالمي" إن في التعامل مع روسيا وإيران أو في الالتزام بحدود سايكس بيكو في الجهاد أو في بقاء علاقات مع إسرائيل أو البقاء ضمن أحلاف عسكرية غربية أو في غير ذلك.
وحاصل الأمر أنه لم يبق سوى أنصار “تنظيم الدولة الإسلامية” من يحسبون أنه لا حركة تحقق هذه "المثالية" سوى "دولة الخلافة الإسلامية" وأميرها: أبو بكر البغدادي.. وحتى هذه الأخيرة يُعكِّر عليها الأمر أنها تتعامل –حتى الآن- بالدولار (عملة النظام العالمي) وعلاقات بالأتراك وصلت حدّ التسامح مع ضريح تركي (شركي) وأمور أخرى!
وفي هذا السياق يهمنا التأكيد على بعض أمور:
أولا: إن وجود نظام عالمي حقيقة لا شك فيها، وهذا النظام قد بنى لنفسه شبكات من التحالفات والمصالح والأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية ما يجعل حركة الدول المستقلة –فضلا عن حركات المقاومة- لتحقيق استقلالها الحقيقي في القرار السياسي والموارد الاقتصادية والخصوصية الثقافية.. يجعل ذلك شيئا عسيرا وبالغ الصعوبة ويحتاج إلى قدر عظيم من صبر ومثابرة مع ذكاء ومناورة.
ثانيا: أن أحدا لا يسعه أن ينفلت من واقعه بكل وجه، بل لا بد له من علائق وعوائق وارتباطات تفرضها الأوضاع وموازين القوى والإرث التاريخي والثقافي، وقد رأينا أنه حتى "دولة البغدادي" لم يسعها أن تنفلت من النظام العالمي في كل أفعالها. وإنما سيرة حركات التغيير جميعا أنها تستفيد من وضعها الحالي (بكل ما ترفضه منه) في تغييره والانتقال إلى وضع جديد يكون لها فيه وزن جديد. إن مقولة "نزولك إلى الملعب بقوانين اللعبة يجعلك محبوسا فيها" هي مقولة سخيفة، فالواقع العملي أنه لا أحد يستطيع إنشاء ملعب جديد، بل العالم كله في ملعب واحد، ولا مناص عن النزول إلى هذا الملعب وأن تلعب فيه بقوانينه التي يفرضها القوي ثم يغيرها لصالحه، وفي ظل هذه القوانين تجاهد لتعديل قوتك وتغيير القوانين طبقا لموقعك الجديد.. هكذا فعلت كل حركات التغيير!
ولقد كان نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو قائد أعظم حركة تغيير في التاريخ قد استفاد من قوانين الجاهلية كالعصبية القبلية فتمتع بحماية عمه أبي طالب وعصبة بني هاشم، وكالإجارة فدخل في جوار المطعم بن عدي، وأرسل أصحابه إلى جوار كافر يقيم العدل فلا يُظلم عنده أحد.. وغير ذلك! ولم توجد حركة تغيير انبثقت فخرجت على واقعها كله وانفلتت من قوانين مجتمعها دفعة واحدة!
ثالثا: إن النظام العالمي نظام بشري.. وهذا هو أهم ما نريد التركيز عليه في هذه السطور!
نحن نؤمن بأن الإسلام دين الله، وقد نزل الوحي المعصوم على النبي المعصوم، فتأسست به خير أمة أخرجت للناس، فسادت به العالمين وظلت صاحبة لواء الحضارة لألف سنة على الأقل. ومع هذا، فنحن نؤمن أن هذا المنهج الرباني حين أسيئ تطبيقه أو تُخُلِّي عنه لم ينفع أصحابه بل هَوَوْا إلى وهدتهم الحالية من الضعف والتخلف والعجز حتى صاروا كالأيتام على موائد اللئام بل صاروا الفريسة التي تتقاسمها الأمم!
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف لمن يؤمن بهذا أن يتصور ويعتقد أن النظام العالمي –الذي وضعه بشر وينفذه بشر- يصل إلى مرحلة الكمال والتمام حتى يصير اختراقه مستحيلا، ويصير كل من استعمل بعض أدواته قد بات أسيرا له محتوما على حركته بالفشل مستوعبا بالضرورة في سياق النظام العالمي؟!
إن الخلل البشري -في التنظير والتطبيق- يجعل بنية النظام العالمي حافلة بالخلل، فلن تكون أبدا كتلة صماء مغلقة لا سبيل إلى التعامل معها إلا بالرفض الكامل أو الذوبان الكامل.. هذا ونحن على الحقيقة لا نستطيع هذا الرفض الكامل لأننا داخل هذه الكتلة لا خارجها ومحكومون بنظمها وقوانينها وقيودها، فتصور الأمر على هذا النحو لا يدع فرصة عملية سوى الاستسلام والذوبان!
ثم إن النظام العالمي، وكل نظام بشري، لن يبلغ من القوة أن يخرق سنن الله في كونه، وإنما هو على الحقيقة صورة من صور استثمار هذه السنن والقوانين، وما على من يقاومها إلا أن يستثمر ذات السنن والقوانين الإلهية في مقاومة هذا الباطل!
كثيرا ما أخطأ هذا النظام العالمي وضلَّ الطريق وعاد تدبيره وبالا عليه، إلا أنه لفرط القوة ما يزال قادرا على استيعاب وتصحيح كثير مما أخطأ فيه.. فديمقراطيتهم تأتي لهم بالإسلاميين فيحاولون بالقوة الناعمة والخشنة ترويضهم أو تنفيذ انقلاب عليهم! قد ينجحون في الترويض (كما في تونس) أو في الانقلاب (كما في مصر) وقد يفشلون (كما في غزة وأفغانستان وليبيا وكل ساحة جهاد لم تحسم فيها المعركة بعد)!
قد يتركون المجال للمجاهدين المسلمين لإنهاء المعركة في الاتحاد السوفيتي (وانظر وتأمل كيف احتاج النظام العالمي استعمال قوى أخرى في معاركه.. إنه ليس إلها) ولكن ليس معنى هذا أنهم يستطيعون السيطرة على كل آثار هذه الصحوة الجهادية! وقد يدبرون للتغيير في مكان، لكن لا يستطيعون سوق هذا التغيير في المسار الذي أرادوا كما أرادوا، بل يضطرون لنوع مناورة ومهادنة وكسب الوقت وتأجيل المواجهة.
وقد أرادت أمريكا أن تحتفظ بتركيا (العلمانية الكمالية) حليفا لها في معركتها ضد الاتحاد السوفيتي، خصوصا مع الموقع الجغرافي الخطير لتركيا، فحملت قادة هذه البلاد على تغيير النظام السياسي من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية (ونفذ عصمت إينونو، صاحب أتاتورك ووريثه، في عام 1945م هذا التعديل الذي كانت فيه نكبته) وأنتج هذا نظاما تعدديا حقيقيا في تركيا كانت أول ثمراته عدنان مندريس الذي حكم عشر سنوات، نتج عن تخطيطهم هذا نظام يأتي بالإسلاميين وينقلبون عليهم ويظل النظام، حتى جاءهم من لم يستطيعوا الانقلاب عليه بعد!
وهذا الذي جاءهم استثمر رغبة العلمانية التركية في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، واستثمر قوانين الاتحاد الأوروبي في شأن التدخل العسكري في الحكم، فأخذ من هذا وهذا لنفسه، حتى أحدث تغييرات واسعة ومؤثرة في مستوى العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السياسية التركية! وقد انتفعت الأمة بهذا أيما انتفاع، ويكفي أن نتخيل علمانيا كماليا مكان أردوغان ثم نتخيل سوء هذا على الأمة كلها منذ 2002 وحتى الآن.. ذلك هو استثمار ما في البناء البشري من خلل ليؤدي إلى عكس مقصوده، وضرب النظم بعضها ببعض والنزول إلى الملعب ثم تغيير قوانينه بتغيير موازين قوته.
يحتاج شباب الثورات، إضافة إلى ما اكتسبوه من وعي وحماس وثورية في التنبه إلى طبيعة النظام العالمي وطريقة عمله وضرورة التحرر منه، أن يعرفوا كذلك سنن التغيير، لا يعرفونها فحسب من نصوص الثورة والثوار وكتاباتهم، بل من تواريخ الثورة والثوار وواقعهم ومذكراتهم الشخصية التي تسرد التجربة العملية لا الشعارات الملتهبة.
وحين يكون التقييم متوجها إلى من عُرِف جهاده وولاؤه للأمة وثبت له هذا بأفعال بل وبدماء، فينبغي حينئذ أن يكون الإعذار وحسن الظن مقدما في فهم وتعليل سياسته.. فكيف إذا كان الأمر والأمة كلها في لحظة استضعاف ووهن لا تملك أن تدفع عدوا إلا بنوع تعامل وتحالف مع عدو آخر، وأن تغض الطرف عن شيء وأشياء لتحصيل شيء وأشياء في جوانب أخرى. فإن الذي سيقاوم أمريكا لا بد له من نوع تعامل مع روسيا والصين والهند (وسيغض الطرف بالضرورة عما يفعلونه في القوفاز وتركستان وكشمير) وإن الذي يموت من الجوع والحصار ولا يجد مالا سنيا لا بد سيتعامل مع المال الشيعي (وسيكتم في نفسه بالضرورة ما تفعله إيران في سوريا والعراق واليمن).. وإن الذي يملك القليل الشحيح من المال والعتاد لهو أحرص على إبقاء جهاده في أضيق الحدود، فليس بالوسع خوض معركة أممية قبل أن تخلص للمجاهدين دولة!

نشر في تركيا بوست 
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 15, 2015 08:33

September 13, 2015

خلايا القرامطة النائمة في الخليج (3)

قياس القوة –بأي مقياس كان- بين العالم السني وبين إيران سيؤول إلى التفوق السني الكبير على إيران، إلا أن ضعف الإرادة والتفرق يجعل مقاييس القوة بلا معنى ولا فائدة.. إذ ما قيمة أسد مريض عاجز أمام جرذ نشيط؟!
ولهذا فإن هذه اللحظة تجرنا جرًّا لإعادة قراءة تاريخ القرامطة قبل ألف ومائة عام، فحينئذ تكرر أن قامت ثلة صغيرة بإرعاب الخلافة العباسية العظمى وإنزال خسائر هائلة بها، مادية ومعنوية حتى صار اسم القرامطة مثيرا للرعب في صدور من ارتعب منهم الشرق والغرب جميعا!
وقد سردنا منشأ القرامطة وإثخانهم في الخلافة في المقالين السابقين (ج1، ج2)، وفي هذه السطور نواصل هذا الاستعراض لما فيه من العظة والعبرة وشدة التشابه التاريخي بين اللحظتين.
بعد الهزيمة الشنيعة التي أنزلها القرامطة بجيش يوسف بن أبي الساج، كما ذكرنا في المقال الماضي، ظل القرامطة يعسكرون غرب الفرات أمام الأنبار في حين تتحرك الفرق والسرايا ثم تعود إليه!
أما في بغداد فقد تولى مؤنس، القائد العام لجيش الخلافة العباسي، تجهيز الجيش بنفسه، وما إن جاء الخبر بأن القرامطة قصدوا الأنبار حتى خرج نصر الحاجب أيضا خلفه، فاجتمع ما معهم من الجيوش فكان أكثر من أربعين ألف جندي بخلاف المتطوعين، وفي الجيش القادة الكبار: مؤنس ونصر الحاجب وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وأخواه أبو السرايا وأبو الوليد، وكان اجتماعهم خارج بغداد بفرسخين على نهر صغير اسمه «زبارا» شرق بغداد، وعلى رغم أن هذا الجيش هو صفوة وخلاصة ما تملكه الدولة العباسية إلا أنهم كانوا مهتزين أمام القرامطة! ولا أدل على ذلك من نصيحة عبد الله بن حمدان: أن يقطعوا الجسر الذي على هذا النهر لكيلا يصل إليهم القرامطة، أي أن الجيش الذي قوامه أكثر من أربعين ألفا وعلى رأسه قادة الدولة اختار الدفاع والتحصن بالجغرافيا أمام من لا يبلغون الثلاثة آلاف!!
ورغم ما في خطة عبد الله بن حمدان من دليل على الضعف والجبن إلا أنها كانت حكيمة بالفعل في هذه الظروف، إذ ما إن ظهر القرامطة في الأفق حتى ارتاع كثير من الجنود وهربوا من الجيش فزعا، ثم إن جنديا من القرامطة عملاقا أسود أخذ في فحص الجسر لكي يختبر ما إذا كان مقطوعا أم لا، وهو يُلقى بالسهام ولا يتردد ولا يتراجع ولا يتزحزح حتى انتهى إلى أنه مقطوع وعاد إلى الجيش، وظهره يشبه القنفد من كثرة السهام، لا شك أن مشهدا كهذا أوقع الرعب في الصفوف المرعوبة أصلا أضعافا مضاعفة!
عاد القرامطة أدراجهم إذ لم يجدوا وسيلة لعبور نهر زبارا، وفي تلك الأثناء كان مؤنس قد وجه فرقة من الجيش من ستة آلاف بقيادة يلبق، للهجوم على معسكر القرامطة غرب الفرات وإنقاذ يوسف بن أبي الساج من الأسر، ويبدو أن أبا طاهر القرمطي توقع مثل هذا فلقد عاد مسرعا واستطاع بالقليل الذين معه هزيمة الستة الآف، ثم قتل يوسف بن أبي الساج ومن معه من أسرى معركة الكوفة.
ولما فشلت خطة القرامطة في مهاجمة بغداد، فكر أبو طاهر في الهجوم على هيت (إلى الشمال من الأنبار) ولكن المقتدر كان قد أرسل إليها هارون بن غريب ومعه سعيد بن حمدان، وقد وصلوها قبل القرامطة، فاستطاعوا الدفاع عنها والتحصن بها، وقتلوا من القرامطة جماعة، فعاد القرامطة عنها!
فرح أهل بغداد بعودة القرامطة وزوال الخطر، وأكثروا من الصدقة، وكذلك فعل الخليفة المقتدر بالله وأمه –وكانت من مراكز القوى الحاكمة- والوزير علي بن عيسى، ولكن تبقى الحقيقة القاطعة الساطعة تلك التي قالها المقتدر: "لعن الله نيفا وثمانين ألفا يعجزون عن ألفين وسبعمائة".
عاد جيش مؤنس إلى بغداد (3 المحرم 316هـ) فيما عاد جيش القرامطة يعيث في البلاد فسادا ولا يقف له أحد، ولعل هذا يعطي تصورا عن فارق ما بين الطائفتين، فهذه طائفة لا تنزع عنها السلاح ولا تقعد عن الحرب، وتلك طائفة إن حاربت كانت دفاعا وإن انتهى الخطر عادت إلى مأمنها!
قضى القرامطة العام التالي (316هـ) في الإفساد ونشر الرعب في الأنحاء، فسار أبو طاهر القرمطي نحو "الدالية" فهرب منها أهلها فقتل من أدركه منهم، ثم وصل إلى "الرحبة" فقاتل أهلها فهزمهم ونفذ مذبحة في الباقين منهم حين اقتحمها (8 المحرم 316هـ)، ثم راسله أهل "قرقيسيا" يطلبون الأمان فاشترط عليهم الحبس داخل البيوت (أي: حظر التجول) فاستجابوا، وبعث بالسرايا إلى مضارب الأعراب في الجزيرة الفراتية فنهبوا أموالهم وأمتعتهم فخاف الأعراب وارتعبوا وهربوا من أمامه ثم اشترط عليهم جزية سنوية يوصلونها إليه في عاصمته "هَجَر"، عن كل رأس دينارا أو اثنين.
وسار شمالا حتى الرقة وهاجم نواحيها، فقاتله أهلها باستبسال وصبر عجيب رغم قلة الإمكانيات، فرموهم بما استطاعوا من الماء المغلي والتراب والسهام المسمومة حتى قتلوا منهم مائة قرمطي، ولم يستطع القرامطة المكوث أكثر من ثلاثة أيام واستبان عجزهم عن المدينة، فانصرفوا (30 ربيع الآخر 316هـ)، وخرجوا مغلوبين مقهورين.. وهنا يتبدى لنا أن من اختاروا المقاومة وصبروا عليها كانوا هم الغالبين، فيما لم يكن مصير من اختار الاستسلام إلا الذل والخذلان.
فبرغم ما فعلته الرقة، المدينة الصغيرة، إلا أن من حولها من الأنحاء لم تقتدِ بفعلها، وهكذا سار القرامطة ينشرون الرعب في المدن والأنحاء فطلب أهلها الأمان في رأس عين وكفرتوثا وسنجار، وهم ينهبون ما يستطيعون، ثم أعادوا الإغارة على هيت لكن أهلها كانوا قد أحكموا التحصن فقاتلوهم فلم يستطع القرامطة اقتحامها، فعادوا مرة أخرى إلى الكوفة فأفسدوا فيها وقتلوا جماعة قبل أن يعودوا إلى أراضيهم بعد عام من المعارك والقتل حتى لم يقف لهم شيء، اللهم إلا مقاومات باسلة ضعيفة في بعض المدن.
لم يكن أبو طاهر القرمطي يستطيع أن يحتفظ بالكوفة وهي المدينة الكبيرة مع قلة عدد جيشه، فلهذا اعتمد على شن الحروب الخاطفة وأخذ الأموال والأمتعة التي يتقوى بها، وربما يكون الهدف الأصيل أن يتقوى بالأموال والعتاد دون أن يحتفظ بها لئلا يصير في قلب العدو ووسط دياره.
وطوال هذا العام (316هـ) ما كان جيش الخلافة يصل إلى مكان إلا بعد أن يفرغ منه القرامطة، فقد خرج مؤنس إلى الرقة وسار عبر الموصل، ولما وصل الرقة كان القرامطة قد انصرفوا عنها، وحين قصد القرامطة الكوفة خرج إليهم جيش بقيادة نصر الحاجب لكنه مرض ومات في الطريق (أواخر رمضان 316هـ) فقاد الجيش أحمد بن كيغلغ ولم يصل الكوفة إلا بعد أن غادرها القرامطة، فعاد الجيش إلى بغداد (22 شوال 316هـ).
كان من أسوأ ما ترتب على هذا أن ظهرت خلايا نائمة للقرامطة في سواد واسط وفي عين التمر، وكثرت أعدادهم حتى بلغ الذين في سواد واسط عشرة آلاف، وكانوا يشنون الغارات على القرى والأنحاء فيقتلون وينهبون، بل وهزموا بني بن نفيس أمير الحرب في واسط، فسارعت الخلافة بإرسال جيشين لكل جهة، فانتصروا، وقتلوا من القرامطة أكثر ممن أسروهم منهم، ودخلوا بهم بغداد، فاشتد فرح الناس بعد أن طال عليهم زمن الهزائم، واختفى من بقي من القرامطة في منطقة السواد.
وهذا درس بليغ يشرح كيف تظهر الخلايا النائمة في وقت الهزيمة والضعف وكيف تختفي إذا حصحص الحق وكانت له قوة تقوم له!
وحين رجع أبو طاهر القرمطي إلى عاصمته في هجر أعلن ولاءه للخليفة العبيدي (الفاطمي) المهدي، الذي كان مُلْكُه قد تأسس في الشمال الإفريقي واتخذ عاصمته "المهدية"، وتلقب بالخلافة، فصار للدولة العبيدية ذراع قوي مكين في شرق الجزيرة العربية تؤرق الخلافة العباسية وتنزل بها الهزائم والويلات.
ثم زاد الطين بلة أن اضطربت أحوال الخلافة عام (317هـ) وجرى انقلاب عسكري على الخليفة المقتدر، ثم فشل بفضل حرس القصر وعدم اتفاق العسكريين الانقلابيين على سبيل واضح، واضطرابهم في بعض الخطوات، ففشل الانقلاب من بعد ما تم تنصيب القاهر أخي المقتدر خليفة، وعاد المقتدر من جديد، بعد أيام عصيبة اضطرب فيها أمر الخلافة، وكانت سهام القادة العسكريين على بعضهم البعض لا على عدوهم.
فكان هذا العام هو أضعف ما مر بالخلافة العباسية منذ نحو السبعين سنة، ولهذا لم يفلته أبو طاهر القرمطي المجرم لعنه الله، بل ارتكب فيه جريمة لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الإسلام!

وسيكون لهذا حديث أليم مرير نسرده في المقال القادم إن شاء الله!
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 13, 2015 01:57

September 12, 2015

وزراء السيسي أم جواريه ومواليه؟!

بماذا يذكرني تخلص ‫‏السيسي من وزرائه ومواليه؟!
يذكرني بشيء جرى قبل قرن ونصف، في عصر الخديوي إسماعيل.. ساعتها استدعى إسماعيل وزير ماليته إسماعيل صديق إلى قصر سراي عابدين، وجرى بينهما كلام لطيف ورقيق من نوعية "انت مش عارف ان انت نور عنينا ولا إيه"، ثم اصطحبه إلى سراي الجزيرة.. وما إن نزلا من السيارة حتى أمر الخديوي بالقبض عليه، ثم قتله، ثم ألقاه في النيل.. واختفى منذ هذه اللحظة واحد من أفسد وزراء مصر!
لكن لماذا قتله الخديوي؟
أولا: بين إسماعيل والسيسي شبه في أمور كثيرة منها:
1. الفشل في المواجهات إلا مع العُزَّل، فإسماعيل مدَّ حدود مصر حتى منابع النيل، لكن جيشه لم يخض مواجهة واحدة مع جيش حقيقي، بل كانت القبائل تستلم له وتدخل في حكمه.. وفي المواجهة الوحيدة الحقيقية (مع إثيوبيا.. تأمل المفارقة) هُزِمت له ثلاثة جيوش هزائم نكراء قبيحة.
2. سيطرة الأجانب العسكرية والاقتصادية، حتى لم يكن في البلاد من هو أحسن حالا وأرفع شأنا من الأجانب والفئات المرتبطة بهم!
3. الإسراف والجنون بالمظاهر، وإسماعيل هو صاحب الاحتفالات المجنونة بافتتاح قناة السويس (تأمل المفارقة أيضا)
4. نقص الشرعية وشرائها، وهذه مفارقة عجيبة، إذ أن إسماعيل تولى الحكم بعد حادثة إغراق الأمير أحمد رفعت الأولى منه بالحكم لأنه الأكبر سنا من أسرة محمد علي، وحادثة الغرق هذه تدور حولها الكثير من الشكوك ويجزم الكثيرون بأن وراءها إسماعيل بدعم وسند من الفرنسيين).. ثم هو نفسه أراد شراء هذه الشرعية وتثبيتها بعد تولي حكمه فبذل كل جهد له في الرشاوى لدى السلطنة العثمانية ولدى الأجانب للموافقة على تغيير نظام الحكم في مصر وجعله وراثيا في نسل إسماعيل من بعد ما كان يقضي بأن يتولى الحكم الأسنَّ من أسرة محمد علي.. وقد بذل في هذا أموالا ضخمة وتنازلات كبيرة حتى حصل على هذا الحق.
5. التفنن في نهب واستخلاص أموال الناس، بفرض ضرائب جديدة ورفع قيمتها والتلاعب في القوانين بحيث يأخذ منهم أموالا في العاجل مقابل نسبة فوائد فيما بعد (تأمل.. تأمل الشبه!) ويتضمن هذا الملف تفاصيل مريرة.
على أنه، وبالرغم من ذلك، تبدو ثمة فروق واضحة بين السيسي وإسماعيل، كلها تصب لصالح إسماعيل، أي أن السيسي جمع الشر من أطرافه!
1. فلقد كان إسماعيل ذكيا وموهوبا وشخصية جذابة منذ شبابه، بخلاف هذا المتأنث العيي العاجز.
2. ولقد بنى إسماعيل نهضة حقيقية في مصر، فكثر في وقته إنشاء المصانع والمدارس وإصلاح الترع والجسور والقناطر، وأنشئت في عهده الجمعيات العلمية، والجمعيات الأهلية، وتكاثرت الصحافة الحرة، ونبغ في عصره عدد من العلامات الفكرية في كل التاريخ المصري على رأسهم رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وحسين المرصفي ومحمود الفلكي وإسماعيل الفلكي وغيرهم.. بينما في عهد هذا يغيب العلم ويسجن العلماء وتغلق الجمعيات وتصادر الأموال الخيرية ويبزغ الجهلة الأفاكون ويتصدرون أجهزة الإعلام.
3. كانت أموال إسماعيل وأملاكه وعقاراته واستثماراته كلها في مصر.. بينما هذا العيي الذي لا يعرف أحد أن يسكن ولا ماذا يملك.. ونعرف من طبيعة حكمه ومن معه أن أموالهم وكثير من أملاكهم هو خارج مصر لا داخلها.
4. ولقد وسع إسماعيل حدود مصر حتى منابع النيل في أوغندا، وحتى معظم الصومال على الساحل الشرقي لإفريقيا.. بينما هذا السيسي يهجر أبناء رفح ويزيد من عزله سيناء ولا يفكر قط في مد نفوذ بلاده على أي شبر.. بل غاية آماله استمرار تدفق الرز!!
أما لماذا قتل الخديوي إسماعيل وزيره الصديق الصدوق.. فالأمر كالآتي:
يرجع أصل الحكاية إلى شهوات إسماعيل غير المحدودة، جنونه بالمال والعقارات واللهو والاحتفالات، ولما لم تكن موارد البلاد على كثرتها وغناها تكفي كل هذه الشهوات، فلقد أخذ يقترض من البنوك الأجنبية، وصار الاقتراض عادة سنوية له، وكان الأجانب يلاعبونه بهذه القروض فيأخذون منها ما يقارب نصفها كسمسرة وعمولات ومصاريف إجراءات.. هذا بخلاف الفائدة المرهقة التي تصل إلى 24%.
لكنه رغم هذا لا ينتهي ولا يرعوي ولا يفكر في المستقبل، ويظل كل همه أن يحصل على المزيد..
وكان أفضل من أراحه في هذا المسار وزير ماليته إسماعيل صديق (المعروف بالمفتش) فلقد كان هذا الوزير متفننا في جلب الأموال واستلابها من الناس وإصدار سندات خزانة من أموال الدولة بفوائد باهظة، ومساومة الدائنين على فوائد أكبر، وفرض ضرائب، وتقديم عروض لدفع الضرائب هدفها الحصول على سيولة عاجلة ثم يخلف وعوده.. وبيع المحاصيل قبل زراعتها ثم الاستدانة بضمانها.
واطمأن إليه إسماعيل غاية الاطمئنان، لأنه وقتما يطلب أموالا يجدها.. فكان عنده بمقام الصاحب المقرب والوزير المكين الأمين!
ولما تدهورت الأمور وصارت فوق الاحتمال، جاءت الدول الأجنبية تريد أن تفرض على مصر رقابة مالية، فأنشأوا أول الأمر صندوقا خاصا للدين تديره هيئة أجنبية تتولى فعليا السيطرة على كل الموارد المصرية، ثم أوفدوا مندوبين لإصلاح المالية المصرية (أو بشكل أدق: التحكم فيها).. ومن ضمن شروطهم لإصلاح هذه المالية: عزل وزير المالية إسماعيل صديق!
ومهما كان حب الخديوي إسماعيل لوزيره فإن عرشه أحب إليه.. فعزله من الوزارة!
لكن المراقب الإنجليزي أصر على أن يُحاكم إسماعيل صديق أمام المحاكم المختلطة (محاكم أجنبية على الحقيقة) على ما بدده من الأموال..
وبالطبع، فمهما كان حب الوزير لسيده الذي أغرقه بالمال فإنه لن يضحي بنفسه.. فهدد بأنه إذا قُدِّم للمحاكمة فإنه سيجعل الخديوي شريكا له في كل ما فعل (وهذه هي الحقيقة، بل الخديوي مجرم أصلي وإسماعيل صديق هو المباشر للجريمة)..
فحينئذ أخذ الخديوي قراره بقتله.. وهو ما قد كان!

وصدق نبينا الكريم "من أعان ظالما على ظلمه سلطه الله عليه"
نشر في مصري 24
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 12, 2015 13:51