محمد إلهامي's Blog, page 57
August 24, 2015
عن سعد زغلول في ذكراه
وددت في ذكرى وفاة سعد زغلول (23/8/1927) لو كتبت مقالا مفصلا عنه، ولكن لم يسمح لي الوقت للأسف.. فكتبت هذه المعالم والملامح عملا بأن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله.
1. كان سعد زغلول سكيرا ومدمنا للقمار، كما سجل بنفسه في مذكراته.
2. تاريخ سعد زغلول فيما قبل ثورة 1919 هو تاريخ رجل مخلص للإنجليز، وقد بذل الوفديون وأنصارهم جهدا عظيما لتبرير تحوله المفاجئ من رجل بارز في خدمة الإنجليز إلى رجل ثورة ضد الإنجليز.
3. وأحسن ما قيل في هذه التبريرات مفاده ومآله أن الرجل لما فقد المناصب كلها لم يجد منصبا إلا أن يتحول إلى قائد ثورة ليظل في الساحة السياسية.. لكن هذا المعنى لا يُقال بهذه الصراحة بل يُحاط بالتزيين والزخرفة ونظريات الإصلاح من داخل النظام ونحوه.
4. كان سعد زغلول وزيرا في عهد الاحتلال وفي حكومة مصطفى فهمي -الموصوف بأنه إنجليزي أكثر من الإنجليز- بل وتزوج سعد زغلول صفية بنت مصطفى فهمي هذا، رغم أن سعدا فلاح وأن مصطفى فهمي باشا، ورغم أن فارق السن بينهما 17 سنة.
5. ومعروف مشهور أن سعد زغلول كان صديقا حميما لكرومر (الحاكم البريطاني) بل كان يعلق صورة كرومر في مكتبه، وكان كرومر معجبا به، بل إن سعد زغلول كان ضمن الستة الذين أقاموا حفلا لتوديع كرومر (وقد خرج كرومر من مصر بأثر من الحملة الهائلة التي شنها مصطفى كامل على الإنجليز بعد حادثة دنشواي فرأت بريطانيا أن تجعله كبش فداء لتهدئة الأجواء).. مع العلم بأن فتحي زغلول (شقيق سعد) كان قاضيا في محكمة دنشواي وهو الذي كتبت حيثيات الحكم.[للمزيد عن دنشواي انظر هنا: https://goo.gl/ASo3NM]
6. تولى وزارتين من أهم الوزارات: الحقانية (العدل) والمعارف (التربية والتعليم).. فكان أداة "وطنية" للتغريب، وساهم في قص أجنحة الأزهر بإنشاء مدرستين تنتزعان منه شريحة كبرى من خريجيه، فأنشأ مدرسة القضاء الشرعي التي تنزع من الأزهر خريجيه الذين يعملون كقضاة شرعيين ليكون القضاة الشرعيون بعدئذ من خريجي هذه المدرسة. وقد حاول الخديوي (عباس حلمي الثاني) أن يمنع هذا المشروع إلا أن سعدا وقف بوجه الخديوي وقفة عنيفة (بدعم من الإنجليز) فقبل الخديوي صاغرا.. وكان الأزهر والأوقاف في ذلك الوقت هما الجهتان اللتان تخضعان للخديوي رسميا، فانتزاع شيء منهما هو انتزاع من مكانته ومقامه.. وكانت هذه المدرسة هي بداية علمنة القضاء الشرعي.
7. قدم عضو بالجمعية التشريعية اقتراحا لمنع إنفاق الدولة على الجامعة التي خرَّجت ملحدا (يقصد طه حسين)، وكان ذلك في إطار الصراع حول الجامعة التي تعتمد النمط الغربي في التدريس، فطلب منه سعد زغلول سحب اقتراحه فأبي، فهدده سعد بأنه سيوعز إلى أحد الأعضاء أن يقدم اقتراحا بمنع الإنفاق على الأزهر سواء بسواء فاضطر العضو إلى سحب اقتراحه.. وفي مرة أخرى أراد أحد نواب الوفد أن يثير قضية كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين فمنعه سعد زغلول أيضا.
أما ما يورده البعض (ومنهم للأسف الشديد د. محمد عمارة) من أنه هاجم كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" فهو إنما فعل ذلك في إطار المنافسة السياسية، لأن الهوى السياسي لعلي عبد الرازق كان مع الأحرار الدستوريين -وهو حزب انشق عن الوفد- فكان كل ما يطعن في هذا الحزب أو يضعفه مرغوبا لسعد.
8. ومما لا يحب الوفديون أن يذكروه هو: كيف لسعد، إن كان حرا ثائرا ضد الإنجليز، أن يحصل على هذا الكم الهائل من التوقيعات من الناس في ذلك الوقت.. فالحقيقة أن عملية جمع التوقيعات جرت بدعم من الحكومة (الخاضعة عمليا للإنجليز) وقد تحرك في سبيل جمعها أعضاء في المجالس المحلية وعمد القرى وأعيان الريف! وشبيه بهذا الموقف أيضا فوزه في انتخابات الجمعية التشريعية لأول مرة بأكبر عدد من الأصوات في مساحة ربع القاهرة! وهو لم يكن وقتها إلا وزيرا مفصولا أو مستقيلا من الوزارة بعد طول خدمة للإنجليز.. مما يجعل تفسير فوزه بانتخابات شعبية نزيهة محط استغراب واستنكار.
9. لم يحقق سعد شيئا في المفاوضات مع الإنجليز بل إن حصاد عمله هو "تبريد" ثورة 1919 وإدخالها في دهاليز المفاوضات، والمنازعة مع عدلي يكن (رئيس الحكومة) حول تمثيل مصر في المفاوضات مع الإنجليز، ولم يخجل أتباعه من الهتاف بأن الاحتلال مع سعد خير من التحرر من طريق عدلي يكن.
10. رضي سعد من الثورة بأن يكون رئيس الحكومة والزعيم السياسي في البلاد، وسخر الوفد لمنع الثورة ضده، فكان من أول أعماله أن أنشأ تنظيم اتحاد عمال مصر وجعل عبد الرحمن فهمي (شكرتير الوفد، والشخصية التنظيمية التابعة له) رئيسا لهذا الاتحاد فتحكم به في شريحة العمال، ليمنعها من التمرد والإضراب!!
ومع هذا طرده الإنجليز من الحكومة بعد مقتل السير لي ستاك، ولم يستطع فعل شيء ورضي بأن يكون زعيما في الظل من وراء ستار، ثم مات هرما شائخا فاشلا بعد أن أضاع الثورة.
1. كان سعد زغلول سكيرا ومدمنا للقمار، كما سجل بنفسه في مذكراته.
2. تاريخ سعد زغلول فيما قبل ثورة 1919 هو تاريخ رجل مخلص للإنجليز، وقد بذل الوفديون وأنصارهم جهدا عظيما لتبرير تحوله المفاجئ من رجل بارز في خدمة الإنجليز إلى رجل ثورة ضد الإنجليز.
3. وأحسن ما قيل في هذه التبريرات مفاده ومآله أن الرجل لما فقد المناصب كلها لم يجد منصبا إلا أن يتحول إلى قائد ثورة ليظل في الساحة السياسية.. لكن هذا المعنى لا يُقال بهذه الصراحة بل يُحاط بالتزيين والزخرفة ونظريات الإصلاح من داخل النظام ونحوه.
4. كان سعد زغلول وزيرا في عهد الاحتلال وفي حكومة مصطفى فهمي -الموصوف بأنه إنجليزي أكثر من الإنجليز- بل وتزوج سعد زغلول صفية بنت مصطفى فهمي هذا، رغم أن سعدا فلاح وأن مصطفى فهمي باشا، ورغم أن فارق السن بينهما 17 سنة.
5. ومعروف مشهور أن سعد زغلول كان صديقا حميما لكرومر (الحاكم البريطاني) بل كان يعلق صورة كرومر في مكتبه، وكان كرومر معجبا به، بل إن سعد زغلول كان ضمن الستة الذين أقاموا حفلا لتوديع كرومر (وقد خرج كرومر من مصر بأثر من الحملة الهائلة التي شنها مصطفى كامل على الإنجليز بعد حادثة دنشواي فرأت بريطانيا أن تجعله كبش فداء لتهدئة الأجواء).. مع العلم بأن فتحي زغلول (شقيق سعد) كان قاضيا في محكمة دنشواي وهو الذي كتبت حيثيات الحكم.[للمزيد عن دنشواي انظر هنا: https://goo.gl/ASo3NM]
6. تولى وزارتين من أهم الوزارات: الحقانية (العدل) والمعارف (التربية والتعليم).. فكان أداة "وطنية" للتغريب، وساهم في قص أجنحة الأزهر بإنشاء مدرستين تنتزعان منه شريحة كبرى من خريجيه، فأنشأ مدرسة القضاء الشرعي التي تنزع من الأزهر خريجيه الذين يعملون كقضاة شرعيين ليكون القضاة الشرعيون بعدئذ من خريجي هذه المدرسة. وقد حاول الخديوي (عباس حلمي الثاني) أن يمنع هذا المشروع إلا أن سعدا وقف بوجه الخديوي وقفة عنيفة (بدعم من الإنجليز) فقبل الخديوي صاغرا.. وكان الأزهر والأوقاف في ذلك الوقت هما الجهتان اللتان تخضعان للخديوي رسميا، فانتزاع شيء منهما هو انتزاع من مكانته ومقامه.. وكانت هذه المدرسة هي بداية علمنة القضاء الشرعي.
7. قدم عضو بالجمعية التشريعية اقتراحا لمنع إنفاق الدولة على الجامعة التي خرَّجت ملحدا (يقصد طه حسين)، وكان ذلك في إطار الصراع حول الجامعة التي تعتمد النمط الغربي في التدريس، فطلب منه سعد زغلول سحب اقتراحه فأبي، فهدده سعد بأنه سيوعز إلى أحد الأعضاء أن يقدم اقتراحا بمنع الإنفاق على الأزهر سواء بسواء فاضطر العضو إلى سحب اقتراحه.. وفي مرة أخرى أراد أحد نواب الوفد أن يثير قضية كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين فمنعه سعد زغلول أيضا.
أما ما يورده البعض (ومنهم للأسف الشديد د. محمد عمارة) من أنه هاجم كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" فهو إنما فعل ذلك في إطار المنافسة السياسية، لأن الهوى السياسي لعلي عبد الرازق كان مع الأحرار الدستوريين -وهو حزب انشق عن الوفد- فكان كل ما يطعن في هذا الحزب أو يضعفه مرغوبا لسعد.
8. ومما لا يحب الوفديون أن يذكروه هو: كيف لسعد، إن كان حرا ثائرا ضد الإنجليز، أن يحصل على هذا الكم الهائل من التوقيعات من الناس في ذلك الوقت.. فالحقيقة أن عملية جمع التوقيعات جرت بدعم من الحكومة (الخاضعة عمليا للإنجليز) وقد تحرك في سبيل جمعها أعضاء في المجالس المحلية وعمد القرى وأعيان الريف! وشبيه بهذا الموقف أيضا فوزه في انتخابات الجمعية التشريعية لأول مرة بأكبر عدد من الأصوات في مساحة ربع القاهرة! وهو لم يكن وقتها إلا وزيرا مفصولا أو مستقيلا من الوزارة بعد طول خدمة للإنجليز.. مما يجعل تفسير فوزه بانتخابات شعبية نزيهة محط استغراب واستنكار.
9. لم يحقق سعد شيئا في المفاوضات مع الإنجليز بل إن حصاد عمله هو "تبريد" ثورة 1919 وإدخالها في دهاليز المفاوضات، والمنازعة مع عدلي يكن (رئيس الحكومة) حول تمثيل مصر في المفاوضات مع الإنجليز، ولم يخجل أتباعه من الهتاف بأن الاحتلال مع سعد خير من التحرر من طريق عدلي يكن.
10. رضي سعد من الثورة بأن يكون رئيس الحكومة والزعيم السياسي في البلاد، وسخر الوفد لمنع الثورة ضده، فكان من أول أعماله أن أنشأ تنظيم اتحاد عمال مصر وجعل عبد الرحمن فهمي (شكرتير الوفد، والشخصية التنظيمية التابعة له) رئيسا لهذا الاتحاد فتحكم به في شريحة العمال، ليمنعها من التمرد والإضراب!!
ومع هذا طرده الإنجليز من الحكومة بعد مقتل السير لي ستاك، ولم يستطع فعل شيء ورضي بأن يكون زعيما في الظل من وراء ستار، ثم مات هرما شائخا فاشلا بعد أن أضاع الثورة.
Published on August 24, 2015 16:13
August 21, 2015
مقاومة المجتمع الإسلامي للاستبداد (1/3)
ذكرنا في المقال الماضي أن الإسلام يبني نظامه بتقوية الأمة بعيدا عن السلطة، بحيث تكون هذه التقوية في ذاتها عاملا رادعا لاستبداد السلطة وعاملا فاعلا في نهضة الأمة وإن ضعفت السلطة.
وهنا يتجلى فارق ضخم في المنهج الإسلامي عن غيره من المناهج، خصوصا عن الطريقة الغربية ونمط الدولة المركزية الحديثة التي تنفر من التجمعات والتكتلات ويقوم بناؤها على أساس المواطن الفرد الذي يسهل قهره طالما كان فردا.
أما الإسلام فقد سعى لتمتين روابط الأمة وتقويتها، وأصل هذا أن كل استبداد أو ظلم أو فساد لا يبدأ دفعة واحدة، بل إن المنهج الفرعوني في ظلم الناس هو تفريقهم طوائف وأحزابًا، ثم يبدأ بالعدوان على طائفة، وهو يستجلب دعم الآخرين أو على الأقل سكوتهم، فإذا استقر له ظلم الطائفة انتقل منها إلى غيرها؛ حتى يصير واحدًا لا رأس معه، تحتمي به الطوائف من بعضها، وتتقرب إليه جميعها، وهو يظلمهم جميعًا: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، وحين ينفك الترابط بين الناس لا يبالي بعضهم بما يفعله غيرهم، ولا بما ينزل بغيرهم، فتضيع بينهم المروءة، حتى لو وصل الحال بالفرعون إلى أن {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، فليس منهم أحد يستشعر المسئولية، أو يرى أن لديه التزامًا نحو غيره.
لقد جاء الإسلام بما يخضد شوكة الفرعون ويقوي شوكة الأمة، جاء بتمتين الروابط والعلائق والوشائج بين الناس، وذلك عبر مستويات ثلاثة: رابطة الدين، رابطة الرحم، رابطة الجوار أو الجغرافيا، وجميعها روابط متساندة متكاتفة غير متناقضة، وهي بمجموعها تحقق الانسجام النفسي للمسلم، فرابطة (الدين) تحقق انسجامه العقلي والروحي والفطري، ورابطة الرحم والدم تحقق انسجامه الفطري، ورابطة الجوار تحقق انسجامه العملي الواقعي.
وإذا تحقق في واقع المسلمين تقوية هذه الروابط والعلائق استقام أمر مجتمعاتهم، فتكون محصنة من ظلم واستبداد الحكام، كما تكون محصنة من فساد الشهوات والشبهات؛ إذ تقوى العادات الحاكمة وترى الكل يستشعر المسئولية عن أخيه وصاحبه؛ فيجتهد في النصح له ورده عن الباطل بالرفق أو بالشدة، وحينئذٍ تختفي المعاصي فلا تُفعل إلا سرًّا وعلى استحياء، فإذا استعلنت رماها الناس عن قوس واحدة.
في هذه السطور نلقي الضوء على رابطة الدين وكيف كانت أهمّ وأقوى رابطة في تماسك المجتمع ومقاومة استبداده، وسنفهم عندها كيف كان سعي المحتلين والمستبدين حثيثا لتبديل هذه الرابطة التي تمثل هوية الأمة وإنشاء هويات وروابط أخرى كالقومية والقطرية وغيرها.
(1)رابطة الدين
وهي الرابطة السامية التي تحرر الإنسان من العنصرية والاستعلاء، والفخر بما لا يملك وما لم يختر كاللون والوطن والعشيرة، وترده إلى أصل إنسانيته، التي يستوي فيها مع الناس جميعًا أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، ثم ترفعه إلى الفخر بما اختاره وآمن به وهو الدين.
وهي الرابطة الملهمة، التي تمتد في أعماق التاريخ حتى آدم عليه السلام وتشتمل صفوة البشر من الأنبياء والمرسلين والعباد والمجاهدين والزاهدين، كما تتسع حتى تشمل المشارق والمغارب فيندرج فيها كل بلد يذكر فيها اسم الله وكل إنسان يشهد أن لا إله إلا الله.
لقد جاء الإسلام برابطة الدين ليجعلها فوق كل رابطة أخرى، لا لتكون عنصرية جديدة؛ بل لتكون ميزان الحق، فالمسلم يوالي ويعادي بحسب ما في المرء من حق وخير؛ ولهذا ينبغي أن تكون ولاية الحق أقوى الروابط لأن الحق دين، ولأنه لا يعلو على الحق رابطة عصبية أخرى، ومن هنا نفهم كيف ذَكَرَ القرآن الكريم أخوَّةَ الدين في موقف الخصام والتنازع والقتال؛ فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10].
إن أخوة الإيمان هي الرابطة القائمة بين أهل الحق، وإن اجتماعهم يعني أنه اجتماع على الحق، فإن تفرقوا وتنازعوا فهو إنما لأجل انحرافهم عن الحق، "فقد قال الله لهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]. فلما نهاهم عن التفرق مطلقًا دَلَّ ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم، وبَيَّنَ أنه أَلَّف بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانًا، كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63] فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم"(ولأنها رابطة ربانية مبنية على الحق فينبغي أن تكون أسمى الروابط وأقواها وأمتنها، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، وقال رسول الله r: "إن المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يشدّ بعضه بعضا"(ولهذا ينبغي ألا يكون بين المؤمنين أخلاقُ مَنْ جَمَعَتْهم رابطة جاهلية؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2] قال رسول الله r: "لا تَحاسَدوا، ولا تَنَاجَشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وفي رواية البخاري: "ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"(وينتصب نموذج الإخاء بين المهاجرين والأنصار في المدينة؛ كمثال فذٍّ على ما يمكن أن تبلغه الأخوة الإيمانية، فقد صار أخو الإسلام مقدمًا على أخي النسب، وظهرت في هذا الإخاء عجائب لا سوابق أو لواحق لها؛ فلقد استقبل الأنصار إخوانهم بكل ترحاب، فأحبوهم وأنفقوا عليهم من أموالهم وإن كانوا في حاجة، وآثروهم على أنفسهم، واقتسموا معهم أملاكهم، وتسابقوا على استضافتهم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] حتى "ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة"(وكان الإخاء بين المهاجرين والأنصار هو النموذج الأول والأمثل في إنشاء رابطة الدين، وتقديمها على غيرها من العلائق والروابط، ونحن لا نستطيع أن نفهم جوهر هذا الإخاء وآثاره الهائلة على حقيقتها؛ إلا حين نقارن اليوم مشكلات اللاجئين في العالم، وكيف يمثلون مأساة إنسانية دائمة، ويزداد الفهم -ومعه الحسرة والأسى- حين نرى أوضاع اللاجئين المسلمين اليوم؛ وكيف لا يجدون من إخوانهم المسلمين سندًا ولا نصرة؛ بل إن قضية اللاجئين الفلسطينيين تحت الحكومات "العربية" تعد وحدها مأساة إنسانية بالغة المرارة، حتى صار الدم الفلسطيني شركة بين بني صهيون وبين أذيالهم من أهل العروبة!!
نشر في ساسة بوست
([1])ابن تيمية: مجموع الفتاوى 19/92. ([2])البخاري (467)، ومسلم (2585). ([3])البخاري (5665)، ومسلم (2586). ([4])البخاري (5718)، ومسلم (2564). ([5])البخاري (13)، ومسلم (45). ([6])البخاري (1186). ([7])د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/241 وما بعدها، د. إبراهيم العلي: صحيح السيرة ص138، 139.
وهنا يتجلى فارق ضخم في المنهج الإسلامي عن غيره من المناهج، خصوصا عن الطريقة الغربية ونمط الدولة المركزية الحديثة التي تنفر من التجمعات والتكتلات ويقوم بناؤها على أساس المواطن الفرد الذي يسهل قهره طالما كان فردا.
أما الإسلام فقد سعى لتمتين روابط الأمة وتقويتها، وأصل هذا أن كل استبداد أو ظلم أو فساد لا يبدأ دفعة واحدة، بل إن المنهج الفرعوني في ظلم الناس هو تفريقهم طوائف وأحزابًا، ثم يبدأ بالعدوان على طائفة، وهو يستجلب دعم الآخرين أو على الأقل سكوتهم، فإذا استقر له ظلم الطائفة انتقل منها إلى غيرها؛ حتى يصير واحدًا لا رأس معه، تحتمي به الطوائف من بعضها، وتتقرب إليه جميعها، وهو يظلمهم جميعًا: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، وحين ينفك الترابط بين الناس لا يبالي بعضهم بما يفعله غيرهم، ولا بما ينزل بغيرهم، فتضيع بينهم المروءة، حتى لو وصل الحال بالفرعون إلى أن {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، فليس منهم أحد يستشعر المسئولية، أو يرى أن لديه التزامًا نحو غيره.
لقد جاء الإسلام بما يخضد شوكة الفرعون ويقوي شوكة الأمة، جاء بتمتين الروابط والعلائق والوشائج بين الناس، وذلك عبر مستويات ثلاثة: رابطة الدين، رابطة الرحم، رابطة الجوار أو الجغرافيا، وجميعها روابط متساندة متكاتفة غير متناقضة، وهي بمجموعها تحقق الانسجام النفسي للمسلم، فرابطة (الدين) تحقق انسجامه العقلي والروحي والفطري، ورابطة الرحم والدم تحقق انسجامه الفطري، ورابطة الجوار تحقق انسجامه العملي الواقعي.
وإذا تحقق في واقع المسلمين تقوية هذه الروابط والعلائق استقام أمر مجتمعاتهم، فتكون محصنة من ظلم واستبداد الحكام، كما تكون محصنة من فساد الشهوات والشبهات؛ إذ تقوى العادات الحاكمة وترى الكل يستشعر المسئولية عن أخيه وصاحبه؛ فيجتهد في النصح له ورده عن الباطل بالرفق أو بالشدة، وحينئذٍ تختفي المعاصي فلا تُفعل إلا سرًّا وعلى استحياء، فإذا استعلنت رماها الناس عن قوس واحدة.
في هذه السطور نلقي الضوء على رابطة الدين وكيف كانت أهمّ وأقوى رابطة في تماسك المجتمع ومقاومة استبداده، وسنفهم عندها كيف كان سعي المحتلين والمستبدين حثيثا لتبديل هذه الرابطة التي تمثل هوية الأمة وإنشاء هويات وروابط أخرى كالقومية والقطرية وغيرها.
(1)رابطة الدين
وهي الرابطة السامية التي تحرر الإنسان من العنصرية والاستعلاء، والفخر بما لا يملك وما لم يختر كاللون والوطن والعشيرة، وترده إلى أصل إنسانيته، التي يستوي فيها مع الناس جميعًا أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، ثم ترفعه إلى الفخر بما اختاره وآمن به وهو الدين.
وهي الرابطة الملهمة، التي تمتد في أعماق التاريخ حتى آدم عليه السلام وتشتمل صفوة البشر من الأنبياء والمرسلين والعباد والمجاهدين والزاهدين، كما تتسع حتى تشمل المشارق والمغارب فيندرج فيها كل بلد يذكر فيها اسم الله وكل إنسان يشهد أن لا إله إلا الله.
لقد جاء الإسلام برابطة الدين ليجعلها فوق كل رابطة أخرى، لا لتكون عنصرية جديدة؛ بل لتكون ميزان الحق، فالمسلم يوالي ويعادي بحسب ما في المرء من حق وخير؛ ولهذا ينبغي أن تكون ولاية الحق أقوى الروابط لأن الحق دين، ولأنه لا يعلو على الحق رابطة عصبية أخرى، ومن هنا نفهم كيف ذَكَرَ القرآن الكريم أخوَّةَ الدين في موقف الخصام والتنازع والقتال؛ فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10].
إن أخوة الإيمان هي الرابطة القائمة بين أهل الحق، وإن اجتماعهم يعني أنه اجتماع على الحق، فإن تفرقوا وتنازعوا فهو إنما لأجل انحرافهم عن الحق، "فقد قال الله لهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]. فلما نهاهم عن التفرق مطلقًا دَلَّ ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم، وبَيَّنَ أنه أَلَّف بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانًا، كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63] فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم"(ولأنها رابطة ربانية مبنية على الحق فينبغي أن تكون أسمى الروابط وأقواها وأمتنها، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، وقال رسول الله r: "إن المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يشدّ بعضه بعضا"(ولهذا ينبغي ألا يكون بين المؤمنين أخلاقُ مَنْ جَمَعَتْهم رابطة جاهلية؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2] قال رسول الله r: "لا تَحاسَدوا، ولا تَنَاجَشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وفي رواية البخاري: "ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"(وينتصب نموذج الإخاء بين المهاجرين والأنصار في المدينة؛ كمثال فذٍّ على ما يمكن أن تبلغه الأخوة الإيمانية، فقد صار أخو الإسلام مقدمًا على أخي النسب، وظهرت في هذا الإخاء عجائب لا سوابق أو لواحق لها؛ فلقد استقبل الأنصار إخوانهم بكل ترحاب، فأحبوهم وأنفقوا عليهم من أموالهم وإن كانوا في حاجة، وآثروهم على أنفسهم، واقتسموا معهم أملاكهم، وتسابقوا على استضافتهم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] حتى "ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة"(وكان الإخاء بين المهاجرين والأنصار هو النموذج الأول والأمثل في إنشاء رابطة الدين، وتقديمها على غيرها من العلائق والروابط، ونحن لا نستطيع أن نفهم جوهر هذا الإخاء وآثاره الهائلة على حقيقتها؛ إلا حين نقارن اليوم مشكلات اللاجئين في العالم، وكيف يمثلون مأساة إنسانية دائمة، ويزداد الفهم -ومعه الحسرة والأسى- حين نرى أوضاع اللاجئين المسلمين اليوم؛ وكيف لا يجدون من إخوانهم المسلمين سندًا ولا نصرة؛ بل إن قضية اللاجئين الفلسطينيين تحت الحكومات "العربية" تعد وحدها مأساة إنسانية بالغة المرارة، حتى صار الدم الفلسطيني شركة بين بني صهيون وبين أذيالهم من أهل العروبة!!
نشر في ساسة بوست
([1])ابن تيمية: مجموع الفتاوى 19/92. ([2])البخاري (467)، ومسلم (2585). ([3])البخاري (5665)، ومسلم (2586). ([4])البخاري (5718)، ومسلم (2564). ([5])البخاري (13)، ومسلم (45). ([6])البخاري (1186). ([7])د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/241 وما بعدها، د. إبراهيم العلي: صحيح السيرة ص138، 139.
Published on August 21, 2015 13:05
August 18, 2015
على هامش قصة زعيم (4) فلسفة الديمقراطية عند أردوغان
بعض الملاحظات التي أثارها مقالي السابق انصبت على أن النظام الديمقراطي في تركيا لم يكن سوى "صورة" نظام أو "هيكل" نظام خالٍ من المعنى والروح، وهي ملاحظة صادقة ودقيقة بغير شك. كما أنها ملاحظة قيِّمة حملتنا على أن نجعل لها هذا المقال.
***
يرى هيجل في فلسفته الجدلية أن الفكرة تلد نقيضتها، ثم تتصارع الفكرة ونقيضتها حتى يتولد من صراعهما فكرة ثالثة، بعد فترة تلد هذه الثالثة نقيضتها وتتصارع معها.. وهكذا!
لقد كنا في العالم العربي محرومون حتى من صورة وهيئة وهيكل النظام الديمقراطي، ليس لدينا سوى طلاءات شكلية بالية ومكشوفة ومفضوحة: انتخابات أو استفتاءات يفوز فيها الرئيس الأوحد والذي يتعفن في الحكم لربع قرن أو ثلاثة عقود أو أربعة حتى يأتيه الأجل أو انقلاب أو احتلال. ومن ثمَّ كان الشوق عظيما للديمقراطية التي يتغير فيها الرؤساء وتتبدل فيها مواقع الأحزاب وتختلف فيها نسبة الفوز في البرلمانات عند كل انتخابات!
ما كان للشعوب العربية أن تكتشف عيوب الديمقراطية إذ هي ترسخ في وحل الاستبداد المطلق، إنما يتأهل لاكتشاف عيوبها من كانت تجري عليه أحكامها، تماما مثلما يتوق العرب لرؤية الدولة القوية ذات المؤسسات المحترفة التي تحتكر القوة وتنظم المجتمع، ولن يتأهل لاكتشاف عيوب الدولة الحديثة وأنظمتها إلا من عاش فيها، ولهذا فإن تيار نقد الدولة الحديثة إنما يتفجر من الغرب حيث هناك تجري أحكامها فيمكن اكتشاف عيوبها.
إن الديمقراطية في جوهرها وغايتها شوق إنساني عام، إذ قيمة أن يختار الناس حاكمهم وأن يراقبوه وأن يعزلوه هي قيمة إنسانية قديمة دارت حولها معظم الفلسفات الإنسانية شرقا وغربا، بينما تطبيق هذا المفهوم واستحداث قيمه الجزئية وآليات تنفيذه هو تطبيق غربي في العصور الحديثة، وهو متأثر ومصبوغ بصبغته القيمية وأفكاره الفلسفية الأخرى.
إن الديمقراطية كإجراءات وآليات محتاجة دائما إلى محتوى قيمي وفكري وثقافي، ولهذا فإنها آلت في الغرب إلى أن تكون في خدمة الطبقة الرأسمالية الغنية (ويراجع في هذا كتاب جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها) كما أنها في عالمنا الإسلامي تؤول دائما إلى الأحزاب والشخصيات المناهضة للغرب (ويراجع في هذا كتاب صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات). إذ ما زال عالمنا العربي لم يتعلمن ولم يتحدثن –من الحداثة- إلى الحد الذي يجعله خاضعا تماما لتحكم الطبقة الرأسمالية. وهذا ما يجعل الديمقراطية غير مسموح بها على الحقيقة في بلادنا، فإن أفلتت تجربة أو أخرى جاءت الانقلابات العسكرية كما في باكستان وتركيا والجزائر ومصر، ولم يفلت من هذه المعادلة سوى غزة التي امتلك فيها الإسلاميون قوة عسكرية تصدت لمحاولات الانقلاب.
***
لم أكن أعرف تلك النزعة الفكرية الفلسفية عند أردوغان قبل قراءة نص خطابه في ختام ندوة "الديمقراطية"، والتي أقامها في اسطنبول في أعقاب انقلاب فبراير 1997 على حكومة حزب الرفاه بزعامة أربكان، وكان أردوغان وقتها عضوا في الحزب ويتولى رئاسة بلدية اسطنبول الكبرى.
في هذا الخطاب شرح أردوغان معنى احتياج الديمقراطية لمحتوى فكري وقيمي، وأن هذا المحتوى إن لم يكن نابعا من الشعب فسيكون مستوردا من الخارج، وساعتها لن تكون الديمقراطية إلا وسيلة لتحقيق مصالح النخبة، وساعتها سيجيزون لأنفسهم الانقلاب عليها إذا اخترقت مصالحهم.
استمرت الندوة ليومين من النقاش الفكري المعمق حول الديمقراطية، وجاءت كلمة أردوغان في ختامها فوضعته في مصاف المفكرين لا السياسيين.. أنقل منها هذه الفقرة:
"إن أي مجتمع من المجتمعات حين يقيم ويطور ديمقراطية تستهدف المثل العالمية يجب أن يضيف أحكام قِيَمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده باعتبارها خميرة الثقافة السياسية لهذه التجربة الديمقراطية.
الديمقراطية –بهذه الصورة- يمكن لها أن تخرج من دائرة المناقشات المجردة وتتحول إلى نظام قابل للتطبيق. وبهذه الصورة فقط يمكن للمجتمع أن يزداد ثراءً، بل وتبتعد الديمقراطية عن كونها (إشكالية نخبوية).
بهذا يمكن للمجتمع أن يعمق وعيه بالديمقراطية، ويحولها لإحدى واجبات الحياة اليومية، ويغذي بها قناعاته الثقافية. ويكون لهذه الخلفية الثقافية إسهاماتها الكبيرة للوصول بالديمقراطية إلى مصافّ العالمية.
هناك اتصال مباشر بين هذا الموضوع وبين مفهوم سيادة القانون الذي يحتاج إليه أي مجتمع من المجتمعات بقدر احتياجه للخبز والماء. ولو لم يُعمّق الشعب فكرة الديمقراطية أو تم الحكم في هذه الديمقراطية على أنها برنامج خاص بالنخبة التي تدير البلاد؛ ففي هذه الحالة ستقوم النخبة الحاكمة بتضييق حدود الديمقراطية وتفسرها بالمصلحة العامة العليا للوطن، وهو تفسير يستأثرون هم وحدهم بالتعامل معه.
في هذه الحالة تخرج الدولة عن كونها دولة قانون وتصبح عبارة عن قانون الدولة وتظل قابعة في مرحلة الشتات والتيه عن جادة الديمقراطية الحقيقية.
ومن أجل إمكانية تحقيق سيادة القانون بالمعنى الحقيقي يجب أن يتحول الدستور من كونه إطارا يُملي فيه النخبة الحاكمة آراءهم على الشعب إلى إطار من نتاج الشعب، ويملي فيه هذا الشعب على الدولة ما يرغب فيه. والطريقة الوحيدة لإيجاد دستور متفق عليه أن يكون هذا الدستور هو اختصار للقانون.
ولو لم يكن الدستور من نتاج المجتمع، ولو لم يكن في الإطار الذي يُملي فيه هذا المجتمع على الدولة ما يرغب فيه، فستفقد الديمقراطية كل جاذبيتها، وتكون قد اختزلت في الانتخابات فحسب.
وفي هذه الحالة لن تكون هناك أي آلية تمنع أن يتم إبعاد أي حكومة جاءت بالطرق الشرعية عن وظيفتها بشكل ديمقراطي ووفق رغبة الناخبين الذين يمثلون إرادة الشعب. وإن حدث هذا، فإن المجتمع سوف يفقد كل إمكاناته في ما يتعلق بحقه في الحصول على الحرية والعدالة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأجواء تهيئ لمن لديهم شغف الحصول على السلطة بانتهاج طرق غير ديمقراطية للوصول إليها. ومما لا شك فيه أن ذلك أمرٌّ غير مرغوب، وله تأثيرات سلبية على المجتمع بأسره.
وبذلك، فلو أن تشكيل الدستور كان نتيجة مناقشات حرة داخل المجتمع، وكان نتيجة توافقية لهذه المناقشات، فإن القانون سيطبق في إطار الديمقراطية وسيقوم في الوقت ذاته بحمايتها.
وبهذا، فإن تغير الحكومة من خلال الانتخابات من دون استخدام العنف وقبول الجميع لنتائج الانتخابات من دون أي شروط أو قيود يُعدّ واجبا أخلاقيا لا غنى عنه.
إضافة إلى ذلك، فإنه لن تكون هناك أي مشقة ملقاة على الشعب في الانصياع لهذا الواجب الأخلاقي. فحين تتغير الحكومة من خلال الانتخابات، فإن الحزب الذي يأتي إلى السلطة، أيا كانت الأصوات الحاصل عليها، فلن يتمكن من المساس بالحقوق والحريات الأساسية"***
لقد كان أردوغان منتبها إلى أن النظام الديمقراطي في تركيا هو صورة نظام أو هيكل نظام، غايته الحقيقية خدمة مصالح الطبقة النخبوية العلمانية فحسب، وقد كرر إدانة هذا الوضع في مواقف مختلفة، منها في خطاب له ألقاه بعد صدور الحكم عليه بالسجن عشرة أشهر بعد خطبته الشهيرة التي استشهد فيها بأبيات شعر إسلامية، صرح فيه بأنه لا معنى للديمقراطية إذا كان القضاء مُسَيَّسًا:
"إن الديمقراطية في وطننا تُختزل وباستمرار في صورة الانتخابات. والحقيقة أن الديمقراطية ليست فقط مجرد انتخابات، وإنما تعني أيضا استقلالية القاضي والقضاء. ولو تم المساس بهاتين الحريتين، فستصبح الديمقراطية نظاما ديكتاتوريا متسترا خلف مظهر ديمقراطي"بل لقد استمر أردوغان يؤكد هذه الفكرة وتوابعها حتى بعد أن تولى السلطة، وقد رجعت إلى كتاب "مقتطفات من خطب رجب طيب أردوغان" فوجدتُ هذا الأمر بمثابة الثابت في تفكيره، يكرره في أماكن وأزمان ومناسبات مختلفة، سواء أكان خطابا جماهيريا أم نخبويا، سواء أكان عند انتخابات أو في أوقات استقرار.
§ ففي خطاب له بأنطاليا 16/5/2003: "الديمقراطية ليست موجودة لخدمة السياسي، بل السياسي هو الخادم للديمقراطية"§ وفي خطا بديار بكر 18/7/2003 "الدولة يجب عليها أن تكون خادمة لا محالة، لذلك نحن مقررون ومصممون على أن نطهر ديمقراطيتنا من العيوب"§ وفي خطاب أمام مجلس الشورى للإدارات المحلية 6/10/2003: "نحن نهدف لإعادة تنظيم البنية الإدارية من جديد وفق المعايير العالمية الديمقراطية. تلك البنية المتعبة البالية، المغلقة عن المجتمع والتي تتجاهل حقوق الإنسان"§ وفي خطاب أمام الاجتماع الاستشاري الثالث 27/9/2004 "إن طابعنا الديمقراطي هو دليل على أخذنا المجتمع مركزا لسياستنا"§ وفي خطاب بأزمير 2/2/2007 "إن عددا من المسؤولين الحكوميين الذين يحاولون تشكيل عصابات عن طريق مخالفة القانون من أجل قِيَم يعتبرونها مقدسة. هؤلاء بحد ذاتهم هم أركان الدولة العميقة ضمن الدولة الحقيقية"§ وفي خطاب أمام الاجتماع الاستشاري الحادي عشر 25/11/2007 "عندما نقول ديمقراطية نعني بها سيادة إرادة الشعب من دون قيد أو شرط"§ وفي خطاب لدى اجتماع الكتلة البرلمانية 29/1/2009 "كلما نضجت الديمقراطية في تركيا، وكلما اقتربت الدولة من الشعب، وغادرت القوالب الصلبة بنيتنا. سيُرى حجم المشاكل التي ضخّمناها في أعيننا لسنوات طويلة، وسنكتشف كم كانت مشاكل صغيرة"§ وفي خطاب بالاجتماع الاستشاري 21/11/2009 "السياسة هي فن الإحساس بشعور الأمة، وهي رؤية ما تراه الأمة وسماع ما تسمعه الأمة"نشر في تركيا بوست
حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص231. قصة زعيم ص241. عبد الرحمن تيغ وآخران: مقتطفات من خطب رجب طيب أردوغان ص98. مقتطفات ص109. مقتطفات ص109. مقتطفات ص106. مقتطفات ص108. مقتطفات ص100. مقتطفات ص105. مقتطفات ص285.
***
يرى هيجل في فلسفته الجدلية أن الفكرة تلد نقيضتها، ثم تتصارع الفكرة ونقيضتها حتى يتولد من صراعهما فكرة ثالثة، بعد فترة تلد هذه الثالثة نقيضتها وتتصارع معها.. وهكذا!
لقد كنا في العالم العربي محرومون حتى من صورة وهيئة وهيكل النظام الديمقراطي، ليس لدينا سوى طلاءات شكلية بالية ومكشوفة ومفضوحة: انتخابات أو استفتاءات يفوز فيها الرئيس الأوحد والذي يتعفن في الحكم لربع قرن أو ثلاثة عقود أو أربعة حتى يأتيه الأجل أو انقلاب أو احتلال. ومن ثمَّ كان الشوق عظيما للديمقراطية التي يتغير فيها الرؤساء وتتبدل فيها مواقع الأحزاب وتختلف فيها نسبة الفوز في البرلمانات عند كل انتخابات!
ما كان للشعوب العربية أن تكتشف عيوب الديمقراطية إذ هي ترسخ في وحل الاستبداد المطلق، إنما يتأهل لاكتشاف عيوبها من كانت تجري عليه أحكامها، تماما مثلما يتوق العرب لرؤية الدولة القوية ذات المؤسسات المحترفة التي تحتكر القوة وتنظم المجتمع، ولن يتأهل لاكتشاف عيوب الدولة الحديثة وأنظمتها إلا من عاش فيها، ولهذا فإن تيار نقد الدولة الحديثة إنما يتفجر من الغرب حيث هناك تجري أحكامها فيمكن اكتشاف عيوبها.
إن الديمقراطية في جوهرها وغايتها شوق إنساني عام، إذ قيمة أن يختار الناس حاكمهم وأن يراقبوه وأن يعزلوه هي قيمة إنسانية قديمة دارت حولها معظم الفلسفات الإنسانية شرقا وغربا، بينما تطبيق هذا المفهوم واستحداث قيمه الجزئية وآليات تنفيذه هو تطبيق غربي في العصور الحديثة، وهو متأثر ومصبوغ بصبغته القيمية وأفكاره الفلسفية الأخرى.
إن الديمقراطية كإجراءات وآليات محتاجة دائما إلى محتوى قيمي وفكري وثقافي، ولهذا فإنها آلت في الغرب إلى أن تكون في خدمة الطبقة الرأسمالية الغنية (ويراجع في هذا كتاب جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها) كما أنها في عالمنا الإسلامي تؤول دائما إلى الأحزاب والشخصيات المناهضة للغرب (ويراجع في هذا كتاب صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات). إذ ما زال عالمنا العربي لم يتعلمن ولم يتحدثن –من الحداثة- إلى الحد الذي يجعله خاضعا تماما لتحكم الطبقة الرأسمالية. وهذا ما يجعل الديمقراطية غير مسموح بها على الحقيقة في بلادنا، فإن أفلتت تجربة أو أخرى جاءت الانقلابات العسكرية كما في باكستان وتركيا والجزائر ومصر، ولم يفلت من هذه المعادلة سوى غزة التي امتلك فيها الإسلاميون قوة عسكرية تصدت لمحاولات الانقلاب.
***
لم أكن أعرف تلك النزعة الفكرية الفلسفية عند أردوغان قبل قراءة نص خطابه في ختام ندوة "الديمقراطية"، والتي أقامها في اسطنبول في أعقاب انقلاب فبراير 1997 على حكومة حزب الرفاه بزعامة أربكان، وكان أردوغان وقتها عضوا في الحزب ويتولى رئاسة بلدية اسطنبول الكبرى.
في هذا الخطاب شرح أردوغان معنى احتياج الديمقراطية لمحتوى فكري وقيمي، وأن هذا المحتوى إن لم يكن نابعا من الشعب فسيكون مستوردا من الخارج، وساعتها لن تكون الديمقراطية إلا وسيلة لتحقيق مصالح النخبة، وساعتها سيجيزون لأنفسهم الانقلاب عليها إذا اخترقت مصالحهم.
استمرت الندوة ليومين من النقاش الفكري المعمق حول الديمقراطية، وجاءت كلمة أردوغان في ختامها فوضعته في مصاف المفكرين لا السياسيين.. أنقل منها هذه الفقرة:
"إن أي مجتمع من المجتمعات حين يقيم ويطور ديمقراطية تستهدف المثل العالمية يجب أن يضيف أحكام قِيَمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده باعتبارها خميرة الثقافة السياسية لهذه التجربة الديمقراطية.
الديمقراطية –بهذه الصورة- يمكن لها أن تخرج من دائرة المناقشات المجردة وتتحول إلى نظام قابل للتطبيق. وبهذه الصورة فقط يمكن للمجتمع أن يزداد ثراءً، بل وتبتعد الديمقراطية عن كونها (إشكالية نخبوية).
بهذا يمكن للمجتمع أن يعمق وعيه بالديمقراطية، ويحولها لإحدى واجبات الحياة اليومية، ويغذي بها قناعاته الثقافية. ويكون لهذه الخلفية الثقافية إسهاماتها الكبيرة للوصول بالديمقراطية إلى مصافّ العالمية.
هناك اتصال مباشر بين هذا الموضوع وبين مفهوم سيادة القانون الذي يحتاج إليه أي مجتمع من المجتمعات بقدر احتياجه للخبز والماء. ولو لم يُعمّق الشعب فكرة الديمقراطية أو تم الحكم في هذه الديمقراطية على أنها برنامج خاص بالنخبة التي تدير البلاد؛ ففي هذه الحالة ستقوم النخبة الحاكمة بتضييق حدود الديمقراطية وتفسرها بالمصلحة العامة العليا للوطن، وهو تفسير يستأثرون هم وحدهم بالتعامل معه.
في هذه الحالة تخرج الدولة عن كونها دولة قانون وتصبح عبارة عن قانون الدولة وتظل قابعة في مرحلة الشتات والتيه عن جادة الديمقراطية الحقيقية.
ومن أجل إمكانية تحقيق سيادة القانون بالمعنى الحقيقي يجب أن يتحول الدستور من كونه إطارا يُملي فيه النخبة الحاكمة آراءهم على الشعب إلى إطار من نتاج الشعب، ويملي فيه هذا الشعب على الدولة ما يرغب فيه. والطريقة الوحيدة لإيجاد دستور متفق عليه أن يكون هذا الدستور هو اختصار للقانون.
ولو لم يكن الدستور من نتاج المجتمع، ولو لم يكن في الإطار الذي يُملي فيه هذا المجتمع على الدولة ما يرغب فيه، فستفقد الديمقراطية كل جاذبيتها، وتكون قد اختزلت في الانتخابات فحسب.
وفي هذه الحالة لن تكون هناك أي آلية تمنع أن يتم إبعاد أي حكومة جاءت بالطرق الشرعية عن وظيفتها بشكل ديمقراطي ووفق رغبة الناخبين الذين يمثلون إرادة الشعب. وإن حدث هذا، فإن المجتمع سوف يفقد كل إمكاناته في ما يتعلق بحقه في الحصول على الحرية والعدالة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأجواء تهيئ لمن لديهم شغف الحصول على السلطة بانتهاج طرق غير ديمقراطية للوصول إليها. ومما لا شك فيه أن ذلك أمرٌّ غير مرغوب، وله تأثيرات سلبية على المجتمع بأسره.
وبذلك، فلو أن تشكيل الدستور كان نتيجة مناقشات حرة داخل المجتمع، وكان نتيجة توافقية لهذه المناقشات، فإن القانون سيطبق في إطار الديمقراطية وسيقوم في الوقت ذاته بحمايتها.
وبهذا، فإن تغير الحكومة من خلال الانتخابات من دون استخدام العنف وقبول الجميع لنتائج الانتخابات من دون أي شروط أو قيود يُعدّ واجبا أخلاقيا لا غنى عنه.
إضافة إلى ذلك، فإنه لن تكون هناك أي مشقة ملقاة على الشعب في الانصياع لهذا الواجب الأخلاقي. فحين تتغير الحكومة من خلال الانتخابات، فإن الحزب الذي يأتي إلى السلطة، أيا كانت الأصوات الحاصل عليها، فلن يتمكن من المساس بالحقوق والحريات الأساسية"***
لقد كان أردوغان منتبها إلى أن النظام الديمقراطي في تركيا هو صورة نظام أو هيكل نظام، غايته الحقيقية خدمة مصالح الطبقة النخبوية العلمانية فحسب، وقد كرر إدانة هذا الوضع في مواقف مختلفة، منها في خطاب له ألقاه بعد صدور الحكم عليه بالسجن عشرة أشهر بعد خطبته الشهيرة التي استشهد فيها بأبيات شعر إسلامية، صرح فيه بأنه لا معنى للديمقراطية إذا كان القضاء مُسَيَّسًا:
"إن الديمقراطية في وطننا تُختزل وباستمرار في صورة الانتخابات. والحقيقة أن الديمقراطية ليست فقط مجرد انتخابات، وإنما تعني أيضا استقلالية القاضي والقضاء. ولو تم المساس بهاتين الحريتين، فستصبح الديمقراطية نظاما ديكتاتوريا متسترا خلف مظهر ديمقراطي"بل لقد استمر أردوغان يؤكد هذه الفكرة وتوابعها حتى بعد أن تولى السلطة، وقد رجعت إلى كتاب "مقتطفات من خطب رجب طيب أردوغان" فوجدتُ هذا الأمر بمثابة الثابت في تفكيره، يكرره في أماكن وأزمان ومناسبات مختلفة، سواء أكان خطابا جماهيريا أم نخبويا، سواء أكان عند انتخابات أو في أوقات استقرار.
§ ففي خطاب له بأنطاليا 16/5/2003: "الديمقراطية ليست موجودة لخدمة السياسي، بل السياسي هو الخادم للديمقراطية"§ وفي خطا بديار بكر 18/7/2003 "الدولة يجب عليها أن تكون خادمة لا محالة، لذلك نحن مقررون ومصممون على أن نطهر ديمقراطيتنا من العيوب"§ وفي خطاب أمام مجلس الشورى للإدارات المحلية 6/10/2003: "نحن نهدف لإعادة تنظيم البنية الإدارية من جديد وفق المعايير العالمية الديمقراطية. تلك البنية المتعبة البالية، المغلقة عن المجتمع والتي تتجاهل حقوق الإنسان"§ وفي خطاب أمام الاجتماع الاستشاري الثالث 27/9/2004 "إن طابعنا الديمقراطي هو دليل على أخذنا المجتمع مركزا لسياستنا"§ وفي خطاب بأزمير 2/2/2007 "إن عددا من المسؤولين الحكوميين الذين يحاولون تشكيل عصابات عن طريق مخالفة القانون من أجل قِيَم يعتبرونها مقدسة. هؤلاء بحد ذاتهم هم أركان الدولة العميقة ضمن الدولة الحقيقية"§ وفي خطاب أمام الاجتماع الاستشاري الحادي عشر 25/11/2007 "عندما نقول ديمقراطية نعني بها سيادة إرادة الشعب من دون قيد أو شرط"§ وفي خطاب لدى اجتماع الكتلة البرلمانية 29/1/2009 "كلما نضجت الديمقراطية في تركيا، وكلما اقتربت الدولة من الشعب، وغادرت القوالب الصلبة بنيتنا. سيُرى حجم المشاكل التي ضخّمناها في أعيننا لسنوات طويلة، وسنكتشف كم كانت مشاكل صغيرة"§ وفي خطاب بالاجتماع الاستشاري 21/11/2009 "السياسة هي فن الإحساس بشعور الأمة، وهي رؤية ما تراه الأمة وسماع ما تسمعه الأمة"نشر في تركيا بوست
حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص231. قصة زعيم ص241. عبد الرحمن تيغ وآخران: مقتطفات من خطب رجب طيب أردوغان ص98. مقتطفات ص109. مقتطفات ص109. مقتطفات ص106. مقتطفات ص108. مقتطفات ص100. مقتطفات ص105. مقتطفات ص285.
Published on August 18, 2015 12:39
تزكية د. محمد موسى الشريف
تفضل علي الشيخ الكريم د. محمد موسى الشريف بهذه التزكية، وكنتُ قد طلبتها منه إذ كنت بصدد العمل في مركز بحثي، طلب مني تزكية على هذا النحو ثم لم يتم الأمر.. فكسبنا التزكية وهي خير من العمل!
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد؛
فقد عرفت الأخ الباحث الأستاذ محمد إلهامي، عرفته باحثا مُجِدًّا، له أبحاث جيدة في علم التاريخ، واطلعت على بعضها، ورأيت فيه الهمة ومحاولة الاستقراء والاستقصاء، ومحاولة إخراج العبر والعظات، وهذا منهج حميد في كل من يتصدى لعلم التاريخ، فهو إن شاء الله قائم بالشروط.. شروط البحث العلمي، وأرى -والله أعلم- أنها متوفرة فيه، وأرى والله أعلم أنه صالح لأن يعمل في المؤسسات البحثية لأن عنده تصورا واضحا عن أسس البحث العلمي وأسس إنشاء الأبحاث والرسائل.
أسأل الله أن ينفع به وأن يجعله عزا للإسلام والمسلمين".
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد؛
فقد عرفت الأخ الباحث الأستاذ محمد إلهامي، عرفته باحثا مُجِدًّا، له أبحاث جيدة في علم التاريخ، واطلعت على بعضها، ورأيت فيه الهمة ومحاولة الاستقراء والاستقصاء، ومحاولة إخراج العبر والعظات، وهذا منهج حميد في كل من يتصدى لعلم التاريخ، فهو إن شاء الله قائم بالشروط.. شروط البحث العلمي، وأرى -والله أعلم- أنها متوفرة فيه، وأرى والله أعلم أنه صالح لأن يعمل في المؤسسات البحثية لأن عنده تصورا واضحا عن أسس البحث العلمي وأسس إنشاء الأبحاث والرسائل.
أسأل الله أن ينفع به وأن يجعله عزا للإسلام والمسلمين".
Published on August 18, 2015 02:28
August 15, 2015
خالد حربي.. سجين الدولتين
يحلو لي عند ذكرى رابعة أن أكتب عن تلك الفئة المنسية، عن أولئك الشباب الثوري المسلم، هؤلاء الذين كانوا الأكثر مغرما والأقل مغنما، الحاضرون في مواطن الكريهة الغائبون عند تقسيم الأنفال، الصائحون في آذان المخدوعين أن انتبهوا واستيقظوا ولا تأمنوا للعسكر ولكن ما ثمة من يسمع، حتى وقعت الكارثة "الانقلاب العسكري" فما منعهم ذلك عن النزول لمواجهته وصده بما استطاعوا، فهم الآن بين شهيد وسجين وطريد، لا ينصفهم أحد في محنتهم كما لم ينصفهم أحد.
كتبتُ في الذكرى الماضية عن حسام أبو البخاري كعنوان لهذه الفئة من الشباب الإسلامي، ومن كان يعرف حساما قبل الثورة فهو بغير شك يعرف رفيقه وقرينه: خالد حربي. كلاهما من فرسان العلم والعمل، إلا أن حساما أبرز في جهة العلم بما أوتي من لسان فصيح بليغ وخالدا أبرز في جهة العمل بما أوتي من همة وحركة وأثر.
ومن المؤسف أن خير من يعرف هذا ويقدره هم الأعداء، وفي مصر عدوان متحالفان كبيران: الدولة العلمانية والكنيسة القبطية. كلاهما يعمل في خدمة الآخر ويُمَكِّن له ويستعين به. وقد بلغ نفوذ الكنيسة في مصر مبلغا متوحشا لا يعرفه إلا القليل، فالكنيسة المصرية هي المؤسسة الوحيدة التي تتدفق عليها الأموال دون أن تخضع لرقابة الدولة، والكنيسة لا تنفذ أحكام القضاء إذا تعارضت مع إرادتها، والكنيسة تستولي على مساحات شاسعة بوضع اليد وقوة الأمر الواقع وتنشيء فيها الأديرة الفسيحة التي هي أشبه بحصون وقلاع حربية تحتوي على المزارع والمصانع ووسائل الإنتاج التي لا تخضع للضرائب ولا للرقابة، فضلا عن تكدسها بالأسلحة واستغلال بعضها كمراكز للتدريب العسكري للشباب المسيحي، وتستطيع الكنيسة أن تمتنع عن تسليم قبطي مطلوب للشرطة أو القضاء إذا أرادت، وكان شنودة إذا أراد أمرا أعلن أنه معتكف في الدير احتجاجا فتنزل له السلطة عما يريد فيعود مظفرا منتصرا، وللكنيسة من نشاطات التنصير وتربية وإعداد الكوادر ما لا يعرفه إلا القليل، ثم بلغ الأمر ذروته قبيل نهاية عصر مبارك بأن الدولة صارت تُسَلِّم من أرادت أن تدخل الإسلام من المسيحيات إلى الكنيسة، وهناك يختفي ذكرهن تماما فلا يُعرف مصيرهن أبدا، وقد حدث هذا مع كثيرات لكن أشهرهن اسمان: وفاء قسطنطين، وكاميليا شحاتة، وهذه الأخيرة بلغ من فجور الكنيسة أن القساوسة حاصروا الأزهر وصاروا يفتشون ويستجوبون الداخلين إليه انتظارا لها لكي يحولوا دون تسجيل إسلامها، ثم اختطفوها بمساعدة الدولة واختفى ذكرها تماما ولم يُعرف لها مصير.
ورغم هذا التغول والتوحش في دور الكنيسة إلا أن أحدا من فئة العلماء والحركات الإسلامية لم يسعَ للتصدي له، إذ الكنيسة خط أحمر ووثن وطني كبير، ومن رام رميها بتساؤل خرجت له أسراب الأفاعي والخفافيش والنائحات تلطم على الوحدة الوطنية وحقوق المسيحيين، بل لا عجب أن ترى إسلاميين يسارعون في التبرؤ من كل ما يضايق الكنيسة ويؤرق مضجعها ويقلق سكونها.. وهذا ملف طويل مرير.
المهم في سياقنا الآن، أن هذا الوحش الكنسي لم يكن يتصدى له إلا ثلة من الشباب، في مشهد لا تعبير عنه إلا أن يكون عملية استشهادية، شباب بغير إمكانيات ولا دعم ولا حاضنة سياسية ولا مساحة إعلامية يواجهون هذه الكنيسة التي هي حقا دولة فوق الدولة.. وعلى رأس هذه الثلة يقف خالد حربي!
أسس خالد حربي "المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير"، وهي مدونة على الانترنت لكنها فتحت خفايا ملف التنصير الذي يتواطأ الجميع على إخفائه وإغلاقه، وصار هو ومن معه ضمن ثلة يلجأ إليها من أراد أن يدخل الإسلام، خصوصا لو كان من النساء، فتصدى هؤلاء للقيام بدور الاستقبال والإيواء وتأمين الدخول في الإسلام (واضحك أيها القارئ ضحكا مريرا، صار من يريد دخول الإسلام في مصر بلد الأزهر وعاصمة الخلافة لثلاثة قرون يحتاج تأمينا) وتدبير أمر الأوراق الرسمية، وتوفير حياة كريمة فيما بعد، مع كل ما يحفّ بهذا من مخاطر أمنية لا يدريها من لم يكن على صلة بهذا الملف.
وهذا الدور السري لا يغني عن الواجب العلني، فلقد قامت هذه الثلة من الشباب بواجب الفضح لما يجري في ملف التنصير، ومقاومة أفكاره والدخول في المناظرات مع أرباب الكنيسة، تلك المناظرات التي لم تكن تجري إلا على الانترنت وفي غرف البالتوك، بينما كانت مؤسسات التنصير تفتح الفضائيات في قبرص فيستقبلها الناس في مصر بغير مقاومة من الدولة ولا من الأزهر، بل ولا من حركات إسلامية ودعاة قد منعهم الخوف أو خشوا على صورتهم الإعلامية من أفاعي الكنيسة!
وكم دفع هؤلاء الشباب من أعمارهم في المعتقلات، ومن لحومهم ودمائهم تحت التعذيب، ومن أموالهم وأمنهم جراء التهديد.. كم دفعوا كل ذلك بغير أن يسمع بهم أحد أو يكترث لهم أحد.
ولقد كان خالد حربي عريقا في المعتقلات، وكتب بعض مقالات عن ذكرياته في سجون مبارك تفيض ببعض ما لاقاه من عناءلم يقتصر الأمر على ملف التنصير، وإن كنتُ أطلتُ الكلام فيه لما يكتنفه من غموض ومجهول وأخطار، أما حقيقة الأمر فكانت أكبر منه.. حقيقة الأمر هي قضية الإسلام في مصر، قضية المسلمين المقهورين تحت أنياب ومخالب الدولة العلمانية الصليبية، فهي علمانية فيما يخص المسلمين وهي صليبية فيما يخص النصارى. ولقد كان خالد حربي من تلاميذ الشيخ الكبير رفاعي سرور، ذلك الرجل الذي لا يعرفه الكثيرون أيضا ثم يندهشون إذا طالعوا كتبه فقرأوا ما فيها من البصيرة أو عرفوا سيرته فعرفوا ما فيها من الجهاد. ولقد زكاه الشيخ رفاعي بأوثق تزكية إذ زوجه من ابنته أسماء، فكان صهر الشيخ من بعد ما كان تلميذه فحسب.
وما من شك في أن الثورة كانت فرجا من الله لهؤلاء الشباب، ولذلك فقد كانوا في ميادينها منذ اليوم الأول، وكانوا أدرى بطبيعة الصراع فيها من جميع من كان معهم، فكان قدرهم أن يواجهوا فوق العدوين الأصليين (الدولة والكنيسة) خصميْن آخرين (الإسلاميون الإصلاحيون والثوريون المغفلون)، فوقفوا ضد المجلس العسكري في كل مراحله لتبريد الثورة وقتلها فكانوا ضد الدولة والكنيسة والإسلاميين الإصلاحيين، ووقفوا مع تجربة الرئيس محمد مرسي –فك الله أسره- بكل طاقتهم ضد الدولة والكنيسة والثوريين المغفلين، وذاقوا الملاحم قبل أن يذوقها الجميع (مذبحة العباسية 4 مايو 2012) وساعتها تخلى عنهم الجميع أيضا. وأثاروا القضايا التي لم يكن غيرهم أن ينتبه لها مثل مسألة الشريعة في الدستور، ونصرة الثورة السورية، وفتح ملف الأسيرات لدى الكنيسة.. فكل هذه الفعاليات بدأها هؤلاء الشباب ودعوا لها، ولا يستطيع أحد غيرهم أن ينسبها إلى نفسه، ونحن شهود عيان!
اعتقل خالد حربي، الاعتقال الأخير، يوم 7 نوفمبر عام 2013 من منزله بالإسكندرية، ثم انهمرت عليه الاتهامات التي لا تهدف إلا إلى إبقائه في السجن، فأول التهم كان "الانضمام إلى جماعة محظورة"، وبعدها بثلاثة أشهر أضيفت إليه تهمة "المشاركة في أحداث مسجد الفتح 16/8/2013"، وبعدها بشهرين زادوه تهمة "التظاهر أمام مقر أمن الدولة 2/5/2013"، وبعدها بسنة اتهموه بـ "الانضمام لجماعة أنصار بيت المقدس"، وأخيرا اتُّهِم بـ "التظاهر أمام مقر نيابة مدينة نصر".. بينما حقيقة التهمة هي ما نطق به وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم أنه "اعتاد القيام بأعمال عدائية ضد الكنيسة".
رغم الفارق الرهيب في الإمكانيات والنفوذ إلا أن خالد حربي كان ضمن من تطالب الكنيسة باعتقالهم منذ وقت بعيد، وأعلن هذا قسُّ منها يدعى فلوباتير في اتصال هاتفي مع قناة فضائية، (واضحك مرة أخرى: الكنيسة تضع قوائم اعتقالات في بلد الأزهر!!!).
والآن، ما تزال الزيارة ممنوعة عن خالد حربي منذ يناير 2014م، ولم ير ابنته الصغرى "أروى" التي وُلِدت بعد اعتقاله، ومات أبوه وهو في السجن، وخالد هو الابن الوحيد له، ولم يُسمح له بحضور الجنازة على نحو ما سمحوا للناشط العلماني علاء عبد الفتاح.
ويعاني خالد من وجوده في سجن العقرب، ويطلقون عليه مقبرة العقرب، وهو السجن الذي شهد في الأسبوع الماضي وحده مقتل ثلاثة من قيادات الإسلاميين لتركهم بغير دواء حتى الموت: وهم عزت السلاموني ومرجان سالم وعصام دربالة فضلا عمن مات فيه من قبل مثل نبيل المغربي وفريد إسماعيل. لا سيما وأن الحالة الصحية لخالد حربي متدهورة منذ قديم، إذ يعاني من مرض مزمن بقرحة والتهابات شديدة بالمعدة، وتقرحات والتهابات مزمنة بالقولون، وارتجاع بالمريء، وكلها أمراض مثبتة في تقارير السجن، وما زال يمنع من العلاج ومن شراء الأطعمة المناسبة لحالته ومن نقله لسجن طرة حيث المستشفى، فضلا عن سوء معاملة السجن. وفي زيارة المحامي له نقل تدهور حالته الصحية وشحوب وجهه واصفرار لونه ونقل عنه: ازدياد رجع الدم وأنه يشعر كما لو كانت تتكرر معه قصة الشيخ نبيل المغربي (الذي توفي 4/6/2015م). ونقل محمود فتحي، من قيادات تحالف دعم الشرعية، عن مصدره أن هناك نية مبيتة لتصفية خالد حربي مجاملة للكنيسة.
إن ما فقدته مصر وأمة الإسلام من كنوز في سلسلة المذابح وأفواج الاعتقالات التي نفذها الانقلاب العسكري لا تقدر بثمن، إن حجم الطاقات والعقول والأحلام التي دفنت أو حُرِقت أو سُجِنت ليستعصي على الحصر بل على التصور.. إن البلاد تفقد أنبل ما فيها ومن فيها، وليس غير أصدقاء هؤلاء الشهداء والجرحى والمعتقلين من يعرف حقيقة النكبة التي نكبتها البلاد بغياب هؤلاء!
نشر في نون بوست
منها: الراحلون، القساوسة الضباط (1)، القساوسة الضباط (2)، إفطار على وجبة الموت، تفتيش، الانتصار على الجوع، أبو إيمان ومبارك وشفيق، كيف ذبحوا رجب وعائشة، إيداع بمعرفة الجهاز.
كتبتُ في الذكرى الماضية عن حسام أبو البخاري كعنوان لهذه الفئة من الشباب الإسلامي، ومن كان يعرف حساما قبل الثورة فهو بغير شك يعرف رفيقه وقرينه: خالد حربي. كلاهما من فرسان العلم والعمل، إلا أن حساما أبرز في جهة العلم بما أوتي من لسان فصيح بليغ وخالدا أبرز في جهة العمل بما أوتي من همة وحركة وأثر.
ومن المؤسف أن خير من يعرف هذا ويقدره هم الأعداء، وفي مصر عدوان متحالفان كبيران: الدولة العلمانية والكنيسة القبطية. كلاهما يعمل في خدمة الآخر ويُمَكِّن له ويستعين به. وقد بلغ نفوذ الكنيسة في مصر مبلغا متوحشا لا يعرفه إلا القليل، فالكنيسة المصرية هي المؤسسة الوحيدة التي تتدفق عليها الأموال دون أن تخضع لرقابة الدولة، والكنيسة لا تنفذ أحكام القضاء إذا تعارضت مع إرادتها، والكنيسة تستولي على مساحات شاسعة بوضع اليد وقوة الأمر الواقع وتنشيء فيها الأديرة الفسيحة التي هي أشبه بحصون وقلاع حربية تحتوي على المزارع والمصانع ووسائل الإنتاج التي لا تخضع للضرائب ولا للرقابة، فضلا عن تكدسها بالأسلحة واستغلال بعضها كمراكز للتدريب العسكري للشباب المسيحي، وتستطيع الكنيسة أن تمتنع عن تسليم قبطي مطلوب للشرطة أو القضاء إذا أرادت، وكان شنودة إذا أراد أمرا أعلن أنه معتكف في الدير احتجاجا فتنزل له السلطة عما يريد فيعود مظفرا منتصرا، وللكنيسة من نشاطات التنصير وتربية وإعداد الكوادر ما لا يعرفه إلا القليل، ثم بلغ الأمر ذروته قبيل نهاية عصر مبارك بأن الدولة صارت تُسَلِّم من أرادت أن تدخل الإسلام من المسيحيات إلى الكنيسة، وهناك يختفي ذكرهن تماما فلا يُعرف مصيرهن أبدا، وقد حدث هذا مع كثيرات لكن أشهرهن اسمان: وفاء قسطنطين، وكاميليا شحاتة، وهذه الأخيرة بلغ من فجور الكنيسة أن القساوسة حاصروا الأزهر وصاروا يفتشون ويستجوبون الداخلين إليه انتظارا لها لكي يحولوا دون تسجيل إسلامها، ثم اختطفوها بمساعدة الدولة واختفى ذكرها تماما ولم يُعرف لها مصير.
ورغم هذا التغول والتوحش في دور الكنيسة إلا أن أحدا من فئة العلماء والحركات الإسلامية لم يسعَ للتصدي له، إذ الكنيسة خط أحمر ووثن وطني كبير، ومن رام رميها بتساؤل خرجت له أسراب الأفاعي والخفافيش والنائحات تلطم على الوحدة الوطنية وحقوق المسيحيين، بل لا عجب أن ترى إسلاميين يسارعون في التبرؤ من كل ما يضايق الكنيسة ويؤرق مضجعها ويقلق سكونها.. وهذا ملف طويل مرير.
المهم في سياقنا الآن، أن هذا الوحش الكنسي لم يكن يتصدى له إلا ثلة من الشباب، في مشهد لا تعبير عنه إلا أن يكون عملية استشهادية، شباب بغير إمكانيات ولا دعم ولا حاضنة سياسية ولا مساحة إعلامية يواجهون هذه الكنيسة التي هي حقا دولة فوق الدولة.. وعلى رأس هذه الثلة يقف خالد حربي!
أسس خالد حربي "المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير"، وهي مدونة على الانترنت لكنها فتحت خفايا ملف التنصير الذي يتواطأ الجميع على إخفائه وإغلاقه، وصار هو ومن معه ضمن ثلة يلجأ إليها من أراد أن يدخل الإسلام، خصوصا لو كان من النساء، فتصدى هؤلاء للقيام بدور الاستقبال والإيواء وتأمين الدخول في الإسلام (واضحك أيها القارئ ضحكا مريرا، صار من يريد دخول الإسلام في مصر بلد الأزهر وعاصمة الخلافة لثلاثة قرون يحتاج تأمينا) وتدبير أمر الأوراق الرسمية، وتوفير حياة كريمة فيما بعد، مع كل ما يحفّ بهذا من مخاطر أمنية لا يدريها من لم يكن على صلة بهذا الملف.
وهذا الدور السري لا يغني عن الواجب العلني، فلقد قامت هذه الثلة من الشباب بواجب الفضح لما يجري في ملف التنصير، ومقاومة أفكاره والدخول في المناظرات مع أرباب الكنيسة، تلك المناظرات التي لم تكن تجري إلا على الانترنت وفي غرف البالتوك، بينما كانت مؤسسات التنصير تفتح الفضائيات في قبرص فيستقبلها الناس في مصر بغير مقاومة من الدولة ولا من الأزهر، بل ولا من حركات إسلامية ودعاة قد منعهم الخوف أو خشوا على صورتهم الإعلامية من أفاعي الكنيسة!
وكم دفع هؤلاء الشباب من أعمارهم في المعتقلات، ومن لحومهم ودمائهم تحت التعذيب، ومن أموالهم وأمنهم جراء التهديد.. كم دفعوا كل ذلك بغير أن يسمع بهم أحد أو يكترث لهم أحد.
ولقد كان خالد حربي عريقا في المعتقلات، وكتب بعض مقالات عن ذكرياته في سجون مبارك تفيض ببعض ما لاقاه من عناءلم يقتصر الأمر على ملف التنصير، وإن كنتُ أطلتُ الكلام فيه لما يكتنفه من غموض ومجهول وأخطار، أما حقيقة الأمر فكانت أكبر منه.. حقيقة الأمر هي قضية الإسلام في مصر، قضية المسلمين المقهورين تحت أنياب ومخالب الدولة العلمانية الصليبية، فهي علمانية فيما يخص المسلمين وهي صليبية فيما يخص النصارى. ولقد كان خالد حربي من تلاميذ الشيخ الكبير رفاعي سرور، ذلك الرجل الذي لا يعرفه الكثيرون أيضا ثم يندهشون إذا طالعوا كتبه فقرأوا ما فيها من البصيرة أو عرفوا سيرته فعرفوا ما فيها من الجهاد. ولقد زكاه الشيخ رفاعي بأوثق تزكية إذ زوجه من ابنته أسماء، فكان صهر الشيخ من بعد ما كان تلميذه فحسب.
وما من شك في أن الثورة كانت فرجا من الله لهؤلاء الشباب، ولذلك فقد كانوا في ميادينها منذ اليوم الأول، وكانوا أدرى بطبيعة الصراع فيها من جميع من كان معهم، فكان قدرهم أن يواجهوا فوق العدوين الأصليين (الدولة والكنيسة) خصميْن آخرين (الإسلاميون الإصلاحيون والثوريون المغفلون)، فوقفوا ضد المجلس العسكري في كل مراحله لتبريد الثورة وقتلها فكانوا ضد الدولة والكنيسة والإسلاميين الإصلاحيين، ووقفوا مع تجربة الرئيس محمد مرسي –فك الله أسره- بكل طاقتهم ضد الدولة والكنيسة والثوريين المغفلين، وذاقوا الملاحم قبل أن يذوقها الجميع (مذبحة العباسية 4 مايو 2012) وساعتها تخلى عنهم الجميع أيضا. وأثاروا القضايا التي لم يكن غيرهم أن ينتبه لها مثل مسألة الشريعة في الدستور، ونصرة الثورة السورية، وفتح ملف الأسيرات لدى الكنيسة.. فكل هذه الفعاليات بدأها هؤلاء الشباب ودعوا لها، ولا يستطيع أحد غيرهم أن ينسبها إلى نفسه، ونحن شهود عيان!
اعتقل خالد حربي، الاعتقال الأخير، يوم 7 نوفمبر عام 2013 من منزله بالإسكندرية، ثم انهمرت عليه الاتهامات التي لا تهدف إلا إلى إبقائه في السجن، فأول التهم كان "الانضمام إلى جماعة محظورة"، وبعدها بثلاثة أشهر أضيفت إليه تهمة "المشاركة في أحداث مسجد الفتح 16/8/2013"، وبعدها بشهرين زادوه تهمة "التظاهر أمام مقر أمن الدولة 2/5/2013"، وبعدها بسنة اتهموه بـ "الانضمام لجماعة أنصار بيت المقدس"، وأخيرا اتُّهِم بـ "التظاهر أمام مقر نيابة مدينة نصر".. بينما حقيقة التهمة هي ما نطق به وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم أنه "اعتاد القيام بأعمال عدائية ضد الكنيسة".
رغم الفارق الرهيب في الإمكانيات والنفوذ إلا أن خالد حربي كان ضمن من تطالب الكنيسة باعتقالهم منذ وقت بعيد، وأعلن هذا قسُّ منها يدعى فلوباتير في اتصال هاتفي مع قناة فضائية، (واضحك مرة أخرى: الكنيسة تضع قوائم اعتقالات في بلد الأزهر!!!).
والآن، ما تزال الزيارة ممنوعة عن خالد حربي منذ يناير 2014م، ولم ير ابنته الصغرى "أروى" التي وُلِدت بعد اعتقاله، ومات أبوه وهو في السجن، وخالد هو الابن الوحيد له، ولم يُسمح له بحضور الجنازة على نحو ما سمحوا للناشط العلماني علاء عبد الفتاح.
ويعاني خالد من وجوده في سجن العقرب، ويطلقون عليه مقبرة العقرب، وهو السجن الذي شهد في الأسبوع الماضي وحده مقتل ثلاثة من قيادات الإسلاميين لتركهم بغير دواء حتى الموت: وهم عزت السلاموني ومرجان سالم وعصام دربالة فضلا عمن مات فيه من قبل مثل نبيل المغربي وفريد إسماعيل. لا سيما وأن الحالة الصحية لخالد حربي متدهورة منذ قديم، إذ يعاني من مرض مزمن بقرحة والتهابات شديدة بالمعدة، وتقرحات والتهابات مزمنة بالقولون، وارتجاع بالمريء، وكلها أمراض مثبتة في تقارير السجن، وما زال يمنع من العلاج ومن شراء الأطعمة المناسبة لحالته ومن نقله لسجن طرة حيث المستشفى، فضلا عن سوء معاملة السجن. وفي زيارة المحامي له نقل تدهور حالته الصحية وشحوب وجهه واصفرار لونه ونقل عنه: ازدياد رجع الدم وأنه يشعر كما لو كانت تتكرر معه قصة الشيخ نبيل المغربي (الذي توفي 4/6/2015م). ونقل محمود فتحي، من قيادات تحالف دعم الشرعية، عن مصدره أن هناك نية مبيتة لتصفية خالد حربي مجاملة للكنيسة.
إن ما فقدته مصر وأمة الإسلام من كنوز في سلسلة المذابح وأفواج الاعتقالات التي نفذها الانقلاب العسكري لا تقدر بثمن، إن حجم الطاقات والعقول والأحلام التي دفنت أو حُرِقت أو سُجِنت ليستعصي على الحصر بل على التصور.. إن البلاد تفقد أنبل ما فيها ومن فيها، وليس غير أصدقاء هؤلاء الشهداء والجرحى والمعتقلين من يعرف حقيقة النكبة التي نكبتها البلاد بغياب هؤلاء!
نشر في نون بوست
منها: الراحلون، القساوسة الضباط (1)، القساوسة الضباط (2)، إفطار على وجبة الموت، تفتيش، الانتصار على الجوع، أبو إيمان ومبارك وشفيق، كيف ذبحوا رجب وعائشة، إيداع بمعرفة الجهاز.
Published on August 15, 2015 06:47
August 13, 2015
طبيعة السلطة في الإسلام
كيف بنى الإسلام هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف يمكن أن نعيد بعث هذه الأمة مرة أخرى؟ ومن المسؤول عن القيام بهذا التغيير؟
سعيا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسؤول عن التغيير؟
ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، والذي يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسؤولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.
وقلنا إن الأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته ودوره في الحياة؛ مهمة الاستخلاف في الأرض، إذ يكلفه بحمل الأمانة وتعمير الأرض ومقاومة إفسادها.
ثم تحدثنا عن المسؤولية الفردية، وكيف بنى الإسلام شخصية المسلم في خمس مراحل تُلْزمه أن يكون مصلحا مجاهدا مثابرا؛ فكل مسلم مسؤول، ولا يُقبل منه أن يكون إمعة بل لا بد من استقلال الشخصية، وهو ملزم بنظام أخلاقي، فإن تعداه أو تجاوزه لطبيعته البشرية فإن هذا النظام الأخلاقي يستوعب هذا التجاوز لطبيعته المتكاملة، كما أنه ملزم بألا ييأس أبدا فاليأس هو سمة الكافرين.
وندخل الآن إلى الركن الثالث من منهج بناء الإسلام للمجتمع وهو: النظام العام.
***
إذا تتبعنا طريقة بناء الإسلام للمجتمع فسنرى سعيًا لتقوية السلطة والأمة كل على حدة، ثم ضبط العلاقة بينهما بما لا يسمح للسلطة أن تطغى على الأمة أو تجور عليها، ثم بما لا يسمح بتهديد السلطة والتمرد عليها إلا بالحق، وحينما تُعْدَم وسائل التقويم الأخرى؛ ومجمل هذا أن:
1. نظام الحكم هو في الأساس من مسئوليات الأمة؛ فليس في الإسلام صاحب حق إلهي بالحكم، أو أحد أعطاه الله حق الوصاية على الناس، بل حارب الإسلام النموذج الفرعوني الطغياني، الذي يسلب الناس حقهم في الاختيار؛ ومن ثم يسلبهم شعور المسئولية؛ بل الأمة هي من تختار حاكمها، ولها حق الرقابة عليه كما لهم حق عزله كذلك، كما أن للحاكم على الأمة حق السمع والطاعة في المعروف، وهو مسئول عن "حراسة الدين وسياسة الدنيا" وحفظ مصالح الأمة.
2. والأمة فيما بينها -وبعيدًا عن السلطة- ينبغي أن تكون مترابطة متماسكة إلى الغاية في هذا؛ فالإسلام عَظَّم روابط الأسرة والرحم، كما عَظَّم روابط الجوار، ثم الرابطة العامة: رابطة الدين، فلا تكون الأمة أفرادًا متناثرين؛ فيصيرون لقمة سائغة للعدو أو للسلطة الجائرة، وقد وضع الإسلام من المؤسسات والشعائر ما يزيد من تماسك الأمة وتمتين روابطها.
3. وضَبَطَ الإسلام العلاقة بين الأمة والسلطة بما يتيح للأمة المجال الأوسع في الحركة والبناء الذاتي للحضارة، فلا تكون السلطة قيدًا ومعوقًا أمام جهد الأمة وانطلاقها في عمارة الأرض وفعل الخير وعملية الإصلاح، وبهذا يجد "الشعور بالمسئولية" مجاله للتحول إلى "إصلاح عملي" على أرض الواقع.
هذا هو الاختصار، والتفصيل في هذا المقال "طبيعة السلطة في الإسلام" والمقالات التالية إن شاء الله.
***
ضرب الله مثلاً على سوء السلطان بفرعون الذي وصل به الطغيان والاستكبار إلى أن يصيح في الناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ويعلن فيهم: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، دون أن يجد في القوم مَنْ يتصدَّى له، فكان مفهومًا أن يقول بعدئذٍ: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، فتكون النتيجة: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
إذا رأى الحاكم أنه فوق الناس، والوصي عليهم، أو أنه يحكمهم بتفويض إلهي ويستطيع إقناعهم -أو حتى قهرهم- بهذا؛ فإن تحملهم للمسئولية واستشعارهم لها ينسحب -تلقائيًّا- من الناس ليتركز في يد الحاكم، حتى ينشأ فيهم جيل يظنون الحاكم إلهًا؛ فلا يفكرون في إصلاحه أو عصيانه، ولو اتخذ قرارًا بذبح أبنائهم واستحياء بناتهم! ويطيعه جنوده ولو رأوا المعجزات الباهرة! ويخوضون معه البحر الذي تحول إلى يابس أمام أعينهم! فيلحقهم الجزاء معه جميعًا! {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55، 56]، فللاستبداد آثار كارثية على الأمم تفوق آثار كل آثار الحروب والنكبات(لقد حارب الإسلام الفرعونية الطاغية، وسمى الخضوع لغير الله خضوعًا للطاغوت، وجعل الحكم نوعيْن: حكم الله وحكم الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، ومن ثَمَّ كان نظام الحكم الإسلامي أبعد شيء عن نظام حكم الجاهلية الفرعونية الطاغية المستبدة، وانتزع الإسلام من الفراعنة والطغاة دعاواهم لأنفسهم، وسدَّ عليهم طرق الانفراد بالمسئولية من بين سائر الناس؛ ومن ذلك:
(1)هيمنة الشريعة
لم يعد الحاكم يملك التشريع؛ بل صار يحمل الأمانة والمسئولية في تطبيق الشريعة الربانية، وحيث كانت الشريعة من عند الله فإن أحدًا لا يملك صلاحية التبديل والتحريف من البشر، وإن كان حاكمًا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 40]، بل خاطب الله نبيه r بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، وبقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، فكيف بمن هو دون النبي r؟
إن "سيادة الشريعة" لا تساوي "سيادة القانون"، فالشريعة ملزمة للجميع: سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، وهي تغل يد الحاكم والمشرع عن سن قوانين ظالمة، بينما "سيادة القانون" ملزمة لسلطة التنفيذ فقط، ويبقى الباب مفتوحًا لإصدار قوانين وضعية تسمح بالاستبداد والطغيان(ولهذا فإن الجميع شركاء في المسئولية، مسئولية إقامة الشريعة، فلئن انحرفت سلطة التنفيذ عنها قاومتها سلطة التشريع والقضاء؛ ذلك أن الجميع خاضع لحكم الشرع لا لحكم السلطان، فإن انحرفت السلطات الثلاث قامت الأمة ذاتها بواجب الدفاع عن الشريعة؛ فهي مسئولة عن إقامتها ومواجهة الانحراف عنها؛ إذ "لا طاعة لمخلوق في معصية الله"(إن هذا ينتج فارقًا دقيقًا ورائعًا بين النظام الإسلامي وغيره من النظم، وهو الفارق بين "الحق" و"الواجب"، فالحق يمكن التنازل عنه؛ بينما الواجب يتحتم أداؤه، يقول القانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا: "ونتيجة هذه الروح الجميلة الخلابة في الشريعة ما كانت ممارسة الحق إلا إنجاز واجب؛ لأنه إن كان الحق شيئًا حسنًا، فلا يمكن إغفاله، وإهمال المطالبة به إثم، ومن يدعي بملكه من مغتصب لا حق له فيه إنما ينجز واجبًا أخلاقيًّا، وفي بقائه ساكنًا مهملاً مطالبته بحقه يجعل الباغي متماديًا في بغيه"(وبهذا صار المسلمون جميعًا حراس الشريعة، وهذا أمر تم منذ اللحظة الأولى لحكم البشر؛ حيث قال أبو بكر t في أول خطبة بعد بيعته: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"(والمسلمون على السمع والطاعة ما أقام الحاكم فيهم كتاب الله((2)الحاكم وكيل عن الأمة
فالأمة هي صاحبة الحق في تولية الحاكم ومراقبته وعزله كذلك، وليس لأحد تفويض إلهي بالحكم أو له وصاية على الناس، ولقد كانت أولى كلمات الخليفة الأول أبي بكر t: "وُلِّيت عليكم ولست بخيركم"(وباختيار الناس ورضاهم اختير الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يدَّع أحد منهم أنه أحق بولاية، أو أنه أفضل من غيره، فأبو بكر t تولى بعد اجتماع الأمر عليه في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي r، وهو الذي رشح عمر t من بعده فاجتمع عليه الناس، وظل عبد الرحمن بن عوف يدير أمر اختيار الخليفة الثالث أيامًا حتى رأى أهل المدينة لا يعدلون أحدًا بعثمان t، فلما قُتِل مظلومًا شهيدًا بايع الناس علي بن أبي طالب t.
وبرغم انحراف المسار التاريخي للأمة عن الشورى بعد عصر الراشدين، ورسوخ الأمر فيمن لهم العصبية كبني أمية وبني العباس ثم العثمانيين، فإن القاعدة بقيت سائرة، فالخليفة يستمد شرعيته من رضا الناس به وبيعتهم له، حتى ولو كانت هذه البيعة إجراءً شكليًّا أو صوريًّا، بخلاف الحال في غير الممالك الإسلامية، التي كان الحكام فيه أوصياء على الناس؛ لا حق للناس في اختيارهم، يحصل ولي العهد منهم على منصب الولاية وهو ما يزال جنينًا في بطن أمه.
وبهذا نزع الإسلام من الطغاة ادعاءاتهم، وحَمَّل الأمة مسئولية اختيار أمرائها ومراقبتهم، وأعطاها صلاحيات عزلهم كذلك.
(3)الشورى واجبة
وهنا تكون الممارسة العملية لتحمل المسئولية من سائر المسلمين فيما يخص شؤونهم؛ فلقد أمر الله نبيه r بالشورى فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، "وفي ذِكْر العزيمة عُقَيْب المشاورة دلالة على أنها صَدَرَتْ عن المشورة"(وقد حفلت سيرة النبي r بالشورى، لا سيما بعدما بدأت الدولة في المدينة المنورة، ووجدنا الصحابة يشيرون عليه، ففي موضع المعسكر يوم بدر ثم في أسرى المعركة، وفيما بين الخروج لملاقاة المشركين في أحد أو البقاء في المدينة، وفي غزوة الأحزاب ونزل الجميع على رأي سلمان بحفر الخندق، وفي إعطاء غطفان من ثمار المدينة، وفيما قاله أهل الإفك عن عائشة (رضي الله عنها)، وفي غيرها.
وقد عَمَّت الشورى جميع المسلمين، حتى من أسلم حديثًا، كما في استشارته للناس في ردِّ سَبْي هوازن عليهم بعد أن جاءوا تائبين، فقبل عامة الصحابة، ورفض بعض من أسلم حديثًا، فتعهد النبي بتعويضهم من أول فيء قادم(وغاية الكلام أن الإسلام وضع الشورى كنظام تتحمل به الأمة مسئوليتها في واقع الحياة، فلا يصير قرارها ومصيرها حكرًا بمن يتولى أمرها.
بهذه الأمور الأربعة:
1. رفض النموذج الفرعوني الطغياني2. هيمنة الشريعة وسيادتها3. كون الحاكم وكيلاً عن الأمة تختاره بإرادتها الحرة، وتراقبه، ولها حق عزله4. نظام الشورى..
بهذه الأمور الأربعة ترتسم ملامح "طبيعة السلطة" في المنهج الإسلامي.نشر في ساسة بوست
([1])لمطالعة هذا نوصي بكتاب: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي. ([2])د. توفيق الشاوي: سيادة الشريعة الإسلامية ص14. ([3])مسلم (1840). ([4])دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف توماس أرنولد، ص437. ([5])ابن هشام: السيرة النبوية 2/661، وقال ابن كثير (البداية والنهاية 5/269): هذا إسناد صحيح. ([6])البخاري (6781)، والقصة في ولاية الخليفة الراشد عثمان بن عفان t. ([7])قال النبي r: "يا أيها الناس اتقوا الله، وإن أُمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌ مُجَدَّع فاسمواع له، وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله". أحمد (16700)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، الترمذي (1706)، وصححه الألباني. ([8])البخاري (6647)، ومسلم (1709). ([9])ابن هشام: السيرة النبوية 2/661، وقال ابن كثير (البداية والنهاية 5/269): هذا إسناد صحيح. ([10])تغرة أن يقتلا: أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وصاحبه وتعرض للقتل. ([11])البخاري (6442). ([12])الطبري: تاريخ الطبري 2/700. ([13])الجصاص: أحكام القرآن 2/331. ([14])البخاري (2184)، ابن حجر: فتح الباري 8/33. ([15])البخاري (6781)، ولفظه: "فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدًا من الناس يتبع أولئك الرهط (الخمسة المرشحين للخلافة)، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي". وفي رواية: "فانثال الناس" أي انهمروا (ابن حجر: فتح الباري 13/196)، بل ذكر ابن كثير (البداية والنهاية 7/164) أن عبد الرحمن t استشار "رءوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا، مثنى وفرادى، ومجتمعين، سرًّا وجهرًا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة". ([16])ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز 1/534.
سعيا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسؤول عن التغيير؟
ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، والذي يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسؤولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.
وقلنا إن الأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته ودوره في الحياة؛ مهمة الاستخلاف في الأرض، إذ يكلفه بحمل الأمانة وتعمير الأرض ومقاومة إفسادها.
ثم تحدثنا عن المسؤولية الفردية، وكيف بنى الإسلام شخصية المسلم في خمس مراحل تُلْزمه أن يكون مصلحا مجاهدا مثابرا؛ فكل مسلم مسؤول، ولا يُقبل منه أن يكون إمعة بل لا بد من استقلال الشخصية، وهو ملزم بنظام أخلاقي، فإن تعداه أو تجاوزه لطبيعته البشرية فإن هذا النظام الأخلاقي يستوعب هذا التجاوز لطبيعته المتكاملة، كما أنه ملزم بألا ييأس أبدا فاليأس هو سمة الكافرين.
وندخل الآن إلى الركن الثالث من منهج بناء الإسلام للمجتمع وهو: النظام العام.
***
إذا تتبعنا طريقة بناء الإسلام للمجتمع فسنرى سعيًا لتقوية السلطة والأمة كل على حدة، ثم ضبط العلاقة بينهما بما لا يسمح للسلطة أن تطغى على الأمة أو تجور عليها، ثم بما لا يسمح بتهديد السلطة والتمرد عليها إلا بالحق، وحينما تُعْدَم وسائل التقويم الأخرى؛ ومجمل هذا أن:
1. نظام الحكم هو في الأساس من مسئوليات الأمة؛ فليس في الإسلام صاحب حق إلهي بالحكم، أو أحد أعطاه الله حق الوصاية على الناس، بل حارب الإسلام النموذج الفرعوني الطغياني، الذي يسلب الناس حقهم في الاختيار؛ ومن ثم يسلبهم شعور المسئولية؛ بل الأمة هي من تختار حاكمها، ولها حق الرقابة عليه كما لهم حق عزله كذلك، كما أن للحاكم على الأمة حق السمع والطاعة في المعروف، وهو مسئول عن "حراسة الدين وسياسة الدنيا" وحفظ مصالح الأمة.
2. والأمة فيما بينها -وبعيدًا عن السلطة- ينبغي أن تكون مترابطة متماسكة إلى الغاية في هذا؛ فالإسلام عَظَّم روابط الأسرة والرحم، كما عَظَّم روابط الجوار، ثم الرابطة العامة: رابطة الدين، فلا تكون الأمة أفرادًا متناثرين؛ فيصيرون لقمة سائغة للعدو أو للسلطة الجائرة، وقد وضع الإسلام من المؤسسات والشعائر ما يزيد من تماسك الأمة وتمتين روابطها.
3. وضَبَطَ الإسلام العلاقة بين الأمة والسلطة بما يتيح للأمة المجال الأوسع في الحركة والبناء الذاتي للحضارة، فلا تكون السلطة قيدًا ومعوقًا أمام جهد الأمة وانطلاقها في عمارة الأرض وفعل الخير وعملية الإصلاح، وبهذا يجد "الشعور بالمسئولية" مجاله للتحول إلى "إصلاح عملي" على أرض الواقع.
هذا هو الاختصار، والتفصيل في هذا المقال "طبيعة السلطة في الإسلام" والمقالات التالية إن شاء الله.
***
ضرب الله مثلاً على سوء السلطان بفرعون الذي وصل به الطغيان والاستكبار إلى أن يصيح في الناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ويعلن فيهم: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، دون أن يجد في القوم مَنْ يتصدَّى له، فكان مفهومًا أن يقول بعدئذٍ: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، فتكون النتيجة: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
إذا رأى الحاكم أنه فوق الناس، والوصي عليهم، أو أنه يحكمهم بتفويض إلهي ويستطيع إقناعهم -أو حتى قهرهم- بهذا؛ فإن تحملهم للمسئولية واستشعارهم لها ينسحب -تلقائيًّا- من الناس ليتركز في يد الحاكم، حتى ينشأ فيهم جيل يظنون الحاكم إلهًا؛ فلا يفكرون في إصلاحه أو عصيانه، ولو اتخذ قرارًا بذبح أبنائهم واستحياء بناتهم! ويطيعه جنوده ولو رأوا المعجزات الباهرة! ويخوضون معه البحر الذي تحول إلى يابس أمام أعينهم! فيلحقهم الجزاء معه جميعًا! {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55، 56]، فللاستبداد آثار كارثية على الأمم تفوق آثار كل آثار الحروب والنكبات(لقد حارب الإسلام الفرعونية الطاغية، وسمى الخضوع لغير الله خضوعًا للطاغوت، وجعل الحكم نوعيْن: حكم الله وحكم الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، ومن ثَمَّ كان نظام الحكم الإسلامي أبعد شيء عن نظام حكم الجاهلية الفرعونية الطاغية المستبدة، وانتزع الإسلام من الفراعنة والطغاة دعاواهم لأنفسهم، وسدَّ عليهم طرق الانفراد بالمسئولية من بين سائر الناس؛ ومن ذلك:
(1)هيمنة الشريعة
لم يعد الحاكم يملك التشريع؛ بل صار يحمل الأمانة والمسئولية في تطبيق الشريعة الربانية، وحيث كانت الشريعة من عند الله فإن أحدًا لا يملك صلاحية التبديل والتحريف من البشر، وإن كان حاكمًا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 40]، بل خاطب الله نبيه r بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، وبقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، فكيف بمن هو دون النبي r؟
إن "سيادة الشريعة" لا تساوي "سيادة القانون"، فالشريعة ملزمة للجميع: سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، وهي تغل يد الحاكم والمشرع عن سن قوانين ظالمة، بينما "سيادة القانون" ملزمة لسلطة التنفيذ فقط، ويبقى الباب مفتوحًا لإصدار قوانين وضعية تسمح بالاستبداد والطغيان(ولهذا فإن الجميع شركاء في المسئولية، مسئولية إقامة الشريعة، فلئن انحرفت سلطة التنفيذ عنها قاومتها سلطة التشريع والقضاء؛ ذلك أن الجميع خاضع لحكم الشرع لا لحكم السلطان، فإن انحرفت السلطات الثلاث قامت الأمة ذاتها بواجب الدفاع عن الشريعة؛ فهي مسئولة عن إقامتها ومواجهة الانحراف عنها؛ إذ "لا طاعة لمخلوق في معصية الله"(إن هذا ينتج فارقًا دقيقًا ورائعًا بين النظام الإسلامي وغيره من النظم، وهو الفارق بين "الحق" و"الواجب"، فالحق يمكن التنازل عنه؛ بينما الواجب يتحتم أداؤه، يقول القانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا: "ونتيجة هذه الروح الجميلة الخلابة في الشريعة ما كانت ممارسة الحق إلا إنجاز واجب؛ لأنه إن كان الحق شيئًا حسنًا، فلا يمكن إغفاله، وإهمال المطالبة به إثم، ومن يدعي بملكه من مغتصب لا حق له فيه إنما ينجز واجبًا أخلاقيًّا، وفي بقائه ساكنًا مهملاً مطالبته بحقه يجعل الباغي متماديًا في بغيه"(وبهذا صار المسلمون جميعًا حراس الشريعة، وهذا أمر تم منذ اللحظة الأولى لحكم البشر؛ حيث قال أبو بكر t في أول خطبة بعد بيعته: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"(والمسلمون على السمع والطاعة ما أقام الحاكم فيهم كتاب الله((2)الحاكم وكيل عن الأمة
فالأمة هي صاحبة الحق في تولية الحاكم ومراقبته وعزله كذلك، وليس لأحد تفويض إلهي بالحكم أو له وصاية على الناس، ولقد كانت أولى كلمات الخليفة الأول أبي بكر t: "وُلِّيت عليكم ولست بخيركم"(وباختيار الناس ورضاهم اختير الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يدَّع أحد منهم أنه أحق بولاية، أو أنه أفضل من غيره، فأبو بكر t تولى بعد اجتماع الأمر عليه في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي r، وهو الذي رشح عمر t من بعده فاجتمع عليه الناس، وظل عبد الرحمن بن عوف يدير أمر اختيار الخليفة الثالث أيامًا حتى رأى أهل المدينة لا يعدلون أحدًا بعثمان t، فلما قُتِل مظلومًا شهيدًا بايع الناس علي بن أبي طالب t.
وبرغم انحراف المسار التاريخي للأمة عن الشورى بعد عصر الراشدين، ورسوخ الأمر فيمن لهم العصبية كبني أمية وبني العباس ثم العثمانيين، فإن القاعدة بقيت سائرة، فالخليفة يستمد شرعيته من رضا الناس به وبيعتهم له، حتى ولو كانت هذه البيعة إجراءً شكليًّا أو صوريًّا، بخلاف الحال في غير الممالك الإسلامية، التي كان الحكام فيه أوصياء على الناس؛ لا حق للناس في اختيارهم، يحصل ولي العهد منهم على منصب الولاية وهو ما يزال جنينًا في بطن أمه.
وبهذا نزع الإسلام من الطغاة ادعاءاتهم، وحَمَّل الأمة مسئولية اختيار أمرائها ومراقبتهم، وأعطاها صلاحيات عزلهم كذلك.
(3)الشورى واجبة
وهنا تكون الممارسة العملية لتحمل المسئولية من سائر المسلمين فيما يخص شؤونهم؛ فلقد أمر الله نبيه r بالشورى فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، "وفي ذِكْر العزيمة عُقَيْب المشاورة دلالة على أنها صَدَرَتْ عن المشورة"(وقد حفلت سيرة النبي r بالشورى، لا سيما بعدما بدأت الدولة في المدينة المنورة، ووجدنا الصحابة يشيرون عليه، ففي موضع المعسكر يوم بدر ثم في أسرى المعركة، وفيما بين الخروج لملاقاة المشركين في أحد أو البقاء في المدينة، وفي غزوة الأحزاب ونزل الجميع على رأي سلمان بحفر الخندق، وفي إعطاء غطفان من ثمار المدينة، وفيما قاله أهل الإفك عن عائشة (رضي الله عنها)، وفي غيرها.
وقد عَمَّت الشورى جميع المسلمين، حتى من أسلم حديثًا، كما في استشارته للناس في ردِّ سَبْي هوازن عليهم بعد أن جاءوا تائبين، فقبل عامة الصحابة، ورفض بعض من أسلم حديثًا، فتعهد النبي بتعويضهم من أول فيء قادم(وغاية الكلام أن الإسلام وضع الشورى كنظام تتحمل به الأمة مسئوليتها في واقع الحياة، فلا يصير قرارها ومصيرها حكرًا بمن يتولى أمرها.
بهذه الأمور الأربعة:
1. رفض النموذج الفرعوني الطغياني2. هيمنة الشريعة وسيادتها3. كون الحاكم وكيلاً عن الأمة تختاره بإرادتها الحرة، وتراقبه، ولها حق عزله4. نظام الشورى..
بهذه الأمور الأربعة ترتسم ملامح "طبيعة السلطة" في المنهج الإسلامي.نشر في ساسة بوست
([1])لمطالعة هذا نوصي بكتاب: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي. ([2])د. توفيق الشاوي: سيادة الشريعة الإسلامية ص14. ([3])مسلم (1840). ([4])دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف توماس أرنولد، ص437. ([5])ابن هشام: السيرة النبوية 2/661، وقال ابن كثير (البداية والنهاية 5/269): هذا إسناد صحيح. ([6])البخاري (6781)، والقصة في ولاية الخليفة الراشد عثمان بن عفان t. ([7])قال النبي r: "يا أيها الناس اتقوا الله، وإن أُمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌ مُجَدَّع فاسمواع له، وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله". أحمد (16700)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، الترمذي (1706)، وصححه الألباني. ([8])البخاري (6647)، ومسلم (1709). ([9])ابن هشام: السيرة النبوية 2/661، وقال ابن كثير (البداية والنهاية 5/269): هذا إسناد صحيح. ([10])تغرة أن يقتلا: أي من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وصاحبه وتعرض للقتل. ([11])البخاري (6442). ([12])الطبري: تاريخ الطبري 2/700. ([13])الجصاص: أحكام القرآن 2/331. ([14])البخاري (2184)، ابن حجر: فتح الباري 8/33. ([15])البخاري (6781)، ولفظه: "فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدًا من الناس يتبع أولئك الرهط (الخمسة المرشحين للخلافة)، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي". وفي رواية: "فانثال الناس" أي انهمروا (ابن حجر: فتح الباري 13/196)، بل ذكر ابن كثير (البداية والنهاية 7/164) أن عبد الرحمن t استشار "رءوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا، مثنى وفرادى، ومجتمعين، سرًّا وجهرًا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة". ([16])ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز 1/534.
Published on August 13, 2015 09:45
August 11, 2015
على هامش قصة زعيم (3) الفارس ينزل للميدان
يعرف المصريون جيدا، خصوصا من كان متابعا منهم لميدان رابعة، أغنية "الفارس ينزل للميدان"، وهي –برأيي- أغنية رديئة، لحنها راقص لا يناسب المحنة ولا الاعتصام الملحمي في رابعة، ومعناها –برأيي أيضا- مبتذل، فهي تنادي على من يريد أن يحكم الشعب أن يعرض نفسه عليه ويقنعه بنفسه وينتظر أن يرى اختياره، فعلى من ظن في نفسه الفروسية أن ينزل إلى ميدان المنافسة الشريفة ليحكم عليه الشعب.
لكن الأزمة هي أن الأمور لا تجري على هذا النحو.. بل تجري على نحو آخر.
(1)
اختلفتُ مع صديق كريم أيهما أسوأ: عبد الناصر أم أتاتورك؟ واندهش لما عرف أني أرى عبد الناصر أسوأ، فبغير انتقاص من أتاتورك إلا أنه ترك دولة لها نظام، أبسط القواعد فيها أن الانتخابات لا تُزوَّر. ولهذا تأتي الانتخابات بأطياف السياسة المختلفين، صحيح أن العسكر يقفون عند نهاية الطريق ينقلبون على من يرون أنه يهدد العلمانية إلا أن الطريق نفسه مفتوح يمكن سلوكه حتى تلك النهاية.
بينما عبد الناصر أسس دولة العسكر، الدولة التي تطارد أهل الدين من قواعدهم الأولى: المساجد! دولة تعمل بسياسة "تجفيف المنابع"، دولة لا تعرف معنى الانتخابات، وإنما مراسم شكلية جوفاء تنتهي بنسبة 99.99%، وإني لأتذكر أن صحفيا أجنبيا انزعج لهذه النسبة وقال: يا إلهي، من ذلك الذي استطاع أن يقول لعبد الناصر "لا"؟!.. إنه حكم العصابة بالمعنى المباشر والحقيقي لكلمة العصابة.
ولهذا كان للإسلاميين في تركيا تجربة وممارسة سياسية حقيقية طوال هذه المراحل، في انتخابات البلديات وبعض البرلمانات، حتى رئاسة الحكومة.. فتكونت لديهم خبرة حقيقية بأحوال البلاد والعباد. بينما الإسلاميون في مصر لم يكونوا يحلمون بالسلطة أصلا، وكان غاية آمالهم الوجود الآمن في مقاعد المعارضة، ولما رفعت ثورة يناير سقوف أحلام الجميع لم يرتفع سقف أحلام الكتلة الإسلامية، بل ظلوا يبحثون عن الرئيس التوافقي ولا يريدون أن يتصدروا خشية الفشل والإفشال، ثم لما تبين لهم مع الأحداث –ترشح عمر سليمان وشفيق- أنهم يختارون على الحقيقة بين القصر والقبر، اختاروا القصر مضطرين! (وفكَّ الله الرجل البطل الذي مهد الطريق لهذا الحلم: حازم صلاح أبو إسماعيل).
(2)
وبرغم هذا، فإن الطريق في تركيا –ذات النظام- لم يكن سهلا هينا، ولقد أحسن مؤلفا كتاب "قصة زعيم" أن افتتحا كتابهما بهذه الواقعة التي فيها سرُّ السياسة وجوهرها وصلبها، أسوقها هنا مختصرة:
اتصال هاتفي يصل لشعبة حزب الرفاه في اسطنبول يقول: سينقطع خط الهاتف والتيار الكهربائي لساعتين عن مقر حزبكم، وسأتصل مرة أخرى.
لم يفهم أحد ما هذا، وفعلا انقطعت الكهرباء وخط الهاتف لساعتين، وعندما حل المساء اتصل ذات الشخص وقال:
- اتصلت صباحا بالشعبة وأخبرتكم بانقطاع الكهرباء وخط الهاتف لمبنى الشعبة، وها قد رأيتم أن ما قلته قد حدث.
- نعم رأينا، فمن أنتم وما شأنكم بنا؟
- أنا أحذركم.. على مرشحكم أن يسحب فورا ترشيحه، ويعلن ذلك في مؤتمر صحفي، وإلا سيكون تحذيرنا القادم دمويا! وأغلق الهاتف.
كان المرشح المقصود هو أردوغان، مرشح حزب الرفاه الذي يتزعمه أربكان، وكانت الانتخابات على الأبواب، انتخابات بلدية اسطنبول عام 1994م، ولم تكن فرصته في الفوز قوية في تلك الانتخابات.
بعد المكالمة سيطر على المكان صمت عميق وخوف أعمق. لكن أحدا لم يفكر بجدية في سحب ترشح أردوغان من الانتخابات.
ما كاد الليل يرخي سدوله على اسطنبول حتى وقع تفجير في المقر الانتخابي لحزب الرفاه في "صامانديرا"، قُتِل فيه عضو بالحزب وأصيب آخرون، وهرع فريق من الشعبة إلى المستشفى لزيارة المصابين، وهناك في المستشفى جاء اتصال هاتفي من ذات الشخص، يقول:
- لم تأخذوا تحذيراتي على مأخذ الجد! قلت لكم: إن الدماء ستُراق فلم تهتموا. هذا هو التحذير الأخير لكم! لديكم الليلة عمل آخر، سيلقي مرشحكم خطابا الليلة، فقولوا له أن يتراجع ويسحب أوراقه، وإلا سيُقتل في أثناء خطابه.
وأغلق الهاتف.
نظر الجميع إلى المرشح المقصود، أردوغان، الذي ظهر ثابتا قويا، وقال لمن حوله: ليذهب كل منا إلى عمله.. سنواصل أعمالنا!
عند موعد الخطاب، الذي سيلقيه المرشح من فوق حافلة صغيرة، كان أعضاء الحزب يحيطون به، وبينهم بعض المسلحين، وقد عمَّهم جميعا القلق والتوتر حتى لو أن طفلا ألقى مفرقعة عن غير قصد لاندلعت معركة حربية لا يُعلم منتهاها.
انتهى الخطاب دون مشكلات، تنفس الجميع الصعداء، وركبوا سياراتهم في الطريق إلى منازلهم، وفي السيارة جاءهم الهاتف المشؤوم يقول:
- الليلة لم تنته بعد، أمامكم طريق طويلة حتى تصلوا إلى البيت، ونحن خلفكم.
وهنا تجدد الخوف والتوتر مرة أخرى، لا سيما وأن الطريق إلى البيت يمر على غابات ذات اليمين والشمال، وتلك الغابات تمثل موقعا ممتازا لعملية اغتيال. ولم يفكر أحد في إبلاغ الشرطة لأن لديهم يقينا كافيا أنه لا أحد في هذه الدولة يمكنه إيقاف قوم مثل هؤلاء، في بلد سقط كثير من السياسيين فيه برصاص اغتيال وهم في مواقع السلطة، فكيف بمرشح لحزب لم ينل من موقع السلطة شيئا؟!
ظل أردوغان ثابتا، صاح فيهم "الخوف لا يزيد من الأجل شيئا، سنتجه إلى البيوت مباشرة الآن"، وكعادة البشر، يستمدون المشاعر من قيادتهم، إن ثبتت ثبتوا واطمأنوا، وإن كانت الأخرى جفلوا وترددوا.
أجروا بعض تغييرات سريعة في ترتيب السيارات ومكان المرشح المستهدف، وانطلقوا إلى البيوت، وبطبيعة الحال بدت الطريق طويلة مرعبة محفوفة بالمخاطر، لكنهم بعد رحلة الخوف هذه وصلوا إلى البيوت.
وما إن ارتمى كل منهم على مقعده حتى جاء الهاتف نفسه يقول:
- مرشحكم أثبت أنه رجل. إنه جدير بالترشح!
ولم يصدق القوم أنفسهم، لم يصدقوا أنه كان مجرد اختبار، اختبار دموي سقط فيه قتيل وعدد من الجرحى!!
يقول المؤلفان بأن رجال الحملة قرأوا من هذا الهاتف رسالة مفادها "يمكنك أن تصبح رئيسا لاسطنبول، بل ويمكنك أن تصبح رئيسا للوزراء، ولكن عليك أن تلعب اللعبة وفق قواعدنا، وألا تنسى من هو الرئيس، وعليك ألا تفسد لعبة التوازن السياسي التي نديرها"وأقول: بأن الرسالة الأصلية والأولى كانت تقول: مرحبا بك في عالم السياسة!.
(3)
هكذا اختبارات السياسة.. اختبارات دموية!
وعلى الفارس الذي يريد النزول إلى ميدان السياسة أن يكون مستعدا لاجتياز هذا النوع من الاختبارات!
وتذكر دائما، أن هذا وقع في البلد التي استقر فيها النظام على عملية انتخابية نزيهة في جوهرها وأساليبها، وتجري كل محاولات التلاعب في نتيجتها عند الهوامش والتفاصيل. لا في بلد كبلادنا العربية ليس فيها انتخابات من الأساس!
إن واحدة من أعقد أزماتنا الإسلامية والثورية أن قيادات الحركة الإسلامية لا تملك نفسية المقاتل بحال، بل يتهددها تصريح ينطلق من هنا أو هناك، أو اتصال هاتفي يأتيها من هنا أو هناك، أو لقاء مع مسؤول غربي يأتيها أو يستدعيها إليه. وإني لأعتقد جازما أن العسكر أو آشتون أو غيرهما لو أظهر أنيابه للإسلاميين قبل احتشاد الناس في اعتصام رابعة لكان القرار المُتَّخذ هو تخلي مرسي عن منصبه وطي هذه الصفحة والعودة للتربية والتفاوض حول ضمانات عدم الذبح بعد مرحلة مرسي، أما وقد ظهرت الأنياب بعد احتشاد الناس في رابعة فلم يكن يملك أحد أن يصرف الناس أو يظهر بمظهر الخائن المتنازل، فبالناس والجنود فقط حُفِظ حق الثورة والشرعية لا بالقيادات، وبالقيادات وحدها ضاعت ثورة تونس وثورة اليمن، وحين لم توجد قيادات على هذه الشاكلة حققت الثورات بعض النجاحات كما في سوريا وليبيا.
إن ميدان السياسة هو على الحقيقة ميدان قتال، فيا ضيعة من دخله وهو يحمل غصن الزيتون وكتاب القانون، فلئن كان خائنا فمصيره كمصير حركة فتح وياسر عرفات: خيانة الأوطان مقابل المكاسب الشخصية، ولئن كان مغفلا فمصيره كمصير الإخوان المسلمين في مصر وتونس واليمن والعراق والأردن والجزائر والمغرب: ضياع الأوطان وضياع الأرواح ولا مكاسب من أي نوع، إن لم توظفهم الأنظمة في معاركها قتلتهم، أو ربما وظفتهم ثم قتلتهم!!
نشر في تركيا بوست
حسين بسلي وعمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم ص17 – 26.
لكن الأزمة هي أن الأمور لا تجري على هذا النحو.. بل تجري على نحو آخر.
(1)
اختلفتُ مع صديق كريم أيهما أسوأ: عبد الناصر أم أتاتورك؟ واندهش لما عرف أني أرى عبد الناصر أسوأ، فبغير انتقاص من أتاتورك إلا أنه ترك دولة لها نظام، أبسط القواعد فيها أن الانتخابات لا تُزوَّر. ولهذا تأتي الانتخابات بأطياف السياسة المختلفين، صحيح أن العسكر يقفون عند نهاية الطريق ينقلبون على من يرون أنه يهدد العلمانية إلا أن الطريق نفسه مفتوح يمكن سلوكه حتى تلك النهاية.
بينما عبد الناصر أسس دولة العسكر، الدولة التي تطارد أهل الدين من قواعدهم الأولى: المساجد! دولة تعمل بسياسة "تجفيف المنابع"، دولة لا تعرف معنى الانتخابات، وإنما مراسم شكلية جوفاء تنتهي بنسبة 99.99%، وإني لأتذكر أن صحفيا أجنبيا انزعج لهذه النسبة وقال: يا إلهي، من ذلك الذي استطاع أن يقول لعبد الناصر "لا"؟!.. إنه حكم العصابة بالمعنى المباشر والحقيقي لكلمة العصابة.
ولهذا كان للإسلاميين في تركيا تجربة وممارسة سياسية حقيقية طوال هذه المراحل، في انتخابات البلديات وبعض البرلمانات، حتى رئاسة الحكومة.. فتكونت لديهم خبرة حقيقية بأحوال البلاد والعباد. بينما الإسلاميون في مصر لم يكونوا يحلمون بالسلطة أصلا، وكان غاية آمالهم الوجود الآمن في مقاعد المعارضة، ولما رفعت ثورة يناير سقوف أحلام الجميع لم يرتفع سقف أحلام الكتلة الإسلامية، بل ظلوا يبحثون عن الرئيس التوافقي ولا يريدون أن يتصدروا خشية الفشل والإفشال، ثم لما تبين لهم مع الأحداث –ترشح عمر سليمان وشفيق- أنهم يختارون على الحقيقة بين القصر والقبر، اختاروا القصر مضطرين! (وفكَّ الله الرجل البطل الذي مهد الطريق لهذا الحلم: حازم صلاح أبو إسماعيل).
(2)
وبرغم هذا، فإن الطريق في تركيا –ذات النظام- لم يكن سهلا هينا، ولقد أحسن مؤلفا كتاب "قصة زعيم" أن افتتحا كتابهما بهذه الواقعة التي فيها سرُّ السياسة وجوهرها وصلبها، أسوقها هنا مختصرة:
اتصال هاتفي يصل لشعبة حزب الرفاه في اسطنبول يقول: سينقطع خط الهاتف والتيار الكهربائي لساعتين عن مقر حزبكم، وسأتصل مرة أخرى.
لم يفهم أحد ما هذا، وفعلا انقطعت الكهرباء وخط الهاتف لساعتين، وعندما حل المساء اتصل ذات الشخص وقال:
- اتصلت صباحا بالشعبة وأخبرتكم بانقطاع الكهرباء وخط الهاتف لمبنى الشعبة، وها قد رأيتم أن ما قلته قد حدث.
- نعم رأينا، فمن أنتم وما شأنكم بنا؟
- أنا أحذركم.. على مرشحكم أن يسحب فورا ترشيحه، ويعلن ذلك في مؤتمر صحفي، وإلا سيكون تحذيرنا القادم دمويا! وأغلق الهاتف.
كان المرشح المقصود هو أردوغان، مرشح حزب الرفاه الذي يتزعمه أربكان، وكانت الانتخابات على الأبواب، انتخابات بلدية اسطنبول عام 1994م، ولم تكن فرصته في الفوز قوية في تلك الانتخابات.
بعد المكالمة سيطر على المكان صمت عميق وخوف أعمق. لكن أحدا لم يفكر بجدية في سحب ترشح أردوغان من الانتخابات.
ما كاد الليل يرخي سدوله على اسطنبول حتى وقع تفجير في المقر الانتخابي لحزب الرفاه في "صامانديرا"، قُتِل فيه عضو بالحزب وأصيب آخرون، وهرع فريق من الشعبة إلى المستشفى لزيارة المصابين، وهناك في المستشفى جاء اتصال هاتفي من ذات الشخص، يقول:
- لم تأخذوا تحذيراتي على مأخذ الجد! قلت لكم: إن الدماء ستُراق فلم تهتموا. هذا هو التحذير الأخير لكم! لديكم الليلة عمل آخر، سيلقي مرشحكم خطابا الليلة، فقولوا له أن يتراجع ويسحب أوراقه، وإلا سيُقتل في أثناء خطابه.
وأغلق الهاتف.
نظر الجميع إلى المرشح المقصود، أردوغان، الذي ظهر ثابتا قويا، وقال لمن حوله: ليذهب كل منا إلى عمله.. سنواصل أعمالنا!
عند موعد الخطاب، الذي سيلقيه المرشح من فوق حافلة صغيرة، كان أعضاء الحزب يحيطون به، وبينهم بعض المسلحين، وقد عمَّهم جميعا القلق والتوتر حتى لو أن طفلا ألقى مفرقعة عن غير قصد لاندلعت معركة حربية لا يُعلم منتهاها.
انتهى الخطاب دون مشكلات، تنفس الجميع الصعداء، وركبوا سياراتهم في الطريق إلى منازلهم، وفي السيارة جاءهم الهاتف المشؤوم يقول:
- الليلة لم تنته بعد، أمامكم طريق طويلة حتى تصلوا إلى البيت، ونحن خلفكم.
وهنا تجدد الخوف والتوتر مرة أخرى، لا سيما وأن الطريق إلى البيت يمر على غابات ذات اليمين والشمال، وتلك الغابات تمثل موقعا ممتازا لعملية اغتيال. ولم يفكر أحد في إبلاغ الشرطة لأن لديهم يقينا كافيا أنه لا أحد في هذه الدولة يمكنه إيقاف قوم مثل هؤلاء، في بلد سقط كثير من السياسيين فيه برصاص اغتيال وهم في مواقع السلطة، فكيف بمرشح لحزب لم ينل من موقع السلطة شيئا؟!
ظل أردوغان ثابتا، صاح فيهم "الخوف لا يزيد من الأجل شيئا، سنتجه إلى البيوت مباشرة الآن"، وكعادة البشر، يستمدون المشاعر من قيادتهم، إن ثبتت ثبتوا واطمأنوا، وإن كانت الأخرى جفلوا وترددوا.
أجروا بعض تغييرات سريعة في ترتيب السيارات ومكان المرشح المستهدف، وانطلقوا إلى البيوت، وبطبيعة الحال بدت الطريق طويلة مرعبة محفوفة بالمخاطر، لكنهم بعد رحلة الخوف هذه وصلوا إلى البيوت.
وما إن ارتمى كل منهم على مقعده حتى جاء الهاتف نفسه يقول:
- مرشحكم أثبت أنه رجل. إنه جدير بالترشح!
ولم يصدق القوم أنفسهم، لم يصدقوا أنه كان مجرد اختبار، اختبار دموي سقط فيه قتيل وعدد من الجرحى!!
يقول المؤلفان بأن رجال الحملة قرأوا من هذا الهاتف رسالة مفادها "يمكنك أن تصبح رئيسا لاسطنبول، بل ويمكنك أن تصبح رئيسا للوزراء، ولكن عليك أن تلعب اللعبة وفق قواعدنا، وألا تنسى من هو الرئيس، وعليك ألا تفسد لعبة التوازن السياسي التي نديرها"وأقول: بأن الرسالة الأصلية والأولى كانت تقول: مرحبا بك في عالم السياسة!.
(3)
هكذا اختبارات السياسة.. اختبارات دموية!
وعلى الفارس الذي يريد النزول إلى ميدان السياسة أن يكون مستعدا لاجتياز هذا النوع من الاختبارات!
وتذكر دائما، أن هذا وقع في البلد التي استقر فيها النظام على عملية انتخابية نزيهة في جوهرها وأساليبها، وتجري كل محاولات التلاعب في نتيجتها عند الهوامش والتفاصيل. لا في بلد كبلادنا العربية ليس فيها انتخابات من الأساس!
إن واحدة من أعقد أزماتنا الإسلامية والثورية أن قيادات الحركة الإسلامية لا تملك نفسية المقاتل بحال، بل يتهددها تصريح ينطلق من هنا أو هناك، أو اتصال هاتفي يأتيها من هنا أو هناك، أو لقاء مع مسؤول غربي يأتيها أو يستدعيها إليه. وإني لأعتقد جازما أن العسكر أو آشتون أو غيرهما لو أظهر أنيابه للإسلاميين قبل احتشاد الناس في اعتصام رابعة لكان القرار المُتَّخذ هو تخلي مرسي عن منصبه وطي هذه الصفحة والعودة للتربية والتفاوض حول ضمانات عدم الذبح بعد مرحلة مرسي، أما وقد ظهرت الأنياب بعد احتشاد الناس في رابعة فلم يكن يملك أحد أن يصرف الناس أو يظهر بمظهر الخائن المتنازل، فبالناس والجنود فقط حُفِظ حق الثورة والشرعية لا بالقيادات، وبالقيادات وحدها ضاعت ثورة تونس وثورة اليمن، وحين لم توجد قيادات على هذه الشاكلة حققت الثورات بعض النجاحات كما في سوريا وليبيا.
إن ميدان السياسة هو على الحقيقة ميدان قتال، فيا ضيعة من دخله وهو يحمل غصن الزيتون وكتاب القانون، فلئن كان خائنا فمصيره كمصير حركة فتح وياسر عرفات: خيانة الأوطان مقابل المكاسب الشخصية، ولئن كان مغفلا فمصيره كمصير الإخوان المسلمين في مصر وتونس واليمن والعراق والأردن والجزائر والمغرب: ضياع الأوطان وضياع الأرواح ولا مكاسب من أي نوع، إن لم توظفهم الأنظمة في معاركها قتلتهم، أو ربما وظفتهم ثم قتلتهم!!
نشر في تركيا بوست
حسين بسلي وعمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم ص17 – 26.
Published on August 11, 2015 05:34
August 8, 2015
فصل من قصتنا مع الشرعية الدولية
لا يخفى على أحد أن من أهم نكبات ثورات الربيع العربي هو تعلقها بالشرعية الدولية والمؤسسات الدولية والقانون الدولي وحسن ظنها في القوى الكبرى. وقد كان القوم في مصر قد خلا ذهنهم تماما من إمكانية الانقلاب العسكري، فهو-في تصورهم- أمر قد مضى زمنه ولم يعد مقبولا في زمن الديمقراطية!! حتى فَجَأَهم فجعلهم بين قتيل وجريح وسجين وطريد!
ثم ها نحن نعيش في أجواء الاحتفالات بمشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس، وهي الاحتفالات التي تنهمر فيها على الناس سيول من الأكاذيب والخرافات تريد تزييف وعيهم وإقناعهم بأن ذلك المشروع -الذي كان ولا يزال شرًّا عليهم وعلى بلادهم إلى أمد غير منظور- هو باب الخير والسعادة!
وقد حاولنا بالوسيلة الوحيدة التي بأيدينا إزالة هذا الزيف التاريخي بثلاث مقالات (الأول، الثاني، الثالث)، ثم نتبعها بهذا الرابع الذي يروي فصلا من قصتنا مع الشرعية الدولية في مسألة قناة السويس!
(1)
كان الخديوي سعيد هو أول حاكم لمصر ذو ثقافة أوروبية، وهو أول من نشأ على حب قنصل فرنسا في مصر ورعايته، ومن هذه العلاقة نشأت المودة بينه وبين ديليسبس الذي لم يرع أن هذه الأسرة انتشلته من المجهول الذي صار إليه إلى العالمية فغدر بهذه الأسرة وبهذه البلاد، واستغل ثقة سعيد فيه أسوأ استغلال، ولم يمت إلا وقد كان صاحب جريمة من أبشع جرائم التاريخ. وإن كان هذا لا ينقص ولا يعفي سعيدا شيئا من مسؤولياته.
من فرط ثقة سعيد في ديليسبس تركه يكتب عقد امتياز قناة السويس، ثم وقَّع دون أن يراها، فكان عقد الامتياز هذا أعجوبة القرن التاسع عشر، ومما جاء فيه:
1. منح الشركة امتياز حفر قناة السويس، وحفر قناة أخرى للمياه العذبة تصل من النيل إلى القناة، وإنشاء فرعيْن من هذه القناة العذبة يصب أحدهما عند السويس والآخر عند بورسعيد.
2. تتنازل الحكومة للشركة مجانا عن جميع الأراضي المملوكة لها والمطلوبة لإنشاء قناة السويس والقناة العذبة وتوابعها، وهي مساحات شاسعة على طول القناة والترع المزمع إنشاؤها بعرض كيلومترين على الجانبين. تنازلت الحكومة عنها بلا مقابل، مع إعفائها دائما من الضرائب، وتنازلت أيضا عن جميع الأراضي القابلة للزراعة لتزرعها الشركة وترويها، مع إعفاء الأراضي الزراعية من الضرائب لمدة عشر سنوات تبدأ من تاريخ استثمارها.
3. للشركة حق انتزاع الأراضي المملوكة للأفراد التي ترى أنها تحتاجها في مشروع القناة مع دفع تعويض "عادل" لأصحابها.
4. أصحاب الأراضي الواقعة على ضفتي القناة العذبة يدفعون للشركة حق المياه إذا أرادوا ري أراضيهم منها.
5. للشركة، طوال مدة الامتياز (99 سنة)، حق استخراج كل المواد اللازمة من المناجم والمحاجر الأميرية (الحكومية) لأعمال المباني وصيانتها وملحقات المشروع دون دفع أي رسم أو ضريبة أو تعويض. وتُعفى الشركة من الرسوم الجمركية والعوائد عن جميع الآلات والمواد التي تستوردها من الخارج.
6. مدة الامتياز (99 عاما) منذ افتتاح القناة للملاحة البحرية، وبعدها تعود القناة إلى الحكومة المصرية، وعندها تُعوِّض الحكومةُ الشركة عن جميع الآلات والمعدات المخصصة للمشروع بقيمة تقدر بالتراضي أو على تقدير الخبراء. (وهذا شرط مثير للمشاكل فقد تبالغ الشركة في تقويم قيمة المعدات أو تسرف فيها لتعجيز الحكومة أو ما سوى ذلك من العقبات).
7. للشركة حق فرض ما تشاء من الرسوم على السفن التي تمر في القناة البحرية أو الترع والثغور التابعة لها (مع وضع حد أقصى: 10 فرانك عن كل طن)
8. (وفي مقابل كل هذا) تحصل الحكومة المصرية على حصة قدرها 15% منصافي الأرباح السنوية.
9. يكون أربعة أخماس العمال من المصريين، وتتعهد الحكومة بمساعدة الشركة وتكليف موظفيها وعمالها في الدوائر الحكومية لتسهيل أمور الشركة. (وبدلا من أن يكون هذا الشرط فرصة توفير عمل للمصريين بأسعار تنافسية، فسَّرت الشركة هذا النص بأن الحكومة ملزمة بتوفير أربعة أخماس العمال بطريق السُّخرة ووضعهم تحت تصرف الشركة قهرا.. واضطر سعيد فوق تسخير الفلاحين إلى إنقاص الجيش المصري من ستين ألفا إلى ثمانية أو عشرة آلاف مقاتل).
10. وأغفل العقد بندا يتحدث عن حق الحكومة في إنشاء تحصينات عند قناة السويس، ثم فُسِّر هذا الإغفال بأنه لا حق لمصر في إنشاء حصون عند القناة.
باختصار: كان هذا عقد إنشاء دولة داخل الدولة بتسهيلات غير مسبوقة!
(2)
ومع هذا فشل ديليسبس في جمع أصحاب الأسهم بعد المجهود المضني الذي بذله في أوروبا، والذي تنادت إليه بيوت المال في أوروبا، فأشفق عليه سعيد، فاشترى ما لم يستطع ديلسبس جمعه من الأسهم، وهو حوالي 44% منها، أي نحو نصف الأموال المطلوبة لأسهم الشركة!!
وقد عارضت انجلترا هذا المشروع، ذلك أنه يجعل خصومها أقرب منها إلى الهند، فبدلا من طريق رأس الرجاء الصالح الذي يجعل انجلترا الأقدر على الوصول البحري إلى الهند، فإن مشروع القناة يجعل كل بلاد أوروبا واسطنبول بل وروسيا أقرب منها إلى الهند، فما هو إلا أن تسلك سفنهم من البحر المتوسط إلى الأحمر فتكون في المحيط الهندي.
وقد حاول سعيد استرضاء الإنجليز لتمرير المشروع فمنحهم امتيازا لإنشاء خط سكة حديد بين الإسكندرية والقاهرة، وهو ما كان يمانع فيه أبوه (محمد علي) ووافق على إنشاء البنك الأهلي (1856م) وأعطاهم حق مرور جنود الجيش الإنجليزي في قلب مصر (من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السويس) إذا احتاجوا لمحاربة أية ثورة إسلامية ضدهم في الهند. فانظر إلى التفريط في أمن البلد بمرور الجيوش فيها ثم إلى خيانة الدين بدعم الإنجليز على الهنود المسلمين.
ولم يشفع كل هذا للإنجليز، وإنما اضطروا للسكوت مؤقتا لأن فرنسا انضمت إليهم في حرب روسيا لمنعها من الهيمنة على الآستانة (حرب القرم)، ثم عادوا إلى السعي ضد مشروع القناة وضد سعيد الذي أصابه الهمَّ والكآبة والمرض من سعي الإنجليز في عزله، فظل ينحل وينحف ويزداد ذبولا حتى مات (1863م) ولم ير مشروعه النور بعد!!
(3)
ولما جاء بعده الخديوي إسماعيل، وهو صاحب ثقافة أوروبية أيضا، لم يُفكر في إغضاب الأوروبيين وإنهاء المشروع، بل تعهد منذ البداية بإكماله، غير أنه سعى في تحسين شروط ذلك العقد العجيب الغريب الذي وقعه سعيد مع ديليسبس، وهنا انتفض ديليسبس الذي كاد حلمه أن يزول بالكلية رافضا أي انتقاص أو تغيير في العقد. وشُنَّت حملة صحفية في أوروبا ضد إسماعيل ونصرة للشركة ثم استقر الأمر بينهما على تحكيم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في هذا النزاع.
فماذا فعل بنا نابليون الثالث ممثل فرنسا الثورية التنويرية المتحررة؟!! وممثل الشرعية الدولية في هذا النزاع؟!!
قبل أن نرى ماذا فعل نابليون دعنا نلقي نظرة على مطالب إسماعيل:
لقد طالب إسماعيل بخمسة أمور:
1. إبطال تعهد الحكومة بتقديم الفلاحين بالسخرة إلى الشركة، خصوصا وأن هذا الإلزام هو تفسير الشركة للبند الذي يقضي بأن يكون أربعة أخماس العمال مصريين بمعنى أن الشركة تطلب العمال برواتب تنافسية حتى تستوفي أربعة أخماس العمال من المصريين، فيما فسرته الشركة بعكس مقصوده وهو أن الحكومة ملزمة بتسخير العمال لمصلحتها. وقد قال إسماعيل بأن السخرة عمل لا يتفق مع مبادئ الإنسانية. وأن توفير الحكومة لهذا العدد الهائل (20 ألفا على الدوام) يضر بالبلاد وزراعتها، واستعد أن يوفر منهم ستة آلاف على الدوام.
2. إبطال ملكية الشركة للقناة العذبة (التي لم تكن قد حفرت منها سوى جزء صغير) واستغلال وري الأراضي التي حولها (ولم يكن قد حدث من هذا شيء لأن القناة لم يكتمل حفرها بعد). مع تعويض الشركة عن أموالها في الجزء الذي حفرته. وتعهد الحكومة المصرية بإتمام القناة العذبة على نفقتها.
3. إبطال ملكية الشركة لجميع الأراضي التي تحتاجها للمشروع والتي تستصلحها وإعفاؤها من الضرائب بل وإعفاؤها إذا استصلحتها زراعيا من الضرائب لعشر سنوات.
4. إبطال حق الشركة في انتزاع الأراضي المملوكة للأفراد والتي ترى أنها في حاجة إليها لإتمام المشروع.
5. زيادة أجر العامل إلى فرنكين في اليوم تعويضا له عما يخسره من فلاحته وزراعته ومهنته.
ولمزيد من المرارة ينبغي أن يعلم القارئ أن نابليون الثالث هذا قد جاملته الحكومة المصرية في أكثر من موطن، أشهرها حرب المكسيك التي حاول فيها نابليون الثالث فرض سيطرته على الثورة الشعبية هناك فأرسل جيشه وأرسل إلى "صديقه" الخديوي سعيد بطلب المساعدة فأمده "صديقه" بجيش مصري من 1200 جندي ظل يحارب هناك أربع سنوات وقُتِل منهم ثلاثة أرباعهم بينهم قائدهم، ثم فشلت الحملة وقُتِل عميل الفرنسيين في المكسيك رميا بالرصاص، وعاد الجيش الفرنسي مهزوما ومعه الربع الباقي من المصريين والسوادنيين المساكين!
(4)
وبعد كل هذا.. بماذا حكم نابليون الثالث؟
حكم بالآتي:
1. تدفع مصر للشركة تعويضا عن العمال الذين لن توردهم للشركة (38 مليون فرنك)
2. تدفع مصر للشركة تعويضا عن قناة المياه العذبة (16 مليون فرنك)
3. تقدير الأراضي اللازمة للمشروع والتي هي من حق الشركة بـ 23 ألف هكتار (الهكتار: 10 آلاف متر).
4. تدفع مصر للشركة تعويضا عن الأراضي التي اتضح أنها غير لازمة للمشروع (!!!!) ومساحتها 60 ألف هكتار (30 مليون فرنك).
وهكذا كان مجموع التعويضات المطلوب دفعها للشركة 84 مليون فرنك (تساوي: 3.36 مليون جنيه)، وهذه التعويضات تساوي تقريبا نصف رأس مال الشركة!
على أن هذه المأساة هي نصف الصورة فقط، فما زال ثمة تفاصيل أشد مرارة..
ففي ذلك الوقت الذي أصدر فيه نابليون حكمه لم تكن الشركة قد صارت بحاجة إلى العمال، لقد جرت عمليات مناورة ومماطلة سياسية قذرة حتى انتهى دور العمال ولم يعد يمكن إلا استعمال الآلات في الجزء الباقي من العمل، ورغم هذا ستدفع مصر (16 مليون فرنك) تعويضا عن عمال لم تعد الشركة بحاجة إليهم.
وتلك القناة العذبة –التي هي منحة من مصر أصلا- لم تدفع مصر تعويضا للشركة مقابل الجزء البسيط الذي حفرته، بل كان هذا التعويض مقابل ما قدرت الشركة أنها ستخسره من القناة، من أراضي زراعية وسفن تجارية ستعبر بها بل ومقابل حركة الصيد في هذه الترعة العذبة.. لقد قدرت الشركة حجم الأسماك التي ستصاد من القناة العذبة حين تُنشأ وحجم الضرائب التي ستأخذها من الصيادين وحجم السفن التي ستعبر بها، وجعلت كل هذا بأعلى الأسعار، ثم أخذته من الحكومة المصرية!!
ثم أخذت كذلك تعويضات عن أراضٍ (هي بالأصل ممنوحة) اتضح أنها لا تحتاجها في هذا المشروع.
***
هكذا قضى نابليون الثالث، وهكذا حكمت فينا الشرعية الدولية، وهكذا دفعت مصر ثمن القناة أرضا وأموالا وأرواحا وأمنا واستقلالا وكرامة أكثر من مرة.. وما زالت تدفع، وستظل كذلك إلى سقوط الدولة العلمانية في مصر!
وتلك هي قصة فصل واحد من فصول القناة من الشرعية الدولية، سطرتها بأوجز عبارة ممكنة، وفي التفاصيل مرار كثير كثير، ومآس ونكبات، خشيت إن سردتها أن يطول المقال فينصرف عنه القارئ المتعجل.
أما القارئ الصبور، فليطالع المزيد في هذه المصادر:
§ ألبرت فارمان: مصر وكيف غُدر بها ص217 وما بعدها. (ط الزهراء للإعلام العربي)§ عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل 1/63 وما بعدها، 93 وما بعدها (ط دار المعارف)§ إلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل 1/341 وما بعدها. (ط مدبولي)§ جورج يانج: تاريخ مصر منذ نهاية عهد المماليك إلى عهد إسماعيل ص196 وما بعدها. (ط مدبولي)§ كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ص575 وما بعدها. (ط دار العلم للملايين)
§ ريمون فلاور: مصر من قدوم نابليون إلى رحيل عبد الناصر ص137 وما بعدها. (ط المركز القومي للترجمة)
نشر في نون بوست
ثم ها نحن نعيش في أجواء الاحتفالات بمشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس، وهي الاحتفالات التي تنهمر فيها على الناس سيول من الأكاذيب والخرافات تريد تزييف وعيهم وإقناعهم بأن ذلك المشروع -الذي كان ولا يزال شرًّا عليهم وعلى بلادهم إلى أمد غير منظور- هو باب الخير والسعادة!
وقد حاولنا بالوسيلة الوحيدة التي بأيدينا إزالة هذا الزيف التاريخي بثلاث مقالات (الأول، الثاني، الثالث)، ثم نتبعها بهذا الرابع الذي يروي فصلا من قصتنا مع الشرعية الدولية في مسألة قناة السويس!
(1)
كان الخديوي سعيد هو أول حاكم لمصر ذو ثقافة أوروبية، وهو أول من نشأ على حب قنصل فرنسا في مصر ورعايته، ومن هذه العلاقة نشأت المودة بينه وبين ديليسبس الذي لم يرع أن هذه الأسرة انتشلته من المجهول الذي صار إليه إلى العالمية فغدر بهذه الأسرة وبهذه البلاد، واستغل ثقة سعيد فيه أسوأ استغلال، ولم يمت إلا وقد كان صاحب جريمة من أبشع جرائم التاريخ. وإن كان هذا لا ينقص ولا يعفي سعيدا شيئا من مسؤولياته.
من فرط ثقة سعيد في ديليسبس تركه يكتب عقد امتياز قناة السويس، ثم وقَّع دون أن يراها، فكان عقد الامتياز هذا أعجوبة القرن التاسع عشر، ومما جاء فيه:
1. منح الشركة امتياز حفر قناة السويس، وحفر قناة أخرى للمياه العذبة تصل من النيل إلى القناة، وإنشاء فرعيْن من هذه القناة العذبة يصب أحدهما عند السويس والآخر عند بورسعيد.
2. تتنازل الحكومة للشركة مجانا عن جميع الأراضي المملوكة لها والمطلوبة لإنشاء قناة السويس والقناة العذبة وتوابعها، وهي مساحات شاسعة على طول القناة والترع المزمع إنشاؤها بعرض كيلومترين على الجانبين. تنازلت الحكومة عنها بلا مقابل، مع إعفائها دائما من الضرائب، وتنازلت أيضا عن جميع الأراضي القابلة للزراعة لتزرعها الشركة وترويها، مع إعفاء الأراضي الزراعية من الضرائب لمدة عشر سنوات تبدأ من تاريخ استثمارها.
3. للشركة حق انتزاع الأراضي المملوكة للأفراد التي ترى أنها تحتاجها في مشروع القناة مع دفع تعويض "عادل" لأصحابها.
4. أصحاب الأراضي الواقعة على ضفتي القناة العذبة يدفعون للشركة حق المياه إذا أرادوا ري أراضيهم منها.
5. للشركة، طوال مدة الامتياز (99 سنة)، حق استخراج كل المواد اللازمة من المناجم والمحاجر الأميرية (الحكومية) لأعمال المباني وصيانتها وملحقات المشروع دون دفع أي رسم أو ضريبة أو تعويض. وتُعفى الشركة من الرسوم الجمركية والعوائد عن جميع الآلات والمواد التي تستوردها من الخارج.
6. مدة الامتياز (99 عاما) منذ افتتاح القناة للملاحة البحرية، وبعدها تعود القناة إلى الحكومة المصرية، وعندها تُعوِّض الحكومةُ الشركة عن جميع الآلات والمعدات المخصصة للمشروع بقيمة تقدر بالتراضي أو على تقدير الخبراء. (وهذا شرط مثير للمشاكل فقد تبالغ الشركة في تقويم قيمة المعدات أو تسرف فيها لتعجيز الحكومة أو ما سوى ذلك من العقبات).
7. للشركة حق فرض ما تشاء من الرسوم على السفن التي تمر في القناة البحرية أو الترع والثغور التابعة لها (مع وضع حد أقصى: 10 فرانك عن كل طن)
8. (وفي مقابل كل هذا) تحصل الحكومة المصرية على حصة قدرها 15% منصافي الأرباح السنوية.
9. يكون أربعة أخماس العمال من المصريين، وتتعهد الحكومة بمساعدة الشركة وتكليف موظفيها وعمالها في الدوائر الحكومية لتسهيل أمور الشركة. (وبدلا من أن يكون هذا الشرط فرصة توفير عمل للمصريين بأسعار تنافسية، فسَّرت الشركة هذا النص بأن الحكومة ملزمة بتوفير أربعة أخماس العمال بطريق السُّخرة ووضعهم تحت تصرف الشركة قهرا.. واضطر سعيد فوق تسخير الفلاحين إلى إنقاص الجيش المصري من ستين ألفا إلى ثمانية أو عشرة آلاف مقاتل).
10. وأغفل العقد بندا يتحدث عن حق الحكومة في إنشاء تحصينات عند قناة السويس، ثم فُسِّر هذا الإغفال بأنه لا حق لمصر في إنشاء حصون عند القناة.
باختصار: كان هذا عقد إنشاء دولة داخل الدولة بتسهيلات غير مسبوقة!
(2)
ومع هذا فشل ديليسبس في جمع أصحاب الأسهم بعد المجهود المضني الذي بذله في أوروبا، والذي تنادت إليه بيوت المال في أوروبا، فأشفق عليه سعيد، فاشترى ما لم يستطع ديلسبس جمعه من الأسهم، وهو حوالي 44% منها، أي نحو نصف الأموال المطلوبة لأسهم الشركة!!
وقد عارضت انجلترا هذا المشروع، ذلك أنه يجعل خصومها أقرب منها إلى الهند، فبدلا من طريق رأس الرجاء الصالح الذي يجعل انجلترا الأقدر على الوصول البحري إلى الهند، فإن مشروع القناة يجعل كل بلاد أوروبا واسطنبول بل وروسيا أقرب منها إلى الهند، فما هو إلا أن تسلك سفنهم من البحر المتوسط إلى الأحمر فتكون في المحيط الهندي.
وقد حاول سعيد استرضاء الإنجليز لتمرير المشروع فمنحهم امتيازا لإنشاء خط سكة حديد بين الإسكندرية والقاهرة، وهو ما كان يمانع فيه أبوه (محمد علي) ووافق على إنشاء البنك الأهلي (1856م) وأعطاهم حق مرور جنود الجيش الإنجليزي في قلب مصر (من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السويس) إذا احتاجوا لمحاربة أية ثورة إسلامية ضدهم في الهند. فانظر إلى التفريط في أمن البلد بمرور الجيوش فيها ثم إلى خيانة الدين بدعم الإنجليز على الهنود المسلمين.
ولم يشفع كل هذا للإنجليز، وإنما اضطروا للسكوت مؤقتا لأن فرنسا انضمت إليهم في حرب روسيا لمنعها من الهيمنة على الآستانة (حرب القرم)، ثم عادوا إلى السعي ضد مشروع القناة وضد سعيد الذي أصابه الهمَّ والكآبة والمرض من سعي الإنجليز في عزله، فظل ينحل وينحف ويزداد ذبولا حتى مات (1863م) ولم ير مشروعه النور بعد!!
(3)
ولما جاء بعده الخديوي إسماعيل، وهو صاحب ثقافة أوروبية أيضا، لم يُفكر في إغضاب الأوروبيين وإنهاء المشروع، بل تعهد منذ البداية بإكماله، غير أنه سعى في تحسين شروط ذلك العقد العجيب الغريب الذي وقعه سعيد مع ديليسبس، وهنا انتفض ديليسبس الذي كاد حلمه أن يزول بالكلية رافضا أي انتقاص أو تغيير في العقد. وشُنَّت حملة صحفية في أوروبا ضد إسماعيل ونصرة للشركة ثم استقر الأمر بينهما على تحكيم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في هذا النزاع.
فماذا فعل بنا نابليون الثالث ممثل فرنسا الثورية التنويرية المتحررة؟!! وممثل الشرعية الدولية في هذا النزاع؟!!
قبل أن نرى ماذا فعل نابليون دعنا نلقي نظرة على مطالب إسماعيل:
لقد طالب إسماعيل بخمسة أمور:
1. إبطال تعهد الحكومة بتقديم الفلاحين بالسخرة إلى الشركة، خصوصا وأن هذا الإلزام هو تفسير الشركة للبند الذي يقضي بأن يكون أربعة أخماس العمال مصريين بمعنى أن الشركة تطلب العمال برواتب تنافسية حتى تستوفي أربعة أخماس العمال من المصريين، فيما فسرته الشركة بعكس مقصوده وهو أن الحكومة ملزمة بتسخير العمال لمصلحتها. وقد قال إسماعيل بأن السخرة عمل لا يتفق مع مبادئ الإنسانية. وأن توفير الحكومة لهذا العدد الهائل (20 ألفا على الدوام) يضر بالبلاد وزراعتها، واستعد أن يوفر منهم ستة آلاف على الدوام.
2. إبطال ملكية الشركة للقناة العذبة (التي لم تكن قد حفرت منها سوى جزء صغير) واستغلال وري الأراضي التي حولها (ولم يكن قد حدث من هذا شيء لأن القناة لم يكتمل حفرها بعد). مع تعويض الشركة عن أموالها في الجزء الذي حفرته. وتعهد الحكومة المصرية بإتمام القناة العذبة على نفقتها.
3. إبطال ملكية الشركة لجميع الأراضي التي تحتاجها للمشروع والتي تستصلحها وإعفاؤها من الضرائب بل وإعفاؤها إذا استصلحتها زراعيا من الضرائب لعشر سنوات.
4. إبطال حق الشركة في انتزاع الأراضي المملوكة للأفراد والتي ترى أنها في حاجة إليها لإتمام المشروع.
5. زيادة أجر العامل إلى فرنكين في اليوم تعويضا له عما يخسره من فلاحته وزراعته ومهنته.
ولمزيد من المرارة ينبغي أن يعلم القارئ أن نابليون الثالث هذا قد جاملته الحكومة المصرية في أكثر من موطن، أشهرها حرب المكسيك التي حاول فيها نابليون الثالث فرض سيطرته على الثورة الشعبية هناك فأرسل جيشه وأرسل إلى "صديقه" الخديوي سعيد بطلب المساعدة فأمده "صديقه" بجيش مصري من 1200 جندي ظل يحارب هناك أربع سنوات وقُتِل منهم ثلاثة أرباعهم بينهم قائدهم، ثم فشلت الحملة وقُتِل عميل الفرنسيين في المكسيك رميا بالرصاص، وعاد الجيش الفرنسي مهزوما ومعه الربع الباقي من المصريين والسوادنيين المساكين!
(4)
وبعد كل هذا.. بماذا حكم نابليون الثالث؟
حكم بالآتي:
1. تدفع مصر للشركة تعويضا عن العمال الذين لن توردهم للشركة (38 مليون فرنك)
2. تدفع مصر للشركة تعويضا عن قناة المياه العذبة (16 مليون فرنك)
3. تقدير الأراضي اللازمة للمشروع والتي هي من حق الشركة بـ 23 ألف هكتار (الهكتار: 10 آلاف متر).
4. تدفع مصر للشركة تعويضا عن الأراضي التي اتضح أنها غير لازمة للمشروع (!!!!) ومساحتها 60 ألف هكتار (30 مليون فرنك).
وهكذا كان مجموع التعويضات المطلوب دفعها للشركة 84 مليون فرنك (تساوي: 3.36 مليون جنيه)، وهذه التعويضات تساوي تقريبا نصف رأس مال الشركة!
على أن هذه المأساة هي نصف الصورة فقط، فما زال ثمة تفاصيل أشد مرارة..
ففي ذلك الوقت الذي أصدر فيه نابليون حكمه لم تكن الشركة قد صارت بحاجة إلى العمال، لقد جرت عمليات مناورة ومماطلة سياسية قذرة حتى انتهى دور العمال ولم يعد يمكن إلا استعمال الآلات في الجزء الباقي من العمل، ورغم هذا ستدفع مصر (16 مليون فرنك) تعويضا عن عمال لم تعد الشركة بحاجة إليهم.
وتلك القناة العذبة –التي هي منحة من مصر أصلا- لم تدفع مصر تعويضا للشركة مقابل الجزء البسيط الذي حفرته، بل كان هذا التعويض مقابل ما قدرت الشركة أنها ستخسره من القناة، من أراضي زراعية وسفن تجارية ستعبر بها بل ومقابل حركة الصيد في هذه الترعة العذبة.. لقد قدرت الشركة حجم الأسماك التي ستصاد من القناة العذبة حين تُنشأ وحجم الضرائب التي ستأخذها من الصيادين وحجم السفن التي ستعبر بها، وجعلت كل هذا بأعلى الأسعار، ثم أخذته من الحكومة المصرية!!
ثم أخذت كذلك تعويضات عن أراضٍ (هي بالأصل ممنوحة) اتضح أنها لا تحتاجها في هذا المشروع.
***
هكذا قضى نابليون الثالث، وهكذا حكمت فينا الشرعية الدولية، وهكذا دفعت مصر ثمن القناة أرضا وأموالا وأرواحا وأمنا واستقلالا وكرامة أكثر من مرة.. وما زالت تدفع، وستظل كذلك إلى سقوط الدولة العلمانية في مصر!
وتلك هي قصة فصل واحد من فصول القناة من الشرعية الدولية، سطرتها بأوجز عبارة ممكنة، وفي التفاصيل مرار كثير كثير، ومآس ونكبات، خشيت إن سردتها أن يطول المقال فينصرف عنه القارئ المتعجل.
أما القارئ الصبور، فليطالع المزيد في هذه المصادر:
§ ألبرت فارمان: مصر وكيف غُدر بها ص217 وما بعدها. (ط الزهراء للإعلام العربي)§ عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل 1/63 وما بعدها، 93 وما بعدها (ط دار المعارف)§ إلياس الأيوبي: تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل 1/341 وما بعدها. (ط مدبولي)§ جورج يانج: تاريخ مصر منذ نهاية عهد المماليك إلى عهد إسماعيل ص196 وما بعدها. (ط مدبولي)§ كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ص575 وما بعدها. (ط دار العلم للملايين)
§ ريمون فلاور: مصر من قدوم نابليون إلى رحيل عبد الناصر ص137 وما بعدها. (ط المركز القومي للترجمة)
نشر في نون بوست
Published on August 08, 2015 02:14
August 6, 2015
وسام من د. حسن سلمان
تفضل علي د. حسن سلمان، رئيس حزب الأمة في إريتريا، والقيادي بالحركة الوطنية الإريترية بهذا الوسام، الذي كتبه في تعليق على مقال لي بصفحة الفيس بوك

Published on August 06, 2015 08:04
وسام ثان من الأديب الفاضل د. محمد عباس
تفضل علي الأستاذ الأديب الكريم الدكتور محمد عباس بتزكية أخرى، فوجئت بها فكانت نعم المفاجأة.. ولست أستطيع شكره ولا توفيته بشيء منها، فإذن ذلك من جنس الفضل الذي لا يُمكن ردُّه لتفاوت المقام.

Published on August 06, 2015 07:58