محمد إلهامي's Blog, page 59

July 21, 2015

محنة الشرعية مع الجواد الخاسر

بينما ينظم أحمد عرابي أمور جيشه لمحاربة الإنجليز الذين نزلوا إلى مصر إذا بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني يصدر فرمانا يعتبر فيه عرابي عاصيا وخارجا عن الطاعة، فيما بدا وكأنه تأييد من الخليفة لاحتلال الكفار لبلد من بلاد المسلمين، وقد فتَّ هذا المنشور في عضد عرابي ومن معه فكان من أشد ما نزل بهم، لا سيما وهي طعنة جاءت من مأمن، إذ مهما بلغ الخيال لم يكن أحد في صف عرابي يتخيل أن يصدر مثل هذا عن السلطان العثماني.
وقد أثارت هذه الواقعة، وما زالت، نقاشا طويلا بين المهتمين بالتاريخ، فمن كره العثمانيين (بدافع ديني أو قومي أو وطني أو علماني) جعل هذه الحادثة ضمن سهام هجومه وطعنه، ومن أحب العثمانيين ودافع عنهم ظل يبحث عن المطاعن في عرابي وشخصيته وثورته ولم يتحفظ أن يأتي في سبيل هذا بأقوال العلمانيين والصليبيين ومن عُرِفوا بالعداء للدين.
والأمر على الحقيقة لا ينبغي أن يؤخذ بهذه البساطة والسطحية، بل لا بد من تعمق في الظرف التاريخي، للخروج بما ينسجم مع شخصيات الحدث وتاريخها وعطائها.
والواقع أنه في زمن الانحطاط والاستضعاف تصير الخيارات كلها مريرة، إذ لا يستطيع أحد أن يتخذ الموقف الصحيح أو الأصح، بل يجتهد ليبحث عن الخيار الأقل سوءا. وهذا أمر ينبغي أن يفقهه الشباب المسلم كي يفهموا واقعهم أولا ويتفهموا كثيرا من تاريخهم وحاضرهم فيكونون بذلك أقدر على حل مشكلات واقعهم بغير مثالية حالمة وتصلب لا مآل له إلا الكسر.
لقد انفصلت مصر عمليا عن جسد الدولة العثمانية قهرا وقسرا منذ عهد محمد علي، ثم تعمق هذا الانفصال في عهد خلفائه في مصر وخلفاء السلطان محمود الثاني في اسطنبول، وبدعم ورعاية من الدول الأجنبية.
كانت السلطنة العثمانية قد وصلت إلى حالة بائسة من التخلف العلمي والعسكري الذي يثمر هزائم متتالية أمام الدول الأوروبية التي توحدت وتوحشت على اقتسام تركتها، وكانت مصر قد وقعت عمليا في هيمنة النفوذ الأجنبي وتدفق عليها الأجانب الذين صاروا يتمتعون باستقلال مالي وقانوني وحماية أجنبية، وصاروا هم سادة البلاد والمتحكمين في اقتصادها وسياستها.
وفي بداية عهد عبد الحميد الثاني (الرجل الذي يتَّفَق الجميع على ذكائه وتدينه ويختلفون على قوة شخصيته، كما يتفقون على استبداده ويختلفون حول تفسيرها وتبريرها)، نبتت في مصر –لظروف كثيرة ليس هنا مقام بيانها- حركة وطنية مقاومة للنفوذ الأجنبي كان رأس حربتها في الجيش المصري عبر عسكريين مصريين وصلوا في ظروف استثنائية إلى مراتب قيادية، واستطاعوا بالفعل أن يجبروا الخديوي على تغيير الحكومة وإجراء انتخابات مجلس النواب وإصدار دستور وتقليص نفوذ الأجانب في الحكومة.
كان طبيعيا أن يجد فيهم عبد الحميد أمله، كما كانوا يجدون فيه "الشرعية" لحركتهم!
من جهته، أصدر عبد الحميد فرمانا (5 شعبان 1296هـ = 25 يوليو 1879م) بعزل الخديوي إسماعيل، وهو العزل الذي اتفق عليه الجميع: الثوار الذين عانوا من سياسته المهلكة للعباد والبلاد، وعبد الحميد الذي يراه قد أسلم مصر فعليا للنفوذ الأجانب، والأجانب الذين تحققوا من أن بقاءه يساوي اشتعال ثورة ينبغي احتواؤها قبل أن تستفحل.
ولما اشتعلت الثورة في عهد الخديوي توفيق، كان السلطان عبد الحميد داعما ومساندا لها، وقد أرسل وفدا عثمانيا (6/10/1881م) لاستطلاع الأحوال في الظاهر وداعما للثورة على الحقيقة، فشمل برنامجه لقاء ممثلي الثورة (البارودي وزير الحربية في حكومة الثورة والزعامات الشعبية كشيخ الأزهر ونقيب الأشراف وشيخ المالكية وغيرهم)، وكان هذا مفهوما للجميع حتى لقد أرسلت بريطانيا وفرنسا سفينتان حربيتان في مظاهرة عسكرية أمام الإسكندرية وأعلنتا أنهما لن تنصرفا إلا بانصراف الوفد العثماني الذي يمثل تدخلا في الشؤون المصرية (!!).
وعندما زاد نفوذ عرابي ووقف أمام المطالب الأجنبية بمنع مجلس النواب من مناقشة الميزانية وتشكلت حكومة موالية أكثر للثورة برئاسة البارودي (وكان عرابي فيها وزيرا للحربية) زاد عبد الحميد في دعمه فمنحه رتبة أمير لواء والباشوية، والوسام الحميدي من الطبقة الأولى، ومانع ما استطاع في عقد مؤتمر الدول الأجنبية للبحث في شأن المسألة المصرية، وسعى في إقناع من استطاع من الدول بأن الأمر لا يستدعي عقد مؤتمر، ثم لما تبين أن إنجلترا عازمة جعل عقد المؤتمر في الآستانة ليكون على علم به ولئلا تنفرد بريطانيا بالقرار، كذلك ماطل عبد الحميد مع القوى الأوروبية التي كانت تضغط عليه لإعلان عصيان عرابي وإرسال قوة عثمانية لدعم سلطة الخديوي، وكانت بينه وبين عرابي خطوط اتصال سرية ورسائل وموفدين تدعمه وتؤيده، وبلغ الأمر من وجوه الدعم حدَّ أن السلطان عبد الحميد حرضهم على خلع توفيق وإنهاء حكم الأسرة العلوية، فجاء في إحدى رسائله "لا أهمية فيمن يكون خديو مصر، ويجب أن تكون أفكار والي مصر ومقاصده وسيرته خالصة من الشوائب، بحيث إن جميع حركاته تكون متجهة لصيانة مستقبل مصر ولتوطيد عرى العلاقات الوثيقة مع عرش الخلافة"باختصار: فعل عبد الحميد كل ما وسعه دبلوماسيا لمنع تدخل الأجانب في مصر، وإنقاذها مما كانت فيه من النفوذ الأجنبي.
وعلى الجهة الأخرى تمسك عرابي بمساندة عبد الحميد الثاني، وأعلن أنه يطلب الإصلاح "باسم الذات الشاهانية"، وأنه يصدر عن أوامر السلطان وتوجيهه، وأنه مقيم على طاعته ومنتمٍ إليه، ولما انحاز الخديوي توفيق صراحة إلى الإنجليز خلعه قادة الثورة فأعلنوا عزله بانحيازه للإنجليز، وصار عرابي الممثل للسلطان العثماني في مصر.
ولا يصدق عرابي أن السلطان عبد الحميد هو الذي أصدر بيان العصيان، فهو يقول في تقرير كتبه قُبيْل المحاكمة "لم يستنكر السلطان أبدًا ما فعلنا، لا في أثناء تلك المفاوضات ولا فيما بعدها حتى وقتنا هذا، بل إن السلطان أيّد أفعالنا بالقول وبالعمل"، وهو يتهم الصدر الأعظم (رئيس الوزراء في الدولة العثمانية) بأنه كاتب منشور العصيان هذا –وليس السلطان عبد الحميد- بضغط من الإنجليز الذين أرادوا تهدئة المسلمين في الهند ومنعهم من استغلال الأحداث في ثورة.
والعجيب أن عرابي –وهو المطعون في ظهره المغدور به- كان أشد تفهما لموقف السلطان عبد الحميد الثاني من سائر من يتشدقون ويتمسحون به للطعن في السلطان، فهو يقول بأنه ربما يكون السلطان مضطرا "إلى إصدارها مراعاة لظروف الأحوال، والخوف من ظهور المسألة الشرقية في مظهر يصعب استدراكه ويعز تلافيه"وعرابي في هذا التفسير أرفع نفسا وأبعد عن الضغينة وأشرف ممن يتخذه سبيلا للطعن في عبد الحميد، فالواقع أن منشور إعلان عصيان عرابي لم يصدر إلا بعد أن تمكن الإنجليز من نزول مصر فعلا والاستيلاء على الإسكندرية، وبعد أن وصلت قواتهم القادمة من البحر الأحمر والتقت مع قواتهم القادمة من البحر المتوسط، وهي اللحظة التي استبانت فيها هزيمة عرابي.
لقد ظهر منشور العصيان يوم (6 سبتمبر 1882م) أي قبل الهزيمة الفعلية في التل الكبير بستة أيام فقط، وقبل احتلال القاهرة بأسبوع واحد، وبعد ضرب الإسكندرية بشهرين!!
لقد أراد السلطان عبد الحميد أن لا يكون في معسكر المهزومين بل في معسكر المنتصرين ليكون له مكان في "مستقبل مصر" والمسألة المصرية، إلا أن تقديره كان خاطئا وإن كان له وجه من النظر، خصوصا وأن الإنجليز دخلوا مصر وهم يعلنون أنهم إنما قدموا لحماية الأجانب وإعادة سلطان الخديوي مع الإقرار الكامل بشرعية السلطان العثماني.
وهكذا اضطرت الخلافة العثمانية للتخلي عن أحد أخلص أبنائها بعد أن صار جوادا خاسرا لا يمكن المراهنة عليه، وهنا يثبت التاريخ لمرة أخرى أن الشرعية لا بد لها من القوة، وأن القوة الخالية من الشرعية أقدر على صناعة –أو حتى شراء- شرعية لنفسها تحكم بها.
ومع هذا الدرس فيجب أيضا أن نستوعب الدرس الآخر، ذلك هو إعذار الرجال حين يضطرون إلى ما يخالف سيرتهم ومسيرتهم، فنحن نعذر عبد الحميد في مثل هذا الموقف، كما نعذر عرابي في موقف الثناء على الإنجليز بعد عشرين سنة من السجن والنفي والهزيمة لما عاد شيخا كبيرا محطما.
وفي عصر الاستضعاف الذي نحن فيه يجب أن نعذر الرجال والأبطال فيما يتخذونه من مواقف تنزل عن حد المثالية في ظروف الاضطرار والإكراه، فلم يعد للمسلمين اليوم عاصمة واحدة آمنة ينطق فيها أحد بالحق الكامل، لم يعد للمسلم أرض آمنة في كل هذه المعمورة ليقول فيها ما يحب الشباب المتحمس أن يسمعه، فما من حركة إسلامية وما من عالِمٍ إلا وهو مضطر لنوع موازنة، حتى "الدولة الإسلامية" (داعش) التي يراها أنصارها على صورة "نقاء المنهج" تركت ضريحا تركيا لم تمسه بسوء حتى دخل الأتراك ونقلوه ولم تستطع إنزال الهدم به لكونه شركا على نحو ما فعلت في غيره!!
وعلى كل حال فأهل العمل يعرفون ويعذرون، وتبقى المشكلة في أهل الكلام الذين يشوشون الوعي ويزرعون التنطع وينشرون التشدد بما يجيدون من التسفيه والتشويه!
نشر في تركيا بوست 

انظر فيما كان بين السلطان عبد الحميد الثاني وعرابي، محمود الخفيف: أحمد عرابي المفترى عليه، مؤسسة هنداوي، القاهرة، الطبعة الأولى. ص209 وما بعدها. مذكرات الزعيم أحمد عرابي، تحقيق د. عبد المنعم الجميعي، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 1425هـ = 2005م. 2/703.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 21, 2015 05:13

July 18, 2015

لماذا يتعطل قطار الثورة المصرية؟

بقدر ما يجد انقلاب العسكر في مصر من دعم إقليمي ودولي، بقدر فشله في استثمار كل هذه الأجواء وبقائه كنموذج لانقلاب فاشل لم ينجح إلا لعيوب خصومه بالدرجة الأولى لا لقوته هو، ولعلها المرة الأولى في التاريخ التي يعلن فيها انقلاب عن نفسه قبلها بيومين ثم لا يجد من خصومه تحركا، بل إن قائد الانقلاب نفسه كان بين يديْ من سينقلب عليه بعد هذا البيان ولم يسمه بسوء، وبرغم ما سُلِّط على السيسي من إعلام جبار إلا أنه لم يستطع أن يكون زعيما بل لازال مريض اللسان متأنث الشخصية مضطرب الأفكار صاحب بلاهات وفلتات لسان مثيرة للضحك والشفقة معا!
وبرغم ما يظهر بين الفينة والأخرى من تشقق في صف الانقلاب أو خلاف بين بعض أركانه إلا أن هذا لا يتحول إلى أثر ملموس لأن خصوم هذا الانقلاب لا يمثلون وزنا في معادلة القوة ولا يستطيع منافس للسيسي أو طموح مغامر أن يجد فيهم من يعتمد عليه ويستند إليه، وبهذا وحده يظل السيسي في مكانه، حتى ولو كان له منافسون أو كان ثمة إرادة للتخلص منه.
وفي ظني أن معسكر معارضي الانقلاب يعاني من خمسة عيوب أساسية هي جِماع باقي العيوب، فهي أصل وسواها فرع، تلك هي:
(1)الرؤية المفقودة
وهي أول وأهم مفقود، وأساس كل خطوة خاطئة منذ الانصراف من ميدان التحرير والتعامل مع المجلس العسكري باعتباره جهة وطنية مخلصة لمصالح البلد، وحتى عدم توقع الانقلاب ثم مواجهته بـ "سلميتنا أقوى من الرصاص" وهي الكلمة التي بنيت على أوهام كثيرة كالمجتمع الدولي والقانون الدولي وزوال عصر الانقلابات.
وبرغم كل ما أثبتته حوادث السنتيْن إلا أن كثيرا من الأوهام قائمة، أبرزها: وهم أن المشكلة في قادة الجيش لا فيه كمنظومة ونظام تصيب بالشرّ جميع أعضائها إلا النادر القليل للغاية، ووهم أن الجيش المصري جزء من الدولة المصرية وليس ذراعا أمريكيا لحماية مصالحها ومصالح إسرائيل باعتراف الجميع (شاهد اعترافا للعصار، اعترافا للسيسي، اعترافا لآن باترسون، اعترافا لمستشار شارون)، ووهم أن المعركة سياسية بين فصيل إسلامي وبين نظام عسكري وليست صورة مصغرة للمعركة الحضارية الكبرى بين الإسلام والغرب، ووهم أن الغرب يمكن أن يتدخل ضد رجله وممثل مصالحه في مصر لصالح الشرعية والديمقراطية والحرية! ووهم أن السلمية يمكن أن تنتصر بها ثورة أو يسقط بها نظام دموي مجرم!
طابور من الأوهام ما زال يشوش معسكر خصوم الانقلاب، لم تفلح سنتان من الحوادث البينات الناصعات في حسم هذه الأسئلة، والتي يبدو أن المشكلة على الحقيقة ليست في كونها معضلات فكرية بل في كونها معضلات نفسية، وفي كون إجاباتها ذات تكاليف لا يريد أحد أن يتعرض لها.
(2)القيادة المفقودة
كتبت كونداليزا رايس في مذكراتها أن أول ما فعلته الإدارة الأمريكية لحظة وقوع أحداث 11 سبتمبر هو تأمين القيادات، فنقل بوش إلى مكان آمن –وكان خارج نيويورك- ونقل جورج تينيت (مدير المخابرات المركزية) إلى منزل آمن تابع للجهاز، ونقلت هي إلى مكان آمن.. وهكذا!
وحين أرادت السعودية ودول الخليج مقاومة انقلاب الحوثي كان أهم ما فعلوه هو تهريب عبد ربه منصور هادي من أسر الحوثيين إلى عدن ومنها إلى الرياض، وبفضل هذه الحرية التفَّ المعسكر المناوئ للحوثي حول هادي وظلت شرعيته عنوانا حاضرا يظلل جميع الإجراءات بما فيها الضربات العسكرية.
أما الثورة المصرية فقد أسلمت قياداتها، وأهمهم الرئيس مرسي الذي ما كان ينبغي إلا أن يكون في حماية أنصاره، سواء كان بينهم في الشارع أو كانوا حوله في القصر، وأعني بالحماية: الحماية المسلحة، التي تخوض المعارك دفاعا عن رئيس الشعب واختيار الشعب، والتي تتصدى لأي محاولة انقلاب على الشعب. فالجيش يظل جيشا ما لم يخن الشعب وإلا صار عصابة، والحق أن جيوش العرب ليست إلا عصابات ومرتزقة مهمتها قتل الشعب والفرار أمام الأعداء، ولا تجد في تاريخها إلا إذلال شعوبها وسجلا حافلا من الهزائم المنكرة أمام عدو الأمة.
وما يقال على مرسي يُقال كذلك على حازم أبو إسماعيل وعلى محمد بديع وخيرت الشاطر وغيرهم، وكلهم سقط بغير أن يُصاب من اعتقلوه بخدش، ثم لم يكن ثمة تفكير في تحرير أحدهم. إن غياب هؤلاء القادة عن المشهد أسفر عن فراغ خطير يعانيه معسكر مقاومة الانقلاب حتى اليوم.
ولا تتوقف المأساة هنا، بل إن إصرار جماعة الإخوان ألا تصدِّر أحدا منها أو تدعم أحدا من غيرها كقائد لمعسكر مقاومة الانقلاب (فضلا عن الطعن فيمن حاول سد هذا الفراغ) يجعل الأمر أخطر وأعسر، إذ لا تنجح حركات تغيير بغير قائد، وإن لم يكن بين الموجودين أحد يتمتع بمواهب القيادة فإن محاولة التخديم عليه وتلميعه وصناعته تسدّ كثيرا من الخلل، وأمامنا السيسي نفسه كمثال، فقد صار له دراويشه برغم تفاهة شخصيته لأن فئة معسكره أسلمت له القيادة ولم تناوئه وتعاونت على تلميعه وتفخيمه، وإن كان نجاحه –بالمقارنة مع ما أتيح له من إمكانيات- يساوي الفشل الذريع.
وسيبدو حجم الكارثة بشكل أوضح لو –لا قدر الله- أصاب الرئيس مرسي سوء إما بقدر الله أو باغتيال أعدائه (شنقا أو سما أو غير ذلك)، وهو الاحتمال الذي يُواجَه برفض عاطفي لمجرد مناقشته، برغم ما يتجمع في الأفق من شواهد تقويه وتجعله مطروحا محتملا لا بد من إعداد العدة للتصرف معه.
(3)المال المفقود
قال الشاعر:بالعلم والمال يبني الناس مجدهمو .. لم يُبْنَ مجد على جهل وإقلال
فمهما أوتي المرء أو الحركة من علم ومهما كانت رؤيتها واضحة، فإن نقص الأموال يغل يدها، ومن أسفٍ أن العدو يفهم هذا فهو لم يتردد في مصادرة الأموال، بينما فضلت الثورة الدخول في المتاهات القانونية لتطارد أموال مبارك وفريقه المهربة وغير المهربة، فصارت أموال مبارك وطائفته محفوظة مصانة وأموال الثائرين مصادرة ومنهوبة.
ولم يزل السيسي يغدق الأموال على طائفته (الجيش، الشرطة، القضاء) كل حين ليزدادوا به ارتباطا واستمساكا، فيما يعاني معسكر معارضة الانقلاب من أزمات مالية طاحنة، أزمات دفعت بعض المطاردين للعودة إلى مصر لشدة ما يلقون من الفقر والحاجة فبعضهم اعتقل وبعضهم قُتِل، وبعضهم ما زال يعاني في غربته خارج مصر أو في غربته كمطارد داخل مصر، فضلا عن عائلات الشهداء والمعتقلين والمصابين.
ويجب أن نذكر أيضا أن بعض الأموال تُدار على غير الوجه الأحسن، وذلك ناتج عن غياب الرؤية أو تشوشها في أكثر الأحوال، وينتج أحيانا عن حزبية ضيقة تعلو على الرحمة الإنسانية الواجبة والمسؤولية العامة. ثم إن الفشل العام في إدارة مواجهة الانقلاب يُنَفِّر الباذلين والداعمين بطبيعة الحال، وكلما طال أمد الفشل كلما انفض عنه المنفقون.لقد تحطمت كثير من مشاريع مقاومة الانقلاب على صخرة التمويل والدعم، لعل أبرزها وأشهرها ما حلَّ بقناة الشرق والتي كانت الصوت الأعلى في مواجهة الانقلاب وكان ضيوفها يتحدثون بغير سقوف ولا حدود.
(4)الدعم السياسي المفقود
تأثرت الحركة الإسلامية باتهامات العلمانيين بأنها حركات غير وطنية تتلقى الدعم من الخارج، هذا برغم أنهم أكثر وأشهر من يتلقون الدعم من الخارج، منذ أيام الاتحاد السوفيتي وأنظمة الاستبداد العربية وما يُفتح لهم من أعمال الصحافة والإعلام والتدريس في الجامعات والمراكز البحثية (التابعة لأجهزة مخابرات ومؤسسات دولية).. ورغم هذا يتحدث هؤلاء عن الوطنية!
هذا التأثر بهذه الاتهامات خلق حاجزا نفسيا لدى قيادات الحركة الإسلامية –حتى الثورية منهم- وصاروا يتحرجون من أن يضعوا أنفسهم في معادلة الدول، فتلتقي المصالح وتتقاطع الرغبات فيستفيد الجميع.
إن مفهوم الوطنية فضلا عن أنه ليس مفهوما شرعيا مهيمنا على غيره، فإنه مفهوم لا يطبقه أحد، فالأنظمة تتعامل مع الأنظمة فتتحد على الشعوب، فيما لا تسمح نفس هذه الأنظمة بالتعاون بين الشعوب، والكل يرى كيف اتفقت أنظمة الثورة المضادة على شعوب الثورات ولم يبال أحد بمفهوم الوطنية المقدس، وما زال شفيق في الإمارات وما زال السيسي يتلقى الأموال (الرزّ) حتى ممن يراهم أنصاف دول!
لا شك أن أحدا لن ينتبه إلى معسكر مقاومة الانقلاب إن لم تكن له قوة ووجود حقيق وفعال على الأرض، فلا بد أن تكون جزءا من معادلة الصراع كي تستطيع إنشاء التحالفات والدخول في معادلة السياسة. إلا أن كسر حاجز الخوف من الاتهام بالعمالة يجب أن يكون من الأولويات!
اقرأ: الدعوة والحماية
(5)الإخلاص المفقود
وكان حقُّ هذا العيب أن يوضع في البداية، إلا أني لو وضعته في البداية لانصرف أغلب الناس عنه لما أصابنا جميعا من مسٍّ ماديٍّ وغياب إيماني، فإن القرآن أرشدنا إلى أن هزيمة أحد إنما كانت لأن البعض أراد الدنيا في صف المجاهدين، ووجهنا إلى أن نفتش في أنفسنا وعيوبنا عند الانكسارات، وقال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أي: قوتكم.
ولا يخفى على من له أدنى اتصال بصفوف مقاومة الانقلاب (خصوصا الجانب السياسي، وفي الخارج بشكل أخص) ما يشيع فيها من أنواع التحاسد والتنافس والتباغض، مما يعطل كثيرا من وجوه التعاون. ثم يشيع سوء الظن وتحميل التصرفات فوق ما تحتمل، وأمور كثيرة لا يحسن الإطالة بذكرها ولكنها تقف حائلة أمام التقاء أجنحة واتجاهات لو أنها اجتمعت واتفقت لكان في ذلك خير كبير كثير!
وبرغم أن صف مقاومة الانقلاب هو صفٌّ إسلامي بالأساس أي أنه يملك رصيدا من العلم الشرعي والتربية الإيمانية إلا أن طبيعة الإنسان النسيان والقلوب تحتاج إلى تعهد وتجلية مما يعلق بها.
ولو أنه تحقق الإخلاص والتجرد في هذا الصف لكان لذلك أثر عظيم، نكاد نرى بعضه ولا نرى أكثره، فإن هذا البعض متعلق بحساباتنا بينما هذا الأكثر متعلق بما يفيضه الله علينا من البركة والفتح وجذب قلوب الناس وقذف الرعب والفشل في قلوب الأعداء.
فاللهم ارزقنا الإخلاص!

نشر في ساسة بوست 
2 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on July 18, 2015 10:20

July 15, 2015

من مآثر الأتراك في رمضان (4) حماية فلسطين

هذا ختام مقالات رمضان، أعاده الله علينا وعليكم بالنصر والتمكين، في هذا الموقع، وقد اخترنا أن تكون تذكيرا بمآثر الأتراك التي جرت في رمضان، فاخترنا منها أربعة مآثر في أربعة أحوال مختلفة؛ فأولها: القضاء على تمرد بابك على يد العسكر الترك الذين كانوا جند الخلافة العباسية وهو التمرد الذي أزهق أرواح ربع مليون مسلم، وثانيها: القضاء على الدولة الشيعية البويهية على يد دولة تركية فتية هي الدولة السلجوقية حين صار الترك أصحاب دولة مستقلة لها موقع على خريطة القوى الإقليمية والعالمية، وثالثها: فتح بلجراد حين صار الترك على ذروة العالم الإسلامي في عصر عظمة الدولة العثمانية، واليوم نتناول الرابعة: وهي مأثرة في زمن الأفول والغروب، فلقد أبى المسلمون الترك أن يفرطوا في فلسطين، ومهما قيل في تقييم شخصية السلطان عبد الحميد فإن سيرته في ملف فلسطين إنما هي صفحة ناصعة جليلة، يزيد في نصوعها وجلالها أنه لم يأت بعده حاكم إلا وهو بين حالين: الإهمال أو الخيانة، والثانية أفشى وأطغى.
في مثل هذا اليوم (26 رمضان 1310 = 13 إبريل 1893) أكدت الخلافة العثمانية في وجه الضغوط الإنجليزية على قراراتها التي سبق أن أصدرتها لمنع اليهود من الاستيطان في فلسطين، وأوضحت أن ما أصدرته من فرمانات لمنع اليهود من الهجرة إلى فلسطين ومنع بيع الأراضي لهم لا علاقة له بالاضطهاد الديني وإنما يستهدف "منع اليهود من الإقامة الدائمة في فلسطين"، وكان هذا التأكيد بمثابة رد جازم على احتجاجات واسعة اشترك فيها القنصل البريطاني نفسه وحولها إلى أزمة دبلوماسية! ولم يستثن القرار العثماني أحدا من اليهود ولا يهود بريطانيا أنفسهم!
كان هذا القرار واحدا من سلسلة المقاومة العثمانية الطويلة للوجود اليهودي في فلسطين، فلقد كانت بداية القصة مبكرة!
(1)
تبدأ القصة من الشعور المتجذر لدى اليهود بأنهم في منفى وغربة يلهبها حلم العودة إلى الأرض المقدسة التي نُفُوا منهايتحدث كتاب "تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية" (ص509 وما بعدها)، وهو مجموعة دراسات كتبها مؤرخون يهود، عن فرمان من السلطان العثماني سليم الأول (فاتح مصر) أو ابنه سليمان القانوني بمنع اليهود من الاستيطان في سيناء، ولا ندري بالضبط الظروف التي اضطرت الخلافة لإصدار هذا الفرمان، ولكن لا ريب أنه رُصِدت حركة استيطانية مبكرة في سيناء فووجهت بهذا الإجراء. ثم كان هذا الفرمان قانونا يستنجد به رهبان دير سانت كاترين لمواجهة أي محاولة استيطانية يهودية متكررةهذه هي أول واقعة نستطيع رصدها في تاريخ الدولة العثمانية لمواجهة الحركة اليهودية نحو سيناء أو فلسطين.
(2)
لم يتجدد الطموح في فلسطين إلا ين ضعفت الدولة العثمانية:
وأول ما يطالعنا في هذا الشأن بيان نابليون بونابرت زمن الحملة الفرنسية والموجه إلى اليهود بأنه قد انفتح الطريق لهم أمام العودة إلى عاصمتهم أورشليم، وتذكر بعض الوثائق كيف أن نابليون هو أول من فكر في استخدام اليهود كرأس حربه للمشروع الصليبي، يمهد بهم طريقه في الشرق. إلا أن بعض البحوث تشكك في كل هذا وتنسبه إلى ادعاءات الصهيونية العالمية التي حاولت إيجاد مبررات ودلائل وسوابق تاريخية للتفكير الأوروبي في دولة يهودية بفلسطين، في إطار حثها بريطانيا على تبني مشروع الدولة اليهوديةثم زاد ضعف الدولة العثمانية أمام محمد علي الذي استطاع احتلال الشام، الذي خضع للحكم المصري بين عامي (1831 – 1840)، وفي تلك الحقبة اتسع النفوذ الأجنبي في الشام كما هي سياسة محمد علي في فتح الأبواب للأجانب، وكان أبرز هذه المظاهر: السماح للأجانب بتملك وشراء الأراضي والسماح بالإقامة الدائمة والسماح بالنشاط والتبشيري، ثم كان أهم هذه المظاهر قاطبة: افتتاح قنصليات أجنبية، وقد كان من ضمن مهمات القنصليات الأجنبية في القدس حماية الأقلية اليهود (وكانت الأقليات في هذه الفترة شعار وسبيل التدخل في الشؤون العثمانية، فتكلفت روسيا بحماية الأرثوذكس وفرنسا بحماية الكاثوليك)، وكان أهم هذه القنصليات هي البريطانية التي كانت أقوى دولة في العالم وقتها. وافتتحت في القدس عام 1838م.
وفي هذه الفترة تأسس مشروع كبير لتوطين اليهود في فلسطين حمله موشيه مونتفيوري إلى الباشا يقضي بتأجير من 100 إلى 200 قرية لخمسين سنة، مع دفع الأعشار مقدما وبزيادة 10 – 20%، وقد وافق الباشا فعلا، إلا أن تطور السياسة منع من اكتمال المشروع، إذ أُجبر محمد علي على ترك الشام والاكتفاء بمصر بعد مؤتمر لندن 1840.
ويرصد تقرير فرنسي (من عميل يدعى جول دي برتو مرفوع إلى وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ نوفمبر 1840) يقول بأن بريطانيا إنما أصرت على تخلي محمد علي عن الشام بأنه تدبير منها لإنشاء دولة يهودية، ورصد التقرير وجود بعثة بريطانية برئاسة الدكتور "كايت" مؤلف كتاب عن "تحقيق النبوءات". ومنذ ذلك الوقت ظهرت فكرة الدولة اليهودية على الصحافة فكتبت التايمز مقالا بعنوان "سوريا وبعث اليهود" (17/8/1840)، وجاء في رسالة من السياسي البريطاني شافتسبري لوزير الخارجية بالمرستون (بتاريخ 25/9/1840) أن أرخص وأضمن وسيلة لجعل سوريا منطقة بريطانية هي توطين اليهود(3)
ثم كانت الأزمات الكبرى في هذا الملف حين وصل ضعف الدولة العثمانية إلى غايته، وكان السلطان عبد الحميد الثاني قد ورثها، في ظل التوحش الصليبي والأطماع اليهودية التي صارت علنية بقيادة تيودور هرتزل. وحيث كانت الخلافة العثمانية ضعيفة لا تقوى على حسم الأمور بالسيف فقد صارع عبد الحميد وبذل أقصى مجهوده على مستوى السياسة ومحاولة الدخول على خط التنافس الداخلي الأوروبي ليستعين ببعضهم على بعض.
ومن قبل عبد الحميد، أصدر السلطان عبد العزيز أمرا بتحويل القدس إلى "متصرفية" تتبع الخلافة مباشرة بدلا من كونها "سنجق" ضمن ولاياتها تخضع لإدارة محلية، ثم جاء عبد الحميد فأصدر قرارا (25 ربيع الثاني 1308 = 7 ديسمبر 1890) بثبيت وضع الأراضي في القدس كأراض أميرية يُحظر البيع والشراء فيها، واشترى كثيرا من أراضي فلسطين من أموال الخزانة الخاصة للتضييق على تمدد الشراء الأجنبي، ورفض منح الجنسية العثمانية لعدد من اليهود، وأصدر عددا من الفرمانات والقرارات التي تحول دون بيع الأراضي لليهود في سائر الدولة العثمانية وفي فلسطين على وجه أخص. ورغم العرض السخيّ الذي تقدم به هرتزل لسد العجز في ميزانية الدولة، مع الدعم الإعلامي، وهو العرض المصحوب بضغوط أوروبية سياسية، إلا أن السلطان فضَّل أن يخلد في التاريخ، وقد فعل، وكان موقفه هذا –بالرغم من كل ما يُدان به في سياساته الأخرى- صفحة ناصعة في تاريخه وتاريخ الدولة العثمانية وتاريخ الأتراك المسلميننشر في تركيا بوست 

د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (الموجزة)، دار الشروق، مصر، الطبعة الثالثة، 2006م، 1/68 وما بعدها. كان جعل اليهود رأس حربة للمشروع الصليبي، أو بتعبير المسيري "جماعة وظيفية للغرب"، من أركان دعاية الحركة الصهيونية، ونسبت ذلك لكل قائد غربي حتى الإسكندر الأكبر. انظر: هنري لورنس: بونابرت والدولة اليهودية، ترجمة: بشير السباعي، دار مصر العربية، مصر، الطبعة الأولى، 1998م. ص45، 51. انظر:-         يعقوب لانداو (تحرير): تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية، ترجمة: جمال الرفاعي وأحمد حماد، المركز القومي للترجمة، مصر، 2000م. ص509 وما بعدها.-         إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الحديث، مكتبة العبيكان، السعودية، 1995م. ص246 وما بعدها. هنري لورنس: بونابرت والدولة اليهودية ص52 وما بعدها. رفيق شاكر النتشة: السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1991م. ص83. انظر:-         رفيق شاكر النتشه: السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين ص48 وما بعدها.-         أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتوك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، الطبعة الأولى 2008 م. ص448 وما بعدها.-         مروان عبد الرحمن أبو شمالة: الاستراتيجية الصهيونية تجاه مدينة القدس، رسالة ماجستير، كلية الآداب، الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين، 2012. ص108 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 15, 2015 09:55

July 11, 2015

في ذكرى وفاة عرابي.. ذيل على دروس الثورة العرابية

توفي أحمد عرابي (17 رمضان 1329هـ)، وكان جديرا ألا تمر ذكرى وفاته الرمضانية دون وقفة، وقد استعرضنا في المقال الماضي خمسة من عشرة دروس رأينا أنها الأهم في قصة الثورة العرابية، وبقي هنا أن نلقي النظر على خمسة أخرى لا نزال بحاجة إلى أن نستوعبها ونهضمها كي نجيد التصرف في مسار ثورتنا الحالية.
(6)جيل الثورة وجيل الذل
في زمن الثورة يأتي الناس بالعجائب، وفي زمن الذل كذلك! وإن الرجل نفسه يكون في غاية البسالة والبطولة والبذل والتضحية في وقت الثورة ثم إذا نزلت الهزيمة وفشا الإحباط يكون على النقيض من هذا، وإن استيعاب هذا الدرس يجعلنا نفهم قيمة الزمن في اقتناص الفرصة واستثمار الثورة ويجعلنا نخشى أكثر ما نخشى من طول الوقت والحلول المؤجلة والتخطيط البعيد المدى، فالزمن قيمة لا تُعوَّض.
وقد جرت هذه السنة على الثورة العرابية، من أول السلطان عبد الحميد الثاني الذي انتعشت كل آماله فدعم الثورة بشكل سري وكانت بينه وبين عرابي مراسلات تحرض على التخلص من حكم أسرة محمد علي كلها، ورفض أي تدخل عسكري ضد عرابي. فلما أن صارت هزيمة الثورة محققة أصدر عبد الحميد منشورا يعتبر عرابي عاصيا وينفض يده منه، وكان لهذا أسوأ الأثر على وضع عرابي الذي صار محتاجا لأن ينفي عن نفسه تهمة العصيان والخروج على الخلافة!
ثم جرى هذا على عرابي نفسه، الرجل الزعيم الذي قاد أحلام الجماهير وصار معقد رجائهم، لما هُزِم وقُضِي عليه ونُفِي عشرين سنة، عاد بعدها شيخا هرما محطما، وأصدر تصريحات سيئة تتحدث عن صداقة الإنجليز وأيد فيها سياستهم ووجودهم بمصر!
وجرى هذا على سائر رجال الثورة فكان أحسنهم حالا من إذا عاد إلى مصر بعد المنفى ظل في بيته ولم يتكلم بالسياسة كمحمود سامي البارودي (رئيس حكومة الثورة قديما، ورب السيف والقلم)، وقد جرى في المنفى نزاعات بين رجال الثورة تبادلوا فيها إلقاء مسؤولية الفشل على بعضهم وتنافروا من بعد ما كانوا على قلب رجل واحد!
وظل خطيب الثورة وزعيمها السياسي عبد الله النديم مطاردا تسع سنوات، متخفيا شريدا، وكان منتهى أمله أن يظل هكذا بعيدا عن يد الإنجليز، من بعد ما كان –في زمن الثورة- يخطط لإسقاط نظام وإنشاء نظام!!
إن الهزيمة تقتل النفوس وتهدم الأبطال! وإن الاستسلام والتراجع بدعوى حقن الدماء إنما يُثمر خسرانا على مستوى القيم والمبادئ والتاريخ ومكانة الرجال، وأسوأ منه أنه يؤسس لجيل يتعايش مع الذل والظلم أو مع الاحتلال، فلا يكون ثمة أمل في ثورة إلا بعد جيل آخر على الأقل.
(7)مأساة احتكار الجيوش للسلاح
لقد حاولت فرنسا احتلال مصر (1798م) فوجدت مقاومة عنيفة لثلاث سنوات، ثم حاولت بريطانيا (1807م) فردَّها الأهالي بلا أي دعم من الدولة. وكان من أعظم جرائم محمد علي أنه نزع السلاح من الجماهير وجعل القوة المسلحة حكرا على الجيش النظامي.. ومنذ تلك اللحظة والجيش المصري لم يحقق نصرا قط، وأسوأ من ذلك أن هزيمة هذا الجيش الرسمي كانت تساوي سقوط البلد في قبضة الاحتلال، وكان الحال من قبل هذا أن سقوط الجيش النظامي يعني بدء المقاومة الشعبية.
بمجرد ما سقط جيش عرابي سقطت مصر في قبضة الاحتلال، ولم يجد الاحتلال مقاومة إلا في الأقاليم التي لم تكن تشبعت بعد بـ "تحديثات" محمد علي، أما المدن الكبرى فلم يجد الإنجليز فيها مقاومة، بل واستسلم عرابي نفسه ولم يخطر بباله أن يقود مقاومة شعبية، ولعله –لطبيعته العسكرية- لم يتصور إمكان القيام بمقاومة شعبية.
إن احتكار الجيوش النظامية للسلاح مأساة وكارثة على البلاد من وجهين؛ الأول: أن الشعوب تكون في حكم الأسير لا تستطيع فعل شيء ضد الاستبداد إلا إن كان لها ذراع في الجيش أو انحاز الجيش لها، فإن لم يكن لها ذراع فيه وكان الجيش تابعا للمستبد أو المحتل فلا أمل في التغيير إلا بثمن ضخم وفادح. والوجه الثاني: أن الجيوش حين تنهزم أمام العدو يتسلم العدو البلد بلا مقاومة، وقد تكون هذه الجيوش ذراعا للعدو نفسه وحامية لمصالحه وجزءا عضويا منه. وكلا الوجهين تعاني منه شعوبنا اليوم في مصر وسوريا واليمن وليبيا وتدفع ثمن تصحيحه من دماء أبنائها بالآلاف والملايين.
ولهذا فإن من أبرز أخطاء الثورة العرابية أنها لم تسلح الجماهير، وكانت قادرة على ذلك لو أرادت، وهو خطأ ينبغي أن تستوعبه الثورات جيدا، إذ لا نصير للثورة إلا الشعب، وخلوّ الشعب من القوة يعني أن الثورة صارت ضعيفة يتيمة مرهونة بموازنات وحسابات واتفاقات الأقوياء المسلحين.
(8)القضاء الشامخ والإعلام الحر!
القضاء والإعلام ليسا إلا صورة لنفوذ القوى الغالبة، وأي هوامش عدالة أو حرية يتمتع بها القضاء أو الإعلام إنما تكون في ظل سلطة عادلة أو في ظل سلطة مستبدة متمكنة ولكنها ذكية، فتترك من الهوامش ما لا يؤثر على وضعها كسلطة، أحيانا كنوع من التنفيس وأحيانا كنوع من إدارة التناقضات والخلافات بين أجنحة قائمة في المجتمع. أما في أوقات المعارك الحقيقية أو الثورات المهددة للنظام أو اهتزاز النظام فلا حرية ولا عدالة، ولا يُقبل من الإعلام أو القضاء إلا أن يكون خادما طيعا ووسيلة من وسائل النظام.
لقد حاول الخديوي والإنجليز احتواء الثورة فجاءوا برجل قانون معروف بوطنيته هو محمد شريف باشا، ورجال القانون بطبيعتهم إصلاحيون وهم لذلك متناقضون مع المرحلة الثورية، ذلك أنهم يتفانون في إصلاح النظام ولا يفكرون في إسقاطه، وهكذا أنجز شريف باشا بعض الإجراءات التي قصد منها إنهاء الثورة، فمنها ما كان إصلاحا حقيقيا طالبت به الثورة ومنها ما كان إجراءات لقتل الثورة مثل نقل عرابي إلى الشرقية وزميله عبد العال حلمي إلى دمياط ثم أصدر قانون المطبوعات ليتخلص من الصحف التي تمثل صوت الثورة المضاد للأجانب (فهو في النهاية حريص على ودّ الأجانب وحفظ مصالحهم).
وبعد فشل الثورة العرابية حوكم زعماء الثورة أمام "محكمة عسكرية مصرية" لا إنجليزية، وبتهمة "عصيان أمر الخديو" لا بتهمة مقاومة الإنجليز ولا بتهمة التسبب في "مذبحة" الإسكندرية التي كانت ذريعة التدخل الأجنبي أساسا! واستغرقت المحكمة حوالي ربع الساعة: تُلِي الاتهام على عرابي وأقر به ثم رفعت للمداولة وأعيدت لتلاوة الحكم بالإعدام وتخفيفه!
ومنذ قُبِض على عرابي والصحف الصادرة مبتهجة بالخبر، وصدرت الأهرام تبشر قراءها بالقبض على العاصي عرابي وصحبه البغاة الذين نشروا الفتنة في البلاد، وصار كل ذي صوت إعلامي ينافق ويشمت حتى لقد صدرت جريدة الوطن تعترض على تخفيف حكم الإعدام عن عرابي، وبلغت في اعتراضها حدًّا أغضب الإنجليز أنفسهم فاعتذرت وقالت: "قد رأينا أن ندفع ما علق بأوهام البعض من أننا نددنا على انجلترا في مصر والحال أننا لم نأتِ شيئًا إدّا ولم نخرج عن الحد أبدًا ولم نستعمل حدة ولا شدة في كلامنا على نتيجة محاكمة البغاة بل إن جريدة الوطن دون غيرها طالما دافعت عن سياسة إنجلترا ونشرت مآثر أهلها ومكارم أخلاقهم. ولما اشتد كرب تلك الفئة الباغية كنا نتمنى لو أتت دولة البرابرة لتنقذنا من مخالبها فما بالك بدولة بريطانيا المتمدنة المشهورة بحسن السياسة ومزيد الكياسة ودهاء الرجال وسداد الأعمال فهل يظن أن يقابل معروفها بالغمط والكفران"!!
وإن ما جرى علينا في الثورة المصرية لدرس بليغ بليغ في شأن الإعلام والقضاء!! درس لا ينساه إلا من اختار الضلالة على الهدى.
(9)سطوة الثقافة الغالبة
هُزِمت الثورة العرابية، التي كانت ثورة على الاستبداد الخديوي والنفوذ الأجنبي المهيمن على البلد، ونزل الجيش الإنجليزي بنفسه لكي يحمي إمبراطورية الأجانب ومصالحهم في مصر، فما إن تم ذلك حتى انقلب شأن التاريخ!
لقد اعْتُبِر عرابي هو السبب في الاحتلال الإنجليزي، وأنه لو كان أكثر مرونة لما وصلت البلاد إلى الاحتلال، بل تمنى الرافعي (والرافعي ممن أنصف عرابي إلى حد كبير، ولكن غَلَبَه طبعه القانوني وتوجهه القومي في التحليل والتأريخ) أن لو استجاب عرابي لمطلب الإنجليز والفرنسيين بمغادرة مصر. وظل عرابي منذ هزيمته ملوثا مذموما تنشأ الأجيال على أنه السبب في الاحتلال لا على أنه محاولة تحرر مجيدة!!
ومن المؤسف أن ممن ساهموا في تلويث عرابي وحركته أناس لا يُتَهَمون في إخلاص ولا وطنية ولا حمية على الدين والناس، ولكن عصر الهزيمة هو البيئة التي تنبت فيها بذور الأفكار الضالة، ومن أولئك الشيخ محمد عبده الذي اعتنق فكرة التربية والتعليم قبل أي شيء، وسار في فكرته هذه حتى كان صديقا لكرومر وهجَر أستاذه الأفغاني ولم يكتب حتى رثاء فيه! ثم لم يحقق شيئا ومات والاحتلال ممكن مستقر. ومنهم مصطفى كامل ومنهم محمد فريد الذي كان يسميها "الثورة المشئومة". وظل عرابي مشتوما ملوثا طوال عصر أسرة محمد علي حتى إن كتاب عبد الرحمن الرافعي عنه صودر، ولم يُنشر إلا بعد انقلاب يوليو 1952 حين احتاج العسكر إلى كل ما يطعن في أسرة محمد علي فرُفِع الإصر عن سيرة عرابي وثورته.
وعليه، فيجب أن نعلم أن انتصار الانقلاب العسكري هو انتصار لكل القيم المنحطة والوضيعة، وهو تلويث لكل الشخصيات الشريفة والقِيَم النبيلة.
(10)نقص الإنسان وتدبير الله
ليس ثمة نظام كامل لا ثغرة فيه، لم يبلغ البشر بعد شأن الكمال، بل إن الإسلام –وهو المنهج الكامل- يعتري النقصُ تطبيقه لأن القائم على التطبيق بشر، ومن هنا نفهم أن العدو بشر وأنه مهما حرص على السيطرة علينا وصمم أنظمته ومؤسساته على قهرنا فإنه يخطئ وإن نظامه ناقص، ولا يخلو من ثغرات يجب أن تستفيد منها الثورة والمقاومة، بل إن كل نظام يحمل داخله بذور فنائه!
برغم توصية محمد علي لأولاده ألا يترقى المصريون في سلك الجندية وإلا ستكون نهاية أسرتهم إلا أن حفيده سعيدا فعلها فخرج من الجيش زعماء ثورة كادت تنهي حكم أسرتهم فعلا. وقد أنشأ إسماعيل البرلمان ليكون سندا له أمام القوى الأوروبية فصار بعدئذ مطلبا ثوريا يقيد حركته وحركة ابنه توفيق ويفتح الطريق لرقابة الشعب على السلطة. وقد أضعف الإنجليز الأزهر ليقضوا على جذور المقاومة فانبثقت مقاومتهم من فئة الأفندية لا الأزاهرة (لم يكن حسن البنا ولا معظم جماعة الإخوان أزاهرة)... وهكذا! وما من نظام يغلق طريقا ويفتح طريقا حتى يكون الطريق الذي فتحه باب شر عليه، فالديمقراطية التي ينشرها الغرب تأتي له بالإسلاميين.
ومثلما ينبغي على الثورة والمقاومة أن تفكر خارج إطار النظام والمنظومة وبطريقة ثورية تتجاوز السقوف المفروضة عليها، مثلما ينبغي عليها أن تستفيد من كل خلل وتنفذ من كل نقص وتستثمر كل فرصة في الأنظمة القائمة، وهكذا فعلت كل ثورة ناجحة فلم توجد حركة انفلتت من واقعها من كل وجه وبدأت من الصفر تماما ثم نجحت.

نشر في نون بوست 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 11, 2015 08:22

July 9, 2015

طغاة أهلكهم الله في رمضان (2)

يستبشر الناس بشهر رمضان الكريم لما انطبع في أذهانهم من كونه شهر الانتصارات، وقد أنعم الله على المسلمين فيه بكثير من الأمجاد الخالدة، وقد ذكرنا في المقال الماضي أن من هذه البشريات أيضا ما أنعم الله به على الأمة فيه من هلاك لبعض الطغاة، ذكرنا منهم في المقال الماضي ثلاثة: أبو جهل عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة، وأبو طاهر القرمطي صاحب الجريمة العظمى التي لم يكن في تاريخ الإسلام مثلها: اقتحام الحرم وانتزاع الحجر الأسود، وجنكيز خان الإعصار الدموي الذي أهلك الحرث والنسل ودمر المدن الباهرة الناضرة الزاخرة بالعلم والحضارة.
ونذكر اليوم اثنين من هؤلاء الطغاة أماتهم الله في رمضان، إلا أنهما ما زالا يتمتعان بحضور وتعظيم لأن آثار دولتهما لم تذهب بعد بل ما تزال بقاياها تفسد وتخرب، ذلك أنهما كانا من أهم فصول نزع الأمة من هويتها وتاريخها وتسليمها للأجنبي، وما زال هذا الأجنبي يرعى غراسه ويحرص على بقاء ثماره.
(4)محمد علي باشا الكبير
وهو الطاغية الجبار المشهور، والرجل الذي حقق للغرب في مصر ما فشل فيه نابليون نفسه بجيش الحملة الفرنسية، بشهادة مؤرخي الغرب أنفسهم كأرنولد توينبي الذي قال: "كان محمد علي ديكتاتورًا أمكنه تحويل الآراء النابليونية الى حقائق فعالة في مصر"لقد كان محمد علي نكبة هائلة على مصر، وغاية ما يُقال في إنجازاته أنه أنشأ البنيان ودمَّر الإنسان، واستطاع أن ينتزع الأوقاف فيجعلها تحت سيطرة السلطة وهو ما لم ينجح فيه الظاهر بيبرس في أوج الدولة المملوكية ولا الظاهر برقوق من بعده، ولا استطاعه الولاة العثمانيون في عهد قوة الدولة. لقد حطم محمد علي أشراف مصر وزعمائها وعلمائها وكبار الرجال فيها، وفتح البلاد للأجانب حتى هيمنوا عليها اقتصاديا ثم احتلوها عسكريا في عهد حفيده، وهذا فضلا عما فعله بسائر المصريين الذين ساقهم بالسوط والتعذيب إلى معسكرات الجيوش، وحرمهم من حمل السلاح فصيَّرهم عبيدا، وحرمهم من امتلاك الأراضي فصيَّرهم خدما وفلاحين.
وفي عهد محمد علي فقط بدأ خراب المساجد ومدارس التعليم الديني، واستوردت البلاد أفكار الأجانب المحتلين، وللمرة الأولى في تاريخ مصر منذ دخلها الإسلام، يمكن أن تُقْرأ هذه العبارة التي كتبها المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول: "مساجد القاهرة لم يلحقها هدم أو تخريب في أيام حكم البكوات (المماليك) والباشوات (العثمانيين)، بل على العكس من ذلك رأينا أن العناية بها كانت بالغة. وإنما بدأ عهد التهدم بمجيء محمد علي باشا"ولا يجد المرء في تقييم عصر محمد علي أدق ولا أبلغ من مقال الأستاذ الإمام محمد عبده، والذي نشره باسم مجهول "مؤرخ" في ذكرى وفاة محمد علي (انظره هنا).
وقد مات محمد علي في (13 رمضان سنة 1265هـ) بعد أعوام من الخرف لم يعد يستوعب فيها من أمر نفسه وأمر البلاد شيئا.
(5)مصطفى كمال أتاتورك
وهو صاحب الجريمة الأعظم في تاريخ المسلمين: إلغاء الخلافة الإسلامية، ومطاردة الإسلام في تركيا كأعنف ما تكون المطاردة، وشن حرب الإبادة على الإسلام كأشرس ما تكون الحرب.
ومثلما يُعزى لمحمد علي بناء مصر الحديثة يعزى لأتاتورك تحرير تركيا وتحديثها، فيما الواقع أنه مؤسس للحكم العسكري المستبد العلماني، الذي يجعل العسكر فوق الشعب وحامي العلمانية وذراعها الذي يفرضها قهرا وقسرا!
ومهما يُقال في استبداد المماليك فإن استبداد محمد علي أضخم منه بما لا يُقارَن، وكذلك: مهما قيل في استبداد العثمانيين فإن دولة أتاتورك أبشع منها بما لا يُقَارن، إذ بعدما كانت الدولة العثمانية ملجأ المضطهدين دينيا في أوروبا صارت أوروبا ملجأ المضطهدين المسلمين من الأتراك!!
وفي تطورات درامية مثيرة تحول العسكري الفاشل –ضمن جنود الدولة العثمانية- الذي عجز عن تحقيق أي نصر في الشام أو ليبيا أو حتى تركيا أول أمره رغم ضعف أعدائه، إلى قائد حركة المقاومة الذي يحقق انتصارات متتالية على اليونان وغيرها من الدول الكبرى وهو يرفع لواء الإسلام ويلبس ثياب علماء الدين ويحارب الخمر ومظاهر الفجور، ثم إذا به يوافق على شروط مهينة لم يكن يتوقعها أحد ممن دعموه على رأسها: إلغاء الخلافة!!!
وعندما أعلنت الجمهورية التركية (29 أكتوبر 1923م) كان أتاتورك هو رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس حزب الشعب الجمهوري والقائد العام للجيش!! ثم ليس إلا شهور حتى ألغى الخلافة في ذكرى الإسراء والمعراج (27 رجب 1342هـ = 3 مارس 1924م) ودشَّن حملته لإزالة الإسلام فنفى آخر الخلفاء (عبد المجيد الثاني) من البلاد، ثم كتب اللغة التركية بالحروف اللاتينية بدلا من العربية فأسس بذلك لقطيعة علمية ثقافية عميقة الأثر دفعت الأجيال التركية ثمنها مرًّا مريرا، وأمر أن يؤذن الآذان بالتركية، واعتمد التقويم الغربي بدلا من التقويم الهجري، وجعل العطلة يوم الأحد بدلا من يوم الجمعة، واستولى على الأوقاف ثم ألغى المحاكم الشرعية وبدأ في إزاحة القوانين الإسلامية مستبدلا بها القوانين الغربية، والانتقال عن عاصمة الخلافة إلى أنقرة، وكانت دولة أتاتورك شرخا ضخما في العلاقات العربية التركية وفي العلاقات التركية الكردية لم تتعاف الأمة منها حتى الآن.
وبرغم كل ما قيل عن وحشية بطرس الأكبر في تغيير وجه الحياة الروسية إلا أن ذلك –وكما يقول إيان بوروما وأفيشاي مرجليت- "لم يكن شيئا بالمقارنة مع كمال أتاتورك الذي تعهد في العام 1917 أنه إذا ما وصل إلى السلطة يوما فسوف يغير الحياة الاجتماعية في تركيا دفعة واحدة، وهذا ما فعله على وجه التحديد منذ العام 1923"، بل يضربان به المثل الحسن (!!) في التغيير، فقد "أقام نظاما تعليميا علمانيا وأغلق جميع المؤسسات التي تقوم على الشرع الإسلامي. وغدت العلمانية –في ظل أتاتورك- نمطا آخر من الإيمان العقائدي الجامد"وقد جرى كل هذا فوق جثث الأتراك ومذابح أوقعها بالعلماء وطلاب العلوم الشرعية وشرائح واسعة من الشعب التركي المسلم الذي قاوم ما استطاع لكن فارق القوى واتجاه الزمن لم يكن في صالحه على الإطلاق.
هلك أتاتورك في (17 رمضان 1357هـ = 10 نوفمبر 1938م) بعد مرض في الكبد قضى عليه.
ومثلما كتب محمد عبده مقاله عن محمد علي ممهورا باسم مجهول "مؤرخ"، كتب ضابط تركي مجهول كتابا عنه سماه "الرجل الصنم" (حمله من هنا)

نشر في ساسة بوست
د. زكريا سليمان بيومي: قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ص182، وهو ينقل عن: أرنولد توينبي: عبد الرحمن الجبرتي وعصره ص14، ضمن "عبد الرحمن الجبرتي دراسات وبحوث". أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 3/313. كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ص546. ستانلي لين بول: سيرة القاهرة ص252. إيان بوروما وأفيشاي مرجليت: الاستغراب ص124، 125.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 09, 2015 14:10

July 7, 2015

من مآثر الأتراك في رمضان (3) إنهاء الدولة البويهية

في المقال قبل الماضي ذكرنا مأثرة للأتراك وهم جند في صفوف الخلافة العباسية، وفي المقال الماضي ذكرنا مأثرة لهم وهم خلافة على ذروة العالم الإسلامي، واليوم نذكر لهم مأثرة وهم بين هذين المنزلتين: منزلة الدولة المستقلة الخاضعة لسلطان الخلافة الشرعي الاسمي.
عاشت الخلافة العباسية عصرها الذهبي في القرن الأول من تاريخها، مع المؤسسين والخلفاء العظماء كالمنصور والرشيد والمأمون والمعتصم، ثم تسلط عليها طبقة العسكر الأتراك فضعف مقام الخلافة وبدأت في الانحراف، ثم جاءت الطامة حين استولى عليها البويهيون.
والبويهيون طائفة عسكرية شيعية انطلقت من طبرستان (جنوب بحر قزوين) ولم تزل تتوسع وتستولي على البلاد في ظل ضعف الخلافة العباسية حتى استولت على العراق، ثم سيطرت على بغداد، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تنشأ فيها دولة على غير رغبة الخلافة في قلبها، وقد اعترف البويهيون –رغم تشيعهم- بالخليفة العباسي السني منعا من تهييج الناس عليهم باطراح شرعية الخليفة العباسي ومكانته وإن كانت مجرد شرعية اسمية مظهرية.
وقد اجتمعت في هذه الدولة المساوئ جميعها، مما جعل القرن الذي سادت فيه قرنا عصيبا كئيبا في تاريخ المسلمين:
1. فهي أولا طائفة عسكرية قضت على الجناح المدني المحافظ على توازن السلطة وحضارتها، وعُزِل الخليفة تماما عن تصريف الأمور بل صار يتلقى راتبه المخصص له من الملك البويهي، وصار يُعزل لمجرد رغبة الملك البويهي في عزله أو في نهب أمواله حين يحتاج إلى المال، ووقعت في هذا حوادث تفيض بالحسرة والألم والمهانة.
2. وهي ثانيا طائفة شيعية عملت على نشر التشيع بين أهل العراق مما أنبت الفتن والنزاعات التي راح ضحيتها مئات الآلاف من النفوس ومئات الملايين من الأموال، وتمزقت الأمة مما أطمع فيها عدوها فبلغ منها ما لم يبلغه من قبل حتى قال ابن تيمية: "وفي دولة بني بويه ونحوهم ... كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة؛ قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم؛ فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك"3. ثم بعد هذا كله لم يكن للبويهيين نصيب في جهاد العدو بل كانت سيوفهم مسلولة على أنفسهم أو على غيرهم يتنازعون الملك ويتنافسون على السلطان فزادت بهم الأمة ضعفا على ضعف حتى وصف الذهبي هذا بكلمات مؤثرة قال فيها: "ضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه، وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم، وأخذوا المدائن، وقتلوا وسبوا"وهذه هي المرة الأولى فيما نعلم التي تنشأ دولة تسيطر على المشرق فلا تستطيع حتى وهي في أوج قوتها ألا تحقق انتصارات باهرة على الروم، فالأمويون هددوا القسطنطينية ذاتها أكثر من مرة، ثم جاء العباسيون فكانوا الأعلى يدا في مواجهات الروم، وفي عصر سيطرة الترك كان الجهاد قويا حتى وإن ضعف مقام الخلافة، ثم جاء البويهيون فلم يفعلوا إزاء الروم شيئا بل تلقوا الضربات في صمت أو تلقاها عنهم الحمدانيون في الشام وأحيانا نادرة في الموصل، ثم جاء السلاجقة فأوقعوا بالروم خسائر مزلزلة خالدة أشهرها معركة ملاذ كرد التي قادها ألب أرسلان، ثم جاء العثمانيون فكتبوا نهاية الدولة البيزنطية العتيقة!
البويهيون وحدهم كانوا سادة المشرق ولم يكن لهم أثر في جهاد الروم!!
وهم مع ذلك مسرفون في الاهتمام بالألقاب والمظاهر السلطانية، وإن كانت البلاد في أشد الحاجة إلى المال، وسَمُّوا أنفسهم بالملك العزيز والملك الرحيم وملك الملوك، ونافسوا الخليفة في الرسوم والتقاليد، حتى لقد أجبر أول ملوكهم في بغداد الخليفة على نقش اسمه على العملة إلى جوار اسم الخليفة. و"لم يبق شيء لم يغتصبه البويهيون من الخلفاء العباسيين الذين عاشوا في عهدهم سوى لقب الخلافة وما يتعلق به من مظهرية كاذبة"وكان إنقاذ الخلافة من هؤلاء البويهين على يد قوم من الأتراك.. أولئك هم: السلاجقة!
نبغ شأن السلاجقة في أواخر القرن الرابع الهجري، وما لبث أن ظهروا على حدود الدولة الغزنوية في ظل سلطانهم العظيم محمود الغزنوي، لكنهم لم يستطيعوا أن يصيروا قوة إلا بعد وفاته، إذ انتصروا على خلفه مسعود الغزنوي وصاروا بهذا قوة ناشئة فتية ورثت كثيرا من أملاك الدول القائمة في الجناح الشرقي للإسلام.
وسرعان ما تحول السلاجقة إلى عاصفة عاتية، وانهارت أمامهم الممالك، وزحفوا غربا فقضوا على ما بقي من دول البويهيين، ووجد العباسيون فيهم المنقذ والأمل من تسلط أولئك، وانساح السلاجقة حتى امتد سلطانهم إلى قلب آسيا الصغرى، ثم انقسموا إلى ثلاث أقسام: قسم حكموا إيران والعراق، وقسم حكموا كرمان (في جنوب إيران) وقسم حكموا آسيا الصغرى وهم الذين عُرِفوا بـ "سلاجقة الروم"، وكان لهم جهاد واسع وهائل مع الدولة البيزنطية، وهم الذين كان لهم الفضل في ولادة الدولة العثمانية –أقوى دول الأتراك قاطبة وأوسعها أثرا- في آخر أيامهم.
ما يهمنا في سياقنا الآن أن العاصفة السلجوقية العاتية كانت ملاذ الخلفاء العباسيين، فاعترف الخليفة العباسية بطغرل بك (سلطان السلاجقة) منذ (433هـ) وأرسل إليهم رسولا يناشدهم التقدم نحو العراق وإزالة سلطان البويهيين، وقد كانت الأحوال في العراق قد بلغت من التدهور مبلغا عظيما ونبغ فيها قائد يدعى البساسيري بايع دولة العبيديين أحدث فتنة خطيرة بالسيطرة على بغداد والخطبة للخليفة العبيدي (الفاطمي) في إسقاط للخلافة العباسية وتقوية للدولة العبيدية (الفاطمية).
وما كان أسعد طغرل بك بهذه الرسالة من الخلافة -وهو الذي لم يزل ينتظر الفرصة المناسبة- فلم يكن إلا يسيرا حتى تجهز، وأرسل وفدا إلى الخلافة قبل قدومه فتلقته الخلافة بالإكرام والحفاوة، ثم وصل طغرلبك مع موكبه الفخم وجيوشه الكثيرة إلى بغداد (25 رمضان 447هـ) واستقبلته وفود الخليفة بالإكرام وأبدى طغرل بك تعظيم الخلافة وقدرها واحترامها، ثم استقبله الخليفة فيما بعد وخلع عليه (26 رمضان 447هـ)، وكان قد خُطِب له في بغداد (22 رمضان 447هـ)، ثم خطب من بعده لأبي نصر البويهي، وهو ما معناه انتهاء الحكم البويهي وبداية الدخول في عصر السلاجقة، ثم استقر طغرل بك في دار المملكة (2 شوال 447هـ)، وأقيم حفل تنصيبه (11 ذي القعدة 447هـ).
وكعادة الدول، وكما قالت العرب: لا يجتمع سيفان في غمد، لم يلبث الحال إلا قليلا ووقع اشتباك في بغداد تطور إلى تخلص طغرل بك من الملك البويهي، على غير رغبة الخليفة الذي توحي سياسته في تلك الأثناء بأنه أراد السلاجقة كدرع له وسند، وكقوة تحدث توازنا مع البويهيين لا كقوة تزيل البويهيين بالكلية وتستولي على الأمر، إلا أن الضعيف –ولو كان الخليفة- لا يملك إنفاذ رغباته، فسرعان ما أنهى طغرل بك دولة البويهيين فقبض على أبي نصر البويهي آخر ملوك البويهيين في العراق (30 رمضان 447هـ).
وهكذا يجب أن يعلم الناس أن الشرعية وحدها لا تحكم .. بل لابد لها من القوة! وأن القوة الخالية من الشرعية أقدر على صناعة -أو حتى شراء- شرعية لنفسها تحكم بها!
وترضية لخاطر الخليفة الذي لا شك أنه أصيب بأشد صدمة في ذلك الوقت أطلق طغرل بك بعض من قبض عليهم من الجند التركي في جيش الخلافة، لكنه أبقى على البويهي محبوسا واستولى على أملاكه، وبدأ في السيطرة على أنحاء العراق ومراسلة أمراء الأطراف.
وباعتقاله انتهى عهد أبي نصر بن أبي كاليجار بعد ست سنوات في ولاية العراق!
وبانتهاء عهده انتهت الدولة البويهية بعد مائة وثلاثة عشر عاما!
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}.
ولئن كان أمر الخلافة لم يتحسن كثيرا تحت ظل السلاجقة، إلا أن أمر الأمة كان أحسن حالا بما لا يقارن من أمرها في ظل البويهيين، والحمد لله رب العالميننشر في تركيا بوست

ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/ 22. الذهبي: سير أعلام النبلاء 16/ 232. د. وفاء محمد علي: الخلافة العباسية في عهد تسلط البويهيين ص60. للتوسع: انظر: محمد إلهامي: رحلة الخلافة العباسية، الجزء الثاني.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 07, 2015 04:31

July 5, 2015

في طبائع الشعوب

أوحت لي حلقة جو تيوب بموضوع متكرر يبدو أنه لا يزال غير مفهوم حتى الآن.. والمأساة أنه لم يزل مفهوما لأننا لم ندرسه حق الدراسة، بل لم يزل مفهوما رغم أننا دفعنا ثمنه آلاف الأرواح ومئات آلاف الضحايا وملايين الأموال.الموضوع المأساة هو عدم فهمنا لطبيعة الشعوب..
ينتظر المرء أن الشعب يتحول إلى تقدير واحترام حاكمه الصالح الذي يفني نفسه في صالحه ولو كان ضعيفا، كما ينتظر من الشعب أن يتمرد على الطاغية الذي يذله ويقهره ولو كان قويا!
هذا "المنطق الرياضي الهندسي العقلي" يصلح لدراسة المواد والأشياء ولا يصلح لدراسة البشر والمجتمعات.. ولذلك فإن أحد أهم التفسيرات في فشل التيارات الإسلامية هي أن قادتها كانوا أطباء ومهندسين وخريجي كليات علوم وكيمياء ونحوه.. وهو تفسير قوي وإن كان الأمر أعمق من ذلك برأيي!
الشعوب ليست هكذا..
على العكس.. وجد عمر بن الخطاب من يقف له ويراجعه ويهدده بالتقويم بالسيف، فيم لم يستطع إلا النادر البسيط أن يقف قائلا عشر هذا المعنى لرجل كالحجاج بن يوسف الثقفي!
منذ أكثر من مائة عام كتب جوستاف لوبون (عالم اجتماع ومستشرق فرنسي) نظريته الاجتماعية عن الزحام.. وملخصها ببساطة أن سلوك الشعوب كمجموع لا علاقة له بسلوك الأفراد.. بمعنى: إذا وضعت جمعا من الأطباء أو المهندسين أو الأذكياء معا، فإن تصرفهم جماعيا لا علاقة له ولا شبه بتصرف كل منهم على حدة!
في المجموع تصبح الشعوب أكثر طفولية وسذاجة، وعواطفها تغلب على عقلها، كما تصير أكثر حدة في تعاطيها.. فتصبح أكثر كرما أو أكثر حدة، أكثر رحمة أو أكثر قسوة (بحسب الموقف والشعور العام واتجاه التحريض).
ومن هنا كان دوركايم -أشهر علماء الاجتماع الفرنسي- ميالا للطبيعة الجماعية، ومصرحا أن الفرد يذوب في المجموع حتى تختفي شخصيته الذاتية.
هذه النظرية ما تزال هي الأقوى والأقدر على تفسير حركات الشعوب، وصدى هذه النظرية ما زال صالحا، وصدر في كتاب قبل سنين بعنوان "الذرة الاجتماعية"للأمريكي مارك بوكانان.. وخلاصته: أن الإنسان مثل الذرة، وحين تدخل الذرة في المركب تفقد خصائصها الأصلية لتكون مع غيرها من الذرات ذات طبيعة وتصرف وسلوك مختلف.. وهكذا الإنسان حين يكون بين المجموع!
وجذور هذه النظرية موجودة في أقوال بعض علمائنا الذين فسروا قول الله تعالى (قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة).. فقالوا: أمر الله بالتفكر والتدبر في حال الاختلاء بالنفس أو الاستعانة بالواحد المقرب ليكون ذلك أدعى في الوصول إلى الحق، بينما التفكير في المجموع لا يتم لما يحدث له من التشويش والتشغيب واتباع الأعلى صوتا.
المهم:
ليس معنى أن الشعوب تستذل للطغاة أنهم عبيد.. ولا معنى استئسادهم على الصالح الضعيف أنهم عبيد.. المعنى ببساطة أن هذه هي طبيعة الشعوب!
ولأجل هذه الطبيعة كان لا بد للحاكم الصالح أن يكون قويا ولا يكفيه صلاحه.. كما كان لا بد للنبي أن يؤسس دولة ويحمل السيف ويجاهد لأن الناسلا يهتدون بمجرد (معرفة) الحق.. بل هو ذات النبي الذي أوذي في مكة بأنواع الأذى لما دخل مكة فاتحا بعد سنوات أسلم له من كان يؤذيه!
ولهذا قال الله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا).. فالناس يدخلون في الدين بعد أن ينتصر، لا قبل ذلك.. وفي أجواء الفشل والهزيمة تنبت كل أفكار الكفر والإلحاد والتشكك في الدين وفهمه وطريقه وصلاحيته.
الشعوب تعبر عنها ببساطة هذا الموقف الحقيقي:
سائق تاكسي يشتم الإخوان، قال له الراكب: لماذا؟
قال: لأن ابني خرج من المستشفى ولم يزل محتاجا إلى العلاج لأن الحكومة أغلقتها لهم.
قال الراكب مندهشا: ولماذا تشتم الإخوان إذن؟ اشتم الحكومة
قال: ما هم لو ما كانوش إرهابيين ما كانتش الحكومة قفلتها لهم!!
ومثل هذا الموقف ما ورد في حلقة جو تيوب آنفة الذكر.. أحدهم كفر بالله وينتظر السيسي.. وأحدهم يشتكي من الظلم ولا يقبل شتم السيسي.. وأحدهم مدح السيسي ثم اكتشفنا أنه لم يسمع خطاب السيسي لأن الكهرباء كانت مقطوعة!
ببساطة: ما تكرر تقرر!
وكان الشيوعي يعذب في سجون عبد الناصر وهو يهتف: يا عبد الناصر! ولا يصدق أن عبد الناصر هو من أمر بالتعذيب!
ليس هناك داع أن تشتم الشعب وتسبه.. المشكلة الحقيقية عند من لم يفهم طبيعة الشعوب (وهي طبيعة كل الشعوب لا الشعب المصري فقط كما يحلو لهواة جلد الذات.. فكل أوروبا عاشت في الإقطاع والاستبداد ونزل بشعوبها من المجاعات والمذابح ورغم ذلك ظلت شعوبهم تعتقد أن نبلاءهم من ذوي الدم الأزرق وأن البابا متصل بالسماء وأن الإمبراطور حاكم بحق الإله).
الشعوب كالطفل الصغير.. تصنع لها أذواقها وقضاياها واتجاهاتها وأهدافها.. ولذلك كان اختراع وسائل الإعلام (من أول المطبعة وحتى التليفزيون) من أهم التحولات الكبرى في علم الاجتماع من خلال ما وفرته من السيطرة على الشعوب. ومنذ ظهرت الطباعة ظهر معها ما سماه بندكت أندرسون "الجماعة المتخيلة".. أي قدرة وسائل الإعلام على "صناعة" هوية جديدة "متخيلة" لمجموعة من البشر!
ومن هنا نفهم كثيرا من الأمور:
نفهم أن السابق إلى الحق ليس كالمتأخر فيه (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا)
ونفهم عظمة الرجل الذي قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله، وكيف صار بذلك سيدا للشهداء
ونفهم مقام الغرباء في الدين الذين يصلحون إذا فسد الناس، وكيف أن عبادة الواحد منهم كخمسين من الصحابة، وكيف أن العبادة في الهرج كهجرة إلى النبي!
ونحن حين نفهم هذا نفهم أنه لا يستطيع أن يفعل هذا إلا أفذاذ الناس وكبارهم.. ولن تستطيعه الشعوب ولا العامة ولا أكثر الناس.. ومن هنا فالمراهنة على وعي الشعب وقوة الشعب وتمسك الشعب بثورته هو خرافة بلهاء
خرافة كم حذرنا منها من قبل (والأرشيف مفتوح لكل الناس للعودة إلى المقالات والمنشورات منذ أيام الثورة الأولى.. وليس في هذا عبقرية ولا ادعاء) حتى دفعنا ثمنها من الدماء والدموع والأموال!
فلا يحسن بعد كل هذا أن تتعلق خططنا وآمانينا وأحلامنا بالشعب والعامة، ثم لا يحسن أن نظل نقف ونشتم ونقارن بين حال الشعب أيام مرسي وأيام السيسي على وجه التأنيب والتقريع.. ربما يجوز هذا على وجه الفهم والتصحيح والتعلم لا غير.

نسأل الله أن يعلمنا ويرشدنا..
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 05, 2015 14:27

July 4, 2015

في ذكرى وفاة الثائر المهزوم .. دروس يجب أن تتعلمها الثورة

في هذا اليوم (17 رمضان) قبل مائة عام تقريبا (1329هـ = 1911م) توفي الزعيم المصري أحمد عرابي، قائد الثورة المهزومة –ولا أقول: الفاشلة- بعد حياة حافلة شاقة تقلب فيها بين النعيم والجحيم، بين الزعامة والنفي، بين النصر والهزيمة، بين البطولة والاستسلام.. فكان هو وكانت ثورته حدثا جليلا جديرا بالنظر والاعتبار!
ومختصر الثورة في جملة واحدة: أن حركة بدأت كتمرد في الجيش على القيادات الشركسية لمطالب محدودة، سرعان ما حولتها الصفوة المصرية إلى ثورة شعبية بمطالب عامة، وبلغ الوضع من القوة والارتباك في صف السلطة حدَّ الخضوع لمطالب الثورة وتشكيل حكومة وطنية ومجلس نواب ودستور، وهنا نزل الإنجليز بجيوشهم في الإسكندرية بدعوى حماية الأجانب الذين تعرضوا لعملية مدبرة في الإسكندرية تقول بأنهم في خطر، وتم الاحتلال ودَعَمَهُ الخديوي وحدثت خيانات أدت إلى هزيمة الجيش المصري في معركة التل الكبير ثم قُبِض على عرابي وزعماء الثورة وكان جزاؤهم النفي ولم يسمح لهم بالعودة إلا محطمين بعد أن أهلكهم الزمن والمرض!
إن في هذا الثورة دروسا لو أننا فقهناها لما جرى علينا الذي جرى، ولكن على كل حال لم يفت الوقت كله، وما زال في الثورة متسع، وما تزال الميادين تغص بالبواسل والأبطال!
هذه عشرة دروس تهديها لنا قصة عرابي من قبره!
(1)الثورة.. إسلامية
ثورات الشرق تؤول إلى الإسلام، فالإسلام روح الشرق ومزاجه وسمته، وفي حين كانت الأسباب المباشرة لثورة عرابي تبدو وكأنها حركة تمرد عسكرية تطالب بالمساواة بين المصريين والأجانب في الرتب العسكرية، إلا أنها وجدت نفسها تحمل مطالب الأمة كلها، في ورطة ربما لم تكن محسوبة منذ أول الأمر، ولكن هكذا تجري الأمور في بلادنا: ما تلبس الثورات أن تكون إسلامية في كل شيء، وأن ترفع الإسلام شعارا ومطلبا.
ما إن جهر عرابي بمطالب المساواة حتى وجد نفسه في وجه الخديو توفيق الذي رفع في وجهه عنوان الشرعية "إنه سليل محمد علي وقد ورث هذه البلاد عن آبائه وأجداده"، وحينئذ خرجت الروح الإسلامية مستدعية قول عمر بن الخطاب لتقول: "لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، ووالله لا نورث بعد اليوم"، وردَّ عليه عنوان الشرعية ليذكره بأنه ليس إلا وكيلا عن السلطان: الخليفة العثماني، وكتب في مذكراته: ".. وبذلك علم الصغير والكبير أن لنا سلطانًا شرعيًّا هو صاحب السيادة العظمى على البلاد المصرية، وأن الخديو هو نائب عن جلالته فقط من بعد أن كانوا لا يعرفون لهم حاكمًا شرعيًّا غير الخديو"، وكتابات عرابي تفيض بتعظيم الشريعة وطاعة السلطان العثماني والتنديد بالخديوي الذي خالف الشريعة واحتمى بالأجانب وملكهم البلاد.
وكان زعماء الثورة العرابية ورجالها إما أزهريون وإما ممن تلقى العلوم الدينية، وخرجت الفتاوى تدعم عرابي ضد الخديوي وتحرم تسليم البلاد للإنجليز وتحض على الجهاد، وكان هؤلاء جميعا ضمن من حوكموا بعد هزيمة الثورة.فخلاصة الدرس: الثورات في الشرق إسلامية الهوى والطابع والشعار، أما الاحتلالات والانقلابات فهي تؤول إلى الأجانب.
(2)الأنظمة تابعة للأجنبي وهو يحميها
منذ أدخل محمد علي الأجانب إلى مصر وقد صار لهم فيها نفوذ كبير، هذا النفوذ تعرض للضعف في أيام خليفته الخديوي عباس، لكنه عاد للازدهار مرة أخرى في عهد سعيد ثم بلغ ذروته في عهد إسماعيل الذي كان من التبذير والإسراف بحيث قبل خضوع المالية المصرية لمراقبين أجانب بل وتولى الوزارة في عهده ممثلين عن إنجلترا وفرنسا، وصارت للقناصل كلمة عليا في السياسة المصرية، وصارت للأجانب محاكم خاصة "المحاكم القنصلية" ثم محاكم مختلطة (وهي في الحقيقة أجنبية النفوذ) بل إن الخديوي إسماعيل نفسه حين أعلن إفلاسه حكمت عليه هذه المحاكم بمصادرة أمواله وضياعه لتسديد ديون البنوك والمصارف الأجنبية.
بلغ نفوذ الأجانب حدَّ أن عرابي حين سار بمظاهرته العسكرية إلى قصر عابدين لرفع مطالب الجيش والشعب حرص على إبلاغ القناصل بها وتطمينهم أن الأمر لا علاقة له بسلامة الأجانب! وكانت سلامة الأجانب هذه هي المبرر الذي أعلنته بريطانيا لتنزل بجيوشها إلى مصر، كذلك كانت سلامة الأجانب هي الحجة التي يسوقها الخديوي توفيق للإنجليز تحذيرا لهم من عرابي بدعوى أنه "وطني متطرف، يكره الأجانب، يريد طردهم من مصر"!
تقول برقية بريطانية عن بدايات حركة عرابي بأن هؤلاء الضباط أغرار لا يقدرون خطورة ما يقومون به، تشير إلى سذاجتهم وعدم انتباههم للبُعد الدولي ولا حجم النفوذ الأجنبي. وتبدو دهشة عرابي نفسه حين يأتي الأسطول الإنجليزي قبالة شواطئ الإسكندرية ثم يحتج على الإصلاحات والتحصينات الحربية فيكتب "وكنا نتعجب، كيف أن الترميمات في الطوابي العادية تعد تهديدا وحضور المراكب الحربية وإحاطتها بالثغور المصرية لا تعد تهديدا؟!!"
فخلاصة الدرس أن هذه الأنظمة التابعة للغرب حين توشك على السقوط يتدخل الغرب بنفسه لإنقاذها، فينزل الاحتلال الأصيل عند فشل الاحتلال الوكيل، ثم يرحل الاحتلال الأصيل بعد أن ينصب عملاءه ليكونوا هم البديل (كما فعلوا في انقلاب يوليو 1952م).
(3)درس الشرعية الدولية والقانون الدولي
أراد عرابي ردم قناة السويس لمنع الإنجليز من عبورها والتقاء قواتهم القادمة من الهند عبر البحر الأحمر مع القادمة من البحر المتوسط. وساعتها ستعاني القوات القادمة من الهند صعوبات الصحراء الشرقية فيم ستعاني القوات القادمة من الدلتا صعوبة كثرة الجسور لا سيما والوقت وقت فيضان. إلا أن ديليسبس (الفرنسي، والمفترض أنه عدو الإنكليز للعداء التاريخي بين الطرفين) أكد لعرابي أن القانون الدولي يمنع إنجلترا من استعمال القناة، وأن القناة ممر مائي محايد، وأن أحدا لا يستطيع خرق هذا القانون. وصدَّق عرابي هذا الكلام ثم استفاق وقد دخل الإنجليز عبر القناة، ومع دخولهم رسالة من ديليسبس تقول: بأن الإنجليز خرقوا القانون الدولي واستعملوا القناة وأن لعرابي أن يفعل ما يشاء!!
كذلك فإن من عيوب الحركة العرابية اطمئنانهم إلى أن المشكلة قد تحل سلميا عبر مؤتمر الآستانة الذي عقدته الدول الأوروبية وأوحت نتائجه بأنه لن يحدث تدخل أجنبي في مصر، وفيه أصرت بريطانيا على إضافة "ما لم تلزم الحالة القهرية" وهي الإضافة التي تفرغ من كل مضمون، وحسب العرابيون أن الأزمة ستنتهي بخلع توفيق وتولية الأمير حليم باشا مكانه.
ثم أسفرت الأيام عن مصير من لم يستعد للحرب واستند إلى "الشرعية الدولية" و"القانون الدولي" وانتظر نتائج "المؤتمرات الدولية"!
(4)لا يغني مع المجرم سحب الذرائع
لقد نزل الاحتلال الإنجليزي بذريعة حماية الأجانب، وقد بذل عرابي كل جهد ممكن لإقرار الأمن وحماية الأجانب، إلا أن معركة نشبت واشتعلت وتطورت بشكل غريب في الإسكندرية، بين يوناني وعربجي، تحوم حولها شبهات كثيرة في إمداد السفارات الأجنبية لرعاياها بالسلاح. وعلى قدر ما حاولت الحكومة إنهاء الأمر على قدر ما فشلت في ذلك، وكانت تلك الذريعة.
على أن الإنجليز حين قصفوا الإسكندرية لم يبالوا لا بأرواح الأجانب ولا بمصالحهم، واستمر قصفهم العشوائي ومات الأجانب مع المصريين كما تضررت مصالح الأجانب كمصالح المصريين، وذلك درس للأقليات المغرورة، وهو رغم تكرره إلا أن قليلا من يعقلون!
(5)متى يُعدم قائد الثورة ومتى يبقى سجينا؟
حُكم على عرابي –ومعه قادة الثورة- بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى النفي المؤبد، فنفوا إلى جزيرة سيلان وظلوا هنالك نحو عشرين سنة حتى حطمهم الزمن، فمنهم من فقد بصره ومنهم من أهلكه المرض وجميعهم أصابته الشيخوخة، وفي منفاهم ثم بعد عودتهم درس بليغ سنعرض له فيما بعد.
لكن الدرس المستفاد هنا هو: لماذا لم ينفذوا فيه حكم الإعدام؟!
والإجابة هي أن الإنجليز، وقد سار على نهجهم غالب الساسة الغربيين فيما بعد، إذا تحققوا من النصر لم يقدموا على إعدام قادة المقاومة، بل يتركونهم للسجن الطويل أو النفي الطويل حتى يتحطموا، وغالبا ما ينجحون في هذا، فيحرمونهم بهذا من شرف الشهادة التي تلهب الزعامة وتخلد الصورة ويبدلونهم بها صورة المهزوم المحطم التي قد خلت من بريق البطولة ولمعان الأسطورة!
أما إذا لم يكن النصر محققا، وكانت القيادة ذات أثر، فالقتل هو الحل، سواء أكان قتلا بعد محاكمة صورية أو كان قتلا بغير محاكمة!
وهذا الدرس يفيدنا في معرفة مصير الرئيس مرسي وقادة الإسلاميين الذين هم على الحقيقة قادة الثورة المصرية.بقيت خمس دروس أخرى نفرد لها المقال القادم بإذن الله تعالى! نتناول فيها: العلماء والدعاة، والقضاء والإعلام، والفارق بين جيل الثورة وجيل الذل، وكيف يتحول احتكار الجيوش للسلاح إلى مأساة على الأمة، وكيف ظل عرابي ملوثا لسبعين سنة بفعل سطوة الثقافة الغالبة!
نشر في نون بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2015 06:29

July 2, 2015

طغاة أهلكهم الله في رمضان

يتذكر الناس عند قدوم رمضان بشائره وانتصارات المسلمين فيه، وهذا حق، ولكن ثمة بشائر أخرى تغيب، وهي إهلاك الله للظالمين في رمضان.. اخترنا منهم في هذه السطور ثلاثة.
(1)أبو جهل عمرو بن هشام
فرعون هذه الأمة، والمحرض الأول على نبي الله محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولم يُبْنَ موقفه على جهل أو التباس، بل كانت قضيته: كيف يخرج من بني هاشم نبي؟! إنه أمر يحسم المنافسة بينهم وبين بني مخزوم، وهكذا سيطرت عليه التنافسية القبلية العصبية الجاهلية حتى كان أشد الناس وأخبثهم وأشرسهم في عداوة هذا الدين، فكان اللسان السليط والسوط المديد، أشرف بنفسه على تعذيب من آمنوا من بني مخزوم ومواليهم ومن استطاع من الضعفاء في مكة.
ولما جاء الخبر بأن قافلة قريش في خطر نهض يجمع لحرب المسلمين دفاعا عن القافلة، فمن رأى منه ضعفا أو تكاسلا في الخروج عيَّره وأهانه حتى يلزمه الخروج، ثم لما وصل الخبر بأن القافلة قد نجت ومال القوم إلى السكوت أجج من جديد نار الحرب وقال: لا والله، حتى نأتي بدرا فننحر الجزور وتغني القينات فلا تزال العرب تهابنا. ولشدة تهييجه وحميته لم يستطع أحد من كبار قريش أن يحجزه عن رأيه ولا أن يمنع وقوع الحرب.
ولقد طمس الله على قلبه حتى دعا على نفسه قبل بدر، يقول: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة (فاهزمه غدا)، وقد كان.. وأسفرت معركة بدر عن مقتلة هائلة حصدت الصف الأول من زعماء قريش، من رضي منهم بالخروج ومن لم يرض، ومن سعى في منع الحرب ومن لم يسع، وهكذا أورد الرجل قومه موارد الهلاك.
وشاء الله تعالى أن تكون ميتته على يد غلامين صغيرين من الأنصار ترصدا له حتى رمياه، ثم أجهز عليه الرجل القليل النحيف الضعيف: عبد الله بن مسعود، وكان ممن ناله أذاه من قبل، فجزَّ رأسه ولم يستطع حملها، وقتله وأبو جهل يقول له: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم! فلم يترك الكبر ولا السبَّ حتى في لحظته الأخيرة.
 (2) أبو طاهر القرمطي
الرجل الخبيث، وصاحب الجريمة العظمى في تاريخ الإسلام: اقتحام الحرم وقتل أهله ونزع الحجر الأسود، وقد نشط وبرز أمره صغيرا ومات صغيرا كذلك، فقد هلك أبوه أبو سعيد الجنابي –مؤسس جناح القرامطة في الأحساء- فجأة فانتزع أبو طاهر هذا زعامة القرامطة من أخيه الأكبر، ثم لم يلبث إلا قليلا في ترتيب أمر أتباعه حتى بدأ الإفساد في الأرض فهاجم البصرة وأقام فيها مذبحة كبرى لسبعة عشر يوما في (ربيع الآخر 311هـ)، وهاجم قافلة الحجاج العائدة من مكة (المحرم 312هـ) فقتل ما شاء وأسر ألفين وترك الباقي في الصحراء حتى ماتوا جوعا وعطشا، ثم هاجم الكوفة، ثم هاجم الأنبار واستولى عليها، وصار يعترض طريق الحجاج حتى امتنع الحج من جهة العراق، ثم هاجم مكة نفسها فامتنع الحج جملة وذعر أهلها وفرَّ بعضهم إلى الطائف، واستطاع في كل مرة هزيمة جيوش الخلافة العباسية –التي كانت حينئذ تعاني فوضى ونزاعا بين أجنحتها- هزائم قبيحة رغم تفوقهم في العدد والعدة، حتى إن جيشها الرئيسي اعتصم خلف نهر فقطع الجسور ولم يجسر على مواجهته.
وفي واحدة من أضعف لحظات الخلافة العباسية، حيث جرى انقلاب عسكري فاشل على الخليفة المقتدر بالله (317هـ) هاجم أبو طاهر القرمطي مكة المكرمة يوم التروية (8 ذي الحجة 317هـ) فدخل الحرم وارتكب فيه مذبحة شنيعة، فلم ينجُ أحد ولو تعلق بأستار الكعبة، فقتل خلقا كثيرا وألقى الجثث في بئر زمزم، وصاح من فجوره "أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا"، ونزع كسوة الكعبة ومزقها ونزع باب الكعبة وهدم القبة المبنية على زمزم، وأمر باقتلاع الحجر الأسود فكان الذي اقتلعه يصيح "أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟" ثم أخذوا الحجر إلى بلادهم ونهبوا ديار المكيين وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألفا.
واستمر إفسادهم وهجومهم على البلاد في ظل عجز من الخلافة العباسية، وتناحر قادتها، حتى أنعم الله على الأمة بهلاك زعيمهم أبي طاهر هذا (رمضان 332هـ) وعمره ثمانية وثلاثون عاما فقط، وتضعضع من بعده أمر القرامطة، وزاد حال الخلافة العباسية سوءا، فالحمد لله أنه لم يعمِّر!
وانقضت بموته عشرون عاما عصيبة لم يكن في تاريخ الإسلام مثلها!
(3) جنكيز خان
الطاغية المشهور الذي جعل للمغول مكانا في التاريخ، وواحد من أطغى الجبابرة في تاريخ البشر، الذي هلكت على يديه ملايين النفوس وخربت على يديه المدائن الزاهرة الناضرة المتفجرة بالعلم والحضارة، والذي يُضرب به المثل في إنشاء أمة كما يضرب به المثل في إهلاك أمم.
وبرغم صعوبة نشأته بين يُتْم وسجن، إلا أنه برز وفاق أقرانه، واستطاع بما أبداه من شجاعة وجلد توحيد أمر قبيلته المغولية في يده، ثم بمزيج من السياسة والقوة وحَّد القبائل المغولية تحت سلطانه بعد حروب أهلية داخلية خرج منها بلقبه الذي غلب اسمه: جنكيز خان، أي: سلطان العالم.
ومنذ هذه اللحظة بدأ الإعصار المغولي في اكتساح الممالك، فقد استولى على أجزاء واسعة من شمال الصين ودمَّر الإمبراطورية العريقة، ثم زحف إلى البلاد الإسلامية فاكتسحت جيوشه بلاد ما وراء النهر (بلاد آسيا الوسطى) ومنها إلى بلاد الصقالبة والروس، وفي الجنوب اكتسحت جيوشه أفغانستان وشمال الهند وفارس، وسقطت الحواضر الكبرى في كل هذه الأنحاء.
وأكمل أبناؤه من بعده الطريق فدخل في سلطان المغول: الصين وكوريا والهند ومعظم جنوب آسيا وكل وسط آسيا وأجزاء من شرق أوروبا حتى أوكرانيا وبولندا، ووصل ابنه هولاكو إلى عاصمة الدولة الإسلامية، بغداد التي تفيض بالحضارة منذ خمسمائة عام، فدمَّرها وخربها، وواصل مسيره نحو الشام على سواحل المتوسط الشرقية.. فتحولت ساحة الدنيا في أيامه إلى ساحة دم واسعة!
واشتهر في التاريخ وصف ابن الأثير لهم لما قال: "لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعن من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح".

وقد هلك هذا الطاغية بالصين في شهر رمضان (624هـ)، ففرغت الأرض من أحد أكثر من وطأها شرا ودموية.
نشر في ساسة بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 02, 2015 17:56

June 30, 2015

من مآثر الأتراك في رمضان (2) فتح بلجراد

ذكرنا في المقال الماضي مأثرة للجنود الأتراك لما كانوا ضمن جيش الخلافة العباسية، واليوم نحكي قصة مأثرة وقت أن كانوا في ذروة الدولة العثمانية.
يمكن القول بأن مدينة بلجراد، عاصمة بلاد الصرب، كانت المقياس الصادق لأحوال الدولة العثمانية، فإذا كان العثمانيون في قوة ومنعة كانت بلجراد لهم، وإن كانوا في ضعف وتراجع كانت للصرب أو للمجريين أو للنمساويين.ومن قبل ذلك جرت ثلاث محاولات كبرى فاشلة لفتح المدينة، منها محاولة قبل فتح القسطنطينية نفسها! ثم أنعم الله تعالى على المسلمين وفتحها عليهم في شهر رمضان (927 هـ) على يد السلطان سليمان القانوني.
المحاولة الأولى
تبدأ القصة حين كانت الدولة العثمانية في نهوضها الثاني، وكان السلطان مراد الثاني يتهيأ لفتح القسطنطينية، وقد كانت خطة الدولة العثمانية هي فتح كل ما حول القسطنطينية قبل فتحها، لذلك توغلوا في أوروبا وفتحوا كثيرا من المدن ليقطعوا المدد عنها ما استطاعوا وليتمكنوا من حصارها بريا.
وقد حقق السلطان مراد الثاني بعد جهاد كبير السيطرة على مناطق واسعة في أوروبا إما بالحكم المباشر أو بالنفوذ والسيادة التي اعترف بها أمراء الأفلاق (الجزء الجنوبي رومانيا) والبغدان (مولدوفيا) والأرناؤوط (ألبانيا)، وغيرها من الأنحاء.. مما جعل الخطوة التالية هي القسطنطينية.
في تلك اللحظة تمرد أمير الصرب جورج برنكوفيتش على السيادة العثمانية، فتوجه السلطان بجيشه إلى بلاد الصرب فحاصر مدينة سمندرية لثلاثة أشهر حتى فتحها، وفرَّ برنكوفيتش هاربا إلى بلاد المجر، ثم حاصر بلجراد لستة أشهر إلا أنها استعصت عليه واستبسل جنودها في الدفاع عنها.
وكانت هذه الحرب هي مقدمة تحالف صليبي واسع دشَّنه ملك المجر، واشتركت فيه البابوية وبولندا وجنوة والبندقة والصرب والأفلاق والبيزنطيون وكتائب من الألمان والتشيك، أوقع بالعثمانيين هزائم كبيرة اضطرت السلطان مراد لتوقيع معاهدة هدنة لعشر سنوات تنازل بمقتضاها عن الأفلاق للمجر وردَّ للصرب بعض المواقع واعترف بجورج برنكوفيتش أميرا على الصرب، إلا أن البابا دخل على الخط وحرض ملك المجر على نقض الهدنة واعتبرها فرصة ممتازة للقضاء على العثمانيين في أوروبا، وجدد ذكريات الحروب الصليبية، وجمعت أوروبا جموعها وهاجموا بلاد البلغار في لحظة عصيبة على الدولة العثمانية، وخاضوا مع العثمانيون معركة هائلة عند مدينة فارنا البلغارية أسفرت عن نصر مؤزر مبين للعثمانيين، وقُتِل ملك المجر ومندوب البابا وتشتت الحلف الصليبي. وخرجت المجر (التي نقضت المعاهدة) من معادلة القوى الأوروبية المتصارعة لعشر سنوات على الأقل بعد هذه الهزيمة الساحقة.
المحاولة الثانية
وكانت بعد فتح القسطنطينية، حيث سار السلطان محمد الفاتح إليها (1455) لإنهاء وضعها كمركز للتمردات الصربية تنشط كلما عانت الدولة أي اضطرابات، وكقاعدة متقدمة للجيش المجري ضد الدولة، وكحاجز ضد فتح بلاد المجر.
ولم يكن الأمر داخل المدينة مستقرا، فالصرب –وهم أرثوذكس- خاضعون لحكم ملك المجر الكاثوليكي، وتثبت الروايات التاريخية كيف كان الأرثوذكس يفضلون سيادة المسلمين على سيادة الكاثوليك لما يتمتعون به من حرية دينية في ظل المسلمين لا يلقون شيئا منها في ظل الكاثوليك. ومع هذا فقد كان داخل بلجراد في تلك اللحظة واحد من أعظم أبطالهم التاريخيين: هونياد، الذي تجمع المصادر الإسلامية والنصرانية على بسالته وبطولته، واستطاع أن يصمد صمودا هائلا في وجه الجيش العثماني ويدير أمر الحصار حتى رُفِع الحصار وعاد العثمانيون دون أن يفتحوها، إلا أنه أصيب بإصابات بالغة توفي منها بعد عشرين يوما فحسب!! وصدق الذي قال: النصر صبر ساعة!
وكان هونياد قد لقي قبل ذلك هزيمة قاسية أمام العثمانيين وفرَّ منهم حتى اختبأ في بركة ماء لثلاثة أيام، فلما ظهر سلَّمه الصرب إلى العثمانيين لما بينهم من عداوة المذهب، ثم أطلقه العثمانيون بشرط ألا يقاتل مرة أخرى على أرض صربية (وهو المجري الكاثوليكي)، لكنه لم يف بعهده وحرمهم بهذا الدفاع التاريخي عن بلجرد من أن تكون في سلطانهم لستين سنة!
وما إن مات بعد انتهاء الحرب حتى استسلمت الصرب للسيادة العثمانية مقابل جزية سنوية، ولكنها لم تدخل في أملاك الدولة العثمانية. وحين مات محمد الفاتح كانت جميع بلاد البلقان قد صارت في أملاك الدولة العثمانية ما عدا بلجراد وبعض جزر البحر المتوسط التابعة لجمهورية البندقية.
الفتح
ثم جاء الفتح على يد أعظم السلاطين العثمانيين، سليمان القانوني، وذلك حين أرسل سفيرا إلى ملك المجر يطالبه بالجزية، وهناك رفض القصر استقبال السفير، ثم أخذوه فجدعوا أنفه وقطعوا أذنه وطافوا به المدينة ثم أطلقوه، وتقول روايات أخرى أنهم قتلوه، فجهز سليمان القانوني جيشا هائلا قاده بنفسه وتوجه إلى بلاد المجر، وجعل في مقدمة الجيش فرقة لفتح مدينة شابتس القريبة من بلجراد، ففتحوها (2 شعبان 927هـ) ثم القت الجيوش وسارت إلى بلجراد فضربت عليها الحصار حتى انهارت دفاعات المدينة واستسلم الجنود المجر في (25 رمضان 927 = 29 أغسطس 1521م) ودخلت الجيوش العثمانية إلى المدينة المنيعة، عاصمة الصرب، التي عجز عنها مراد الثاني ومحمد الفاتح. وصلى سليمان القانون الجمعة في بلجراد. وكان من الأخبار التي تهتز لها أروربا لزوال الحواجز بين العثمانيين وبين بلاد المجر.
ولم يمض كثير وقت حتى بدأ العثمانيون في حصاد ثمار الفتح، فقد انطلق الجيش العثماني إلى عاصمة المجر (بودا بست) وقد انقلب الوضع وصارت بلجراد قاعدة عسكرية إسلامية متقدمة ضد المجر، وقاد سليمان القانوني جيشه وافتتح عدة قلاع على الطريق حتى وصلوا إلى وادي موهاكس، وهناك دارت إحدى أكبر المعارك في التاريخ العثماني (معركة موهاكس: 20 ذي القعدة 932هـ = 28 أغسطس 1526م) والتي انتصر فيها العثمانيون انتصارا كاسحا أبيد فيها الجيش المجري وقُتِل ملكهم لويس، ودخلوا به عاصمة المجر نفسها (بودا بست) (3 ذي الحجة 932هـ = 10 سبتمبر 1526م).
صحيح أن العثمانيين استولوا على عاصمة المجر، لكنهم فضلوا أن تكون في ظل سيادتهم لا أن يحكموها مباشرة، لما في بعدها الجغرافي وظروفها الاجتماعية من صعوبات وتكاليف، ولذلك فقد عهد بها سليمان القانوني لأحد تابعيه، وهو يوحنا زابوليا حاكم ترانسلفا (الإقليم الغربي من رومانيا) وانتخبه المجلس الهنغاري/ المجري، ولما تآمرت النمسا لخلعه جهز سليمان جيشا آخر ردَّ به زابوليا إلى الحكم، بل وسار إلى حصار فيينا ذاتها عاصمة امبراطورية النمسا وقلعة آل هابسبورج الأقوياء.
وهكذا كانت بلجراد فاتحة بوادبست التي كانت فاتحة فيينا، ولو أن سليمان القانوني خلفه سلطان قوي لتوقعنا أن يكون الآن تاريخ آخر.
نشر في تركيا بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 30, 2015 06:40