محمد إلهامي's Blog, page 62

May 9, 2015

تأسيس أصول علم الاستغراب

في إطار التأسيس لعلم الاستغراب نشرنا على هذا الموقع سلسلة من المقالات، بدأت بموجز عن تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلمالدعوةالتعاون - المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2).
وعرجنا بالحديث عن تجربة الاستشراق لنستفيد منها، فتحدثنا عن رحلة الاستشراق: ولادته وطفولته ونضوجه وموقفه المستقر من الإسلام ثم ما قيل عن موته وعن تجدده. ثم طالعنا حصاده: إنجازاته وإخفاقاته، وأهم دروس هذه التجربة.
ونسأل الله أن يعيننا في هذا المقال والمقالات التي تليه لوضع ملامح هذا العلم: علم الاستغراب.
***
لقد شكل الإسلام عقل المسلم بحيث تترتب فيه الأولويات بوضوح، فالمسلم يعرف من دينه أن العقائد مقدمة على العبادات، وأن الفرائض مقدمة على النوافل، والأصول مقدمة على الفروع، وأن ما يتعدى نفعه مقدم على ما لا يتعدى نفعه، وأن مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الفرد، والمصلحة المتيقنة مقدمة على المصلحة المظنونة، والمصلحة الدائمة مقدمة على المصلحة العارضة، وأن مقاومة الشرك أولى من مقاومة الكبائر، ومقاومة الكبائر أولى من مقاومة الصغائر، وإذا عرض للمرء مصلحتان اختار أكبرهما، وإذا عرض له مفسدتان دفع أكبرهما، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم ما كان أصلح، فإذا استوت المصلحة مع المفسدة كان درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والمصلحة نفسها -كما قسمها بعضهم- ثلاث مراتب: الضروريات والحاجيات والكماليات، والذنوب -كما قسمها بعضهم- ثلاثة: شهوات وشبهات وشرك، ويُدفع الضرر الأعلى باحتمال الضرر الأدنى، ويُدفع الضرر العام باحتمال الضرر الخاص، والضرر يُزال بقدر الإمكان ولا يزال بضرر مثله أو أكبر منه.. وهكذا!والقصد أن المسلم حين يلج إلى موضوع فإنه لا يدخله مدخل التائه الحيران، بل ينظر إليه نظرة المتأمل المتفحص، الذي يجمع أطراف الأمر من أقطاره حتى يتكون ويستوي تصوره في نفسه فيعرف له مدخله، أو يتخير لنفسه أحسن المداخل وأولاها.
والأمر دائما محل تقدير ونظر، ولكنه التقدير والنظر مع الاجتهاد وبذل الوسع، وقد ضمن النبي r الأجر لمن اجتهد وإن أخطأ، بينما ضمن الإثم لمن لم يجتهد وإن أصاب كما في حديث القضاة، فوحده الذي اجتهد فقضى مأجور، أما من لم يجتهد فآثمٌ ولو أصاب. فالأمر -كما يقول أستاذنا جلال كشك- ليس مقامرة مأمونة الخسارة، والدول تعاقب من انتحل مهنة الطب ولو أصاب بينما لا تعاقب الطبيب ولو أخطأوفي موضوع الاستغراب الذي نحن بصدده، أدى بنا اجتهادنا الذي نحسب أنه يسعنا في هذا المقام إلى أن نرتب منهجه وطريقته في قسمين؛ الأول: تأسيس الأصول، والثاني: وضع معالم في طريق هذا العلم: مجالاته وأولوياته، صعوباته ومحاذيره، إجراءاته ووسائله، والمحاذير التي ينبغي التنبه لها.
ونبدأ في هذا المقال، والمقالات التي تليه بـ: تأسيس الأصول.
***
نعني بـ "تأسيس الأصول" لعلم الاستغراب تنزيل القواعد الكلية الإسلامية على موضوع هذا العلم، وقد سبق وقدمنا في المقالات السابقة أن العلم في الإسلام –كمنهج- ينطلق من قاعدة "التميز الإسلامي" التي هي دليل الإيمان بأن الله هو الحق وأن الإسلام حق وأن محمدا r حق وأن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس طالما حققت شرط الله منها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أن العلم -من حيث كونه عملية إنسانية تبدأ بالتأمل والنظر وتنتهي بالاستنتاج والحكم- محكوم بغايات وضوابط شرعها الإسلام لا يجوز الخروج عنها، وكتبناها هناك في ثلاثة عشر عنصرا [راجع: فلسفة العلم في الإسلام ج1، ج2، ج3].
بغير هذا التأسيس لا يكون "علم الاستغراب" إسلاميا، ولا يؤمن أن تنحرف رؤيته ومساره وغاياته، وحينها ينقلب صورة أخرى من صور الجاهلية التي تخبط في الأرض على غير هدى وتتبع الهوى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
أما من قد يظن أن "تأسيس الأصول" إنما هي عملية حجر على الفكر أو تضييق على الإبداع أو نحو ذلك من شعارات مكرورة مملولة، فهذا لا يعنينا في هذا المقام إذ ليس هو بالـمُخاطب فيه، وإنما غايتنا في هذا البحث أن نحقق "التأصيل الإسلامي" لعلم الاستغراب.
إن التأصيل الإسلامي لعلم الاستغراب يحتاج إلى هضم أمور ثلاثة؛ الأول: الإسلام كدين ومنهج حياة، والثاني: الغرب كواقع وحقيقة بشرية تحتاج إلى استكناه، والثالث: الفوارق المؤثرة والـمُفَرِّقة بين الإسلام والغرب.
وهذه المقارنة بين "الإسلام" و"الغرب" هي المقارنة الصحيحة، فالإسلام ليس مجرد دين، ولذلك ليس مقابله المسيحية، وهذا أمر مفهوم وفي محل الحقيقة لدى الباحثين في التاريخ والحضارة، ويقوله المسلمون والغربيون على السواء، فهذا المستشرق الشهير هاملتون جِب يقول: "الحق أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"وانطلاقا من هذا تكون أصول التأسيس لهذا العلم ثلاثة:
1.    "الانطلاق من الإسلام": وما معنى ذلك وما آثاره؟
2.    إدراك الفوارق الجوهرية بين "الإسلام" و"الغرب": وأين يمكن اللقاء وأين يتحتم الافتراق.
3.    البحث عن الثوابت والكليات الكامنة خلف الفروع والمتشابهات والمتغيرات.
فنسأل الله أن يوفقنا لبيانها في المقالات القادمة، فالله المستعان..
نشر في نون بوست

جلال كشك: خواطر مسلم حول الجهاد والأقليات والأناجيل ص7. جب: وجهة العالم الإسلامي ص9.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 09, 2015 08:00

May 7, 2015

معنى “لا إله إلا الله” وآثارها

اقرأ أولا: مدخل إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع
كان أول ما طلبه النبي r حين بُعِث في مكة أن يشهد الناس بأنه "لا إله إلا الله"، ولأن القوم كانوا يعرفون معنى هذه الكلمة، ويدركون فيها انتزاعًا لسطانهم، وكبحًا لأهوائهم، وتسوية بينهم وبين عبيدهم، وإلزامهم بما لا تشتهيه نفوسهم من أخلاق وشرائع وأوضاع، فإنهم نفروا من هذه الكلمة وحاربوها أشد المحاربة( أولاً: التحرر
السرُّ في أن القوم كانوا مثل "المذنب في ساحة القضاء بعدما انكشفت جريمته وثبتت إدانته"(إن عقيدة التوحيد تدمر سلطان البشر، فلا سلطان لأحد على أحد إلا بما أمر الله، وذلك يعني سقوط شرائع الاستعباد والإذلال، وسقوط مسالك الغلبة والقهر والظلم، وهي روح هادرة تنبعث في نفوس المظلومين والمقهورين لتحررهم من سلطة الملوك أو الكُهَّان أو السادة؛ لتجعلهم وجميع البشر سواءً، كلهم أمام الله سواء، كلهم يخضعون لمنهج الله ودينه، كلهم يتفاضلون بالعمل الصالح الذي يملكونه لا بأحساب وأنساب لم يخترها أحد لنفسه.. إنه التحرر الكبير الذي يخلق جيلاً حرًّا، مخلصًا، ثائرًا، مصلحًا، متفجر الطاقات والمواهب، مستعينًا بالله تبارك وتعالى على مهمته الجليلة.
ثانيًا: المسئولية
والمسئولية ابنة التحرر، فهو يُنْتِجها، بل هي التطبيق العملي له، فلا معنى للتحرر من دون استشعار واجب تحرير الناس من أغلالهم وقيودهم، وهذا المفكر الفرنسي الشهير الذي انتهى إلى الإسلام -رجاء جارودي- يتحدث عن التوحيد؛ فيكون أول ما يلفت نظره هذه الحركية التي تنشأ عن استشعار المسئولية، والتي تنافي التواكل والسلبية، يقول: "سوف يكون غريبًا اعتبار عقيدة -قادت المسلمين في غضون ثلاثة أرباع القرن إلى تجديد أربع حضارات كبرى، وإلى الإشعاع على نصف العالم- عقيدةً قَدَريةً منقادة، هذه الدينامية في الفكر والعمل هي عكس القدرية؛ لقد اقتادت ملايين الناس إلى التأكد من أنه كان يمكنهم أن يعيشوا على نحو آخر"(وكما أن التحرر يقود المسلم إلى أن لا يقهره أحد، ولا يتحكم فيه أحد، فإنه يقوده -أيضًا- إلى ألا يمنعه عن القيام بواجبه أحد( ثالثًا: انتفاء الواسطة بين الله وعباده
وانتفاء هذه الواسطة يدعم "المسئولية" من جهتين؛ الأولى: رفع القيود والعوائق عن القائم بالمهمة؛ فلا يتوقف لانتظار إذن من أحد في تنفيذ تكليف إلهي، ولا يُسَلِّم لأحد قياده في غير معروف؛ إذ "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ"(والثانية: هو وضع المسلم أمام رقابة ربه، لا أمام ملك أو رئيس أو كاهن أو شيخ، فيعجز عن الخداع والالتفاف والمناورة، بل يستقر في ضميره أن يقوم بواجبه على الوجه الذي يرضاه الله، فإذا أخطأ أو قَصَّر أو تكاسل لم يسعَ في إخفاء هذا أو تبريره أو التنصُّل منه، فكل هذا مكشوف عند الله الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، و{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، بل يكون السعي في التوبة والرجوع ورفع آثار الخطأ والتقصير.
رابعًا: تحديد مصدر المعرفة
وذلك أن التأسيس للتوحيد يستتبعه الإجابة عن الأسئلة الوجودية: ما الإنسان؟ ما الطبيعة؟ أين كنا قبل الوجود؟ وأين نصير بعد الموت؟ وما معايير الصواب والخطأ؟ وكيف نفرق بين الحسن والقبيح؟ وكيف ينبغي أن نحيا في هذه الدنيا؟ وما دورنا فيها؟ وما علاقة الإنسان بغيره من البشر أو بغيره من الكائنات؟
وهذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة هي ما يهمنا أن نركز عليها في مقام بحثنا الآن، وسنجد في كتاب الله الجواب، وموجز هذا الجواب وخلاصته الأخيرة تجمعها آيتان في كتاب الله؛ قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72].
وبهذا سنبصر كيف أن الله حَمَّل بني آدم مسئولية وأمانة الأرض كلها، بكل ما عليها من مخلوقات: البشر والحيوان والنبات وحتى الحشرات والجماد! وذلك أرفع معنى وأسمى مقام في قضية "استشعار وتحمل المسئولية"، وهو ما نتعرض له بتفصيل أكبر في المقال التالي إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست 

([1])سيد قطب: في ظلال القرآن 2/1005. ([2])محمد الغزالي: فقه السيرة ص79. ([3])ابن هشام: السيرة النبوية 1/194 وما بعدها. ([4])محمد جلال كشك: السعوديون والحل الإسلامي ص89، 90. ([5])رجاء جارودي: وعود الإسلام ص32، 33. ([6])يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: "حق الوالدين (وهو أعظم الواجبات بعد التوحيد) لا يخولهما سوى سلطة محدودة ومشروطة، ذلك أن هذه السلطة لا تتوقف فقط عندما يطلبان منا أن نخون الإيمان، أو نرتكب ظلما أيا كان {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8]، بل إن الوضع ينقلب عندما يرتكبان ظلما، وحينئذ يجب على الأولاد دعوتهما إلى الواجب، وبوسعهم أيضا أن يوقفوهما أمام القضاء، ألا ما أعظم ما يشعر به المسلم نحو أبويه من احترام وما أعمق ما يكنه لهما من حب، ولكن حبه للحق واحترامه للعدالة يجب أن يرجح عنده. وعلى حين يُحَرِّم قانون نابليون على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية نجد أن القرآن يقول بعكس ذلك". دستور الأخلاق في القرآن ص143، 144. ([7])الطبري: تاريخ الطبري 2/401. ([8])البخاري (6725)، ومسلم (1863). ([9])مسلم (1840).
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 07, 2015 08:44

May 4, 2015

الدعاة والأفكار وحتمية السلطة

قبل أسابيع كنت في ندوة تناقش الوضع الإسلامي العام، ثم أعطيت الكلمة لشيخ وقور مهيب لا أعرفه، لكن تقدير الحضور له وتوقيره أوحى لي بأنه أنفق عمره في الدعوة والعمل للإسلام.
وتكلم الرجل كلاما لا ينقصه الصدق والإخلاص، بل ولا ينقصه علم النصوص، وإنما ينقصه الفقه والعلم بأحوال الناس وطبائع العمران وسياسة الدول والممالك.
قال الرجل جملة اخترقت قلبي كالسهم المسموم، قال: "ليست السلطة من أهداف الدعوة الإسلامية، بل الهدف هو الدعوة، وتوصيل كلمة الله إلى الناس، ونشر دين الله في الأنحاء.. أما السلطة فهي مغرم لا مغنم، وهي تكليف لا تشريف .... إلخ".
إنه من المفزع والمثير للحسرة والمرارة أن تبقى هذه "الخرافات، والتخريفات" كامنة في صدور الدعاة والمشايخ والعلماء.. ذلك أن القوم إن لم يستطيعوا أن يفقهوا هذا من الكتب وسيرة النبي وتاريخ الدول، فليفقهوه من واقعهم المعاصر الذي يكتوون هم بناره.
ألا يرون إلى أنفسهم كيف يستطيع صاحب السلطة -مهما كان قليلا وبغير ظهير شعبي كبير- أن يستند إلى أقليته العرقية أو الطائفية، ثم هو مع السلطة يستطيع حمل الملايين وقهرهم على الخضوع له ولا يملكون له دفعا.. بل هو يقدم على ما هو أكبر من هذا: إنه يحارب دين وعقيدة الملايين فإما أن ينتصر عليها وإما أن يفرغها من مضمونها ويزورها.. وهو بما لديه من السلطة والمال يستطيع أن يأخذ من هذه الملايين شيوخا منهم يشرعنون له حكمه ويسبغون عليه ألفاظ الولاية والإمارة والإمامة، ويجعلون الدين خادما له، ويجعلون من المعارضين له إرهابيين وخوارج يأمر الدين بقتلهم وسحقهم.
ما هكذا كان النبي ولا هكذا كانت سيرته!
ولا هكذا جرى التاريخ ولا هكذا قامت الدول ولا هكذا مضت الأيام!
إن كل فكرة وكل دعوة وكل حركة تبحث عن السلطة، ليس لأنهم طامعون في المال والجاه والنفوذ، بل لأن السلطة هي السبيل لنشر هذه الفكرة ونشر هذه الدعوة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوجه بالدعوة -منذ أن أعلنها- إلى ملأ القوم وحكامهم، ولما لم يستجب له ملأ قريش ذهب إلى ملأ الطائف فلما لم يستجيبوا له عرض نفسه على القبائل: على أشرافها ورؤوسها لا على عامتهم وضعفائهم.
إن النبي حين استعصى عليه الملأ في كل حالة لم يضيع وقته في دعوة الناس والعامة والعبيد.. لأنهم في النهاية تبع، ولا يمكن أن يكثروا حوله رغم أنف الملأ حتى يكاثروهم ويغلبوهم (كما هو التصور الساذج السخيف الذي نبت في الحركة الإسلامية المعاصرة منذ السبعينات، ولم يكن يوما نهج البنا ولا قطب)..
ولما دخل النبي المدينة دخلها حاكما ولم يدخلها داعية، وأزال النظام السياسي القديم -وقد كان يحاول القيام من بعد الانهيار في معركة بعاث، وكاد ينتصب ابن أبي ملكا- وصار هو السلطة القائمة والمرجع القائم.
ولما ورث أبو بكر دولة الإسلام وضع كل جهده ألا تنتقص السلطة الإسلامية شيئا، ولو كان عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله!!
وقال عمر بأن ما يهدم الدين هو "حكم الأئمة المضلين"
وقال عثمان: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن
وهكذا سارت الدول، فكل مذهب وكل فكرة لم تنشأ لها دولة فهي إما ماتت ودفنت، أو عاشت سرا وعلى استحياء وبلا تأثير، أو استعملتها السلطة القائمة في شرعنة نفسها وتثبيت ملكها وإخضاع الناس لها.
بل حتى المذاهب الفقهية الفرعية لم تنتشر إلا بالسلطان.. فلم ينتشر مذهب الأحناف إلا بفضل أبي يوسف الذي كان قاضي القضاة في عهد الرشيد، فكان يعين القضاة من أصحاب أبي حنيفة، فأقبل الناس على المذهب وتعلموه، وبهذا انتشر في كل الشرق الإسلامي.
ولم ينتشر مذهب مالك في شمال إفريقيا والأندلس إلا بسلطان الأمويين في الأندلس، وهكذا حتى الآن.وهذا ليس كلامي، وإنما كلام الإمام ابن حزم الأندلسي حين يفسر انتشار المذاهب..
وإكمالا له أقول: ولم ينتشر المذهب الشافعي في مصر والشام إلا في دولة الزنكيين والأيوبيين -وقد كانوا شافعية أشعرية- ثم لم ينتشر مذهب الحنابلة إلا بعد قيام الدولة السعودية واعتمادها على مذهب الحنابلة.. وبها وحدها ازدهر مذهب الحنابلة واطريقة "السلفية / الوهابية"!
ويقال هذا في كل حركة أو دعوة أو فكرة.. فما كان للشيعة الاثنا عشرية أن تقوم قومتها الكبرى إلا بدولة الصفويين، ثم دولة الخميني هذه!
وما كان للشيوعية أن تبلغ آفاق العالم لولا أن دولة الاتحاد السوفيتي كانت وراءها، وكذلك بالنسبة للرأسمالية والليبرالية التي تقف خلفها مجموعة الدول الغربية والامبراطورية الأمريكية.
وما كان لحقير مثل عبد الناصر أن ينشر الاشتراكية والشيوعية في أرض تكرهها كمصر إلا بالسلطة والسيف، وقل مثل هذا عن قوميات صدام والأسد والقذافي وغيرهم.
بل إن ازدهار التيار الإسلامي منذ السبعينات وحتى هذه اللحظة إنما كان بالأساس لما أتاحه له مساحات الصراع السلطوي.. فلولا أن السادات احتاج أن يبعث الإسلاميين من موات لكي يواجه دولة عبد الناصر لما كان للانبعاث الإسلامي أن يحدث في مصر ، ولولا الصراع بين عبد الناصر والسعودية لما ازدهر الإخوان ونشروا أفكارهم في السعودية والخليج.. وقل مثل ذلك عن الأردن واليمن أيضا!
ويظهر ذلك أكثر وأكثر إذا قارنت هذا بالدول التي لم يحصل فيها هذا الاحتياج السلطوي للتيار الإسلامي مثل عراق صدام وليبيا القذافي وغيرها.. فلم يحدث انبعاث إسلامي جديد أو ازدهار للتيار الإسلامي في هذه البلدان. لأن الأمر ببساطة أن مساحات السلطة لم تتطلب احتياجا للإسلاميين.
وإن ازدهار التيار الجهادي لم يحدث إلا بهذه الثغرات في الصراعات السلطوية الدولية، فإن حرب أفغانستان -بإجماع المؤرخين لها، ولو كانوا من الجهاديين كما سجل ذلك أبو مصعب السوري- كانت هي الانبعاث الجديد للحركات الجهادية، الانبعاث القوي.. وهو الانبعاث الذي لم يحدث إلا لأن معركة الرأسمالية والشيوعية أتاحت مساحات لعمل الجهاديين الذين كان مسموحا لهم بالوصول عبر دول مثل السعودية وباكستان.. وأحيانا بدعم سخي من هذه الدول أو بمجرد السماح للناس بالتبرع لإخوانهم المجاهدين في أفغانستان.
ولما حسم الصراع السلطوي، اجتمعت كل هذه الدول مرة أخرى على الجهاديين فشردتهم ومزقتهم، فيما يسميه أبو مصعب السوري "أخدود سبتمبر" تشبيها للجهاديين بعد الحملة العالمية على الإرهاب بأصحاب الأخدود.
وهذه الثورات المعاصرة دليل أي دليل..
الشعوب تريد الحرية والدين، والحكام يريدون الطغيان وحرب الدين.. والكفة تميل لصالح السلطة، ولولا مساحات صراع السلطة ما ظلت الثورات الحية حتى الآن حية!
وهذا من فضل الله على الناس، أن يجعل لهم تنفيسات ومساحات للعمل!
لكن الخلاصة.. أن السلطة هي غاية كل دعوة، وهي بداية كل تغيير، وهي أمر لم يكن يمكن الإفلات منه وقت أن كانت قوة السلطة محدودة في الزمن القديم، فكيف بها الآن والسلطة قد امتلكت من السيطرة على الناس ووسائل الإعلام وقوة مسلحة ضخمة؟!
كيف يظن أحد أن الإسلام يمكن أن ينتشر بغير سلطة، وأن الدعاة يمكنهم أن يتجنبوا صراع السلطة أو حتى يفلتوا منه؟!!!
* موضوعات سابقة لمزيد بيان:https://www.facebook.com/mohammad.elh...https://www.facebook.com/Mohammad.Elh...
http://melhamy.blogspot.com.tr/2011/1...
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 04, 2015 04:40

May 2, 2015

كيف نستفيد من تجربة الاستشراق

بعد أن طالعنا في المقالات السابقة رحلة الاستشراق: ولادته وطفولته ونضوجه وموقفه المستقر من الإسلام ثم ما قيل عن موته وعن تجدده. ثم طالعنا حصاده: إنجازاته وإخفاقاته، ينبغي علينا أن نتوقف أمام سؤال: كيف نستفيد من تجربة الاستشراق ونحن نحاول التأسيس لعلم الاستغرابلقد كشفت تجربة الاستشراق عددا من الحقائق ينبغي أن نتنبه لها، أهمها كما نراه:
1. لم تعد نشأة العلوم ممكنة بمجهود الأفراد، بل لا بد من مجهود المجامع والمؤسسات، والتعاون وتبادل الخبرات.
2. لئن لم تحظَ العلوم بدعم من أصحاب السلطة والحكم فإنها لا تتطور، والحاكم الحصيف من يستعين بالعلم والعلماء في أموره ومصالح دولته.
3. التهديد الوجودي يثير في الأمم عوامل الانبعاث والتحدي على نحو ما لاحظ أرنولد توينبي في نظريته الشهيرة عن "التحدي والاستجابة".. وأمتنا مؤهلة للمرحلة القادمة بما تمور به من أحداث وبما توقن من وعد الله ورسوله أنها منتصرة وأنها لن تهلك لا بسنة عامة ولا بعدو يستأصل شأفتها.
4. التهديد الوجودي يثير في الأمم الخوف والفزع ويحملها على شيطنة عدوها وتصوره على أسوأ ما يكون، فإذا تم لها النصر أو زال الخطر عاد إليها التقييم الهادئ والنظرة المتزنة.. وأمتنا لا ينبغي لها أن تنزل هذا المنزل ليقينها بأنها لن تهلك، ولما يأمرها به دينها من العدل والإنصاف حتى مع العدو، ولما تملكه من عقيدة راسخة وكتاب منزل معصوم يصف لها طبيعة المعركة وطبيعة العدو وطريق التعامل معه، فمن ثَمَّ لا تحتاج إلى فزع يفضي إلى الشيطنة ورمي العدو بما ليس فيه، ولا تحتاج إلى خوف يرى في أي خطأ صدر عن أي مستشرق نوعا من مؤامرة أو جزءا من تدبير رهيب وغرض مقصود ووضع للسم في العسل. بل يوزن المرء بمجموع عمله بغير إفراط ولا تفريط، ويوضع خطؤه في قدره ومكانه بدون مبالغة أو تساهل.
5. مرحلة النصر والتفوق تعطي ثقة بالنفس واطمئنانا ورغبة حقيقة في الاطلاع الحقيقي على ما عند المخالف، ولذلك لم نرَ شيئا إيجابيا في تاريخ الاستشراق إلا بعد أن تم لهم تركيعنا وإخضاعنا عسكريا وسياسيا، وأمتنا ينبغي أن تكون في كل الأحوال -وإن تحت الهزيمة العسكرية والهيمنة السياسية- واثقة من نفسها ومطمئنة لما لديها، فتبصر -وهي في لحظة الهزيمة- ما عند عدوها من نقاط القوة -في العلوم والفكر- لتستفيد منه، فيعصمها الاطمئنان والثقة من الوقوع في أسر تقليد الغالب، ولا يصرفها النفور والمقاومة عن التعلم والاستفادة حتى من عدوها، فنحن من أمة علمها نبيها أن تتعلم ولو من الشيطان إن صدق، فيما العهد به أنه كذوب!
6. الانطلاق من مسلمات لا تبلغ درجة الحقائق الراسخة يفضي إلى سوء فهم وتصور، ومن ثم سوء عمل وتصرف، وعليه فينبغي على الداخل في مجال الاستغراب أن يكون على بصيرة من تصوراته وأفكاره ومنطلقاته، وإن الانطلاق من الإسلام سيعصمنا من تصورات عنصرية وعرقية خاطئة، إذ لا تقديس إلا للفكرة والعقيدة، وهو مجال حاكم مطلق لا يتعلق بطبيعة بشرية أو تصنيف جغرافي أو عرقي، وأصول الإسلام محفوظة في القرآن والسنة، وثوابته محفوظة بالإجماع، وإذا ما رسخت هذه الضوابط كان ما بعدها من مساحات النظر والتفاعل في المسائل المستحدثة أرشد وأيسر.
7. إن من أهم ما نستفيد من تجربة الاستشراق هو ضرورة الانعتاق والتخلص من شبح الحيادية الوهمي الذي سوقته الدعاية الغربية والذي لم يكن يتمتع بأي رصيد في الواقع العملي، وأبرز ما يشهد لهذا هو الإنتاج الاستشراقي نفسه.. فالحياد في الحقيقة غير واقعي وغير ممكن، الواقعي والممكن هو بذل المجهود في "فهم الآخر" كما هو الآخر، مع بقاء مسافة لازمة للحكم والتقييم.
8. ثمة مناطق شديدة الخصوصية لدى الأمم كاللغة والثقافة، وهذه تحتاج إعدادا خاصا وعدة خاصة قبل الإقدام على دراستها.
9. ضرورة التخلص من لوازم الاستشراق وآثاره الفكرية التي شاعت بأثر التفوق الغربي مثل:
§         المفاهيم العلمية المغلوطة مثل "عصر الكشوف الجغرافية" الذي يعتبر اكتشاف إفريقيا والأمريكتين كأنما هو بداية الوجود، وهي نظرة ذاتية متطرفة، فإفريقيا والأمريكتان وسكانهم موجودون من قبل هذه الحقبة ولا يؤثر في وجودهم كونهم "لم يُكتشفوا" من قبل الأوروبيين، "كما أن الأوروبيين بالنسبة للهنود الحمر وسكان إفريقيا لم يكونوا موجودين من قبل حلولهم سواحل أمريكا وإفريقيا، طبقا للمنطق الأوروبي للاستكشافات الجغرافية"، ومثل هذا تسميات "الحرب العالمية الأولى والثانية" وهي حروب أوروبية.
§         تقسيم التاريخ إلى عصور بعين أوروبية على نحو: العصور القديمة (اليونان والرومان) والعصور الوسطى (اليهودي والمسيحي والإسلامي) والعصور الحديثة، وهو ما يمكن أن تفعله كل حضارة إذا وضعت نفسها في المركز، وفي هذه التقسيمة إنكار لدور الحضارات القديمة وكأن تاريخها سابق على تاريخ البشرية.
§         تقسيم المجتمعات بعين ونفسية غربية إلى: حضارية وبدائية، أو متقدمة ومتخلفة، أو صناعية وزراعية، أو عقلية وأسطورية، أو موضوعية وذاتية. وقد وجدت كل هذه التقسيمات صياغاتها المتطرفة في النظريات العنصرية وتقسيم الشعوب إلى آرية وسامية في العلوم الإنسانية خاصة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الحضارات وفلسفة التاريخ***
إن انطلاقنا من الإسلام الذي لم يكن جغرافيا ولا عرقا ولا لغة يتيح للمسلمين نظرة إنسانية شاملة، وكوننا لا نرى الإسلام بدأ في لحظة متأخرة -بل هو دين الله الذي نزل به آدم إلى الأرض، وما سواه انحراف عنه- يعصمنا من نزوع نحو التميز الخاص أو النظر إلى باقي البشر وكأنهم من جنس آخر غير بني آدم، وكذلك فإن ديننا الذي يحملنا على دعوة الناس سيعصمنا من أسباب التكبر عليهم.
كما أن انطلاقنا من الواقع الذي يشهد ويحكم بأننا لسنا طليعة غزو للغرب، سيجعل الاستغراب أكثر تحررا وموضوعية وانفتاحا من قوم كانت مهمتهم في صلبها هي التعرف على هذه البلاد تمهيدا لافتراسها، ثم إن ما لدينا من دين يأمر بالتعارف والدعوة إلى الله يجعل الأمر أحسن إنسانية وأقرب صدقا وصداقة من قوم هم طليعة غزو وحرب، فلا تقع عينهم إلا على نقاط الضعف ولا ينظرون إلى أولئك القوم إلا كنظرة الأعداء.
نشر في نون بوست

لقد نشرنا على هذا الموقع نبذات موجزة عن تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلمالدعوةالتعاون - المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2). د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص39 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 02, 2015 06:19

April 30, 2015

مدخل إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع

استعرضنا في المقال قبل السابق كيف تنوعت مذاهب الفلاسفة في رسم صورة للمدينة الفاضلة ثم كيف أنها جميعها قد فشلت، وفي المقال السابق رأينا كيف حصر كل فيلسوف أمر تحمل المسؤولية في فئة أو طبقة بعينها.
وسنحاول بإذن الله بداية من هذا المقال والمقالات التي تليه في شرح المنهج الإسلامي في صياغة المجتمع، وكيف أنه استوعب وتميز عن المناهج الوضعية نظريا، ثم كيف أنه قد تحقق عمليا بحضارة كبرى استمرت لألف عام ضربت مثلا فريدا في تاريخ الحضارات، ثم هي مرشحة في كل وقت للتجدد مرة أخرى.
ونحن حين ندخل إلى رحاب المنهج الإسلامي الرباني، لا سيما بعد ذلك الاستعراض للمناهج والأفكار الوضعية في أمر بناء المجتمعات وفلسفة المسئولية لديها، نزداد إيمانًا بنعمة الله علينا بهذا الدين القويم.
إن الصورة العامة لمنهج الإسلام في بناء المجتمع الإنساني ومعالجة الخلل فيه، تبدو كأنها صورة بناء كبير، مترابط متماسك، متزن منضبط، كالجسد الواحد الذي وصفه باعثه ومؤسسه محمد r بأنه "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وهذا البناء الإسلامي يمكن دراسته عبر أربعة عناصر:
1. الأساس العقدي؛ إذ العقيدة تُشَكِّل الأفراد –الذين هم في مقام اللبنات- كما تهيمن على المجتمع –الذي هو الكيان النهائي- فالعقيدة هي المادة الخام، التي أُخِذ منها أصل البناء وهي -أيضًا- أساسه وعليها مُستَقَرُّه.وهذه العقيدة المهيمنة على المجتمع الإسلامي تخاطب الأفراد عبر تكليفات فردية، كما تخاطبهم جماعة عبر تكليفات جماعية، فترسم بناءً لا ينهار باختلال أحد أجزائه؛ إذ لكل جزء مسئولياته التي إن قام بها الجميع كان المجتمع مثاليًّا، وإن قَصَّر فيها بعضهم هرع إليه غيره من الأجزاء يشده إليه ويعيد تقويمه.
وهذه العقيدة تشكل العناصر الثلاثة الأخرى:
2. المسئولية الفردية؛ حيث الأفراد –الذين يمثلون اللبنات- مُكلفون بمهمات فردية ومسئوليات تقع على عاتقهم، ينبغي عليهم إقامتها في كل وقت وفي كل حال، سواء أكانوا في مجتمع إسلامي أم في مجتمع غير إسلامي، أي أنهم يقومون بالواجبات الفردية ولو لم يكن البناء الاجتماعي قائمًا ولا أجزاؤه موصولة ببعضها، فذلك ما يفرض على اللبنات أن تكون ذات جودة وكفاءة وصفات في ذاتها.
3. النظام العام؛ وبه يكون البناء متماسكًا مترابطًا بما قام بين أجزائه من روابط واتصال واستمساك متين، فتلك هي الروابط الاجتماعية بين الفرد وأسرته وعشيرته وقبيلته، ثم بين الأسر وبعضها، ثم بين العشائر وبعضها، ثم بين القبائل وبعضها، ثم الأخوة التي تجمع كل من يقول: "لا إله إلا الله". ومن وراء ذلك روابط الرحم والجوار والتواصل والإحسان لكل الناس، ولو لم يكونوا مسلمين.
ثم يكون البناء بعد التماسك والترابط متزنًا منضبطًا، كل أقسامه وأجنحته متسقة لا يبغي بعضها على بعض، فلا فضل لأحد على أحد بعرق أو لون أو جنس، وليس للسلطة أن تطغى على الأمة، كما ليس للأمة أن تتمرد بغير حق على السلطة، وليس للابن أن يعق أباه، ولا للأب أن يعق ابنه، ولا للرجال أن يقهروا النساء ولا للنساء أن يعصين الرجال في معروف، بل لكل جزء من هؤلاء حق على الآخر وواجب نحوه.
4. ثم يبقى نظام الحماية العام، الذي هو بمنزلة جهاز الإنذار المنتشر في كل أرجاء البناء؛ فهو كالمظلة العامة والحارس اليقظ، فإن جاء صفير الخلل لم يتوان أحد عن التدخل والإصلاح؛ فذلك هو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الذي يقوم به كل أحد تجاه أي أحد.
بهذه الصورة –التي ندعو الله أن يُوَفِّقنا لبيانها عبر المقالات التالية إن شاء الله- تقوى لَبِنات البناء في ذاتها، ثم تشتد بعضها إلى بعض في روابط متينة تزيد من قوتها، ثم تتصل أجزاء المبنى القوية في اتزان وانضباط يمنع بعضها من الطغيان على بعض.. فيرتسم قول النبي r: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا" وشَبَّك أصابعهفي هذا البنيان وحده يبرز المنهج الإسلامي الفريد "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"وإذا شاء الله وتم بيان هذا المنهج نظريا، فسنتبعه بمقالات أخرى تبين حجم الإنجاز الإسلامي في التاريخ الإنساني، وكيف صنع المنهج واقعا حقيقيا في حياة الناس، بخلاف الأفكار الوضعية التي ظلت حبيسة الكتب والخيال.
(1)الأساس العقدي
كيف غرس الإسلام في نفس المسلم المسؤولية تجاه الإنسانية؟
كيف صار إنقاذ الإنسان وتحرير الإنسانية جزءا من عقيدة المسلم؟
لقد كان ذلك عبر طريقين: غرس التوحيد، وبيان المهمة!
إن غرس التوحيد (لا إله إلا الله) يضرب القيم الأرضية، ويرتقي بالنفس الإنسانية، فحين لا يلتزم الإنسان إلا بأمر الله فإنه يتحرر من كل سلطة أرضية أو أهواء بشرية أو أفكار بالية أو شهوات نفس طاغية، فحينئذٍ ينبعث في الأرض إنسان مختلف عن باقي البشر، إنسان متهيأ لتحمل الأمانة مستعد للتضحية.
ثم إن هذا الإنسان يعرف ويعي مهمته في هذه الحياة، يعرف ماذا عليه تجاه نفسه وأهله وأمته والناس أجمعين، بل وتجاه الحياة كلها بأحيائها: نباتها وحيوانها وحشراتها وحتى جمادها! إنه مكلف بحمل الأمانة والسعي في الإصلاح.فالصورة المثلى للمسلم هي صورة إنسان لا يخشى إلا الله ولا يتقيد إلا بأوامره، منطلق في طريق رسالته التي يعيها ويعرفها، لا يرجو إلا الله واليوم الآخر.
في المقال القادم إن شاء الله تعالى سنبدأ في بيان: معنى "لا إله إلا الله" وآثارها على الإنسان، وعلى الإنسانية.
نشر في ساسة بوست

البخاري (467)، ومسلم (2585). البخاري (853)، ومسلم (1829).
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 30, 2015 13:27

April 25, 2015

حصاد الاستشراق - الإخفاقات

يقال في الإخفاقات مثل ما قد قيل في الإنجازات، فقد يخفق المستشرق وهو حسن النية كما تشهد بذلك باقي كتاباته ومواقفه، وقد يسيء من حيث أراد أن يحسن.
وإخفاقات الاستشراق -كما نراها- تنقسم إلى ثلاثة جوانب: إخفاق في المنطلق، وإخفاق في القدرة، وإخفاق في الغاية.
1. إخفاق في المنطلق
"لقد مال المفكرون والمؤرخون الأوروبيون، منذ عهود اليونان والرومان، إلى أن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوروبي والتجارب الثقافية الغربية وحدها. أما المدنيات غير الغربية فلا يعرض لها إلا من حيث إن لوجودها أو لحركات خاصة فيها، تأثيرا مباشرا في مصائر الإنسان الغربي"فمن كان هذا منطلقه كان أحرى به أن يخفق في فهم الآخرين، وأن يرسم عنهم صورة تحقق ما يستقر في ضميره لا ما هو مستقر في الواقع.
لقد سجل د. مصطفى السباعي خلاصة لقاءاته مع المستشرقين في قوله: "لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي "السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" قبل أن أزور أكثر جامعات أوروبا عام 1956م وأختلط بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم. فلمّا تم لي ذلك ازددت إيمانا بما كتبته عنهم واقتناعا بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله، سواء كان تشريعيا أم حضاريا، لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين"ولو نجا المستشرق من التعصب الديني، وظل على قناعته بأن الغرب هو ممثل الحضارة دون غيرهإن الذي ينطلق من أن الغرب هو خلاصة الحضارة، لا بد أن ينبش ما استطاع ليحاول إيجاد علاقة بين الشريعة الإسلامية وبين القانون الروماني كما فعل جولدزيهر وشاخت وجاتيسكي! وقد يتكلف من يؤمن بهذا أن يزيل كل الفوارق بين الإسلام والمسيحية ليقرب الإسلام من الغربيين كما فعل إميل درمنغم، وإن الذي لا يريد أن يصدق بأن محمدا r يتلقى الوحي من ربه، يتكلف البحث عمن قد يكون قد أعطاه هذا القرآن ولو كان رجلا عبر به للحظات في سفر وقت أن كان في الثانية عشرة من عمره، كما فعل جوستاف لوبون ومونتجمري وات!وهكذا تفعل سائر المنطلقات إذا لم تكن حقائق راسخة!
2. إخفاق في القدرة
ويتجلى هذا لدى تصديهم للكتابة فيما هو شديد الخصوصية كاللغة والأدب والتفسير والفقه، وهي أمور تحتاج إلى ملكة يعسر أن يحوزها أعجمي لم ينشأ في بيئة عربية يستقيم فيها ذوقه، إلا أننا نجد كثيرا منهم اجترأوا على هذا فصدرت عنهم عجائب وغرائب، وهذا إذا أعملنا غاية الحسن ولم نفترض وجود الغرض.
وقد أفاض الشيخ محمود شاكر في بيان أمر اللغة والثقافة وكيف أنها من الخصوصيات التي لا تستقيم لمن يدخل فيها بعد الكبر، ويكرر د. عبد العظيم الديب استشهاده بقول المستشرق الروسي كراتشوفيسكي: "اللغة العربية "تزداد صعوبة كلما ازداد المرء دراسة لها"كذلك ثمة جانب آخر مهم في مسألة الإخفاق في القدرة، وهو إخفاقهم في التحرر من شبكة المصالح التي تمول الاستشراق لتجني ثماره، يقول إدوارد سعيد: "من المحال تفهُّم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها، فمن المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق... فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة وسيطرة ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة... ولم يكن سبب اكتساب الشرق للصورة التي رسم بها يقتصر على أن من رسموه اكتشفوا أنه يمكن أن يصبح "شرقيا" بالصورة الشائعة لدى الأوروبيين العاديين في القرن التاسع عشر، ولكنه يتجاوزه إلى اكتشاف إمكان جعله كذلك، أي إخضاعه لتلك الصورة الجديدة للشرق"ولذلك فقد دفع بعضهم ثمن إنصافه مع الإسلام فعانى من الاضطهاد في العمل أو النفور من أقرانه المستشرقين أو تلقي الهجوم الشديد لكتاب منصف ألفه، مثل الألماني يوهان رايسكه3. إخفاق في الغاية
فمثلما أخفق الاستشراق في رسم صورة حقيقية للشرق، فقد أخفق كذلك في محاولة ترويضه وإدراك أسراره وتحقيق الهيمنة الكاملة عليه، ويبدو واضحا أن المجهود الرهيب والإمكانيات الضخمة التي بذلت للاستشراق ثم للجيوش التي تحركت لتنفيذ توصياته لم يحقق شيئا يناسب ما بُذِل، فما من جيش نزل أرض المسلمين صراحة إلا وهو هُزِم أو يعاني من جهاد شرس فلا يقر له قرار، وما من فرصة تتاح لاختبار اختيارات الشعوب وإرادتها إلا وتأتي بممثلي الفكر الذي قضى الاستشراق كل هذه القرون ليحاربه ويضع فكرا غيره في مكانه، وقد تقع المفاجآت التي تجعل تقارير الخبراء والمستشرقين لا تساوي الحبر الذي كتبت به!
إن القدر القليل الذي أتيح للمسلمين من قدرات البحث العلمي مكنهم من نسف الأساطير الاستشراقية، وإنزال قوم من كبارهم من المنازل العالية التي وُضِعوا فيها إلى منازلهم التي يستحقون، وكُشفت عمليات التزييف والتشويه ومناهجها وطرائقها، حتى صارت كلمة "الاستشراق" ملوثة كما قال برنارد لويس، وصار التتلمذ على المستشرقين نوعا من التهمة يدفعه صاحبه عن نفسه، من بعد ما كان في قبل نصف قرن شيئا مثيرا للفخر.
لقد فشل الاستشراق -كأداة للاحتلال والهيمنة- في سوق الشعوب نحو وحدة الثقافة التي حملها كرسالة يريد لها أن تسود، وما زالت المقاومة مستمرة، والجهاد ماضيا إلى يوم القيامة!
نشر في نون بوست

محمد أسد (ليوبولد فايس): الطريق إلى الإسلام ص15. رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص18. رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص19. د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص65. قال أرنولد توينبي: "ظل التعصب المسيحي ضد المسلمين حيا في عقول كثير ممن نبذوا المسيحية نفسها". د. فاروق عمر فوزي: الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص9 وما بعدها. كراتشوفسكي: مع المخطوطات العربية ص7. إدوارد سعيد: الاستشراق ص49. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص300. د. مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون ص32.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 25, 2015 06:25

April 23, 2015

من المسئول عن التغيير؟.. جولة في إجابات الفلاسفة

تصدر فلسفة المسئولية -بطبيعة الحال- كفرع عن التصور الفلسفي العام، فكل تصور توقف عند نقطة -باعتبارها موطن المشكلة أو بداية الحل- توجه إليها بالتركيز والإصلاح.
وبعدما استعرضنا في المقال السابق آراء الفلاسفة في الأحلام الفاضلة، يهمنا أن نركز في هذا المقال على إجابتهم عن سؤال التغيير، من المسؤول عن قيادة التغيير، ثم نخلص من كل هذا إلى الدخول في المنهج الإسلامي في التغيير الذي هو فرع عن المنهج في بناء الدولة والمجتمع.
لقد انصرف كونفوشيوس –ومن تبعه في هذه الوجهة- لإصلاح أخلاق الأفراد في عموم الشعب متصورًا أن نجاحه في نشر الأخلاق تدريجيًّا بين عموم الناس سيؤدي في النهاية لإصلاح حال المجتمع والسلطة، وبذل في هذا غاية جهده واستخلص فيه عصارة فكره، ولم يحفل بالبحث في إصلاح سياسة الحكم وقواعد السلطة، ولم يهتم كثيرًا بجانب القوانين باعتبار أن قوة الأخلاق في الناس تغني عن القانون، كما أن انهيارها يجعل القانون بلا فائدة.
ومن موطن العيب في هذا التصور هو توهم قدرة الناس على إصلاح السلطة دون الأخذ في الاعتبار قدرة السلطة على إفساد الناس، وأيهما أشد وأقوى تأثيرًا وأسرع حدوثًا؛ خصوصًا وكونفوشيوس لا يضع سبيلاً لإصلاح السلطة من قِبَل الشعب؛ بل يتمنى من خلال نشر الفضائل أن ينصلحوا من تلقاء أنفسهم، وكذلك التوهم بأن الناس سواء، وأن استعدادهم للتخلق بالأخلاق واحد وهو ما يناقض طبيعة البشر؛ إذ بعضهم أسرع استجابة للخير من بعض، وبعضهم تكفيه الإشارة فيما البعض الآخر لا يعالج شره إلا بالقوة والتأديب؛ فلا بد من وجود القوانين مع وجود الأخلاق.
ولقد انصرف أفلاطون –ومن تبعه في تصوره- إلى التركيز على الطبقة الحاكمة، والتي تمنى أن تكون من الحكماء والفلاسفة؛ حيث إن "العلم يحتم فعل الخير"، وهو لم يحفل بإصلاح الفرد باعتبار أنه وحدة أصغر من أن يمكن دراستها بوضوح، ورأى أن إصلاح الطبقة الحاكمة هو طريق إصلاح الدولة؛ ولهذا حظيت هذه الطبقة بحديثه التربوي الاقتصادي الإصلاحي، فهي بالنسبة إلى باقي الشعب بمنزلة الرأس من الجسد.
ومن مواطن العيب في هذا التصور حصره الخير في العلم، على الرغم من وضوح انفكاك الارتباط بينهما؛ فكم من عالم بالضرر يفعله لأنه ضعف أو هوى أو شهوة(والخلاصة أن المسئولية في هذه الفلسفات واقعة على عاتق الفلاسفة والحكماء وحدهم.
وكذلك من رأى الحل في الإصلاح الديني علقها برقبة الكهنة والقساوسة، ومن رآه في القوانين المحكمة علقها برقبة المشرعين، وبحثت أغلب الفلسفات عن السلطة والدولة لما لديها من قدرة على تنفيذ الأفكار ووضعها موضع التطبيق ككل تصورات الشيوعية، فكانت المسئولية معلقة برقبة السلطة.
إن محاولتنا للتفتيش عن المسئولية في المناهج الوضعية أسفرت عن نتيجة مثيرة للخيبة والإحباط؛ ذلك أننا لا نجدها إلا في مجال القانون والعقوبات والجرائم، أما في مجال الإصلاح وحمل مسئولية التغيير فلا نكاد نجد إلا قليلاً، وحتى هذا القليل ظل حبيس النظريات ولم يُترجم إلى نموذج عملي واحد فيما نعلم، ثم فوجئنا بهذه النتيجة يقولها المستشرق الأمريكي مايكل كوك -صاحب أوسع بحث في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يقول بلهجة قاطعة: إن الثقافة الغربية -وكذلك الثقافات الشرقية الأخرى- ليس لديها "فكرة واضحة عن واجب لا يفرض علينا التصرف بنحو لائق إزاء الغير فقط، بل كذلك منع الآخرين من فعل ما فيه تَعَدٍّ واضح على الناس، مع ذلك ليس لدينا نظرية عامة حول الأوضاع التي ينطبق عليها، والإرغامات التي تسقطه. إن القيمة الأخلاقية موجودة عندنا، لكنها ليست من القيم التي أولتها ثقافتنا صياغة متطورة ومتكاملة"؛ لذا فإنه نفسه لم يكتشف هذا المعنى إلا كنتيجة جانبية لبحوثه في الإسلام(لكننا وقعنا في أثناء البحث على أمور لا ينبغي إهمالها؛ أهمها:
1. أن من القوانين من جعل مسئولية الإنسان تجاه عائلته فوق الحق والعدالة، منها –على سبيل المثال- قانون نابليون الذي يُحَرِّم على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية(2. ظهرت فلسفات غارقة في المادية وفي التفسير المادي للإنسان؛ بحيث إنها سلبت منه -بوضوح أو بالمآل- الاختيار والإرادة الحرة، وقد انعكس هذا على مسألة "الأخلاق"، فحتى القرن التاسع عشر الميلادي كان علم الأخلاق يبحث في المبادئ وترتيبها واستنباطها وأهميتها للحياة بما يعني التطلع إلى مَثَلٍ أعلى ومُثُلٍ عليا للسلوك تعين على فعل الخير والابتعاد عن الشر، وبهذا كان علم الأخلاق من العلوم المعيارية؛ بمعنى أنه لا يدرس ما هو كائن، بل ما ينبغي أن يكون، ثم ظهرت في فرنسا مدرسة من علماء الاجتماع نظرت إلى علم الأخلاق باعتباره تفسير ما هو كائن، لا معيارًا لما ينبغي أن يكون، وبهذا تحولت الأخلاق لديهم إلى "القواعد السلوكية التي تسلم بها جماعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ"، فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام أي نزعوا عنها القداسة والاحترام(هذه النظرة هي بنت الفكر المادي الذي لا يرى في الإنسان إلا طبيعته المادية، وهي الطبيعة الحتمية التي لا تسمح له بالاختيار، يقول سبينوزا –الفيلسوف الهولندي-: إن "الأعمال الإنسانية، شأن جميع ظواهر الكون تنتج وتستنبط بالضرورة المنطقية نفسها التي يستنتج بها من جوهر المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين"، ومثله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت الذي قال: إنه "لو كنا نعرف جميع الظروف والسوابق، فإن أعمال الإنسان يمكن التنبؤ بها بالدقة نفسها التي يُحَدَّد بها كسوف الشمس". ومآل هذه الفكرة المادية تنتهي عند كلمة ديفيد هيوم: "إن شعورنا بالحرية ليس إلا وهمًا". وبالتالي فلا معنى للتحلي بالأخلاق؛ لأنه لا قدرة على الاختيار، وهو ما يصرح به شوبنهاور: "هناك أناس طيبون، وآخرون خبثاء، وذلك مثلما يوجد حملان ونمور، فالأولون يولدون بمشاعر إنسانية، والآخرون يولدون بمشاعر أنانية، وعلم الأخلاق يصف أخلاق الناس مثلما يصف التاريخ الطبيعي خصائص الحيوانات"(إن أهون آثار هذا التفكير هو ما يجعل "النية" وحدها مقياسًا لحسن العمل أو قبحه، وهو ما قال به كانْت، وقد أحسن الشيخ محمد عبد الله دراز في الرد على هذا القول بما قاله سلفنا الصالح من قبل من أن "النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد". يقول الشيخ: "نحن متفقون تمامًا مع "كانْت" فيما يقرره من أن أكثر الأعمال نفعًا، وكذلك أكثرها نزاهة ليست له قيمة أخلاقية إذا لم تصحبه –بل إذا لم تحدده- إرادة الخضوع للقانون، وأن أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية إذا لم يكن قد خالف القانون عن عمد، ولكن شتان بين هذا وبين أن نقول في حالة العكس: إن أكثر الأعمال ضلالاً مع النية الحسنة يسترد كل قيمته ويصبح قدوة للسلوك الأخلاقي، فإذا كانت النية الطيبة تعذر صاحبها؛ فإن ذلك لا يستتبع أن تنزل منزلة مبدأ مطلق للقيمة الأخلاقية، وعلى سبيل الإيجاز، ولكي نعطي لتفكيرنا شكلاً أكثر وضوحًا وتحديدًا، نقول: إن النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسئولية، ولكنها ليست بأي حال شرطًا كافيًا لهذه أو تلك"(3. إن الفلسفات التي تجاهلت مسئولية عموم الناس في التغيير والإصلاح، وقصرت ذلك على الفئات المؤثرة والحكام المتسلطين، هذه الفلسفات أمسكت بتلابيبهم في جانب واحد هو: المسئولية القانونية! ومن المدهش أنها عامة القوانين الوضعية تعاملت بقسوة، فعاقبت حتى المجنون والأطفال والمعتوهين؛ بل والحيوانات والجمادات، وعاقبت على ما وقع بالصدفة وما كان غير متَعَمَّدٍ أيضًا.
وتلك هي خلاصة البحث الواسع للفرنسي بول فوكونيه Paul Fauconnet، والتي استعرض فيها أحوال المجتمعات البدائية والحضارات القديمة(وكانت القوانين –التي سادت المجتمعات القديمة- تعاقب -أيضًا- على ما ارتكب عن غير قصد أو بالصدفة؛ ففي نظام دراكون (الذي بقي في أثينا حتى الغزو الروماني) كانت عقوبة القتل الخطأ هي النفي المؤقت، وفي أقدم القوانين الرومانية (قانون الألواح الاثني عشر) فإن الضحية الذي يُبتر له عضو من أعضائه، على إثر جناية غير متعمدة، كان يستطيع أن يجري القصاص إذا لم يقبل الدية، وفي القانون الصيني كان القاتل بطريق السهو أو الصدفة يعاقب بالجلد مائة جلدة وبالنفي، وفي التوراة عوقب القاتل غير العامد بنوع من النفي، ومن الممكن شرعًا لصاحب الدم أن يقتله لو أنه غادر منفاه قبل المدة المحددة، وفي القانون الكنسي كانت الكفارات القاسية تفرض خلال سنوات كثيرة للتكفير عن خطايا لا إرادية، ارتكبت بسبب الجهل، وفي إنجلترا حتى أوائل القرن التاسع عشر لم يكن القاتل غير المتعمد يفلت من الإدانة علاوة على مصادرة أمواله إلا بفضل رحمة الأمير، ويبرز هذا الوضع الأخير -أيضًا- في القانون الفرنسي القديم(وبهذا نزعت المناهج الوضعية من البشر حقهم في إصلاح أحوالهم، ووضعتها بيد الحكام أو الكهان أو الفلاسفة، ثم ترصدت لهم فيما يفعلونه فعاقبتهم على غير ما قصدوه؛ بل عاقبت غير ذوي الأهلية!!
نشر في ساسة بوست

([1])د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص188. ([2])ديفيد جونستون: مختصر تاريخ العدالة ص66. ([3])ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ص22. ([4])مايكل كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي ص25، 26، 803 وما بعدها. ([5])Code Napoleon, livre I, Ture 2 I. نقلاً عن: د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص143، 144. ([6])د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفلسفة ص205 وما بعدها، د. مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص15 وما بعدها. ([7])د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص181، 182. ([8])السابق ص179، 180. ([9])ولم يكن من بينها الحضارة الإسلامية، ولذلك انتهى في دراسته إلى ارتقاء الغرب حضاريًّا عن كل ما سبق، وهو ما أثار غضب الشيخ محمد عبد الله دراز؛ لأنه لم يبحث عن "المسئولية" في الإسلام، ولو فعلها لكان قد رأى أن الإسلام هو أول من تحدث عن المسئولية برقي غير مسبوق ولا ملحوق، وكادت لهجة الشيخ دراز تتهمه بالتعمد في هذا الإغفال، وترميه بالغرض في نصرة الحضارة الغربية الحديثة. ([10])وهي التوراة المحرفة بطبيعة الحال لا التي أنزلها الله على موسى u. ([11])د. محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص222 وما بعدها.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 23, 2015 22:26

April 19, 2015

حصاد الاستشراق - الإنجازات

أما وقد تمّ الكلام عن رحلة الاستشراق: منذ ولادته وطفولته ونضوجه وموقفه المستقر من الإسلام ثم ما قيل عن موته وعن تجدده، فحريٌّ أن نبدأ في مطالعة حصاد هذه الرحلة، وهو ما نتناوله بإذن الله تعالى في هذا المقال والمقالات التي تليه.
قالوا: "من يستطيع أن يجمع البحر في قدح، والريح في زجاجة، والكون في عباءة؟!"، فما أشبه الكلام عن حصاد الاستشراق بهذا! ذلك أن غزارة الإنتاج الاستشراقي تحول حتى الآن دون إعداد قائمة بيبلوجرافية كاملة له، والمحاولات التي جرت في هذا الشأن لم تكتمل منها واحدة فيما أعلموعلى قدر الإحاطة بهذه التجربة والغوص فيها بقدر ما يمكن تلمس حصادها، ولكن يشفع لنا في هذا المقام أنه مقام إشارة من بعيد، إشارة في ثنايا التأسيس لتجربة "علم الاستغراب" كما ذكرنا في مقال سابق***
الحديث عن إنجازات الاستشراق هنا لا علاقة له بحسن النوايا أو سوئها ولا بالأغراض التي استهدفت من ورائها، بل هو متعلق بما تحقق من منافع ومصالح بأثر من حركة الاستشراق، وإن اختلفت الدوافع والمطامح.
1. حفظ التراث الإسلامي
وذلك حين جمعوا المخطوطات الإسلامية من مظانها في البلاد الإسلامية، ونقلوها إلى بلادهم، وسواء كان هذا الجمع بطريق مشروع –كالشراء أو الإذن- أو بطريق غير مشروعة كالسرقة والغصب بقوة الاحتلال أو بالتحايل، فإنهم قد فعلوا ذلك في وقت لم تكن فيه البلاد الإسلامية مؤهلة لحفظ تراثها، ونحن نقول هذا مع الشعور بالمرارة الشديدة، وكم رويت في هذا من قصص مفجعة لتراث كاد أن يحرق أو يتلف أو يضيع لجهل من وصلت إليه هذه الكنوز بأهمية وقيمة ما فيها، فإن بعض هذه المخطوطات كان يُباع فيها الحلوى، وبعضها كان صاحبه على استعداد لحرقه إن قيل له بضلال ما فيه وإن لم يكن أهلا للتحقق من هذا الضلال من عدمه، وغير ذلك كثير.
فجمعوا هم ما استطاعوا الوصول إليه ونقلوه إلى مكتباتهم، وصارت المكتبات الغربية تزخر بملايين المخطوطات الإسلامية، فحُفِظت بهذا من العبث واللعب والضياع والاحتراق، وظلت شاهدة على حضارتنا ينهل منها الباحثون في كل وقت.
ولا يظنن أحد أن هذا إنما كان قديما فحسب، لا بل إن السلطات في عالمنا العربي لا تزال من الغفلة -أو التواطؤ- بمكان، فكثيرا ما عثر باحثون على مخطوطات دفينة وحاولوا أن يوصلوا الأمر إلى السلطة كي تقوم بواجب حمايتها فكان الجواب مثيرا للأسى، وكان أفضل شيء لحماية المخطوطات هو تسليمها للسفارة الأجنبية التي تتنافس هي وأخواتها على الحصول عليها بأفضل ثمن، ثم رعايتها حق الرعاية2. خدمة التراث الإسلامي
ثم إنهم قاموا على خدمة هذا التراث الذي جمعوه تصنيفا وتحقيقا وفهرسة ونشرا، وأنجزوا العديد من دوائر المعارف الإسلامية ومن المعاجم اللغوية، وكان لديهم من الإمكانات ما لم يكن متوفرا -ولا حتى يُنتظر توفره في وقت قريب- للباحثين في العالم العربي والإسلامي.
يقول د. عبد العظيم الديب، وهو من أشرس أعداء الاستشراقإن ظهور معجم مثل "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" كان خدمة لهذا التراث في وقت لم يكن يستطيع أحد أن يصنع مثله في عالمنا الإسلامي، ولئن قيل: إنما صنعوه لأنفسهم ولم يصنعوه لنا، قلنا: وقد وصل إلينا وانتفعنا به، ولو لم يصنعوه ما وصل! وحديثنا الآن –كما نكرر- عن إنجازهم لا عن دوافعهم، وهذا المعجم إنجاز كبير بغير شك.وقد أثمرت هذه البحوث والدراسات كثيرا من الهداية لكثير من عظماء الغرب، فنحن مثلا حين نقرأ محاضرة "البطل محمد" لتوماس كارلايل ونجد فيها هذه العاطفة المشبوبة والحب الصادق لنبينا محمد r، وهي المحاضرة التي تمثل نقطة يؤرخ بها في مسيرة النظرة الغربية للإسلامونحن لا نذهب مذهب بعض علمائنا الأجلاء الذين يهونون من شأن خدمة المستشرقين لهذا التراث، اعتمادا على جهلنا بكم تراثنا وكم ما بقي منه وكم ما بقي منه لدى المستشرقين ثم كم ما أنجزوه من خدمة لما بقي في أيديهم ثم ما نصيب هذا الإنجاز من الكفاءةإن مستشرقا واحدا مثل فرديناند فستنفلد (ت1899م) قد نشر نحو مائتي مصنف من التراث الإسلامي منها: طبقات الحفاظ، ووفيات الأعيان، وتهذيب الأسماء واللغات، ومعجم البلدان، ومعجم ما استعجم، واشتقاق ابن دريد، وسيرة ابن هشام، ومات عن ثلاث وتسعين سنة بعد أن كُفَّ بصره في آخرها، ويقال أنه كان يعمل أربع عشرة ساعة يوميا لأكثر من ستين سنة3. إنتاج لا يمكن تجاوزه
لا يمكن إنكار أن كثيرا من الإنتاج الاستشراقي بلغ من القوة والجدة في البحث ما يجعل تجاوزه ضربا من المستحيل، ونحن إذا ابتعدنا عن إنتاجهم في اللغويات والأدب والفقه والتفسير وما هو شديد التعلق بالثقافة ويحتاج ملكة خاصة، نجد أنفسنا إزاء دراسات نفيسة في بابها، بل نجد أبواب علم جديدة قد فتحوها لم يسبقهم إليها أحد.
يقول د. حسين مؤنس: "كلامنا عن العلوم عند العرب كثير، وحديثنا عن فضلهم على الحضارة العالمية أكثر، ولكننا إذا استثنينا قلائل منا صرفوا العناية إلى التأليف في العلوم عند العرب وخدموا هذا المطلب بالبحث والتأليف من أمثال: أحمد عيسى، ومصطفى نظيف، ومصطفى الشهابي، ونفيس أحمد، وزكي وليدي، وبهجة الأثري، وقدري حافظ طوقان وغيرهم من أجلاء العلماءوإذا نسجنا على منواله أضفنا إليه: ونحن نفخر بأن ديننا لم يُكره أحدا على اعتناقه، وأنه لم ينتشر في العالمين بحد السيف، ولكننا لا نستطيع أن نجد في مصدر إسلامي دلائل كالتي نجدها في كتاب "الدعوة إلى الإسلام" للمستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولد، الذي تتبع انتشار الإسلام حول العالم فذهب وراءه حتى أدغال إفريقيا وجزر المالايو وسفوح التبت، وهو في هذا الكتاب معتمد بدوره على دراسات استشراقية أخرى كشفت ما لا طاقة لنا حتى اليوم ببعض ما كشفت لخلو أيدينا من القدرة المالية ودعم المؤسسات البحثية.
ونحن وإن كنا نستنكر تماما أن يلتزم الباحث بالاطلاع على آراء المستشرقين في موضوع توفرت مصادره الإسلامية أو لم يلزم موضوع البحث به، فنحن في ذات الوقت نعترف بأن إنتاجهم في بعض هذه الأبواب يستحيل تجاوزه، فلا يستطيع أحد أن يكتب في تاريخ صقلية الإسلامية متجاهلا مجهود ميشيل أماري في هذا الباب، ولا يكتب في تاريخ بخارى بغير المرور على مجهود أرمانيوس فامبري، ولا في تاريخ الترك في آسيا متجاوزا بحوث بارتولد. كما أن التأريخ للأندلس والحروب الصليبية لا يمكنه تجاوز المصادر الاستشراقية التي حفلت بتسجيل الرواية النصرانية للأحداث والتي لا يكتمل التأريخ ولا فهم الحادثة بدونها، ومن حقائق الواقع التي ينبغي الاعتراف بها أن المستشرقين لم يبلغوا أن يكونوا أساتذة لمحض الهوى وحب التقليد والهزيمة النفسية، بل لما في جهودهم البحثية من مجهود يثير الإعجاب ويستحق التقدير، فموسوعة "وصف مصر" التي وضعها علماء الحملة الفرنسية ليس لها مثيل، وكتاب مثل "تاريخ الأدب الجغرافي" للمستشرق الروسي كراتشوفسكي هو أحد النوادر العلمية النفيسة في بابه لا نعرف أحدا سبقه إليه أو لحق به فيه، والمجلدات الثلاثة التي كتبها ستانلي بول عن "النقود الإسلامية" كذلك، و"علم التاريخ عند المسلمين" لروزنثال كذلك، وتاريخ الشعوب و"تاريخ الشعوب الإسلامية" و"تاريخ الأدب العربي" وكليهما لكارل بروكلمان كذلك، وموسوعة الأنساب والأسر والحاكمة للمستشرق النمساوي زمباور كذلك.
وقد افتتح بعض المستشرقين فتوحا في بعض العلوم مثل كي ليسترنغ في الخطط والجغرافيا بكتابيه الشهيرين "بغداد في عصر الخلافة العباسية" و"بلدان الخلافة الشرقية"، وافتتحوا علوما جديدة مثل التأريخ للبحار والأنهار كما فعل إميل لودفيج في كتابه "نهر النيل" والذي قضى في تأليفه عشر سنوات، وكتابه "البحر المتوسط" وقضى في تأليفه ثلاث سنوات.
نشر في نون بوست 

كان للدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله مشروع كبير لحصر مؤلفات المستشرقين وبيان اتجاهاتهم في التأليف، لكنه توفي قبل أن يتمه، وقد أخبرني تلميذه المقرب ونائبه في عمله الشيخ علي الحمادي أن المشروع متوقف ويحتاج دعما لإكمال المسيرة فيه.كذلك فقد كانت للدكتور فؤاد سزكين محاولة مماثلة في معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت لكنها مقتصرة على الدراسات الاستشراقية الصادرة باللغة الألمانية، ومقتصرة على إعداد قائمة بيبلوجرافية دون دراسة الاتجاهات. انظر: د. علي بن إبراهيم الحمد النملة: الاستشراق والدراسات الإسلامية ص26. لقد نشرنا على هذا الموقع نبذات موجزة عن تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلمالدعوةالتعاون - المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2). والمؤسف أن هذا الأمر مستمر حتى الآن، ومنه –مثلا- ما نشرته صحيفة "المصرى اليوم" بتاريخ 12/12/2005، قصة الباحثة حنان السيد التى عثرت على 130 مخطوطة قديمة يرجع بعضها إلى عام 618 هـ ، وبعد مجهود استغرق منها ثلاث سنوات فى ترتيب وتنظيف هذه المخطوطات التى كانت تأكلها الحشرات وأنفقت أموالها، حاولت تسجيل المخطوطات في سجل المكتبة الأزهرية التابعة لها حتى لا تُسرق، لكن رُفِض طلبها بل ومُنِعت من دخول المكتبة وفشلت جهودها مع المسؤولين في الأزهر للحفاظ على المخطوطات ثم لم تجد إلا أن تستغل فرصة وجود مؤتمر علمى عن المخطوطات فى مكتبة الاسكندرية ، فأعلنت عما اكتشفته من المخطوطات دون أن تصرح بمكانها، وهنا انهالت عليها العروض بالمال والوظيفة وشهادات التقدير فى مقابل تسهيل الحصول على هذه المخطوطات، وكانت الجهات الأجنبية هي الأكثر كرما فقد عرضت عليها مبالغ فلكية مع كل ما تشاء من تسهيلات، لكن الباحثة رفضت كل هذه العروض واستغاثت بشيخ الأزهر ووزير الأوقاف، لكن لم يصلها أى رد بحسب الصحيفة. لقد بلغ من نفور د. عبد العظيم الديب من الاستشراق حد أنه فضَّل أن يفنى التراث على أن يقع بين يدي المستشرقين وإن حفظوه، قال: "ومن أعجب العجب, أن تجد أمة -مثل أمتنا- تشكر وتمجد, وتعظم أمر سارقي وثائقها, لمجرد أنهم احتفظوا بها, أو قدموا إليها صورة منها, وعهدي بالدول الواعية, أنها تفضل حرق وثائقها من أن تقع في يد أعدائها". د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص127. د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين ص34. مونتجمري وات: محمد في مكة (المقدمة). د. عبد العظيم الديب: المستشرقون والتراث ص7، 8. نجيب العقيقي: المستشرقون 2/713. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص399. مع ملاحظة أن هذه الأسماء إنما كانت متأخرة زمنيا عن أسماء المستشرقين القادمين بعدهم، أي أن بداية البحث والتنقيب في هذا الباب وخدمة هذا العلم إنما كانت من قبل المستشرقين. د. حسين مؤنس: تاريخ الجغرافيا والجغرافيين في الأندلس (المقدمة).
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 19, 2015 14:56

April 17, 2015

لماذا فشل الفلاسفة في تحقيق المدينة الفاضلة

شغلت مشكلات البشر أذهانهم منذ قديم، وقد ضرب كل ذو عقل فيها بسهم، فمُجيد ومسيء، ومجتهد ومقلد، وعميق وسطحي، وظلت العقول تبني الأفكار –والأحلام والخيالات كذلك- ثم يصدقها الواقع أو يكذبها.
والواقع ذاته صانع للأفكار ومصنوع لها، فهو والدها وهي ولدته، تلك العملية الدائرية الجدلية المشهورة: يأخذ الفيلسوف من واقعه صورةً لحلمه، ثم يسعى لتطبيق حلمه في واقع يستعصي عليها، فينجح أو يفشل أو ينجح بقدر، ثم يأتي الفلاسفة فيرد بعضهم على بعض، يأخذ اللاحق من السابق فيزيد وينقص ويأخذ ويرد، حتى صار الحل حلولاً، وطريق الخروج طرقًا كثيرة، وأمست العقول مذاهب وطرائق شتى، فأضيفت إلى أزمات الناس أزمة عقولهم، أو بالأصح: أضافت عقولهم أزمة إلى أزماتهم، حتى صار الجاهل أسعد من العاقل على نحو ما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة -في الشقاوة- ينعمُ
توهمت العقول مدنا فاضلة مثالية، وعجزت عن تطبيقها في أرض الواقع، ثم بحث الآخرون فيما فشل الأولون فتوهموا مدنًا أخرى.. وهكذا!
(1)
ليس البشر إلا أبناء زمانهم، وليست عقول البشر إلا بعضا منهم، وما تصورته العقول من "المدن الفاضلة" كان في حقيقته انعكاسا لما عاشوه من أزمات ومشكلات، حتى لكأنها معكوسها، ولم يكد يتغير هذا مع تراكم المعرفة الإنسانية والتجارب التاريخية والمحاولات الفلسفية، بل ظل الذين يعيشون في الفوضى والتمزق يحلمون بالوحدة والانضباط ولو مع بعض من الاستبداد أو كثير منه، كما ظل الذين يعيشون تحت الاستبداد يحلمون بالحرية ولو مع بعض من الفوضى، وما زال الذين يعيشون تحت حكم الجهلاء يحلمون بحكم الحكماء والفلاسفة، وما زال الذين يعيشون في المجتمعات الطبقية يحلمون بالعدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق بين الطبقات... وهكذا!
ما يزال الإنسان يبحث عن النظام الذي يجمع المزايا ويتجنب العيوب، واحتارت العقول، هل البداية من الفرد أم من السلطة، من الأخلاق أم من القوة، من التربية أم من القانون؟! وما تزال التساؤلات الفلسفية بغير إجابات نهائية جازمة مثل: ما مدى أحقية الفرد في ممارسة حريته وسط الجماعة في مقابل ما مدى صلاحيات الجماعة في تحديد حرية الفرد؟ ومن نقدم: حرية الفرد أم قيم المجموع؟ إلى أي حد ينبغي أن تتدخل السلطة في تنظيم أمور المجتمع؟ وما مدى علاقتها بثقافته وميوله؟ هل هي تعبير عنها أم توجيه وتعميق وترسيخ لها؟ هل علاقة السلطة بالمواطن كعلاقة الأب بالأبناء؟ أم القادة بالجنود؟ أم الوكيل بالأصيل؟ وما غاية هذه الحياة: أهي سعادة الفرد أم سعادة المجتمع؟ وما السعادة: هل هي الرفاه المادي أم المساواة في توزيع الثروة أم غير ذلك؟ ولأي مدى يحق للإنسان أن يملك شيئًا في هذه الحياة: هل يجوز أن يملك شيئًا أم لا؟ وعند أي نقطة يكون قد جار على غيره أم ما زال يتمتع بما أوتيه بمواهبه وحسن تدبيره؟
ذهبت عقول الفلاسفة والعقلاء شرقًا وغربًا، ثم أنتج كل عقل ما انتهى إليه.
(2)
عاش كونفوشيوس في عصر ساده الاستبداد والتمزق في الصين، ويُروى أنه عُيِّن وزيرًا، وبدأ في تحقيق نجاح ساحق في دولته "لو"؛ فخشيت دولة "تشي" المجاورة والمنافسة من هذا النجاح؛ فأرسلت فرقة من الراقصات إلى حاكم "لو" فافتتن بهن وأهمل أمور رعيته، فخاب مسعى كونفوشيوس، واعتزل السياسة وبدأ التفكير في إصلاح هذه الأحوال(لذلك تميزت تعاليم كونفوشيوس بعدة أمور أبرزها: الحل يبدأ من إصلاح الفرد لا من السلطة، وينبغي أن يربى الفرد تربية أخلاقية تجعله قادرًا على فعل الفضائل وتبادلها مع الآخرين، فالأخلاق والفضائل هي الضمانة لثغرات القوانين، وينبغي أن يكون التعليم أمرًا عامًا وشائعًا لكل الناس، فكل الناس سواء وسواسية، وحين يحدث هذا ستنصلح أحوال الممالك بطبيعة الأحوال؛ لأن الشعب هو من سيفرز السلطة؛ بحيث يكون الحاكم متحليًا في نفسه بأسمى الأخلاق، وهو من سيستطيع تقويمها إن حادت عن الأخلاق ولم تعد تعمل في مصلحة الشعب، وحين تحدث عن السياسة كان أبرز ما في تعاليم كونفوشيوس إعطاء صلاحيات أوسع لمنصب الوزير، فكانت تعاليمه مجرد انعكاس لفساد واقعه(وفي مقابل كونفوشيوس يأتي أفلاطون الذي نشأ في المجتمع اليوناني "الديمقراطي" فكانت فلسفته تنزع إلى محاربة التمزق والفوضى، ولهذا فهو لا يرى أن الناس سواسية، بل إن الطبيعة قسمتهم إلى طبقات بحسب ما أعطتهم من المواهب والقدرات، حتى ينتهي الأمر إلى ثلاثة مستويات: أعلاها الفلاسفة والحكماء؛ وهم أصحاب الفكر والعقول، الذين يجب أن يحكموا البلاد؛ لأنهم الجديرون بمعرفة ما يصلحها وما هو غير ذلك، ثم طبقة المحاربين، وفي النهاية تأتي طبقة العمال والعبيد، ولا ينبغي لمن في طبقة أن يفكر في تغيير وضعه أو مكانته؛ ولهذا تركزت فلسفة أفلاطون وخياله عن المدينة الفاضلة في إصلاح هذه الطبقة الحاكمة، وهو من أجل أن ينزع أسباب التنافس والنزاع بين البشر قرر بأنه ينبغي أن تكون النساء والأولاد مشاعًا؛ كي يختفي أي انتماء عصبي ويتوجه الانتماء كله إلى الدولة، وحارب أفلاطون الملكية؛ لأنها تجعل الحكام ذوي مصلحة شخصية مثلهم من المزارعين والبنائين؛ وفي هذا خطر على المصلحة العامة(وهكذا كان كونفوشيوس –في ظلال الاستبداد الصيني- أقرب إلى حق الشعوب من أفلاطون في ظلال الديمقراطية اليونانية!!
(3)
وكان توماس مور، وهو صاحب لفظ "يوتوبيا"((4)
هذه الأمثلة تعبير عن توجهات عامة فكم من تصورات لاحقة للمدينة الفاضلة تركز على الأخلاق الفردية، وكم من تصورات تركز على إلغاء الملكية وشيوع النساء؟! وكم من تصورات تبتغي قوة الدولة –ولو على حساب الفرد-؟! وعلى عكسها تصورات تبتغي سعادة الفرد -ولو على حساب الدولة- وهكذا.. وعلى سبيل المثال:
-       نجد توما الإكويني (المسيحي/ المتدين) وكانْت ("العقلاني/ التنويري") على غرار كونفوشيوس في الاهتمام بالأخلاق الفردية.
-       ونرى كثيرين جدًّا متأثرين بطبقية أفلاطون حتى ماركس، إلا أن ماركس عَكَسَها فجعل الطبقة الأهم هي طبقة العمال "البروليتاريا"، التي ينبغي أن تثور على الطبقات العليا "البورجوازية".
-       ومثلما أراد أفلاطون (الوثني) إلغاء الأسرة والملكية الخاصة تابعه في هذا كامبانيلا (المسيحي) ثم تابعهما ماركس (الملحد)!
-       كما أخذت فكرة الشيوعية تتقلب بين الأزمان والبلدان فهذا مزدك في بلاد فارس استطاع جعل النساء والأموال مشاعًا بين الناس لفترة وإن قصرت؛ حتى أفسد البلاد، ثم قتله كسرى أنوشروان، واستطاع ليكورجوس سن قوانين صارمة -لتحقيق المساواة بين الناس- في إسبرطة تدخلت في الطعام والشراب والأثاث وحتى المعاشرة الزوجية.
-       وفي حين خالف أرسطو أستاذه أفلاطون في الشيوعية، وقرر أن الأسرة والملكية الخاصة ينبغي أن تظل بلا مساس، فقد تَابَعَه في بقية آرائه.
-       وعلى غرار أرسطو جاء جان بودان الذي التقى مع أرسطو وأفلاطون في ضرورة وجود الدولة القوية؛ لكنه رأى السبيل إلى ذلك عبر قوانين محكمة ودساتير مثالية(وقد شَذَّتْ كثير من الفلسفات في اتجاهات عدة حتى أوغلت إيغالاً شديدًا:
-       فهذا نيتشه (الملحد) الموغل في الفردية والباحث عن الإنسان الأعلى (السوبر مان) يندفع في هذا حتى ليكره الضعف والضعفاء، ويكره الرحمة بهم والشفقة عليهم(-       وفي مقابل نيتشه يأتي دور كايم الموغل في الجماعية؛ الذي لا يرى للإنسان وجودًا مستقلاًّ عن المجموع، والمجتمع هو الذي أنتج الفرد وليس العكس، والفرد ليس إلا نتاج القوى الاجتماعية  المحيطة به مثل الأسرة وعلاقات العمل، وقواعد المجتمع جبرية ملزمة، وليس للفرد حرية اتباع النظام الاجتماعي أو الخروج عليه(-       ويأتي مارتن لوثر ليقوم بحركة إصلاحية واسعة في المسيحية ردًّا على التسلط الكهنوتي وامتلاك الكهنة لصكوك الغفران وتجارتهم بأراضي الجنة، فيتطرف في محاربة هذا حتى ينفي قيمة للعمل، ويؤكد أنه طالما آمن المسيحي بعيسى مخلصًا فهو فائز؛ وإن ارتكب كل الفواحش والذنوب، بل كان يحرض ويحث على ارتكابها(-       وهذا جبرييل دي فواني وديدرو، يوغلان في الحرية حتى يقترحان إلغاء الحكومات ذاتها(ولا يسمح المقام باستقصاء أوسع من هذا، كما وليس هذا هو مقام الرد أو التفنيد لهذه التصورات أو غيرها، ويكفي ردًّا عليها فشلها جميعًا في إقامة ذاتها عمليًّا على واقع الأرض، ولو لفترة قليلة؛ بل لعله يكفي دليلاً أن بعض أصحابها إنما اعترفوا بكونها خيالاً حين انصرفوا منذ البداية لتخيل أرض جديدة في أوضاع وظروف مغايرة، فكأنما ذلك تسليم باستحالة إصلاح أحوال الواقع لتكون –أو لتقترب- من الخيال المأمول!
على أنه يمكن القول وبشكل عام: إن ما احتوته هذه التصورات كان في كثير من جوانبه مناقضًا لفطرة الإنسان؛ مثل: تحطيم رابطة الأسرة، أو إلغاء الملكية الخاصة، وشيوعية الأطفال والنساء، أو كان في جانب آخر أحادي التصور والوجهة بالتركيز على الفرد أو المجموع -الأخلاق أو القانون- السلطة أو المجتمع.. وهكذا، وأقل ما يمكن أن يقال في نقد هذه التصورات هي أنها تتخيل إمكانية الوصول إلى لحظة نهائية ساكنة لا يأتي عليها تغير أو تبدل أو تطور، وكفى بهذا مناقضة لطبيعة البشر وطبيعة الحياة ذاتها.
نشر في ساسة بوست

([1])د. هالة أبو الفتوح: فلسفة الأخلاق والسياسة؛ المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس ص106. ([2])انظر: د. هالة أبو الفتوح: فلسفة الأخلاق والسياسة؛ المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس، ول ديورانت: قصة الحضارة 4/40 وما بعدها، جون كولر: الفكر الشرقي القديم 379 وما بعدها. ([3])وبهذا نرى اتجاهين: اتجاه ينحو إلى تهذيب الأخلاق لإصلاح وضبط رغبات البشر، واتجاه ينحو إلى تعديل الأوضاع القائمة بحيث يسلب رغبات البشر مواطن تنازعها وتنافسها. ([4])انظر: أفلاطون: الجمهورية، ول ديورانت: قصة الفلسفة ص23 وما بعدها، ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ص26 وما بعدها. ([5])يوتوبيا: باليونانية تعني: اللامكان أو المكان الخيالي. ([6])توماس مور: يوتوبيا ص133. ([7])انظر: توماس مور: يوتوبيا، ول ديورانت: قصة الحضارة 25/104 وما بعدها، برتراند رسل: حكمة الغرب 2/129 وما بعدها. ([8])للتوسع: إيميل برهييه: تاريخ الفلسفة، ول ديورانت: قصة الفلسفة، قصة الحضارة، برتراند رسل: حكمة الغرب، تاريخ الفلسفة الغربية، ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ، رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث. ([9])نيتشه: هكذا تكلم زرادشت ص74 وما بعدها. ([10])ول ديورانت: قصة الحضارة 42/251 وما بعدها، 381 وما بعدها، جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص18، 19. ([11])ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ص63. ([12])د. عبد الباسط عبد المعطي: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع ص80. ([13])ول ديورانت: قصة الحضارة 24/62. ([14])ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ص22.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 17, 2015 09:21

April 11, 2015

رحلة الاستشراق - ما بعد الاستشراق

هذا ختام رحلة الاستشراق، والتي بدأت حين وُلِد من رحم المواجهة الإسلامية الغربية، وعاش طفولته في عصر الحروب الصليبية، ونضج واشتد ساعده في عصور الاستعمار، وأنه وبرغم نضجه ظل معاديا للإسلام، ثم تعرضنا لما قيل عن موت الاستشراق وانتهاء مرحلته.. والآن ننظر فيما بقي منه وما الذي حلَّ محلَّه!!
وقد ذكرنا في المقال الماضي أن غاية ما يُقال في انتهاء الاستشراق هو انتهاء صورته القديمة، وتجاوز بعض الآراء القديمة التي لم تعد صالحة، وكلا الأمرين صادران عن تطور واحد: هو ثورة المعلومات والاتصالات، فلم يعد يستطيع الاستشراق قادرا على القيام بدور تشويه الإسلام بين عموم الجماهير بخرافات مثل: صنم محمد المحلى بالجواهر، أو المعلق في السماء، أو الذي كان كاردينالا مسيحيا ثم هرب بعد خلاف مع الكنيسة ليؤسس مذهبا جديدا يضرب به المسيحية... إلى آخر هذه الخرافات التي ما كان لها أن تنتشر لولا الجهل المخيم بين الغربيين وصعوبة الوصول إلى معلومات من مصادر أخرى. أما الآن فبعد استقرار الاستشراق علميا وموضوعيا لم يعد يصلح في مخاطبة الجمهور، لأن الجمهور تحركه الخطابات البسيطة الشعبوية، بينما لا تسمح قواعد البحث العلمي التي صارت من التقاليد المرعية أن ينزلق الخطاب الأكاديمي إلى الأكاذيب الفجة.
أما في جانب دراسة الشرق بغرض الهيمنة عليه واستمرار التحكم فيه وتقديم خلاصات الرأي للسلطة، فهو جانب يزدهر وينمو ويزداد تفرعا وتخصصا، بل إن فارق القوة بين الشرق والغرب تجعل كثيرا من تقارير مراكز البحوث الاستشراقية تُعلن وتُقرأ في الشرق في ذات اللحظة التي تُقرأ فيها في الغرب، ولا تستخفي توجهاتها، بل صار طبيعيا أن يصدر -مثلا- تقرير من مؤسسة راند يتحدث عن "بناء شبكات إسلام معتدل" أو "كيف تنتهي الجماعات الإرهابية"، وأن تكون خريطة التقسيم الجديدة للعالم العربي التي أرساها برنارد لويس منتشرة في العالم العربي، وأن يضع جيل كيبل خريطة الحركات الإسلامية بعد تطواف في العالم العربي، وأن يتحدث أوليفيه روا بصراحة ووضوح عن إرادة السيطرة والتحكم في العالم الإسلامي.. والأمثلة كثيرة ومشهورة ومتجددة في كل يوم!
الحقيقة أن الذي يبحث في الواقع الإسلامي لن يجد في المصادر المكتوبة بالعربية ما يجده في المصادر الأجنبية شمولا ودقةفإذا كان الـمُعلن المعروف المبذول للناس يحتوي هذا القدر، فكيف بالتقارير والتوصيات السرية التي تبقى في الأروقة والدهاليز؟!!
أما في جانب رسم صورة جماهيرية للإسلام والشرق، فقد ذهب دور الاستشراق وأتى دور الإعلام، أو بالأحرى: تراجع دور الاستشراق ليقوم بدور الإلهام والمرجعية في خلفية المشهد، بينما يقوم الإعلام (صحافة، تلفاز، انترنت... ) والفنون (أفلام، مسلسلات، روايات، أغاني...) بدور الاستشراق القديم: ترويج الأكاذيب الفجة عن الإسلام والمسلمين، وقد أتيح لها في عصرنا زخارف وأساليب تأثير وترويج مبتكرة وغير مسبوقةإن ما شهده المجال الفني من تطور جعل مؤرخ الفن المعروف أرنولد هاوزر يطلق على التاريخ الاجتماعي للفن في القرن العشرين لقب "عصر الفيلم"، بل حمل لينين على القول بأن "السينما هي أهم الفنون بالنسبة لنا"، ويتذكر الجميع كيف نظر الرئيس الأميركي بيل كلينتون إلى الممثل الأميركي الشهير شين كونري -وهو الذي قام بتمثيل شخصية جيمس بوند- قائلا له: "لولاك ما كسبنا الحرب الباردة"إنه تأثير ليس بوسع باحث جاد أن يتجاهله وهو يرصد حركة المجتمعات، ومن أهم ما يمكن ضربه من أمثلة هنا هو الفصل الذي أفرده جوزيف براودي ضمن كتابه "العراق الجديد"، والذي يحلل فيه تطور المجتمع العراقي بعد الحرب الأمريكية (2003م)، وأسماه "إعادة تصوير المشهد البابلي: السينما العراقية ونشاطات الترفيه والتسلية"، وكيف يتحول المجتمع بتأثير الفن الذي كان مصريا خالصا بادئ الأمر، حتى انتهى إلى المجهودات الأميركية في استخدام الإعلام لتسويق نفسها للعراقيينولقد نشر الباحث الأمريكي من أصل لبناني جاك شاهين كتابه: "العرب الأشرار في السينما: كيف تشوه هوليود شعبا"وقد كشفت مذكرة صادرة عن النقيب روكسي ت. ميريت -مدير العمليات الصحافية في البنتاجون- عن أسلوب خطير اعتمد مؤخرا، فقد قالت المذكرة: "بات للمحللين الإعلاميين تأثير أكبر فأكبر في تغطية الشبكات الإعلامية التليفزيونية للمسائل العسكرية، وباتوا الآن الأشخاص الذين يُقصدون ليس فحسب من أجل المواضيع الطارئة، بل لأنهم يؤثرون أيضا في وجهات النظر حيال المسائل، ولديهم أيضا تأثير كبير في المواضيع ذات العلاقة بالجيش التي تقرر الشبكة تغطيتها استباقيا... وأنا أوصي بإنشاء مجموعة أساسية من ضمن لائحتنا من المحللين الإعلاميين ممن يسعنا الاعتماد عليهم لنقل أفكارنا... فنزودهم معلومات أساسية وقيمة ليصبحوا الأشخاص الأساسيين الذين يجب على الشبكات أن تقصدهم وتشرع بنفسها في اجتثاث المحللين الأقل ركونا إليهم والأقل ودا""إن الاستشراق الإعلامي أكثر خطورة على جمهور القراء من الاسشتراق الأكاديمي الذي لا يقرؤه إلاّ المتخصصون، وإن كانت الخطورة في المادة الأكاديمية أشد لوصولها إلى أعلى مراكـز القرار السياسي  في الولايات المتحدة وفي أوروبا. ولكن ما حدث أن بعض المستشرقين أصبحوا من الكتاب الصحافيين ومن الذين يلجأ إليه الإعلام للحديث عن القضايا الإسلامية"وإذن، فالقائل بانتهاء الاستشراق أو موته أو "ما بعده" إنما يصدق قوله على الجانب الجماهيري المباشر، بينما بقاء الاستشراق كمحدد لوجهة النظر الغربية تجاه الإسلام، وكمؤسس لخطط الهيمنة والسيطرة السياسية، فهو قائم ويزدهر، بل لعله يعيش الآن أزهى عصوره قاطبة!
نشر في نون بوست 

حدثني أحد المقربين من الرئيس محمد مرسي -حفظه الله وفك أسره- عن أنهم لم يجدوا في مصر خريطة لانتشار المعادن في ظل محاولة وضع خريطة اقتصادية لمصر، بينما استطاعوا بعد لأي شراء هذه المعلومات من مؤسسات أمريكية تتاجر بالمعلومات! انظر: د. مازن مطبقاني: بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ص61 وما بعدها. يحيى عزمي: التطور التكنولوجي لفن السينما عبر مائة عام، ضمن "حصاد القرن"، تحرير: محمد شاهين، وإشراف: فهمي جدعان، ص320. جوزيف براودي: العراق الجديد ص247 - 265. روبرت فيسك: زمن المحارب ص171. Reel Bad Arabs: How Holly wood vilifies a people مايكل أوترمان وآخران: محو العراق ص148. د. مازن مطبقاني: بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ص64، 65.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 11, 2015 10:49