محمد إلهامي's Blog, page 66

February 26, 2015

موجز تاريخ الدولة الأموية (5)

اقرأ أولا: موجز تاريخ الدولة الأموية (1) موجز تاريخ الدولة الأموية (2) موجز تاريخ الدولة الأموية (3) موجز تاريخ الدولة الأموية (4)
تولَّى بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك، ومهما بلغ أمر يزيد فإن المقارنة مع عمر تجعله في وضع صعب، فلو أنه تولَّى بعد الوليد أو بعد سليمان فربما كانت صورته في التاريخ أفضل، لقد كان يزيد شخصية عادية ليست في صلاح عمر، ولا في سياسة عبد الملك بن مروان، ولا في همَّة الوليد بن عبد الملك، وحاول أول عهده أن يسير على خطى عمر بن عبد العزيز فلم يستطع؛ إما لأنه لم يتحمَّل، أو لأن بطانته خلت من العلماء؛ فتسلقها أهل السوء فعدلوا به عن هذه المسيرة، ونُسب إليه الإسراف في المأكل، وفي الإقبال على الجواري، ووردت في هذا أمور مبالغة وباطلة لا تُصَدَّق، على أن جوهر المشكلة كان في افتقاد يزيد للرؤية العامة والإستراتيجية في الإصلاحوفي عهده عاد ذكر الثورات، ولكنه قضى عليها، وكان من أكبرها ثورة يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وبعض ثورات للخوارج، كما استوعب بذكاء ثورة البربر في الشمال الإفريقي؛ حين قتلوا واليهم الظالم يزيد بن أبي مسلم، وولَّوْا عليهم محمد بن يزيد، وكان مولى، فأقرَّهم سليمان على ما فعلوا، وفي عهده كَثُر الموالي في المناصب القيادية.
واستمرَّت سياسة الغزو والفتوح في عهد يزيد بن عبد الملك؛ فقضت الجيوش الإسلامية على تمردات الترك فيما وراء النهر، وأعادت فرض نفوذها على مناطق الشمال في أرمينية وبلاد الخزرومات يزيد بن عبد الملك في شعبان عام 105هـ، بعد أربع سنوات من الخلافة، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، وتولَّى الأمر بعده أخوه هشام بن عبد الملك.
يُعَدُّ هشام بن عبد الملك آخر الخلفاء الأقوياء، الذين استقامت لهم البلاد في بني أمية، قضى في الخلافة عشرين سنة، ضبط فيها أمر الدولة ضبطًا إداريًّا فائقًا، وكان حريصًا على الأموال، شديد الرقابة على العمال والموظفين، حريصًا على إقامة العدل، وكان له مجلس للعامة يُقَدِّمون له فيها الشكاوى مهما كان حال الشاكي من العبودية أو الفقر أو قلَّة الحال، وفي عهده استمرَّ الغزو في البلاد لا سيما في جبهة السند والهند على يد عمرو بن محمد بن القاسم، وجبهة أذربيجان وأرمينية على يد أخيه مسلمة بن عبد الملك، ثم مروان بن محمد، وكان يقرب العلماء، وأشهرهم في هذا الإمام الكبير محمد بن شهاب الزهري والإمام الفقيه الأوزاعي، وكان لهما أثر على سياسة هشام بن عبد الملك، وعانى هشام بن عبد الملك في عهده من بعض الثورات، وكان أكبرها ثورة زيد بن علي بن الحسين، وثورات البربر في المغرب، الذين انتشر فيهم فكر الخوارج، كما عانى من ظهور المذاهب المنحرفة في عهده؛ كغيلان الدمشقي الذي تزعَّم القول بمذهب القدريةظلَّ هشام بن عبد الملك خليفة قويًّا حتى وافاه الأجل (ربيع الآخر 125هـ)، بعد عشرين عامًا في الخلافة، وأربعة وخمسين عامًا في الحياة .. ثم دخلت الدولة بعده في مرحلة الانهيارإن من اللافت للنظر أنه فيما عدا أربعة من الخلفاء هم: معاوية بن أبي سفيان، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، فيما عدا هؤلاء مات جميع الخلفاء في سنٍّ صغيرة في العشرينيات والثلاثينيات ومشارف الأربعين. كذلك فيما عدا معاوية، وعبد الملك، وهشام بن عبد الملك فإن كل فترات الخلفاء في السلطة قصيرة؛ تتراوح بين الشهور الثلاثة وبين السنوات الأربع فقط. وعلى الرغم من كل هذا الاضطراب والانتقال السريع للسلطة وتبدُّل الأحوال؛ فإن الإنجاز التاريخي لهذه الدولة هو إنجاز ضخم؛ بل ومذهل بكل المقاييس، وسيتضح هذا الأمر جليًّا حين نقارن مثلًا بين هذه الدولة وبين الدولة العبيدية (الفاطمية) فيما بعد؛ والتي كان عدد خلفائها كعدد خلفاء بني أمية أربعة عشر، ولكن طالت أعمارهم كما طالت سنواتهم في الخلافة -بل قضى المستنصر بالله الفاطمي وحده ستين سنة في الخلافة- فحكم بنو أمية تسعين سنة فيما حكم العبيديون أكثر من مائتي سنة، ولا مجال على الإطلاق للمقارنة بين الإنجاز التاريخي للدولتين!
قال الإمام ابن حزم مثنيا على الدولة الأموية: "وكانت دولة عربية لم يتَّخذوا قاعدةنشر في ساسة بوست 

هذا التوصيف للمؤرخ الدكتور عماد الدين خليل. هي مناطق القوقاز الآن. وهو المذهب الذي يقول بأن الأقدار تجري ولا يعلمها أحد مسبقًا ولا حتى الله! للاستزادة في تاريخ الدولة الأموية السياسي:محمد الخضري بك: الدولة الأموية (من سلسلة محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية)، ويوسف العش: الدولة الأموية، ومحمد ماهر حمادة: الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي، ود. عبد الحليم عويس: بنو أمية بين السقوط والانتحار، ومحمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي (الجزء الرابع: العهد الأموي)، ود. حمدي شاهين: الدولة الأموية المفترى عليها، ود. محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة الأموية، ود. يحيى اليحيى: الخلافة الراشدة والدولة الأموية من فتح الباري جمعًا وترتيبًا، ود. نادية مصطفى (إشراف): الدولة الأموية دولة الفتوحات، ود. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العالم الإسلامي في العصر الأموي، ود. علي الصلابي: الدولة الأموية؛ عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار. أي لم يتخذوا مدينة ملكية. الاحتجان: جمعُ الشيء وضمُّه إليك. ابن منظور: لسان العرب 13/ 108. أي لم يلزم الخليفةُ الناسَ أن يقولوا عند مخاطبته: يا مولاي. أي أن يقولوا: يا سيدي. أي أن يكتبوا إلى الولاة والوزراء بقولهم: من الملك، أو من السيد إلى العبد أو المولى. كان من عادة خلفاء الدول من بعد بني أمية، ومما يُعَدُّ من الآداب السلطانية أو «البروتوكول الرسمي» -بمصطلح هذه الأيام- أن يُقَبِّل الناس يد الخليفة، وبعض الدول كان الناس يُقَبِّلون الأرض بين يدي الخليفة. ابن حزم: رسائل ابن حزم 2/ 146.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 26, 2015 09:43

February 24, 2015

شهيد الهجرتين وفقيد الغربتين



لعمرك ما البلية فقد مال .. ولا شاة تموت ولا بعيرولكن البلية فقد حر .. يموت بموته خلق كثيرهذه كلمات عن كتاب طابت صفحاته، وزكت ورقاته، ورقَّت كلماته، وراقت صحبته..
أما المؤلف فهو الشيخ د. حاكم المطيري، الأستاذ المساعد بقسم التفسير والحديث بكلية الشريعة جامعة الكويت، والمنسق العام لمؤتمر الأمة الإسلامي، ومجدد علم السياسة الشرعية في زمننا هذا بكتبه المشهورة "الحرية أو الطوفان" و"تحرير الإنسان وتجريد الطغيان" و"الأصول الشرعية في الأحكام السياسية"... وغيرها.
وأما الموضوع فهي سيرة الشيخ المجاهد الشهيد محمد بن سعد آل مفرح، رفيق المؤلف في التأسيس لمؤتمر الأمة الإسلامي، والناطق الرسمي لحزب الأمة السعودي، ثم الأمين العام له، والذي توفي في اسطنبول يوم 17/12/2014 في حادثة تدور حولها شبهات قوية في أن تكون اغتيالا بالسمّ نفذته المخابرات السعودية.
وكنت قد لقيت الشيخ محمد آل مفرح لقاءات محدودة قصيرة حين وصلت إلى اسطنبول منتصف أغسطس 2014، ولم يدر بيننا فيها كلام مطلقا، اللهم إلا أني أحببته لنسبه الأموي –فأنا ممن يحب الأمويين غاية الحب- وسألته عن كتب تستقصي من بقي من ذرية الأمويين فدلَّني على بعض ما سألت، ولم ألمح من أحواله إلا كثرة الصمت وكثرة الذكر وحضور البشاشة. حتى فوجئت بمرضه ووفاته، ثم فوجئت أكثر بهذا الكتاب الذي يروي سيرة الرجل العجيب المتفرد!
يقول د. حاكم في مقدمة الكتاب بأن الله فرَّغه لهذا التأليف على غير العادة في باقي الكتب، وأنه أنجزه في وقت ليس من الطبيعي أن يُنجز فيه. واعتبر ذلك من كرامات الرجل التي بقيت بعد موته، وأن الله قد ألهمه تأليف هذا الكتاب ليساهم في خلود سيرته.
هذه المقدمة التي تثير العجب تزول مع صفحات الكتاب، إذ تكشف الصفحات عن سيرة رجل غني زاهد، مهاجر مجاهد، بلغ –كما يؤكد المؤلف- مرتبة الولاية فصار في عداد أولياء الله الصالحين، وروى الكتاب شيئا كثيرا عن أحوال الرجل في طول العبادة وكثرة الذكر وحميد السجايا ومحاسن الأخلاق، ثم عدد من الكرامات المدهشة العجيبة التي وقعت له، ومنها تلك الرؤى التي كان يراها في المنام فلا تكاد تخطئ وتتحقق كفلق الصبح. ومع كل هذا فقد التزم المؤلف ألا يحكي شيئا رآه منه وحده، بل ما رآه منه أصحابه ورفاقه، وكتم أشياء كثيرة يقول إنه لو حكاها فلن تُصَدَّق، وهو ما يثير دهشة عجيبة، إذ إن الذي حكاه هذا هو في غاية العجب.. فكيف يكون الذي كتمه رفقا بعقول الناس؟!
وُضِع الكتاب في قسمين؛ الأول: يحكي عن مقاماته وكراماته وأحواله، وفيها يستلُّ الشيخ حاكم -من الشهادات التي كتبها أصحاب ورفاق الشيخ المفرح- مقامات الولاية ويضعها إما مسبوقة أو ملحوقة بتعريف هذا المقام الذي يعتمد فيه على كتاب الإمام ابن القيم "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، فهو يعرف بهذا المقام من مقامات الأولياء ويسرد ما قيل فيه من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح والعارفين بالله ثم يذكر تحقق هذا المقام في الشيخ محمد المفرح. أو قد يتحدث أولا عن تحقق هذا المقام في الشيخ ثم يتبع ذلك بتعريف المقام والكلام عنه وصفات أهله. ولذا فإنه يمكن اعتبار هذا القسم –بنحو تجوز- خلاصة خلاصة كتاب مدارج السالكين لابن القيم، لكنها خلاصة عملية لا نظرية، وُضِعت في حياة رجل!
ولذا جاء القسم الأول حديث طويل عن الشيخ محمد في مقامات اليقظة والبصيرة والفكر والعزيمة، والإيمان بالله والكفر بالطاغوت، والصدق، واليقين، والتوكل، والرضا، والطمأنينة، والسكينة، والحب، والفرار إلى الله، والاستقامة، والحرية، والعبادة، والذكر، والعلم، والنصيحة، والصبر، والزهد، والرجاء، والتواضع، والإخبات، والأدب، وحسن الخلق، والإحسان، والتمحيص، والغربة، والهجرة، والجهاد، والشهادة، ويختم بمقام "الولاية والرؤى الصادقة" التي كان شأن الشيخ المفرح فيها عجيبا عظيما ولا يكاد يُصدَّق. وقد أطال المؤلف في ذكرها، فذكر عددا من الرؤى التي تحققت في حياة الشيخ وبعضا من الرؤى التي تحققت بعد وفاته، ومن ذلك أنه رأى أن يموت عبد الله ملك السعودية قبل تمام أربعين يوما من وفاته وقد كان، ورأى الحوثي يلبس تاج اليمن وقد كان، وقبل أن تنطلق الثورات رأى في المنام خمس ثورات تقضي على خمسة ملوك ورؤساء، ثم رأى بأن الثورة المصرية ستكون يوم 25/1/2011، ورأى أنه سيموت ويدفن في مكة وهذا كان أمرا عجيبا بالنسبة لحالته كمعارض للنظام السعودية لكنه كان.
وأما القسم الثاني من الكتاب فقد كان استعراضا لحياة الشيخ محمد وسيرته، منذ نشأته وطلبه للعلم وبره بأهله وتنقله في أحوال التجارة حتى صار من الأثرياء وهو لم يزل في سن صغيرة، ويمضي على كل ذلك سريعا حتى يصل إلى لحظة التقائهما وتأسيسهما معا لمشروع مؤتمر الأمة الذي يأخذ على عاتقه الدعوة إلى مواجهة الاستبداد السائد في الدول العربية وتحرير الأمة منه ودعم الثورات العربية في كل مكان ومحاولة إيجاد نسق يجمع شتات فصائل الأمة وحركاتها.. فيسرد المؤلف منذ أن استجاب الشيخ المفرح لهذه الدعوة ثم تأسيسه لها في السعودية مع الشيخ عبد العزيز الوهيبي وأحمد الغامدي (وكلاهما الآن معتقل في السجون السعودية) ومحاولة إشهار "حزب الأمة السعودي" ثم اضطراره إلى الخروج من السعودية مهاجرا إلى تركيا (وهو الخروج الذي كان بسبب رؤيا رآها، ولاقي في طريقه من الشدائد كما لاقى من الكرامات ما يثير العجب) ثم بقائه في تركيا التي اتخذها مقرا لدعوته الإصلاحية ضد الاستبداد ومركزا لدعم الثورات العربية لا سيما الثورة السورية، لكن الضغط السعودي على الحكومة التركية لم يكن ليُحْتَمَل فقد أصرت السعودية على طلب تسليمه وأرسلت طائرة خاصة لتنقله إلى أراضيها. فاضطر الشيخ إلى التخفي ثم لم يعد التخفي ممكنا ولا بد من الخروج فاختار الخروج إلى الشام بعدما أريد له أن يخرج إلى أي دولة أوروبية ليكون ذلك أضيق عليه في العمل، وهناك ساهم في الجهاد السوري ودعمه بما يملك من مال وجهد ووقت حتى أصيب إصابة بالغة فعاد متخفيا إلى تركيا، ثم تعرض فيما بعد لأربعة محاولات اغتيال واختطاف حتى منَّ الله عليه بقبول الحكومة التركية لاعتباره لاجئا سياسيا. ثم بدأت محاولات أخرى من الإغراء بالعودة للسعودية والتصالح مع النظام مقابل أموال طائلة (بلغت سبعين مليون ريـال)، وقد واجه كل ذلك بالرفض حتى تدهورت صحته فجأة في أحداث يشير المؤلف إلى أنها محاولة اغتيال بسم بطيء يؤتي أثره بعد شهور، ويُعتقد أنه أكله في طعام كان ضمن لقاء مع وفد أمني سعودي حضر إليه في اسطنبول.
وفي هذا القسم تفصيل جيد لأحداث غير مشتهرة في الثورة السورية، وفي مسيرة مشروع الأمة المستهدف من قبل الحكومات الخليجية تحديدا حتى إنهم اضطروا لأن يعقدوا مؤتمرهم على ظهر سفينة خارج المياه التركية وبغير استعمال مكبرات الصوت.
إن سيرة الرجال أبلغ في النفوس من زخرفة المقال، وقد كان سلفنا الصالح يهتمون بأن يعلموا أبناءهم السير والمغازي كما يهتمون بتعليمهم القرآن، فإن ذلك هو التطبيق العملي له، وبغير الرجال الصالحين لا يكون المنهج واقعيا، فالرجال هم من يثبتون بعملهم أن بلوغ مراتب العلا ممكن غير مستحيل، لكنه محتاج إلى صبر ومثابرة وجهاد، وهم بأنفسهم ينتصبون أعلاما على الطريق ومعالمه ومنازل السير فيه.
ولهذا فإن الكتابة عن الصالحين من أبرع الطرق لإصلاح النفوس وجذبها للطريق القويم وإثارة مكنونات الخير فيها.. ولقد كان منها هذا الكتاب، فهو مؤثر بليغ.
قضى الشيخ محمد وذهب إلى ربه شهيدا بإذن الله تعالى.. لنرثيه بما رثى الشيخ المكي البطاوي الرباطي به شيخه أبا إسحاق التادلي المغربي قائلا:
حكم الإله بذي الخليقة جارِ .. تفنى البرية والبقا للباريوالحي ميت لو يطول بقاؤه .. ورحى المنون تدور بالأعمارِلكن مصائب ذي الأنام تفاوتت .. لا يستوي ذو العلم مع أغمار
تحميل الكتاب
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 24, 2015 12:08

February 23, 2015

سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (3)

اقرأ أولا: سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (1) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (2)
في هذا المقال يتذكر عبد الرحمن بدوي حال مصر أثناء العدوان الثلاني 1956، وكيف نظر إليها من موقعه كمسؤول عن البعثات العلمية في السفارة المصرية في سويسرا، يتذكر كيف جرت الهزيمة القبيحة، وكيف كان حال السياسة أشد قبحا، وكيف كانت الدبلوماسية المصرية في الخارج في عالم آخر.
قال عبد الرحمن بدوي:
12. "كان الموقف في السفارة المصرية في برن يدعو إلى أشد السخط، فالسفير (عبد الشافي اللبان) متبلد الإحساس لا يهتم بأي شيء، اللهم إلا أن يوزع المبلغ الذي تبرعت به الصين الشعبية لتأييد مصر (ومقداره عشرون مليونا من الفرنكات السويسرية) على أعضاء السفارة المصرية في باريس الذين لجأوا إلى سويسرا (وعلى رأسهم السفير كمال عبد النبي) وكانوا يحلمون بهزيمة مصر في بضع ساعات وإعادة العلاقات مع فرنسا في خلال أيام وعودتهم هم بكامل أفرادهم –وهذا هو الشيء الوحيد المهم عندهم، ولو خربت مصر خرابا تاما- عودتهم إلى باريس من جديد وكأن لم يكن شيء.
وكان الملحق العسكري [في السفارة المصرية في برن] (وحيد رمضان) يتلقى من وزارة الحربية بلاغات كلها كاذبة عما أسقطناه من طائرات للعدو (الإنجليز والفرنسيين)؛ وكان يطلب مني أن أتصل برئيس قسم الشئون الخارجية في جريدة Neue Zuricher Zeitungالتي تصدر في زيورخ وتعد أكبر صحيفة يومية في سويسرا، وكنت أعرفه معرفة وثيقة بتوصية من أستاذي روبرات ران Rahn الذي صار مستشارا ثقافيا للسفارة السويسرية بالقاهرة وأوصى بي لدى بعض الأساتذة والمثقفين والصحفيين السويسريين عند تعييني في منصبي هذا. فاتصلت به، كما اتصلت بمن أعرف في جريدة La Tribune de Geneve لينشروا هذه البرقيات. فأخبروني أن البرقيات الواردة إليهم من المصادر المحايدة –وكالات الأنباء: رويتر، يونيتدبرس، أسوشيتدبرس إلخ- تناقض كل المناقضة تلك البرقيات. وكنت أنا أعلم هذا تماما، وقلته للملحق العسكري في وقته، لكن كان عليّ تبليغ رسالته. ولما عاود الملحق العسكري في اليوم التالي لتبليغ برقياته، قلت له: لا داعي للاستمرار في هذا، فلن نضلل أحدا، بل سنصير أضحوكة في نظر الناس"13. "وكنت خلال أيام العدوان الثلاثي أتجرع أشدد الغصص مرارة، وأنا أشاهد في السينما السويسرية نشرة أنباء القتال، وكلها حافلة بمخازي القوات المسلحة: المطارات المصرية تدمر عن آخرها بما فيها من طائرات، والضباط والجنود وهم يهربون مجردين من الملابس العسكرية وأقدامهم حافية، وقائد حامية بورسعيد (الموجي) وهو يسلم المدينة بعد ثلاث ساعات فقط من الهجوم البحري الإنجليزي الفرنسي ونزول قوات المظلات في جنوب بورسعيد، والقوات الإسرائيلية بقيادة موشى ديان تجتاح شبه جزيرة سيناء في 36 ساعة فقط... وهذا كله يحدث أمامك بالصور، بينما لو فتحت الإذاعة المصرية كنت لا تسمع إلا أناشيد النصر: "الله أكبر فوق كيد المعتدي..." أو الأغاني الحماسية من فايدة كامل وغيرها – وكأن مصر في عالم آخر لا تدري شيئا عما جرى على أرضها في سيناء ومنطقة شمالي القناة!!
أين إذن "أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط"؟ وأين إذن هذه "القوات المسلحة" التي سلمت لها مصر كل شيء، ابتغاء تكوين جيش قوي يدافع –على الأقل- عن مصر؟ وأين التضحيات الجسيمة التي ضحى بها الشعب المصري: من حريات وأموال، وما عاناه الكثيرون من إهانة واستبداد واغتصاب للأموال والحرمات والمناصب القيادية – إذا كانت هذه هي النتيجة حين يجد الجد ويتوجب على القوات المسلحة المسيطرة على كل مقادير الأمور في البلاد أن تقوم بواجلها؟!
لهذا زالت الغشاوة عن عيني، وزال ما تبقى من حماسة عندي لثورة 23 يوليو، وأصبحت أوقن كل الإيقان أن هذه الثورة هي أكبر كارثة عانتها مصر منذ الفتح العثماني 1517.
وكانت حماستي للثورة قد تزعزت قبل ذلك بعام لما أن عقد رجالها اتفاقية السودان التي بمقتضاها استقل السودان عن مصر استقلالا تاما، بعد أن ظلت مسألة السودان هي العقبة الكأداء في كل المفاوضات التي أجرتها مصر مع بريطانيا منذ سنة 1920 حتى ذلك التاريخ. لقد قلت لنفسي آنذاك، فيم إذن كان كل نضالنا طوال خمسين عاما إن كانت النتيجة هي هذا التسليم المطلق في مسألة السودان؟! وكان أعجب المفارقات أن استقل السودان عن مصر وبريطانيا استقلالا تاما في أول يناير 1956 بينما بقيت القوات البريطانية في احتلالها لمصر حتى 15 يونيو من نفس العام"14. "كنت أسأل الملحق العسكري [في سفارة برن] (وحيد رمضان) والملحق الجوي (عمر الجمال) كيف حدثت هذه الكارثة للجيش المصري، الذي لم يصمد ولو لبضع ساعات سواء في سيناء وفي منطقة بورسعيد – فيلوذ أولهما بالصمت أو يخوض في كلام لا معنى له يتهرب به من الجواب؛ أما الثاني فكان صريحا من اللحظة الأولى فكان يقول صراحة إنه لا قِبل لنا بمواجهة هذا العدوان، لا في الجو ولا على الأرض، وإن طيراننا ضعيف عدة وتدريبا. ولما أخبرته بما سمعته في الإذاعة المصرية من تصريح لقائد سلاح الطيران (صدقي) من أن سلاح الطيران المصري لا يزال سليما وأنه مستعد –وكان ذلك بعد وقف القتال- للقضاء على كل من تسوله نفسه العدوان على مصر – علق قائلا: متى نكف عن هذه الأكاذيب الصبيانية!! ولماذا إذن لم يرد على هجوم الطيران البريطاني في الليلة الأولى لقيام العدوان؟!
وهنا قلت في نفسي: إن الهزيمة هزيمتان: هزيمة مادية عسكرية، وأخرى معنوية مدمرة لكياننا المعنوي. والثانية أشد وأنكى، لأن معناهما هو أننا سنواصل التضليل والكذب على أنفسنا وعلى الشعب المصري، ولن نسعى لتلافي ما وقعنا فيه من أخطاء، بل سنظل فرائس للخداع والأوهام. إن أول خطوة للإنقاذ هي الوعي بمدى الكارثة والاعتراف الذاتي بالأخطاء الفاحشة التي ترتكبها القيادة السياسية والعسكرية، ومحاولة التغيير الجذري الشامل للأوضاع التي أدت بنا إلى هذه الكارثة الفظيعة.
لكن الذي فعلته القيادة السياسية والعسكرية كان على العكس تماما: إذ راحت عن طريق الإذاعة والصحافة توهم الناس أننا انتصرنا نصرا عسكريا كاسحا مؤزرا، وأن "المقاومة الشعبية" في بور سعيد هي التي ردَّت أساطيل الغزاة الإنجليز والفرنسيين على أعقابها، وساقت الحناجز المزيفة للتغني بهذا النصر العظيم، وتشبع الجو بهذه الأباطيل.وليس ثم عامل أكثر تدميرا لمعنوية أمة من الأمم أشد من الأكاذيب. لكن هذه ستكون الوسيلة التي سيعتمدها الحكام في مصر طوال السنوات التالية"15. "حال جميع السفراء ورجال السلك السياسي المصري في الخارج: لا يهمهم من مصر كلها غير شيء واحد: "الحركة"؛ حركة التنقلات والترقيات بينهم، ولتذهب مصر كلها إلى الشيطان فهذا لا يحرك في بدنهم شعرة... وهذه حال رجال السلك السياسي المصري دائما، ولا سبيل مطلقا لتخليصهم منها. ذلك أن الجهل والتفاهة والتملق هي المؤهلات الأساسية عندهم جميعا. وبفضلها وحدها يترقون في سلم المناصب الدبلوماسية، وينعمون بالعمل في عواصم البلاد الكبيرة المتمدنة. وإذا ظهر بينهم واحد أوتي شيئا من العلم أو الاهتمام بوطنه، فالباقون جميعا أعداؤه. وأهم ما يتباهي به الواحد منهم هو ملابسه، وكيف يراعي البروتوكول في الوقوف والجلوس والسلام وترتيب الجلوس على موائد الطعام – إلى آخر هذه التفاهات ولأن المثل الأعلى عند الواحد منهم أن يكون رئيس جرسونات"
سيرة حياتي 1/243. سيرة حياتي 1/244، 245. سيرة حياتي 1/ 245، 246. سيرة حياتي 1/ 249.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 23, 2015 12:54

February 22, 2015

لماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا

لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا، رغم هذا الغرب الحاضر دائما، أو قل: بسبب هذا الغرب الحاضر لم يكن ممكنا، فالمجهودات التي حظيت بالإخلاص كانت مجهودات فردية، وموضوع الاستغراب أوسع من طاقة الأفراد مهما كانوا أفذاذا ومهما بذلوا من جهود. وأما المجهودات الجماعية فقد وقفت أمامها الظروف السياسية والاقتصادية، ولم تحظ كثير من هذه المجهودات بإخلاص جهات تقف وراءها، فظلت على حال الجمود، وبعضها لم يبلغ مرحلة البدء وظل في عالم الأماني.
ويمكننا تقسيم هذه المجهودات التي لم تنضج إلى ثلاثة فروع: الرحلات إلى الغرب والحركة الثقافية والعلمية، حركات الإصلاح ومواجهة الغرب، المجهودات الجماعية.
إلا أن هذا كله -وإن لم ينضج- يمثل قاعدة متينة وتراثا وافرة لحركة الاستغراب المنشودة.
1. الرحلات والحركة الثقافية والعلمية
أحصت د. نازك سابا يارد مائة واثنين وأربعين رحالة عربيا بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ذهبوا إلى الغرب وسجلوا رحلاتهم في مؤلفات تبلغ نحو الأربعمائة مؤلف إن لم يكن أكثر، إذ بعض الرحلات دمجت في مؤلف واحد وكان أصلها كتبا مفترقةوقد تعددت أسباب الرحلات بين المهمات الرسمية أو البعثات العلمية أو الدراسة أو النفي السياسي أو الدفاع عن القضايا الوطنية أو السياحة، وقد كانت المنافسة السياسية بين فرنسا وإنجلترا وروسيا والنمسا وألمانيا مما يتيح لبعض الحركات السياسية أن تتخذ من هذه العواصم مقرات لها للدفاع عن قضاياها ضد البلاد المحتلة لا سيما مع ازدهار حركة الصحافة وصدور الجرائد، كذلك كانت النهضة العلمية وحركة التغريب مما دفعت بكثير من العرب إلى إكمال دراستهم في الغرب أو حضور مؤتمرات علمية، حتى إنه "من الأعمال الثمانية التي نشرت في القاهرة خلال السنوات العشر الأخيرة للقرن التاسع عشر والتي تصف بلدان وأفكار أوروبا، كانت خمسة عبارة عن تقارير عن رحلة إلى مؤتمر استشراقي أو معرض عالمي"ومن بين من ذهبوا من انبهر وافتتن أبدا، ومنهم من انبهر وافتتن ثم عاد ورجع إلى أصوله، ومنهم من كان على العهد ونظر إلى الغرب معتزا بذاته ومنطلقا من هويته. فمن هذا الصنف الأخير -الذين يصدق عليهم وصف المستغرب كما ذكرناه- عدد جميل من أبرزهم: علي مبارك صاحب "الخطط التوفيقية"، وأحمد زكي الملقب بشيخ العروبة، ومحمد المويلحي صاحب "حديث عيسى بن هشام"، ومحمد كرد علي صاحب "خطط الشام"، ومحمد فريد باشا، وشكيب أرسلان الملقب بأمير البيان.
وأما الحركة العلمية الثقافية فمجال واسع فسيح، فكم قد درس شباب من بلادنا في الغرب، وكم منهم تعلموا على يد مستشرقين سواء في الجامعات العربية أو في الجامعات الغربية، بل إن فوجا ممن عادوا إلى الصف الإسلامي من بعد ما كانوا يساريين وماركسيين مثَّلوا طليعة إسلامية مقاتلة في الساحة الفكرية كجلال كشك ومحمد عمارة وطارق البشري وعادل حسين وعبد الوهاب المسيري وغيرهم. ومنهم من سبق عليه الأجل قبل أن نستفيد من توبته مثل عبد الرحمن بدوي ممثل الفلسفة الوجودية في بلادنا، وواحد من أهم الفلاسفة العرب، الذي كتب كتابيه "دفاع عن القرآن" و"دفاع عن محمد r" في أواخر عمره، لكنه لم يترك لنا تراثا ناقدا لحضارة الغرب وفلسفته ننتفع به، فقد قضى آخر حياته مريضا ومعتزلا في باريس.
2. حركات الإصلاح
وذلك أن الصراع الحالي المستمر منذ قرون جعل كل مُنَظِّر أو مفكر أو مصلح له رأي في الغرب وفي الفارق بين الغرب والشرق وبين الغربيين والشرقيين، وكثير منهم عاش في بعض عواصم الغرب أو مرَّ بها، وكثير منهم له مؤلفات خاصة في تقييم ونقد الحضارة الغربية أو بعض قيمها أو مناظرات مع رجالها. ولكنهم أكثر من رحالة وأكبر من مجرد مفكرين أو مثقفين.
وكان تركيز المصلحين في مسألة الشرق والغرب منصرفا -بطبيعة الحال- إلى الفوارق بين الحالين، وهم بموقعهم من الإصلاح والجهاد وبسيرة حياتهم لا يُتَّهمون في ولائهم للدين وللأمة، ويُحمل نقدهم مهما كانت قسوته على إرادة الخير وشحذ الهمم لا على التبرؤ والتعالي والافتتان بالغرب كما هو حال غيرهم.
ونحن لا نتوقع أن يكون إنتاجهم في الغرب إلا بقدر كون الغرب تحديا وعدوا، فإن أساس انبعاثهم إنما هو الإصلاح أو الثورة أو الجهاد ضد الاحتلال، فلا تثريب أن نجد تجييشا أو اختزالا أو تعميما قد لا يروق للأكاديميين، فإن الذي يباشر الحرب وينادي تحت ظلال السيوف غير الذي يرقب وينظر ويتابع من بعيد. إنما الذي نبتغيه من تراثهم هو معالجتهم لمسألة الغرب وسر تقدمه وطريق اللحاق به ضمن برامجهم ومشروعاتهم الإصلاحية.
يأتي على رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، ومحمد عبده، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد الحميد بن باديس، ورشيد رضا، ومحمد إقبال، وعبد الكريم الخطابي، والبشير الإبراهيمي، وحسن البنا، وسيد قطب، وعبد القادر الجزائري، وعلال الفاسي، ومالك بن نبي، ومصطفى السباعي، وأبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي... وطائفة يطول مجرد سرد أسمائها.
فكتب هؤلاء من الكتب أو الخطب أو الرسائل والمقالات ما فيه خلاصة حياتهم وبرامجهم، وجهادهم الذي كان الغرب أحد أهم ساحاته إن لم يكن الهم الوحيد!
3. مجهودات جماعية
لقد تجلت الرغبة في دراسة الغرب عبر العديد من المؤتمرات والندوات والمراكز البحثية، لكنها لم تصل إلى مرحلة البداية بعد، فإما انفضت المؤتمرات عن غير بذرة، أو بُذرت البذرة لكنها لم تلق الرعاية حتى تنبت، فمن أبرز هذه المجهودات:
1. أنشأت جامعة الإمام محمد بن سعود قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة منذ عام 1403هـ (1993م)، وهو مقتصر على الدراسات العليا حيث لا بد أن يكون الطالب متخـرجا في أحد العلوم الإسلامية أو يعطى سنة تأهيلية لإعداده في هذه العلوم ليتمكن من دراسة كتابات المستشرقين. وقد ضم القسم متخصصين بالإضافة إلى العلوم الشرعية في مجال التاريخ وفي الاجتماع وفي الاقتصاد وفي الإدارة والاقتصاد. وتضمنت المناهج الدراسية في هذا القسم دراسة أصول الحضـارة الغربية بالإضافة إلى دراسة اللغات الأوروبية التي من المتوقع أن يكون الطالب متقنا لإحداها2. عُقدت خلال شهر أغسطس عام 1996م "ندوة أصيلة" السنوية في المغرب تحت عنوان: "الواحـد من منظور الآخر"، وكان حضور هذه الندوة يتكون من أدباء ومفكرين من العالم العربي ومجموعة من الباحثين الأمريكيين، وكان من بين الموضوعات التي طرحت العلاقات بين العالم العربي والغـرب، واتفق المجتمعون على أن العالم العربي تنقصه المعرفة الحقيقية بالغرب فاتفقوا على إنشاء مركز الدراسات الأمريكية في أصيلة نفسها3. وفي شهر ربيع الآخر 1418هـ (أغسطس 1997م) عقد منتدى أصيلة ندوته السنوية وقرر إنشاء معهد الدراسات الأمريكية بالتعاون مع مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد الأمريكية. وقد حضـر الجلسة الافتتاحية للندوة بندر بن عبد العزيز سفير المملـكة العربية السعودية في الولايات المتحدة وقدّم تبرعا سخيا لإنشاء المعهد وكذلك لإنشاء مكتبة مركزية في مدينة أصيلة4. وقد عمل الشيخ عبد الله بن بيه على إنشاء وحدة لدراسات الغرب ضمن مؤسسة الفرقان في لندن والتي أقامها أحمد زكي يماني5. ونبتت فكرة إنشاء مركز للدراسات الغربية بين مجموعة من العرب في باريس، على رأسهم أحمد الشيخ، ووجدوا صعوبة في إنشائه في باريس، إذ لم يرحب أحد بأن يدرس العربُ الغربَ، وآخر ما وصلنا إليه هو قول صاحبه د. أحمد الشيخ: "المشروع مازال في طور التأسيس،لم ينتقل بعد إلى مرحلة العمل الحقيقي التي نتمناها، المعوقات كثيرة في الخارج وفي الداخل، لكن ما نجحنا فيه حتى الآن هو إعطاء مشروعية لهذا التوجه الجديد"6. تأسس في أمريكا "معهد الدراسات الغربية" عام 2010، ثم افتتح له فرعا في الرياض عام 2011، كأكاديمية دولية غير ربحية، وبحسب تصريحات رئيس المعهد د. فهد الحمودي فإن أعمالهم "على الدراسات القانونية ودراسة الأعمال والدراسات الدينية وذلك من خلال أربعة محاور وهي الأبحاث والنشر والتعليم من خلال بعض البرامج لإرسال طلابها واستقطاب أساتذة لإلقاء محاضرات بين المملكة العربيةالسعودية والولايات المتحدة الأمريكية وللتعرف على ثقافة الأديان وتنصب هذه في التوجيهات التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في نشر الحوار والثقافة وفهم الآخر وتقديم صورة مثالية عن المملكة والإسلام وفي المستقبل دول أوروبا"،كما يستهدفون أن يكون هذا المعهد "الرابط بين المهتمين السعوديين والعرب وبين نظرائهم من المهتمين من الدول الغربية، سواء كانوا طلاب جامعات أو أساتذة جامعات أو محامين ودبلوماسيين أو مختصين في مجالاتهم في العلاقات السعودية الغربية"وبحسب موقعهم على الانترنت فإن لهم رؤية واسعة وطموحة، كذلك فإن فريق العمل يتنوع بين عرب وأجانب، ولكن لم يصدر عنه حتى الآن سوى كتاب واحد "الثقافة الأمريكية والتنوع الديني" للدكتور فهد الحمودي، ومجلة أعلن أنها ستكون نصف سنوية، لكن لم نجد أثرا لأي من أعدادهانشر في نون بوست
د. نازك سابا يارد: الرحالون العرب والحضارة الغربية ص441 وما بعدها. وهو جمعٌ نادرٌ، وإن فاتها بعضهم مثل: محمد بيرم صاحب السِّفْر الضخم "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" (5 مجلدات)، وعلي مبارك صاحب كتاب "علم الدين" (4 مجلدات) وهو قد صيغ في شكل مسامرات أصلها عن مؤتمر الخيال للمستشرقين في باريس. تيموثي ميتشل: استعمار مصر ص48. د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4، 5. د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4. د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4 (ويقول بأن الخبر على صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 10/8/1996م). د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص100. لقاء مع د. أحمد الشيخ، برنامج "الاستشراق"، قناة الجزيرة بتاريخ 1/11/2002 (رابط)، بتصرف يسير. صحيفة الجزيرة السعودية بتاريخ 11/4/2012. www.westernstudiesinstitute.org
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 22, 2015 13:53

February 21, 2015

سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (2)

بدأنا في المقال الماضي في استعراض شهادة الفيلسوف المخضرم د. عبد الرحمن بدوي -والذي أنهى حياته الفكرية الزاخرة بالعودة إلى الإسلام- عن حقبة العسكر، بمناسبة مرور ثمانية وتسعين عاما على مولده، وباعتباره شاهد عيان على تحول مصر من زمن الاحتلال المباشر إلى زمن العسكر.
ونواصل في هذا المقال ما بدأناه من واقع مذكراته الحافلة المنشورة في جزأين، وهذه المرة سنرى عينة من سياسة العسكر ورجالهم في السفارات والوزارات.
قال عبد الرحمن بدوي:
7. "تدهور سعر صرف الجنية المصري في سويسرة؛ فبعد أن كان قبل 26 يوليو (1956) في السوق الحرة في المتوسط 11.5 فرانك سويسري، أخذ ينهار، فصار بعد يومين اثنين (من تأميم القناة، لأن التأميم كان يوم سبت) 8.5 فرنك، واستمر في التدهور يوما بعد يوم حتى بلغ 4 فرنكات يوم مغادرتي سويسرة في 23/11/1958، وواصل تدهوره حتى بلغ اليوم (أوائل الثمانينات) فرنكين اثنين"8. "لكن جمال عبد الناصر لم يكن يهمه من الأمر (تأميم القناة) أية منافع اقتصادية، بل كان يريد عملا سياسيا مفاجئا مثيرا يكفل له الشهرة والدويّ، حتى لو جرَّ على مصر الخراب. وقد قام بعمله هذا بمفرده دون أن يستشير أحدا من زملائه ووزرائه. ولم يعرض الأمر على هؤلاء إلا بعد إعلانه وتنفيذه للتأميم... وهكذا كانت وستكون كل تصرفات جمال عبد الناصر خارجيا وداخليا: تصرفات حمقاء طائشة لا تحسب حسابا لأي شئ غير الدويّ الأجوف العقيم حول شخصه، مهما ترتب عليها من خراب وويلات لمصر وشعب مصر ومكانة مصر في المجتمع الدولي"9. "هل تدري بماذا واجه جمال عبد الناصر وصحبه هذا المؤتمر؟ (المؤتمر الذي عقدته إنجلترا للمنتفعين من قناة السويس للتخطيط لضرب مصر) لقد طلبوا من السفارات في بعض الدول الأوروبية أن يتجمع المصريون في ميدان واسع في عواصم البلاد التي يوجدون فيها، وأن يقفوا حدادا في هذا الميدان ساعة افتتاح مؤتمر لندن! وأن تؤخذ لهم صورة وهم في وضع الحداد هذا! واتصل بي القائم بأعمال السفارة آنذاك (وطلب مني هذا) فقلت له: ما هذه المسخرة؟ فقال: أنا معك بأنها مسخرة لا معنى لها، لكن ماذا أعمل؟! مضطر إلى تنفيذ التعليمات الصادرة... واتصلت بطلاب جنيف وطلبت منهم أن يفعلوا ذلك، وفعلوا ذلك وهم يستهزئون، بدليل أن معظمهم كان يبدو في الصورة وهو يضحك"10. "أخذت بريطانيا وفرنسا تستعدان لشنّ حملة عسكرية على مصر، ابتداء من منتصف أغسطس كانت أرتال من الدبابات والمدرعات تسير في الطرق الرئيسية في فرنسا متجهة إلى طولون، وأرسلت بريطانيا تعزيزاتها البحرية وبعض بوارجها إلى قبرص. وكان على الأسطولين الفرنسي والإنجليزي أن يتجمعا في قبرص، ومن هناك تبدأ الحملة.
وكل هذا يجري في فرنسا وفي إنجلترا دون أن يعلم الملحق العسكري في كل من سفارتي باريس ولندن أي شيء عن هذه التحركات، لأنه مشغول فقط بالتجسس الرخيص التافه على المصريين المساكين المقيمين في فرنسا وإنجلترا؛ ليعرف من جلس مع من في المقهى، ومن يصاحب مَن مِن الفتيات، ومن ينتقد أي شيء يجري في مصر، إلى آخر هذه الترهات التي أنفق عليها جمال عبد الناصر وزبانيته في المخابرات الشطر الأكبر من العملة الصعبة التي في حوزة الخزانة المصرية"11. "وجاء محمود فوزي (وزير الخارجية المصري) خلال شهر أكتوبر، وكنتُ في جنيف، فاشتركت في استقباله في مطار جنيف. ولما نزل من الطائرة، سأله بعض الصحفيين عن رأيه في الموقف. فأجاب: الجو جميل في جنيف والسماء صاحبة. فدش الصحفيون من هذاالجواب، فكرروا السؤال، فكرر هو نفس الجواب. وازدادت الدهشة من هذا الوزير ورد عليّ أحد الصحفيين قائلا: ما هذا الذي يقوله وزيركم! ماذا أصابه؟ فابتسمت وقلت: ربما كان هذا هو ما يُسَمَّى بالدهاء الدبلوماسي!
وأصابتني حيرة وخجل من هذا الوزير الذي لا يستطيع أن يرد بجملتين تتعلقان بالموضوع ولا تلزمانه بشيء، كأن يقول مثلا: أنا قادم إلى جنيف للالتقاء بسكرتير عام الأمم المتحدة لبحث موضوع تأميم القناة. وأرجو أن نصل إلى حل في هذه المسألة"، أو ما يشبه من عبارات مفيدة لا تقيده بشئ. أما أن يقول ما يقول فهذه هي البلاهة بعينها.وازددت يقينا من بلاهة هذا الرجل –الذي زمَّر له بعض الصحفيين منذ أن كان ممثلا دائما لمصر في هيئة الأمم منذ سنة 1927 حتى سنة 1952- لما أن جاء إلى برن وأقام له السفير عشاء حضره أعضاء السفارة، وكان الهدف من الاجتماع به استيضاح الأمور الجارية (تأميم قناة السويس وما تبعه من آثار) والإفادة من توجهاته. لكنه أمضى السهرة كلها، طوال ثلاث ساعات، دون أن ينطق بكلمة واحدة في موضوع الساعة. وانبرى مستشار السفارة –وهو شخص ناقص العقل- وتحدث عن صيد الأسود في الصومال وكينيا، يوم أن كان عضوا في هيئة الوصاية على الصومال قبيل استقلاله. وكلما حاولتُ أن أسأل محمود فوزي عن رأيه في الموقف الحالي كان يشيح بوجهه ويطلب من ذلك المستشار المأمون أن يتابع حديثه عن صيد الأسود في الصومال وكينيا! وهمستُ في أذن الملحق العسكري ليدخل ويوقف هذا الهراء، فاعتصم بالصمت.
وهكذا أيقنت بأن وزير الخارجية المصري، محمود فوزي، ما هو إلا رجل معتوه جهول لا يدري في السياسة شيئا.
ثم سمعته بعد ذلك، بعد العدوان الثلاثي، يخطب في مجلس الأمن عند عرض هذا العدوان على مجلس الأمن. فسمعت شخصا عييا غبيا لا يستطيع أن ينطق بحجة، فضلا عن صوته الذي كان يموء به مواء القط المخنوق. خصوصا وقد تلاه في الخطابة آبا إيبان (ممثل إسرائيل في هيئة الأمم) بفصاحته وبلاغغته وصوته الجهوري الأخَّاذ. فامتلأت نفسي حسرة وغمًّا وأنا أسمع المناقشات في مجلس الأمن من الراديو السويسري وهو ينقلها على الهواء مباشرة من نيويورك ابتداء من منتصف الليل.
ألم يخطر ببال عبد الناصر أن يستمع إلى كلام ممثله في مجلس الأمن أثناء عرض قضية العدوان الثلاثي على مصر في أوائل نوفمبر 1956، ويدرك منه مدى عي وعجز هذا المندوب، محمود فوزي؟
لكن يبدو أن هذا العيّ والعجز هما الصفتان المطلوبتان في وزرائه وأعوانه. وإلا فإن محمد حسنين هيكل –وهو من أشدّ الكتّاب مبالغة في تقدير محمود فوزي؛ فهو الذي رشَّح محمود فوزي لرئاسة الوزارة في بداية عهد أنور السادات- أقول إن هيكل يذكر في أحاديثه عن عبد الناصر أن هذا كان في بريوني بيوغسلافيا أثناء زيارة تيتو، وحدث انقلاب 14 تموز (يوليو) في العراق سنة 1958، وأراد أن يتخذ موقفا من هذا الحادث فاستشار محمود فوزي، وكان يصحبه في الزيارة؛ فطلب إمهاله فسحة من الوقت للتفكير، وعاد بعدها ليقول لعبد الناصر: "لقد فكرت طويلا في هذه المسألة، وانتهيت إلى أنه لا يستطيع الفصل فيها غير سيادة الرئيس" – وهكذا تفتقت عبقرية هذا "الدبلوماسي" الكبير عن هذا الحل العظيم وهو أن عبد الناصر هو وحده الذي يستطيع أن يدلي برأي في هذه المسألة!! فما دوره إذن بصفته وزيرا للخارجية و"دبلوماسيا" كبيرا إن كان رئيس الجمهورية وحده هو الذي يستطيع التفكير في المشاكل الدبلوماسية!! إنه إذن مجرد "رقم" (نمرة) يكتمل به عدد الوزراء!
ولا أريد هنا أن أروي الفضائح المالية التي تورط فيها محمود فوزي لما كان قنصلا في القدس عام 1943 في موضوع يتعلق بالملكة الوالدة نازلي والدة فاروق- وقد رواها لي أحمد رمزي القنصل آنذاك في بيروت- ولا تلك التي وقع فيها لما كان ممثلا لمصر في هيئة الأمم من سنة 1947 حتى أواخر سنة 1952، وقد رواها لي أحمد فراج طائع وزير الخارجية في وزارة محمد نجيب الأولى التي شكلت في 8/9/1952.
وقد أطلت أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى محمود فوزي، لأنه نموذج صارخ –إذ ظلَّ وزيرا للخارجية من ديسمبر 1952 حتى توليه رئاسة الوزراة في أول عهد السادات في أخريات سنة 1970، فهو أطول الوزراء عمرا في تولي وزارة الخارجية في تاريخ مصر – أقول: إنه نموذج صارخ لهذا الصنف من الناس الذين يولون أرفع المناصب في الدولة في مصر. وهو ما يفسر بعض أسباب ضعف الأداة الحكومية، وضعف مركز مصر الدولي، وما هي عليه من تخلف في هذا المضمار.
لقد أردت أن نتخذ منه نموذجا لحالة مزمنة أليمة، وإلا فهو في ذاته لا يستحق أي ذكر"وبإذن الله تعالى نواصل متابعة سياط الفيلسوف عبد الرحمن بدوي على ظهور العسكر في المقالات القادمة.

سيرة حياتي 1/237. سيرة حياتي 1/238. سيرة حياتي 1/238، 239. سيرة حياتي 1/239. سيرة حياتي 1/240 – 242.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 21, 2015 09:23

February 20, 2015

هل نقض الأمريكان الاتفاق مع السعودية؟

حين سحبت ‫قطر سفيرها من ‏مصر أصدر الأمين العام لمجلس دول التعاون بيانا تضامنيا مع قطر، بدا وكأن القطريون هم من كتبوه لأنه يتشابه حرفيا تقريبا مع البيان القطري. بعد ساعات قليلة خرج بيان آخر ينفي البيان الأول، مما يدل على حجم الاضطراب في وضع دول الخليج.
الأهم من حجم الاضطراب في الموقف المصري هو قياس وزن الموقف السعودي، فبمجمل الأوضاع يتوقع أن تكون السعودية الآن في إطار التصعيد ضد نظام السيسي لعدة أسباب: التآمر على سلمان لإزاحته من ولاية العهد، التسريبات -التي يُعتقد أنها خرجت بالأساس عن السعودية لتصفية رجال وسياسة عهد عبد الله- وأخيرا: الغزل المتبادل بين الحوثيين والسيسي! واللهجة الجديدة مع الإخوان المسلمين.
لكن يبدو أن بيان النفي يشير إلى حالة الضعف السعودي في التأثير على مواقف دول مجلس التعاون، وفي واقع الحال لن نكتشف على وجه اليقين قدرة الملك الجديد على إحداث تغيير حقيقي قبل شهور، والمتوقع أن السعودية قادمة على زلازل سياسية، لأن رسوخ سياسة ورجال الملك السابق عبر عشرين سنة لا يمكن إزالتها بسهولة!
على أن الأهم في هذه اللحظة هو ما يبدو أنه غروب شمس القوة السعودية كلها، فالحوثي يثبت أقدامه ليكتمل الطوق الشيعي شمالا وشرقا وجنوبا دون قدرة حقيقية على إيقاف هذا الاختناق!
فهل حان الآن غروب شمس آل سعود ليصبحوا نورويجا جديدا كما توقع جون بركنز قبل اثني عشر عاما؟! وهي القراءة التي لا أعرف أحدا شاركه فيها.
أصل القصة أن دولة بنما -في أمريكا اللاتينية، وهي الشريط البري الواصل بين الأمريكتين- أخرجت الرئيس الوطني عمر توريخوس، هذا الرئيس عمل جهده على تحرير قناة بنما -التي تمر في أراضيها لكنها خاضعة لسيطرة الأمريكان- لتعود إلى سلطة الدولة، وإغلاق المدرسة الحربية الأمريكية التي تقع على ضفافها والتي يتخرج فيها العسكريون الذين تبعون أمريكا ليحكموا بلادهم بالاستبداد، كما تتدرب فيها فرق الموت.
خاض عمر توريخوس معارك سياسة مع أمريكا -مع الفارق الضخم في القوة- واستطاع أن يتوصل إلى اتفاق مع كارتر لإعادة القناة وإغلاق المدرسة العسكرية الأمريكية بعد أن هدد أنه ربما يضطر إلى تفجير سد جاتون لتتوقف الملاحة في القناة، وعمل على حفر قناة جديدة بالتعاون مع اليابانيين.
المهم أنه استطاع أن يصل إلى نتائج استقلالية ممتازة، لكن ريجان -الذي خلف كارتر- لم يرق له ما قد كان، فأصر على عودة الأمور كما كانت، بالطبع كان هذا مستحيلا لدى توريخوس، فكانت نهايته بالاغتيال في تفجير طائرته عام 1981.
وصعَّد الأمريكان من بعده عمليهم "نورويجا" والذي كانت له خدمات سابقة جليلة للمخابرات الأمريكية. إلا أن السقف الذي ارتفع به توريخوس لم يسمح لنورويجا أن يهبط به كله دفعة واحدة.. بينما سياسة ريجان لا تسمح بالمناورة ولا حتى للحفاظ على عميلها بل أرادت أن تؤسس لنظام: إذا أمرت أمريكا فلا مجال إلا السمع والطاعة.لم يسمح ريجان بأي مرونة مع نورويجا، استعمل القوة العسكرية، قصف بنما بالطائرات، واختطفوا نورويجا وحاكموه في أمريكا ليصير عبر لكل رئيس دولة يتجرأ على مقاومة أمريكا ولو كان عميلا لهم.
نعود إلى السعودية..
جون بركنز نفسه يقول بأن العقود التي ربطت أمريكا بالسعودية هي صفقة القرن الكبرى، وهي أغرب صفقة في التاريخ، ذلك أن السعوديين تنازلوا عن كل أموالهم وربطوا مصيرهم تماما بالأمريكان ليحصلوا على الحماية الأمريكية.. وأن دولتهم ارتبطت هيكليا وتقنيا في سائر التفاصيل بالأمريكان حتى لم يعد لهم منها فكاك، ثم وضعوا أرباح نفطهم بيد الأمريكان مقابل أن يظلوا في السلطة.. وروى في هذا تفاصيل تثير المرارة.. حتى إن الاستشاريين الأمريكان كانوا يعتبرون السعودية "البقرة التي نستطيع حلبها حتى نبلغ سن التقاعد"
الجديد الذي تفرد به بركنز هو أنه رأى في غزو العراق تغييرا أمريكيا في قواعد اللعبة يشير إلى التخلي عن آل سعود، وذلك مثلما حدث مع عمليهم البنمي نورويجا، ذلك أن سيطرة الأمريكان على نفط العراق تجعلهم لا يحتاجون السعودية بأي معنى من المعاني.. ولذلك فحيث ضمنوا ارتباط السعودية التام بهم، فلا بأس من أن يقايضوا على السعودية نفسها مع لاعب جديد ربما يكون إيران.. وبالطبع لن يستطيع السعوديون فعل شيء لأنهم فقدوا بالفعل كافة أوراق القوة.
هذا الكلام الذي قيل قبل 12 عاما يفسر ذلك التهافت الكامل من الملك السابق على الأمريكان إلى الحد الذي تطوع فيه بمحاربه الإسلاميين في كل مكان (وهم حلفاؤه الطبيعيون، ومخزونه الاستراتيجي، وممثلوا شرعيته التاريخية)، بل وتطوع فيه بدعم الحوثيين (وهم أعداؤه والتهديد المباشر له وذراع عدوه التاريخي: إيران).
لكن الأخطر منه الآن: أنه قد يفسر هذا الضعف السعودي الحالي الذي لا يملك حمل دول مجلس التعاون على موقف يساند قطر ضد السيسي (حليف الحوثي، وأحد أطراف المؤامرة على الملك الحالي لما كان ولي عهد، والصاعد إلى مكانه بأموال السعوديين ودعمهم السياسي والإعلامي)!
وهكذا كما نُقض الاتفاق مع توريخوس فجاءوا بنورويجا لضربه، ثم نقض الاتفاق مع نورويجا ولم تشفع له خدماته فسجن وحوكم باتفاق مع آخر.. يكون قد نقض اتفاق الحماية مع آل سعود واستعملوا في ضرب الإسلاميين والجهاديين ثم جاء الموعد مع اتفاق آخر يعيد تشكيل خريطة السياسة في جزيرة العرب!
ومن ثم فليس أمام آل سعود إلا دعم الإسلاميين والجهاديين في اليمن وسوريا والعراق وفي الداخل لكسر الطوق الشيعي وإضعاف أذرعه واستعادة بعض أوراق القوة التي تبقي على الاتفاق القديم.. لكن السؤال هنا: هل يستطيعون حقا؟ أم أن الوقت قد فات.. وجاء وقت الفتن والمعارك والملاحم؟!!

نشر في رصد
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 20, 2015 23:09

موجز تاريخ الدولة الأموية (4)

اقرأ أولاً: موجز تاريخ الدولة الأموية (1) موجز تاريخ الدولة الأموية (2) موجز تاريخ الدولة الأموية (3)
ساد الهدوء بشكل عامٍّ خلال عهد سليمان بن عبد الملك، وكان سليمان ممن يستعين بالعلماء وأهل الصلاح ويُوَلِّيهم، ومن أبرز مستشاريه رجاء بن حيوة وعمر بن عبد العزيز، وكانت سياسته قائمة على الموادعة والملاينة، ووصل آل البيت وآل الزبير، وكان على خلاف مع الحجاج بن يوسف، الذي تمنى أن لا يمكن الله سليمان منه وقد كان؛ إذ مات الحجاج قبل ولاية سليمان، غير أن عهد سليمان شهد مأساة أخرى.
رفض الفاتح العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي البيعة لسليمان، وخشيه على نفسه؛ فقد كان قتيبة ممن دعم عزل سليمان من ولاية العهد، فأعلن ثورة على سليمان بن عبد الملك؛ لكن لم يستطع أن يجمع مَنْ معه من الجيش على رأيه، وتطوَّرت الأحداث حتى قُتل قتيبة بن مسلم في هذا الخطأ القاتل والزلة التي أنهى بها حياة الأمجاد الواسعة والمآثر العظيمة، فكم دخل الإسلام بلادًا وقلوبًا بفضل قتيبة بن مسلم، ولقد كان هذا سببًا إضافيًّا ليشتد سليمان بن عبد الملك في عزل رجال الحجاج بن يوسف الثقفي، وتولية مَنْ كان الحجاج قد ظلمهم، أو لهم عنده ثأر، فولَّى يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الذي تقصى رجال الحجاج بالانتقام والعزل؛ ومنهم محمد بن القاسم فاتح السند وأحد أكبر الفاتحين في التاريخ الإسلامي، الذي سُجن وعُذِّب، وثمة روايات -أيضًا- تُفيد بأن موسى بن نصير لما حضر من الأندلس إلى دمشق حبسه وغرمه أموالًا، وقيل: عذبه -أيضًا- حتى ماتلكن الفتوح استمرَّت، بل قام سليمان بمحاولة جريئة لفتح القسطنطينية، فأرسل جيشًا كبيرًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، وتعامل مع هذا الفتح وكأنه قضية حياته؛ فاتخذ مدينة دابق في شمال الشام مركز عمليات يُتابع منه الوضع، وأقسم ألا يعود حتى يفتح القسطنطينية أو يتوفَّاه الله، وهو ما كان، إذ توفَّاه الله (صفر 99هـ) بعد ثلاث سنوات من الخلافة، وكان من مآثره أنه عهد بالخلافة من بعده لأفضل خليفة في الدولة الأموية؛ وهو عمر بن عبد العزيز.
ولأجل علمه أن ولاية عمر لن ترضي الأسرة المروانية؛ فعمل على التحايل بأن كتب الولاية بالعهد في رسالة هذا نصها: «هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوه، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم». وأمر بأن يُبايَع على ما فيها دون أن يعلم أحد بما فيها، وبهذا تمَّ الأمر، ولم يخلُ -مع ذلك- من صعوبات واعتراضات.
كان عمر بن عبد العزيز جوهرة الخلفاء في بني أمية، جدَّد سيرة الخلفاء الراشدين، وأقام العدل في أنحاء البلاد، واعتبره العلماء مجدَّد المائة الأولى الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يبعثهم لتجديد أمر الدين، وضرب المثال في الزهد والصلاح، والحرص على مصالح المسلمين، وكان من العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد في الدين، وجمع خلال الخير؛ حتى كأنه أكثر من شخص واحد؛ بل لقد قال فيه الإمام الذهبي مؤرِّخ الإسلام كلمة عجيبة: «يُعَدُّ في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري»بدأ عمر خلافته بالتخلِّي عن البيعة التي بويعت له، وترك للناس تقديم مَنْ يرضونه في الخطبة التي خطبها أول عودته إلى دمشق، ولكن الناس تمسَّكوا به؛ لما يعرفونه عن شخصه وسيرته وعلمه، ولما رأوا من زهده في الخلافة، فبدأ عمر خلافته بردِّ المظالم، وخرج من كل أملاكه التي آلت إليه بالوراثة أو الهدية، مما كان يحوطها من شبهة ظلم، ثم ثَنَّى بردِّ المظالم التي اقترفها بنو أمية من الناس، ثم عزل الظالمين من الولاة، وولَّى أهل الصلاح، ورفع المظالم عن الموالي والعبيد، وما كان قد وقع من مظالم على أهل الذمة، بل وأمر الجيش الفاتح بعد دخوله سمرقند أن يخرج منها؛ بعد وصول شكوى أهل سمرقند بأن الجيش لم يدخل مدينتهم دخولًا شرعيًّا، وبالفعل كاد القرار ينفذ لولا أن تنازل أهل سمرقند عن شكواهم ورضوا بالفتح وبالمسلمين، ولا يتسع المقام لتتبع مآثره في هذه العجالة.
وكانت سياسة عمر التوقُّف في الفتوح، والاكتفاء بما وصل المسلمون إليه؛ خشية على المسلمين من التوغُّل، الذي يُوقعهم في كمائن الأعداء بعد طول انقطاعهم عن مراكز الإمداد في البلاد الإسلامية، فأعاد جيش القسطنطينية الذي تحول الموقف العسكري إلى غير صالحه، وراسل السمح بن مالك الخولاني -والي الأندلس- بألاَّ يتوغَّل في بلاد فرنسا، وأرسل بهذا إلى عبد الرحمن بن نعيم الغامدي -والي خراسان- إلَّا يتوغَّل في بلاد ما وراء النهروفي سنتين فقط هما فترة عمر بن عبد العزيز في الخلافة تمَّت إنجازات إدارية ومالية ودعوية وسياسية وحربية وقضائية لا تكاد تصدَّق، شمولًا وتنوُّعًا واتِّساعًا، ثم اختلفت الروايات هل مات ميتة طبيعية، أم مات بأثر السم الذي وضعه له أحد الخدم الذين دفعهم بعض بنو أمية الموتورين على عمر؟ ومهما يكن من أمر فقد رحل عمر بن عبد العزيز إلى جوار ربه في رجب من عام 101هـ، وهو في الأربعين من عمره .. فترك سيرة خالدة لا تطويها الأيام، ولا تُنسى عبر القرون والأجيال.
تولَّى بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك، وهي اللحظة التي نبدأ منها المقال القادم بإذن الله تعالى.
نشر في ساسة بوست

وإن كانت هناك روايات أخرى لا تذكر شيئًا عن هذه النهاية المأساوية لموسى بن نصير، بل تذكر أنه مات موتًا طبيعيًّا بعد حجه وهو في المدينة المنورة، والتحقيق المتأني يحتاج بسطًا ليس هذا مكانه. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/90. بلاد ما وراء النهر، تعني البلاد الواقعة وراء نهر جيحون، وهو يسمى الآن نهر "أموداريا"، وكان قديما جدا يسمى أكسوس Oxus، والذي تنبع أصوله من جبال طاجيكستان وشمال أفغانستان.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 20, 2015 10:13

February 17, 2015

تزكية د. مازن مطبقاني

شرفني الأستاذ الدكتور مازن مطبقاني بكتابة تقديم عزيز وغال على نفسي لكتابي
"نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب"                                                                                                          (يصدر قريبا إن شاء الله تعالى) .. وهو من أحب ما تلقيته من ثناء حتى الآن
هذا نصه:
تقديم
كتاب تمنيت لو كتبته، ولكن شاء الله أن يكون السبق لأخي الدكتور محمد إلهامي الذي أشعر بتقصيري عن معرفته قبل أن يغزونا تويتر (التغريد) ولكن عذري أنني طلّقت التاريخ وطلّقني حين رأيت أنه لا يدخل قسم التاريخ إلّا النطيحة والمتردية والذي لا يجد قبولاً في مكان آخر ، والأمر الآخر أنني عشت سنوات في قسم التاريخ أعاني من النظرة المادية  لأن معظم أساتذتي ممن تخرج في الجامعات الأجنبية في أمريكا أو بريطانيا أو غيرها عدا أستاذي الدكتور جمال عبد الهادي مسعود يحفظه الله الذي كان مختلفاً وجعلنا نشعر أن الإسلام يحكم على التاريخ كما يحكم على العلوم كلها وأن له منهج مميز في دراسته، وعزفت عن التاريخ وبخاصة المعاصر لأن الخطوط الحمراء أحياناً تفوق الخطوط الأخرى فلا "ينفع تكلم بحث لا نفاد له" كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
توجهت إلى الاستشراق وعشت سنوات أرى الجهود الكبيرة جداً في الاهتمام بالعالم العربي بل رأيت مكتبات في جامعات أمريكية وبريطانية تتوفر على كتب ومجلات ووثائق لا توجد في عالمنا العربي. لفت هذا انتباهي إلى أننا ينبغي أن ندرسهم وأكّد ذلك لي أكثر من موقف أو مرجع ففي كتاب رودي بارت عن الدراسات العربية والإسلامية تحدث مستشرق إلى باحث مسلم كانا يحضران مؤتمراً فقال له نحن ندرسكم فلماذا لا يكون عندكم دراسات للغرب؟ وفي المرة الثانية كان جون اسبوزيتو يحاضر في الجنادرية فقال: لدي عشرات الكتب والمقالات عن الإسلام والمسلمين فكم من المسلمين من لديه اهتمام حقيقي بالنصرانية أو بالنصارى؟
وربما لفت انتباهي لدراسة الغرب أنني كنت طالباً في البعثة الدراسية في أمريكا في الفترة من 1388-1393ه(1968-1973م) وسكنت مع أسرتين إحداهما كانت أسرة منصّر عاش في إيران أكثر من عشر سنوات والأسرة الثانية عالم في المحافظة على البيئة، وقرأت بعض كتابات إيرك فروم Erich Fromm وشاهدته على التلفاز فعرفت أننا بحاجة لمعرفتهم معرفة وثيقة ولكن أنّي لي في تلك السن أن أعرف الطريق إلى هذه الدراسة.
وها أنا اليوم أقرأ كتاباً كاملاً في التأصيل الإسلامي لعلم الاستغراب، وأعجبني تعليق الدكتور عز الدين عمر موسى على محاضرتي عن إنشاء الدراسات الإقليمية في الجامعات السعودية: "لقد كنّا أمة ذات توق معرفي وحب للعلم فنشأت لدينا اهتمامات بالعالم كلّه حتى عهد صلاح الدين الأيوبي الذي كتب وزيره كتاب "الاعتبار" ولما خفت التوق المعرفي أو أصبح لدينا كبت معرفي وجهل وتجهيل جهلنا أنفسنا ولم نحاول أن نعرف غيرنا.
هذا الكتاب جاء ليس ليملأ فراغاً وهي عبارة لا أحبها وإنما جاء لينبه ويبصّر بالطريق الذي ينبغي أن نسلكه لدراسة الغرب وبالتالي دراسة العالم فمن قال إننا بحاجة لدراسة الغرب ولسنا بحاجة لدراسة الهند أو الصين أو كوريا أو ماليزيا أو تركيا؟ نعم نحن بحاجة لكل هذه الدراسات التي اهتمت بها دول العالم أجمع فقد رصدت أكثر من عشرين مركزاً في الصين للدراسات الأمريكية.
والكتاب رائع رائع  ولا أريد أن أضيف ما يمكن أن يعكّر صفو القارئ  وهو يمخر عبابه ويعب من أطايبه ولكني أكثر من ذلك أرجو أن يصل إلى أيدي المسؤولين لعلهم يتبنوا مثل هذه الدراسات أو يتنبه له أصحاب المال المخلصين لدعم هذه الدراسات
ولا بد أن يصحب دراسة الغرب حركة ترجمة واسعة لما أصدر بعض عقلاء الغرب وحكمائه منذ إريك فروم في القرن الماضي إلى فوكوياما المعاصر إلى جون هيور وغيرهم وهم ليسوا قلة فهم المنذرين للغرب من الانحدار والتفسخ والانهيار، كما أن من الخطوات العملية أن نتعلم من تجارب الأمم الأخرى في دراسة الغرب وفي الدراسات الإقليمية حتى تكون بدايتنا على أسس علمية منطقية.

أسأل الله أن يوفق المؤلف ويتقبل جهده ويجعله في موازين حسناته والحمد لله رب العالمين 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 17, 2015 00:57

February 15, 2015

تزكية د. عطية عدلان



"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد
فإنني قد التقيت بالأستاذ المفكر والمؤرخ محمد إلهامي، وتحاورت معه عدة مرات، وخالطته في كثير من المواقف والأعمال..
وهو في حقيقة الأمر صاحب فكر رصين وقلم متميز ومعرفة واعية بالواقع والتاريخ، ويعتبر من الكفاءات الفكرية والعلمية النادرة في أوساطنا الإسلامية ..
الدكتور عطية عدلان"
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 15, 2015 03:54

February 14, 2015

سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (1)

في ذكرى ميلاده (فبراير 1917) أي منذ ثمانية وتسعين عاما، يتذكر المرء د. عبد الرحمن بدوي، الفيلسوف المشهور والذي ختم حياته بالعودة إلى رحاب الإسلام، والندم على ما كان منه أيام اعتناق الفلسفة وازدراء المتدينين، لكن هذه العودة لم تطل فلم تثمر كثيرا من المؤلفات، آخرها كتاب السيرة النبوية الذي كان يكتبه بالفرنسية ومات قبل أن يتمه.
ولقد كان بدوي ملء السمع والبصر، ولولا ثلاثة أمور لذَهَبَ ذكرُه بذكر طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما من "أصنام" الثقافة العربية، هي: حدة لسانه وصراحته الجافة، ثم هذه العودة إلى الإسلام والتي ختم بها حياته، ثم –وهذا ربما السبب الأقوى- قسوته الطاغية على الاستبداد والعسكر في مصر. ولهذا راج في مصر المثقفون الذي دخلوا "حظيرة المثقفين" –والتعبير لوزير ثقافة مبارك فاروق حسني- وهم الذين اجتمع فيهم: لعق الأحذية والطعن في الدين وكثير من الضعف العلمي.
أنهي بدوي كتابة مذكراته في مارس 1988، ولكنه توقف فيها عند سيرته في منتصف السبعينات، وصدرت في جزئين حافليْن، ونحن هنا نستثمر ذكراه لنأخذ من مذكراته بعض آرائه كشاهد عيان مخضرم على عصر العسكر، فقد عايش الرجل وناضل –بوجه من الوجوه- في أيام الملكية، ثم جاء ليل العسكر وهو في نضجه، وما إن تمكن حتى خرج من مصر التي صارت خانقة، ولم يعد إلا قبل أيام من وفاته رحمه الله.
قال عبد الرحمن بدوي:
1. "لم يفعلوا شيئا، بل خربوا ما كان قائما من قبل، ولم يستغلوا أرضا جديدة إلا في الأكاذيب والوعود الزائفة"2. "لكن المستأصلين والطفيليين والحاقدين ومن لفَّ لفَّهم من المنافقين والدجالين جاءوا في سنة 1952 وما تلاها فصبّوا سخائمهم المملوءة بالجحود والعقوق والتي ولَّدها الدَّخَل الكظيم على هذه الصفوة من أعيان الريف، وحرروهم من ممتلكاتهم وحرموا البلاد من الانتقاع بتجاربهم. فماذا كانت النتيجة؟ انهار الإنتاج الزراعي، وتألب الناس بعضهم على بعض، وصارت للوشاية والوقيعة اليد العليا، وتحول الكل إلى فقراء ومعوزين، وكان ما أطلق عليه آنذاك: تأميم (= تعميم) الفقر"3. "ما أتعش ما صارت إليه حال كل المكتبات ذات الكتب الأجنبية في مصر! لقد صارت في حكم المعدومة أو تكاد. وهو مقياس دقيق لما صارت إليه حال الثقافة بعامة في مصر الآن. ولا يقولن أحد إن السبب في ذلك هو زوال الجاليات الأجنبية من مصر، فهذا فقط واحد من عدة أسباب، لأن المصريين الذين كانوا يترددون على هذه المكتبات الأجنبية لا يقل كثيرا عن عدد الأجانب. كان هذا وعدد المتعلمين في مصر لا يزيد عن 20% وعدد السكان 14 مليونا، بينما المتعلمون الآن 60% وعدد السكان 48 مليونا! وهذه كلها وقائع مادية وأرقام تدمغ كل مكابر، وتفضح أمام الملأ أولئك المسئولين عن هذه المحنة الكبرى التي نعانيها منذ ثلاثين عاما ونيفا"4. "العبث الذي نراه مهيمنا في مصر منذ عشرات السنين في أمر جوائز الدولة التقديرية وتولي المناصب العالية واقتسام العضوية في الهيئات العلمية – مما أهدر قيمة كل جائزة أو عضوية، وجعل من العار على صاحب الفضل أن ينالها. وما على المرء إلا أن يتصفح أسماء الذين حصلوا على جائزة الدولة التقديرية في مصر منذ سنة 1965 حتى اليوم ليتبين أنهم أقل من كثير غيرهم استحقاقا لهذه الجائزة، وأن معظمهم لم ينتجوا شيئا يذكر، بل كان العقم والجهل معا هما الصفتين الغالبتين عليهم... لهذا تحولت جائزة الدولة التقديرية من تقدير للعلم إلى إهدار لكل قيمة عليمة. وبدلا من أن تكون حافزا للإنتاج العلمي الممتاز، صارت وسيلة وفرصة للتزلف والنفاق والعمل في خدمة مخابرات الدولة، في خدمة السلطة الحاكمة الظالمة وتأييد مظالمها وجرائمها ومخازيها"5. "وبهذه المناسبة أذكر واقعة تدل على أحط درجات النفاق لدى بعض الأساتذة الجامعيين الذين يتولون الترشيح للجائزة التقديرية. كان ذلك في اجتماع للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في خريف سنة 1962، وكان جمال عبد الناصر قبل ذلك ببضعة أشهر قد أصدر ما دعاه "الميثاق الوطني". وإذا بذلك الأستاذ الجامعي يقول ونحن بصدد الترشيح لنيل الجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية: "الأمر لا يحتاج إلى أي تفكير؛ إنه أوضح من نور الشمس؛ إن علينا أن نرشح صاحب الميثاق الوطني". واستولت الدهشة على الحاضرين، وأُحرج مقرر اللجنة د. أبو العلا عفيفي فتوجه إلى الأعضاء يسألهم الرأي في هذا الاقتراح. وفي تأفف وحرج ظاهر قال: إن الاقتراح جدير بالنظر. وتلاه زكي نجيب محمود، فأيَّد الاقتراح، ولكن بفتور. كذلك فعل آخران غيره. وبقيت أنا صامتا. فقال مقرر اللجنة: لماذا تسكت؟ نحن بانتظار رأيك. فقلت في حدة: "أنا مندهش من هذا الاقتراح! فكيف يتجرأ صاحب الاقتراح (د. محمد ثابت الفندي) على أن يتطاول على رئيس الجمهورية فيزج به في التنافس على هذه الجائزة؟! إن هذا تطاول على مركز رئيس الجمهورية! فأسرع صاحب الاقتراح بسحب اقتراحه، وارتاح سائر الأعضاء الجبناء لأن ردي هذا خلصهم من الورطة التي انزلقوا إليها. وبهذه الحيلة الماكرة أفسدت على صاحب الاقتراح ما كان يتطلع إليه من ورائه وهو أن يكافأ عنه بتعيينه مديرا لجامعة الإسكندرية، بعد أن استنفد كل وسائل النفاق في سبيل ذلك دون جدوى. ولم يكن قصدي طبعا الدفاع عن مقام رئيس الجمهورية، بل ضرب النفاق بأنجع سلاح"(قلتُ –إلهامي- انظر كيف كان يُدفع النفاق بنوع من النفاق أيضا، ما يدلك على سطوة المجرم وقسوته وأن أحدا لا يملك أن يعترض تلميحا ولو على ترشيحه لجائزة ينافس فيها العلماء الذين لا يبلغ علمه علم شيء من تلاميذ أحدهم)
6. "لم يكن مدير البعثات (الطلابية في وزارة التربية والتعليم) هذا (يوسف سيد) يحسن من عمله شيئا أبدا، إذ كانت جميع رسائله إليَّ –وقطعا إلى غيري من مديري مكاتب البعثات- وريقات مطبوعة سلفا على الاستنسل وليس فيها غير سطرين اثنين هما: "مرسل إليكم طيه رزمة من الأوراق الملحقة للإحاطة وإجراء اللازم". وكان عليَّ أن أفتش طويلا في هذه الأوراق التي هي مجرد استمارات مطبوعة كتبت فيها بيانات من الطالب كي أعرف ما هو المطلوب، لأنه لا مدير البعثات ولا سائر موظفي الإدارة قد كلفوا أنفسهم قراءة هذه الأوراق وتحديد المطلوب منها. ولهذا كتبت ألقب مدير إدارة البعثات بلقب "مدير الإحاطة وإجراء اللازم". ومع ذلك جددوا له ثلاث أو أربع مرات بعد بلوغ سن التقاعد. فواعجبا لما يجري في الإدارات الحكومية في مصر! إنه الإبقاء على التافه الهزيل، وإبعاد المجتهد الكفء. ومن هنا كانت سوق الجهل والتفاهة في الحكومة المصرية رائجة؛ بينما أولو الاجتهاد والعلم والكفاءة مبعدون مخذلون"في المقال القادم إن شاء الله نواصل رصد سياط الفيلسوف عبد الرحمن بدوي على ظهور العسكر، وكيف رصد لحظات تأسيس حكم العسكر، ولحظات فاصلة كالعدوان الثلاثي وما بعده.
نشر في عربي 21 

سيرة حياتي 1/9. سيرة حياتي 1/16. سيرة حياتي 1/38، 39. سيرة حياتي 1/228. سيرة حياتي 1/228، 229. سيرة حياتي 1/235، 236.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2015 14:51