محمد إلهامي's Blog, page 68

January 24, 2015

نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج2)

ذكرنا في المقال الماضي ما نعنيه بالرؤية الإسلامية لعلم الاستغراب، وخلصنا إلى أن ما نرضاه من تعريف المستغرب هو: "من له دراسات أصيلة في الغرب -أو موضوع متعلق به- على قاعدة من الاعتزاز الذاتي بنفسه وحضارته الإسلامية".
فأما وجود الدراسات فدليل على الثقة بالنفس والإقدام على التقييم وهو يناقض الهزيمة النفسية، وأما الأصالة فلئلا يدخل فيها الخواطر والمقالات ومذكرات السفر والسياحة، وأما تعلقها بالغرب فهذا هو موضوع العلم، وأما الاعتزاز بنفسه فآية ذلك ما يظهر في معالجته لنقاط الاشتباك والفوارق المؤثرة والموضوعات الشائكة مثل: الدين والدولة، وسؤال التقدم والتخلف، والإسلام والعلمانية، وحدود الحرية... ونحو هذا.
وهذا التعريف يثير بضع أسئلة:
الأول: هل يمكن لغير المسلم أن يدخل تحت هذا التعريف وهو لا يؤمن بالإسلام دينا؟ والجواب: إن الإسلام يمثل الذات الحضارية للمسلم وغير المسلم، وفي العالم الإسلامي كثير من غير المسلمين يعتزون بانتمائهم الحضاري للإسلام، وقد تشربوا عبر هذه القرون معظم الأعراف والعادات الإسلامية حتى صار تكوينهم النفسي والفكري إسلاميا، وإن لم يعتنقوا الإسلام دينا. فمن هنا لا إشكال في أن يحقق غير المسلم هذا التعريف للمستغرب.
الثاني: ما حال من تنقل بين المذاهب والأفكار، وله إنتاج مختلف الميول والتوجهات عن الغرب؟ والجواب: الاستفادة من إنتاجه كله أمر قائم في كل وقت، بل نحن نطرح أن يُستفاد في دراسة الغرب مما كتبه غربيون، ولكن يُنظَر في إنتاجه، ثم لا يُعتبر من "الاستغراب" إلا ما كتبه إذ كان على منهج دراسة الغرب برؤية ذاتية حضارية إسلامية، فأما غير هذا فلا يحقق الشرط.
الثالث: ما حال من يُنازَع في أن منهجه إسلامي، فهو يدعي هذا لنفسه ولا يُقِّره غيره؟ والجواب: أن حدَّ المنهج هو حد الإسلام نفسه، فما دام الباحث لا يعلن انتماء آخر له غير الإسلام كالعلمانية -بفروعها: الماركسية، الليبرالية، اليسارية.. إلخ- فالأصل أنه إسلامي المنهج، إلا أن يعلن ما ينقض أصلا من أصول الشريعة أو يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة بلا تأويل أو بتأويل غير سائغ. ولا ريب أن القرائن والأحوال ترجح ما قد يخفى ويقع فيه اللبس والتنازع.
وعليه فإن حدَّ الاستغراب كما نراه هو "دراسة الغرب -أو موضوع متعلق به- دراسة أصيلة، انطلاقا من المرجعية الإسلامية"ولا نرى بأسا في أن يكون تعريف الاستغراب هو مقلوب تعريف الاستشراق -وللاستشراق تعريفات كثيرة مشتهرة- من الشرق إلى الغرب، مع إضافة قيد "المرجعية الإسلامية"، لكن التعريفات تدور حول هذا المعنى.
وتعدُّ دعوة المستشرق الألماني رودي بارت أول ما وجدناه صريحا في الدعوة إلى علم الاستغرابوأشار د. أحمد سمايلوفيتش في كتابه القيم "فلسفة الاستشراق"ثم، وبعد حوالي خمسة عشر عاما، جاء كتاب حسن حنفي "مقدمة في علم الاستغراب"، إلا أن الكتاب -لكونه يمسّ حاجة قائمة، ولكون صاحبه من النخبة المشهورة- قد حظي باهتمام كبير، ومن بعد هذا الكتاب صار الموضوع يُثار على نطاق واسع في الملتقيات والندوات والمقالات في المجلات العلمية والصحافة السيارة، حتى صار طبيعيا ومعتادا أن تقرأ هذه الدعوة في توصيات كل مؤتمر أو في كلمته الافتتاحية أو بحد أدنى في أحد الأوراق المقدمة إليه.
لكن هذه الرغبة لم تتحول إلى خطط عملية بعد، رغم أن بعض الأساتذة بذل مجهودا في وضع خطة لعلم الاستغراب منذ وقت مبكر، منهم د. السيد محمد الشاهد الذي قدم خطته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (1989م)، ونشر موجزًا لها في صحيفة "مرآة الجامعة"، ثم في مجلة (المسلمون)وفي كل ما اطلعنا عليه من هذه المقالات والمؤتمرات لا يخرج الكلام عن ضرورة دراسة الغرب بالمعنى المتبادر إلى الذهن، إلا أن حسن حنفي حاول توسيع العلم فقال بأن علم الاستغراب ليس قاصرا على دراسة الغرب، بل هو "في حقيقة الأمر تحليل الثقافة الوطنية ووصف تفاعل الجبهات الثلاثة فيها: التراث القديم، التراث الغربي، الواقع المباشر"ومن هنا نبدأ في إلقاء الضوء على المحاولات الأولى لدراسة الغرب، والتي يجوز أن نسميها بواكير الاستغراب أو طلائع الاستغراب أو الاستغراب المبكر.
نشر في نون بوست

هذا التعريف هو أخصر ما استطعناه مما يعبر عن المعنى الذي أردناه، مع الاعتراف بأن وضع تعريف جامع مانع يكاد يكون من مستحيلات العلوم الإنسانية، فكيف إذا كان التعريف لعلم لم ينشأ بعد؟! رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص13. وقد أشار رودي بارت إلى دعوة محمد رحباء التي جاءت في مؤتمر العالم الإسلامي (لاهور: ديسمبر 1957، يناير 1958م) لدراسة الغرب دراسة موضوعية، ولكن مجرد وجود الدعوة مبذول من قبل ذلك بكثير كما سنرى في المبحث التالي "الرواد الأوائل"، بينما تعد أولية بارت في تسميته لهذه الدراسة بـ "علم الاستغراب". وأصل الكتاب رسالة دكتوراة نوقشت عام 1974م، بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر. د. أحمد سمايلوفيتش: فلسفة الاستشراق ص36، 37. د. السيد محمد الشاهد، مرآة الجامعة بتاريخ 20 جمادى الأولى 1410هـ (19/12/1989م). ود. السيد محمد الشاهد، جريدة المسلمون بتاريخ 11- 17 رمضان 1410هـ، 6- 12 أبريل 1990م. (نقلا عن: د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص14) حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص55.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 24, 2015 08:51

January 22, 2015

موجز تاريخ خلافة علي بن أبي طالب

هذا المقال ختام سلسلة نستعرض فيها تاريخ حقبة الخلافة الراشدة والخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.. وهذا تمامها بالحديث عن خلافة سيدنا ومولانا وإمامنا علي بن أبي طالب.
لقد تولَّى الخلافة في وقت عصيب مضطرب؛ حيث صارت العاصمة فعليًّا تحت أيدي أهل الفتنة، والأمور قد خرجت من أيدي كبار الصحابة؛ فكانت المهمَّة الأولى إعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة.
ولم يُخالف علي - رضي الله عنه - الخلفاء الراشدين من قبله في تأصيل الأسس التي سيحكم بها؛ فالمرجعية للقرآن والسُّنَّة، والخليفة اختيار من الأُمَّة، وهو وكيل عن الناس في إدارة أمورهم، وللأُمَّة أن تخالفه وتقاوم انحرافه عن المنهج، والحكم يكون بالشورى، والعدل بين الناس هو واجب الخليفة.
وقد واصلت مؤسَّسات الدولة نموَّها وتطوُّرها في عهد الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، لا سيما وقد كان هو نفسه أحد كبار فقهاء الصحابة، وله اجتهادات وقرارات ضبطت مسار الأحكام والإجراءات ونموَّ مؤسَّسات الدولة في الاقتصاد والقضاء والإدارة وغيرها.
لكن الذي غلب على تاريخ أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - هو الأزمة السياسية الهائلة التي بدأت في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وكانت أولى بوادر هذه الأزمة هي الرغبة القوية في سرعة القصاص من قتلة عثمان، وهو ما كان مستحيلًا في هذه اللحظات الأولى من الحكم، والأمر لم يستقرّ بعدُ، وكثير من أهل الفتنة ما زالوا موجودين في المدينة، غير أن وجهة النظر الأخرى هي أن القصاص منهم ممكن ولو تكلَّف حربًا شاملة، وأن هذا الواجب مُقَدَّم على كل ما عداه، بل وصل الأمر بالبعض -وهو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أن لا يبايع لعلي ولا يعترف بشرعيته حتى يأخذ القصاص من قتلة عثمان، وهو يطالب بهذا لأنه ولي الدم لا رفضًا لعلي ولا انتقاصًا منه؛ فالوضع كما يقول ابن حزم: «لم ينكر معاوية قطُّ فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أدَّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان - رضي الله عنه - على البيعة، ورأى نفسه أحقَّ بطلب دم عثمان»كذلك اجتهد فريق من الصحابة على رأسهم أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – ومعها اثنان من كبار الصحابة المبشَّرين بالجنة؛ وهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وكان اجتهادهم أن يستعينوا بأهل الأمصار خارج المدينة في الاجتماع مع علي - رضي الله عنه -؛ لأخذ القصاص من قتلة عثمان، وتكوين حشد شعبي ضاغط يجعل نبذهم والقصاص منهم أمرًا سهلًا حين تقف الأُمَّة كلها وراء علي فيه.
وانضمَّ كل راغب في تأديب أهل الفتنة والقصاص لعثمان إلى هذه الحركة وهذا الجيش بزعامة عائشة وطلحة والزبير - رضي الله عنهم -، وتوجَّهوا نحو البصرة -حيث كانت العراق من معاقل أولئك المجرمين- وسيطروا عليها، ونشبت حرب بينهم وبين بعض أهل الفتنة وانتصروا عليهم، وبدأت الأمور تتفلَّت تمامًا من يد أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وهو ما لم يكن في الإمكان تركه أو السكوت عنه؛ ففيه انهيار الخلافة ودولة الإسلام كلها.
لا يُفْصِح السرد الموجز عن المشكلة وتعقُّدها وتفاصيلها؛ وقد كانت معقَّدة بحقٍّ إلى حدِّ أن خيرة عقول الأُمَّة ونفوسها -وهم الصحابة- اختلفوا في الأمر؛ حتى وقع بينهم قتال، لشدَّة ما كانت وجهات النظر تعتمد على منطق وجيه لدى كل الأطراف؛ حتى اعتقد جميع مَنْ شارك في الخلاف أن معه الحقَّ الكامل الذي لا يسعه أن يتنازل عنه أو أن يُفَرِّط فيه، واعتزل بعض الصحابة هذه الفتنة؛ إذ لم يتبيَّن لهم وجه الحقِّ فيها، على الرغم من أنهم عبقريات عقلية نادرة، ونفوس زكية كبيرة؛ مثل سعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمر .. وغيرهم.
لقد جمع جيش عائشة وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - كلَّ مَنْ رأى أن القصاص من قتلة عثمان واجب عاجل، وكلَّ مَنْ حسب أنه قد فرَّط وتخلَّى عن عثمان ولم يقف مدافعًا عنه كما يجب، فقرَّر الخليفة نقل مقرِّ الحكم إلى الكوفة، وخرج بقوَّاته إليها، وانضمَّ إليه كلُّ مَنْ رأى الوقوف مع الخليفة علي، وأنه الأحق بإدارة الدولة وترتيب أمر القصاص ومراعاة الأولويات، وإلاَّ سينهار كيان الخلافة، ويكون لكلِّ مَنْ رأى الحقَّ في جانب أن يتجاوز الخليفة الشرعي في إقامته، بينما ظلَّ قسم ثالث من الناس في حيرة بين الموقفين وآثر الاعتزال في هذه الفتنة.
دارت حوارات وتفاهمات بين جانب علي وجانب عائشة وطلحة والزبير، ونجحت سفارة القعقاع بن عمرو التميمي في توصيل وجهات النظر الواضحة من علي - رضي الله عنه - إلى عائشة وطلحة والزبير - رضي الله عنهم -، وكان قد ثبت أن مسار الطائفة الثانية لم يُؤَدِّ إلى حلِّ المشكلة؛ بل زاد في تعقُّدها بعد أن تعصَّبت بعض القبائل لأبنائها ممن قتلوا عثمان؛ مما أشار إلى زيادة الاشتعال، وهو ما كان يُثبت صحَّة رأي علي - رضي الله عنه -، وهنا تمَّ الاتفاق بين الفريقين، فعمَّ الهدوء، وبات الفريقان في أهدأ حال وفي أنعم ليلة.
مثل هذا الاتفاق كان يمثِّل ضربة قوية لأصحاب الفتنة وخططهم، ولا سيما لمَنْ شارك في قتل عثمان الذين علموا أن الخلاف بين الفريقين ليس إلَّا مسألة وقت وأولويات، فتحرَّكوا في سواد الليل، واندسوا بين الفريقين، وقتلوا من الفريقين ثم صاحوا: غدر القوم. فاضطربت الأمور وذهبت إلى الاشتعال، وأهل الفتنة يُشعلونها حتى خرج الوضع عن السيطرة، وانفلتت الأحوال تمامًا، ولم يَعُدْ علي ومَنْ معه يُسيطرون على معسكرهم، وكذلك لم تَعُدْ عائشة وطلحة والزبير ومَنْ معهم يُسيطرون على معسكرهم، وضاعت أصوات العقلاء بين الأشلاء والدماء، ونشبت أول معركة إسلامية - إسلامية في التاريخ الإسلامي (الجمعة: 16 من جمادى الآخرة 36هـ) .. تلك هي معركة الجمل!
وقد سميت معركة الجمل لأن عائشة - رضي الله عنها - كانت في هودج على جمل، وكان هذا الهودج يمثِّل «لواء المعركة» وعنوانها ورمزها، فما دام ظلَّ قائمًا كان القتال دائرًا عليه ملتهبًا حوله؛ فريقُ الفتنة يُريد قتل عائشة لتنتهي المعركة لصالحهم، والفريق الآخر يقتتل لئلا تُقتل أم المؤمنين وحبيبة رسول الله وأفقه نساء العالمين، ولم يَعُدْ من حلٍّ إلَّا أنَّ أرسل علي فرقة خاصة من جيشه قتلت هذا الجمل، وأخرجت عائشة من بين الحرب في حراستها، وعندئذٍ فقط انتهت المعركة، التي أسفرت عن مقتل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، ومئات القتلى من الفريقين، بعد أن فشلت كل جهود العقلاء في الطائفتين في وقف القتال وإنهائه.
أسفرت معركة الجمل عن اجتماع الأُمَّة خلف علي - رضي الله عنه -، وإن كان الثمن فادحًا، ما عدا تلك الأزمة الأصيلة التي نشبت أولًا؛ وهي امتناع معاوية بن أبي سفيان عن البيعة إلَّا بعد القصاص لعثمان - رضي الله عنه -.
كان معاوية - رضي الله عنه - واليًا على الشام منذ عهد عمر بن الخطاب، وكان سياسيًّا فذًّا؛ ذكاء وحكمة وحلمًا؛ حتى تعلَّق به أهل الشام وأحبُّوه حبًّا جمًّا، وأهل الشام منذ كانوا أهلَ قوَّة وفتوة وإيمان ونجدة، فهم منذ رأوا قميص عثمان الملطخ بالدماء، وأصابع زوجته المقطوعة حين كانت تُدافع عنه وقد امتلأوا عزمًا صادقًا على السير في أخذ القصاص لعثمان خلف أميرهم ولي الدم إلى نهاية المطاف.
ولم يكن علي - رضي الله عنه - بالذي يسمح بتكرار انفلات الولايات من بين يديه، والذي يُنذر بوقوع معارك أخرى أيضًا، ومن المهم القول هنا أن أهل السُّنَّة مجمعون على أن الخلافات التي كانت بين علي وغيره من الصحابة كان الحقُّ فيها إلى جانب علي، وأن مخالفيه هم المجتهدون المخطئون.
عزم علي على غزو الشام وجهَّز جيشًا له، وما إن وصلت الأنباء إلى الشام حتى جهز معاوية جيشًا من أهل الشام، ثم وقعت المعركة الثانية الإسلامية - الإسلامية، وهي موقعة صفين، وفيها اقتتل الجيشان قتالًا هائلًا مريرًا بعد اشتباكات متفرِّقة، فما هو إلَّا أن أدرك الفريقان أن هذه الحرب ما لم تنتهِ في أسرع وقت فلن تنتهي إلَّا وقد فني الجيشان؛ وهما عدة الإسلام ورجاله وقوته الضاربة، فهلاك هؤلاء الناس ضربة في قلب الدولة الإسلامية ذاتها؛ فسعى الساعون في إيقاف القتال، فتفتقت الأذهان عن فكرة رفع المصاحف على الرماح، وطلب الاحتكام! فوافق الطرفان وقد نزل بهما من البلاء ما لم يتوقَّعه أحد منهما!
وكان من أهمِّ ما أسفر عنه القتال هو استشهاد الصحابي الجليل عمار بن ياسر، وكان لاستشهاده معنى أعمق وأكبر من كونه صحابيًا من السابقين؛ ذلك أن النبي قال عن عمار: «تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»كلف عليٌّ أبا موسى الأشعري أن يكون ممثِّله في التحكيم، وكلَّف معاوية عمرو بن العاص أن يكون ممثِّله، ووُضعت شروط للتحكيم والصلح، ولم يكن هذا التحكيم على تنازل عليٍّ عن الخلافة أو تثبيت معاوية؛ فهذا أمر لم يكن واردًا، إذ لم يُشَكِّك أحد في خلافة علي في الأساس، ولم يكن أحد يدعو إلى خلافة معاوية، وفي التحكيم روايات كثيرة ضعيفة شوَّهت مواقف الصحابة وتاريخهم، وإنما كان التحكيم لينظر الحكماء في سبيل الخروج من الأزمة التي سالت فيها دماء المسلمين .. وقد اتفق الفريقان على موعد وشروط للحكم بينهما بعد وقت، لكن هذا الأمر انتهى إلى الفشل، وظلَّت الأوضاع على أحوالها.
لكن ثمة أثرًا لم يتوقعه أحد لقبول التحكيم؛ ذلك هو انسحاب بضعة آلاف من جيش علي - رضي الله عنه - معترضين على التحكيم، ومعلنين أن هذه الطريقة غير شرعية ومخالفة لكتاب الله، ولقد كان هؤلاء من القرَّاء والحفظة لكتاب الله؛ لكن لم يكن لديهم من الفقه إلَّا القدر القليل، فأصبح هؤلاء فتنة جديدة في معسكر علي - رضي الله عنه -، وتركوا الكوفة وانحازوا إلى منطقة «حروراء» في العراق، وكانوا شوكة أخرى في جانب الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب.
وكانت حركة الخوارج أول حركة معارضة في تاريخ الإسلام، وقد حدَّدت سياسة علي - رضي الله عنه - معها كيف تكون سياسة الحاكم المسلم مع حركات المعارضة؛ فقد بذل لهم النصح، وأوفد إليهم سفيرًا كالحبر عبد الله بن عباس، فعاد بالكثير عن انحرافهم الفكري والعلمي، وتعهَّد علي إلَّا يتعرَّض إليهم أحد، وألا يُحرموا حقوقهم إلَّا أن يحملوا السلاح على المسلمين، أو يرتكبوا جرائم، وقد وفَّى لهم بعهده ولم يقاتلهم، على الرغم من أنهم كانوا يُكَفِّرُونه على المنابر، ويذيعون أفكارهم في التكفير بالكبيرة وما إلى ذلك؛ فلمَّا انتقل الأمر إلى حيِّز الجريمة وقتلوا من المسلمين؛ قاتلهم علي - رضي الله عنه - في معركة النهروان فهزمهم؛ لكن أمرهم لم ينتهِ تمامًا!
وقد كان تطرُّف الخوارج بيئة مناسبة لانتشار التطرُّف الآخر، ذلك التطرُّف الذي بدأ منذ عبد الله بن سبأ، وهو الغلو في علي وتعظيمه وتفضيله على سائر الصحابة؛ فقد ذاع هذا بين فريق من الناس حتى بلغ بهم أن يعتبروه الوصي والولي، ثم بلغ الأمر ببعضهم أن جعل عليًّا إلهه، وقد واجه علي هذا الغلو فيه بكل قوَّة وحسم؛ حتى لقد أحرق بالنار مَنِ اعتقدوا أنه رب، وهدَّد مَنْ يسبُّ أبا بكر وعمر بالعقوبة، وكان حريصًا في كل موطن على مواجهة هذه الأفكار وإنهائها!
وضع بعض الخوارج خطَّة لحسم كل مشكلات العالم الإسلامي من وجهة نظرهم؛ لقد اتفقوا على أن يغتالوا الثلاثة الكبار: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، باعتبارهم «أئمة الضلال» عندهم، وحدَّدُوا لذلك ثلاثة منهم ليقوموا بالاغتيال في وقت واحد، في صلاة الفجر من يوم (17 من رمضان 40هـ)، وكانوا يعلمون أن هذا يُشبه العملية الانتحارية، لكن أحدًا لم يبالِ؛ فهذا عندهم «شرف الدنيا والآخرة، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قُتِلْنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها».
ولم تنجح الخطَّة إلَّا مع علي - رضي الله عنه - وحده، فاستشهد - رضي الله عنه - على يد عبد الرحمن بن ملجم، فيما كان عمرو بن العاص مريضًا في هذه الليلة؛ فصلى الفجر مكانه قائد الشرطة خارجة بن حذافة فقُتِل على يد عمرو بن بكر؛ وهو يظن أنه قتل عمرو بن العاص فقُتِل، وأما معاوية فقد أُصيب ولم يُقتل، واستطاع المحيطون به القبض على البرك بن عبد الله فقُتِل.
وبهذا انتهت حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الرجل الرابع في الإسلام فضلًا ومكانة ومقامًا ومنزلة.
وعهد أهل الكوفة بالخلافة من بعده لابنه الحسن بن علي بن أبي طالب، وجاءته البيعة من الأمصار، ثم صدق في الحسن قول جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»ومنذ ذلك الوقت بدأت مرحلة أخرى في التاريخ الإسلامي، مرحلة «الملك العضوض»، بعد أن انتهت مرحلة «الخلافة الراشدة» .. وكانت أولى دول الملوك في الإسلام؛ هي: دولة الأمويين!
نشر في ساسة بوست 

ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 124. البخاري (436)، ومسلم (2915). البخاري (3536).
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 22, 2015 18:18

January 20, 2015

نحو رؤية إسلامية لعلم الاستغراب (ج1)


ثمة اتفاق بين من نادوا بعلم الاستغراب في بلادنا على أنه ضد التغريب، وأنه يجب أن يكون مبنيا على رؤيتنا الذاتية ومن منظورنا الحضاري، وتأسيسا على هذا فلا يصلح للاستغراب أحد هؤلاء:
1. من اتخذ الغرب إماما، بل هؤلاء هم خصومه -أي خصوم علم الاستغراب- الذين يُقصدون بالمواجهة، ومن هنا فيخرج من حد الاستغراب من هو مثل سلامة موسى الذي كان من المؤمنين بالغرب الكافرين بالشرق -حسب تعبيره- المعارضين لكل كفاح ضد الإنجليز في مصر، والذي لما كتب كتابه "هؤلاء علموني" لم نجد فيهم إلا الغربيين وغاندي وتولستوي! وكذلك أمثال طه حسينوقد كفانا أولئك القوم مؤونة الأمر إذ تصدوا بأنفسهم للاستغراب، فما إن ظهرت هذه الدعوة حتى سخروا منها، وكتب هاشم صالح -تلميذ محمد أركون، والقائم على مشروعه- مستهزءا: "كيـف يمكن لهذا ’العلم‘ الغريب الشكل أن ينهض على أسس قويمة إذا كنّا عاجزين حتى الآن عن استيعاب الثورات اللاهوتية والابستمولوجية (المعرفية) والفلسفية للفكر الغربي، وإذا كنّا عاجزين عن إحداث مثلها في ساحة الفكر العربي؟ وكيف يمكن لنا أن نقف موقف الندّ من الغرب إذا كنّا لا نملك أبسط المقومات حتى مشروع الترجمة لم نقم به كما ينبغي"2. كذلك يخرج عن حد الاستغراب من لا يؤمن أننا نملك من الذاتية والخصوصية ما يُمكِّننا الآن وفي كل وقت من دراسة الغرب ونقده، حتى وإن كان يؤمن بأن ذلك ممكن في وقت آخر إذا بلغنا قدرا من التقدم والتطور، ومن هؤلاء الدكتور حامد أبو أحمد أستاذ اللغة الإسبانية وقد قال: "قيام علم الاستغراب يحتاج إلى أن يكون لدينا فكر يستطيع مواجهة الفكر الغربي الحديث؛ لكن للأسف نحن لم نصل بعد إلى المستوى الأوروبي ولم نقف بعد في مصاف ما ينتج هناك؛ ففي مجال الفكر ما زلنا عالة على الغرب"فهذا التصور قائم على افتراض أن نتبع الغرب ونسرع في اتباعه حتى نكون له أندادا ونتجاوزه ثم -حينئذ- نتمكن من نقده، ذلك أن الأساس الذي يقوم عليه "الاستغراب" هو الإيمان بإمكانية ذلك في كل وقت اعتمادا على خصوصيتنا وذاتيتنا لا على مستوى تقدمنا التقني المادي. ويبدو ذلك الفارق واضحا حين نرى المستشرق الألماني رودي بارت ينادي على العرب أن يكون لهم دراسات في الاستغرابونحن إذ نكتب في "التأصيل الإسلامي" لعلم الاستغراب، فإن التأسيس الإسلامي لهذا العلم يضع حدا آخر للاستغراب والمستغرب، فعلى هذا التأسيس يخرج من حد الاستغراب:
3. من درس الغرب منطلقا من نموذج غير إسلامي، سواء أكان هذا أحد النماذج الفلسفية الغربية أو الشرقية أو القديمة، فطالما لم يكن الإسلام مرجعيته، فهو خارج عما نعنيه في هذا البحث بالاستغراب والمستغرب.
هذه الحدود الثلاثة تُبقي لنا في تعريف المستغرب: "من له دراسات أصيلة في الغرب -أو موضوع متعلق به- على قاعدة من الاعتزاز الذاتي بنفسه وحضارته الإسلامية".
ونواصل بيان ذلك في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في نون بوست

ثمة معلومات أشار إليها غير واحد من الباحثين -ويراها الأكثرون غير دالة ولا كافية- بأن طه حسين قد تاب في آخر أيامه وتراجع عن أهم ما صدر منه من أفكار، منهم د. محمد محمد حسين (أزمة العصر ص76) والشيخ محمود شاكر (أباطيل وأسمار 1/31، المتنبي ص31) ود. محمد عمارة في مقالات نشرها قبل عشر سنوات وجمعها في كتابه الذي صدر قبل أيام (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، وقد حدثني الشيخ عبد السلام البسيوني في إحدى ليالي صيف 2014م في الدوحة بأنه التقى سكرتير طه حسين الذي أكد له وقوع هذه التوبة. ونحن وإن كان يسعدنا توبة كل إنسان، إلا أننا نتحدث عن إرث طه حسين وما بقي منه وما اشتهر عنه. يقصد معاهدة (1936م)، والتي حصلت بها مصر على استقلال صوري في الحقيقة. يقصد اتفاقية مونتريه (1937م) التي قضت بإلغاء المحاكم المختلطة -التي هي على الحقيقة محاكم أجنبية لا سيادة للدولة عليها- في مصر بعد 12 عاما أي (1949م). طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر ص34. هاشم صالح: الحياة الدولية بتاريخ 13/4/1995. (نقلا عن د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص19) هاشم صالح: الشرق الأوسط بتاريخ 13/12/2001. (نقلا عن د. محمد عمارة: في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام ص104) الشرق الأوسط بتاريخ 30/11/2001م. رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص13.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 20, 2015 07:22

January 17, 2015

سنن الانتقال من الذل إلى المجد

كان من خلق الله قوم فيهم نبي وليس فيهم قائد، فلم يكن كل الأنبياء قادة، وقد سلَّط الله عليهم قوما آخرين هزموهم وأذلوهم وانتزعوا منهم مقدساتهم!
أولئك قوم من بني إسرائيل من بعد موسى، الذين قصَّ الله علينا قصتهم في كتابه الكريم!
وهذه القصة فيها من فوائد غزيرة وعجيبة يجدر أن نتأملها:
1. إن الله سلط قوما كافرين على قوم مؤمنين فأذلوهم وانتزعوا منهم مقدساتهم، ولم ينفعهم "مجرد" الإيمان "وحده" لما لم يأخذوا بسنن الكون.
2. لقد كانت أبرز مشكلاتهم افتقادهم لقائد، فقياداتهم أعجز من أن تخوض صراعا يعيد لهم عزتهم وكرامتهم ومقدساتهم.. (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) سنكتشف بعد قليل أن القائد كان موجودا بينهم، لكن قناعاتهم وأسلوب تفكيرهم ومقاييس حكمهم على الأمور جعلتهم يغفلون عنه ولا يفكرون فيه.
3. المدهش هنا أن النبي -وهو أتقاهم لله وأخشاهم لله وأرفعهم مكانة عند الله- لم يكن يصلح قائدا، إن مجرد الورع والتقوى والخشية والقرب من الله لا تصنع قائدا يخوض معارك الدنيا، إذ لا بد أن يجتمع مع هذا أمور أخرى.. بل سنكتشف بعد قليل أن القائد المنتظر لم يكن الأخشى ولا الأتقى ولا الأكثر علما.. بل كان الأكثر قدرة وتأهلا، مع وفور حد من التقوى والخشية بلا شك.
4. المدهش كذلك أن عدم صلاحية هذا النبي للقيادة كان أمرا معترفا به لدى الجميع، الملأ والنبي نفسه، ولم نجد -مثلا وفرضا وتخيلا- من يقول: وهل يصلح لها إلا هذا النبي وهو من هو؟ وكيف تتوقعون أن ينصركم الله وأنتم تطلبون قائدا غير نبيكم؟ ولم يقل هو -وحاشاه، عليه السلام- فمن أولى مني بالقيادة وأنا أعلمكم وأتقاكم وأفضلكم؟!.. كان الجميع معترفا بالمشكلة ساعيا في إيجاد حل لها.
5. مما يثير الاحترام هنا أنهم عرفوا مكانة النبي وفضله فتوجهوا إليه أن يختار لهم بعلمه وفضله وقربه من الله أنسب قائد لهم، وهنا نلمح مشهدا من التجرد، إذ هم ألزموا أنفسهم أن يتبعوا هذا القائد ولن ينازعوه قيادته.
6. كذلك فإننا نجد شعورا قويا بالأزمة والمذلة، ولم يتصوروا أنهم يمكن أن يتخلفوا عن المعركة إذا جاءت، حتى لو بفعل الضرورة وألم الذل (قال: هل عسيتم إن كُتِب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)
7. لكنهم، ما إن كُتِب عليهم القتال، حتى تخلخلت الصفوف، والتمس كل منهم لنفسه عذرا وأعذارا، وجبنوا عن خوض المعركة المنتظرة (فلما كُتِب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم، والله عليم بالظالمين).. وهنا ينبغي أن يخشى كل امرئ على نفسه أن يكون صاحب دعوى فارغة، وأن يكون في نفسه من الظلم والفساد ما يحرمه من أجر الطاعة التي تشوق لها لما جاء وقتها!
8. (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) لقد اتضح أن من بينهم من يصلح للقيادة لكنهم صُدِموا وصاحوا (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يُؤتَ سعة من المال) فانظر إلى مقاييس القيادة التي كانت راسخة في قلوبهم وأذهانهم! كانوا يرجون أن يكون القائد من ذوي المال! وهذا بحد ذاته يشرح لك لماذا هُزِموا ولماذا عقموا عن أن يكتشفوا المؤهلين للقيادة من بينهم.. كان مقياسهم فاسدا!!
وهنا أزمة الأفكار التي تضيع بسببها البلاد والعباد والمقدسات، ويأتي بسببها الذل والعار والهزيمة.. فساد الأفكار في أنها لم تكن منضبطة على أوامر الله بل هي أفكار "وضعية" جاءت من عالم الدنيا ومقاييس الأرض.
9. ولقد كانت من مهمة النبي -عليه السلام- خوض معركة الوعي، معركة الفكر، معركة الفهم هذه، ليقول لهم (إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم).. وبديهي أن العلم هنا لم يكن علم الشرع فالنبي أعلم منه بالشرع، ولكنه كان علم الحرب، وكذلك الجسم.. فتلك هي مقاييس القيادة في الحروب!
10. لكن فساد الأفكار والقناعات بلغ حدًّا بعيدا من العمق والرسوخ والقوة حتى إنهم احتاجوا إلى معجزة ربانية كي يصدِّقوا أن هذا الرجل يصلح أن يكون قائدا عليهم.. فلم يكفهم قول النبي الذي هو صدق لا كذب فيه، والذي يعرفون اتصاله بالله وصدقه فيما يبلغ عن الله (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين)..
وهذا يعلمنا أن فساد الأفكار لا يكون مجرد فساد فكرة، بل هو يؤثر في النفسية والذهنية والعاطفة، حتى لا يعود ممكنا تصحيحه بمجرد التوضيح والبيان فحسب، بل بمجهود عاطفي ونفسي وتربوي.. وهو يعلمنا أن نتعلم رحمة الله ورفقه إذ بعث لهم معجزة تعالج ما رسخ في نفوسهم من فساد، فينبغي أن نكون أرفق في التوضيح والبيان بمن طال عليهم الأمد وتحول فساد أفكارهم إلى فساد شامل.
11. انتظم الجيش خلف قائده جالوت بعد أن تخلف عنه من تخلف، وهنا يصف القرآن الكريم لأول مرة هؤلاء القوم بأنهم "جنود"، مما نفهم منه أنهم كانوا قبل ذلك فوضى لا سراة لهم، لا يجتمعون على أمر ولو كانوا في الذل والعار والهزيمة، ولو كان بينهم نبي، ولو كان لهم ملأ.. قال تعالى (فلما فصل طالوت بالجنود)!
12. ثم جاء الاختبار المهول، والذي يزداد المرء رعبا كلما تصوره، إن القوم ساروا في الصحراء حتى عطشوا ثم ابتلاهم الله بنهر، لكن قائدهم طالوت لم يسمح بالشرب منه إلا غرفة واحدة فقط!
(قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده)
مبلغ الهول في هذا الاختبار أن الشرب حاجة إنسانية فطرية وغريزية، ليست علامة فساد، وليست دليل انحراف وليس مطلبا ترفيهيا أو ترفا.. إنه حاجة غريزية، ولكن لوازم الجهاد تتطلب من المجاهد أن ينتصر على نفسه حتى في حاجاته الفطرية الغريزية، وأن يملكها ويحكمها ويسيطر عليها مهما تاقت إلى شيء هو من صميم حاجاتها الأساسية.. وهذا أمر ما أحسب أن أحدا يستطيع أن يحكم على نفسه فيه، فهي أمور لا تظهر إلا في الشدائد والابتلاءات والمواقف الهائلة.. نسأل الله أن يثبتنا وأن ينصرنا على أنفسنا.
ولقد سقط في الاختبار أكثر الذين كانوا مع طالوت (فشربوا منه إلا قليلا منهم).
13. ثم جاء اختبار هو الأكبر والأصعب!! لقد وجد القوم أنفسهم صاروا قلة مع من تساقط منهم في المراحل السابقة.. وهم مقبلون على مواجهة جيش ضخم يمثل بالنسبة لهم "قوة عالمية" بألفاظ زماننا هذا! فقالوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).
إنه من المدهش حقا أن هؤلاء القوم الذين اجتازوا اختبارات فساد الفكر وغرور النفس واختبار الغريزة نفسه.. أصيبوا في لحظة من اللحظات باليأس! واستحضروا المقاييس المادية رغم رصيدهم الكبير من الإيمان!
فيا الله!! كيف يمكن للمرء أن يعبر كل هذه الاختبارات ثم لا يضمن نفسه أيضا! إن من انتصر على غرائز الجسد قد هزمته قلة قوته المعنوية.. إن القلب الذي استطاع أن يقهر العطش لم يستطع أن يقهر الخوف أو أن يواجه اليأس!
وهنا نتعلم أن السيف لا بد له من قلب، وأن المرء لا بسيفه وإنما بقلبه أولا، بإيمانه وصلابته ورسوخ اليقين في نفسه!
14. هذا الصنف هو من كان عنده الحل (قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)
وهنا نرى كيف يفعل الإيمان مع انهيار العوامل المادية، وكيف يظل اليقين ثابتا مهما جاءت الحوادث بعكسه!
هذا يعلمنا أن الناجون قلة.. والهالكون كثرة! فلا ينبغي أن نتعلق بالعدد والعدة.
ويعلمنا كذلك أن المعركة الكبرى تدور في القلب، في ساحة الإيمان واليقين! فلا ينبغي أن ننفق الطاقات في استرضاء أو استجلاب من لا دين لهم ولا إيمان يحركهم.
ويعلمنا كذلك أن القلة القليلة هي القادرة على تثبيت الكثرة.. فلا يستقل أحدنا أي عمل، وكم نقرأ في السير والقصص والمذكرات أن أبطالا كثيرين ثبتهم موقف من طفل أو امرأة أو عجوز أو جندي عادي.. ولذا فلا بد من أن نتجلد ونصبر ونظهر القوة مهما بلغ الحال، فلعل هذا الثبات والتجلد يثبت من كان في موضع القرار أو في من يملك إنفاق أموال وتحريك طاقات!
إن الفرد الواحد، والقلة القليلة، هي التي تغير مسار التاريخ وتصنع الأحداث.. وما الكثرة إلا أتباع!
15. وهنا تنزل نصر الله.. وانتصر جيش القلة المؤمنة على جيش الكثرة الكافرة.. بقائد يفهم علم الحرب ومؤهل لها وبجنود ثبتوا بعد الزلازل.. بل لقد أسفرت الحرب عن مفاجأة أخرى! عن الفتى الصغير الذي استطاع قتل قائد الكافرين جالوت.. هذا الفتى الصغير هو الذي سيؤسس أعظم دولة لبني إسرائيل بل سيبلغ ابنه من الملك ما لم يبغه ملك في كل تاريخ البشر.. ذلك هو نبي الله داود الذي سيرثه ابنه نبي الله سليمان والذي سيؤتيه الله ما لم يؤته أحدا من العالمين.. ليجتمع في شخصيهما: النبوة والقيادة معا.
(فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)
16. ثم تختم الآية بختام عجيب مبهر (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)
إنها قيمة تغفل عنها الأمم المهزومة، الأمم التي ارتضت بالذل وبالدنيا، الأمم التي هانت على الله وعلى أعدائها فذلت!
إن الله يقول بأن "الاستبداد هو فساد الأرض" وبأن "الحروب هي وسيلة إنقاذها"!!
وهي قيمة إنسانية عامة، إن كل الأمم -بما فيها حتى اليهود وهم أحرص الناس على حياة وأبخلهم بما في أيديهم- تقدم التضحية بالأبناء للنجاة من الذل والقهر والوصول إلى العز والمجد! ومن المثير للتأمل أن الأمم تقدس محاربيها أكثر من تقديسها لمهندسيها ومعمارييها وفنانيها!
إن فساد الأرض هو في سيادة الاستبداد.. ونجاة الأرض هو في المقاومة والدفع والجهاد.. وإن بدا لأصحاب المقاييس المادية أن العكس هو الصحيح، وأن الأمن خير من الحرية وأن الملك الغشوم خير من فتنة تدوم، ولو تأملوا لعلموا أن من ضحى بالحرية لم يحصل الأمن وأن الفتنة الحقيقية التي تدوم هي دوام الملك الغشوم.
اقرأ: هل الجهاد خراب الأوطان
http://melhamy.blogspot.com.tr/2014/0...



1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 17, 2015 12:04

هل تصح المقابلة بين "الإسلام" والغرب"؟

لا تُطلق ألفاظ الشرق والغرب في بحوث العلوم الإنسانية إلا ويراد بها المعنى الثقافي الحضاري، ولا يخطر ببال أحد أن تكون تعبيرا عن الاتجاه أو الموقع الجغرافي، فألفاظ الشرق والغرب وما يتفرع عنها من تصريفات تتضمن مدلولا حضاريا ثقافيا يُفَرِّق بين حضارة الغرب –إن صحَّ أنها حضارة واحدة، وهو لا يصح- وما سواها من الحضارات التي لا يمكن اعتبارها حضارة واحدة بأي حال من الأحوال.
لكن الصراع القديم المستمر بين حضارة شرقية وأخرى غربية -بالمقياس الجغرافي- يمثل واحدا من أهم معالم التاريخ الإنساني، إن لم يكن المـَعْلَم الأهم، فلذلك جرت العادة على اختزال هذا في كلمات من قبيل صراع الشرق والغرب، وفي إطار هذا الصراع -الذي امتدت حدوده شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بما قضى على كل مقياس جغرافي- اكتسبت الألفاظ هذه المدلولات الثقافية الحضارية.
وموجز هذا أنه "كان في العالم –منذ زمن قديم- قوتان تصطرعان وتتنازعان السيادة إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، تمثل ذلك في الصراع بين الفرس والروم، ثم في الصراع بين المسلمين والروم، ثم في الصراع بين المسلمين والصليبيين، ثم في الصراع بين العثمانيين والأوروبيين مدًّا وجزرا، ثم كان آخر فصول هذه الملحمة الصلات بين الشرق ممثلا في آسيا وإفريقية، وبين الغرب ممثلا في أوروبا وأمريكا"وفيما بقي لفظ "الغرب" ثابتا أول الأمر فقد "تعرضت لفظة "الشرق" في أعقاب الفتوحات الإسلامية لتغيير آخر في معناها أو إذا شئنا دقة أكثر؛ تعرضت لاتساع في نطاق مدلولها، فقد انطلق الفاتحون في ذلك الوقت من شبه الجزيرة العربية لا ناحية الشمال والشرق فحسب، بل إلى ناحية الغرب كذلك، وزحفوا في غضون عشرات من السنين إلى مصر وشمال إفريقية حتى بلغوا المحيط الأطلسي، واستوطن الإسلام قطاع بلدان شمال إفريقية دينا، وتعرب السكان تدريجيا، وهم الأقباط في مصر والبربر في غربها، ومنذ ذلك الحين تعتبر مصر وبلدان شمال إفريقية ضمن الشرق، ويختص الاستشراق حتى بشمال غرب إفريقية الذي يسمى بالمغرب أي بلد غروب الشمس، وإن كان اسمه -الاستشراق- يفترض أنه يختص بالبلدان الشرقية دون غيرها، ومهما يكن من أمر فإن الاسم لا يبين بوضوح مستقيم المقصود منه بالضبط"وعلى كل حال، فليس "استعمال كلمة الشرق في تاريخ الحضارة متفقا مع معناها الجغرافي تماما، فإن بلدان الشرق الأدنى المتحضرة كان يجب تسميتها في روسيا بالجنوب، وكذلك إفريقية الشمالية التي تعد جزءا من الشرق الإسلامي، جنوبية بالنسبة إلى أوروبا، وابتدأ استعمال كلمة الشرق بمعنى البلاد المتحضرة مقابلا للغرب في عصر الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن يوجد في نظر اليونان إلا الجنوب الحار المتحضر والشمال البارد موطن المتوحشين، وكانوا في تقسيمهم العالم إلى أقسامه المختلفة يسيرون على هذا الأساس نفسه، فيجعلون أوروبا شمالي آسيا وإفريقية معا"ثم تغير مدلول كلمة الغرب كذلك، فصار يعني "البلدان التي استوطنها الأوربيون، والسكان فيها يشكلون أكثرية واضحة من شعب من سلالة أوروبية، والثقافات والأفكار مشتقة إلى حد كبير من أوروبا... باختصار: أمريكا الشمالية وأوروبا واستراليا"واصطلاح الغرب نفسه بهذا المعنى "اصطلاح حديث جرينا فيه على ما اصطلح عليه الأوروبيون في عصور الاستعمار من تقسيم العالم إلى شرق وغرب، يعنون بالغرب أنفسهم، ويعنون بالشرق أهل آسيا وإفريقية الذين كانوا موضع استعبادهم واستغلالهم، وجرينا نحن على هذا الاستعمال، والكلمة وإن كانت حديثة اصطلاحيا واستعمالا فهي قديمة في مفهومها ودلالتها"وإذن، فثمة اتفاق عام بين الجميع على أن لفظ الشرق والغرب في بحوث الحضارة والتاريخ ليس معبرا عن حقيقة جغرافية.
إلا أن الخلاف يبرز عند تحويل هذا المعنى الثقافي الحضاري إلى حيز جغرافي، فيُنظر إلى الغرب على أنه كتلة جغرافية وثقافية، وينظر إلى الشرق على أنه كتلة جغرافية وثقافية، ثم يمضي في مسار البحث واضعا الشرق أمام الغرب بهذا المفهوم.
وقد كان يمكن ألا نتعرض لهذا الأمر في سياق بحثنا هذا لأن الخلاف حوله ضعيف والحجة فيه شديدة التهافت، لولا أن الذي اعتمد هذه القسمة هو حسن حنفي الذي صك مصطلح "الاستغراب" ونَظَّر له في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب"، وسيأتي معنا التعليق على الكتاب بعد قليل، لكن القصد أنه ليس من أحد ذي أهمية -في سياق بحثنا- قد تابعه على هذه الفكرة، بل سائر من كتب في هذا الشأن كان في العموم من الإسلاميين، وهم ينطلقون من رؤية إسلامية دينية، لا ترى أن الخلاف بين الشرق والغرب هو في كونهما كتلتين جغرافيتين ثقافيتين مختلفتين، بل الأمر على غير هذا تماما.
وموجز القول في هذه المسألة كالآتي:
لقد أنشأ الإسلام وضعا جديدا تماما، وقد انخلعت الأمة الإسلامية من إرثها القديم الذي لم يبقَ منه في أكثر الأحوال إلا شذرات غير مؤثرة، وصارت أمة إسلامية بصيغة جديدة لم تعد تقتصر على العرب ولا على الشرق وحده، بل نستطيع القول إن الغرب -بالمقياس الجغرافي- كان أحسن استقبالا للإسلام إلى الحد الذي تخلت شعوب الشام وشمال إفريقيا عن لغاتها وتعربت فيما ظلت اللغة الفارسية وما وراءها من لغات الشرق حية حتى الآن، وبهذا انتهى معنى كلمة "الشرق" بمدلولها الجغرافي لتصير دالة على الشعوب المسلمة والحضارة الإسلامية في معظم الأحوال، حتى إن أمم الشرق البعيدة كالصين واليابان احتيج في وصفها لمزيد بيان فيُقال "الشرق الأقصى أو الأبعد"، ومن هنا فلا يجوز قياس الأمر جُغْرافيًّا.
كذلك فإن النظرة الإسلامية نظرة دينية تقيس على الهداية والضلال لا على الشرق والغرب، فالجاهليات القديمة في الشرق أو في الغرب هي جاهليات، بل إن الغرب أقرب إلى الإسلام لأنهم من أهل الكتاب، ولقد كانت عاطفة المسلمين مع الروم ضد الفرس منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية.
ومما يثبت خطأ النظرة الجغرافية أن الإسلام والمسيحية واليهودية جميعهم ولدوا في الشرق، فلو أنه مجرد تقسيم جغرافي لكان الصراع الحضاري القائم هو صراع "الأديان الثلاثة" في جانب مع الغرب "الملحد، الوثني، العلماني" في جانب آخر، لكن هذا ليس صحيحا، بل لقد ساد الإسلام على الشرق، وسادت المسيحية على الغرب، ورأى الغربيون عبر تاريخهم الوسيط والحديث أنهم مكلفون بـتحرير قبر المسيح (الموجود في الشرق) ولم يعتبروا أنه مجرد تراث شرقي قديم لا يعبر عنهم ولا يؤثر فيهم. وأدلُّ من هذا على ما نقول: أن الجيوش الأوروبية "العلمانية" (زعموا!) حين انتصرت في الشام اعْتُبِر هذا النصر في أوروبا "نهاية الحملات الصليبية" وحظي القائد البريطاني (اللنبي) بالكثير من الألقاب الصليبية الفاخرة في الصحف والمطبوعاتولقد كانت هذه هي نظرة الشرق أيضا للصراع القائم إلى قبل أن يهل علينا أمثال حسن حنفي، وذلك قبل أن يثمر الغزو الفكري ومؤسسات الاحتلال في بلادنا، ففي ذلك الوقت كان تعريف المسألة الشرقية هو أنها "مسألة النزاع المستمر بين المسيحية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة القائمة بأمر الإسلام وبين الدول المسيحية"ولقد كان المكان الواحد يعتبر شرقا إذا كان تحت حكم المسلمين، فإذا انتقل إلى حكم أوروبا صار من الغرب، وهذا واضح في المؤلفات التاريخية والحضارية لدى المسلمين والغربيين معا، فمناطق الأندلس وصقلية وجنوب فرنسا وشرق أوروبا تُعَدُّ من الشرق إذا كانت من بلاد المسلمين، فإذا أزيح المسلمون عنها صارت من الغرب.
على أنه إن كان يستقيم للأوروبيين -بنوع من التجاوز والتنزل- أن يسموا دراستهم للشرق استشراقا باعتباره يشملنا ويشمل معنا الهند والصين واليابان، فإن هذا "الاستشراق" لا يشابه ولا ينبغي أن يشابه "الاستغراب" الذي نقصده، فنحن قومٌ وسطٌ بأكثر من معنى بما فيه هذا المعنى الجغرافي، نحن مكلفون بأن ندعو شرقنا وغربنا وشمالنا وجنوبنا، وإذا كان العالم يصطلح على قول "الشرق" و"الغرب" وإذا اضطررنا لاستعمال اللفظ، فيجب أن ننتبه إلى تحرره لدينا من المعنى "الجغرافي" إلى المعنى "الثقافي"؛ فالإسلام هو المركز والمسلمون هم قلب العالم، ولئن كان استغراقنا الآن في "الاستغراب" فإنما هو لضغط الواقع؛ إذ الصراع القائم هو بيننا وبين الغرب بالمعنى الثقافي والجغرافي معا، ولكننا مكلفون بدراسة ودعوة شرقنا وغربنا في كل وقت.
وهذه الدراسة تركز على الغرب بهذا المعنى الثقافي أولا، وبهذا يتضح أننا نخالف قول من جعلوا الشرق "ككتلة جغرافية وثقافية وحضارية" في مقابل الغرب "ككتلة جغرافية وثقافية وحضارية"، فتلك قسمة لا يقرها الإسلام.
نشر في نون بوست
محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص7. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص18. رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص11، 12. ف بارتولد: تاريخ الحضارة الإسلامية ص35. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص17. محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص7. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص42. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص18. Stefan Goebel: The Great War and Medival Memory, p.115 مصطفى كامل باشا: المسألة الشرقية، ضمن "مصطفى كامل باشا في 34 ربيعا" 7/3.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 17, 2015 07:06

January 15, 2015

موجز تاريخ خلافة ذي النورين

استعرضنا في المقالات السابقة موجزا لتاريخ خلافتي أبي بكرالصديق –رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب –رضي الله عنه- وها هو الموعد مع خلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
لقد سار عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على سيرة الراشدين أبي بكر وعمر في الحكم، وكانت أولى خطبه مؤسِّسة للمفاهيم والأصول ذاتها التي أسس لها خطاب الشيخين؛ من حيث إن الخليفة وكيل عن الأُمَّة، وليس وصيًّا عليها، وأن للأُمَّة حقَّ مقاومة انحرافه عن القانون الذي هو الشريعة النازلة في القرآن والسُّنَّة، وأن أمر الأُمَّة تحكمه الشورى، وأن العدل بين الناس والمساواة بينهم في الحقوق واجب من واجبات الخليفة.
غير أن ثمة إضافة جديدة مميزة في خطابه إلى الناس؛ ألا وهي التوصية بالزهد في الدنيا، ففي ذلك الوقت كانت الدولة الإسلامية قد أقبلت عليها الأموال من كثرة الفتوح والغنائم والتنظيم الإداري القوي، وكان حريصًا في رسائله إلى الولاة والقادة العسكريين على التأكيد أن النظام الذي وضعه عمر لم يتغيَّر؛ لأنه كان في الأساس على مسمع ومرأى ومشورة من أهل الحلِّ والعقد، ومنهم عثمان.
وكان أهمُّ ما يُمَيِّز عثمان - رضي الله عنه - أخلاقه السهلة الرقيقة، فكان صورة للحلم والعفو والصفح والتواضع، وكان أكثر الناس حياءً، وكان هذا هو السمت الغالب على شخصه، وكل هذا لا ينافي أو ينقص ما كان عليه من حزم وشجاعة! كما كان مثالًا في الزهد والخوف من الله، والبكاء من خشيته.
وواصلت المؤسَّسات الإدارية نهوضها ونضجها في عهد عثمان بن عفان على الأسس والقواعد ذاتها التي وضعها عمر، مع فوارق في التفاصيل والأساليب فرضها تغيُّر الظروف والمسائل المستحدثة، فتدفَّقت الأموال وعمَّ الرخاء دولة الإسلام.
وقد كان عثمان حاكمًا يقظًا، يُراقب الولاة في كل الأنحاء، ويحرص على اختبار سير الأحوال في الدولة، وكان يتعرَّف على نبض الأُمَّة من خلال حضوره لموسم الحجِّ؛ حيث يستطيع أي إنسان أن يشكو فيه الوالي على بلده، كما كان يسأل القادمين إلى المدينة عن الأحوال، واتخذ من أهل البلاد مَنْ يكتب التقارير إليه، وهذا بخلاف الإجراءات المعتادة؛ كإرسال المراقبين من عنده أو طلب قدوم الولاة إليه، أو الرسائل المتبادلة.
لكن كل هذه الإنجازات تهون أمام هذا القرار الذي هو أهمُّ قرارات عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ وهو جَمْع الأُمَّة على مصحف واحد، وقد اتخذ هذا القرار بعد البحث والشورى والاتفاق مع وجوه الصحابة وكبارهم، وكان الدافع إليه أن البلاد المفتوحة على اتِّساعها قد تلقَّت القرآن عن الفاتحين والعلماء والصالحين، ولكنهم مع طول الوقت وتباعد البلاد أدخلوا اللهجات المحلية في قراءته، ثم بدأ يظهر بينهم التنازع حول القراءة الصحيحة، فكانت الخشية أن يتنازع الناس في القرآن، وأن يعود هذا عليه بالتحريف، فكان قرار الدولة الإسلامية بقيادة عثمان بن عفان هو جمع المسلمين على مصحف واحد، معتمد منسوخ من النسخة التي جُمعِت في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم إرسالها إلى الأمصار لتكون وحدها نسخة المصحف التي تُحاكم إليها اللهجات واللغات المحلية؛ وبذلك حُفِظت الوحدة الإسلامية، وحمى الله كتابه من التحريف والتبديل، الذي انتهت إليه كتب الأمم السابقة.
واستمرَّت مسيرة الجهاد والفتوح تتقدَّم وتُواصل فتحها البلاد والقلوب؛ فقد فُتِح في عهد عثمان بلاد أذربيجان، وطبرستان، والمناطق في جنوبي وغربي بحر قزوين وبلاد القوقاز، وقُتِل الملك الفارسي الأخير يزدجرد، ووصلت الفتوحات إلى خراسان ، وتجاوزت كل الجنس الإيراني، ثم بدأت مواجهة الجنس التركي -الذي يقطن مناطق وسط آسيا- من بعد نهر المرغاب، وفتحت بلاد النوبة في مصر، وغيرها من الأنحاء في الشمال الإفريقي.
ودخلت مرحلة أخرى في عهد عثمان - رضي الله عنه - بإنشاء الأسطول البحري، وبداية الجهاد في البحر بالتزامن مع جهاد البرِّ، وقد كان عمر لم يسمح بهذا خشية على المسلمين من بيئة البحر المحفوفة بالمخاطر، ففتح المسلمون جزيرة قبرص في البحر المتوسط.
لكن ختام عهد الخليفة الراشد الثالث لم يكن كبدايته .. إذ اندلعت أول فتنة في تاريخ الإسلام، تلك الفتنة التي لن تزول آثارها أبدًا!
لقد تضافرت كثير من العوامل لتصنع هذه الفتنة التي أشعلها متآمرون استغلُّوا جهل وتآمر أصحاب القلوب المريضة، فأشاعوا عن الخليفة الراشد الشبهات والأباطيل؛ فإمَّا اختلقوها من الأساس، وإمَّا حرَّفُوها ليصلوا إلى أغراضهم، وخلاصتها: أن الخليفة عثمان بن عفان قد انحرف عن الشريعة وتخلَّى عن إقامة العدل، وظلم الناس، وحابى أقاربه؛ فولاهم على الأنحاء والبلاد. وكل هذه أمور باطلة فاضت الكتب بتفنيدها ونسفها؛ إذ لا تقف أمام أدنى بحث أو تحقيق علمي في الموضوع.
ثم تطوَّر الأمر نحو التشكيك في شرعيَّته أصلًا، وتزعَّم اليهودي المتمسلم عبد الله بن سبأ القول أن الخلافة كانت في الأساس وصية لعلي بن أبي طالب؛ فهو أحقُّ الناس بها، ولا يتقدَّمه أحد فيها، وعملت اليد اليهودية التي استطاعت من قبلُ تحريف المسيحية ونقلها إلى الوثنية؛ لتبدأ المخطط ذاته في الإسلام، وانتشرت هذه الحركة في مصر والبصرة والكوفة، وتفيد المعلومات المتوفِّرة أن الخطَّة كان يُمَهَّد لها منذ زمن، وأن حركتها في البلاد قد بُذِل فيها مجهود كبير.
وكان الخليفة أقرب إلى الرفق واللين من الشدَّة والحسم؛ فزاد ذلك من انتشار الفتنة وتصاعدها، وبدأت الأمور تتأزَّم في تلك البلاد، ثم أخذت منحاها الأخير في خروج جيوش هذه الحركة من هذه الأمصار، ودخولها المدينة، وحصارها بيت عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
لم تُجْدِ محاولات الإصلاح لا في الأمصار ولا عندما قدموا إلى المدينة، لقد كان الأمر دائمًا يصطدم بترتيب جديد لأهل الفتنة، ولم يكن لدى الخليفة مانع في عزل والٍ أو أكثر؛ ما دام كان هذا اختيار الناس، بل لم يكن لدى الخليفة مانع من التنازل عن الخلافة ذاتها؛ لولا أن الصحابة منعوه من هذا خوفًا من الفوضى، وأن يكون قرار الأُمَّة المأخوذ بالشورى رهنًا برغبات مجموعات تُثير الفتنة، «كلما كرهوا أميرهم خلعوه» .. وجرت مشاورات ونصائح وخطب بين الخليفة والصحابة وأهل الصلاح من جانب، وأهل الفتنة من الجانب الآخر؛ لكن جراب الفتنة لم يكن ينضب من تدبير جديد يُعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت.
لم يبقَ حلٌّ إلَّا القتال، ولم يكن من الصعب إبادتهم؛ لكن الخليفة رفض تمامًا أن يُراق دم مسلم في هذه الفتنة، ومنع الصحابة من القتال دونه ومنع حراسته، ثم كتبت الأزمة فصولها الأخيرة واستغلَّ أهل الفتنة خروج كثير من الصحابة إلى الحجِّ؛ فاقتحموا الدار على عثمان بن عفان وقتلوه صباح يوم الجمعة (18 من ذي الحجة 35هـ)، وهو في الثانية والثمانين من عمره، وبدأ منذ هذه اللحظة انقسام المسلمين الذي توقَّعه عثمان نفسه بقوله: «والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابُّون بعدي أبدًا، ولا تصلون جميعًا بعدي أبدًا، ولا تُقاتلون العدوَّ جميعًا بعدي».
وكان الخبر صاعقًا على أهل المدينة وعلى أهل مكة -وبها جمعٌ من الصحابة- وعلى الأمصار الإسلامية؛ إذ لم يتوقَّع أحد أن الأمور قد تصل إلى هذا الحدِّ أبدًا؛ فذلك أمر ليست له سابقة!
واجتمع الصحابة في المدينة، واختاروا من بينهم الرجل الرابع في المقام والمكانة والفضل والسابقة، وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان اختيارهم هذا موافقًا بطبيعة الحال لرغبة أهل الفتنة، الذين خرجوا أساسًا وكثير منهم يعتقد أن عليًّا هو الوصي وهو الأولى بالخلافة والأحقُّ بها .. بينما حاول آخرون منهم تنصيب عبد الله بن عمر تعبيرًا عن قوتهم، وظنًّا منهم أنهم أصبحوا أهل القرار، غير أنهم لم يجدوا أي استجابة من عبد الله بن عمر؛ حتى بعد أن هدَّدُوه بالقتل، فأيقنوا أن الخلافة لن تخرج عمَّا أقرَّه أهل المدينة وبقية المهاجرين والأنصار وأهل بدر، وأن الناس لن يُخالفوهم في هذا، فاستسلموا!
فبهذا بدأ عهد الخليفة الراشد الرابع: علي بن أبي طالب
نشر في ساسة بوست 
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 15, 2015 05:19

January 14, 2015

"الاستغراب" في كتابات العرب

ينتمي مصطلح "الاستغراب" إلى فئة الكلمات التي تستعمل في العلوم الإنسانية ولا تعني بالضبط معناها اللغوي، وإنما هو مصطلح متولد من تفاعل وتطور تاريخي ثقافي وحضاري، ولهذا يتوجب علينا أن نلقي الضوء حول ما تعنيه كلمة "الاستغراب".لقد ظلت كلمة "الاستغراب" تستعمل بمعناها اللغوي المباشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وهو المعنى الذي يدور حول الدهشة والحيرة من غرابة شيء ما، وأصل الغرب في اللغة البُعْد، ومنه جاء معنى المبالغة حين يقال أغرب في الضحك أو استغرب ضاحكا أي بالغ فيهنشر في نون بوست

ابن منظور: لسان العرب 1/642، الفيروز آبادي: القاموس المحيط ص154، الزبيدي: تاج العروس 3/474. مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب 1/18. مجلة الرسالة، العدد 240، بتاريخ 7/2/1938م. مجلة الرسالة، العدد 241، بتاريخ 14/2/1938م. مجلة الرسالة، العدد 831، بتاريخ 6/6/1949م. محمد البشير الإبراهيمي: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 4/161. انظر المقال في كتابه: أباطيل وأسمار 1/177 وما بعدها. مناع القطان: تاريخ التشريع الإسلامي، ص399. عبد الرحمن حبنكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة ص137. محمد الغزالي: ظلام من الغرب ص148. محمد قطب: مذاهب فكرية معاصرة ص580. من هذه الكتب: عشاق الحور، خضم المعركة، كلمات من النار، خط التحول التاريخي. د. عبد العظيم الديب: المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي ص36 وما بعدها. من هذه الكتب: فتاوى معاصرة (الجزء الثاني)، فقه الأولويات، الثقافة العربية الإسلامية، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، الإسلام والعلمانية، قضية تطبيق الشريعة. جب وماسينيون: وجهة العالم الإسلامي ص42، 43.. وهنا أول ذكر للفظ الاستغراب، ولكنه ينتشر بعد هذا في الكتاب. عباس العقاد: ما يقال عن الإسلام، ضمن "موسوعة العقاد الإسلامية" 5/337. أبو الأعلى المودودي: الحجاب ص119. د. عبد الله الشارف: أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، منشورات كلية الآداب بتطوان، 2000م. د. عبد الله الشارف: الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر، منشورات نادي الكتاب، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى 2003. د. محمود خليف حضير الحياني: الاستشراق والاستغراب ص9.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 14, 2015 03:57

January 10, 2015

المسلمون وعلم الغرب (3/3)



هذه المقالة هي ختام السلسلة التي بدأناها قبل أشهر في محاولة لكتابة موجز مختصر لتاريخ اتصال المسلمين بالغرب، فبدأنا بموجز تاريخ الصدام والحروب في أربعة مقالات (جـ1، جـ2، جـ3، جـ4)، ثم شيئا مما نبت على ضفاف الحروب الإسلامية الغربية من علوم معارف، ثم العلاقات السياسية السلمية في السفارات في مقالين (جـ1، جـ2) ثم ما جلبه لنا الرحالة المسلمون من معرفة بالغرب عبر الرحلات الإسلامية إلى الغرب، ثم ما أثمرته حركة البحث العلمي من معرفة بالغرب في مقالين (جـ1، جـ2) هذا ثالثهما وختامهما، وفيه نواصل الحديث عن حركة البحث العلمي الإسلامي في احتكاكها بعلم الغرب وفنونه وشعوبه.
4. الفلسفة
ولئن كانت ساحة مقارنة الأديان تشعل الحدود الإسلامية الغربية، فلقد كانت ساحة الفلسفة تشعل القلب الإسلامي، وذلك أن اختلاط الفلسفة اليونانية بالعلوم -وخصوصا الطب- جعل ترجمات الكتب العملية تحمل في بطنها الفلسفة اليونانية معها، وقد أعجب كثير من المسلمين بالمنطق اليوناني كـ"وسيلة علمية" أو "معيار علمي" يضبط التفكير ويساعد في تصور المسألة العلمية وتقسيمها، وثار الجدل المشهور حول احتياج المسلمين لهذه الوسيلة اليونانية، وما إذا كانت حقا مجرد وسيلة معيارية محايدة تستخدم لخدمة علوم الشريعة، أم هي جزء من فلسفة لا تنفك عنها ومن ثَمَّ تحتوي على ما يخالف الشريعة وينبغي نبذه؟! 
ومن هنا انقسمت الساحة الإسلامية إلى ثلاثة اتجاهات كبرى عُرفوا بهذه الألقاب:
§         الأصوليون: وهم الذين رأوا أن الإسلام مستغنٍ بنفسه عن غيره، وأن الشريعة تحتوي في نصوصها ما يبني منطقها الخاص المكتمل الذي لا تحتاج معه لفلسفة اليونان أو منطق أرسطو، ونُقل عنهم الكثير في "ذم علم الكلام" و"ذم المنطق" ونحو هذا، وأبرز من يمثلهم الإمام الشافعي وابن تيمية.
§         والكلاميون: وهم الذين رأوا أنه يمكن استعمال الفلسفة وعلم الكلام في نصرة الشريعة، ما دام القائم بهذه العملية من أهل العلم الراسخين الذين يستطيعون التمييز بين الغث والثمين ولا تذهلهم معرفتهم بالفلسفة عن قواعد الشريعة، ونُقِل عنهم الكثير في "إلجام العوام عن علم الكلام"، ورفع التناقض بين الفلسفة والشريعة وإثبات "ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، وأبرز من يمثل هؤلاء هم الإمام الغزالي والباقلاني وابن رشد.
§         والفلاسفة: وهم أولئك الذين توفروا على منطق أرسطو وفلسفة اليونان بالشرح والتحليل ونصرة آرائهم والإضافة إليها والدفاع عنها، وأبرز من يمثلهم: الكندي والفارابي وابن سينا.
وكان بين هذه الاتجاهات الثلاثة سجال واسع وجدل قوي، وصدرت فيه مؤلفات غزيرة من أشهرها: "تهافت الفلاسفة" للغزالي، و"تهافت التهافت" لابن رشد، و"درء التعارض بين العقل والنقل" لابن تيمية، و"ترجيح أساليب القرآن على قوانين المبتدعة واليونان" لابن الوزير اليمني، و"مصارعة الفلاسفة" للشهرستاني، وغيرها كثير.
والشاهد أن كل هذا السجال الفكري احتاج إلى بحث وتفتيش واستيعاب لما وفد من هذه الفلسفة، ومقارنتها بما لدى المسلمين، لكي يثمر هذا موقفا واتجاها.
5. العمارة والفنون:
إذ ما إن بدأ المسلمون في صناعة العمران حتى كان المثال القائم بين أيديهم هو تراث وآثار الفرس والروم، وفيما يخص الروم، فلقد استعان المسلمون بأهل الصنائع والفنون في إنشاء آثارهم المعمارية الأولى مثل مسجد قبة الصخرة والجامع الأموي في دمشق.
وقد راسل الوليد بن عبد الملك إمبراطور الروم ليبعث إليه بمائتين من الصُنَّاع حين عزم على بناء جامع دمشقوعدَّد الجاحظ ما يجلبه المسلمون من الروم فكان منها: "الأقفال المحكمة واللوراوحُمِلت في بعض الحروب آثار إلى بلاد المسلمين، كأثر من آثار النصر، وهو أيضا دليل على الإعجاب والفخامة، منه ذلك الباب الكبير الذي أخذه المعتصم من عمورية حين فتحها ووضعه في قصر الخلافة ببغداد6. خصائص الشعوب
لقد كتب المسلمون أيضا في "خصائص الشعوب" الذي يسمى في العلوم الحديثة "الشخصية الإقليمية" أو "الأنثروبولوجيا الاجتماعية"، وحفل الغرب (الروم) بكثير من الأوصاف التي انتثرت في كتب الجغرافيا والبلدان والتاريخ.
وتورد رواية متقدمة عن طبائع الشعوب أن الحجاج سأل فروخ زادان عن أهل الأمصار، فسأله عن أهل الشام فقال: "نزلوا بحضرة الروم فأخذوا من ترفهم وصناعتهم وشجاعتهم"ويشيع في المؤلفات وصف الروم تميزهم في "العلوم والآداب والفلسفة والأحكام والهندسة والحذق بالأبنية والمصانع والقلاع"وكثيرا ما فسَّر المؤلفون خصائص هذه الشعوب بما هم فيه من مناخ وأرض، واعتبروا أن من كان قريبا من الشمال حيث شدة البرد أو من خط الاستواء حيث شدة الحر لم يكن لهم نصيب في العلوم أو الحضارة، ومن أهم ما ظهر من مؤلفات في هذا المجال كتاب "طبقات الأمم" لصاعد الأندلسي، وهو محاولة رائدة وإن كانت قاصرةوأما الباقون فيقول صاعد الأندلسي: "وأما سائر هذه الطبقة التي لم تُعن بالعلوم، فإفراط بعد الشمس عن مسامته رؤوسهم، بَرَّد هواءهم وكَثَّف جَوَّهم، فصارت لذلك أمزجتهم باردة وأخلاطهم فجة، فعَظُمت أبدانهم وابيضَّت ألوانهم، وانسدلت شعورهم، فعدموا بهذه دقة الأفهام وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشا فيهم العمى والغباوة كالصقالبة والبرغر ومن اتصل بهم. ومن كان منهم ساكنا ريبا من خط معادلة النهار وخلقه إلى نهاية المعمور في الجنوب فطول مقارنة الشمس لِسَمْت رؤوسهم أسْخَنَ هواءهم وسخف جوهم، فصارت لذلك أمزجتهم حارة وأخلاطهم محرقة، فاسودت ألوانهم وتفلفلت شعورهم، فعدموا بهذا رجاحة الأحلام وثبوت البصائر وغلب عليهم الطيش وفشا فيهم النوكوقد ظل هذا التفسير قائما حتى بعد صاعد بأربعة قرون، فنحن نقرأه مرة أخرى عند ابن خلدون.
نشر في نون بوست

ابن عساكر: تاريخ دمشق 2/258. المقري: نفخ الطيب 1/527. لم أهتدِ إلى معناها، ولم أجدها فيما أعرف من كتب المعاجم. الجاحظ: التبصرة بالتجارة ص26. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 3/344. ابن الفقيه: البلدان ص164. النويري: نهاية الأرب 1/295. الطبري: تاريخ الطبري 4/522. النويري: نهاية الأرب 1/293. النويري: نهاية الأرب 1/294. ابن الفقيه: البلدان ص512. نشوان بن سعيد: الحور العين ص227، 228. وهو ينقل عن كتاب الأخبار للجاحظ وهو مفقود. في مسألة تأثير الجغرافيا على شخصية الإقليم وسكانه، انظر مقدمة د. جمال حمدان لكتابه "شخصية مصر"، فقد حشد كثيرا من الأدلة وأقوال الجغرافيين والفلاسفة حول هذا الموضوع. النوك: الحمق. صاعد الأندلسي: طبقات الأمم ص8، 9.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 10, 2015 15:32

January 8, 2015

الموريسكيون المصريون



في صباح يوم من أيام العام 1986م، فوجئت العجوز الإسبانية بأن ابنها أنطونيو –الأستاذ الجامعي- يعلم أخاه القيام بحركات غريبة، فسألته: كيف يدرسك أخوك أنطونيو هذه الأشياء؟ وما معنى ذلك؟ فأجابها الابن: تلك هي الصلاة في الإسلام وطريقة العبادات والتقرب إلى الله. وصار يفسر لها معاني كل حركة في الصلاة. وليس إلا قليلا حتى سالت دموع العجوز وتذكرت موقفا قديما، وقالت  إنها حين كانت صغيرة هنا -في هذا المكان نفسه- كانت تدخل مع جدِّها إلى غرفة نومه، وكان تراه عدة مرات يستيقظ في الصباح الباكر ويقوم بالشيء نفسه: يتوضأ ويؤدي نفس الحركات ثم يأخذ غطاء نظيفا ويقف جهة القبلة ثم يصلي، وهي صغيرة كانت تنظر إليه من تحت الغطاء لكنه لم يحدثها عن معنى ذلك.
انتهت القصة، أما معنى ذلك: فهو أن الإسلام استمر في الأندلس خمسة قرون رغم أشرس حملة تعقب ومطاردة ومحاكم تفتيش جهنمية ووسائل تعذيب هي الأكثر وحشية في تاريخ البشر، وأن من الأندلسيين من استطاع أن يورث الإسلام لذريته بلا انقطاع في كل هذه الأهوال!
لقد استمرت محاكم التفتيش حتى بداية القرن العشرين!! ولئن نجح السيف في استئصال الإسلام من الحياة العامة، فلقد عجز أمام هذا الإيمان العميق حتى استطاع بقايا الأندلسيين اليوم أن يصرحوا بأنهم مسلمون بعد خمسة قرون!!
قصة الموريسكيين واحدة من أبشع قصص الألم الإنساني في التاريخ، إلى جوار قصص الطرد والإبادة للمسلمين في القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى، إلى جوار قصص العبودية في إفريقيا، والسكان الأصليين للأمريكتين، وفيما عدا هذه الأخيرة –وإلى حد ما كذلك- فإن الضحايا جميعا من المسلمين، ولكننا نجهل تاريخنا وتنسينا المآسي بعضها بعضا من كثرتها وانهمارها!
لقد تحيرت وأنا أستعد لكتابة هذه السطور: هل أجعلها حديثا عن الصمود الأسطوري للموريسكيين وأنقل بعض القصص المذهلة التي سجلتها وثائق محاكم التفتيش، فأستكمل بهذا سلسلة الأندلس التي بدأتها في هذا المكان – أم الأفضل أن أجعلها حديثا عن مصيرنا نحن تحت هذا الانقلاب العسكري العلماني الصليبي والذي لا يبعد أن يكون كمصير الموريسكيين!! فإن رؤوس النصارى في مصر يرون أننا ضيوف على البلد، وقد جاءهم رئيس يرى أن ديننا يحتاج إلى ثورة دينية لأنه يدعونا إلى إفناء باقي العالم.
ولا ينبغي أن يظن أحد أن هذا من المبالغات، فلم يكن أحد في قرطبة الزاهرة يتخيل أن الإسلام سيغادر قرطبة بل وكل الأندلس ثم يُطارد المسلمون وتسلط عليهم المحاكم تفتش في صدورهم عن بقايا دين، ثم يتحولون إلى لاجئين متفرقين بين المغرب والجزائر وتونس، بين أمريكا والفلبين، يتسولون النصير من البروتستانتيين أو من هنري الرابع ملك فرنسا، ثم ينتهي بهم الحال إلى التسول أمام الكنائس الفرنسية التي ستطردهم عن أبوابها لتفرض عليهم التنصير القسري كما فعل إخوانهم الإسبان.
إن بعضا مما عاناه الموريسكيون تحت حكم الإسبان يعانيه الآن المصريون تحت حكم العسكر، فكل ما يوحي بأنك ضد العسكر (ولو كان حيازة علامة رابعة) يشبه تحت حكم الإسبان أن تحوز مخطوطا مكتوبا بحروف عربية، ومحاكم التفتيش قائمة منصوبة، بعضها في الإعلام وبعضها في أقبية الأجهزة الأمنية، فمن الجريمة أن ترفض طفلة يتمية أن تغني مع مصطفى كامل "تسلم الأيادي"، فتأتي غدا إلى ذات البرنامج لتؤكد أنها لم تكن تحفظها وأنه لا علاقة لها بالسياسة، ومن الجريمة أن يغني حمزة نمرة شيئا عن هموم الشباب فلابد أن يستدعى إلى برنامج ليؤكد خلوّ نيته من أي معانٍ سياسية!! والأمثلة لا تدخل تحت حصر.
والإسلام الذي كافحه الإسبان وطاردوه هو ذاته الإسلام الذي يطارده العسكر، وتحت ذات الشعار "وحدة النسيج الشعبي" لكن هذه المرة شعب العسكر والكنيسة الأرثوذكسية بدلا من شعب إسبانيا والكنيسة الكاثوليكية.. وقديما وصف البطريرك ريبيرا الملك الإسباني فيليب الثالث بأنه كمن تفرغ لمهمة تنصير الموريسكيين، وما أقرب هذا الوصف للسيسي الذي تفرغ لمكافحة الإرهاب!
وفي ظل هذه المهمة المقدسة كان الإسبان يتطوعون عند محاكم التفتيش للإبلاغ عمن يبدو عليه التزام بأي تعاليم إسبانية كالامتناع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، تماما كما يفعل الآن "المواطنون الشرفاء" في الإبلاغ عمن توحي تصرفاته بأنه ضد "جيش مصر"!!
وقد تعهد الإسبان بالقيام على تعليم الموريسكيين حتى يزول من صدورهم بالكلية أي شيء عن محمد، مثلما يتعهد العسكر –ويؤيدهم جذلان تواضروس- بتغيير المناهج، وخصوصا المناهج الأزهرية.
وإنه ليبدو مثيرا حين تقرأ مقال محمود الكردوسي في المصري اليوم عن الإخوان الذين وصفهم بالحشرات والعناكب والثعابين والأفاعي، لأن هذه الألفاظ ذاتها هي التي كان يوصف بها الموريسكيون في إسبانيا وسجلتها وثائق محاكم التفتيش!
ولو شئنا أن نعدد المظاهر لطال بنا الحديث جدا، فلقد سجن العسكر مثلما سجن الإسبان، وعذبوا مثلما عذبوا، وصادروا الأموال مثلما صادروا الأموال، ودمروا البيوت مثلما دمروا البيوت، بل واعتقلوا من أراد الهجرة كما اعتقل أولئك من أرادوا الهجرة، بل إن إحراق الناس أيضا تكرر في مصر، فإن شئت حرقهم أحياء فانظر في سيارة الترحيلات، والـ "حاجة وتلاتين واحد" المحروقين، وإن شئت حرقهم أموات فانظر إلى محرقة رابعة!
وإن مزيدا من تمكن هؤلاء العسكر لن يؤدي إلا إلى مصير الموريسكيين!
وأكاد أرى من يستبعد هذا كالذي وقف لحظة توقيع اتفاقية تسليم غرناطة واطمأن إلى بنودها السبعين، وآمن بها كـ "خارطة طريق للمستقبل".. ثم هو بعد كل ما جرى في خارطة الطريق يظن أن الأمر لن يبلغ هذا الحد!!
وقد كان شارل الخامس قد قرر أن يرأف بحال الموريسكيين في الشرق فلا يفرض عليهم المسيحية مرة واحدة بل بالتدريج، ثم بدا له بعد ذلك أن يتخلى عن "سياسة التسامح!!!" هذه، فماذا فعل؟؟ طلب من البابا أن يغفر له نقض العهد، فأعطاه البابا مغفرته في 12 مارس 1524 ليؤدي مهمته الجليلة!
فأدركوه قبل أن يغفر له تواضروس!!!
نشر في ساسة بوست
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 08, 2015 10:30

January 6, 2015

المسلمون وعلم الغرب (2/3)



ذكرنا في المقال الماضي كيف كانت بداية الاحتكاك العلمي بين المسلمين والغرب، وذكرنا أن حركة الترجمة إلى العربية أثمرت تعرفا على الغرب في مجالات علمية عدة، ثم أثمرت الحركة العلمية للحضارة الإسلامية فروعا جديدة في المجالات القائمة كما ابتكرت مجالات علوم جديدة.
وما يهمنا في سياق التأريخ لاتصال المسلمين بالغرب1. الجغرافيا
ففي الجغرافيا نجد ذكرا للغرب (الروم) منذ أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا المجال، فهذا ابن خرداذبه (ت نحو 280هـ) -وكان عاملا على البريد، ووضع كتابه كدليل لهذه الخدمة- يذكر وصفا لبلاد الروم ومسافات طرقها المشهورة وبعض تراتيبها الإدارية ومواردها الاقتصادية ورسوم البلاط البيزنطي وملابس الإمبراطور، وأشهر جزر البحر المتوسط، ووصل إلى وصف روما وعمارتها وبلاد الفرنج (فرنسا)، حتى يصل إلى شمال شبه الجزيرة الإيبرية ويسمي قومها "الأبر" الذين يعرفون في الكتابات الإسلامية بالجلالقةثم تتراكم المعرفة فتزيد وتتعمق تدريجيا، فنجد ابن رسته (ت نحو 300هـ) يتحدث عن جزر بريطانيا التي تقع في المحيط إلى الشمال من بلاد الإفرنجثم تتوسع مؤلفات الجغرافيا وتزيد التفاصيل والضبط والتصحيح مع مرور الزمن، حتى تبلغ آفاقا جديدة مع الإدريسي صاحب أول خريطة للعالم، وتبدو فيها أوروبا المعروفة لنا بدقة مدهشة بالنسبة إلى زمنهم. ثم تبلغ المعرفة بالغرب سعة وعمقا وغزارة جديدة مع ياقوت الحموي في موسوعته "معجم البلدان"، وفيها قام بعمل نقدي ممتاز لروايات من سبقوه حتى وإن أثبتها، وأحيانا لم يتسع نقده لإيرادها كلها فاختصرها أو أعرض عنهاوما يزال النشاط العلمي مستمرا حتى يُختتم بكتاب "بحرية" وخرائط العالم الجديد للبحار وقائد الأسطول العثماني والجغرافي بيري ريس، وهي الإنتاجات التي بلغت حدا مذهلا في دقتها، حتى إن خرائط العالم الجديد تمثل إلى اللحظة لغزا علميا لا يُدرى كيف توصل إليه، مما دفع بعض المؤلفين إلى تفسيرات غير علمية تفترض الحصول على هذه المعلومات من أطباق طائرة وكائنات من الفضاء2. التاريخ
وقد احتوت كتب الجغرافيا والبلدان والرحلات ما هو من شأن التاريخ، كما انفردت كتب التاريخ بما هو من شأنها وإن لم تخلُ من الجغرافيا كذلك، وصار من عادة التأليف في الموسوعات التاريخية أن تبدأ بتاريخ العالم قبل الإسلام؛ فيمرّ المؤرخ على قصص ملوك اليونان -وأشهرهم الإسكندر المقدوني- ثم قصة عيسى عليه السلام ثم سيرة ملوك الروم.
وفرق المسلمون مبكرا بين أجناس الروم، ونقلنا فيما سبق نصوصا تذكر الصقالبة والبلغار والأبر، ومع الحروب الصليبية بدأ يظهر التفريق واضحا في الكتابات الإسلامية بين "الفرنج" والإنجليز؛ فقيل عنهم: الإنكتار، الإنكلتير. ويشيع في الكتابات الأندلسية الفصل بين الفرنجة والألمان (اللّمان، اللومان)، والفصل بين هؤلاء وأهل الشمال (النورمان، الفايكنج)، وإن كان الجميع مشمولا بلفظ الفرنج إذا المؤرخ لم يُفصل.
ويعتبر جامع التواريخ الذي ألفه رشيد الدين الهمداني للسلطان المغولي قازان خان، أدق ما كتب في تاريخ أوروبا، وهو عمل كبير شمل ضمن ما شمل تاريخ أوروبا، ولم يكتف بالمصادر وحدها بل استدعى من علماء الأقطار من أخذ منهم تواريخ أنحائهم، ويتوقع برنارد لويس أن يكون من ساعدوه إيطاليون لأن المنقول عن أوروبا يشبه معارف الإيطاليينويشير ابن خلدون إلى النهضة الأوروبية التي بدأت في عصره من إيطاليا، وذلك في القرن الرابع عشر الميلادي، يقول: "بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة"3. مقارنة الأديان
وحيث إن الغرب في ذلك الزمان كان بين نصراني ووثني، فلقد كانت المعرفة به حاضرة في ساحة مقارنة الأديان، وهي واحدة من أشد ساحات الاحتكاك بين المسلمين والغربيين سواء في المناطق التي فتحها المسلمون أو فيما جرى من مساجلات علمية، ومن آثار ذلك أن كانت معرفة المسلمين بالنصرانية ومذاهبها من أدق ما كان لهم من معارف في سائر المجالات إن لم يكن الأدق والأفضل على الإطلاق، ومما هو متكرر في أقوال العلماء الاندهاش من كون هؤلاء الغربيين مع ما لهم من العلوم والمعارف والفنون يعتنقون هذه الأفكار السخيفة، وللجاحظ كلمة جامعة تُجمل الموقف الإسلامي من الغربيين إنصافا واستفظاعا ودقة استيعاب، يقول بعد ثناء على ما لديهم من العلوم والذكاء والحكمة:
"ثم هم -مع ذلك أجمع- يرون أن الآلهة ثلاثة بطن اثنان وظهر واحد، كما لا بد للمصباح من الدهن، والفتيلة، والوعاء، فكذلك جوهر الآلهة، فزعموا أن مخلوقا استحال خالقا، وأن عبدا تحول ربا، وأن حديثا انقلب قديما، إلا أنه قد قتل وصلب بعد هذا، وفقد، وجُعِل على رأسه أكاليل الشوك، ثم أحيا نفسه بعد موته، وإنما أمكن عبيده من أخذه وأسره، وسلطهم على قتله وصلبه، ليواسي أنبياءه بنفسه، وليتحبب إليهم بالتشبه بهم، ولأن يستصغروا جميع ما صنع بهم، ولئلا يعجبوا بأعمالهم فيستكثرونها لربهم، فكان عذرهم أعظم من جرمهم... فلولا أنا رأينا بأعيننا، وسمعنا بآذاننا، لما صدقنا ولا قبلنا أن قوما متكلمين، وأطباء ومنجمين، ودهاة وحسابا، وكتبة وحذاق كل صنعة، يقولون في إنسان رأوه يأكل ويشرب، ويبول وينجو، ويجوع ويعطش، ويكتسي ويعري، ويزيد وينقص، ثم يقتل بزعمهم ويُصلب: إنه رب خالق، وإله رازق، وقديم غير محدث، يميت الأحياء ويحيى الموتى، وإن شاء خلق أضعافا للدنيا، ثم يفخرون بقتله وصلبه، كما يفخر اليهود بقتله وصلبه"وعصر الجاحظ هو العصر الذي وصلتنا منه أول رسائل مكتوبة متبادلةوبعد حوالي قرن من وفاة الجاحظ بدأ ظهور المؤلفات المتخصصة في مقارنة الأديان، من بعد ما كانت رسائل وموضوعات ضمن مؤلفات أكبر، ويعد كتاب "الإعلام بمناقب الإسلام" لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري (381هـ) "أول أثر فكري عثرنا عليه في مقارنة الأديان"وقد جمع بعض الباحثين قائمة ما نعرفه مما كُتِب في الرد على أهل الكتاب، فبلغت الردود على اليهود 44 كتابا ورسالة، وبلغت الردود على النصارى 124 كتابا ورسالة، وبلغت الردود على اليهود والنصارى معا 26 كتابا ورسالة، وبلغت الردود على الفرق والنحل والمذاهب والتي تضمنت الرد على اليهود والنصارى 18 كتابا ورسالةنشر في نون بوست
اقرأ ما سبق في هذه السلسلة:-         موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب (جـ1، جـ2، جـ3، جـ4)-         على ضفاف الحروب الإسلامية الغربية-         السفارات الإسلامية إلى الغرب (جـ1، جـ2)-         الرحلات الإسلامية إلى الغرب ابن خرداذبه: المسالك والممالك ص109 وما بعدها. ابن رسته: الأعلاق النفيسة 7/85. المسعودي: مروج الذهب 1/ 119. المسعودي: مروج الذهب 2/34 وما بعدها. انظر نقده لروايات ابن الفقيه عن مدينة روما. ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/103، 104. محمد إلهامي ومحمد شعبان: بيري ريس ص128 وما بعدها. برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص166، 167. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/481. نشوان بن سعيد: الحور العين ص227، 228. وهو ينقل عن كتاب الأخبار للجاحظ وهو مفقود. وهذا المعنى نفسه، وأحيانا بالألفاظ نفسها، متكرر في كتب الملل والنحل، انظر: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/48، ابن تيمية: الجواب الصحيح 4/448. وذكرت بعض كتب الفهارس بعض ما لم يصل إلينا مثل رسالة "الرد على النصارى" لبشر بن المعتمر الهلالي (ت 210هـ)، "والرد على النصارى" للقحطبي. انظر: ابن النديم: الفهرست ص197، 415. كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي 4/35 وما بعدها. د. محمد عمارة: إسلامية المعرفة ماذا تعني؟ ص71. خالد بن علي مفلاس: إنتاج ما صنفه المسلمون في مجادلة أهل الكتاب، مجلة آفاق الثقافة والتراث، مركز جمعة الماجد، دبي، العدد 70، رجب 1431هـ، يونيو 2010.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 06, 2015 14:18