محمد إلهامي's Blog, page 72
November 2, 2014
ذكرى أول نكبات العسكر - حرب 1956
منذ ابتليت بلادنا بحكم العسكر وهي تتلقى النكبات الواحدة تلو الأخرى، وعلى عكس ما ظنَّ الجميع من أن العسكر إذا حكموا عاد ذلك على الوطن بالحزم والفتوة وقوة الجيوش، فإن حكم العسكر مرتبط بالهزائم والمرارات والاستبداد على الشعب في الداخل والذلة والضعف والعمالة أمام العدو في الخارج. وتلك هي سيرتهم وطبعهم منذ حكموا وليس شيئا طارئا عليهم.
وفي هذه الأيام تمر علينا الذكرى الأولى للنكبة الأولى تحت حكم العسكر، وهي هزيمة 1956 التي ما زال البعض يظن أنها نصر بتأثير الإعلام العسكري المجرم، الذي تولى أمره مجموعة من أراذل الناس وأسافلهم لم يتورعوا أبدا عن الكذب على الناس وقلب النكبات إلى انتصارات، بل لم يتورعوا عن وضع قواعد جديدة للنصر والهزيمة: فنحن انتصرنا ما دام الزعيم بخير وإن دُمِّر الجيش وسلاحه وضاع البلاد والعباد.
هذه السطور القادمة هي موجز تاريخ هذه النكبة، بأوجز عبارة ممكنة.
(1)
لفهم هذه الحرب يجب التفريق بين أمرين: المواجهة مع إسرائيل، والمواجهة مع بريطانيا وفرنسا!
وفي ذلك الوقت كانت إسرائيل ما تزال في أول التأسيس، لم يمض على وجودها سوى ست سنوات، وهي محاصرة من الجنوب لا تملك الملاحة في البحر الأحمر ويرقد في سيناء وقطاع غزة جيش متفوق على جيشها بحساب العدد والعدة، وقد خرجت بريطانيا من مصر وصارت خطوط المواجهة مكشوفة، فكانت تعاني لتثبيت وجودها في محيط عربي يفور ببغضها ويملؤه الأمل بإزالتها، ويرى أن الطريق لهذا قريب واضح خصوصا مع بدء زوال الاحتلال الغربي للبلاد، ومن ثم لا يبقى إلا التعاون بين هذه البلاد فتزول إسرائيل! ولم تكن أمريكا ذاتها –حينئذ- قد حسمت أمرها بدعم إسرائيل كموقف استراتيجي على حساب العرب، بل كانت المحاولات الأمريكية لتثبيت إسرائيل وتبريد الوضع العربي تحاول إلزامها بوجود طريق بري آمن بين مصر والأردن يخترق صحراء النقب، وبطريق بري آمن بين مصر ولبنان، وبحق العرب في استعمال ميناء حيفا.. إلا أن إسرائيل نجحت من خلال الانتصارات المتتالية في فرض نفسها كأمر واقع وحسمت هذا التردد الأمريكي نحو أن يكون في صالحها على حساب العرب في هذه المنطقة.
أما بريطانيا وفرنسا فأولئك هم عجائز القرن الماضي ومخلفات الحرب العالمية الثانية، ورغم انتصارهم فيها نظريا إلا أن شمسهما إلى أفول مع بروز القوتين الكبريين: أمريكا والاتحاد السوفيتي، وهما يرثان الآن هذا الإرث الاستعماري، وفيما كانت العداوة واضحة وظاهرة بين الاتحاد السوفيتي والغرب الرأسمالي من جهة، فقد كان ثمة عداء نصف معلن ونصف خفي وهو العداء بين أمريكا من جهة وبين بريطانيا وفرنسا من الجهة الأخرى، وهو العداء الناجم عن محاولة وراثة الشرق الأوسط، وكانت أبرز مظاهر هذه العداوة هي الانقلابات والانقلابات المضادة في سوريا أواخر الأربعينيات. لكن الوضع الظاهر الذي لا شك فيه هو غروب شمس بريطانيا وفرنسا من الشرق الأوسط تشيعهما اللعنات ومشاعر البغض العربية، وهي ذات المشاعر التي بدأت تتجه للتخلص من إسرائيل، المولود الاستعماري اللقيط!
يقول عبد الناصر –كما روى عنه بغدادي- "إن إسرائيل اليوم تفكر بدلا من المرة عشرات المرات قبل أن تقدم على مهاجمة مصر لعلمها بقوة جيشها ومدى استعداده، وهي الآن لن تقامر على كيانها" (أكتوبر 1955م) لكنه وفي ذات الوقت –كما روى هيكل في قصة السويس ص22- يقول لوفد من حزب العمال البريطاني أنه "لا يشغل نفسه بإسرائيل، وإنما يركز على التنمية الداخلية في مصر، وأنه لذلك خفض ميزانية القوات المسلحة بخمسة ملايين جنيه عن السنة الماضية".
وفي الحقيقة فقد كانت هذه هي الضمانة الوحيدة لبقاء إسرائيل التي كان يمكن أن تزول في هذا التاريخ لو وجدت لدى حكام مصر الإرادة لذلك، إذ كل الظروف وقتها كانت مهيأة لهذا، وكانت إسرائيل تعرف هذا جيدا ولا يهمها سوى تثبيت وجودها وفرض نفسها بالقوة والدم لئلا يكون ثمة أمل في إزالتها، ومن هنا كان الموقف في أكتوبر (1955) -كما رواه تقرير استخباري بريطاني، ذكره بغدادي، وذكر أن مصر حصلت عليه- هو "ليس لدى مصر أية نية في الاعتداء على إسرائيل. وأنها ليست مستعدة إلى ذلك بخلاف موقف إسرائيل واستعدادها".
(2)
ما قبل المعركة
وضع موشى ديان خطة عسكرية قصد بها فتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية (بالسيطرة على الشاطئ الغربي لخليج العقبة) وتصفية الجهاد في قطاع غزة، وكان من المقرر تنفيذها في نوفمبر 1955، لكن المحاولات الأمريكية الجارية للجمع بين عبد الناصر وبن جوريون جعلت هذا الأخير يوصي ديان بتأجيل الخطة حتى يناير 1956، ومن أجل هذا لم تستطع إسرائيل الحصول على أسلحة متطورة من أمريكا ولا بريطانيا فلم تجد سوى فرنسا التي عقدت معها صفقة الأسلحة المشهورة في يونيو 1956م، وبها امتلكت أول طائرات مقاتلة في تاريخ الجيش الإسرائيلي، وفي فرنسا سعت إسرائيل لتسويق نيتها بشنّ عملية عسكرية لاحتلال الشاطئ الغربي لخليج العقبة لفتح الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية، وأجابت فرنسا بأنه يمكن لهم في هذه الحال أن يمدوا خط أنابيب من إيلات (على الخليج) إلى البحر المتوسط. وما إن عاد بن جوريون من فرنسا حتى قال لديان بأن يكون على استعداد للحرب.
أي أن إسرائيل كانت ستحارب في كل الأحوال، أكان التأميم أم لم يكن! فيما كان العسكر في مصر لا يفكرون في إسرائيل ويخفضون ميزانية الجيش!!
في 26 يوليو 1956 أعلن عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، وهو –مهما كان بغضنا لعبد الناصر- قرار بطولي ووطني وشجاع، وذلك لتمويل مشروع السد العالي من بعد ما رفض البنك الدولي تمويله، إلا أنه –كعادة قرارات العسكر- لم يكن قرارا محسوبا ولا مدروسا ولا كانت ثمة استعدادات لآثاره، وهذا ما يجعله في الحقيقة قرارا كارثيا لولا أن الخلافات الدولية الكبرى كانت في صالحنا آنذاك.
فلولا أن أمريكا كانت حاسمة في إزالة بريطانيا والحلول مكانها في الشرق الأوسط لكان هذا القرار هو السبب في عودة الاحتلال الإنجليزي إلى ديارنا مرة أخرى، ولئن كان الاحتلال هزم جيش عرابي قبل ثمانين سنة فإنه في هذه اللحظة لم يكن ليجد جيشا أمامه أصلا من فرط سوء السياسة والإدارة العسكرية، وكان أول اختبار حقيقي لهذه الإرادات الدولية في أزمة مرشدي القناة، إذ كان على مصر وقد أممت شركة القناة أن تثبت استطاعتها إدارة الملاحة فيها، بعد امتناع الإنجليز والفرنسيين عن العمل، وهنا تدخلت روسيا ويوغسلافيا واليونان بمساعدة مصر بالمرشدين كما وسمحت أمريكا لرعاياها بالعمل كمرشدين في القناة. ولم يكن هذا إلا نزعا لأي ذريعة بريطانية فرنسية لأي عمل عسكري تعودان به إلى الشرق الأوسط.
ولهذا يقول المعترضون على قرار التأميم بأن امتياز القناة كان سينتهي بعد 11 عاما، دون هذه المخاطرة الكبرى بإعادة الاحتلال مرة أخرى، فإن لم يكن ممكنا الانتظار فقد كان ممكنا الدخول مع الشركة في مفاوضات لاختصار المدة أو لزيادة المشاركة المصرية في إدارة القناة أو عوائدها، أما النقض المفاجئ لاتفاقية دولية فعملٌ لا تبرير له خصوصا وأن عبد الناصر وقع قبل شهر واحد اتفاقية مع الشركة نفسها تتضمن اعترافا بشرعية الشركة، ومن ثم كان بالإمكان مدَّ أجل المفاوضات كي يكون قطعها ذريعة للتأميم! ولو أن القرار حظي بأقل قدر من الدراسة لأمكن إنقاذ 4 مدمرات بحرية مصرية كانت راسية آنذاك على الشواطئ البريطانية والتي سارعت بريطانيا بالاستيلاء عليها، أو حتى إنقاذ شيء من الأموال التي جمدت في بريطانيا وأمريكا (112 مليون جنيه استرليني، 60 مليون دولار) عقيب قرار التأميم.
لقد جنّ جنون بريطانيا وهي ترى نفسها تقصى على هذا النحو، وكانت الصحافة الغربية تفور بالغضب والتحريض ضد مصر، حتى الدول التي لا سهم لها في شركة قناة السويس، واستعدت بريطانيا وفرنسا لعمل عسكري، وهنا تدخلت أمريكا بكل ثقلها السياسي لتبريد الموضوع بكسب الوقت أولا، فدعا وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس إلى مؤتمر في لندن يضم كافة الموقعين على اتفاقية 1888 بشأن القناة بما فيهم روسيا وإيران وباكستان (وهي الدول التي من شأنها أن تعرقل أي خطوة عسكرية ضد مصر)، ثم دعا بعده إلى اجتماع لـ "جمعية المنتفعين من القناة" وأصدرت هذه الأخيرة قرارا بتعيين لجنة دولية (من الدول المنتفعة) تتولى إدارة شركة القناة، وهو ما كان مستحيلا قبوله إذ كيف تؤمم شركة ليؤتى بلجنة دولية! وبعثت الجمعية منزس (رئيس وزراء استراليا) على رأس وفد لعبد الناصر، لكن الرئيس الأمريكي أيزنهاور كان يفشل مهمتها علنا في مؤتمر صحفي يصرح فيه بأنه لا استعمال للقوة لحل مشكلة القناة، ولما سئل: ماذا لو رفض عبد الناصر مقترحات منزس قال: يجب أن نفكر في اقتراحات أخرى. ثم حملت بريطانيا القضية إلى الأمم المتحدة التي أسفرت اجتماعاتها عن مشروع المبادئ الستة الذي قبلته كل الأطراف بنية عدم تنفيذه، فمصر قبلته لكسب الوقت باعتبار أن أي تأخير يقلل من فرص استعمال القوة بينما قبلته بريطانيا وفرنسا لأنهما سيتذرعان بالهجوم الإسرائيلي الذي غَيَّر الموقف. وكانت أمريكا تلقي بثقلها كله في المعركة السياسية هذه، وما إن تم التوصل إلى هذا المشروع حتى خرج أيزنهاور –وكان الوقت وقت انتخابات في أمريكا- ليزف إلى شعبه هذا الخبر السعيد الذي يقضي على فرص نشوب حرب في الشرق الأوسط، ليقطع بذلك الطريق على أي تحرك عسكري أنجلو فرنسي.
منذ منتصف أغسطس بدأت الاستعدادت العسكرية العلنية في بريطانيا وفرنسا، وجاءت الأخبار من أكثر من مصدر باستعداد عسكري حقيقي لغزو مصر، لكن عبد الناصر المطمئن إلى أمريكا لم يحفل بأي شيء واعتبرها مجرد حشود إعلامية، بل أصدر قرارا في 8 أغسطس بسحب الجيش من سيناء!!
(2)
أحداث الحرب
كان الخلاف الإسرائيلي – الأنجلو فرنسي (وقد اجتمعوا في مدينة سيفر الفرنسية لإبرام الحرب) محصورا في رغبة إسرائيل ألا تبدأ بالحرب وحدها خصوصا وسلاح الطيران المصري متفوق على الطيران الإسرائيلي آنذاك ويمكنه أن يدمر مدن إسرائيل الرئيسية بما فيها تل أبيب (وهذا ما رواه موشي ديان في مذكراته)، ولذلك يجب أن تبدأ بريطانيا بالحرب أو على الأقل بتدمير سلاح الطيران المصري. فيما كانت الرغبة البريطانية مختلفة لأنهم في ظل الأزمة السياسية مع أمريكا يريدون حربا تشتعل أولا لتكون لهم ذريعة التدخل لحماية القناة، ثم استقر الأمر على أن إسرائيل ستخاطر وتخوض المغامرة اعتمادا على عدم وجود رغبة مصرية في تصعيد الأمور وأنهم سيبتلعون الضربات الإسرائيلية في اليوم الأول –كما ابتلعوها سابقا- باعتبارها عمليات محدودة وليست حربا كبيرة، وبهذا تتوفر الذريعة لدخول فرنسا وبريطانيا الحرب ويقومون بتدمير سلاح الطيران المصري.
أي أن إسرائيل خاضت مغامرة وجودية فارقة في مصيرها النهائي معتمدة على عدم وجود رغبة مصرية في التصعيد!! وعلى أن مصر ستبتلع الضربات الأولى كالعادة!! وسيظل هذا الشلل في الطيران المصري حتى تتحرك بريطانيا وفرنسا لتدميره!! وهو ما كان!
ومهما أوتي المرء من حسن ظن بل من سذاجة فإنه لا يمكن استبعاد عنصر الجاسوسية، إذ أن الطيران المصري لم يتحرك لسبب هو الأغرب من نوعه، فقد قال محمد صدقي قائد سلاح الطيران (ولم يكن من الضباط الأحرار، وتعيينه في هذا المكان لغز يستدعي بحثا معمقا) لعبد الناصر بأنه لا يستطيع تطيير طائرات مصرية لأن مطار غرب القاهرة ليس فيه بنزين!! ولا تنس أن هذا قيل في أجواء الحرب التي تزخر بها كافة وسائل الإعلام منذ ثلاثة أشهر!
وهنا جرت قصة حرب من أغرب ما يكون:
بدأت إسرائيل بالهجوم الساعة الخامسة عصر يوم 29 أكتوبر 1956 ووصل الخبر إلى عبد الناصر عن طريق وكالات الأنباء فقد حملت إليه برقية من وكالة يونايتد برس، وكان ساعتها في احتفال عيد ميلاد ابنه عبد الحميد ومعه عبد الحكيم عامر، فهرعوا إلى مكتب عبد الناصر، ومن هناك حاول عامر الاتصال بالقيادة العسكرية في كوبري القبة والتي أفادت أنها لم تتلق شيئا من سيناء!! وتخيل إلى أي مدى يصل انهيار دولة يعرف فيها الإعلام الخبر قبل رئيس الدولة التي يجري احتلال أراضيها!!
صدرت أوامر عبد الحكيم عامر بتحرك القوات إلى سيناء مساء يوم 29 أكتوبر، وينقل عبد اللطيف البغدادي (صباح 30 أكتوبر) أن عبد الحكيم عامر كان يدير المعركة بعصبية واضحة ويدفع بالمزيد من القوات دون حاجة واضحة رغبة في تحقيق نصر سريع. إلا أن عبد الناصر أمر بسحب القوات من سيناء إلى ما خلف قناة السويس على الضفة الغربية، وهو ما يعني إخلاء سيناء تماما للإسرائيليين رغم أن النظرة البسيطة تقول أن الدفاع عن القناة لا يستلزم إخلاء سيناء لأنه من الممكن أن يكون الدفاع عنها من الضفة الشرقية والغربية معا، هذا بالإضافة إلى الآثار السلبية للانسحاب على معنويات الجنود. المصيبة الأخطر أن هذا الانسحاب تم بلا أي ترتيب ولا خطة، بل وبنص عبارة هيكل "كل رجل على مسؤوليته".. أي أنه قرار تدمير حقيقي للجيش المصري، الذي انساح هائما مشرذما مشتتا ليكون صيدا سهلا للطيران الإسرائيلي قتلا وأسرا.
لم يصل نبأ الانسحاب إلى كل الوحدات، أو وصل لبعضهم وامتنعوا عن تنفيذه، وهذه القوات التي ظلت تحارب استطاعت إيقاف التقدم الإسرائيلي على أكثر من جهة، وروى ديان في مذكراته مقاومة شرسة كادت تودي بحياته هو شخصيا، ولكن ما كان لهذه المقاومة أن تستمر في ظل الظروف المستحيلة من انهيار الجيش والسيطرة الإسرائيلية أرضا وجوا وانعدام المدد.
وإذا عدنا إلى ما قبل يومين، فسنجد أن الإنزال الإسرائيلي وفَّر الذريعة لبريطانيا –ومعها فرنسا- إذ ادعوا بأن هذه الحرب تؤثر على القناة، وأطلقوا إنذار للجانبين بوقف الحرب، وهو بطبيعة الحال إنذار إعلامي قبل مجيئ الجيوش، وكانت الخطوة الأولى هي الغارات التي دمرت سلاح الطيران المصري، وأصدر عبد الناصر قراره بمنع سلاح الطيران المصري من الاشتباك مع العدو، وفسَّر هيكل هذا بأن المعركة غير متكافئة.
وهنا يأتي الخلط غير المبرر، فالطيران المصري كان متفوقا على الطيران الإسرائيلي طبقا للتقدير الإنجليزي والإسرائيلي (كما في مذكرات ديان التي أفصحت عن نقاشات خطورة المغامرة الإسرائيلية بالبدء في الحرب وحدها) ولكنه لم يتحرك طوال الفترة التي أعقبت الهجوم الإسرائيلي (بحجة المطارات الخالية من البنزين)، ثم ما إن جاءت بريطانيا حتى صدر الأمر بعدم الاشتباك لأن المعركة غير متكافئة. أي أنهم لم يخوضوا لا المعركة التي كانت لصالحنا ولا حتى التي كانت علينا، وهنا يبرر هيكل هذا بقوله: أن إنجلترا وفرنسا عدو عابر فيما يجب الاحتفاظ بالطيران للعدو المقيم: إسرائيل. وعلى الناحية الأخرى يجري ذات الخلط بالنسبة للقوات البرية، فيبرر قرار الانسحاب بأنه اتخذ لمواجهة إنجلترا وفرنسا (رغم أنهما العدو العابر) فيما أمر إسرائيل سهل (رغم أنها العدو المقيم).. وبهذا انسحبت كل الجيش المصري برا وجوا من المعركة، مرة لأجل العدو العابر ومرة لأجل العدو المقيم!!! (وضع ما شئت من علامات التعجب، أو علامات الخيانة)
وهكذا دمرت المطارات المصرية وطائراتها في يوم واحد (وظل محمد صدقي قائدا لسلاح الطيران حتى نكبة 1967)، وانسحبت الجيوش، واستسلمت الحاميات العسكرية في بورسعيد بعد ثلاث ساعات فقط، وتم لإسرائيل احتلال سيناء (وهي ضعف مساحة إسرائيل) في 36 ساعة فقط!
والمشهد المذهل أن الأمر لم يكن مفاجأة، بل إن نبأ الاستعداد الإسرائيلي وصل إلى مصر قبل عام –بشهادة بغدادي في تقرير المخابرات البريطانية- فيما كان نبأ الاستعدادت البريطانية الفرنسية مشهورا على كل الصحافة، وقد استطاعت السياسة الأمريكية تأخير الغزو ثلاثة أشهر (من أواخر يوليو إلى أواخر أكتوبر)!
لم يقاوم في هذه الحرب إلا الجنود الذين رفضوا –أو لم يصلهم- أمر الانسحاب ، مع مقاومة شعبية باسلة في بورسعيد والسويس، وقد كان من حسن حظ أهل بورسعيد وجود قطار أسلحة استطاعوا نهبه وخاضوا بما استطاعوا حرب شوارع قاسية وباسلة وإن لم تكن مؤثرة أمام الجيوش الكبرى وفي ظروف انهيار الجيش المصري.. أي أن الذين قاوموا –كالعادة- كانوا هم الشعب لا السلطة التي أذلت هذا الشعب وشربت دماءه بحجة حمايته.. بل إن السلطة كانت في موقف فاضح كعادتها.
ففي القاهرة كان يجري مشهد آخر من أغرب ما يمكن تصوره، فالقيادة العسكرية التي تحكم مصر والتي أذلت البلاد والعباد قد تحولت إلى مجموعة من الفئران المذعورة، وقد تضاربت الروايات في مذكرات بعضهم، إلا أن الثابت من مجموعها أن الحيرة والارتباك قد عم المشهد كله، خصوصا حينما وصل خبر كاذب بإنزال مظلي بريطاني في مصر الجديدة، ففكَّر عبد الناصر أول ما فكَّر في أولاده ونقلهم إلى القناطر الخيرية أو إلى منزل آخر في القاهرة، وفكر صلاح سالم في ترك مبنى القيادة والتوجه لمكان آخر غير معروف، ثم اقترح صلاح سالم أن يتناولوا سما فينتحروا قبل أن يؤخذوا أسرى، ونسب إيه اقتراح آخر بتسليم أنفسهم للسفارة البريطانية!!!
ولعل هذا المشهد هو ما يشرح لماذا سعت أمريكا للحفاظ عليهم في حكم مصر!
فعلى الصعيد الدولي ألقت أمريكا بثقلها لمنع العجائز (بريطانيا وفرنسا) من العودة إلى المشهد، فأعلن أيزنهاور أن أمريكا تقف إلى جوار مصر، واستخدم كل أوراق الضغط السياسي في الأمم المتحدة، فتقدمت أمريكا وروسيا بقرار لمجلس الأمن لوقف الحرب فاستعملت بريطانيا وفرنسا حق الفيتو، فصوتت أمريكا وروسيا على طلب تحويل الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ( حيث لا فيتو) وهناك تولت أمريكا دعم المشروع وترتيب الأغلبية له وهو ما كان، وكان نيكسون –نائب الرئيس الأمريكي أيزنهاور- يقود مظاهرة في أمريكا ضد بريطانيا! بالإضافة إلى أن أمريكا منعت تزويد بريطانيا وفرنسا بالنفط مما كانت له آثار اقتصادية فورية وقوية، وعملت على نزيف الجنيه الإسترليني الذي بدأت قيمته في الانهيار. وكان الأسطول السادس الأمريكي –في البحر المتوسط- قد نفذ تحركات أعاقت سير الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، فيما سماه بعض المؤرخين "تحرشا"! ثم وجه أيزنهاور إنذارا لبريطانيا وفرنسا بوقف إطلاق النار خلال 12 ساعة. ثم رفضت أمريكا بقاء القوات البريطانية فيما احتله من السويس وبورسعيد (كي لا تساوم به على أي مكسب) وأصرت على الانسحاب بلا قيد ولا شرط.
ثم أصدر الروس إنذارهم يوم 5 نوفمبر 1956م، وكان أول بصيص أمل للمصريين، على قلة قيمته، أما القيمة الحقيقية فقد كانت في الإنذار الأمريكي الذي جاء بعده بساعات واستجاب له الإنجليز والفرنسيون وهم صاغرون يوم 6 نوفمبر، وتحدد يوم 23 ديسمبر لجلاء القوات الإنجليزية والفرنسية عن منطقة القناة، وقد كان. أما إسرائيل فماطلت ولم تجل عن سيناء إلا في فبراير 1957.
(3)
نتائج الحرب
أما نحن فقد استفدنا التأميم الذي تحول إلى واقع، وتجنبنا عودة الاحتلال الإنجليزي (وإن كان الحكم العسكري على الحقيقة أسوأ عشرات المرات من الاحتلال الإنجليزي، وأنزل بمصر من المصائب والنكبات ما لم ينزله بها الاحتلال الإنجليزي)، وإن يكن هذا جرى لظروف وبقدرة خارجة عن إرادتنا.
وأما أمريكا فقد قطعت فعلا ذيل الأسد البريطاني وأثبتت له بالواقع أن أيامه قد ولَّت وأن هذه المنطقة قد صارت ملكا لنا.
وأما إسرائيل فهي صاحب حظ الأسد من هذه الحرب، فقد ثبتت ورسخت وجودها وجعلت إزالتها وهما بعد تدمير الجيش المصري وسلاحه السوفيتي، وامتلكت حرية الملاحة في خليج العقبة، وأثبتت أنها قادرة على احتلال مساحات جديدة من أكبر بلد عربية، وجعلت ما حصلت عليه عام 1948 غير قابل للمساومة، ولم تخرج من سيناء إلا وقد جاء البوليس الدولي حارسا لحدودها (وهي قوات دولية تراقب الوضع ولا يمكن سحبها إلا بقرار من الأمم المتحدة، أي أن مصر لو أرادت شن الحرب فسيعرف كل العالم بذلك، لأنها مضطرة لتقديم طلب لسحب البوليس الدولي)، مع تعهد بتجميد الأوضاع بينها وبين مصر لعشر سنوات، وقد أثَّر هذا كله على المقاومة في قطاع غزة وعلى قواعد المقاومة وامتداداتها في سيناء، وعاشت إسرائيل هدوءا كاملا على الجبهة المصرية حتى عام 1967م. وأفشلت بهذا عمليا مشروعا عربيا كان في طور الولادة سنذكره بعد قليل.
ولك أن تتخيل تأثير هذا كله على رأي عام (عربي وإسرائيلي وعالمي) يظن أن إسرائيل لا تطمح لأكثر من الهدوء والقبول بوجودها، في ظل محيط يرى أن إزالتها شيء ميسور يحتاج فقط لإحكام الترتيب والتدبير.
(4)
على هامش الحرب
قبيل الحرب كانت الحالة العربية في أفضل حالاتها، وقد نتج هذا عن دوافع وطنية عروبية على مستوى الأفراد في بلاط الأنظمة، فمما لا يعرفه كثيرون أنه وحتى وقت قريب كان رجال الأنظمة العربية الحاكمة لا ينتمون فقط لأوطانهم المحلية، بل كانت الأنظمة تضم في وزرائها ورؤساء حكوماتها عربا من كل الأوطان، وقد كانت تنتشر فيهم الولاءات العروبية والإسلامية والوطنية، وكان العقل الجمعي في هذا الوقت يتعامل مع أي قضية وطنية على أنها قضية عربية عامة تهم الجميع.
وقبيل الحرب نشأ تحالف مصري سعودي سوري يمني، وقبل الحرب بعام كان فيصل بن عبد العزيز يشكل مع جمال عبد الناصر لجنة عسكرية لتحديد الأسلحة المطلوب شرائها فتشتريها السعودية لدعم قواتها في حال نشوب أي حرب بين مصر وإسرائيل تنفيذا للاتفاقية العسكرية المصرية السودانية، بل بلغ الأمر ذروته بتشكيل قيادة عسكرية موحدة لجيوش مصر وسوريا والأردن يرأسها عبد الحكيم عامر. ولذا يتساءل كثير من المؤرخين حول سر قرار عبد الحكيم عامر الذي منع به جيشي سوريا والأردن من التحرك ضد إسرائيل، خصوصا وأن الأوضاع العسكرية والسياسية معا تجعل تدخل هذين الجيشين فرصة لا تقدر بثمن.
فمن الناحية العسكرية لم يكن فارق القوة كبيرا بين إسرائيل ومجموع الدول العربية، كما أن إسرائيل تحاول الاستيلاء على سيناء التي مساحتها ضعف مساحة إسرائيل، ولدى هذه الجيوش –ومن ورائها الشعوب، وحركات المقاومة الشعبية- من الشعور بالثأر لعار 1948 ما يؤمل منه أن انفتاح جبهتين على إسرائيل أشبه بانفتاح طوفانيْن من الغضب.
ومن الناحية السياسية فقد كان الأردن مرتبطا بحلف دفاعي مع العراق، وصل إلى وضع فرقة عسكرية عراقية على الحدود الأردنية للتدخل السريع حال تعرض الأردن لغزو إسرائيلي، وكان البريطانيون الذين يحاولون التمسك بأهداب أي نفوذ في المنطقة قد ارتبطوا مع العراق بحلف دفاعي يحملهم على الدخول معه في المعركة، ويورد ديان في مذكراته أن هذا وضع حرج معقد قد يسفر عن وضع غريب: أن يحاربوا مع بريطانيا في جبهة مصر وأن تضربهم بريطانيا على جبهة الأردن، ولذلك كان الحلم الإسرائيلي والبريطاني (والأمريكي من ورائهم طبعا) ألا تدخل الأردن الحرب، ولكن هذا كان في غاية الصعوبة إذ كانت الحكومة الأردنية والبرلمان –في ذلك الوقت- يتفجرون بالحمية العربية، ويوصمون بأنهم ناصريون وسعوديون، وقد طُرد قبل قليل رجال بريطانيا من الجيش الأردني، ولم يكن ملك الأردن في حال تسمح له بالامتناع عن هذا ولو أراد.
ومن هنا يرجح بعض المؤرخين -ومنهم أستاذنا جلال كشك رحمه الله- أن الصفقة كانت كالآتي: تطلب أمريكا من مصر منع دخول الجيشين السوري والأردني إلى المعركة، فيما تتكفل هي بسحب إسرائيل من المعركة، وهو ما تمَّ، وما أسفر عن مكاسب هائلة إسرائيلية وخسارة هائلة عربية.
(5)
إعلام العسكر
بدأت في هذه الحرب الماكينة الإعلامية الشيطانية للعسكر، تلك التي تقلب النكبات انتصارات، فقد عمل إعلام العسكر على الحديث عن طائرات يسقطها المصريون، وعن مظليين يقتلهم المصريون قبل الوصول إلى الأرض، ولم يكن هذا مقتصرا على مصر فقط بل كانت وزارة الحربية ترسل هذه المنشورات إلى ملاحقها العسكريين في السفارات لتوزيعها على الصحافة الأجنبية!!
وبعد وقف القتال صرح قائد سلاح الطيران صدقي بأن سلاح الطيران المصري لا يزال سليما وأنه مستعد للقضاء على كل من تسول له نفسه العدوان على مصر!!! وقد كان الطيران المصري في الحقيقة قد تحطم! وراح العسكر يوهمون الناس أن المقاومة الشعبية هي التي ردت أساطيل الغزاة على أعقابها، وسُوِّقت الحرب على أنها نصر عظيم مؤزر بل جعلها هيكل (كاهن معبد الاستبداد وأبرز شياطين الإعلام العسكري) "أكمل انتصار في تاريخ العرب الحديث"!!!! وكتب بعد ثلاثين عاما في الأهرام يحث الناس على الاحتفال بذكرى النصر ويأسف لأن البعض يعتبرها هزيمة!! وإن لم تستح فافعل ما شئت.
يقول أستاذنا جلال كشك رحمه الله: "إنها أشهر عملية تزوير في التاريخ، أن تظل أمة عشر سنوات تجهل أنها هزمت هزيمة فادحة، بل وتظل معتقدة أنها انتصرت، وأن احتلال اليهود لسيناء كان عبقرية عسكرية من جانبنا، إذ أمرنا بالانسحاب البارع والإفلات من طرفي الكماشة!! أو الفخ الذي كان مدبرا لتدمير الجيش المصري.. وأفسدنا المخطط ونجا الجيش!" (النكسة والغزو الفكري ص22).
Published on November 02, 2014 01:19
October 27, 2014
عن الديمقراطية في البلاد الإسلامية
1. في مرحلة ما قبل الثورات العربية كانت كل بلادنا يحكمها مستبدون مجرمون، حتى لو تغطى بعضهم بقشرة ديمقراطية رقيقة كالحال في الأردن والمغرب، أو يضع لافتة ديمقراطية كالحال في مصر والسودان والجزائر، فيما كان الباقون يمارسون الاستبداد علانية وصراحة!
2. في هذه الأجواء كان مجرد النظر إلى الغرب يكشف عن نموذج يسيل له لعاب عشاق الحرية، هناك تجري انتخابات نزيهة، يتغير البرلمان، يتغير الرؤساء، يختار الشعب من يحكمه، مع جرعة عالية من حرية التعبير والنقد دون خوف، واحترام واضح لحقوق الإنسان... إلى آخر ما هو معروف للجميع.
3. ونحن في هذه السطور لا يهمنا سوى الإسلاميين وموقفهم من سؤال الديمقراطية الجديد، وهو سؤال ما كان بوسعهم تجاهله في ظل القصف الإعلامي المتواصل لهم كإسلاميين، وفي ظل القصف الإعلامي المتواصل من الغرب والعلمانيين للإسلام نفسه.
4. وفي إطار الدفاع عن الإسلام نفسه اجتهد الإسلاميون في إثبات أن الإسلام يرفض الاستبداد ويحرر الناس ويجعل الأمة هي صاحبة الحق في نصب الحاكم ومراقبته وعزله، واجتهد كثير من العلماء في أن تأقيت مدة الولاية للحاكم لا تنافي الإسلام لأن عقد الولاية يمكن أن يضيف فيه العاقد (الأمة) شروطا.
وظلت مسائل كثيرة عالقة تتراوح فيها الأقوال مثل حدود حرية التعبير، حرية نشر الكفر، حرية الردة، تطبيق الحدود الشرعية كالقطع والجلد والرجم، التعامل مع الفنون التي عمادها (في الواقع الآن) العري والإباحية والكفر أحيانا.
ولكن هذه المسائل في الحقيقة ليست مختصة بالديمقراطية، بل هي مختصة بالفلسفة الغربية نفسها التي تعد الديمقراطية بصيغتها المعاصرة واحدة من إفرازاتها.. فالمتبادر إلى الذهن لدى سماع كلمة ديمقراطية هو اقتصارها على الجانب السياسي وشؤون الحكم. وهذه النقطة يجب أن تكون واضحة لأنها كانت سبب التباس كبير في التعبير عن الفكرة.
5. وفي إطار الدفاع عن الإسلاميين، كان الأسئلة الرئيسية تدور حول:
أ. هل إذا وصل الإسلاميون للسلطة بالطريق الديمقراطي سيستمرون في هذه الديمقراطية حتى لو أدت إلى إقصائهم من السلطة وتنصيب غيرهم؟
ب. وإذا لم يكن غيرهم هذا إسلاميا، بل كان شيوعيا أو كافرا، فما حكم الشعب حينئذ، وهل يكون قد كفر؟ وهل يجيز الإسلاميون لأنفسهم التنازل عن الحكم إلى كفار أو ملاحدة ينشرون الكفر في الأرض؟
جـ. ما هي رؤية الإسلاميين للمساحة التي يسمونها "أحكام الله غير القابلة للنقاش" في مقابل المساحة التي يجوز للشعب فيها أن يشرع لنفسه؟
وصحيح أن هذه الأسئلة كان يطلقها الغرب والعلمانيون بكل ما في نفوسهم من حقد -وهو كثير فياض- إلا أن الصحيح كذلك أنها أسئلة نوازل ليس للإسلاميين فيها سلف، إذ لم يواجه الفقه الإسلامي في عصوره السالفة مسألة قوم يتسمون بالمسلمين ولا يريدون إسلاما.
6. وكطبيعة أي موضوع إنساني اختلف الإسلاميون فيما بينهم على إجابة هذه الأسئلة، فكان أكثرهم تنازلا من اشتاق إلى وجود الحرية ولو من غير شريعة لأن الحرية تتيح لهم أن يمارسوا الدعوة إلى الله وأن ينشروا أفكارهم، وهذا خير من حكم المستبدين المجرمين (الكفار عند أغلبهم: بأفعالهم أو بأعيانهم) الذين لا ينشرون إلا الكفر في بلاد المسلمين ولا يتركون فرجة للدعوة إلى الله.
فيما كان أشدهم محافظة وتشددا من رمى كل هذه المسائل عن قوس واحدة، ولم ير سبيلا إلا حمل السلاح لجهاد الأنظمة الكافرة مع اقتناع بأنه ما إن تزول هذه الأنظمة إلا ويمكنهم إعادة شرع الله إلى واقع الحياة!
وبين الفريقين طيف واسع من الآراء والاجتهادات والرؤى!
فالأولون كانوا الأكثر اشتباكا مع الواقع وتفاعلا معه وكانوا كذلك الأكثر (تنازلا / مرونة) فيما كان الآخرون الأكثر فهما لطبيعة الصراع وأنه ليس صراع فكري نظري بل هو صراع حضارات ومشاريع، فكانوا الأكثر تفاعلا معه من جهة كونه صراعا والأقل اجتهادا في الفقه والدين لإخراج إجابات على هذه النوازل، فكانوا كذلك الأكثر (تمسكا / تشددا).
واعتزلت فرق هذا الصراع كله، وبحثت عن جانب تخدم الإسلام فيه، كالدعوة والتربية ونشر العلم.. وهؤلاء لا يدخلون في حديثنا الآن!
7. كان الأولون تدعمهم تجارب تاريخية كثيرة تدلل لهم على أن الشعوب تختار الإسلاميين في أي انتخابات (شبه) نزيهة، الجزائر والأردن والمغرب وغزة ومصر وتركيا.. وكان الآخرون يستدلون بنفس هذه التجارب على فشل نظرية الأولين: إذ لم تستطع أي تجربة أن تحقق نصرا يمكن وصفه بالإسلامي دون تحفظات!
كان الأولون يرون أنه تقدم على الطريق في ظل العجز عن دخول معركة حاسمة، وكان الآخرون يرون أنه تأخر على الطريق وهدر للطاقات والجهود، فحقيقة الأمر ليست بيد الشعوب بل بيد الجيوش: جيوش الغرب التي تحرس بقاء الهيمنة الصليبية (أو العلمانية، حسبما يختلف الناس في تحليل الغرب).
وكل إخفاق للأولين (الواقعيين، المرنين، المتنازلين.. لسنا في إطار تقييمهم الآن) كان يصب في خانة هؤلاء الآخرين (المتمسكين، المحافظين، المتشددين.. لسنا في إطار تقييمهم الآن).. وأبرز الأمثلة: الجزائر ومؤخرا مصر، كذلك هزال الحركة الإسلامية في الأردن والمغرب وعجزها عن تحقيق أي تغيير ملموس، وحتى تجربة غزة وتركيا -الأحسن حالا من بين كل هذه التجارب- لا يستطيع أحد أن يصفهما بالنصر الحاسم في ظل الظروف والمعرفة.
8. حتى جاءت الثورات التي أسفرت عن سقوط غير متوقع لعدد من أساطين المجرمين: بن علي، مبارك، القذافي، بن علي.. مع بشائر مستمرة لسقوط بشار، وما أحدثه ذلك من زلازل في المغرب والجزائر، وبراكين في دول الخليج التي وجد حكامها أنفسهم -لأول مرة- أمام تهديد شعبي غير متوقع، وقد كانت نكباتهم مقتصرة على صراعات أجنحة الحكم.
وكان طبيعيا أن يكون الأكثر واقعية (مرونة، تنازلا) هم الأقرب للتصرف في الواقع الذي خبروه واشتبكوا معه.. فيما لم يظهر الأكثر تمسكا (محافظة، تشددا) إلا حين تحولت الثورات إلى التسلح والجهاد كما في ليبيا وسوريا.
9. وهنا كانت النازلة الثانية التي لم ينتبه لها إلا النادرون جدا (حتى ليصح أن نقول: لم ينتبه لها أحد)، وهي: هل الديمقراطية تعبير حقيقي عن إرادة الناس، أم لها دهاليز وكواليس وخفايا وخبايا غير منظورة؟
لم يكن طبيعيا أن من حاول عبر عقود إثبات أن الديمقراطية من الإسلام، وأن الفروق بين الديمقراطية والشورى ليست جوهرية (فيما عدا محكمات الإسلام وثوابت الشريعة التي يريد الجميع تطبيقها فعلا لكن يختلفون في حدودها وفي الكيفية) وأنه كإسلامي ليس ضد الديمقراطية ولا ضد التنوع الثقافي ولا التعدد الحزبي ولا أنه ينوي أن "يأخذ السلم معه فوق.. فوق".. أقول: لم يكن طبيعيا أن يتحول هذا الشخص من هذه الحالة إلى حالة البصر بما في الديمقراطية من كمائن!
لكن الإخفاقات المتوالية نبهت الكثيرين إلى هذه الكمائن، إلى دور المال الذي يحرك الإعلام الذي يحرك الجماهير، ودور المال الذي يحرك الجريمة، وإلى النظام القديم الراسخ الذي لم يسقط بطبيعة الحال لمجرد أن قيل له "ارحل، مش هنمشي هو يمشي .. إلخ".
وساعتها وجد الكثيرون مادة غزيرة من كتب ونظريات غربية تتحدث عن عيوب الديمقراطية، وكيف أنها لا تؤدي إلى تعبير حقيقي عن إرادة الناس، بل هي في الحقيقة تعبر عن إرادة أصحاب السلطة والمال ومراكز القوى، لكن هذه الإرادة لم تعد تفرض قهرا (كما في النموذج الشيوعي) بل صارت تصاغ عبر الإعلام وضخ الأموال في ترتيب المصالح والمواقف وتصنيع القناعات حتى يذهب المواطن لينفذ هذه الإرادة وهو يتخيل أنها إرادته هو! (وهذا بخلاف مشكلات أخرى أقل تأثيرا وأكثر تفصيلا).
هذا بالإضافة إلى فارق كبير آخر، وهو أن الغرب يمارس الديمقراطية بعد أن استقرت قيمه الأساسية (الهوية: التوجه السياسي والاقتصادي والثقافي) فالديمقراطية -ولو كانت تعبر عن إرادة حقيقية- فهي في النهاية تحكم على التفاصيل، على المذهب، على المدرسة.. فيما الحال مختلف تماما في بلادنا التي تشهد صراعا على هذه القيم الأساسية (وهذه القيم الأساسية تحسم بالحرو كما حدث في الغرب نفسه).
ولكن بدأ كثير من الشباب ينشرون هذا المعنى، ووجدوا فيما كتبه ناعوم تشومسكي -وغيره من اليساريين والأناركيين وبعض الصحافيين والخبراء- مادة غزيرة في نقد الديمقراطية وبيان خدعتها.. إلا أن هذه المحاولة كانت ضعيفة ومحدودة الانتشار والتأثير.. وكيف لا والتيار العام مزهو بالديمقراطية (التي نفوز فيها رغم كل الأموال والمؤامرات والإعلام الذي يعمل ضدنا)؟!!
لقد كانت النشوة أكبر من محاولات الإيقاظ بكثير!!
10. تلقى الأولون (الواقعيون، المرنون، المتنازلون) ضربات هائلة قوضت تجربتهم في مصر وتونس واليمن، رغم أنهم بذلوا كل ما قدروا عليه من تنازلات في هذه البلاد الثلاثة لمحاولة "تجنب الصدام، تحقيق التوافق، عدم الانجرار إلى الفخ".. إما بانقلابات عسكرية صريحة كما في مصر واليمن، وإما باضطرابات وقصف إعلامي كما في تونس!
بينما بقيت تجربتا الآخرين (المتمسكين، المحافظين، المتشددين) تراوح مكانها: فلم تنجح بعد، ولم تفشل بعد، وإن كان الثمن باهظا (وكل ثورة لها أثمان باهظة في الحقيقة).
لكن الحقائق الملموسة لكل التجارب تسفر عن:
أ. السلاح يحسم المعارك، ويضرب بالسياسة وتفاهماتها عرض الحائط.
ب. المال والإعلام غيرا الخريطة الشعبية التي كانت من قبل تعطي الإسلاميين المركز الأول باكتساح، فصارت تضيق الفوارق (مرسي، شفيق - انتخابات ليبيا)، ثم صارت تميل بالكفة عليهم (انتخابات تونس 2014).
جـ. الخارج واقف بسلاحه وأمواله ومؤسساته في قلب المعركة، وعلى المخدوع بالشرعية وحقوق الإنسان أن يظل مخدوعا حتى يستيقظ على المذبحة.
11. وهنا نصل إلى الخلاصة المرجوة من هذا المقال الذي طال:
أ. الديمقراطية كـ "آلية اختيار" لا تنافي الإسلام!
ب. الديمقراطية كـ "إفراز من الفلسفة الغربية" جزء أصيل من المعركة الحضارية القائمة والدائمة بين الإسلام والغرب، وهذه هي التي يحرسها الغرب بجيوشه وأمواله، ويحاصر ويقتل من أفلتوا منها كما فعل في الجزائر وغزة ومصر.
جـ. الذين أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة "الحرية بدون إسلام" ظنا منهم بأنه يمكن منها الوصول إلى "إسلام من خلال الحرية" غفلوا عن التفريق بين هذين النوعين من الديمقراطية، وظنوا أن الصراع الحضاري يمكن أن يُحسم بغير حروب مسعرة.. ولذلك كانت دماؤهم وحدها هي الثمن المسفوك دون النتيجة المرجوة.
ورغم أن عددا من المواقف كان يدل على استحالة ذلك (مثل اضطرارهم للتوافق المناقض للديمقراطية، واكتشافهم أن العلمانيين ليس فيهم شريف يدافع عن الحرية كمبدأ وإنما هم أذيال للاستبداد وكم خانوا وغدروا وكفروا بما كانوا ينطقون به، واكتشافهم أن الغرب يطالب بأمور يسميها مصالحه أو يسميها قيم عالمية رغم أنها من صميم الخصوصية الوطنية والسيادة الوطنية).. أقول: رغم أن عددا من هذه المواقف كان يدل على استحالة الوصول إلى حرية حقيقية، إلا أن رسوخ الفكرة في أنفسهم منعهم من إدراك ذلك أو بالأحرى: لم يكونوا مستعدين -ولو أدركو- لتغيير سياستهم.
ولكن: حيث وصلنا إلى القناعة بأنه لا يمكن الوصول لمرحلة "الحرية" تمهيدا لمرحلة "الإسلام"، وحيث رأينا عدونا لا يسمح بالوصول إلى هذه المرحلة.. فالواجب إذن، أن نقصد مباشرة إلى مرحلة "الإسلام" و"الشريعة" و"الحكم الإسلامي".
د. الشعوب المسلمة تستطيع مقاومة الديمقراطية الغربية بقدر ما بقي فيها من قيم إسلامية تجعل الهيمنة للشريعة، بقدر ما فيها من حرية منابر ومساجد، بقدر ما فيها من تماسك اجتماعي.
هـ. الشعوب المسلمية تُخترق بقدر ما وصل إليها من قيم غربية، وإعلام منفلت، وأموال فاسدة، وانهيار اجتماعي، وابتعاد عن الدين.. ففي ظل الانهيار الاجتماعي والابتعاد عن الدين تبدأ الأموال الفاسدة والإعلام الفاسد في تحقيق أهدافها.
و. الشعوب تُخاطب بالوضوح.. وأما الغموض والتذبذب الذي تفرضه توازنات الساسة والفرقاء فلا يرضيهم ولا يرضي هؤلاء الفرقاء.
ز. الثورات تنتصر بالحسم، وأنصاف الثورات قبور الثوار.
حـ. الثورات في عالمنا العربي والإسلامي لا تقوم بغير الإسلام، ومحاولة تجنيب الإسلام لتجنب السخط الدولي كمحاولة تغطية الشمس بثوب!
نسأل الله الرشاد والثبات.
Published on October 27, 2014 11:38
October 21, 2014
المعركتان
من الآثار الهامشية للثورة البلشفية في روسيا أنها أدت إلى تسريب الاتفاق التاريخي بين بريطانيا وفرنسا حول تقسيم أراضي العرب الذي عرف باتفاقية سايكس بيكو، لكن هذه الفضيحة لم تحل أبدا دون أن تمضي الاتفاقية في تحقيق غايتها، لسبب بسيط: أنه سواء علم المعنيون بها أم جهلوا فإنهم كانوا أعجز عن فعل شيء إزاءها.ليس من شك في أن أطراف الاتفاقية كانوا يفضلون بقاءها سرا، إلا أن خروجها إلى العلن وإن تسبب في مضايقات لم يتسبب في تعطيلها وتعويقها!
هما إذن معركتان: معركة الوعي، ومعركة السلاح!
فليس أفشل من القوي الغبي إلا النبيه العاجز، ولربما كانت حسرة هذا الأخير أضعافا مضاعفة، فهو يرى ويسمع ثم يعجز! فتنفذ فيه إرادة عدوه دون أن يستطيع لها ردا!
ومن هنا احتاجت الأنظمة الفرعونية دائما إلى فئتين: الكهنة (أو السحرة) والجنود! فهؤلاء يفسدون الوعي ويستعبدون الناس للفرعون، وأولئك يقفون بالمرصاد لمن نجا وعيه واستطاع أن يفهم ما يحاول الإعلام تزييفه.
ومن هنا كذلك كان قوام الدين –كما قال ابن تيمية- كتاب "يهدي وسيف ينصر"! وكان نبينا الذي أرسله الله رحمة للعالمين داعية مجاهدا، رسالته تدفع الناس نحو التفكر والتأمل والتعقل والنظر، ثم تدفع من آمن منهم إلى أن يجاهدوا الباطل بأنفسهم وأموالهم، وإلا أهلكتهم جيوش الباطل (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة).
ولذلك فإن كل حركة إصلاح لا تنتبه للأمرين معا فإنها تفشل أو تُوَظَّف، فإما أصابها غلوٌّ يفضي بها إلى أن تكون كالثور الهائج لا يفرق بين عدو وحبيب، أو أصابها تفريط يجعلها كالفريسة المخدوعة يتآمر القوم على ذبحها وتقسيمها فلا تعطيهم من نفسها إلا نظرة المحب الشفوق، ولربما استغاثت من عدوها بعدوها فلم تفق إلا لحظة ذبحها، وكان آخر ما طالعته: ضحكة ساخرة شريرة!
هذا الانقلاب العسكري في مصر خير مثال!
إذ لم يكن يستطيع السحرة والكهنة أكثر من شحن النفوس بالغضب، وإخراجهم في حشود، ثم تصويرهم، وما كاد الليل أن ينقضي حتى انفض السامر! وفرغت الشحنة وعادت الحشود إلى البيوت.
وهنا استلم الجنود الزمام، فخرجوا يترجمون هذه الحالة إلى وضع جديد وواقع جديد، وبالسلاح وحده سفكوا الدماء وسيطروا على البلاد وانتهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض، ولا تسل عن شرعية، فالشرعية هي السلاح!
لم يكن أحد الجناحين ليستطيع التخلي عن الآخر، وبذات القدر، لن تتمكن حركة مقاومة الانقلاب من إسقاطه بأحد الجناحين دون الآخر.
نشر في الجزيرة مباشر مصر
Published on October 21, 2014 04:46
October 20, 2014
ملامح قرنين فاصلين في التاريخ المصري
محمد إلهاميمن أهم الفوارق بين الدولة في الإسلام والدولة الحديثة، هو أن الدولة الإسلامية تقوم على مبدأ "توازن القوى" في المجتمع، بينما تقوم الدولة الحديثة على احتكار القوة بيد السلطة. وينتج عن هذا أن السلطة في الدولة الإسلامية تقوم بالواجبات الكفائية التي لا يستطيع أحد غير السلطة أدائها مثل توفير الأمن وحفظ الثغور وإقامة الحدود وجمع الأموال المفروضة وتوزيعها فيما يقوم المجتمع بكافة الأنشطة الأخرى وقد يزاحم السلطة في بعض الأعمال كالتكافل ورعاية الفقراء والأيتام ويعتمد في هذا على الابتكار الإسلامي المبدع "الأوقاف" الذي يمثل جهاز تمويل ضخم لكل هذه الأنشطة، بينما تقوم السلطة في الدولة الحديثة بكافة الأنشطة وتتحكم في كل التفاصيل وتدير كل المرافق وتوزع الأموال ولا يملك المجتمع أن يتحرك في أي نشاط بغير إذن وتصريح منها.
ساد النظام الإسلامي في الشرق، بينما ساد نظام الدولة الحديثة في الغرب، ومن هنا كان المجتمع الإسلامي أشد ترابطا وتماسكا وقوة من المجتمعات الغربية، وكان الفرد متوزعا بين انتماءات عديدة: قبلية واجتماعية وحرفية، بينما كان النظام الغربي يميل إلى الفرديةعصر محمد علي
يعتبر عصر محمد علي انقلابا في التاريخ الإسلامي، إذ هو مؤسس الدولة الحديثة في مصر، والدولة الحديثة نشأت في سياق غربي طبيعي وبدت في ذلك الوقت وكأنها الحل الأمثل للمجتمعات، وذلك أن التفوق الغربي العسكري والصناعي جعل الأنظار في القسطنطينية والقاهرة تتوجه إلى هذا الغرب تبتغي تقليده ومعرفة سر قوته، ولذلك استعانت السلطنة العثمانية وسلطنة محمد علي في مصر بالخبراء الأجانب والنظم الأجنبية في تطوير البلاد الإسلامية، فدخلت إلينا الدولة المركزية.
وفيما لاحظ نجباء العالم الإسلامي آنذاك أن سر التفوق الغربي ليس فقط في تنمية الموارد وإنما في الحريات السياسية وانتشار العلومعصر أبناء محمد علي
ومات محمد علي وقد استطاع سحق الشعب المصري وتدجينه وتغيير نظامه الاجتماعي والاقتصادي، وصحيحٌ أنه أنجز كثيرا على مستوى البنيان والعمران لكنه قتل الروح والإنسان، ثم خلفه أبناؤه فواصلوا سياسة أبيهم إلا أنهم كانوا أقل منه شأنا وهمة، وكان بعضهم مثل إسماعيل مفتونا بأوروبا وكان غاية في التبذير، فكانت فرصة متميزة لنمو نفوذ الأجانب الذين أوجدوا كطبقة لها نفوذ منذ عصر محمد علي. لكنها اكتسبت مزيدا من النفوذ من خلال قوانين تجعل لهم وضعا اقتصاديا وقانونيا خاصا، بل وتجعلهم تابعون لسيادة دولهم دون الدولة المصرية، بل ويحكم القناصل الأجانب في أي قضية طرفها أجنبي، مما آل –واقعيا- إلى جعل النفوذ الأجنبي أقوى من النفوذ المصري.
ومن هنا تحول عصر محمد علي من حكم الفرد إلى "نظام"، وصارت له مؤسسات وطبقات منتفعة، فترسخ التغير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي بدأه محمد علي، فيما استمر ضعف النظام السياسي بضعف خلفائه، فضعف ما خلفه محمد علي من البنيان والعمران، فاجتمع على الناس الأشدان الأمران: مساوئ الدولة المركزية، والاستبداد. فكانت خيرات البلاد غير منصرفة إلى تقوية الجيوش والعمران كما في عصر محمد علي بل كانت تذهب رأسا إلى الأجانب والمتنفذين.
استدعى هذا ثورة شعبية برزت أهم فصولها في الجيش المصري، وقادها واحد من طبقة الترك ترفع عن انتمائه وآثر الانتماء إلى الحق أولا وهو محمود سامي البارودي، وكان ذراعه فيها أحمد عرابي، مع لفيف من القيادات الإصلاحية (كجمال الدين الأفغاني الذي بذر بذورها، والشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الله النديم الذي كان لهيبها وخطيبها وصوتها الشعبي) والاجتماعية.
وفيما الأمور في شد وجذب مع الخديو توفيق، سارع الإنجليز بالدخول على الخط ليسبقوا الثورة (وتقول مصادر فرنسية بأن فرنسا وافقت لأن وجود إنجلترا "العدو اللدود" في مصر خير من ثورة إسلامية)، ونزلت الجيوش الإنجليزية ولم يكن الجيش المصري (بعد نحو أربعين سنة من الضعف والتخريب) في حال يسمح له بالتصدي له، فهزمت الثورة والجيس والبلد معا، واستلم الاحتلال الإنجليزي بلدا ذات شعب قد استوى تدجينه عبر ثمانين سنة!
وكان هذا أحد آثار محمد علي في مصر، إذ الشعب بعدما نُزِع منه السلاح عجز عن مقاومة شعبية كتلك التي أشعلها في وجه الفرنسيين قبل ثمانين سنة، كما أن تخريب بنيته الاجتماعية والاقتصادية وإقامة الدولة كبديل عن المجتمع أدى إلى أن يكون سقوط الجيش الرسمي سقوطا للمقاومة، وسقوط العاصمة سقوطا للدولة والاستيلاء على مؤسسات الدولة هو استيلاء على مفاصل المجتمع.
عصر الاحتلال
عاش الاحتلال الإنجليزي سبعين عاما في مصر، وقد وجد بلدا مهيئا للاحتلال، وتحالف في وجوده مع الطبقة الحاكمة المتنفذة (الأرستقراطية التركية: الملك والعائلة العلوية والحاشية + طبقة كبار الملاك المصريين) التي اتخذ منها ظهيرا معلنا وكذلك معارضة معلنة!
عمل الاحتلال على ترسيخ النظم التي أسسها محمد علي، مع إضعاف متعمد للمؤسسات الإسلامية كالأزهر، واتخذ تدابير لإضعاف الجيش في بداية الأمر وذلك لكي يعيد إنشاء جيش وشرطة على عينه، وقد كان، ومنذ تلك اللحظة حتى كتابة هذه السطور كانت الشرطة والجيش في مصر أذرع تعمل في صالح الاحتلال وإن بشكل غير مباشر.
لقد حافظ الاحتلال على المؤسسات المصرية ليجعل منها قلاعا للتغريب، واستعمل كل الإمكانيات المصرية في خدمة مصالحه، حتى الجيش المصري استعمله في حروبه، واستطاع الجيش المصري في الحرب العالمية الأولى القضاء على ثورة في السودان ضد الإنجليز والسنوسيين في الغرب وهزيمة القوات العثمانية عند قناة السويس (مما أدى بشكل مباشر لاحتلال الإنجليز لفلسطين وضياع القدس)، وعملت أنظمة التعليم والثقافة والإعلام على ترسيخ القيم الغربية وإفراز نخب وطبقة متغربة تمثل ظهيرا له، واستطاع من خلال بعضهم (سعد زعلول وحزب الوفد) إجهاض ثورة شعبية كبرى اندلعت في (1919م) حتى أدخلها في دهاليز ومتاهات التفاوض (وقد فشلت المفاوضات بطبيعة الحال، فالثورة لحظة فارقة) وقضى عليها، وعادت الأحزاب الهامشية تتعارك حول سلطة وهمية تحت ظل حراب الاحتلال.
الحكم العسكري
يتفق جمهور المؤرخين على أن مصر في مطلع الخمسينات كانت تغلي وتتهيأ لثورة شعبية جديدة، حتى إن حزب الوفد نفسه اتضح أنه فقد السيطرة على الجماهير، وظهرت حركات أشد فتوة وثورية وإن كانت نقطة ضعفها الرئيسية أنها كانت خارج نطاق الحكم والسلطة، وبالتالي ضعيفة التأثير في إحداث تغيير كبير.
وترافق ذلك مع انتهاء الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن أفول نجم إنجلترا وفرنسا وبزوغ نجم أمريكا والاتحاد السوفيتي، وبدأت القوتان الجديدتان في وراثة القوتان الشائختان، وكانت مصر من نصيب الأمريكان التي استطاعت ترتيب انقلاب عسكري في يوليو 1952م، وسبق ذلك انقلابات مماثلة في سوريا وتبع ذلك انقلابات أخرى في العراق مع ترتيب الوضع مع عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في السعودية.. فالخلاصة أن أمريكا ورثت منطقة الشرق الأوسط.
لئن عانى المصريون من استبداد محمد علي، ثم أضيف عليهم مساوئ الدولة المركزية الفاسدة في عهد خلفائه، ثم أضيف عليهم الاحتلال الأجنبي.. فلقد جاءت لحظة تمثل الأمل، لأول مرة يحكم المصريون مصري، فأحرى به أن يكون مخلصا لبلاده غير تابع لأحد!
إلا أن الحال جاء عكس الحال، فقد كان الحكم العسكري أسوأ الأحقاب على هذه البلاد قاطبة، وقد فعل بالمصريين ما لم يجرؤ الاحتلال الإنجليزي نفسه على فعله، لقد أكمل سياسة المحتلين بأشرس ما يمكن، وتفنن في إذلال المجتمع وكسر طاقاته الثورية والروحية، وفقد المصريون حتى أخلاق الملوك فجاءهم شراذم الناس وأسافلهم في موقع السلطة، فاجتمعت أخلاق السفلة مع طباع العسكرية الغليظة الجلفة، وتدهورت البلاد بسرعة غير متصورة على كافة المستويات: اقتصادا وثقافة وسياسة وحتى قدرة عسكرية، ولم يحقق العسكر –وهم في موقع السلطة- ولا نصرا واحدا، بل كان عهدهم سلسلة من الهزائم المتوالية، وضاعت في عهودهم أرض العرب والمسلمين، ولم يكن لهم من إنجاز إلا في سحق الشعوب وكسر ثوراتها.
لم يُسمح في عهد عبد الناصر بمجرد وجود معارضة، وكانت السجون والمعتقلات تفتح أفواهها لكل من يشتم منه رائحة عدم الرضا، وحورب الإسلام لا بحرب أهله فحسب بل بحرب القيم، وأدخلت الشيوعية قهرا وقسرا في مؤسسات الإعلام والتعليم والثقافة، وألغيت آخر مظاهر الإسلام في المؤسسات: المحاكم الشرعية، ولم يبق من الشريعة إلا الأحوال الشخصية تقضي بها محاكم علمانية وقضاة لم يتلقوا قسطا كافيا من علم الشريعة.. أما باقي المؤسسات والأنشطة فكانت الشيوعية هي الدين الذي يسيطر عليها وتنطق باسمه.
واضطر أنور السادات –بعدما خلف عبد الناصر- إلى الاستعانة بالإسلاميين لتقوية جانبه ضد رجال عبد الناصر والشيوعيين، وخاض حرب أكتوبر –وهي في أحسن الأحوال نصف نصر عسكري- التي يراها كثير من المحللين حرب تحريك لا تحرير، إذ تفيد مجمل مذكرات شهود هذه الفترة أن السادات كان يريد إنهاء الحرب والوصول إلى سلام بأي ثمن وبأي تنازلات، وقد أفضى هذا إلى معاهدة سلام تمثل فضيحة سياسية فوق كونها جريمة شرعية مع إسرائيل!
وفي سياق تحولات السادات عن سياسية عبد الناصر، بدأ في التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، وأهم ملامحها الانفتاح الاقتصادي (ولم يفكر أبدا في انفتاح سياسي حقيقي، بل سمح بانفتاح شكلي يمكن من خلاله إنشاء أحزاب ووجود معارضة صورية تعمل بإذن من الدولة وتحت سيطرتها الكاملة)، فأنتج هذا بزوغا سريعا لطبقة تجارية مصرية قلبت لمرة أخرى البناء الاجتماعي المصري، وبذرت فيه بذرة الاستهلاكية والنشاطات الترفيهية والخدمية (دون الاقتصاد الحقيقي والتصنيع)، فظهرت في مصر آثار التحول إلى الرأسمالية بأسرع وأعنف ما يمكن: مثل الهجرة المتتالية من الريف إلى المدن مع ما يحمله ذلك من مشكلات اجتماعية للريف والمدينة على حد سواء، ومن انهيار للأخلاق الراسخة ليحل محلها أخلاق السوق النفعية، ثم كان وجود الفساد في مؤسسات الدولة مما جعل السياق كله عاملا على دفن المواهب الحقيقية في مقابل صعود الانتهازيين والمتطفلين، لأن مؤسسات الدولة لم تعد ذات كفاءة لتخريج الأفضل، مع قدرة الطبقة الجديدة المتشكلة حول السلطة على أن تكون طبقة مغلقة لا يدخلها إلا ذوي المواهب في التملق والتسلق.
ثم جاء عصر حسني مبارك، وهو رجل بليد بلا رؤية ولا مواهب ولا إنجاز، وطال عمره حتى حكم ثلاثين سنة كأنما وُضِعت فيها البلد في ثلاجة، فلم تحدث تحولات مهمة إلا أن مسار المساوئ التاريخية منذ عصر محمد علي صار ينمو ويضطرد ويزيد، فازدادت شدة وتماسك الطبقة الحاكمة المؤلفة من عسكر ورجال أعمال، وانتهى إلى العدم إي إصلاح سياسي حتى وصل الحال به في سنواته الأخيرة أن يمهد لتوريث الحكم لابنه فيما يشكل انقلابا على مبدأ الجمهورية نفسه الذي اكتسب منذ ستين سنة، وازداد التدهور على كل المستويات حتى صارت مصر ذراعا أمريكيا صريحا في حرب الحركات الإسلامية في مصر وسائر المنطقة العربية، وتولت تقويض المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس وغيرها)، وسارت في طريق التطبيع مع إسرائيل إلى آخر الشوط حتى عُدَّ حسني مبارك كنزا استراتيجيا للإسرائيليين.
على أن ترسيخ الرأسمالية هذا (الانفتاح الاقتصادي دون الانفتاح السياسي) لم يكن خالصا، فما إن ظهرت طبقة من رجال الأعمال تعمل في الاقتصاد الحقيقي حتى صفيت، فيما عرف بتصفية شركات توظيف الأموال، وهو ما يراه المفكر المصري القدير الضربة الرابعة في تاريخنا المعاصر، إذ تعرضت الطبقة البورجوازية الوطنية في بلادنا –وهي الطبقة التي قامت على أكتافها كل النهضة المعاصرة في أمريكا وأوروبا واليابان- لأربع ضربات قاسية فالأولى هي ضربة محمد علي، والثانية هي ضربة الاحتلال الإنجليزي، والثالثة هي ضربة عبد الناصر، والرابعة هي ضربة حسني مبارك لشركات توظيف الأموال.
ثم جاءت ثورة يناير 2011، وما تزال فصولها دائرة، وحقيقة المعركة بينها وبين النظام هو في قدرتها على إنهاء دولة محمد علي العسكرية الاستبدادية المركزية وما نشأ حولها من طبقة اقتصادية نفعية انتهازية لصالح تمكين حقيقي للشعب وصياغة جديدة للبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهذا البناء الجديد لا يكون إلا بالإسلام الذي له من العمق والرسوخ كما له من القدرة على تثوير الناس وإشعال طاقاتهم ما يجعله الأقدر على إنجاز التغيير الأسرع والأعمق والأقوى.
هذا بالإضافة إلى ما للإسلام من نمط في بناء الدولة والمجتمع يقوم على "توازن القوى" بين السلطة والمجتمع، وهو سر النهضة الإسلامية الأولى، وهو ما اقتبس بعضه النظام الحديث في جانب "مؤسسات المجتمع المدني" التي لم تبلغ شيئا مما بلغه النشاط المجتمعي الإسلامي لطبيعة نظام الدولة الحديثة نفسه.من الطبيعي أن تكون المعركة قاسية ومريرة، ولكن ما دام للثورة رجال يبذلون وسعهم ويستعينون بالله على عدوهم، فالنصر بإذن الله قريب ومأمول.
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، تويتر @melhamy الفردية من الأعمدة الستة للحضارة الغربية كما في كتاب "انتحار الغرب" لريتشارد كوك وكريس سميث، وهي شائعة في الفلسفة الغربية عموما. ويراجع هنا ما كتبه أمثال الشيخ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق، وهم أوائل الرحالة الذين زاروا أوروبا في ذلك الوقت وكتبوا رحلاتهم وفيها خلاصة أسفارهم. كان محمد علي نموذجا مبكرا من أتاتورك في تركيا والشاه رضا بهلوي في إيران وأمان الله خان في أفغانستان. وهذا رغم أن السلاح الموجود بيد الأمة هذا قد أنقذ له عرشه إذ استطاع المصريون وبمقاومة شعبية صد حملة فريزر الإنجليزية (1807) قبل أن يتحرك لها محمد علي.
Published on October 20, 2014 13:22
August 12, 2014
حسام أبو البخاري
سيكتب الكثيرون عن محرقة رابعة في ذكراها، وحُقَّ لهم أن يكتبوا، وما كل ما سيُكتب سيوفيها حقها، فأنى يستوى الحبر والدم؟! وما نفع الكلام في موطن الرصاص؟! ومتى تحيط العبارة بمنزلة شهيد؟! فكيف والشهداء آلاف، والدماء نضاخة، والظلم كثير!!
وفي ظل هذه الساحة الغزيرة الأحداث والمواقف اخترت أن أكتب عن واحد فقط: الأسير الحر الأبي: حسام أبو البخاري.
فقصة حسام عنوان لقصة جيل من الشباب الإسلامي الحر الذي ظُلم من الجميع، رغم أنه كان الأكثر بذلا ومغرما والأقل مكسبا ومغنما، ذلك هم الذين اصطلح على تسميتهم "الشباب الثوري الإسلامي".
وأما ظلمهم فقصة تطول جدا، ومختصرها:
1. أنهم أكثر من ظُلِموا قبل الثورة إذ لم يكن ينتبه لهم أحد إلا أجهزة الأمن التي أذاقتهم سوء العذاب ثم لم يكن الإعلام ولا منظمات حقوق الإنسان تعلم عنهم شيئا، وإن علمت فلا تهتم، وذلك أن بالها مشغول بالشباب الليبرالي واليساري.
2. ثم ظُلِموا حين نزلوا الثورة من أول لحظة وكانوا في طليعة فرسانها وقُدَّاح شرارتها لكنهم اتهموا بالغياب عنها وركوب موجتها إذ الإعلام قد فُتِح أيضا للشباب الليبرالي واليساري، الذي صار يرطن بأنهم كانوا يحرمون الخروج على الحاكم.. وكذبوا، فالإسلاميون أول من خرجوا وأكثر من ذاقوا عذاب الخروج على الحاكم وقت أن كان هؤلاء وأمثالهم لا يعلمون شيئا ولا يجاهدون نقيرا.
3. ثم ظُلِموا حين ظلوا في ساحة مقاومة العسكر التي غاب عنها شيوخ الإسلاميين وقيادات حركاتهم فاتُّهِموا من إخوانهم وشيوخهم بالنزق والتهور والاندفاع وسوء الأدب مع الكبير وعدم تقدير ذوي السابقة وبالتأثر بالمناهج اليسارية والليبرالية المنحرفة.
4. ثم ظُلِموا حين دافعوا عن خيار الشعب وإرادته ووقفوا خلف النظام الذي رأسه الدكتور مرسي رغم أن الإخوان لم يعيروا لهم اهتماما في أي مرحلة من الثورة بل خانوهم وغدروا بهم في أحيان كثيرة أبرزها في مذبحة العباسية.
5. ثم ظُلِموا حين وقع الانقلاب فخانهم "رفقاء" الميدان وحرضوا عليهم وشاركوا في قتلهم وتشويههم والشماتة فيهم.
فهم أخلص من ثار وأكثر من ظُلِم وأقل من انتفع بهذه الثورة في كل مراحلها.
ولئن كان شيوخ الحركة الإسلامية الثورية قليل، فلقد كان شباب الثورية الإسلامية كثير، ومثلما كان الشيخ البصير حازم أبو إسماعيل عنوانا على هؤلاء الشيوخ، فلقد كان حسام أبو البخاري عنوانا على هؤلاء الشباب! بما تميزا به من فصاحة وموهبة إعلامية وقدرة على البيان والجدل!
كان حسام قبل الثورة ثورة، تصيب سهامها دولة مبارك وكنيسة شنودة، فتطارده أجهزة أمنه فيحيا في القلق والحذر والخوف لا يصده ذلك عن دينه أو قضيته، وكان –ومعه رفيقه خالد حربي- ممن أقلقوا الكنيسة وأرقوا مضجعها حين حملا ملف مكافحة التنصير وإسلام المسلمات إلى الكنيسة في بلد خان أزهرها وصمت دعاتها.
فما إن جاءت الثورة إلا وكان حسام في مشاهدها جميعا، يعرف ذلك من كان ينزل إلى الميادين لا يجلس على تويتر، فلا يكاد مشهد منها إلا وحسام في قلبه، بما في ذلك مشهد محمد محمود الذي صار صنم الأغبياء الحمقى الجهلة أدعياء الثورية.
وكان حسام حساما على العسكر طوال الفترة الانتقالية، ولأجل هذا كان شديدا على الإخوان وسلفية حزب النور الذين مهدوا –بجهل وغباء، وخيانة أحيانا- لحكم العسكر، ثم حين فاز الرئيس مرسي وبدا للمغيبين أن العسكر قد رحلوا كانت حلقات حسام أبو البخاري على قناتي أمجاد ثم الندى لا همَّ لها إلا إيقاظ الناس وتنبيههم إلى أن العسكر لم يرحلوا وأنهم ما زالوا يحكمون، وأن معركة الثورة المصرية هي معركة نظام عالمي تجلس أمريكا على عرشه، وأمريكا لن تفرط في مصر والمعركة لم تنته.
وأخرج حسام وبجهده وحده مظاهرة نحو جهاز أمن الدولة حين ظهرت بادرة طفيفة لاحتمال عودة هذا الجهاز، وهو الأمر الذي رفضه كافة الفاعلين على الساحة –بما فيهم الإخوان الذين رفضوا وحرضوا على هذه المظاهرة- ولم يستجب له إلا الشباب الإسلامي الثوري.
ثم جاء الانقلاب فلم يكن خلافه مع الإخوان ذريعة له لكي يترك قضية الإسلام (نعم، فالانقلاب هو حرب على الإسلام لا على الإخوان)، وظل يصدح على منصة رابعة بما كان يصدح به في برنامجه من قبل، لكن كانت الآذان قد انفتحت والقلوب قد استيقظت فكانت كلمات حسام حينئذ تنزل في النفوس ذلك المنزل الذي طالما تمنى أن يدركه من قبل! من قبل أن تحدث الكارثة!
ثم كان يوم المحرقة العظمى والمذبحة الكبرى، يوم رابعة، وفيها أصيب الشاب النبيل الشهم الأبي برصاصة في فكِّه، ثُمَّ أُسِر وظل ساعات في هذا الأسر، حتى شاء الله فارتبكت صفوف الذئاب فكانت فرصة ليفلت من أسرهم بعض من أُسِر، ونُقِل إلى المستشفى.. ولذلك ظن كثيرون يومها أنه قد استشهد.
وحين نُقِل إلى المستشفى قَدَّر الله أن فيها واحدا ممن حولهم العسكر وإعلامه إلى شياطين في جثمان إنس، فأبلغ هذا "الطبيب" عن هذا المصاب، فجاءت ذئاب الشرطة تأخذه إلى الأسر الطويل، لتلفق له القضية بعد القضية بعد القضية.
لتكتمل بهذا قصة شاب حر هي عنوان على طائفة من الشباب لا نعرف كثيرا منهم، لا أسماءهم ولا أحوالهم ولا منازلهم الآن من النفي أو الأسر أو الشهادة أو المطاردة!
فأي الناس لهم بلاء في الثورة كهذا البلاء؟!!
وأيهم ظلمه الجميع كهذا الظلم؟!!
وأيهم كان مثل حسام وصحبه، بذلا في المغرم وعفة عند المغنم؟!!
صدق المتنبي إذ قال:فلقد عُرِفتَ وما عُرِفتَ حقيقة .. ولقد جُهِلتَ وما جُهِلتَ خمولا
نشر في شبكة رصد
Published on August 12, 2014 11:25
August 1, 2014
حرب غزة في ميزان المصالح والمفاسد
كان مما فُجِعنا به في مصر حين قامت ثورة يناير ثم حين جاء الانقلاب العسكري المشؤوم، أن رأينا بعض المنتسبين إلى العلم والفقه والدعوة وقد اختاروا السكوت والعزلة والاختفاء من المشهد، وبعض منهم وقف في صف مبارك ثم في صف السيسي، وقد أفصح موقفهم هذا عن خلل خطير في النظر والتصور نشأ عنه الخلل الأكبر في الفتاوى والمواقف.
ولسنا نتحدث هنا عمن باعوا دينهم بدنيا غيرهم ورضوا بالمال الحرام نظير الموقف الحرام، بل نتحدث عن أناس نحسبهم من المخلصين، لم يستفيدوا من هذه المواقف ولم يكونوا قبل ذلك ولا بعده من المرضي عنهم، وإنما كان حظهم من العلم بالواقع ضحلا ضئيلا فكان تنزيلهم للأحكام الشرعية على هذا الواقع فاحش الخطأ والخطورة.
إن حرب غزة تمثل فرصة لهؤلاء كي يفقهوا أن الانقلاب العسكري لم يكن مجرد صراع على الكرسي ولا هو ينتمي إلى الصراع السياسي ولا كان استجابة لسخط الناس أو دفعا لأخطاء مرسي، بل هو على الحقيقة حلقة في مسلسل الحرب على الإسلام وأهله، ودفاعا عن بقاء مصر في فلك الصهاينة والأمريكان.
ولئن كان كثير من أفعال الانقلابيين يدل على هذا، منذ أول إغلاق القنوات الدينية وحتى منع الدعاء والصلاة على النبي وما بينهما من مقاتل ومحارق ومذابح وإغلاق مساجد وإبادة لأهل الدين.. نقول: لئن كان كثير من أفعال الانقلابيين يدل على هذا، إلا أن الحرب على غزة هي الحدث الأكبر والأكثر إيلاما والأوضح آثارا. وهذه الحرب تثبت الفارق الكبير بين أن يكون في موقع الرئيس رجل كمرسي أو آخر كالسيسي، فالأمر ليس مجرد استبدال شخص بشخص، بل هو استبدال منهج بمنهج، عقيدة بعقيدة، نظام بنظام، بكل ما يترتب على هذا من آثار تشمل جميع الأمة في سائر أقطارها.
وهنا يجب أن يعتدل ميزان المصالح والمفاسد الذي استند إليه هؤلاء المنتسبون إلى الفقه فلم يقفوا بكل قواهم خلف مرسي ونظامه أو ضد السيسي ونظامه، ومنهم زاد على هذا أن سكت واعتزل واختفى، ومنهم من مارس التخذيل والتثبيط ونَظَّر وفَصَّل في عبثية مقاومة الانقلاب ودعا إلى التسليم له حفظا للنفس وحقنا للدماء، وما درى هذا أن هذا الاستسلام هو ذاته الذي سيسيل الدماء أنهارا عبر سنين الاستبداد، دون أن يجرؤ أحد على أن يعترض!
انظروا إلى غزة
آخر ما يستطيع الصهيوني أن يناله منهم أن يقصف بالطائرات، لكنه لا يستطيع أن يستدعي أحدا من الغزاويين فيعتقله أو يعذبه أو يأخذ امرأة منهم فيذلها أو يعبث بعرضها أو ينتهك حرمتها، بينما انظر إلى سائر الشعوب التي تحكمها الأنظمة المستبدة، كيف تنتهك حرماتهم وتهون أعراض رجالهم ونسائهم ويذوقون الذل مُرًّا حنظلا مُرَكزًّا ليلا ونهارا، بل وترى المستبدين يعملون لصالح الاحتلال ويوفرون عليه بذل المجهود، فيعذبون ويحققون ويحبسون أبناء شعبهم لأجل خدمته.
انظروا إلى غزة العزة.. ثم انظروا إلى الضفة التي هي جزء مصغر من حال بلادنا العربية المنكوبة بالمستبدين!
يجب أن يتصحح ميزان المصالح والمفاسد لدى المنتسبين إلى الفقه والعلم، فيعلموا أنه لا يستوي حكم حماس وحكم فتح، كما لا يستوي حكم مرسي وحكم السيسي، لا يستوي حكم الصالحين وحكم المجرمين، والصراع بين هذين الطرفين ليس صراعا حول كراسي ولا مناصب، بل هو صراع حول الأمة ومستقبلها وعزتها وكرامتها. فلو صدقوا فإن الفرصة لم تفت بعد، ذلك أن نصرة أهل غزة بالنسبة لنا نحن في مصر هي كسر هذا الانقلاب الذي هو أشد عليهم من الصهاينة أنفسهم، وكسر هذا الانقلاب هو نصرة للأمة في كل مكان.
الآن حماس تستطيع مخاطبة العالم مستندة إلى قوتها على الأرض أولا ثم إلى الموقف التركي والقطري، فما بالك لو كان أضيف إليهما الموقف المصري بما له من ثقل وقوة سياسية؟ وأهم من القوة السياسية ما للموقف المصري من قوة على الأرض فعلا بحكم الجغرافيا، وكيف تستطيع المقاومة أن تطور من نفسها ماديا لو كان في مصر حكم مخلص راشد، فضلا عن السند السياسي.
نحن نقول بوضوح إن جهاد أهل مصر ونصرتهم للمسلمين يتركز في كسر هذا الانقلاب.. بل أقول: إن مجرد كسر هذا الانقلاب حتى لو من غير استعادة الشرعية هو في حد ذاته نصر كبير لأهل غزة، لأن وجود الفوضى أفضل من حكم استبدادي شرس يوظف كل إمكانيات الدولة والناس لصالح العدو وضد أهل غزة. نشر في الجزيرة مباشر مصر
ولسنا نتحدث هنا عمن باعوا دينهم بدنيا غيرهم ورضوا بالمال الحرام نظير الموقف الحرام، بل نتحدث عن أناس نحسبهم من المخلصين، لم يستفيدوا من هذه المواقف ولم يكونوا قبل ذلك ولا بعده من المرضي عنهم، وإنما كان حظهم من العلم بالواقع ضحلا ضئيلا فكان تنزيلهم للأحكام الشرعية على هذا الواقع فاحش الخطأ والخطورة.
إن حرب غزة تمثل فرصة لهؤلاء كي يفقهوا أن الانقلاب العسكري لم يكن مجرد صراع على الكرسي ولا هو ينتمي إلى الصراع السياسي ولا كان استجابة لسخط الناس أو دفعا لأخطاء مرسي، بل هو على الحقيقة حلقة في مسلسل الحرب على الإسلام وأهله، ودفاعا عن بقاء مصر في فلك الصهاينة والأمريكان.
ولئن كان كثير من أفعال الانقلابيين يدل على هذا، منذ أول إغلاق القنوات الدينية وحتى منع الدعاء والصلاة على النبي وما بينهما من مقاتل ومحارق ومذابح وإغلاق مساجد وإبادة لأهل الدين.. نقول: لئن كان كثير من أفعال الانقلابيين يدل على هذا، إلا أن الحرب على غزة هي الحدث الأكبر والأكثر إيلاما والأوضح آثارا. وهذه الحرب تثبت الفارق الكبير بين أن يكون في موقع الرئيس رجل كمرسي أو آخر كالسيسي، فالأمر ليس مجرد استبدال شخص بشخص، بل هو استبدال منهج بمنهج، عقيدة بعقيدة، نظام بنظام، بكل ما يترتب على هذا من آثار تشمل جميع الأمة في سائر أقطارها.
وهنا يجب أن يعتدل ميزان المصالح والمفاسد الذي استند إليه هؤلاء المنتسبون إلى الفقه فلم يقفوا بكل قواهم خلف مرسي ونظامه أو ضد السيسي ونظامه، ومنهم زاد على هذا أن سكت واعتزل واختفى، ومنهم من مارس التخذيل والتثبيط ونَظَّر وفَصَّل في عبثية مقاومة الانقلاب ودعا إلى التسليم له حفظا للنفس وحقنا للدماء، وما درى هذا أن هذا الاستسلام هو ذاته الذي سيسيل الدماء أنهارا عبر سنين الاستبداد، دون أن يجرؤ أحد على أن يعترض!
انظروا إلى غزة
آخر ما يستطيع الصهيوني أن يناله منهم أن يقصف بالطائرات، لكنه لا يستطيع أن يستدعي أحدا من الغزاويين فيعتقله أو يعذبه أو يأخذ امرأة منهم فيذلها أو يعبث بعرضها أو ينتهك حرمتها، بينما انظر إلى سائر الشعوب التي تحكمها الأنظمة المستبدة، كيف تنتهك حرماتهم وتهون أعراض رجالهم ونسائهم ويذوقون الذل مُرًّا حنظلا مُرَكزًّا ليلا ونهارا، بل وترى المستبدين يعملون لصالح الاحتلال ويوفرون عليه بذل المجهود، فيعذبون ويحققون ويحبسون أبناء شعبهم لأجل خدمته.
انظروا إلى غزة العزة.. ثم انظروا إلى الضفة التي هي جزء مصغر من حال بلادنا العربية المنكوبة بالمستبدين!
يجب أن يتصحح ميزان المصالح والمفاسد لدى المنتسبين إلى الفقه والعلم، فيعلموا أنه لا يستوي حكم حماس وحكم فتح، كما لا يستوي حكم مرسي وحكم السيسي، لا يستوي حكم الصالحين وحكم المجرمين، والصراع بين هذين الطرفين ليس صراعا حول كراسي ولا مناصب، بل هو صراع حول الأمة ومستقبلها وعزتها وكرامتها. فلو صدقوا فإن الفرصة لم تفت بعد، ذلك أن نصرة أهل غزة بالنسبة لنا نحن في مصر هي كسر هذا الانقلاب الذي هو أشد عليهم من الصهاينة أنفسهم، وكسر هذا الانقلاب هو نصرة للأمة في كل مكان.
الآن حماس تستطيع مخاطبة العالم مستندة إلى قوتها على الأرض أولا ثم إلى الموقف التركي والقطري، فما بالك لو كان أضيف إليهما الموقف المصري بما له من ثقل وقوة سياسية؟ وأهم من القوة السياسية ما للموقف المصري من قوة على الأرض فعلا بحكم الجغرافيا، وكيف تستطيع المقاومة أن تطور من نفسها ماديا لو كان في مصر حكم مخلص راشد، فضلا عن السند السياسي.
نحن نقول بوضوح إن جهاد أهل مصر ونصرتهم للمسلمين يتركز في كسر هذا الانقلاب.. بل أقول: إن مجرد كسر هذا الانقلاب حتى لو من غير استعادة الشرعية هو في حد ذاته نصر كبير لأهل غزة، لأن وجود الفوضى أفضل من حكم استبدادي شرس يوظف كل إمكانيات الدولة والناس لصالح العدو وضد أهل غزة. نشر في الجزيرة مباشر مصر
Published on August 01, 2014 05:19
July 26, 2014
لبس عباس ثياب المناضلين!
هذه هي المرة الأولى التي تقاتل فيها إسرائيل كيانا حقيقيا مستقلا.. غزة!
ولهذا كان خالد مشعل صادقا حين فسر أزمة نتنياهو بأنه دخل غزة أعمى، وكانت عادته أن يدخلها بصيرا بعيون العملاء، فأولئك العملاء هم سبب النكبات، وهم الذين مهدوا لإسرائيل في كافة حروبها السابقة، منذ 1948 وحتى هذه الحرب، فلما استقلت غزة بشكل حقيقي بحسم المقاومة وفككت شبكات التجسس وضعت إسرائيل في موقف هو الأول من نوعه! ومن يطالع تاريخ الحروب مع إسرائيل يجد عجبا، فلك أن تعلم أن الطائرات المصرية كانت مصفوفة إلى جوار بعضها تنتظر الضرب حتى صرح قائد السرب بأن ما فعله "يفوق أكثر أحلامه جنونا"، ولك أن تعلم أن جنديا سوريا تعطلت دبابته بعد أن أتاه الأمر بالانسحاب فأراد أن يغطي انسحابه فأدار فوهة الدبابة وأطلق قذيفة واحدة تجاه الجيش الإسرائيلي، فأخَّر بهذا سقوط القنيطرة تسع ساعات، حتى لقد أُعْلِن عن سقوطها من الإذاعة السورية قبل أن تسقط!
لنعد إلى غزة حيث العزة..
السعي السياسي المحموم يدل على إن إسرائيل لا تنوي تطويل المعركة تبعا للمفاجآت، بل تريد إنهاءها بأي شكل، ثم تتفرغ للمرحلة الجديدة من الحرب "نزع سلاح المقاومة" أملا منها أنها إذا نجحت في هذه المهمة عادت للحرب من جديد!
ولكن كيف؟!
لم يطل الوقت لنخمن، فقد جاءنا الخبر اليقين، إذ ارتدى محمود عباس ثياب المناضلين، وهتف عريقات –فارس المفاوضات- هتاف المجاهدين، وخرج علينا ياسر عبد ربه يحدثنا بلسان الثائرين، وإن دسَّ في حديثه كلاما عن الميت المقبور المدعو "منظمة التحرير الفلسطينية" كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني!
فهل هي توبة جماعية جديدة نزلت على ساحة رام الله؟! فما بال التنسيق الأمني "المقدس" قائم على قدم وساق، حتى لقد قمعوا المظاهرات المساندة لغزة؟!
الواقع –كما يبدو- أن إسرائيل فتشت في سجل عملائها فوجدته فارغا إلا من جماعة رام الله، فلم تجد غيرهم لتسند إليه مهمة ارتداء ثوب المقاومة لضربها من الداخل، ولا يُستبعد أن تُقدم إسرائيل على تنازلات تبيض بها وجوههم من قبيل تجميد مؤقت للاستيطان أو دفعة أخرى للمفاوضات أو إفراج عن مساجين جنائيين فيُسَوَّق هذا على أنه "تحرير أسرى".. أو أي شيء آخر، فجراب الحاوي زاخر!
وفي حين تخلو جماعة رام الله من أي مؤهل لممارسة دور النضال والكفاح، فإن الرهان قائم على تغيير هذه الصورة من خلال ضغط إعلامي مسنود بتنازلات إسرائيلية وهمية، وكدت أقول لا مانع من إحياء المذبوح على أيديهم "كتائب شهداء الأقصى" لولا أني رأيت بالفعل أنها قد أعيدت "إعلاميا" من خلال بيان ألقاه ثلاثة ملثمين!المعضلة الآن: هي كيف نخرج من هذه الحرب؟ وكيف نجبر حماس على القبول بالمبادرة المصرية، التي قد نسميها بعد قليل الهدنة الإنسانية؟!
هذا هو الدور الذي استجلب لنا كيري وبان كي مون ووفود دبلوماسية ظهرت في حياتنا فجأة تنتقل من الدوحة إلى اسطنبول إلى القاهرة، تحاول إنقاذ إسرائيل، والوصول لوقف إطلاق نار بلا مكاسب سياسية!
حماس صامدة حتى الآن تؤكد أنها لن توقف الحرب إلا برفع الحصار، وإنجازاتها على الأرض تؤيدها، وإن كان الثمن المبذول غاليا من دماء المدنيين الذين لا يجد الإسرائيليون غيرهم ليقتلوهم فيحققوا بهم نصرا وهميا نفسيا يغطون به خيبتهم الثقيلة وأزمتهم الخانقة.
نسأل الله أن تكون القيادة السياسية للمقاومة على مستوى القيادة العسكرية، ذكاء وصمودا وقوة، فوراءها بعد حرب غزة حرب أخرى مع جماعة رام الله في ملف "الشرعية/ المتحدث باسم الشعب الفلسطيني/ سلطة واحدة وسلاح واحد/ ... إلخ".
فهذا هو الجهاد الأكبر!
وصدق المتنبي:وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ .. فعلى أي جانبيك تميل
على أن مجرد الصمود في معارك الأرض ومعارك السياسة مكسب ضخم، والوقت الآن في صالحنا لا في صالحهم، إذ أن انتصار غزة هذا سيفجر –ولأول مرة في التاريخ الإسرائيلي- الصراعات البينية في مجتمعهم الذي لم يعد يجد حربا ليخوضها، فدول الجوار إما عملاء وإما أبطال لا تُكسر شوكتهم، وهم كما قال ربنا تبارك وتعالى (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى)، فإذا سُدَّ عليهم باب تصريف الخلافات الداخلية في الحروب الخارجية فقد انفتح عليهم باب المنازعات والمشاكسات ليظهر البأس الشديد.
وفق الله المجاهدين ورزق بلاد العرب أمثالهم.
نشر في الجزيرة مباشر مصر
Published on July 26, 2014 06:11
July 20, 2014
بعض ما لن يُقال عن غزة
لماذا أباح الله السكوت عن قول الحق في حال الخوف؟ بينما لم يُبِح قول الباطل إلا في حال الاضطرار خوفا من الهلاك؟
ذلك أن السكوت عن قول الحق نقص، بينما قول الباطل تزوير وتزييف وتشويش وتغيير لحقائق الأمور، والضرر من السكوت عن قول الحق لا يقارن بالضرر الناشيء عن اعتناق الباطل، فالضرر الأول "جهل"، والضرر الثاني "جهل مركب"، والجهل المركب: أن يجهل المرء الشيء وهو يظن أنه يعلم!
ولهذا ربما جاز للبعض ألا يتكلم بسوء عن الأنظمة العربية، لا سيما التي تحكمه، خوفا من بطشها المحتمل.. لكن الذي لا يجوز هو مدحهم والثناء عليهم ودعم شرعيتهم وإلباسها ثوب الحق بينما هم الباطل نفسه؛ فإن ذلك قلب للحق ليكون باطلا، فيفت في عضد أهل الحق ويزيد في عدد وعضد أهل الباطل وينصر الباطل على الحق أو على أقل تقدير يؤجل المواجهة المستحقة وقد يضيع عليها لحظة ثمينة كان يمكن أن تكون لحظة النصر.
أولى أولويات معركة الوعي أن يدرك الإنسان صديقه وعدوه، وأخطر ما في هذه المعركة حين يحيا المرء معتقدا أن الصديق عدو، وأن العدو صديق.. وذلك ما وقعنا ونقع فيه: أننا نرى هذه الأنظمة العربية منا ونحن منهم، بينما هم رجال العدو في بلادنا يقتلوننا قبل أن يطلب، ويحاصروننا قبل أن يرغب، ويسرقوننا قبل أن ينهب.. يحافظون على مصالحه، وهو يدعمهم ويحافظ على عروشهم.
وأسوأ مشاهد هذه المعركة حين تحسب الشعوب أنها أنظمة شرعية، فيتخاذلون عن الثورة، ويتخوفون من الاحتجاجات، ويأملون في أن يتغيروا من تلقاء أنفسهم، ويرضون منهم بالقليل من الفتات الذي يلقونه إليهم تخوفا من هبتهم... وهكذا!
إن إضعاف هذه الأنظمة هو تقوية للأمة، إن أحسن الأنظمة حالا من يسكت على حرب المسلمين في غزة، وإبادتهم في سوريا، وإفنائهم من إفريقيا الوسطى، وسحقهم في مصر، وتركيعهم في ليبيا، وذبحهم في بورما ... إلى آخر مذابحنا التي لا تعد.
أما غالب هذه الأنظمة فهي تشارك في هذه المذابح بيدها مرة وبأموالها مرات وبإعلامها مرات ومرات ومرات.. وقد بلغنا من الهوان حدًّا تُناقش فيه عمالتهم ومدى التزامهم بالطاعة علانية في جلسات الكونجرس وفي لقاءات المسؤولين بوسائل الإعلام.. ويمكن لمن شاء العودة إلى كلام آن باترسون في جلسة الكونجرس بتاريخ 19 سبتمبر 2013م، أو إلى أرشيف لقاءات المسؤولين الإسرائيليين عن علاقتهم وتعاونهم غير المسبوق (!) مع النظام العسكري في مصر!
بل بلغنا من الهوان حدًّا يعترفون فيه هم أنفسهم بهذه العمالة وهذا الالتزام، فوزير الخارجية المصري هو من يصرح بأن العلاقة بين مصر وأمريكا هي علاقة زواج مقدس لا نزوة عابرة، و"الخبراء الاستراتيجيون" في وسائل الإعلام المصرية يتحدثون عن المصلحة المشتركة بين مصر وإسرائيل في القضاء على الإرهاب (الذي هو المقاومة الفلسطينية)، والأمير السعودي يكتب مقالا لصحيفة هاآرتس يتحدث فيه عن مبادرة السلام في ذات الوقت الذي يشتعل فيه أطفال غزة بلهب الصواريخ الإسرائيلية.
والقصد ليس إقامة مندبة ولا مناحة ولا تكرار ما يُقال منذ عقود، القصد بوضوح هو أن يستفيق العقل العربي من أوهام أن هذه الأنظمة فيها خير أو أنه يُرجى منها صلاح أو حتى أنه يجوز التباطؤ في الثورة عليها وخلعها والقيام بكل ما من شأنه إضعافها.. ذلك أن قوة هذه الأنظمة هي قوة للعدو وضعفها إضعاف للعدو، لا كما يروج الجاهلون أو العملاء من أن ضعفها قوة للعدو.. بل الحق أن العدو لم يتمكن في بلادنا إلا بهم هم، وكان هو أحرص الناس على دعمهم وبقائهم ولو كان الثمن ملايين الأرواح وخراب البلاد.. وسوريا أمام الجميع مثال يُدمر كل الأوهام والخرافات.
والقصد أن يستفيق العقل الإسلامي فيعلم أن حكامنا اليوم لا تنطبق عليهم أحكام الفقه في تراثنا، فتاريخنا الذي كتب فيه هذا الفقه كان فيه استبداد لكنه استبداد الأثرة بالملك والظلم في الأموال ونحو ذلك، ونادر في تاريخنا أن اجتمع الاستبداد بالخيانة والولاء للعدو وتقديم المسلمين ذبائح عند قربان مصالحه.. أما الآن فإنه لا يكاد يكون لدينا مستبد إلا وهو واقع في الخيانة والعمالة، فهذا ليس مجرد المتغلب الذي يقيم الأحكام ويحفظ الثغور والذي قبل بعض الفقهاء ولايته لما فيها من مصلحة اجتماع الأمة، إنما هؤلاء من تغلبوا فلم يقيموا شرعا ولم يحفظوا ثغورا ولم يصونوا مصالح أمة بل كانوا أبواب العدو وذراعه فيها.
بغير هذه الاستفاقة وما يترتب عليها ستظل دماؤنا تسيل، ويظل البعض مكتفيا بالأماني والأحلام لا يعرف إلى التغيير طريقا!
* كتب قبل 10 أيام ولم ينشر
Published on July 20, 2014 07:16
المنطقة الخضراء المصرية
والمنطقة الخضراء هي الدائرة الضيقة في وسط بغداد والتي تشمل مؤسسات الحكم العراقية التي تأسست وقامت في ظل الاحتلال الأمريكي، وكانت الحكومة العراقية تمارس أعمالها من داخل هذه المنطقة التي يحرسها قوات عراقية وشركات أمنية أجنبية، تمنع نيران المجاهدين في العراق من الوصول إليها، بينما باقي البلد مستباحة للأمريكان، أو بالأحرى: ساحة صراع بين الأمريكان والمجاهدين في العراق منذ جاء الاحتلال.
نموذج المنطقة الخضراء هو نموذج الشر الخالص الذي تلتقي فيه الرأسمالية بالاحتلال بالعمالة في نقطة واحدة.. كيف؟
1. نموذج الرأسمالية يؤول إلى تكديس المال بأيدي حفنة قليلة من الناس، يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا، وتختفي الطبقة الوسيطة حتى تصير المجتمعات على صنفان: قلة تملك المال، وكثرة تعمل كالعبيد في الشركات والمصانع والامبراطوريات الاقتصادية، ويصير المال كما قال ربنا (دُولة بين الأغنياء منكم) ومن ثم تتحكم هذه القلة في السياسة وفي الإعلام، فصاحب المال يملك إنشاء مؤسسات إعلامية، ويملك نوعا من الضغط الاقتصادي على الحكومات، فيكون مآل كل هذا أن تتزاوج السلطة والثروة، لتكون الطبقة الغنية هي الطبقة الحاكمة، وتستطيع هذه الطبقة تفريغ الديمقراطية من مضمونها لأنها تتحكم تماما بالشعب عبر الإعلام وصياغة القوانين والتحكم في السياسة (اقرأ مثلا كتاب: السيطرة الصامتة للألمانية نورينا هيرتس، أو كتاب: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها للأمريكي جريج بالاست).
2. هذه الرأسمالية لا تكتفي بالتحكم في شعبها بل تسعى لاستنزاف الشعوب الأخرى، والكل يرى ويعرف أن أمريكا تدس أنفها في كل دولة وتهيمن –مباشرة أو عبر المؤسسات الدولية- على الموارد ومصادر الطاقة وحركة الأموال وغيره.. ومن المفيد هنا قراءة كتاب مثل "الاغتيال الاقتصادي للأمم" للأمريكي جون بيركنز حيث يشرح فيه كيف تدبر الرأسمالية الأمريكية للسيطرة على موارد الأمم بشكل ناعم عبر الشركات العالمية أو أقل نعومة عبر المؤسسات الدولية أو خشن عبر تدبير الانقلابات العسكرية أو أشد خشونة عبر الاحتلال المباشر.
3. وحيث أن الاحتلال المباشر عظيم التكاليف، فإن الاحتلال بالوكالة عبر العملاء يكون أفضل حالا، وفي هذه الحالة تهتم أمريكا بصناعة النخبة التي تحكم بلدها لتخدم مصالحها، فهي تدعمها أمنيا وعسكريا وسياسيا لتحصد من ورائها ثروات البلاد والنفوذ فيها، وحيث أن العملاء بطبيعة الحال سيكونون ضد مصالح الشعوب فلا يهمهم إلا تدبير الوضع الأمني، فإن لم يستطيعوا ضمان ذلك عبر أجهزة الأمن والجيوش المحلية التي يُغدق عليها بالأموال والمزايا لتصير طبقة منفصلة عن المجتمع ومرتبطة بمصالح النظام السياسي ومن ورائه النظام العالمي، إن لم يستطيعوا ضمان ذلك لأي ظرف استعانوا بالشركات الأمنية الأجنبية مثل البلاك ووتر أو المتقاعدين من أجهزة أمن وجيوش أخرى.
وبهذا تصير المنطقة الخضراء معبرة عن ثلاث مستويات: أمريكا في الهيمنة، والنظام السياسي الذي يخدم مصالحها، ويحميه أجهزة أمن وجيوش محلية أو مرتزقة أجانب.. ثم تصير هذه المنطقة معزولة تماما عن باقي الشعب على كل المستويات: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا!
فالمصالح السياسية لهذا النظام يختلف بل ويناقض المصالح السياسية للشعب، والوضع الاقتصادي لهم لا يقارن بالفقر الذي يشمل أغلب الشعب، وهذا يترتب عليه الوضع الاجتماعي إذ يتعلمون هم وأبناؤهم في مدارس وجامعات لا يستطيعها عموم الشعب، ويترتب على هذا انفصال ثقافي وتعليمي بين هذه الطبقة وبين عموم الشعب.. ثم في النهاية تكون الجيوش وأجهزة الأمن مرتبطة بهذه الطبقة وظيفتها هي الحماية ولا حرج لديها على الإطلاق في سحق الشعب كله.
فما الذي يجعلك تتوقع أن ثمة منطقة خضراء مصرية على وشك التأسيس؟!
في الحقيقة هذا ليس توقعا، هذا هو ما بحثه مجلس الوزراء في جلسة الأربعاء 16/7/2014 حول إنشاء عاصمة إدارية تضم الوزارات والمؤسسات الحاكمة، وقبله ما جرى تنفيذه من الرفع المتتالي لرواتب الجيش والشرطة ليترسخ كونهم طبقة أخرى غير طبقة الناس مهمتها حماية النظام السياسي وسحق الشعب، وبهذا يستريح الساسة والحكام حتى من صوت الاعتصامات والهتافات التي تزعج راحتهم أمام الوزارات والمؤسسات الحاكمة، ويجتمعون معا في منطقة هادئة راقية منظمة بعيدة عن غبار القاهرة وحرها وعرق أهلها ومناظرهم الكئيبة!
ثورة دي ولا انقلاب؟!
وبالمناسبة: هل يعرف أحد أين يقيم السيسي؟ أو من أين يحكم؟!
نشر في الجزيرة مباشر مصر
Published on July 20, 2014 06:05
July 2, 2014
أوثان الوطن!
تحدثنا في المقال السابق عن أن الأوثان الوطنية إنما صنعها الاحتلال الأجنبي ليجعلها بديلا عن الهوية الإسلامية الجامعة التي كان وجودها يهدد بقاءه ومصالحه، فحرص على صناعة هويات بديلة: فرعونية وآشورية وفينيقية .. إلخ، هويات "وطنية" تعمق من تقسيمه للأمة الواحدة، وتقدس الحدود التي صنعها بين بلاده، وصار على الإنسان "الوطني" أن يؤمن بشيئين متناقضين: أن عرقه أفضل الأعراق منذ أعماق التاريخ، وأن الحدود التي صنعها الاحتلال هي التعبير الصادق عن حدود العرق المختار، رغم أن أحدا لم يقف ليسأل نفسه: هل هذه الحدود التي رسموها على الورق كانت فعلا حدود أجدادنا "العظماء" أم لا؟! ولا توقف أحد ليسأل: هل تلتزم الأنظمة والحكومات بالحدود أم أنها تتعاون وتتحالف فيما بينها على الشعوب ولا تلقي بالا للحدود؟ حتى صار الحال في النهاية أن هذه الحدود هي على الحقيقة سجون للشعوب وحدها، وأن الإيمان بالعرق الفاضل يتناقض في أساسه مع الإيمان بالدين ومع الواجبات الإنسانية التي تحرم مثلا حصار شعب جائع بذريعة "الأمن القومي"!
واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأوثان الوطنية، ولكن في الداخل لا في الخارج.
فمثلما كان الإيمان بالوطنية العرقية الضيقة يخالف مبدأ المساواة الإنسانية ويطرح شعورا عنصريا ويتسامح مع إجراءات عنصرية، فإن أوثان الوطن –في الداخل- تخالف مبدأ المساواة بين الناس وتصنع أصناما مقدسة من حقها أن تمارس كل الأفعال العنصرية في ظل خضوع أو حتى حفاوة الجميع.
1. الجيش مثلا، خط أحمر، لماذا؟ لأنه خير أجناد الأرض، لأنه يدافع عنك وأنت نائم في بيتك، لأنه يسهر على حماية حدود الوطن ... إلخ.
وتحت هذه العناوين يكتسب العسكر حق الحكم، والبقاء فيه، والتشبث به، وتزوير الانتخابات والاستفتاءات (فالمرحلة حرجة، وكما تعرفون فنحن منذ حكمنا العسكر دائما في مرحلة حرجة، والمراحل الحرجة تستلزم حكاما أقوياء)، ثم يدخلون في الاقتصاد، فينشئون الشركات والمصانع والمزارع والنوادي التي تعفى من الضرائب وتستفيد من الدعم ولا تدفع رواتب للأيدي العاملة (فالعساكر في خدمة الوطن، والوطن هو من يدفع، والوطن يدفع من جيوب أهالي العساكر.. فالعساكر وأهلهم والشعب كله في خدمة الوطن الذي هو في خدمة العسكر).. وهكذا حتى صار اقتصاد الجيش يقترب من نصف اقتصاد البلد، وأحيانا تتفجر ينابيع الوطنية في قلوب العسكر فيتبرعون للوطن (!!) بمليار جنيه!
ومن حق الجيش أن يقتل، وأن يسحل، وأن يعاين عذرية البنات، وأن تكون له سجون عسكرية يقطع فيها أبناء الوطن.. ومن حقه أن ينقلب على إرادة الشعب، ويعزل الرئيس المنتخب ويحبسه، ويغلق القنوات، ويضع رئيسا آخر، ويرفع رواتب أعضائه، وكل ما يشاء.. فالجيش هو ضمير الوطنية المصرية، وهو حارس الأمن القومي!
2. والقضاء خط أحمر، لماذا؟ لأن القضاء المصري عريق وشامخ ونزيه، قضاء –كما يقول المواطن البسيط- "عادل مائة في المائة، قضاء لا غبار عليه"!
ولهذا لا يجوز التشكيك في القاضي، ولو كانت مسيرته هي: الفشل في الثانوية، فيدخل كلية الحقوق التي يحصلها أصحاب أدنى الدرجات، ثم الفشل في الكلية، ثم واسطة وأموال تقذف بك إلى منصب وكيل النيابة، وحيث أنك تجيد سماع الكلام وتنفيذ الأوامر فالمسار الصاعد محفوظ لتكون بعد قليل نزيها شامخا تحاكم من جاء أمامك كيفما شئت، بقانون أو بغير قانون، ولسان الواحد منهم يقول: "أنا أحيي وأميت"!
ثم لا يجوز لأحد التعليق على أحكام القضاء، فمن أنت يا قزم لتعلق على كلام الشوامخ؟ ولا حتى كلام الزند إذ يطالب صراحة بالتدخل الأجنبي ويناشد أوباما ويهتف له "أين أنت؟ إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم".. فالشامخ ضمير الوطن، وأمثالك أيها القزم ليسوا مواطنين بنظر الشامخ.
3. والأزهر الشريف.. خط أحمر، لماذا؟ لأن الأزهر هو الإسلام والإسلام هو الأزهر، والأزهر هو الوسطية والوسطية هي الأزهر، والأزهر جامعة الألف عام، والأزهر كعبة طلبة العلم... إلخ.
مهلا ياقوم! ولكن الأزهر لم يعد كما كان! لم يعد حرا مستقلا متصرفا بأمواله وأوقافه، بل هو يتلقى رواتبه من مجلس الوزراء، وشيوخه موظفون في الدولة ترفع من تشاء وتطرد من تشاء، وشيخه الحالي كان عضوا بلجنة سياسات مبارك، ولم تعد للأزهر من عهد العسكر (الوثن الأول) حرمة! فهو يُقتحم ويؤخذ منه أبناؤه وبناته فيُلقون في السجون!
ثم حتى لو كان الأزهر شريفا ونزيها ومستقلا، فمن الذي حكم بأن الإسلام محصور في الأزهر وبأنه لا يحق لغير الأزهري التدريس والدعوة وارتقاء المنابر؟!
لا يجوز لك أن تتكلم أيها المتطرف، فمن أنت لتفهم الدين وتفهم الوسطية وتفهم الشرع الشريف؟! من أنت لتنتقد الأزهر الشريف العفيف؟!
هذه ثلاثة أوثان –كمثال- جرى تقديسها ليُمنع لمسها والاقتراب منها، وبسبب هذا التقديس فشلت ثورة يناير في الاقتراب منها، كانت تظنها مقدسة ووطنية وشامخة وشريفة فعلا!! فكانت النتيجة أن انقلبت هذه الأوثان على الثورة فقتلتها وسفكت دمها!
وذلك درس خالد: أن من قدَّس غير الله عُذِّب به! وأنه يهلك القوم إذا كانوا ممن إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ولا والله لن تفلح الثورة حتى تعلن أنه لو فسدت مؤسسة فستحاسب ولا كرامة كائنة ما كانت، اقتداء بقول سيدنا وقدوتنا محمد وهو يقول: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!
نشر في الجزيرة مصر
Published on July 02, 2014 07:48