محمد إلهامي's Blog, page 76
November 17, 2013
أسطورة صلاح الدين الأيوبي
"وأُحذَّرك من الدماء والدخول فيها والتقلُّد لها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم"
[من وصية صلاح الدين لابنه الأفضل]
***
ليست من لحظة في تاريخ الإسلام كان يُمكن أن يرتكب فيها المسلمون المذابح الواسعة دون أن يتهمهم أحد بالقسوة مثل هذه اللحظة التاريخية.. لحظة استرداد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد نحو قرن من الزمان. ذلك أن دخول الصليبيين لبيت المقدس شهد واحدة من أكبر المذابح المروعة في التاريخ الإنساني، حتى عدَّ المؤرخون من قُتِل من المسلمين يومئذ بسبعين ألفا، وروى بعضهم أن الخيول كانت تخوض في الدماء حتى رُكَبها.
لكن هذه اللحظة صارت أكثر خلودا وتألقا ولمعانا حين سجلت ما فعله صاحبها الخالد: السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي.
لقد ترفع صلاح الدين عن سفك الدم وعن الانتقام، وأبدى من الفروسية والرحمة والسماحة ما أُخِذ عليه في بعض الأحيان، إذ كان من ضمن الذين عفا عنهم ذوي غدر وخسة أثخنوا في المسلمين بعد ذلك، لكن الخسارة الوقتية في الحرب لا تقارن بالكسب التاريخي في الأخلاق، ولئن قالت ميادين الحروب أن صلاح الدين كان رحيما أكثر مما ينبغي لقائد عسكري فإن ميادين القلوب وقفت منبهرة أمام الفارس الذي تعفف عن سفك دم مقاتليه وفَضَّل أن يحفظ دماءهم وأرواحهم رغم كثرة الدواعي الدافعة لإزهاقها.
يمكن للمرء أن يكتب كتابا كبيرا عن صلاح الدين دون أن يخط جملة واحدة من عنده، بل ويمكنه أن يكتب مجلدا أو اثنين دون أن يخط جملة واحدة لكاتب عربي أو مسلم، فلقد بلغ انبهار المؤرخين من غير العرب والمسلمين بشخصية صلاح الدين وأخلاقه وفروسيته ورحمته ما جعله واحدا من أكثر الشخصيات التي كُتِب عنها في التاريخ الإنساني.
وما ذلك إلا لأن الرجل تعفف عن سفك دماء كثيرة كان يملك أن يسفكها! فليتأمل القادة والساسة والعسكريون كيف يكون الخلود!
***
"لقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية""حين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس -التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى""كان صلاح الدين مستمسكا بدينه إلى أبعد حد، وأجاز لنفسه [في الحرب] أن يقسو أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى***
إن "أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى إن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين"لقد "وصل الأمر إلى حدِّ أنه ظهرت في القرن الرابع عشر قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها "صلاح الدين" وأعيدت فيها صياغة حوادث الأساطير القديمة، وذلك لأن فارسا من هذا الطراز الرفيع يجب بالضرورة أن يصبح منتميا إلى الأسرة المسيحية، وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"***
لم يزل صلاح الدين مُعَظَّمًا عبر العصور، ويوم أن زار وليام الثاني آخر الأباطرة الألمان الشرقَ (1899م)، وقف أمام قبر صلاح الدين، وخطب عنده خطبة أعلن فيها حبه للعرب وحمايته لهم، ووضع على القبر لوحة من البرونز صنعها له خصيصا، فهيَّج ذلك قريض أمير الشعراء أحمد شوقي فأنشأ يقول:
عظيمُ الناس من يبكي العظاما ... ويندبهم ولو كانوا عظاما
رعاك الله من ملك همام ... تعهَّد في الثرى ملكا هماما
أتدري أيَّ سلطان تحيَّي ... وأيَّ مُمَلّكٍ تهدي السلاما
دعوت أجلَّ أهل الأرض حربا ... وأشرفهم إذا سكنوا سلاما
نشر في مجلة الوعي الإسلامي - العدد 580 - ذو الحجة 1434هـ - أكتوبر، نوفمبر 2013م
Published on November 17, 2013 09:42
November 13, 2013
العسكر يفخرون بالعار
إنهم أقذر مما نتخيله من قذارتهم..
رغم كل البغضاء التي أكنها لعصابة العسكر، ورغم كل يقيني بأنهم مجرد كلب حراسة للعلمانية والمصالح الأمريكية والإسرائيلية، إلا أني فزعت حين رأيت هذه الصورة..
وهرولت إلى صفحة المتحدث العسكري لأنظر بنفسي وأنا أتمنى أن تكون الصورة مفبركة أو أي شيء آخر، وحين فتحت الصفحة كنت أزداد تعلقا بأن يكون الخبر كاذبا وأن تكون الصورة مفبركة، حتى وجدتها في وجهي صاعقة حارقة قاهرة..
في هذه الصورة يفخر الجيش المصري بأنه "عصابة"، بل ويفخر بأنه كان عميلا للإنجليز، أو على الأقل كان تحت سيطرة الاحتلال الإنجليزي.. هل رأيتم من قبل جيشا يفتخر بمرحلة كان فيها تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية؟!!!
ليس هذا فقط.. بل يفخر عسكر مصر بما قدمه أجدادهم من مجهود حربي في الحرب العالمية الأولى، وهو المجهود الحربي الذي كان موجها ضد (وانظر وتأمل) "العثمانيين في جهة الشام، السنوسيين في جهة ليبيا، السودانيين في جهة السودان".. وهو المجهود الذي صبَّ في النهاية في صالح الحلفاء.. تلك الدول التي احتلت بلادنا وقتلت أهلنا وأذلتنا ونهبت ثرواتنا وأفسدت علينا ديننا ودنيانا.. إنجلترا، فرنسا، إيطاليا، ومعهم بلجيكا واليونان.
إذن، فعسكر مصر يفخرون بأنهم كانوا في معسكر الكفر والاحتلال ضد معسكر المسلمين الذي على رأسه الخلافة العثمانية!!!
ويفخرون بأنهم شاركوا بمائة ألف، وأن كثيرا منهم نال "الشهادة".. الشهادة في سبيل الكفر وتحت راية الكافرين المجرمين المحتلين.. شهادة في سبيل الشيطان!!
ويفخرون بأن قتلاهم في هذه الحرب أُعْطُوا -بعد موتهم- وسام فيكتوريا!!!
ما زلت لا أستطيع التعبير عن ذهولي بهذا المستوى من الفجور والانحطاط، العسكر يعترف بأنه "عصابة" بل وأنه "خدم دول الاحتلال" وبذل في خدمتهم مجهودات رائعة استحق عليها وسام فيكتوريا.
وفوق هذا الفخر الذي ينسف "الوطنية" و"الاستقلال".. فخر آخر بحرب المسلمين وصد هجومهم على الحلفاء من النواحي الثلاث؟!!!!
وهم في هذه الحرب يفخرون بأنهم كانوا يدافعون عن "الحضارة الإنسانية".. والمعنى واضح: كان حلفاؤنا الإنجليز والأوربيين هم أهل الحضارة الإنسانية وكان المسلمون هم المتخلفون الهمج البرابرة المتوحشون الذين يهددون هذه الحضارة!!!!
هذا هو ما يراه القارئ في كلام المتحدث العسكري ولو لم يعرف أي شيء عن الحرب العالمية الأولى وما أحاط بها من ظروف وملابسات..
فكيف إذا عرف الآتي:
1. أن الشعب المصري كان وظل رافضا لخوض بلاده هذه الحرب، بل لا يختلف المؤرخون في أن السخط الذي عمّ مصر بعد هذه الحرب كان من أسباب ثورة 1919، وأنه لم يكن أحد ليجادل وقتها في هذا الرفض حتى إن بريطانيا -دولة الاحتلال- لم تكن تطمع في أكثر من بقاء هذا الاعتراض "سلميا" بل إن القائد العام الإنجليزي وقتها، الجنرال ماكسويل، ختم إعلانه الرسمي للحرب مع العثمانيين بهذه الفقرة:
"ولعلم بريطانيا العظمى بما للسلطان (العثماني) بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مسلمي القطر المصري فقد أخذت بريطانيا العظمى على عاتقها جميع أعباء هذه الحرب بدون أن تطلب من الشعب المصري أية مساعدة، ولكنها مقابل ذلك تنتظر من الأهالي وتطلب إليهم الامتناع عن أي عمل من شأنه عرقلة حركات جيوشها الحربية أو أداء أي مساعدة لأعدائها".
وجاء في بيان إعلان الحماية (الاحتلال) الإنجليزية على مصر "تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على إن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي بين مصر والآستانة" ولذلك كان أمل الاحتلال من المصريين "منع كل عون للعدو"
وقد جرت محاولتي اغتيال للسلطان حسين كامل الذي جاء به الإنجليز ليحكم مصر بعدما خلعوا الخديو عباس حلمي، ولبعض الوزراء، وحُكِم على مرتكبيها بالإعدام رحمهم الله.
وقد عطل الإنجليز انعقاد الجمعية التشريعية (البرلمان) خشية من أي مقاومة سياسية للاحتلال، برغم أن برلمان ذلك الزمان كان مقصوص الجناحين، (فالمحتلون وعملاؤهم لا يحبون الهيئات المنتخبة!!) وظل معطلا لعشر سنوات فيما بعد.
2. أن المصريين كانوا يُجْمَعون بالإكراه للمشاركة في هذا المجهود الحربي، ولم يكن هذا برضاهم، بل إن العُمَد ومشايخ القرى والمحافظين كانوا ينتهزونها وسيلة للدفع بأعدائهم عبر التجنيد في هذه الحرب، وكان المصريون يدفعون الرشاوى للخلاص من هذا التجنيد لهؤلاء العمد والمشايخ وحكام الإدارات.
3. أن المصريين لم ينظروا إلى اشتراك الجيش المصري في ذلك الوقت إلا على أنه خيانة بريطانية لتعهدها السابق بأنها ستحمل العبء كاملا، ولا يرى أحد من المؤرخين -فيما أعلم- أن الهجوم العثماني كان على مصر، بل حتى أرباب المدرسة الوطنية كالرافعي، يُحمِّلون الإنجليز مسؤولية تقدم القوات التركية نحو مصر، وأنها لم تكن موجهة إلى مصر أو المصريين بل كانت ضد القوات الإنجليزية.
ومثل هذا كان تقدم الشريف أحمد السنوسي الكبير من الغرب.
وأما "النصر" الذي حققه الجيش المصري في دارفور، فكان ذلك ضد ثورة من سلطان دارفور ضد حكومة السودان (والسودان تحت الاحتلال الإنجليزي) فاستُعْمِل الجيش المصري للقضاء على هذه الثورة، وفعلها بأسلوب قذر، وهو السيطرة على آبار المياه، وتلقى السلطان حسين كامل تهنئة من الملك جورج الخامس.. ويا لها من تهنئة بطعم العار، عار العمالة وحرب المسلمين لحساب الكافرين المحتلين المجرمين.
4. أن هذه الحرب لم تكلف مصر رجالا فقط (نحو مليون ونصف مصري أجبروا على العمل في المجهود الحربي) بل وثروات، فقد استولى الإنجليز على ما شاءوا من الجمال والبغال والخيول والحمير بأبخس الأثمان وبالمصادرات حتى لم يبق للمصريين إلا ما لا يصلح لقتال لمرض أو ضعف أو عيب، وأنقصوا المساحات المزروعة من القطن (الذهب المصري الذي كان يساوي أهمية النيل بالنسبة للزراعة) لزراعة الحبوب لتغطية أغذية الجنود، بل وقطعت ما لا يحصى من الأشجار لاستعمال الخشب.. حتى بلغ الشعب درجة منهكة من الفقر والعوز والحاجة.
5. أن التكلفة المصرية في هذه الحرب بلغت -في ذلك الوقت- ثلاثة ملايين جنيه، وهو مبلغ خيالي، غير أن حكومة مصر -عملاء الاحتلال- قرروا إعفاء بريطانيا منها اعترافا "بجميل بريطاني العظمى في صد الغارات عن البلاد المصرية"!!!!!!
والآن:
أي فخر في انتصارات كهذه يا عصابة العسكر؟؟
وإذا كان أغلب المصريين الآن لا يعرفون هذا التاريخ المخزي الفاضح للعسكر المصري تحت سلطة الاحتلال، فهل هذه محاولة لاستغلال جهلهم والإيجاء بأنه كانت لكم انتصارات تحاولون التغطية بها على حقيقة أنكم عسكر فاشل ليس لكم في كل التاريخ المعاصر ولا انتصار واحد؟؟!!
حتى حرب أكتوبر كانت نصف انتصار عسكري حولته السياسة (التي حكم بها عسكر) إلى هزيمة كاملة عسكرية وسياسية، حتى وصل الحال إلى حصار الغزاويين وقتلهم بينما الأبواب مفتوحة للصهاينة بل ولطائراتهم الحربية أن تقتل المصريين داخل سيناء.
هل ما زال #برهامي وحزبه، وشلة مشايخ السوء في الأزهر، يرون -بعد هذا الفخر بالانتصار على المسلمين لمصلحة الكافرين- أن هؤلاء خير أجناد الأرض وأنهم لا يعادون الدين وأنهم وطنيون؟!!!!
كم واحد في هذا الشعب كان يتخيل، مجرد تخيل، أن يفخر المتحدث العسكري بما أنجزه العسكر المصري في سبيل الإنجليز وضد المسلمين؟!!
إنه لأمر له ما بعده.. إنه أول بوادر "إعلان" الانخلاع من هذا الدين ومن هذه الأمة، "إعلان" الولاء والطاعة والانتماء لـ "الحضارة الإنسانية" التي قد تقتضي أن نقتل أهل غزة "الإرهابيين" وأن نتعاون مع "المتحضرين، المتنورين، المتقدمين" من الصهاينة والأمريكان والأوروبيين..
أفيقوا يا قوم، فهذا أمر له ما بعده.. وإنه لنذير شرٍّ وشؤم، وتسريب لتدبير مبير.
إنهم -حقا- أقذر مما نتخيل!!!!
Published on November 13, 2013 05:21
November 9, 2013
التعليم المحظور في بلادنا
تقول القاعدة التاريخية البسيطة بأن كل تقدم علمي لا ينعكس بالأثر على التقدم العسكري فليس مؤثرا في مسار التاريخ -التاريخ السياسي على الأقل- فكم استطاعت أمم متخلفة أن تقهر أمما أرقى منها علما وحضارة وثقافة لأنها كانت أضعف منها في المجال العسكري.
هكذا اجتاح المغول –وهم بدو أجلاف- عواصم الحضارة الإسلامية الزاهرة منذ بلاد ما وراء النهر مرورا ببلاد طبرستان وفارس والعراق حتى أوقفهم رجل كان قد استطاع إعداد العدة في أرض الشام. وقبلهم اجتاح النورمان –وهم بدو أوروبا الأجلاف- دولة الإسلام في صقلية واحتلوا أجزاء من الساحل الشمالي الإفريقي أيضا، وبين الحادثتين تقع النكبة الأشهر في تاريخ المسلمين: نكبة سقوط الأندلس على يد قوم لم يكن لهم ولا عشر معشار ما لدى المسلمين من تفوق علمي.
ولا تزال القاعدة سارية، يفهمها أعداؤنا ويغفل عنها كثير منا، فإسرائيل حريصة على أن تكون "قوتها العسكرية" أكبر من مجموع القوة العسكرية العربية مضافا إليها تركيا وإيران، ويمثل هذا أحد الخطوط الحمر الكبرى في سياستها. وقبل أيام من كتابة هذه السطور –وبالتحديد 19/9/2013م- كانت آن باترسون (السفيرة الأمريكية في باكستان ثم مصر) في جلسة استماع بالكونجرس، فكان من ضمن ما قالت: لقد نتجت عواقب استراتيجية كارثية حين أوقفنا الدعم عن الجيش الباكستاني 12 عاما؛ إذ يوجد الآن جيل من العسكريين لا اتصال لهم بالجيش الأمريكي لأنهم لم يدرسوا هنا ولم يتعرضوا لقِيَمنا، ولهذا فيجب أن نحافظ على علاقتنا بالجيش المصري.
هذه الكلمات تدلل على أشياء كثيرة، منها –في سياقنا هذا- أن القوم يريدون إبقاءنا "تحت المراقبة الكاملة"، كي لا نفلت من أيديهم، وإذا أفلتنا لأي سبب سياسي أو وضع متغير فينبغي أن نكون قد تعرضنا لقِيَمهم وأخلاقهم كي نواصل المسير على دربهم وإن فارقناهم في بعض التفاصيل.
ماذا يعني هذا؟
يعني أننا نواجه مشكلتين في لحظة واحدة؛ الأولى: مشكلة التخلف العلمي، والثانية: ضرورة انعتاقنا من الأسر الحضاري لأعدائنا.
غير أن المهم، وهذا هو هدف المقال، أن كلا المشكلتين لا يمكن حلهما بالتدرج أو التتابع، بل لابد من مواجهتهما معا، وإلا ذهبت كل المجهودات أدراج الرياح.
***
المشكلة الحضارية: فلسفة العلوم
تأسست الحضارة الغربية على الفكرة المادية، واستبعدت وجود إله، فمن لم يستبعد وجود الإله جعله كإله أرسطو "كصانع الساعة، أودع فيها قوانين الحركة ثم تركها فلا يدبر أمرها"، ومن هذه الفكرة المادية نشأت "فلسفة العلوم الغربية".
مثلا: يتأسس "علم الاقتصاد" على قواعد منها أن "الموارد تنضب"، وأن "البشر أكثر مما تحتمله الموارد"، ومن ثم يكون مفهوما أن يقول مالثوس –وهو مؤرخ واقتصادي وقسّ وصاحب نظرية التكاثر السكاني- بأن الحروب والنزاعات إنما هي حلول تعيد الطبيعة بها تنظيم نفسها ومواردها، وأن الجوع والمرض والموت إنما هي "موانع إيجابية" في مقابل "الموانع السلبية" كتأخير الزواج والشذوذ، وهكذا أعطى مبررا قويا للحروب وعمليات الإبادة، فهي –بهذا- "قدر محتوم" و"قانون تنظم الطبيعة به نفسها"، واقترح مالثوس أن أجرة العامل ينبغي ألا تتجاوز الحد اللازم لعيش الكفاف حتى لا يتكاثر كما يحلو له، واقترح أنه لا داعي لزيادة الإنفاق على العاطلين كيلا يؤدي هذا إلى الكسل وتضاعف عدد الأسرة فتتضاعف الأفواه، وطالب بوقف إعانات الفقراء ووضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد. وكانت مثل هذه الاقتراحات مبررات ذهبية للبرلمان البريطاني –حينئذ- ليبرر تخفيض إعانات الفقراء وإعانات البطالة وإعانات المرضى والمحتاجين، ولأصحاب المصانع للحفاظ على حد أدنى للأجور، لقد تلقوا آراء مالثوس -كما يقول ول ديورانت- "كوحي إلهي مقدس"بينما الأساس الإسلامي لعلم الاقتصاد قائم على أن الله هو الرزاق، وأن كل دابة في الأرض إنما على الله رزقها، وأنه ما يظهر من فساد في الموارد فإنه بما صنعت أيدي البشر، وأن السموات والأرض مكنوزة بالثروات (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، ولا يتصور المسلم أن الله العليم الخبير الحكيم يخلق خلقا ولا يجعل لهم رزقا.
وقس مثل هذا على سائر علوم الاجتماع والإنسانيات، بل على سائر العلوم –بما فيها العلوم البحتة- إذ أن العقول التي تعمل في حقل العلم تؤثر على اتجاهه وتطبيقاته، فثمة عقل لا يرى في الطبيعة إلا "ملكية خاصة" تمثل "مخزنا لثرواتنا ومستودعا لنفاياتنا"***
المشكلة الثانية: ردم الفجوة العلمية بفاعلية
ونقول "بفاعلية" لأن العلم قد ينصرف إلى ما ليس يفيد الأمة، وها هي ألمانيا واليابان يحققان أقصى التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي لكنهما بلا أي ثقل في الميزان السياسي، لأنهما بلا جيش، وكما ذكرنا قبل سطور: فكل تقدم علمي لا ينعكس على التقدم العسكري فليس بمؤثر وليس يحمي الأمة من الاجتياح والسقوط، وذكرنا أشهر الأمثلة.
وعلى غير ما قد يظن الناس أن ردم الفجوة العلمية هذا يحتاج وقتا من الهدوء والاستقرار، يخبرنا التاريخ بأن هذا الردم لم تقم به الأمة إلا في لحظات المقاومة والمواجهة، أو بعبارة الراحل الكبير جلال كشك "تجربة التاريخ كله لا تثبت حالة واحدة استحال فيها على شعب متخلف اكتساب التكنولوجيا والتفوق فيها.. شرط أن يختار القتال"لقد اندهش الفرنسيون من مقاومة الأهالي المصريين، الذين استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه –ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورةأما التوهم بأن نقل العلم قد يتم –بين الأعداء- بالرضا في لحظات الهدوء والصفاء فذلك يدل على سذاجة وجهل، فذلك مينو –القائد الثالث للحملة الفرنسية- حين فكر في إقامة مصنع للجوخ في مصر لسد حاجة الجيش إليه في ظل الحصار البحري المفروض عليهم جاءته التقارير توصيه بألا يعمل في المصنع مصري، ذلك "أن مقدرة المصريين في تقليد المبتكرات الصناعية من شأنها أن تضر بالمصانع الفرنسية"، وقد كان!
وهذا الأمر مضطرد عبر التاريخ، قديما وحديثا، وانظر إلى الحركات التي هادنت المستعمر هل استطاعت أن تكسب من علمه شيئا، بينما انظر إلى الحركات التي قاومته إلى أين وصلت وكيف أوجعته؟
لقد ظلت إسرائيل نحو عشر سنوات تحاول مقاومة صواريخ فصائل المقاومة وهي حتى الآن لم تنجح نجاحا كاملا، برغم الفارق الرهيب بين الطرفين في كل شيء، بينما لم ينجح من هادنوها في أي شيء، وحين وقف وزير الحرب الإسرائيلي يبرر عجزه قائلا "إن أجهزة رصد الصواريخ التي لدينا عاجزة عن التقاط هذا النوع لأنه أقل تطورا من أن ترصده" فردّ عليه أحد أعضاء الكنيست بعبارة ساخرة ولكنها حقيقة جدا "إذن فلنصدر لهم صواريخ متطورة لكي نستطيع صدّها"!!
***
ما لم يدرك نظام التعليم هاتين المشكلتين: كيف ننظر إلى العلم، وكيف نطبقه بفاعلية.. فإنه سيظل دائرا في الفراغ، أو بالأحرى: دائرا تحت رقابة الأعداء.
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، المحرم 1435 هـ
ول ديورانت: قصة الحضارة 42/ 251 - 253، 42/ 381 - 389، رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني: البيئة ومشكلاتها ص112، جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص27. جارودي: وعود الإسلام ص20. جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر ص305. الجبرتي: عجائب الآثار 2/326 وما بعدها، جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر ص155 وما بعدها، الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم 2/173.
Published on November 09, 2013 11:42
November 8, 2013
فقه الهجرة
كلمات في ذكرى الهجرة باختصار شديد:
1. اختار عمر رضي الله عنه التأريخ بالهجرة ووافقه الصحابة.. فلماذا؟
بالتأكيد ليس لأن النبي "خطط للهجرة" جيدا فخرج في الظهيرة واشترى راحلتين واستأجر خبيرا بالطريق ورتب من يأتيه بالأخبار ... إلخ، فكل هذه "تفاصيل" و"جزئيات" صغيرة.. وللنبي في غير هذا الموقف تخطيط كثير.
السبب أن الهجرة كانت لحظة فاصلة، إنها لحظة مولد "دولة الإسلام".
2. المرحلة المكية كلها لم تكن رحلة تربية وتكوين فحسب.. بل كانت رحلة "البحث عن الدولة".. وإذا تتبعنا النقاط البارزة في رحلة النبي فيها فسنجد هذه النقاط:
- دعوة زعماء مكة
- فلما أيس منهم.. وغابت الحماية التي تعصمه من "دولة" الكفر بموت أبي طالب، ذهب إلى الطائف (مركز القوة المنافس في الجزيرة العربية) وفيها ذهب إلى "زعماء" الطائف.
- عرض نفسه على القبائل فتحدث مع "زعمائهم" لكي يحصل على الإجارة والحماية لإقامة الدولة فيهم.
- ولما استجاب له بعض نفر بالمدينة أرسل معهم سفيره مصعب بن عمير فلم يتحقق النجاح الذي اطمأن إليه النبي إلا بإسلام "زعماء المدينة" كسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وأسعد بن زرارة.
3. في المدينة صارت للإسلام دولة، ومن هنا بدأت رحلة الإسلام
4. فالدعوة -برغم ما نزل بها- كانت دائما "تحت حماية" أو "تبحث عن حماية" حتى إذا وجدتها في المدينة هاجر المسلمون إليها.
5. كان النبي يوصي من يسلم من القبائل بأن يظل في قبيلته، فلما هاجر كانت الهجرة إلى المدينة فرض على المسلمين برغم ما هي فيه من صعوبات طبيعية وبرغم أنها لا تستوعب هذه الزيادة بكل تكاليفها الاقتصادية والاجتماعية.
6. في ظل وجود الدولة استطاع المسلمون حل مشكلاتهم مهما كثرت وتشابكت.. وهذا هو صلب الموضوع، أن المشكلات الجوهرية لا تحلها إلا "السلطة" و"الدولة" طالما توفر الصدق والعزم.
7. لو أن النبي يسعى لتكوين "جماعة" أو نشر "فكرة" لبقي في مكة يحدوه الأمل أن يستكثر من الناس ويدعوهم حتى تصير لهم أغلبية في مكة فإما صار فيها الدولة بعد عشرات السنين أو حتى قرون، ولردد "عشرات السنين ليست شيئا في عمر الأمة"، و"أنا سأبذر الدعوة ثم يكملها الجيل القادم فإن لم يكن فالذي يليه ..." إلخ.
8. ولو أن مكة لم تناسبه لكان حين ذهب إلى الطائف التمس له خيمة في أطرافها أو بدأ في اجتذاب الواحد والاثنين والثلاثة حتى يتحقق له بمكة ما منعته منه السلطات المكية.. لكنه ذهب مباشرة إلى "سلطة" الطائف.
9. ولو لم يناسبه هذا لكان عرضه نفسه على القبائل لغرض تركه حرا يبلغ دعوته فيهم، لا لغرض نصرته وطلب الحماية منهم، ولهذا فهم الزعماء أنه أمر دعوة ودولة وأن له تكاليف سياسية بالمقام الأول فكان رد بعضهم "هذا أمر تكرهه الملوك".
10. وقد فسرت السيدة عائشة النجاح الذي تحقق في المدينة بأنه جاء بعد فناء "الزعامات العتيقة" بالمدينة في حرب بعاث، فكانت زعاماتهم الجديدة في يد شباب، والشباب أكثر تقبلا للجديد وحماسة في نصره.
وقد ظلت الزعامة الوحيدة الباقية من حرب بعاث "عبد الله بن أبي بن سلول" أحد المشكلات التي واجهتها الدولة الإسلامية حتى مات.
11. ولو كان النبي يسعى إلى مجرد تكوين "جماعة" أو نشر "فكرة" لكان حين ذهب إلى المدينة انضوى تحت راية زعيم المدينة "عبد الله بن أبي بن سلول" (الرئيس التوافقي وقتها) ولم يطلب سوى الحرية في الدعوة والتبليغ.. لكنه (صلى الله عليه وسلم) كان منذ وصلها رئيس المدينة وزعيمها وصاحب السلطة فيها.
12. في المدينة نزلت الأحكام، إذ يستحيل على المسلمين تطبيق الدين ما لم يكن لهم دولة.
13. ومن كل هذا تعرف فساد أقوال كثيرة منها:
- اعتماد الدعوة والتلبيغ ونشر العلم كأسلوب وحيد يُبتغى منه صلاح الحال دون بذل على مستوى السياسة والسلطة والسعي نحو الدولة.
- تفكيك الكيانات الإسلامية النظامية والانخراط (الذوبان) بين المجتمع لنشر الوعي وفعل البر وتعلم العلوم.. ثم يُرجى إن فعلوا ذلك أن يتقدموا (لا أدري كيف)
- التدرج في "إقامة" الدولة الإسلامية.
- تقديم "استقرار" البلاد على "إقامة الدين" فيها. [إن من يطلع على أحوال المدينة وقت هجرة النبي يقطع باستحالة قيام دولة وسط هذه المشكلات العاتية: الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية] - الرئيس التوافقي
- حل مشكلات الاقتصاد قبل إقامة الدين والشريعة
------------
في هذه الروابط مزيد تفصيل:
الهجرة ومنهج البحث عن حل http://melhamy.blogspot.com/2010/12/blog-post.html
الشريعة قبل الاقتصاد http://melhamy.blogspot.com/2013/02/blog-post_16.html
صناعة مجتمع الجسد الواحد (1/2) http://melhamy.blogspot.com/2012/12/1-2.html
قراءة افتكاسية في السيرة النبوية http://melhamy.blogspot.com/2011/12/blog-post_26.html
الناس على دين ملوكهم http://melhamy.blogspot.com/2011/12/blog-post_24.html
الحركة الإسلامية وشعرة معاوية http://melhamy.blogspot.com/2012/01/blog-post_05.html
الحركة الإسلامية والرئيس التوافقي
http://melhamy.blogspot.com/2012/01/blog-post_11.html
الجزء الأول من هذه المحاضرة http://www.youtube.com/watch?v=N7B0HFZL8w0
Published on November 08, 2013 11:54
November 2, 2013
من فقه المقاومة في سورة الأنفال (3/3)
اقرأ أولا: من فقه المقاومة في سورة الأنفال (1/3)
من فقه المقاومة في سورة الأنفال (2/3)
ذكرنا أن سورة الأنفال رسمت القواعد التي ينبغي أن يتبعها المسلمون في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وهي ثلاثة محاور كبرى:
1. المسلمون أصحاب حق وأهل رسالة قضيتهم الكبرى هي إرضاء الله وإقامة الدين وهم لذلك أهل زهد في الدنيا وترفع عنها.
2. المجتمع المسلم مجتمع متماسك مترابط شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها.
3. أن الدولة الإسلامية دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة.
ويمكن النظر إلى هذه القضايا الثلاث باعتبارها تشمل ثلاث مستويات: الفرد، والمجتمع، والدولة؛ فالزهد في الدنيا وتربية النفس على الترفع عنها أمر يخص كل فرد، والاستمساك بعرى الروابط بين المسلمين أمر يخص المجتمع، وكون الدولة الإسلامية متأهبة مستعدة مهيبة مرهوبة الجانب هو أمر يتوجه للدولة والحكم والنظام السياسي.
وقد تناولنا في المقاليْن السابقين
(3)
كان نصر بدر حدثا زلزل الجزيرة العربية سياسيا، فلم يعد الأمر مجرد خلاف داخل قريش كما هو داخل أي قبيلة، بل إن رجل قريش هذا صارت له دولة في المدينة وقد أوقع بعض رجال منها –لم يكونوا يستعدون لقتال- بجيش فيه كبار قريش وقتلوا زعماءها: عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وابنيه شيبة والوليد وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبا البختري بن هشام وغيرهم!
حتى إن الحيسمان بن عبد الله الخزاعي الذي نقل هذا الخبر –وكان أول الواصلين إلى مكة- حين ذكر هذا توقع الناس أنه مجنون لا يعقلوبهذا تغير الوضع في مكة والمدينة، لقد صارت المدينة جزءا من معادلة القوة والنفوذ في الجزيرة العربية، وحق لمكة لا أن تخشى على تجارتها فقط بل على نفوذها نفسه، وتضعضع حال المشركين في المدينة فقد "أسلم أكثرهم بعد بدر"فأي ذلك أفضل: كل هذه النتائج، أم العودة بغنائم قافلة أبي سفيان؟!!
ولهذا قال الله تبارك وتعالى لعباده {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، فما كانت غنيمة العير لتقطع دابر الكافرين مثلما قطعه النصر على ذات الشوكة.
لقد سارت السورة تؤكد على ضرورة أن تكون دولة الإسلام دائما قوية مستعدة مرهوبة الجانب، فجاء فيها الأمر ببذل غاية الوسع والطاقة في الإعداد للحرب، فهذا الإعداد وحده هو الكفيل ببعث الرهبة في قلوب الأعداء بل وفي قلوب غيرهم ممن يراقب الأحداث والتطورات وقد تحركه المطامع والأغراض، ولا ينحسم كل هذا إلا بالإعداد للحرب.. الإعداد الذي يبعث الرهبة ويجعل مجرد التفكير في حرب المسلمين مغامرة ومخاطرة.
وإن الإنفاق العسكري -في الدولة الإسلامية- هو إنفاق في سبيل الله، لا يُستهان فيه بأقل شيء، حتى لو كان تمرة!
والإعداد للحرب لا يساوي إشعال الحرب، بل يثبت التاريخ والواقع أن من يملك السلاح هو القادر على حفظ مكانه بين الخصوم وإن لم يحارب، بينما الضعيف الخالي من السلاح هو من تنهشه أيادي الأعداء جميعا مهما فعل لتجنب ذلك.. وانظر حولك في العالم تجد مصداق هذا الكلام.
إن السلام يكون بين الأنداد الأقوياء، ولا يفكر عدو في مسالمة عدوه إلا إذا عجز عن قهره، وذلك لا يكون إلا في حال القوة والشوكة وفي حال الاستعداد والتأهب.
ذلك ما قاله الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}
وكما ينبغي أن يحافظ المسلمون على استعدادهم المادي الحربي العسكري فإنه ينبغي عليهم كذلك أن يحافظوا على ترابطهم فيما بينهم، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: "إنما كان التنازع مفضيا إلى الفشل لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضا، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال، فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكن منهم العدو... والريح حقيقتها تحرك الهواء وتموجه، واستعيرت هنا للغلبة، وأحسب أن وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أن الريح لا يمانع جريها ولا عملها شيء فشبه بها الغلب والحكم"وقد تكرر هذا المعنى في قول الله تعالى لنبيه { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}
فالألفة التي بين المؤمنين هي سر النصر، هي ما يمنع نجاح الخداع والمناورات، وإن أغلى شيء يمكن أن يظفر به العدو خلل في ترابط المؤمنين وتحاببهم فينفذ منه ليوقع بينهم العداوة والبغضاء فيضرب بعضهم ببعض، ولذلك فإن المؤمنين المتآلفين هم أقدر الناس على الاستعداد الدائم للجهاد، وهذا الاستعداد الدائم هو هو ما يجعل دولة الإسلام قوة مرهوبة دائما، قوة تستطيع أن تغلب من كان ضعفها عشر مرات، أو في أدنى الأحوال من كان ضعفها مرتين، قال البقاعي: "ما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم، وتجب مصابرة الضعف، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ماأطيق ذلك، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد"لقد قصَّ الله علينا كيف أنعم بنصره على المؤمنين، أنزل عليهم السكينة، وقذف الرعب في قلوب الكافرين، وأمدهم بالملائكة مردفين ومسومين ومنزلين، ووعدهم بأنهم يغلبون ضعفهم أو عشرة أضعافهم إذا هم أقاموا الدين.. ولذلك، فإن إقامة الشريعة ونصرة الدين جزء من النصر والتفوق العسكري، وهذا من المعاني الراسخة في صدور المؤمنين.
(4)
لماذا سميت سورة الأنفال بهذا الاسم؟
لعله لأن "الأنفال" هي الاسم الذي يجمع هذه المحاور الثلاثة: الزهد في الدنيا، ترابط وتآلف المؤمنين، الجهاد في سبيل الله.
فإن الأموال تصرف أهل الحق عن رسالتهم وتثقلهم وتربطهم بالدنيا، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال"والأموال هي ما تثير النزاع والتباغض بين المتحابين فتنفصم بذلك العرى والروابط والأرحام، وفي ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم"والأموال أيضا هي التي تضعف الدول حين تتوجه الأموال إلى الرفاه والرخاء لا إلى مواطن القوة والتأهب والاستعداد.. قال الله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]
فهذه محاور السورة الثلاثة، كلها ترتبط باسمها برباط وثيق.. فسبحان الذي أنزل القرآن ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
راجع مقاليْ: من فقه المقاومة في سورة الأنفال (1/3)، من فقه المقاومة في سورة الأنفال (2/3) ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة. 2/209، وقال د. إبراهيم العلي: "إن كان أخرجه ابن إسحاق بسنده الصحيح الوارد في بداية غزوة بدر فالحادثة صحيحة والله أعلم، وإلا فالحادة بلا سند". صحيح السيرة النبوية ص189. محمود شيت خطاب: الرسول القائد، دار الفكر، بيروت، الطبعة السادسة. ص163. الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984هـ. 10/30، 31. البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 8/215. الترمذي (2336)، وصححه الألباني. البخاري (2988)، ومسلم (2961).
Published on November 02, 2013 00:25
October 20, 2013
من فقه المقاومة في سورة الأنفال (2/3)
ذكرنا في المقال السابق أن سورة الأنفال تعالج ثلاثة موضوعات كبرى كبرى تشكل قواعد بناء المجتمع والدولة الإسلامية، هي:
1. المسلمون أصحاب حق وأهل رسالة قضيتهم الكبرى هي إرضاء الله وإقامة الدين وهم لذلك أهل زهد في الدنيا وترفع عنها. 2. المجتمع المسلم مجتمع متماسك مترابط شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها. 3. أن الدولة الإسلامية دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة. وتحدثنا عن القضية الأولى، وكيف أن أهل الحق والرسالة لا ينبغي أن تميل نفوسهم إلى الأموال (الاقتصاد) على حساب تمكين الحق (سياسيا وعسكريا)، وقد تبدى ذلك في ثلاث مواقف:
§ موقف تمنيهم لقاء العير لا لقاء الجيش القرشي رغم وعد الله لهم بالظفر (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) § موقف اختلافهم حول توزيع الغنائم. § موقف ميلهم إلى افتداء الأسرى بالأموال. وبقي أن نتناول القضيتين الأخريين، فالله المستعان.
(2)
قضية: تماسك المجتمع المسلم
لم ينجح نظام قط في إقامة روابط وثقى مثلما نجح الإسلام، فلقد صنع الإسلام الرابطة الإسلامية وغرسها بين قوم كانوا يقدسون روابط القبلية العصبية حتى ليقول قائلهم:
وهل أنا إلا من غزية إن غَوَت .. غويتُ، وإن ترشد غزية أرشد
ويرجو آخر أن يكون قومه كمازن، الذين هم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم .. في النائبات على ما قال برهانا
وقد كانت المدينة أول قدوم النبي (صلى الله عليه وسلم) إليها نموذجا في المجتمع الذي يفتقد الرابطة، فالأنصار أوس وخزرج بينهما تاريخ من الحروب، والمهاجرون هم من كافة القبائل والبطون من قريش ومن خارج قريش، وهذا بخلاف المشركين والمنافقين واليهود. وكانت الغاية أن يتحول جمع المؤمنين -الغرباء عن هذه الأرض وعن بعضهم- إلى أمة واحدة برابطة دينية وأن يتم هذا في ظل فقر عام وتربص وعداوات داخلية وخارجية، عداوات في الدين وعداوات أنشأها تضارب المصالح لا سيما هذا الذي تحطمت آماله في تاج المدينة بعد أن كاد يلبسه!
وقد تحققت المعجزة بالفعل، وصار مجتمع المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، حتى لقد كان المسلم إذا لقي أباه أو أخاه في جيش المشركين قتله أو أسره، وصار أول من يتصدى لرأس المنافقين هو ابنهلكن الإسلام الذي أنشأ رابطة الدين لم يهدم ما سواها، بل لقد أكد على رابطة الأرحام منذ اللحظات الأولى في عمر الرسالة بتوجيه المؤمنين إلى البر بالوالدين، وإن ظلوا على الشرك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وحين جاء عمرو بن عبسة إلى النبي –وكان هذا في بداية الدعوة- سأله:"ما أنت؟ قال r: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوَحَّد الله لا يُشْرَك به شيء"بل إن صلة الأرحام من أسرار بقاء الدول ورخائها كما قال تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، وكما قال r: "صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"وهذا آخر ما يسمح به المقام في تفصيل هذا الأمر، والشاهد منه، أن المجتمع المسلم مترابط متماسك وهو حساس لكل شيء يؤثر على هذه الرابطة أو يهددها، لهذا ما أسرع ما نزلت سورة الأنفال تنزع عن هذا المجتمع أمر الأنفال الذي كاد يثير بينهم نزاعا وكان أول أمر فيها {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.
ثم شاع في جميع السورة مخاطبة المؤمنين وتذكيرهم بما أنعم الله عليهم من الألفة والحب، وأنهم بهذا صاروا كيانا لا يقف أمامه شيء {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
وأخبرهم الله بأن سرِّ النصر والقوة قائم في تلك الرابطة القوية التي تجمعهم، فإذا ما تبدلت حلَّت في الأرض الفتنة وعمَّها الفساد الكبير، حتى لقد نزع الله مبدأ الولاء بين المؤمنين وبين لم يهاجروا إلى المدينة –مع قدرتهم- لمصالح أو لروابط دنيوية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
وحذرت السورة من التنازع بين المؤمنين ففيه نهاية قوتهم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، ومن لطيف المعاني أن الله أنعم على المؤمنين بـ "وحدة الرؤية" ليتحقق بذلك "وحدة الموقف" وهم في قلب المعركة فقال تعالى {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
وإن من آثار هذا الترابط والتماسك في المجتمع المسلم أن تُقَاوَم المظالم، فيؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويؤخذ على يد الظالم، وإلا فإن العقاب يعم الجميع: من ظلم ومن سكت كذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
لقد كان الإخاء بين المهاجرين والأنصار حلاًّ جديدا في عالم البشر لحل مشكلة المهاجرين، ولقد أتى الأنصار بما يثير الذهول من أنواع البذل حتى قاسموا المهاجرين أموالهم ومنازلهم، بل كان الرجل يعرض تطليق زوجة من زوجتيه ليتزوجها المهاجري، حتى قال المهاجرون للنبي r: "ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، وأحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المئونة، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله"بمثل هذا الترابط بين جماعة المؤمنين تتولد القوة والقدرة، سواء في حال الاستضعاف أو في حال التمكين، فأما حال التمكين فأمر واضح ومعروف وأما حال الاستضعاف فإنه يتكون ما اصْطُلِح على تسميته "الحاضنة الشعبية" التي هي ترجمة عملية لقاعدة الولاء والبراء فلا ينال العدو من أهل المقاومة إلا بقدر ما تسمح به الثغرات في كيانهم، بل إنه مما صار مستقرا في علوم المقاومة أنه لا قِبَل لأحد بالانتصار في حرب العصابات إلا من خلال اختراق المجموعات المقاوِمة أو صناعة مجموعات أخرى بديلة تقوم بدور إثارة النزاع والخلافات وفتح الثغرات لينفذ منها العدو فيقضي على حركة المقاومة جميعا.
***
بقيت معنا القضية الثالثة والأخيرة من محاور سورة الأنفال التي تمثل أركان ومقومات المجتمع المسلم وهي: الدولة الإسلامية المتأهبة المُهابة، نتناولها في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
للاستزادة، اقرأ: صناعة مجتمع الجسد الواحد ([2]) مسلم (832). ([3]) الألباني: صحيح السيرة ص174، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/173، 174. ([4])البخاري (4552)، ومسلم (2554). ([5]) أحمد (25298)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. ([6]) الحاكم (7282)، وقال: غريب صحيح ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (12586) وقال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 13457)، وهو إن ضعفه بعض المحدثين كالألباني (صحيح وضعيف الترغيب والترهيب 1491) إلا أن معناه صحيح كما في الآية والحديث السابق له. ([7])د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/241 وما بعدها، د. إبراهيم العلي: صحيح السيرة ص138، 139.
Published on October 20, 2013 13:21
October 7, 2013
فقه التاريخ
ثمة قاعدة أصولية شهيرة للإمام يحيى بن أبي كثير تقول: "السنة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنة"، والمعنى –كما بيَّنه الشاطبي في الموافقات والسيوطي في مناهل العرفان- أن السنة إنما تقضي بين أفهام الناس في القرآن، فلو أن عددا من الناس قرأ الآية المُجملة، ففهم منها كل واحد فهما، فإن السنة تأتي بالتبيين والتفصيل، ومن ثم تقضي بين الأفهام فَتُقِرُّ فهمًا وتحكم عليه بالصحة وتقضي على الأفهام الأخرى بالبطلان.
وهذا شأن كل شيء مجمل، يحتاج إلى مذكرة تفسيرية، تُبَيِّن ما تشابه منه وتفصل ما أجمله.
وفي مجال العمل الإسلامي، ترجع الحركات والتيارات الإسلامية إلى القرآن والسنة تستقي منهما منهجها في الرؤية والحركة والإصلاح، وكلهم يصدر عن هذين المصدرين غير أن الأفهام أيضا تختلف، فمنها ذات اليمين وذات الشمال، وكما قال الشاعر:
وكلٌّ يدّعي وصلا بليلى ... وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا
ويمكن حل كثير من هذا الخلاف بالنظر إلى مصدر ثالث، نص عليه أيضا كتاب الله وسنة رسوله.. ذلك هو التاريخ!
فالتاريخ هو التجربة الإنسانية العملية، ومنه نعلم هل نجحت الأفكار أم فشلت؟ فكل فكرة لم تستطع أن تجعل نفسها تطبيقا عمليا فهي فكرة فاشلة، وكل فكرة صنعت لنفسها نموذجا عمليا في وقت من الأوقات فقد أدركت جانبا من النجاح، وأثبتت أنها استطاعت إدراك ظروف الزمان والمكان والتعامل مع الإنسان فتحققت في كيان عملي يمثل فكرتها! هذا الكيان يمكن أن يكون دولة صغيرة على ضفاف نهر، أو امبراطورية عظمى تمددت على مساحة واسعة وأخذت من عمر الزمان قرونا وأحقابا!
ومن هذا المنطلق، فالنظر في التاريخ هو الوسيلة التي تختبر عليها التيارات الإسلامية مدى نجاح رؤيتها وتصوراتها عمليا، وهل سيؤدي منهجها هذا إلى النجاح أم لا، وهل تستطيع عبر هذا المسار تحقيق أهدافها أم لا..
النظر في التاريخ يحكم على الأفكار التي تراود العقول، وبقدر العمق في النظر إلى الماضي وتحليله واستكناه أسراره بقدر ما تتوفر الفرصة لمزيد من اليقين في المنهج أو لتصحيح المسار، تصحيحه على المستوى الكبير (الفكري والاستراتيجي) أو على مستوى التفاصيل والأولويات والمراحل والترتيبات.
وهذا المعنى هو نفسه مأخوذ من كتاب الله تعالى، فقد ساق الله في الدلالة على صحة القرآن وصحة نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) دلائل من تاريخ الأقوام السابقة ليصحح مسارهم في مستواه الفكري والاستراتيجي فينقلهم من الكفر إلى الإيمان (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).. كما ساق دلائل من التاريخ أيضا لتصحيح المسار في مستوى التفاصيل والأولويات والترتيب حين قصَّ الله على نبيه قصص الأنبياء السابقين وكيف تكلموا وكيف أجابهم قومهم ثم كيف حاولوا وأوذوا وصبروا ثم كيف أنجاهم الله، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتذكر التاريخ حتى في المواقف الصغيرة (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ويُذَكِّر صحابته كذلك بالرجل "فيمن كان قبلكم...".
ولا بأس أن نعترف بأن الحركة الإسلامية، وإنتاجها المعاصر يعاني قصورا في دراسة التاريخ وقراءته قراءة متعمقة تبتغي أن تستشرف منه سبيل المستقبل، فهذا الاعتراف أول طريق التعلم..
نشر في الوعي الشبابي
Published on October 07, 2013 13:34
September 27, 2013
الحلم التاريخي الذي سحقه العسكر
في ذكرى موت عبد الناصر.. المجرم الأكبر ومؤسس حكم العسكر مما قد يخفى على الكثير أن حلم التحرر والاستقلال الذي كان في أواسط القرن العشرين كان في جوهره مؤسسا على قناعة وعقيدة تقول بأنه إذا حَكَمَنا بنو أوطاننا فإنهم سينهضون بنا على نحو ما فعل أبناء أوروبا في بلادهم.
كانت النظرة السائدة آنذاك تحصر المأساة في كون من يحكموننا ليسوا منا.. إما لأنهم أتراك (المدرسة القومية) أو لأنهم أجانب كالإنجليز والفرنسيين والطليان (المدرسة الوطنية) أو لأنهم نخبة قليلة من الأعيان أصحاب الأملاك (المدرسة الشيوعية المادية)
هذه المدارس التي تداخلت أحيانا كانت تلتقي عند هذه القناعة وتستبطن جميعها هذه العقيدة "لو أن الذي حَكَمَنا كان منَّا فإنه لا محالة سيكون وطنيا مخلصا لبلده ولقومه وللفقراء من شعبه".
بينما لم تكن المدرسة الإسلامية تعني بشخص الحاكم وعرقه وطبقته بقدر ما يعنيها دين وأخلاقه والنظام العام المهيمن، فإن هذا كفيل بإصلاح البلاد سواء كان من يحكم مصريا أو تركيا، غنيا أو فقيرا.
فلما جاء عصر الانقلابات العسكرية وأولها انقلاب حسني الزعيم في سوريا، وأخطرها انقلاب عبد الناصر في مصر.. عاشت الأمة واحدة من أسوأ أحقابها التاريخية على الإطلاق، سواء على مستوى الداخل أو على مستوى الخارج.
وكان من بين ما سُحِق من القيم والقناعات والمبادئ، قناعة أنه لو حكمنا من هو منا فإنه سيخلص للبلاد والناس.
إن إجرام عبد الناصر لا يقارن بإجرام الإنجليز، لا في القتل ولا في الاستبداد ولا حتى في السجون! وكذلك إجرام البعث في العراق بالنسبة للإنجليز، وفي سوريا بالنسبة للفرنسيين، وإجرام القذافي بالنسبة للإيطاليين... إلخ.
خرافة "المصري لا يقتل المصري" صارت خرافة فقط بعدما أثبت عصر عبد الناصر العسكري أنها خرافة، وأنه يمكن -وببساطة- أن يحدث هذا وبدم بادر!
كان السجن في عهد عبد الناصر يتمنى أن ترضى عنه كلبة حمزة البسيوني -قائد السجن الحربي- لأنه كان يُخفف العذاب عمن كانت ترتاح له الكلبة فلا تنبح في وجهه، بينما إذا نبحت عليه لحقه مزيد من العذاب!!
الوقائع المهولة كثيرة، وكتبت فيها مئات الآلاف من الصفحات سواء كمذكرات أو كأحكام قضائية أو كتقارير صحفية.. ولكن الشاهد المقصود من هذا السياق أن الناس الذين أجمعوا على أن تخلفنا كان سببه أن من حكمنا كان تركيا أو أجنبيا أو غنيا، رأوا بأنفسهم أن كل هؤلاء كانوا أرحم بهم من بني وطنهم.
لا أزال أتذكر الرجل المعمر الذي لما سألته عن ذكرياته في عهد الملك وعبد الناصر نظر إليّ ساخرا وقال: على الأقل الملوك مؤدبين إنما ولاد الـ.... دول شوارعية محدش رباهم، ده محدش كان يعرف يتكلم معاهم، بينما كان الملك يودعك بنفسه إلى الباب!
والآن وبعد ستين سنة من حكم العسكر، لم يبق قائما إلا ما رسخته المدرسة الإسلامية: المشكلة ليست في الطبقة ولا العرق، بل أين موقع الدين من نفس الحاكم وموقعه من نظام الدولة.
Published on September 27, 2013 16:30
September 26, 2013
من فقه المقاومة في سورة الأنفال 1/3
من ينظر إلى التاريخ الإنساني فلن تلفت نظره من بين تلك الحروب الكثيرة والهائلةوفور انتهاء المعركة نزلت سورة الأنفال ليكون موضوعها مفاجأة للقلوب والعقول التي حققت منذ لحظات نصرها الأول والأثمن والأهم في كل تاريخها.
والنظر المتعمق في سورة الأنفال يكشف لنا أنها تدور حول ثلاثة قضايا كبرى تشكل قواعد بناء المجتمع والدولة الإسلامية؛ الأولى: أن المسلمون أصحاب حق وأهل رسالة قضيتهم الكبرى هي إرضاء الله وإقامة الدين وهم لذلك أهل زهد في الدنيا وترفع عنها، الثانية: أن المجتمع المسلم مجتمع متماسك مترابط شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها، والثالثة: أنها دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة.
وحين نتأمل في هذه القضايا، ونتصور تحققها في أمة، فإننا نعرف أنها أمة تحقق فيها "فقه المقاومة" وسارت به على طريق النصر والتمكين.
(1)
ما إن ظهر خلاف بين المسلمين على توزيع الغنائم حتى نزلت السورة تنزعهم من هذه القضية وتنزعها منهم، وتصرفهم عنها بلهجة حازمة قوية، وتأمرهم بتقوى الله وبإصلاح ذات البين، وكل ذلك في عبارة واحدة مقتضبة (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين).
وذهبت السورة بسرعة إلى موضوع آخر: وصف المؤمنين، فهم (الذين إذا ذُكِر الله وَجِلت قلوبهم وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، ومنه إلى موضوع آخر: حكاية ما حصل في الغزوة منذ بدايتها وكيف كان تدبير الله لها من قبل، وكيف أنزل فضله على المؤمنين، وأن هذا النصر العظيم ما كان ليحدث لو سارت الأمور كما رغبوا أن تسير، وبين الآيات التي تروي ما حدث في الغزوة تأتي آية خاطفة تبين حكم الغنائم، ثم يمضي السياق في رواية ما حدث من مشاهد.
ذلك هو مقام الأموال والمغانم، بل مقام الدنيا ذاتها، عند جماعة المسلمين..
أما ما قبل هذا السطر وما بعده فهو إرجاع العقول والقلوب إلى رسالة الحق، إلى الله تبارك وتعالى منذ الأمر الأول (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله) مرورا بوصف معية الله لهم وفضله عليهم، ووصف حال المشركين الذين جحدوا رسالة الله وأنفقوا أموالهم في الصد عنها وخرجوا بجيوشهم لحربها حتى بلغ العناد أن يقولوا (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) حتى صاروا بهذا شر الدواب عند الله (إنّ شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، وحتى آخر السورة (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم).
وفي الطريق آيات كثيرة تنبه المسلمين إلى مهمتهم الكبرى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، وتحذرهم من العوائق الدنيوية (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم).
وهكذا تجد السورة كلها تشبه الصدمة القوية التي تعيد المسلمين من قضية الغنائم إلى قضية إقامة الحق، ومن بوادر نزاع على الدنيا إلى زهد فيها.. ذلك هو الجوّ المهيمن على السورة، ثم تظل في التفاصيل أمور أخرى نشير سريعا إلى أبرزها:
الأول: أن الله أراد إقامة الحق بالصدام مع أهل الباطل، بينما كانت رغبة المسلمين الاستيلاء على العير وأموالها حتى بعد أن وعدهم الله بأنهم سينتصرون (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
وهذا ما يُذَكِّرنا بقوله تعالى (كُتِب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
لقد قرر تاريخ البشر أن الحروب هي التي تفصل في الأمور، بها تقوم الدول وبها تنهار، وبها تسود أو تندحر الأفكار، وهي أمر "لا تخلو عنه أمة ولا جيل" كما قال ابن خلدونإذن، فالدرس المستفاد من هذا أن حسم الصراع مع الباطل –ولو مع المشقة- مُقَدَّم عند أهل الحق على الرفاه الاقتصادي، وأن ضربة عسكرية قوية خير من ضربات اقتصادية منهكة، وأنه يجب على أهل الحق التفكير من زاوية "إقامة الحق" لا من زاوية "تجنب الصدام"، فما كان أنفع للحق فُعِل ولو كانت فيه مشقة وصدام.
الثاني: أن الله عاتب نبيه في مسألة الأسرى، إذ مال إلى القول بافتدائهم والمنِّ عليهم، وكان ذلك رأي غالبية الصحابة إذ كانت الحاجة إلى المال قائمة وشديدة في ذلك الوقت، وفيهم كثير من الفقراء كما فيه الرحمة بالأسرى الذين هم من الأهل والعشيرة، فنزلت الآيات تقول (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)، فلا ينبغي أن يكون ثمة أسر إلا بعد إنزال القتل بالأعداء حتى يشيع فيهم الرعب والفزع من مواجهة المؤمنين، وبهذا تتحقق الرحمة المقصودة، أن ينحسم الصراع بقلة المتجرئين عليه وارتعابهم من مقابلة جند اللهوهنا يتضح لمرة أخرى أن التمكين للمسلمين وللدولة الإسلامية مُقَدَّم على إنعاشها اقتصاديا، فتثبيت أركان الدولة بالقوة العسكرية والهيبة السياسية أحسن حالا لها من إمدادها بمدد اقتصادي مالي مثل فداء الأسرى.
وهذا أمر مضطرد عبر التاريخ الإنساني، فالدول تُقام بالقوة والشدة، حتى التي يقيمها الأنبياء أصحاب الدعوات فكيف بغيرهم، يقول ابن خلدون: "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لأنّ كلّ أمر تُحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم؟!"هذه المعاني تحتاج إليها الحركة الإسلامية اليوم أكثر من أي شيء آخر، خصوصا أولئك الذين توهموا أن التمكين يكون بالرفاه الاقتصادي قبل ترسيخ أركان الحكم***
في المقال القادم بإذن الله نواصل الحديث عن المحورين الآخرين: تماسك مجتمع المقاومة وكيف ينبغي أن يكون شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها، وضرورة أن تكون الدولة الإسلامية دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
باستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945م، ظهر أنه: نشبت 34531 حربا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلا لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقط. (عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ = 1986م. ص19). ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1408هـ = 1988م. 1/334. في أحكام الأسرى تفصيل ليس هذا موضعه، ويُبحث عنه في مظانه من كتب الفقه. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/199. أبرز ما كان من أخطاء حركة الإخوان المسلمين في مصر أنهم اهتموا بصناعة إنجاز اقتصادي قبل التمكن من مفاصل الدولة، وبذلوا في الملف الاقتصادي مجهودا عظيما جدا وما كادوا أن يظهر أثرهم حتى جاء الانقلاب العسكري الذي أطاح بهم في 3 يوليو 2013، وقد كنت كتبت مقالات بهذا المعنى منها "الدولة الإسلامية، الشريعة قبل الاقتصاد"، و"رهبة الحق"، و"حرس الإنجاز أهم من الإنجاز".
Published on September 26, 2013 09:07
من فقه المقاومة في سورة الأنفال 1/2
من ينظر إلى التاريخ الإنساني فلن تلفت نظره من بين تلك الحروب الكثيرة والهائلةوفور انتهاء المعركة نزلت سورة الأنفال ليكون موضوعها مفاجأة للقلوب والعقول التي حققت منذ لحظات نصرها الأول والأثمن والأهم في كل تاريخها.
والنظر المتعمق في سورة الأنفال يكشف لنا أنها تدور حول ثلاثة قضايا كبرى تشكل قواعد بناء المجتمع والدولة الإسلامية؛ الأولى: أن المسلمون أصحاب حق وأهل رسالة قضيتهم الكبرى هي إرضاء الله وإقامة الدين وهم لذلك أهل زهد في الدنيا وترفع عنها، الثانية: أن المجتمع المسلم مجتمع متماسك مترابط شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها، والثالثة: أنها دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة.
وحين نتأمل في هذه القضايا، ونتصور تحققها في أمة، فإننا نعرف أنها أمة تحقق فيها "فقه المقاومة" وسارت به على طريق النصر والتمكين.
(1)
ما إن ظهر خلاف بين المسلمين على توزيع الغنائم حتى نزلت السورة تنزعهم من هذه القضية وتنزعها منهم، وتصرفهم عنها بلهجة حازمة قوية، وتأمرهم بتقوى الله وبإصلاح ذات البين، وكل ذلك في عبارة واحدة مقتضبة (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين).
وذهبت السورة بسرعة إلى موضوع آخر: وصف المؤمنين، فهم (الذين إذا ذُكِر الله وَجِلت قلوبهم وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، ومنه إلى موضوع آخر: حكاية ما حصل في الغزوة منذ بدايتها وكيف كان تدبير الله لها من قبل، وكيف أنزل فضله على المؤمنين، وأن هذا النصر العظيم ما كان ليحدث لو سارت الأمور كما رغبوا أن تسير، وبين الآيات التي تروي ما حدث في الغزوة تأتي آية خاطفة تبين حكم الغنائم، ثم يمضي السياق في رواية ما حدث من مشاهد.
ذلك هو مقام الأموال والمغانم، بل مقام الدنيا ذاتها، عند جماعة المسلمين..
أما ما قبل هذا السطر وما بعده فهو إرجاع العقول والقلوب إلى رسالة الحق، إلى الله تبارك وتعالى منذ الأمر الأول (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله) مرورا بوصف معية الله لهم وفضله عليهم، ووصف حال المشركين الذين جحدوا رسالة الله وأنفقوا أموالهم في الصد عنها وخرجوا بجيوشهم لحربها حتى بلغ العناد أن يقولوا (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) حتى صاروا بهذا شر الدواب عند الله (إنّ شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، وحتى آخر السورة (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم).
وفي الطريق آيات كثيرة تنبه المسلمين إلى مهمتهم الكبرى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، وتحذرهم من العوائق الدنيوية (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم).
وهكذا تجد السورة كلها تشبه الصدمة القوية التي تعيد المسلمين من قضية الغنائم إلى قضية إقامة الحق، ومن بوادر نزاع على الدنيا إلى زهد فيها.. ذلك هو الجوّ المهيمن على السورة، ثم تظل في التفاصيل أمور أخرى نشير سريعا إلى أبرزها:
الأول: أن الله أراد إقامة الحق بالصدام مع أهل الباطل، بينما كانت رغبة المسلمين الاستيلاء على العير وأموالها حتى بعد أن وعدهم الله بأنهم سينتصرون (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
وهذا ما يُذَكِّرنا بقوله تعالى (كُتِب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
لقد قرر تاريخ البشر أن الحروب هي التي تفصل في الأمور، بها تقوم الدول وبها تنهار، وبها تسود أو تندحر الأفكار، وهي أمر "لا تخلو عنه أمة ولا جيل" كما قال ابن خلدونإذن، فالدرس المستفاد من هذا أن حسم الصراع مع الباطل –ولو مع المشقة- مُقَدَّم عند أهل الحق على الرفاه الاقتصادي، وأن ضربة عسكرية قوية خير من ضربات اقتصادية منهكة، وأنه يجب على أهل الحق التفكير من زاوية "إقامة الحق" لا من زاوية "تجنب الصدام"، فما كان أنفع للحق فُعِل ولو كانت فيه مشقة وصدام.
الثاني: أن الله عاتب نبيه في مسألة الأسرى، إذ مال إلى القول بافتدائهم والمنِّ عليهم، وكان ذلك رأي غالبية الصحابة إذ كانت الحاجة إلى المال قائمة وشديدة في ذلك الوقت، وفيهم كثير من الفقراء كما فيه الرحمة بالأسرى الذين هم من الأهل والعشيرة، فنزلت الآيات تقول (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)، فلا ينبغي أن يكون ثمة أسر إلا بعد إنزال القتل بالأعداء حتى يشيع فيهم الرعب والفزع من مواجهة المؤمنين، وبهذا تتحقق الرحمة المقصودة، أن ينحسم الصراع بقلة المتجرئين عليه وارتعابهم من مقابلة جند اللهوهنا يتضح لمرة أخرى أن التمكين للمسلمين وللدولة الإسلامية مُقَدَّم على إنعاشها اقتصاديا، فتثبيت أركان الدولة بالقوة العسكرية والهيبة السياسية أحسن حالا لها من إمدادها بمدد اقتصادي مالي مثل فداء الأسرى.
وهذا أمر مضطرد عبر التاريخ الإنساني، فالدول تُقام بالقوة والشدة، حتى التي يقيمها الأنبياء أصحاب الدعوات فكيف بغيرهم، يقول ابن خلدون: "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لأنّ كلّ أمر تُحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم؟!"هذه المعاني تحتاج إليها الحركة الإسلامية اليوم أكثر من أي شيء آخر، خصوصا أولئك الذين توهموا أن التمكين يكون بالرفاه الاقتصادي قبل ترسيخ أركان الحكم***
في المقال القادم بإذن الله نواصل الحديث عن المحورين الآخرين: تماسك مجتمع المقاومة وكيف ينبغي أن يكون شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها، وضرورة أن تكون الدولة الإسلامية دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
باستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945م، ظهر أنه: نشبت 34531 حربا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلا لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقط. (عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ = 1986م. ص19). ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1408هـ = 1988م. 1/334. في أحكام الأسرى تفصيل ليس هذا موضعه، ويُبحث عنه في مظانه من كتب الفقه. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/199. أبرز ما كان من أخطاء حركة الإخوان المسلمين في مصر أنهم اهتموا بصناعة إنجاز اقتصادي قبل التمكن من مفاصل الدولة، وبذلوا في الملف الاقتصادي مجهودا عظيما جدا وما كادوا أن يظهر أثرهم حتى جاء الانقلاب العسكري الذي أطاح بهم في 3 يوليو 2013، وقد كنت كتبت مقالات بهذا المعنى منها "الدولة الإسلامية، الشريعة قبل الاقتصاد"، و"رهبة الحق"، و"حرس الإنجاز أهم من الإنجاز".
Published on September 26, 2013 09:07