محمد إلهامي's Blog, page 73

June 30, 2014

كيف صنع الإسلام "المجتمع المتين"



حين كتب مايكل هارت كتابه عن العظماء المائة في تاريخ الإنسانية وضع محمدا –صلى الله عليه وسلم- على رأسهم، وقال: "لا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي"، وهو بذلك يوضح لماذا لم يضع المسيح في هذه المكانة لأن نجاح المسيح كان دينيا فحسب كما يقول.
هذه الدهشة منتشرة في كتابات الغربيين الذين لا يكادون يصدقون أن رجلا استطاع تحويل أمة العرب من حالها القديم إلى هذا الحال الذي جعلها تقيم أعظم وأرسخ إمبراطورية في التاريخ بهذه السرعة.
ويكمن السرُّ في أن رسالة النبي لم تكن مجرد نصوص ترشد إلى مكارم الأخلاق، بل كانت نصوصا تنشئ أنظمة وتصنع مجتمعا وتؤسس طريقة حياة، وهذا هو مدخلنا إلى الموضوع.
إن في نصوص الوحيين ثروة فياضة في موضوعات الرحمة والبر والإحسان والبذل والإنفاق وحسن الخلق، وهي ثروة أكثر عمقا واتساعا مما تحفل به الأديان والمناهج الفلسفية والوضعية، لكن التفوق الإسلامي كامن في تأسيس نظام حياة يمهد الأرض ويصنع البيئة لعمل هذه النصوص، فلا تبق حينئذ مجرد حِكم ووصايا محلقة في خيال المثال وفضاء الأحلام كما هو الحال في الفلسفات والمناهج الأخرى.
إن مجرد المبادئ الإنسانية لا تؤثر إلا في النفوس الفاضلة، وتلك النفوس قلة في هذه الدنيا، بينما يختلف الحال حين تقام النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحيث تجعل عمل الخير طبيعة يومية، فحينئذ لا يتخلف عن فعل الخير إلا النفوس الخبيثة، وهي أيضا قلة قليلة.
فكيف أسس الإسلام نظامه الاجتماعي فحقق ثورة في العمل الخيري؟!
لقد أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على قاعدة يمكن أن نسميها "المجتمع المتين"، وذلك بإنشاء روابط وعبادات ومؤسسات تزيد من قوة هذه العلائق وتماسكها.
فأما الروابط فهي ثلاثة: رابطة الدين، رابطة الرحم، رابطة الجوار.
فرابطة الدين تؤسس لعلاقة بين المؤمنين ليكونوا "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، و"كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"، ولكل مسلم حقا على كل مسلم وإن لم يشترك معه في رحم أو جوار أو لغة أو لون أو جنس.
ورابطة الرحم تجمع الإنسان بذوي نسبه، وتبلغ صلة الرحم من المكانة أن الله اشتقها من اسمه فوصل من وصلها وقطع من قطعها، والمسلم يصل أرحامه وإن لم يكونوا مسلمين. وهذه الرابطة فطرة إنسانية يقويها الإسلام وينميها، ويخطئ البعض حين يتصور أن الإسلام أتى بما يحل علاقة القبيلة ليجعل محلها علاقة الدين، فالصحيح أن الإسلام رفع علاقة الدين فوق كل علاقة ليكون الحق هو أساس كل شيء وهو المهيمن على كل حركة، لكنه أبقى كل علاقات الوصل الطبيعية في المجتمعات كما هي بل وساعد في تقويتها وإنمائها، ولقد كان النبي يقول قوموا لسيدكم، ويأخذ البيعة من نقباء أقوامهم، وظلت الجيوش الإسلامية تقاتل في كتائب قبلية وعلى نحو ترتيبها في الموقع الجغرافي من الجزيرة العربية، بل ولا بأس أن تستعمل رابطة القبيلة في التحفيز كما فعل خالد وهو يخوض معركة المرتدين من أتباع مسيلمة.
ورابطة الجوار تجمع بين الإنسان وجيرانه، وحق الجار –وإن لم يكن مسلما- من الحقوق المقدرة في الإسلام، حتى ظن النبي يوما أن الجار سيرث في جاره، ووصل الأمر إلى حد نفي الإيمان عمن بات شبعانا وجاره جائع، بل عمن لا يأمن جاره أن يصيبه شيء من شره!! وهي درجة غير مسبوقة في العلاقات الإنسانية.
فبمجموع هذه الروابط الثلاث يتحول المجتمع المسلم إلى بناء متماسك متحد متين.
ثم تأتي العبادات فتدعم وتقوي هذه العلاقات، ففي الصلاة يجتمع أهل الحي خمس مرات في اليوم، وإنفاق الزكاة على الأقارب أولى من إنفاقها على غيرهم وعلى الجيران قبل غيرهم، وتفطير الصائم وتقسيم الأضاحي والتصدق والإهداء وكل ذلك ينفقه المرء على الأقرب فالأقرب.. وكل هذا يمهد النفوس لعلاقة قوية تسمح بوجود عبادة أخرى تنتشر في المجتمع كالشرايين في الجسد: عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أمر يبذله المسلم بدافع الحب والحرص والشفقة على من يجهل ومن يغفل ومن يزل، فيأخذ المجتمع بعضه بيد بعض.
وكثير من هذه العبادات يستلزم إنشاء مؤسسات، فالصلاة –وهي أعظم عبادة- تقام في المسجد –أعظم مؤسسة إسلامية- والذي هو كالقلب لكل حي، يجتمع فيه الناس على العبادة وعلى ما شاءوا من أنواع الطاعة، خمس مرات في اليوم بحد أدنى، ثم هو ملتقاهم فيما يعن لهم من أمور، وهو منبر التوجيه والتذكير والتحريض على فعل الخير. والزكاة تستلزم إنشاء مؤسسة الزكاة التي تجمع أموال الأغنياء فتوزعها على الفقراء. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استلزم إنشاء مؤسسة الحسبة التي كانت أول مؤسسة دينية رقابية، وقد استلزم الإنفاق إنشاء مؤسسة الأوقاف التي هي ابتكار إسلامي فريد جعل الأمة قادرة على تمويل مشاريع الخير وإنشاء نهضتها بنفسها وإن ضعفت السلطة السياسية.
كل هذه الشبكة المبنية من روابط مدعومة بعبادات تستلزم –في كثير من الأحيان- مؤسسات جامعة، كل هذا جعل المجتمع الإسلامي بنيانا متينا متماسكا، ولهذا كان المسلم يستطيع التطواف في أرض الإسلام ولا يشعر بوحشة الغربة، ويستطيع طالب العلم أو الرحالة أو المهاجر أو ذو الحاجة في الشرق والغرب أن يطوف في الطلب وهو يجد في رحلته من ينفق عليه ويستضيفه ويوفر له ما يعينه على رحلته.
في مجتمع كهذا تكون النصوص والمبادئ التي تحض على فعل الخير واقعا ملموسا لا مجرد نصائح تنتظر نفسا نبيلة تطبقها، ومن هنا تبدأ النهضات الحقيقية للأمم، حين يتحول بناؤها الفكري إلى نظام حياة، وساعتها لا يكون فعل الخير فعلَ أفراد معدودين، بل فعل مجتمع كامل لا يتخلف عنه إلا أفراد معدودون! وشتان بينهما!
فهل معنى هذا أن العمل الخيري في الإسلام مقتصر على المسلمين داخل المجتمع الإسلامي؟
والجواب: لا، فرسالة الإسلام للناس كافة، ورسول الإسلام رحمة للعالمين لا المسلمين وحدهم، وفي نصوص الوحي من الرحمة بالناس والشفقة بهم والحرص عليهم ما لا يوجد في غير هذا الدين، بل في الإسلام من الرحمة بالكائنات والنباتات والجماد والموارد والبيئة ما يطول فيه الحديث جدا ولا يوجد في غير هذا الدين أيضا.
إنما كان مقصد هذه السطور بيان أن الإسلام جعل عمل الخير نظاما لا مجرد نصائح، ينبعث له مجتمع حاشد لا قلة فاضلة.. ولذلك لم يمدح الله المسلم لأنه امرؤ يفعل الخير للناس، بل امتدح الأمة بأنها "خير أمة أخرجت للناس".
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، رمضان 1435هـ، يوليو 2014م.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 30, 2014 07:52

June 20, 2014

الأوثان الوطنية!



منذ دخل الاحتلال بلادنا سعى في تأسيس هويات أخرى لشعوبنا ليقضي من خلالها على هويتنا الإسلامية الجامعة، فبعث من تحت الرقاد هويات الفراعنة والآشوريين والفينيقيين والبابليين.. إلى آخره، وصار كل شعب مغرما بأجداده المصطنعين الذين لا يستطيع أحدهم أن يحقق نسبه إليهم ولا حتى احتمالا لتطاول الزمان وتغير الأحوال وموجات لا تعد ولا يمكن ضبطها من الهجرات والتغيرات البشرية.
لم تكن المشكلة فقط في كون هذه الهويات تمثل حدودا تمزيقية لوحدة أمتنا وتُطرح كبديل لهويتنا الجامعة، بل المشكلة الأكبر أنها تؤسس للعنصرية والعرقية، وهي –بهذا- تمثل نقيضا للهوية الإسلامية وتفتح بابا واسعا لهدر الإنسانية.
فالإسلام يحملنا على حب موسى وهارون عليهما السلام ومن اتبعهما (وهم غير مصريين) وعلى كره فرعون ومن أتبعه (المصريين)، ويحملنا على حب بلال (الحبشي) وسلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وعلى كره الوليد بن مغيرة وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام (وهم العرب الأقحاح صرحاء الأنساب)، ويحملنا على حب صلاح الدين (الكردي) ومحمد الفاتح (التركي) ضد كل من فرطوا في مصالح الأمة وإن انتسبوا إلى بني هاشم!
فخلاصة الأمر أن المرء يفخر بما فعله لا بما لم يفعله ولم يختره، ومجرد الفخر بالعرق أو النسب أو اللون أو الوطن شيء لا يد لأحد فيه، ولا يملك أحد أن يغيره، فهو فخر عنصري بغيض!
على كل حال: نجحت خطة الاحتلال بنسبة كبيرة، واعتنقت كثير من الشعوب هذه العقيدة الوطنية، وجعلت من حدود سايكس بيكو التي رسمها العدو معايير مقدسة، حتى اختلف الحال، فمن بعد ما خرج الفتى الحلبي من الشام بتحريض من شيخ في غزة ليقتل قائد الحملة الفرنسية في مصر، استطاع كل مستبد في بلد أن يعتبر شعبه ملكا له يقتل كما يشاء ولا يحق لأحد أن يتدخل فيما يصنع ما دام داخل حدوده "المقدسة"، وقد بذل إخوانه المستبدين جهدهم في إقناع الشعوب أن ما يجري من مذابح إنما يجري في بلد آخر لا علاقة لنا به، ويكون استقبال اللاجئين المطحونين ليس واجبا يأثم من لا يفعله بل هو عمل عظيم ومنة كبرى، وإذا شئنا رفعنا في وجههم شعار "الأمن القومي" الذي يمكنه منع لاجئ من السفر للتداوي حتى يموت على المعابر من أجل عيون "الأمن القومي"!
بعد قليل رسخت هذه القناعة لدى الشعوب بينما ركلها الحكام، وصاروا يتعاونون على مكافحة الإرهاب دون أي اعتبار للحدود "المقدسة"، ويحاكمون الإرهابيين العائدين من الجهاد رغم أنهم –بمعيار الحدود المقدسة- لا يجوز محاسبتهم لأنهم لم يرتكبوا شيئا داخل البلاد، ويتبادلون المعلومات والمحققين ووسائل التعذيب لمن لم يحترم الحدود المقدسة التي لم يحترمونها هم أنفسهم.
وإذا أخذنا المصريين كمثال، فنجد أن الوثن الوطني لم يعد مقتصرا على الفخر بأن حضارة الفراعنة هي أعظم حضارة في التاريخ، بل امتد حتى وصل إلى طرائف مضحكة من نوع: الطفل المصري أذكى طفل في العالم!! حتى منتخب الكرة أيام كان يحقق الإنجازات كان يُرى أن ذلك من بركة الفراعين التي بقيت في أحفادهم عبر السنين!
لم يتوقف أحد ليسأل نفسه: ما هي حدود الدولة الفرعونية؟ وهل هي ذات الحدود بين العريش والسلوم وأسوان؟!إن هذا السؤال مؤرق لقداسة الحدود التي صنعها الاحتلال، ولذلك لا يطرحه أحد، وعليه فعليك الإيمان بشيئين متناقضين معا: نحن أحفاد الفراعنة العظماء نعم لكننا ملتزمون بالحدود التي رسمها لنا الاحتلال، والهدف واحد: إيجاد هويات بديلة عن الهوية الإسلامية الجامعة.
إلا أن "الوثن الوطني" كانت له تجليات أخرى داخلية، فما زال الذين عبدوا هذا الوثن يؤمنون أننا نمتلك أحسن شيء في العالم: خير أجناد الأرض، وأعرق قضاء "شامخ" في العالم، والأزهر عندنا ما يزال كعبة طلاب العلم، والإعلام عندنا حر ونزيه وجرئ.. وهذا ما نتناوله في المقال القادم إن شاء الله، فالله المستعان.نشر في الجزيرة مباشر مصر
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 20, 2014 23:38

June 13, 2014

النبأ الباهر في سيرة الرئيس الساحر!



استطاع كل الساخطين على مرسي الذين عجزوا عن الصبر ثلاثة أشهر يتخلصون منه فيها بالبرلمان أو بالانتخابات المبكرة بعده، استطاعوا أن يصبروا على عدلي منصور عاما إلا أياما، حتى كتبوا دستورا وخاضوا انتخابات رئاسية حتى تم "تسليم" السلطة في "مشهد تاريخي غير مسبوق"!!
لم يقض مضاجع صبرهم طوفان الدماء الأغزر في تاريخ مصر الحديثة، ولا انقطاع الكهرباء ولا ارتفاع الأسعار ولا نقص الوقود، ولا سائر ما قضَّ مضاجعهم أيام مرسي.. لم يفزعهم أنه جمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية لعام وهم الذين ركبتهم الشياطين إذ اضطر مرسي لأخذ السلطة التشريعية من العسكر ولم يجد برلمانا يعطيها إياه فقد كان محلولا من السلطة القضائية، فهتفوا ضد الجمع بين سلطتين رغم أنهم الهاتفين بسقوط حكم العسكر واحترام أحكام القضاء!
ولم يعد أحد يصيح "طول ما الدم المصري رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس"، تلك التي صاحوا بها في وجه مرسي وقد كان المقتولين من ضحاياه يعدون على الأصابع وفي ظروف ملتبسة، بينما مرَّت مذابح عصر عدلي كالنسيم العليل على صفحة الخد الجميل!
وفيما كان كل قانون يصدر من مرسي أو مجلس الشورى يتعرض للتشريح، هطلت قرارات عدلي وقوانينه كالغيث على قلوبهم، فمن لم يمتدحها ويتغزل فيها سكت عنها كأن لم تكن!
إنه لساحر!!
هل رأيتم رئيسا يفعل ما فعله عدلي؟!
كيف استطاع أن يفعل كل هذا ويبقى في سدة الحكم عاما إلا أياما، وهو الذي جاء محمولا على أعناق قوم ثائرين أسقطوا ثلاثة أنظمة لم يفعل واحد منها شيئا مما فعله عدلي؟! قومٌ ثائرون لا يصبرون ولا يغفرون، لا يفرطون في الثورة ولا يسامحون في الدماء ولا يبررون لرئيس ولا يرضون بالقليل؟!
فكيف إذا عرفتَ أن عدلي فعل كل هذا وهو صامت نائم غائب في سردابه في الاتحادية، لا يظهر للناس إلا لماما في لقاء وحيد وبضعة خطابات قصيرة؟! حتى لقد احتاج هيكل –فيلسوف السياسة وكاهنها الأعظم وقطبها الأوحد- أن يزوره فيخرج بعد ساعات منبهرا يشهد أن عدلي منصور اكتسب في بضعة شهور خبرة كبرى تؤهله لأن يملأ مكانه ويؤدي دوره على أكمل وجه؟!
ألا زلت تشك في أنه ساحر؟!
فهل كنت تظن أن هذا المجهول المغمور في المحكمة العليا قادر على أن يطفئ نجم الوجوه اللامعة في السياسة والإعلام: فيهرب البرادعي ويصمت المسلماني ويختفي مصطفى حجازي ويبقى نجمه هو؟!!
وقد أطال الناس في البحث عن سرِّ سحره، فقال بعضهم: شامخ نزيه! وخالفهم آخرون فقالوا: ليس كل شامخ نزيه عدلي!
فيا حسرة على السيسي وقد أتى من بعد عدلي!!
وقد بحثت في التاريخ عن قاضٍ ساحرٍ كعدلي فوجدته عند أبي حيان التوحيدي في البصائر والذخائر، فقد روى أن رجلان تخاصما: كل منهما يقول عن زوجته أنها أحلى من الأخرى فاشتبكا حتى قاما إلى القاضي، فقال القاضي: أنا أحق الناس بالحكم في هذه القضية فقد زنيتُ بهما من قبل، فاستبشر الرجلان وتشوقا لمعرفة حكم القاضي، فلما حكم لأحدهما قام فرحا مسرورا منتصرا!!!
نشر في الجزيرة مباشر مصر
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 13, 2014 23:32

June 12, 2014

التاريخ في فكر الشيخ محمد قطب



فاضت روحه إلى بارئها بعد حياة حافلة مديدة اقتربت أن تكمل القرن من عمر الزمان، عاش لنحو نصف قرن من استشهاد أخيه، وهو الحدث الذي اهتز له كل العالم الإسلامي حينئذ، رأى فيها مصارع الظالمين وتبدل الدول وتقلب الأفكار وانهيار الإمبراطوريات وصعود أخرى، فرأى قرنا من التاريخ الإنساني بعيني رأسه بخلاف ما احتواه في صدره من قرون السابقين. ثم كان لا بد من الرحيل، فمات صباح يوم الجمعة الرابع من جمادى الآخرة 1435هـ، الرابع من إبريل 2014م، وصُلِّي عليه في الحرم المكي الشريف.
والشيخ محمد من العلامات العلمية والفكرية في عصره، وكان إنتاجه من أهم ما اطلعت عليه وتأثرت به الصحوة الإسلامية المعاصرة فهو في الطبقة الأولى من الأعلام المؤثرين فيها، ولا زلت أتذكر أن كتابه "واقعنا المعاصر" كان أول كتاب ضخم أتمه من أوله إلى آخره، وكان ذلك قبل نحو سبعة عشر عاما حين كنت في الثالثة عشرة من عمري، من فرط إعجابي به لسلاسة أسلوبه ووضوح أفكاره وقدرتها على مخاطبة من هم في هذا السنِّ بهذه القوة والعمق.
فكان أضعف الإيمان أن نتوقف في هذه السطور مع منهج الشيخ في قراءة وكتابة التاريخ الإنساني، وفي القلب منه التاريخ الإسلامي بطبيعة الحال.
أولا: خلاصة المنهج
لقد أبان الشيخ عن منهجه غير مرة، فكتب بناءه النظري في كتابه "كيف نكتب التاريخ الإسلامي"، الذي صدر حين كان الشيخ في الثالثة والسبعين من عمره، أي في مرحلة استواء الأفكار، وإن كان قد كتبه أول مرة وهو في الثامنة والخمسين، وقد صرح فيه بأنه "يحوى الصورة الأخيرة لتفكيري في موضوع كتابة التاريخ الإسلامي"ثم طبق هذا المنهج عمليا في بعض كتبه والتي على رأسها "واقعنا المعاصر" وكتابه "رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر".
وخلاصة هذا المنهج: أنه يجب علينا أن نكتب تاريخنا الإسلامي بنظرة يتحقق فيها عدة أمور:
1.    الانطلاق من حقيقة أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمة الوسط، وهي التي تحمل الرسالة الأزلية –فهي خاتمة الرسالات وليست انبعاثا جديدا متأخرا- وأن هذه الخيرية ليست عرقية ولا قومية ولا ذاتية، وإنما مستمدة من الرسالة، وينتج عن هذا الانطلاق أربعة نتائج مهمة هي:
§       أن التأريخ للجاهلية ينبغي أن ينطلق من كونها انحرافا كونيا عن دين الله، وأنه انحراف تتعدد مظاهره وأشكاله، فالجاهلية كل ما سوى الإسلام وليست مرحلة تاريخية سابقة.
§       أن التوحيد هو أكبر حركة تحررية في التاريخ وذلك أنه حركة تحرير شاملة لا تقتصر على تغيير اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو فكري أو فني، بل هو إخراج للإنسان كله من الظلمات إلى النور.
§       أن العالم كله يخسر بانحطاط المسلمين وليس المسلمون وحدهم، وهذا هو الحادث في الواقع المعاصر، الذي ينبغي أن يُركز في عرضه على هذه الجزئية التي يكاد يغفلها الجميع.
§       أن النهضة الغربية الحالية مهما قيل في وصف تقدمها المادي فإنما هي نهضة "عرجاء" لما تحتويه من كفر وظلم وفساد وانحلال، وجنوح إلى الدمار، وإفساد للفطرة، وأنها –لهذا- حضارة آيلة للسقوط.
2.    تنقية وتصفية التراث الأرشيفي الكبير الذي تركه لنا علماؤنا وتمييز الصحيح والضعيف من الروايات الكثيرة التي تصل حد التناقض والتضارب، لا سيما فيما يخص عصر الصحابة.
3.    التخلص من الآثار الاستشراقية في الدراسات الحديثة والمعاصرة، سواء كتبها مستشرقون أو غيرهم، وسواء انطلقت من كراهية للإسلام أو علق بها الرؤية المادية أو التفسيرات القومية والعرقية للتاريخ.
4.    قراءة تاريخنا الإسلامي بعين وروح إسلامية، في ضوء الهداية التي جاء بها القرآن والسنة وبغير فصل نكد بين ما هو "دين" وما هو "تاريخ"، بل التاريخ هو أثر الدين على واقع الحياة، فبه يُفهم طالما أنه منه انطلق، ويتمثل هذا كأبرز ما يكون في أربعة جوانب:
§       الفتوح الإسلامية وكيف أنها تفارق تماما التوسعات الامبراطورية في الغاية والمسلك.
§       الحركة العلمية الإسلامية التي انطلقت لتحقيق طلب العلم وعمارة الأرض، وسلكت سبيلا خلقيا يمنعها من استخدامه في الفساد والإفساد، كما ويستحيل عليها أن تصل إلى نزاع بين العلم والدين.
§       الحضارة الإسلامية التي هي حضارة قيم ونظم بالأساس لا حضارة زخارف ورسوم وبنايات، فمن القيم تستمد هذه المظاهر المادية روحها ووظيفتها.
§       تقييم فترات الضعف والانهيار بعين ترصد أسبابه في الابتعاد عن الوحي وهدايته، لا في مجرد التخلي عن الأسباب المادية، في الظروف الداخلية قبل الظروف الخارجية، فيما كان فينا من عيوب أنجحت المؤامرات لا في مجرد المؤامرات.
5.    قراءة التاريخ بلا إفراط ولا تفريط، بلا تزوير ولا تبرير، فتاريخنا مجيد زاهر إلى الحد الذي يبعث بالفخر، وهو أحوج ما نكون إليه في واقعنا ولأداء رسالتنا، كما نحن أحوج إلى معرفة العيوب والمشكلات التي أدت إلى انحدارنا وانهيارنا في نهاية المطاف، وهو أمر جلل لا ينفع فيه التخدير بالاقتصار على الأمجاد أو بذل المجهود في تبرير العيوب، فكيف ونحن مأمورون بالعدل مع أنفسنا والأقربين!
6.    رفض قصر التاريخ الإسلامي على جانب التاريخ السياسي، بل ينبغي أن نولي العناية لتاريخ الأمة الحضاري والعلمي والاجتماعي
ثانيا: المحطات التاريخية الكبرى
وبناء على هذا المنهج وضع الشيخ رؤية لمحطات التاريخ الكبرى كيف يكون عرضها وتفسير ما وقع فيها، فأبان في هذه المحطات والأحقاب عن أبحاث لم تدرس بعد، وأبحاث لم تدرس بشكل وافٍ، وأبحاث بحاجة إلى إعادة عرضها والتأمل فيها.
فالحقبة الجاهلية ينبغي أن تدرس لا كفترة زمنية بل كحالة انحراف، وهي حالة يعاني منها البشر في القديم والحديث، ليس فقط من جهة عبادة الأوثان، وإن تكن عبادة الأوثان ما تزال منتشر في مناطق واسعة من الأرض كالهند، والأوثان ذاتها ليست دائما حجارة، بل كل ما قُدِّس وأطيع من دون الله فهو بمنزلة الأوثان وأولئك المتبعون إنما هم في جاهلية، ولذلك فكل ما تعيشه الإنسانية من شيوع القتل وجحيم الظلم والعبودية والتعصب للأعراق والألوان والأرض وانحلال الأخلاق وأكل الربا والاحتكار إنما هو من جراء تقديس ما سوى الله واتباع غير أوامره واعتناق الخرافة. وينبغي أن تعرف هذه الفترة بعمق كي يدرك الناس مدى نعمة الله عليهم بالتوحيد، إذ لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وبهذا المعنى فالجاهلية متعددة متكررة قائمة وليست حقبة قد انتهت، كما أن وجود حضارة وتفوق علمي تقني مادي لا يعني انفكاك هذه الحضارة من وصف الجاهلية.
والإسلام ليس دعوة نبي بعث قبل ألف سنة، بل إن هذا النبي هو خاتمة الرسالات التي هي الاستقامة، فهو ليس رد فعل للجاهلية ولا هو حركة أرضية إصلاحية ضيقة، بل هو أوسع وأشمل حركة تحرر ومواجهة لهذه المظالم والمفاسد كلها، وهو كذلك أفضل وأعمق إصلاح للنفس الإنسانية، وبهذا المعنى فلا بد من وقوع الحرب بين الحق والباطل، بين المتألهين والمستبدين والمفسدين وبين المتحررين والمجاهدين والمصلحين، ويرى الشيخ أن فترة البعثة وصدر الإسلام يجب أن تركز على أربع موضوعات: شخصية النبي، استقبال الجاهلية لدعوته، موقف المؤمنين مما وقع عليهم من العذاب، التربية في دار الأرقم. فبهذه الموضوعات يظهر أثر الإسلام في النفوس والمجتمعات، وأما الفترة المدنية فأهم ما ينبغي التركيز عليه هو ثمرة الإسلام إذ أنشأ الدولة ووضع قواعد النصر والتمكين وقواعد الحكم والسياسة، ثم دراسة المواجهة بين دولة الإسلام والجاهلية من حولها، ويرى أن هذه الفترة يكتفى فيها بالقرآن والسنة وشروحهما فحسب.
وأما فترة صدر الإسلام (الخلافة الراشدة) فينبغي أن تعرض على أنها التطبيق المباشر للإسلام، فينظر فيها فيما يعرض للسلطة والسياسة من قضايا، وما يعرض للمجتمع من تغيرات حين يحكم نفسه بغير وحي من السماء، وكيف ينبغي أن يتعلم الناس أن المجتمع المثالي ليس خياليا بل واقعيا، ومثاليته لا ترفعه عن بشريته، بل تظل ثمة أخطاء تقع وتُعالج، وتعدّ فترة الشيخين على وجه الخصوص أغزر الفترات التي ينبغي التوقف عندها لأخذ الدرس في الحسم والحزم والتعامل في الأزمات، وفي حقوق الرعية على الراعي وحقوقه عليها، ويعزو الشيخ وقوع الفتن إلى هذا التوسع السريع للإسلام وهو ماترتب عليه دخول قوم فيه لم يحظوا بالقدر المناسب من التربية فمن هنا كانت الفتنة التي عمل على بذرها وإشعالها أعداء الأمة من اليهود كعبد الله بن سبأ.
وأما فترة انتشار الإسلام في عهود الدولة الأموية والعباسية والعثمانية فمختصر منهج الشيخ هو العناية بدراستها دراسة فاحصة تفصل لتمييز الحقائق من المبالغات والتشويهات، وتحدد بدقة جوانب الانحراف واستمرارها، وترصد نمو هذه العوامل وانتقالها من السلطة إلى المجتمع ثم تأثير هذا على وقوع الأمة فيما بعد تحت براثن الصليبيين والمغول.
وأما فترة الضعف العام التي سقطت فيها الخلافة ووقع فيها المسلمون تحت الاحتلال الأجنبي، فمختصر منهج الشيخ هو ذاته ما سبق ثم هو يضيف إليه ضرورة التركيز على عرض "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، حيث لم يكن انحطاط المسلمين مجرد خسارة لهم وحدهم، بل انحطاطهم هذا هو ما جعل المفاسد تغزو العالم بلا حماية، فلو قدر أن المسلمين كانوا أقوياء لما كان الربا هو أساس التعامل المالي العالمي، ولا كان الانحلال الأخلاقي هو أساس الواقع الاجتماعي، ولا كان المستضعفون في هذا العالم أضيع من الأيتام على موائد اللئام، فكل هذا إنما انتشر وصار سلوكا عالميا بفعل وجود الداعي الغربي واليهودي وانتفاء النموذج المقاوم القوي المتمثل في الإسلام، وهو ما خسرت به البشرية كلها أرواحا وأموالا ومظالم لا تعد ولا تحصى.
ويرى الشيخ ضرورة التأريخ النزيه لحركات الصحوة الإسلامية، فيم نجحت وفيم أخفقت، وهو يثبت لها جهادها وفضلها وإخلاصها، ويعزو إخفاقها إلى أمرين: استعجال الثمرة قبل أوانها، واعتمادها في تربية أبنائها على السمع والطاعة أكثر من الشورى.
ونخلص من هذا العرض إلى أن منهج الشيخ يعتمد أساسا كبيرا هو مركزية العقيدة وأهميتها، فهي السبيل للتخلص من أسر المناهج المادية التي سيطرت على مناهج النظر والبحث بأثر من التفوق الغربي والغزو الفكري، فمن العقيدة يُعاد تعريف "الإنسان" من حيث الطبيعة والغاية والرسالة، ويُعاد تعريف "الحضارة" من حيث الجوهر والمظهر، ويُعاد تعريف "الحال" من حيث التقدم والتخلف.
وفي منهج الشيخ نجد موضوع التربية: الهدف والوسائل، شائعا مهيمنا، فلئن خلا الكلام من ذكر صريح فهي مخبوءة في باطن الكلمات، وليس هذا محصورا في شأن التاريخ وحده بل هو منهج للشيخ في كافة العلوم حتى في كتابه "منهج الفن الإسلامي"، فضلا عن آثاره التي خصصها لموضوع التربية. 
ثالثا: ما ينتقد على منهج الشيخ
وهو يتلخص في ثلاثة أمور:
1. أولها أنك لا تجد عند الشيخ نقاشا موسعا ولو لقضية واحدة كمثال تاريخي يرصد ويحلل أسبابها وظروفها بعمق، فيعدُّ تطبيقا لمنهجه في التحليل والتفسير، فكم كان مهما وهو يستنكر تحول الحكم من الخلافة إلى الملك أن يبين عن موضع المشكلة، ذلك أن البيعة ليزيد لم تكن مجرد قرار من معاوية (رضي الله عنه) بل هي تعد موضع رضا عام من بعد ما قبل بها الصحابة والتابعون ولم يتخلف عن هذا الرضا إلا أربعة ثم لم يخرج عليها إلا واحد وهو (الحسين رضي الله عنه)، لا سيما والشيخ يذكر من تغير الزمان والنفوس ما هو دليل لمن أيَّد معاوية في فعله، باعتبار أن هذا هو الحل "العملي، الواقعي" الذي يحفظ الأمةوبرغم أن أكبر توسع للشيخ في نقاش وتحليل قضايا تاريخية كانت من نصيب التاريخ المعاصر والحديثوقد يُجاب على هذا بأن الشيخ نفسه صرح بأنه ليس مؤرخا ولا له دأب المؤرخ وصبره، وقد يجاب بأن واضع المنهج الكلي ليس بالضرورة أن يكون ذا باع فيه، وهو ما لا نوافق عليه، إذ من الضرورة أن يكون الأصولي على قدر من الإلمام بالفقه، وكان لابد لمثل ابن خلدون أن يكتب تاريخا نرى فيه أثر منهجه في التفسير، وإلا وقعنا في مشكلة المثالية التي تفارق الواقع، وهو ما نأخذه على بعض طروحات الشيخ رحمه الله.
2. ثانيها أن أثر اهتمام الشيخ بموضوع التربية، وهو أمر يكاد يصبغ كل إنتاجه، نجد تعظيما لأمر "التربية والتكوين" وتقليلا لحجم "السياسة والسلطة" في قراءته التاريخية، فكتابات الشيخ توحي وكأن التربية هي الغرض من قراءة التاريخ ومن تدريسه، فيما نظن أن التربية نفسها هي وسيلة لتأسيس حكم الله في الأرض الذي هو سياسة وسلطة، وهذا إلى جانب أن السياسة والسلطة تتحكم وتؤثر في التربية، كما في قول عثمان (رضي الله عنه) "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ثم إن العالم منذ نحو مائتي عام وهو يرزح تحت ظل الدولة المركزية التي تجمع كل شيء بيد السلطة حتى مناهج التعليم ووسائل الإعلام والتثقيف حتى التحكم فيمن يصعد على المنبر ومن يلقي الدروس ومن يخرج من البلد ومن يدخل إليها3. ثالثها هو تضخيم حجم المؤامرة وأثرها في واقعنا، وخصوصا في بحث المستشرقين الذين يرتاب الشيخ في كل ما يفعلون حتى ما كان منه طبيعيا فيفترض فيه غرضا خبيثا، فمن ذلك أنه ينظر بعين الريبة إلى تقسيمهم التاريخ إلى عصور: خلافة راشدة، أموية، عباسية، مملوكية، عثمانية.. ويرى أنهم بهذا أرادوا تمزيق تاريخ الأمة وقطع تواصل الأجيالومن توابع هذا أن الشيخ سريع إلى الشك فيمن يرى منهم "اقترابا" من الغرب، حتى وإن عُرِفوا بنقده أو الثورة عليه أو حتى الخطأ في التعامل معه مع تراث صريح في الدفع عن الإسلام وتعظيمه، فممن طالتهم سهام الشيخ لهذا رجال أمثال: الشيخ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، ونحوهم.. في حين أن البحث التاريخي المعمق في أحوالهم ونتاجهم ينتهي إلى نتيجة أخرىومع قلة المصادر التي كُتبت في التاريخ الحديث والمعاصر بروح إسلامية فيُطمأن إليها، ومع هذه الأجواء السالفة الذكر، فإن هذا الجزء من التاريخ في كتابات الشيخ تهيمن عليه حس المؤامرة التي لا ننكرها ولا نقلل من أثرها، وإن كنا نرى أنها في حجم أكبر من حجمها، والله أعلم.
***
إن تأسيسات الشيخ لأفكار: الانطلاق من هداية الدين في البحث والنظر التاريخي، وما يترتب عليه من تحويل زاوية النظر نحو اكتشاف وتقييم الفترات والأحقاب القديمة والمعاصرة، لجدير بأن يضعه الباحثون الشباب نصب أعينهم، ذلك أن المحترفين من الإسلاميين في مجال التاريخ ما زالوا ندرة، والباحثون مضطرون إلى الأخذ عمن أتيح لهم قديما التدريس في الجامعات واعتلاء مناصب البحث في المراكز العلمية والمؤسسات الثقافية، وكثرة الأخذ عن هؤلاء يجعل الباحث منطبعا بالمنهج مع ما استفاده من علم، فمثل هذه الهدايات المنطلقة من فكر إسلامي خالص هي العاصمة له من الانسياق في تيار المناهج الأخرى الملتبسة بباطل أو التي يغلب عليها الباطل.رحم الله الشيخ الجليل وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وألحقنا به في الصالحين.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص7. كابن خلدون الذي ناقش الموضوع في مقدمته، وانظر أيضا نقاش جلال كشك في كتابه "جهالات عصر التنوير". بالذات في "واقعنا المعاصر" و "رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر". راجع مقال "جناية الأنظمة العلمانية على الأوقاف الإسلامية" الذي نشر في مجلة البيان العدد 312 شعبان 1434هـ، يونيو - يوليو 2013م. وأغلب الظن أن هذه الفكرة مأخوذة من د. عبد العظيم الديب في كتابه "المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي". كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص19. صدر حديثا في القاهرة كتاب "ما أخفاه العلمانيون من تاريخ مصر الحديث" للكاتب: معتز زاهر، يتناول توضيح جوانب من الشخصيات التي حاول العلمانيون "اختطافها" لصالحهم، والكتاب يكتفي بالنقل من كتبهم ما هو صريح في تبيين مناهجهم.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 12, 2014 23:25

الاحتضان الإسلامي للمنكوبين



لقد صاغ الإسلام أبناءه على مثال يجعل ديارهم ديار فضل وخير وأخلاق، لا يستوحش فيه الغريب ولا يُضام فيه الضعيف، ولم يسمح الإسلام أن تنتشر بين أبنائه أخلاق الطمع والجشع والاحتكار وما إلى ذلك مما يمزق الروابط ويبذر فيها الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ومن هنا كانت ديار المسلمين خير ديار كما كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.. وهذه هي خلاصة ما نورده في هذه السلسلة عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية" تلك التي تنبع من المجتمع نفسه بغض النظر عن أحوال السياسة والسلطة، فتظل تؤتي ثمرتها في حال القوة والضعف، فيدخل الناس في دين الله أفواجا.
وقد تحدثنا فيما سبق عن هذا الاحتضان الإسلامي الاجتماعيلغير المسلمين بالنسبة لشرائح كثيرة مثل: السائحين، والخدم، والعمال، والموسرين، ونتناول في هذه السطور شريحة أخرى هي "المنكوبين"، وهم أولئك الذين أصابهم الدهر ببعض سهامه من نقص مال أو نقص أمن أو ظلم ظالم أو مرض أو حاجة.
لقد فرض الله على المسلمين الزكاة وجعل لها مصارف: الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، تحرير الأرقاء، الغارمين، ابن السبيل، في سبيل الله.. ثم حض المسلمين على الصدقة والإنفاق بآيات كثيرة محفوظة وأحاديث كثيرة مشهورة، ثم أنشأ الإسلام نظاما بديعا هو الوقف الخيري الذي يفتح المجال للأمة لينفق كل صاحب مال من ماله على هيئة تجعلها صدقة جارية مستمرة، ثم هي صدقة مستقلة محفوظة لأنها "حبس" موقوف لله تعالى، فلا يهيمن عليها سلطان ولا يحق لوارث منها شيء، وكان للوقف آثار عظيمة واسعة على الحضارة الإسلامية وعلى الأمة ونهضتها الشاملة التي لم تعرفها أمة من الأمم.
ثم أوجب الله على المسلمين تمتين العلاقات فيما بينهم، فأوجب الله على عباده صلة الأرحام حتى لو لم يكونوا مسلمين، وأوجب عليهم الإحسان إلى الجيران ولو لم يكونوا مسلمين بل جعل للجار حقا عظيما حتى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد يرث من جاره، ثم جعل رابطة الإسلام بين المسلمين هي أوثق الروابط فلا تعلوها رابطة، ثم حث على إكرام الضيف وحسن استقبال الغريب وإعانة المنقطع حتى يبلغ حاجته، وأمر بإجارة المستجير حتى يبلغ مأمنه، وحث على تفريج الكروب وإعانة المحتاج والسعي في قضاء حوائج الناس.
وبالجملة فقد تأسس المجتمع الإسلامي على نحو يجعل العلاقات تبلغ حدا متينا مترابطا، تهيمن عليه حالة من العطاء المستمر التي يساهم فيها أهل السراء وأهل الضراء، ولقد كان من العجيب أن يأمر الله من يجد ما يفيض على حاجة يومه بأن يخرج صدقة الفطر التي يتعلق عليها صيام الفريضة في شهر كامل.. وهكذا انطلقت الأمة في أرض الله تبعث في الناس روحا جديدة، ويرى منها الناس ما لم يألفوه، فدخلوا في دين الله أفواجا، ولو كان قبل قليل قوما محاربين، ولو كانوا هم المنتصرين كما كان حال المغول عموما والصليبيين أحيانا.
ولو أردنا أن نضرب الأمثلة لطال بنا الحديث جدا، بل ولو اقتصرنا على التقاط أمثلة لطبيعة المجتمع الإسلامي التي احتضنت المنكوبين من غير المسلمين وهو في حال الضعف والفقر والاحتلال لاحتجنا إلى سجل طويل، ولكن لا بأس من شذرات سريعة متنوعة الزمان والموضوع:
1. انتشرت ظاهرة في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية بين الجنود الألمان الذين يأسرهم الإنجليز في مصر، فإذا بأولئك الألمان ما إن يتمكنوا من الهرب –وأحيانا بمساعدة المصريين- حتى يدخلوا في الإسلام ويعمدون إلى أحدى القرى المصرية فيندمجون بها ويتزوجون ويعملون عمل الفلاحين ويتسمون بأسماء المسلمين، وذلك بأثر ما لاقوه وعرفوه من أخلاق القرويين المصريين.. ومثل ذلك تكرر في كل ديار الإسلام –التي هي مقهورة محتلة- من إندونيسيا والهند شرقا حتى الجزائر غربا، وكان هذا يتم بطريقة طبيعية لا تلفت نظر كثير من المؤرخين وإنما نلتقطه سراعا بين سطور مذكرات بعض من عاشوا وقتها.
2. وقبل عصر الاحتلال سنجد أن الدولة العثمانية –التي يراها البعض أسوأ تمثيل للحكم الإسلامي- تسجل صفحات فخار طويلة في احتضانها للمنكوبين المضطهدين في أوروبا التي كانت تطحنها الصراعات الدينية في ذلك الوقت بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، ولكم نادى بعض الناس في ممالكهم على العثمانيين أن يحكموا بلادهم لينقذوهم مما هم فيه من مظالم، ولكم احتفظ التاريخ بوثائق يشهد فيها الأحبار والرهبان والقساوسة بأن حكم المسلمين أحب إليهم من حكم بني جلدتهم، يقول توماس أرنولد: "وطالما دعا الأهلون الأتراك في عهد ميخائيل الثامن إلى الاستيلاء على مدنهم الصغيرة في داخل آسيا الصغرى؛ تخلصا من استبداد الدولة، وكثيرا ما هاجر الأغنياء منهم والفقراء إلى الولايات التركية"3. وفي عصر الأيوبيين ضرب صلاح الدين المثل السامي في التعامل مع المهزومين، فكان أحسن لهم من ملوكهم وأحبارهم ورهبانهم، فمنَّ عليهم بإطلاق الأسرى وعلاج الجرحى وإكرام الأمراء المهزومين وتوفير الدابة التي تنقلهم إلى حيث يأمنون، حتى لم يكد الصليبيون يصدقون مثل هذه الأخلاق، حتى لم يجد بعضهم إلا الزعم بأن أصوله تعود "إلى الأسرة المسيحية، فأمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"4. وفي أيام العباسيين نجد المستشفيات الإسلامية تفتح أبوابها لكل مريض فيقيم فيها إقامة كاملة مع خدمة دائمة حتى يستكمل علاجه، بغير اشتراط أن يكون من المسلمين أو من أهل البلد أو ممن يستحقون التأمين الصحي للمواطنين5. وفي عهد الخلافة الراشدة، نجد الفاروق رضي الله عنه يمر ذات يوم بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر -رضي الله عنه- بيده، وذهب به إلى منزله؛ فرضخ له بشيء مما في منزله، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم؛ {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. والفقراء: هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية، وعن ضربائهلقد اقتصدنا كثيرا في ذكر أمثلة تاريخية لضيق المقام، لكن الخلاصة من كل ما سبق أن بلادنا ينبغي أن تكون زاخرة بالمؤسسات التي تعين المنكوبين، من المسلمين وغير المسلمين، في كافة المجالات من أول التوسع في تيسير اللجوء السياسي للمظلومين والمضطهدين مرورا بالخدمات العابرة كالعلاج وإعانات البطالة وانتهاء بتيسير السفر إلى حيث يبلغ المحتاج مأمنه ومطلوبه.
فإن كان بعض هذه الأمور مما لا تقوم به إلا السلطة فينبغي حثها على هذا وبيان الأثر الجميل له في الدنيا عند الناس وفي الآخرة عند رب الناس، فإن امتنعوا ففيما بقي من الخدمات والأمور متسع يقوم به الصالحون وذوي العطاء وأهل الدثور فيفرجون عن عباد الله الكروب ويكونون بابهم إلى الدخول في دين الله تبارك وتعالى.
ومن المهم الذي ينبغي قوله في موضوع "الاحتضان الإسلامي للمنكوبين" هو ما يفعله من جمعتهم النكبة الواحدة، فيكون المسلم داعية إلى الله يدعو غير المسلم الذي جمعته به نكبة واحدة، وقدوتنا في هذا نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان داعية في أصعب لحظة مرت عليه: لحظة الطائف، إذ لم يهمل دعوة عداس الخادم الذي قدم له قطفة عنب، ومن قبله سيدنا يوسف الذي جمعه السجن بصاحبين فكان أول كلامه معهما أن يدعوهما إلى الله، وكم اضطرد هذا في تاريخ الإسلام حتى العصر الحاضر، فكم من سجين التقى في السجن بداعية مظلوم فلم يزل يحوطه ويرعاه ويتعهده بالتربية والتعليم حتى خرج شخصا جديدا، وكم من شرطي اهتدى بعد ظلمه لما رآه من قوم كان يعذبهم أو قوم اهتدى حين رأى ثباتهم وبشارة الله لهم لحظة إعدامهم، وهي أمور مشهورة يعرفها كل قارئ لقصص التائبين وقصص من أسلموا، ولعل من أشهر الأمثلة التي يعرفها القراء مثال مالكوم إكس الزعيم الأمريكي المعروف الذي كان لحظة فارقة في مسار المسلمين والسود في أمريكا، وكذلك مثال الملاكم المعروف محمد علي كلاي والذي أسلم في سجنه.
إن المنكوبين أحوج الناس إلى خلق حسن، وإن رسالة الإسلام إنما هي تتميم لمكارم الأخلاق، وليس يُنتظر من الغيث النافع حين يقع على الأرض العطشى إلا ثمرة يانعة تغذي الآكلين وتسر الناظرين.
نشر في مجلة البشري، شعبان 1435هـ = يوليو 2914
يرجى النظر في الفصل الذي كتبه توماس أرنولد عن العثمانيين في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" ففيه شهادات كثيرة ونصوص وثائق ودلائل قاطعة، والاقتباس في المتن من ص116، 117. مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث، ص41، 42. كما هو في بعض البلاد التي تزعم الإنسانية ولا يحرك إنسانيتها أن يموت مريض لا يملك الجنسية أو لا يستحق خدمة التأمين الصحي!!! زيجريد هونكه: شمس الله تسطع على الغرب ص 227، 228. ابن القفطي: إخبار العلماء بأخيار الحكماء ص150، 151. أبو يوسف: الخراج ص136، وابن زنجويه: الأموال، 1/ 162، 163.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 12, 2014 23:08

June 1, 2014

الحدائق الإسلامية



قليلا ما يلتفت الباحثون إلى "الحدائق" في حضارة الإسلام، وأغلب الظن أن ما بقي من آثار العمران الإسلامي قد سلب العيون عما اختفى منه، فالقصور والقلاع والأسوار والأبواب والزخارف والنقوش والخطوط وغير ذلك شغلت الأبصار والقلوب عن شيء كالحدائق، تلك التي لم يبق من أثرها شيء تقريبا.
ولا يصح تصور المدن الإسلامية بغير تصور الحدائق، ذلك أنها انتشرت في كل مكان حتى لقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن المسلمين نظروا إلى الحديقة باعتبارها الأصل والعمران هو التابع لهاعالم من الحدائق
لا يكاد المرء يمر على كتاب في التاريخ أو البلدان فيحاول رسم صورة لما يقرؤه إلا وتكون الحديقة أساسا وأصلا في هذه الصورة، لقد كان العالم الإسلامي كأنه قطعة خضراء، وما كان ثمة من يحب التفنن في شيء إلا وبنى حديقة أو بنى شيئا له حديقة: قصرا أو مسجدا أو مستشفى أو مدرسة .. إلخ.
وإذا كانت الحديقة أمرا طبيعيا في القصور، فإن المثير للعجب هو انتشار الحدائق حتى في بيوت الفقراء مهما كانت متناهية في البساطة، يقول المؤرخ الأمريكي ول ديورانت: "وكانت بيوت الفقراء وقتئذ -كما هي الآن- أبنية مستطيلة الشكل؛ مقامة من اللبن الملتصق بالطين، سقفها خليط من الطين، وأعواد النبات، وغصون الأشجار، وجريد النخل، والقش. وكانت البيوت الأرقى من هذه نوعا تشتمل على فناء داخلي مكشوف، ذي فسقية، وشجرة في بعض الأحيان؛ وكانت تحتوي أحيانا على طائفة من العمد الخشبية، ورواق مسقوف بين الفناء والحجرات"وحين عزمت السلطات المغربية ترميم النافورات القديمة في مدينة فاس وحدها، أحصت في شوارع فاس نحو 70 نافورة، وحوالي 400 نافورة داخل المساكن والمساجد والمدارس العتيقةويندر أن تجد في بلاد الإسلام مدينة معروفة ولا يحكي مؤرخها عما كان فيها من رياض وجنان وحدائق، وكم من بلاد نزلها المسلمون فحولوها من خرائب إلى حدائق غناء، ويكفي أن تعرف أن كل نخيل الأندلس إنما هو من نخلة حملها عبد الرحمن الداخل من الشام.
فكيف بما بناه الملوك والأمراء والأغنياء من قصور ورياض وجنان وبساتين، عامة أو خاصة، منفردة مقصودة بذاتها أم ملحقة بقصر أو مسجد أو مدرسة أو ما سوى هذا؟!!
لقد انعكس كل هذا على النفس الإسلامية التي تأثرت بالجمال والرقة إلى حد لم يبلغه أحد من قبلها أو من بعدها، إلى حد جعلها تتخذ زخارفها من النباتات، بل إلى حد جعلها تسمي كتبها بتلك الأسماء العجيبة "رياض الصالحين"، "الزهر النضر"، "بستان الواعظين ورياض السامعين"، "الروض الزاهر"، "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، "بدائع الزهور في وقائع الدهور".. فأي أمة جعلت أسماء كتبها على هذا النحو؟!!
حدائق قرآنية
فلقد كانت الآيات والأحاديث هي الأستاذ الأول في اصطناع المسلمين لحدائقهم، فمن قوله تعالى (كمثل جنة بربوة أصابها وابل... الآية) فهموا أن خير أماكن الحدائق هي الرُبى والمرتفعات، وهذا صحيح علميا؛ إذ يجنب الارتفاعُ الأشجارَ عدة عوامل معوقة للنمو والإثمار الجيد وأسباب المرض كالتقاء الجذور بالمياه الجوفية التي تحد من نموها وتصيبها بالتعفن، كما يوفر الارتفاع تصريفا مناسبا للماء الزائد، وإذا لم ينزل المطر رويت هذه الحدائق بطريقة الرش والرذاذوينقل لنا المقريزي أن خمارويه بن أحمد بن طولون طلى جذوع النخل والشجر بالنحاس المذهب فكأنه كان يحاكي وصف الجنة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب"، وجعل بين جذع النخلة وطبقة النحاس أنابيب رصاصية يتدفق منها الماء فكأنه يتدفق من النخلة ثم يجري في مسارات محكمة إلى أحواض تفيض الماء على باقي الحديقة فكأنه بهذا يحاكي الجنة في قوله تعالى (إن المتقين في جنات وعيون) وحتى في الأسماء نجد ذات التأثر واضحا، فقد "سُمِّى قصر المنصور "الخُلْد" تشبيها له بجنة الخلد، وما يحويه من كل منظر رائق ومطلب فائق وغرض غريب ومراد عجيب"وهذا التأثر بالآيات والأحاديث إنما هو تأثر متضاعف، فهو علامة على الارتباط بالكتاب والسنة ثم هو من عوامل زيادة الارتباط بالكتاب والسنة في الوجدان العام.
حدائق بأدب الإسلام
كانت الحدائق جزءا من نمط العمارة الإسلامية التي تهتم بالداخل والراحة النفسية أكثر من اهتمامها بالخارج ومظاهر الاستعراض، ويهتم نمط العمارة الإسلامية في البيوت وأبوابها ونوافذها بصيانة البيت وأهله من التكشف، فأبواب البيت مائلة بزاوية لا تسمح لنظر ناظر بكشف الداخل وكذلك النوافذ فهي مزخرفة منمقة تسمح لمن بالداخل برؤية الخارج فيما يتعذر العكس.
وكذلك كانت الحدائق، فهي محاطة بأسوار عالية أو بطوق من النخيل يحجب رؤية الداخل عمن بالخارج فيوفر لمن بالداخل راحة وأمنا وخصوصية، وحتى في البيوت الأصغر كانت الحدائق في فناء البيت الداخلي لا في محيطه الخارجي، بل وحتى في القصور كثيرا ما كانت الحدائق بين الأبنية الداخلية وليست فقط محيطة بها.
وقد انعكس كل هذا الحياة الاجتماعية للمسلمين، ففي حين احتاجت الحضارة الغربية إلى شوارع واسعة وحدائق عامة وميادين ذات نوافير، كان كل هذا متوفرا في داخل البيوت في الحضارة الإسلامية، مما انعكس بدوره على متعة أكثر في الداخل وعلاقة أمتن بين الأسرة وذوي الأرحام وبين أطفال البيوت، ووفَّر فرصا أقوى لتربية الأطفال وتقوية الأرحام وتحقيق المتعة في بيئة آمنة، ولم يمنع هذا من كون المتنزهات العامة والحدائق الكبرى مزيد متعة ولكنها في هذه الحال متعة ثانوية لا أساسية كما هو الحال في الحضارة الغربية وواقعنا المعاصر.
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، شعبان 1435هـ = مايو2014م
جيمس دكي: الحديقة الأندلسية، منشور في: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الجيوسي 2/1435. ول ديورانت: قصة الحضارة 13/241. جيمس دكي: غرناطة.. مثال من المدينة العربية في الأندلس، منشور في: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الجيوسي 1/ 176. جريدة الشرق الأوسط 27/10/2002. المقريزي: الخطط والآثار 1/872، ويحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص214 وما بعدها. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص223. الترمذي (2525)، وصححه الألباني. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/ 75.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 01, 2014 21:16

May 14, 2014

الجهاد العلمي (2/2)



لم يكن حديثنا عن الجهاد العلمي في المقال الماضيلم تخل الحروب يوما من الحاجة إلى العلم، حتى في زمن السيوف والرماح والخيول، فكانت الجودة في صناعة السلاح مما يُهتم به ويُثنى عليه، فيسمى السيف مهندا لما للهنود من مهارة في صنعه، ويصنع بنصل ونصلين، ويختار للقوس نوع الوتر وحد السهم، ويُفتش في الجياد والخيول عما يُطمئن إلى قدرتها على الركض والانصياع لفارسها. واستعمل البيزنطيون مادة لهب عرفت باسم "النار البيزنطية" التي كانت لا تنطفئ بالماء بل يزيد لهبها ولقد عانى منها المسلمون كثيرا حتى اكتشفوا سرها بعد ثلاثة قرون فطوروها وانتصروا بهاإلا أن كل هذا يتضاءل حتى لا يُكاد يُرى إلى جوار ضرورة العلوم للجهاد في العصر الحديث، ذلك العصر الذي صارت أسلحته جميعا "مخترعات علمية"، وصار استعمالها معقدا إلى الحد الذي لا بد من تدريب عليه لإجادته، وصار الصاروخ يوجه من مقر بعيد عبر أقمار صناعية معلقة في الفضاء، وتطير الطائرة بغير طيار بتحكم من مركز قابع على بعد مئات الآلاف من الأميال.. حتى أبسط الأمور صارت صناعة علمية كالبنادق ومناظير الرؤية الليلية ونوعية لباس الجنود!
لا مفر من حيازة العلم، فهو واجب في نفسه ولا يتم واجب الجهاد إلا به فهو أيضا واجب لازم لغيره، وتكاد تكون كل لحظة مهدرة في مسار تحصيل العلم تساوي –في أقل الأحوال- مئات الأرواح من المسلمين، فاللحظة الحضارية لا تقاس بالسنين وإنما بالقفزات العلمية، وأسبق الناس إلى العلم أقدرهم على تحسين موقعه في ميزان القوى لسنين.
إلا أننا في لحظة أخرى فارقة، ذلك أن الأمة التي تشتعل شرقا وغربا بجهاد –يتفاوت في شدته وتطوره- مرير، وتعاني لحظات التهديد الكبير في دينها ودنياها، تلك الأمة هي الأقدر على تثوير طاقتها واستثمار كل المجهودات في الدفاع عن دينها وذاتها وبقائها.
ومن سنة الله تعالى أن سنة التدافع هي التي تفجر الطاقات المكنونة فتمنع من البغي {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، ففي ظل الحروب تتطور العلوم، بل الحروب هي الأسباب الأكبر لتطويرها لما ينبعث في كل قوم من حاجتهم للنصر، حتى لا تكاد تجد قوما في انبعاثهم الحضاري إلا هم مندفعون نحو تطوير علومهم لتصب في صالح القوة العسكرية، ثم تحتاج القوة العسكرية إلى تطوير العلوم، وهكذا تدور الدائرة المغلقة حتى تخفت الإرادة ويتحقق الرخاء فيبدأ الفتور الذي يعود على العلوم العسكرية بالضعف ثم على الأمة جميعا، فتسقط على أيدي قوم أقل منها في علوم الحضارة وآدابها، وأقوى منها في الأمور العسكرية.
ومهما كان القوم متخلفون في العلوم والحضارة إلا أن غاية النصر تدفعهم إلى الأخذ بها، فحتى المغول الذين يُضرب بهم المثل في التوحش كانوا إذا دخلوا مدينة أخذوا منها أرباب الصنائع وأرسلوهم إلى عاصمتهم ثم أبادوا الباقين، وكافة المهتمين بتاريخ العلوم يعرف ماذا أحدثت الحرب العالمية الثانية من قفزات علمية هائلة في الاتصالات والصناعات، بل هذا الاختراع الذي غير وجه الدنيا (الانترنت) هو بالأصل اختراع عسكري أمريكي لصناعة شبكة حواسيب لا مركزية.
على عكس ما يتوقع الكثيرون فإن الأمم تنهض وهي تحارب لا وهي مسترخية، والأمثلة على هذا أكبر من أن تحصى، فالمصريون أثناء الحملة الفرنسية –ومع الفارق الرهيب- استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه -ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورةوها هي إسرائيل لم تزل تتطور وهي تحارب، وها نحن لم نزل نتخلف ونحن نتسول السلام، ولم تفلح عقود السلام في إنشاء تطورات عسكرية في حين تقفز البلاد التي تحارب لتجرب الجديد من سلاحها فينا وعلى أرضنا، ثم تلقي إلينا بما صدأ منها لتستلب أموالنا ثم لا نفعل به شيئا.
وإليك النموذج الصارخ: حماس في غزة، وسلطة رام الله في الضفة.. هؤلاء قوم اختاروا المقاومة فصنعوا صواريخ محلية ويعملون على تجارب طيران واخترقوا مواقع إسرائيلية، وأولئك تسولوا بالسلام فلم يفعلوا شيئا.
وذات الكلام يقال على الجهاد في الشام، وعلى الجهاد في كل مكان، فهناك يصنع الشباب من المركبات البالية ما يعد مخترعات عسكرية مطورة بأدوات بدائية وتحقق أهدافا مؤثرة.
ثم نحن إذا استنفدنا الجهد وبقي الفارق كبيرا، فإننا على رجاء من رحمة الله وفضله على أوليائهعلى أنه يجب التنبيه على أمر في غاية الأهمية والخطورة، وذلك أننا لسنا مجبرين على المضي في ذات المسار، ففارق السنين لن نقضي في ردمه سنين، بل نحتاج إلى الإبداع الذي يقطع المسارات في لحظات، هذا الإبداع هو الذي يقفز بالحركة قفزات غير متخيلة كما حدث عبر التاريخ.
لقد أبطلت الطائرات (الفكرة المبتكرة) عمل الأسوار والخنادق والحصون فجعلت كل جهود الأقدمين بلا قيمة تقريبا، تماما كما أبطلت الدبابات والمركبات عمل الخيول، وكما أبطلت البنادق عمل السهام والرماح، وأبطلت المدافع عمل المجانيق .. إلخ
ورغم ما يفرضه الغرب من حصار علمي على العالم الإسلامي، ورقابة حتى على المواد الإلكترونية التي قد تستعمل في تصنيع أسلحة عسكرية، إلا أن الإبداع قادر على اختراق كل هذا، فالعقول بيد الله وهو الفتاح الوهاب العليم.لقد استطاع عبد القدير خان أن يصنع القنبلة النووية الباكستانية على غير مثال سابق –بما يعد اختراعا جديدا- إذ كان الدعم العلمي معدوما، ولولا إرادة وعزم وذكاء لما تمكنت من باكستان من تحقيق توازن ردع أو توازن نووي ليس مع الهند فقط بل مع أي دولة أخرىثم ولو افترضنا أن الفجوة غير قابلة للردم –وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا- فإن الإبداع قادر على اصطناع مساحات جديدة غير متوقعة، فلئن استحال إنتاج قنابل نووية –على سبيل المثال- فالأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي نوع من توازن الردع، وهذه مساحة واسعة بعدد ما في الكون من مواد وبعدد ما خلق الله من عقول تركب وتخلط وتوازن وتبتكر.
ثم إن النظم الإلكترونية التي هي كالشرايين في أرجاء العالم الحديث تمثل بالنسبة للضعفاء فرصة ومساحة جديدة للإبداع، ليس فقط على سبيل الاختراق وتعطيل أجهزة العدو بل على سبيل ابتكار أنظمة وبرامج جديدة تساهم في تعديل ميزان القوى والتحكم في هذه المنظومة.. بل تكاد تكون هذه المساحة بكرا تنتظر كل إسهام فعال.
ولئن كان مراهق فلسطيني اكتشف ثغرات في الفيس بوك –المعدود من المواقع العالمية الكبرى- واخترق بدون أي برامج صفحات رسمية لمسؤولين إسرائيليينإن أوامر الله بالإعداد ووعده بالنصر، وسيرة النبي وتعاليمه، وتاريخ الأجداد وعلومهم وجهادهم.. ثم حال الأمة هذا، ليدفع بكل نفس لديها الحد الأدنى من العزة والكرامة أن تشتد في طلب الغاية حتى تدركها.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
راجع مقال: الجهاد العلمي(1/2). يعود الفضل في اكتشاف سر هذه النار إلى غزوة تسالونيك –المدينة الثانية بعد القسطنطينية- التي قادها الأمير المسلم غلام زرافة عام (291 هـ)، ثم طورها المسلمون في معاركهم مع الصليبيين بعدئذ خصوصا في عصر الدولة الأيوبية. انظر: محمد عبد الله عنان: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ص93 وما بعدها، د. علي الصلابي: الدولة الأموية 2/38، 39. الجبرتي: عجائب الآثار 2/ 326 وما بعدها، جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر ص155 وما بعدها، الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم 2/ 173. قص الشيخ عبد الله عزام في كتابه "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" ست قصص تعمل فيها الطيور في دعم المجاهدين، إما بتنبيههم قبل القصف، أو بحمايتهم منه، أو بالتشويش على طائرات الروس.. وقد سمعنا كثيرا مثل هذا في حروب رمضان 1393 (أكتوبر 1973م) وفي جهاد غزة والشام والعراق وغيرها، بل لا يكاد يخلو جهاد من مثل هذا مهما كان صغيرا ومحدودا. أما كون القنبلة قد أفسدها عمل الساسة فهذا حديث آخر يأتي في مقام: كيف نحمي إنجازاتنا من العملاء والأغبياء. تقرير أذاعته قناة الأقصى في شهر مارس 2014م.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 14, 2014 18:37

May 7, 2014

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (الموسرين)




بدأ حديثنا قبل أشهر عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية"، تلك التي تمثل الباب الدائم للدخول في الإسلام سواء أكانت دولة الإسلام قوية عزيزة أو ضعيفة مقهورة، تلك الجاذبية التي تفتح بلادا لم تصلها جيوش الفاتحين، والتي تجذب حتى المحتلين لتدخلهم في دين المسلمين. ذلك أنه أمر يمارسه المسلمون بطبيعتهم وسجيتهم، ولهذا فالخطاب متوجه فيها لكل مسلم إذ العطاء فيه لا يتوقف على قرار رسمي أو حكومي إلا فيما ندر.


وقد تناولنا في المقالات الماضية شرائح من غير المسلمين الذين يحتكون بالمجتمع الإسلامي، فتحدثنا عن السائحين وعن الخدم وعن العمال، وحديثنا في هذه السطور عن الموسرين من السفراء والدبلوماسيين وأرباب الصنائع والأعمال والمهارات العلمية الذين يعملون في بلادنا في جوانب الصناعة والتعليم والمستثمرين، واخترنا لفظ "الموسرين" لأنه يشمل من استغنى عن الناس ومن فاض عنده المال.


والموسرون شريحة أصعب من سابقيها، فأولئك لهم حاجات تفتح لنا أبواب قلوبهم؛ فالسائح متشوق لمعرفة ما لدينا من جديد وغريب عليه، والخادم والعامل محتاج إلى ما يسد حاجته، بينما ذلك الموسر مطلوبٌ لا طالب، ولعله في كثير من الأحيان يكون متعاليا مترفعا قدم من بلاد أغنى وأفضل تقدما فهو ينظر إلينا وإلى بلادنا وثقافتنا من علٍّ.


إلا أنهم وإن كانوا أصعب فهم كذلك أقوى أثرا وأكثر فاعلية من غيرهم إن كتب الله لهم الهداية، فإنهم أبواب أقوام ذوي علم وغنى ونفوذ، ودوائر تأثيرهم من السعة والانتشار لا تقارن بغيرهم، ثم إنهم –بعد كل هذا- فيهم بعضٌ من نفسية السائح الذي يتعرف على بلاد وأفكار وأناسي غريبة، وبعض من روح العامل فيما يرجوه من مكسب وأموال، فيصح في حقه بعض ما قلناه في المقالات الماضية من وسائل وأفكار.


والمدخل إلى جميع الناس هو الأخلاق، فهي أمر مضطرد في حالات من أسلموا من جميع الشرائح والمستويات، وأمر الأخلاق لا مجال له إلا المعاملة ولا ينفع فيه التنظير، ومدخل الأخلاق واسع فسيح من أول البسمة العابرة إلى الإغاثة في الملمات والمصائب، وأهم ما فيه المعاملات المالية التي هي المحك الحقيقي لأخلاق الصدق والأمانة والعدل والإحسان والزهد والاستقامة، مما تنطبع النفوس بفطرتها على توقيره والتأثر به. والأخلاق كالكنانة كثيرة السهام، لا تدري أي السهام ستصيب فتفتح القلوب، حتى الذي أسلم قد لا يتذكر أي موقف ذلك الذي بدأ في فتح قلبه للإسلام، لكنه يتذكر ذلك الشعور الذي يبدأ صغيرا ثم يسيطر عليه للتعرف على الإسلام، وهو شعور تراكمي ناتج لا ريب عن مواقف صغيرة متتابعة وإن كانت متباعدة.


***


في رحلتنا لتتبع قصص من أسلموا من شريحة الموسرين لنحاول استكناه ما يميز هذه الشريحة واستكناه أفضل المداخل لها وجدنا ما يلي:


1.    الفراغ الروحي
     
وذلك أن الإنسان مهما تحققت له مطالب الجسد لم تغنه عن مطالب الروح، وهذا القلق الروحي يقوم مقام الجوع للجسد فلا بد له من إشباع، ومن هنا نجد كثيرا من هؤلاء يُسلمون لأقل سبب مثل سماع الأذان أو سماع القرآن حتى وهو لا يفهمه، وبعضهم يرى شيئا من حياة المسلمين فتمثل له لغزا محيرا حتى يجد السر في الإسلام، فيقبل عليه، وبعضهم يحقق كافة النجاحات التي طلبها في الدنيا ثم يجد نفسه ما زالت تطلب شيئا مجهولا.


ولنأخذ مثالا على هؤلاء السفير الألماني مراد هوفمان والذي اعتنق الإسلام لما رآه من شعب الجزائر –الذي كان آنئذ تحت الاحتلال والقتل اليومي- من إيمان ويقين والتزام، ولما رآه من مواقف أخلاقية نادرة مثل السائق الجزائري الذي عرض أن يتبرع بدمه لزوجته المريضة، وترى في قصته شوقا روحيا قاهرا لا يشبعه إلا القرآن الكريم وفيضان الفن الإسلامي، يقول: "بدأت أقرأ "كتابهم" القرآن في ترجمته الفرنسية، ولم أتوقف عن قراءته منذ ذلك الحين حتى الآن... إنني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن ثَمَّ بفن إسلامي فقط. وأدركها أيضًا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزًا عن مجرد تعريف الفن الإسلامي. ويبدو أن سره يكمن في حضور الإسلام في حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والأرابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن. إنني أفكر كثيرًا في أسرار إضاءة المساجد، وفي بناء القصور الإسلامية، الذي يُوحي بحركة متجهة إلى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة، وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل الاجتماعي - الوظيفي الباهر للمدن الإسلامية القديمة".


وفي عام 2000م أسلم السفير الإيطالي لدى السعودية توركواتو كارديللي، وذكر أن إسلامه إنما هو تتويج لرحلة بحث استمرت عشر سنوات في التعرف على الإسلام وأهله وطبائعهم، وأعلن الرجل إسلامه عام 2001 الذي يعد وقت الذروة في الهجوم على الإسلام ووصمه بالإرهاب وإعلان الحرب العالمية عليه. فما كان أغناه عن الإسلام في هذا الوقت وهذا الظرف لولا أن أشواق الروح لا مسكن لها إلا ذلك الاطمئنان إلى ما وقر فيها.






2.    الأسئلة الكبرى
    
وهي من لوازم الفراغ الروحي إلا أنها تظهر فيمن حقق أحلامه ومن لم يحققها أو من يبحث عن حلم ومعنى وغاية، وتلك الأسئلة الكبرى تكثر لدى أصحاب الرأي والفكر والنظر، وأهل العلم والثقافة والأدب، فأولئك القوم أقدر على تحديد المشكلة وطرح الأسئلة وتكوين الأفكار.


وينتشر عند أهل كل فنٍّ نوعٌ من الأسئلة الملتصقة بفنونهم، فعامة أسئلة الأحبار والكهنة والقساوسة هي فيما يتعلق بصدق النبي محمد والمقارنة بين الإسلام والمسيحية والشبهات الشهيرة في هذا الموضوع، بينما يتعلق الفلاسفة والمفكرون بأسئلة الحياة والموت والمصير، أسئلة الخير والشر والعدالة والظلم والسعادة والتعاسة، ويكون الأدباء والفنانون والشعراء أكثر فردية ومباشرة إذ يدور بحثهم عن الإنسان والرغبات والشهوات والسعادة والتعاسة ونحو هذا.


فإذا تيسر لهم من أجاد (أولا) استيعابهم إنسانيا ثم (ثانيا) محاورتهم علميا وبأدب فالمظنون أنه يفلح معهم إن شاء الله، لا سيما إن قدَّم لهم منظورا مختلفا للحياة، أو لامس جوابه حيرة قائمة ملتهبة لم تحصل على جواب شافٍ بعد.


وعامة ما يحدث حينئذ لا يكون الدخول في الإسلام مباشرة، بل أولئك قوم يستكملون طريق البحث والمعرفة بأنفسهم، فيتأملون ويختبرون ما قيل لهم، ثم تأتي لحظة دخولهم في الإسلام كثمرة نهائية، لكنها تكون في ذات الوقت انطلاقة أخرى، وثمرة تأتي بعدها بثمرات خالدات، وغالبا ما يتحول هؤلاء إلى دعاة متميزين للإسلام ويكون إنتاجهم الفكري فتحا في بابه.


ولنأخذ مثالا على هذا الداعية العالمي الشهير يوسف استس، والذي أسلم على يد رجل مسلم اجتذبه بالأخلاق الطيبة ثم بالإجابات البسيطة عن الإسلام والمسيحية فصار من الدعاة العالميين، ولقد وصف يوسف استس أخلاق الرجل الذي اهتدى على يديه بقوله: "مثل هذا الرجل ينقصه جناحان ويصبح كالملائكة يطير بهما"، وبعد مناقشات امتدت لشهور كانت هذه الليلة التي يصفها بقوله: "مشينا وتكلمنا طوال تلك الليلة، وحان وقت صلاة الفجر.. عندها أيقنت أن الحقيقة قد جاءت أخيراً، وأصبحت الفرصة مهيئة أمامي... أذن الفجر، ثم استلقيت على لوح خشبي ووضعت رأسي على الأرض، وسألت إلهي إن كان هناك أن يرشدني... وبعد فترة رفعت رأسي إلى أعلى فلم ألحظ شيئاً، ولم أر طيوراً أو ملائكة تنزل من السماء، ولم أسمع أصواتاً أو موسيقى، ولم أر أضواء... أدركت أن الأمر الآن أصبح مواتياً والتوقيت مناسباً، لكي أتوقف عن خداع نفسي، وأنه ينبغي أن أصبح مستقيماً مسلماً... عرفت الآن ما يجب علي فعله".


***


ومن هنا ندرك أنه ينبغي أن يكون لهذه الشرائح من يتوجه لها من الدعاة والعلماء، خصوصا وبعض منها مهمته هو التواصل والتعرف –كالسفراء والدبلوماسيين والإعلاميين والأدباء والشعراء والرسامين- وأن تكون هذه الفرقة من الدعاة متسلحة بحد مقبول من العلوم والمعارف التي تمثل قاعدة مشتركة لإنشاء اتصال مع هذه الشرائح.


ولربما بدا الأمر صعبا مع الأوروبيين والأمريكان لما بينهم وبين المسلمين من عداوة، لا سيما وسفاراتهم ووسائلهم الإعلامية إما ركن أصيل في الصراع السياسي أو على الأقل ليست بريئة منه، على أن الأمر يستحق المحاولة في كل حين ومع كل أحد، ولكن يبقى السؤال عن إسهامنا في التواصل مع سفراء وجاليات الدول الإفريقية والآسيوية ودول أمريكا الجنوبية، فأولئك أقرب منالا وأوطأ منزلا.


ومن الوسائل التي ينبغي طرقها هو فتح الأبواب لما يسمى بـ "الدبلوماسية الشعبية" التي تفتح الباب أمام الدعاة والمراكز الإسلامية والمتطوعين للتواصل مع ممثلي هذه الدول وجالياتها وإمكانية الاستفادة منهم في تمتين أواصر العلاقة بين بلادنا وبلادهم ونشر الدعوة فيها.


وإن اعتبار هؤلاء من المؤلفة قلوبهم سيجعل لهم نصيبا في مصارف الزكاة، ولقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يعطي المؤلفة قلوبهم العطاء الكبير، حتى ليأخذ الواحد منهم ما بين جبلين من الغنم فيذهب إلى قومه قائلا "أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"، وكم دخل الإسلامَ أقوامٌ لما فيه من حظ الدنيا ثم صار الإسلام أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم والناس أجمعين. فمن كان يملك العطاء فلا يبخل به.


ومن الوسائل الجديدة ما ابتكرته بعض المراكز الإسلامية من جمع بعض هذه الجاليات ليعيشوا يوما في حياة المسلمين، فيدخلون المسجد ويمارسون الصلاة وربما الصيام وترتدي النساء الحجاب، ومنها كذلك فكرة الاحتضان العائلي بالإقامة لدى عائلة مسلمة ما تيسر لها من أيام أو أسابيع،


لكن ينبغي التنبه إلى أمر هام، وهو أن هذا العطاء بالمال وهذا الاحتضان الاجتماعي إنما يجب فيه أن يكون من موضع القوة والعزة والوعي والانتباه، وألا يشوبه من الأمور ما قد يُفسَّر على أنه بلاهة وسذاجة وإعجاب وتودد نابع من موقع المنهزم نفسيا أمام خصمه الحضاري. فكم حملت إلينا مذكرات المستشرقين والرحالة والجواسيس من هذه الأنباء حسرات، فما إن يظن أولئك القوم أنهم في موضع الرغبة والرهبة والتفوق الحضاري والعلو النفسي حتى تنقلب الأمور، وإن قصص لورنس العرب وأضرابه أشهر من أن تُحْكى.


إن هذا المعنى خفي في قصص من أسلموا لكنه مضطرد فيها، معنى الاعتزاز بالإسلام والزهد فيما عندهم، ومن المواقف العجيبة التي يمكن إيرادها هنا قصة القس المصري إسحاق هلال مسيحة والذي كان يركب إحدى المواصلات العامة في القاهرة، فصعد إليها طفل صغير يبيع كتيِّبات دينية، فأعطى جميع الركاب ولم يعطه منها، يقول: "قلت له: "يا بنيّ لماذا أعطيت الجميع بالحافلة إلا أنا". فقال: "لا يا أبونا أنت قسيس". وهنا شعرت وكأنّني لست أهلاً لحمل هذه الكتيّبات مع صغر حجمها (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون) . ألححت عليه ليبيعني منهم فقال: "لا دي كتب إسلاميّة" ونزل، وبنزول هذا الصّبي من الحافلة شعرت وكأنّني جوعان وفي هذه الكتب شبعي وكأنّني عطشان وفيها شربي. نزلت خلفه فجرى خائفاً منّي فنسيت من أنا وجريت وراءه حتّى حصلت على كتابين. عندما وصلت إلى الكنيسة الكبرى بالعبّاسيّة (الكاتدرائيّة المرقسيّة) ودخلت إلى غرفة النّوم المخصّصة بالمدعوّين رسميّاً كنت مرهقاً من السفر، ولكن عندما أخرجت أحد الكتابين وهو (جزء عم) وفتحته وقع بصري على سورة الإخلاص فأيقظت عقلي وهزت كياني. بدأت أرددها حتى حفظتها وكنت أجد في قراءتها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً وسعادة روحية".


لقد كان ذهن هذا القس يمور بالأسئلة والشكوك قبل هذا الموقف، لكن الشاهد منه أن الفتى الصغير كانت لديه هذه العزة الفطرية والتي جعلته ينزه بيع تلك الكتب لقسٍّ مهما بذل له فيها من المال، ومقام الدعوة لا ينفصل عن مقام الاعتزاز، كما أن مقام الكرم والعطاء لا يتنافى مع مقام الوعي واليقظة.




 نشر في مجلة البشرى: رجب 1435هـ = مايو 2014م

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 07, 2014 21:20

April 30, 2014

ثقافة الإسراف.. الجذور والمسار والثمار




قال الجرجاني في التعريفات: "الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحدّ في النّفقة، وقيل: هو أن يأكل الرّجل ما لا يحلّ له أو يأكل ممّا يحلّ له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة".
 (1) الجذور
ليست عوائد الإسراف، أو الثقافة الاستهلاكية، إلا ابنًا من أبناء الحضارة الغربية المادية، وهذا الموضوع هو بحد ذاته دليل على أن إصلاح العقيدة (التي هي رؤية شاملة للإنسان والكون والحياة) هو مبدأ كل إصلاح، وأن فساد العقيدة هو مبدأ كل فساد.
حين سارت الحضارة الغربية في مسار العلمانية وتقديس المادية وإزاحة كل "ما وراء الطبيعة" كان طبيعيا أن ينفجر النهر الفياض من الشهوات واللذائذ، وأن يعب المرء من الحياة ما استطاع بكل ما استطاع، فخلاصة الحياة في ظلال المادية تلخصها عبارة ألبير كامي -فيلسوف العدمية الشهير- القائلة: "كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت"وهنا.. صارت اللذة هي الإله الجديد الذي تعبده البشرية في محراب المادية!
وذلك أساس فارق وخلاف جوهري بين النظرة الإسلامية والنظرة المادية للطبيعة، فارق بين "الاستخلاف في الأرض" الذي هو بمعنى المسئولية والرعاية للأمانة والوديعة، والتي سيعقبها حساب وجزاء في اليوم الآخر، وبين معنى "الامتلاك الكامل" الذي تطرحه النظرة المادية العلمانية التي لا ترى في الكون إلا أنه "مادة استعمالية لا قداسة لها، توظَّف وتصنَّع وتستهلَك وتولَّد منها الطاقة من أجل تحقيق لذة الإنسان ومنفعته، الأمر الذي يتطلب المزيد من استهلاك مصادر الطبيعة بمعدلات لا نظير لها في تاريخ الإنسان"(2) المسار
لقد انطلق قطار الحضارة المادية يبتغي الوصول لسعادة الإنسان وإشباع حاجاته، وما زال كلما وقف في محطة محققا نصرا علميا ومزيدا من التحكم في الأدوات ليشبع حاجة ولذة، كلما انفتحت له محطات جديدة ولذائذ أخرى، ثم كانت المفاجأة:
"لم ينتج عن هذا زيادة التحكم في الذات الإنسانية أو في الواقع الموضوع بل على العكس، فمع ظهور الإنسان الطبيعي (المادي) وتحديد المنفعة واللذة باعتبارهما الهدف الأساسي للوجود الإنساني، ترجم هذا نفسه إلى الاستهلاكية، وتصور أن مزيدا من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة، وقد تسارعت وتائر هذه الاستهلاكية تسارعا مذهلا، وبعد أن كانت الحاجة هي أم الاختراع أصبح الاختراع هو الذي يولد الحاجة، فوجد الإنسان نفسه محاطا بسلع وأجهزة ليس متأكدا تماما أنه يريدها (والسلعة مثل المادة، شيء يتحرك بلا هدف أو غاية)، وبدأ الإنسان يشعر أنه لم يعد من أمره شيئا، وأنه يدخل في بحث لا ينتهي عن هدف لم يحدده في عالم ليس من صنعه تتراكم فيه سلع لا يريدها"لقد تحول الاستهلاك نفسه إلى "فلسفة مطلوبة؛ إذ إن تكاثر الإنتاج يقتضي ويريد تكاثرا في الاستهلاك، فيسعى أصحاب الإنتاج أنفسهم إلى خلق نوعيات جديدة للاحتياج عبر الدعاية والإعلان والتطوير المستمر للمنتجات، والبحث عن أسواق جديدة، وتقصير عمر المنتج ليستهلك سريعا؛ ولهذا فإن السيارات الحديثة لا تتمتع بأعمار السيارات القديمة، وكذلك البنايات الحديثة لا تعيش أبدا كما عاشت البنايات الأقدم منها"وبهذا صارت الشعوب فريسة لذوي الأموال المترفين وذوي السلطان المتجبرين، فأولئك يتحكمون بالناس عبر تحكمهم بصناعة اهتماماتهم وتلاعبهم بشهواتهم وغرائزهم، حتى إنهم ليبتكرون لهم شهوات وحاجات جديدة تحتاج لإشباع جديد!
وهنا صارت لدينا طبقتان متمايزتان: قلة رأسمالية متحكمة ومهيمنة، وشعوب مستضعفة مستغفلة أقرب إلى القطعان منها إلى الإنسان، تساق إلى الموت وهي لا تشعر وقد تُذبح وهي لا تبصر.
(3) الثمار
على عكس ما توقع الجميع، لقد جاءت المادية بنتائج كارثية في حياة البشر، إن الفكر المادي المهيمن جعل حتى التفسيرات التي تبدو "علمية" ذات تطبيقات في غاية الخطورة، يقول د. عبد الوهاب المسيري: "في هذا السياق يبرز دارون كواحد ممن ساهم في التنظير للصراع والدموية بمقولته عن البقاء للأقوى أو للأصلح، حتى إن فرويد تساءل عن حكمة الدعوة إلى فضائل مستحيلة مثل كبح جماح الرغبات الجنسية والعدوانية، بل إنه يتحدث -في لقطة متوحشة حقيقية- عن "فضل" اليهود على المدنية، فقد انتشروا في أرجاء العالم ومن ثم اتجه إليهم عدوان الشعوب التي عاشوا بينها، فأتاحوا لتلك الشعوب فرصة التنفيس عن طاقة العدوان"لقد صار الإنسان الذي اعتاد الإسراف خطرا على الإنسانية وعلى الكون من حوله، حتى بالمنظور المادي نفسه، ولعله يكفي –في هذا الصدد- أن نعرف أن نصف المواد العضوية التي تلقى في الماء وتلوثه في مصر هي أغذية ومشروبات، بحسب تقرير البنك الدولي لعام 2007مإن الثقافة الاستهلاكية هي ما تجعل المرء يمتلك عددا من الهواتف والأجهزة الإلكترونية لكنه لا يستعملها إلا في اللعب أو ما لا يفيد، يمتلك عددا من السيارات لكنه لا يهوى إلا أن يسابق ويتقافز ويتمطى بها وربما ليحصل على قلوب العذارى كما أوحى إليه الإعلام، يأكل في المطاعم الأمريكية طعاما لا غذاء فيه بل هو مشحون بالأمراض ليس إلا لأن ارتياد هذه المطاعم يشعره بالنشوة التي تكونت عنده عبر الإعلانات الشهوانية. إنها حالة من التيه المختلط بالنشوة التي تصنع القوم الغافلين.
***
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "كلوا وتصدّقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"نشر في مجلة الوعي الإسلامي، رجب 1435هـ = مايو 2014م.

علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب ص139. د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة 2/ 120. رجاء جارودي: وعود الإسلام ص20. عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص133. جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص48، 50، 56. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 8/ 329. تقرير البنك الدولي للعام 2007م (ب). جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص59. رواه النسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني.
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 30, 2014 13:46

April 22, 2014

الجهاد العلمي (1/2)



"إننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نقر بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانا تجاهلا تاما، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافا كاملا بهذا الفضل، أما إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف"أثر الإسلام
إن الأمة الإسلامية تدين بوجودها الحضاري كله لهذا الدين، فهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور، وحولهم من حفاة عراة عالة دهماء يرعون الغنم إلى سادة قادة يقودون الأمم، فالعلوم والمعارف التي ابتدعتها الأمة أو طورتها إنما هي في جملة الفضل العظيم الذي أنعم الله عليها بهذا الدين.
ثم إن ما جاء في الكتاب الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الحض على طلب العلم وعلى التفكر في خلق السموات والأرض والنفس، وبيان أن مهمة البشر إعمار هذه الأرض.. كل ذلك كان وراء الانبعاث الحضاري الذي شهدته الأمة، وكان من آثاره المهمة هو تسليح الأمة بالمنهج العلمي، منهج النظر في العلوم، أو ما يسمى "فلسفة العلوم" بحيث استطاعت الأمة أخذ العلوم دون أخذ الفلسفات الحاضنة لها من الشرق أو الغرب، وظل المتأثرون بالفلسفات الأخرى قلة قليلة وسط تيار الأمة الكبير.
لكن ثمة إضافة ينبغي التنبه لها، ذلك أن كثيرا من عبادات الدين وشعائره ونصوص القرآن والسنة كانت ذات دفع مباشر للبحث والتعمق في بعض العلوم، ومن ذلك مثلا أن التوجه إلى القبلة في الصلاة كان هو الدافع الأكبر وراء بحث المسلمين وتقدمهم في مجالات الفلك والجغرافيا والخرائط لتحديد وجهة الصلاة، كما أن نصوص تفضيل بعض الأطعمة ونصوص التداوي بالعسل والتمر وبعض الأعشاب وآيات القرآن التي تقسم بالتين والزيتون وتصف العسل بأنه شفاء للناس، كان دافعا وراء بحث المسلمين في الطب والأدوية والنبات والكيمياء.
ويبدو أثر الإسلام أكثر وضوحا في عدد من العلوم التي ابتكرها المسلمون ولم يُسبقوا إليها، فلقد كان ذلك ضمن مجهودهم لخدمة الشريعة بخدمة نصوصها ضبطا وتوثيقا أو فهما وتحقيقا.
الإسهام الأكبر
كانت اليد العظمى التي قدمتها الحضارة الإسلامية للعالم هي اعتماد الطريقة التجريبية العملية كأساس للعلم، وقد كان الأمر قبل ذلك قائما على الفلسفة والمنطق والدراسة النظرية، ولم تعد هذه المعلومة موضع شك أو جدل، إذ ما من كتاب أرخ للحضارة الإسلامية إلا وذكر هذا الفضل لها، واعترف بأن أفكار روجر بيكون وفرانسيس بيكون في التأسيس للطريقة التجريبية لم تكن إلا تتلمذا على مؤلفات المسلمينولَكَم كان التجريبيون ساخطون على تراثهم النظري الفلسفي اليوناني وغيره لما سببه من تخلف غربي امتد قرونا، حتى لنجد فرانسيس بيكون يعتبر الدراسة النظرية كسل وخمول ومجون وتصنع، وكان يكره الرياضيات وهاجم جاليليو وكان معاديا لأرسطو، وقبله تمنى روجر بيكون لو أحرق كتب أرسطو جميعاكان هذا هو الإسهام الأكبر، وأما العلوم ذاتها فإليك نُتَفٌ عنها اجتهدنا في حشدها سريعا في المساحة المتاحة.
وحديثنا في هذا المقال عن العلوم البحتة أو العلوم التطبيقية، فأما ما أسسه المسلمون في العلوم النظرية فآثرنا عدم ذكره الآن، لكن المسلمين أسسوا فيه لعلوم عجيبة مثل علم مصطلح الحديث والجرح والتعديل فبه انفردت الأمة عن غيرها بضبط وتوثيق وتحقيق الأقوال إلى أصحابها، وكعلم الاجتماع وطبائع العمران وغير ذلك، وكذلك أضاف المسلمون إسهامات واسعة في الفكر والفلسفة واللغة والأدب والشعر والتربية والأخلاق والقانون والتشريع والفنون.
أولا: علوم ابتكرها المسلمون
ونأخذ منها الكيمياء والميكانيكا والجيولوجيا.
فقبل أمة المسلمين لم تكن الكيمياء علما بل ضربا من التخريف، يحلم الإنسان أن يصل إلى المادة التي تخلد الإنسان في الدنيا "إكسير الحياة" أو المادة التي تجعل التراب ذهبا "إكسير الذهب"، وبهم صارت علما وتجربة، فحللوا المواد كيميائيا وصنفوها إلى أحماض وقلويات واستنبطوا محاليل وعرفوا أحماضا وركبوا عقاقير وتوصلوا إلى مواد كثيرة مركبة، كما عرفوا تنقية المعادن، وكل ذلك كان فتحا جديدا في ساحة العلم، وهو ما مهد لفتح آخر في علم الصيدلة وتركيب الأدوية وتحضير العقاقير وفحص خصائص المواد وآثار اختلاطها.
وفي الميكانيكا –الذي سماه المسلمون "علم الحيل"- كانت إبداعات المسلمين تترى في الاستفادة من قوانين القصور الذاتي والتغذية العكسية، فأبدعوا في صناعة الساعات والتقاويم والروافع وتطبيقات الحركة بعد زمن أو الحركات المتتابعة حتى كان من مخترعاتهم مصباح يسرج نفسه فيخرج فتيلته ويشعل زيته ويواصل عمله دواليك ومنها أيضا إنسان آلي يساعد على الوضوء وحامل مصحف ينفتح ويغلق بضغطة واحدة وغير هذا كثير.
وفي الجيولوجيا فسر المسلمون ظواهر الزلازل والبراكين والينابيع والسيول والأعاصير والعواصف والمد والجزر، وصنفوا أنواع الصخور والجبال وكيفية تكونها، وأنواع النيازك والأحجار الكريمة، وتحدثوا عن زيت الأرض (النفط) ووسائل التنقيب عنه، وهم أول من تحدثوا عن علم البلورات، وبحثوا في التاريخ الجيولوجي للبلدان (الأحافير وطبقات التربة).
ثانيا: علوم طورها المسلمون
ونأخذ منها الفلك والفيزياء والهندسة والجغرافيا والطب.
ففي الفلك كان المسلمون أول من قالوا بدوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، واشتهروا بإبداعاتهم في تطوير الاسطرلاب (آلة رصد السماء ومواضع الأجرام فيها) وصناعة أنواع متخصصة ومبتكرة واستعمال ذات الاسطرلاب في فوائد جديد، كما أبدعوا في وضع الأزياج (جداول حسابية لحركة الأجرام السماوية) وتصحيح ما أخطأ فيه سابقوهم، واستطاعوا رصد حركات آلاف الأجرام من النجوم وغيرها واكتشاف عدم الانتظام في حركة القمر، ولذلك عرفت كثير من النجوم بأسمائها العربية مثل سهيل والدب الأكبر والدب الأصغر والجوزاء وغيرها.
وفي الفيزياء طور المسلمون وصححوا قوانين الحركة واكتشفوا الأوزان النوعية والكثافة لكثير من المواد، وهم أول من اكتشفوا أن الهواء مادة وله وزن وكثافة، وكانوا روَّاد علم الصوت إذ قالوا بأنه ينشأ عن اهتزاز جسيمات ويتنقل في هيئة كرية وإذا اصطدم بجبل أو نحوه فذلك سبب الصدى، والمسلمون هم من اكتشفوا قوانين الحركة، والجاذبية وعجلتها (معدل زيادة السرعة)، وعلى أيدي المسلمين قفز علم البصريات قفزات واسعة في جوانب تفسير عملية الإبصار وحركة الضوء في الأوساط المختلفة وتشريح العين ووضعوا الأساس النظري للكاميرا (التي هي تحريف عن اللفظ العربي "القُمْرة").
وعلى يد المسلمين انتقلت الهندسة من علم نظري رياضي إلى علم تطبيقي عملي، وكان أهم ما أنجزوه في النظريات تصحيحاتهم على علماء اليونان كإقليدس وأرشميدس وحل المعادلات المعقدة بل فتحوا الطريق أمام التفاضل والتكامل، وهم أول من استخدموا الصفر الذي يراه البعض أعظم اكتشاف علمي إذ أمكن به حل المسائل المطولة وبه انفتح باب علمي كبير وهو معرفة الأرقام السالبة، والمسلمون هم من ابتكروا علم الجبر وحلوا معادلات الدرجة الثالثة وأسسوا لعلم الهندسة التحليلية، وابتكروا حساب المثلثات المستوية والكروية، ويحتار الباحث في تصنيف العمارة الإسلامية هل يتحدث عن إبداعها لدى الحديث عن الهندسة أم لدى الحديث عن الفنون، فالفنُّ والهندسة كلاهما تضافرا ليصنعا نهضة معمارية علمية فنية خلابة.
وفي الجغرافيا أثبت المسلمون أن الأرض كروية، وكانت خرائطهم هي الأتم والأدق والأشمل، وهم أول من رسموا أعماق إفريقيا، وأول من قالوا بأن المحيط الهادي يتصل بالهندي ووصفوا طريق رأس الرجاء الصالح، بل إن بعض الخرائط تمثل حتى الآن لغزا علميا في دقة وصفها -كخريطة بيري ريس العثماني لسواحل أمريكا الجنوبية- والمسلمون هم أول من قاسوا قطر الكرة الأرضية واكتشفوا وجود الأمريكتين (العالم الجديد) وهم أول من وضعوا خطوط الطول والعرض على الكرة الأرضية.
وفي الطب كان المسلمون أول من اخترعوا أدوات الجراحة ووضعوا قوانين لها وطرقا مبتكرة في إجرائها ووضعوا علم المناظير الجراحية، وكانوا أول من عرفوا التخصص الطبي، وكانوا أول من اكتشف كثيرا من الأمراض وأسسوا لعلم "الطفيليات" وناقلات العدوى، وأول من شرحوا أثر البيئة والأجواء  على الأمراض والعلاج، واكتشفوا الدورة الدموية.
***
والمقام لا يتسع لأكثر من هذا، بل هذا الأمر مما يضيق عنه كل مقام، وما زال القارئ مدعوا لمطالعة الكتب والأبحاث عن إسهامات المسلمين في علوم النبات والزراعة والري واستنباط المياه ورفعها والتلقيح والهندسة الوراثية وغيرها وغيرها.. ففي كل هذا صفحات تبعث الفخر.
ولكن.. ما فائدة اجترار هذا الآن؟ وكيف تنتفع الأمة بما قد مضى عليه قرون؟!
هذا ما سنجيب عنه إن شاء الله في المقال القادم، فنسأل الله العون والتوفيق.
 نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ص8. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص435، ول ديورانت: قصة الحضارة 13/ 196، زيجريد هونكه: شمس الله تسطع على الغرب  ص148. ول ديورانت: قصة الفلسفة ص143، برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 3/83، ه. ج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص243، رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص68 وما بعدها.
1 like ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on April 22, 2014 08:01