محمد إلهامي's Blog, page 75
January 11, 2014
متى كان الإحجام حلا؟!
خرج الكل منهكا من الحرب العالمية الأولى.. الكل مصدوم.. الكل مرتاع.. الكل يطلب السلام.
وإذا كان المنتصرون منهكون، بما فيهم الكبار "إنجلترا وفرنسا" فكيف بمن سُحِقوا تماما مثل "ألمانيا"؟
على أن ردة الفعل كانت مختلفة..
ظهر عند الألمان هتلر، بينما كان الإنجليز والفرنسيين تواقون لاستمرار السلام بعد حرب هي الأكثر دموية في تاريخ أوروبا، وهي أول ثمرات "القومية" حين تدخل كعامل في الصراع.
بغير أي تقليل من المجهود المذهل لهتلر في إعادة صناعة ألمانيا المسحوقة، إلا أن أهم ما أعانه على هذا هي تلك الأصوات التي اشتعلت في أوروبا -بالذات إنجلترا وفرنسا- والتي هي ضد أي حرب تماما.
هذه الأصوات شلت قدرة السياسيين على اتخاذ أي إجراءات تقطع الطريق على هتلر، كان أي تحذير مما يفعله هتلر يقابل بعبارات على نحو "ألم تكفكم الدماء السابقة؟ هل تريدون إشعال الحرب؟ إنكم عشاق الدم... إلخ"
وتأثير هذه الأصوات لم يتوقف فقط على شل السياسيين، بل على تنفير الناس –بما فيهم الجنود- من فكرة الحرب، صارت "الرغبة في السلام" عاملا على الاسترخاء وكراهية القتال، وهذا أحد أسباب انهيار فرنسا المدهش أمام الألمان.
هتلر من جانبه لم يكن يضيع وقتا، بل كان يعمل وينجح.. وكلما ازداد قوة كلما كان التحرك ضده أصعب، وكلما كانت أصوات التأييد له في بلاده أعلى، وأصوات المعارضة للحرب في إنجلترا وفرنسا أعلى.. وتستمر المسيرة في اضطراد.. فكل يوم أفضل لهتلر من سابقه وأصعب على خصومه.
بعض التنازلات التي قدمها الأوروبيون لهتلر لم تشبع تطلعاته بطبيعة الحال، لكنه أخذها مع "وعد" بالسلام وألا يطالب بأراض أخرى.
حتى كان ما هو معروف، واشتعلت حرب عالمية أخرى كانت أشد وأقوى من الأولى، وكان من نتائجها خروج فرنسا وإنجلترا من المعادلة العالمية.
الخلاصة: الخوف من الأزمة ومحاولة تجنبها ليست حلا، ليس المرء دائما بين خيارات ممكنة، الخصوم يفرضون عليك بعض الخيارات ويقطعون عليك طرق خيارات أخرى.
إذا كان العسكر مستعدون لإكمال مسيرتهم في اغتصاب الوطن ولو اضطروا إلى قتل مئات الآلاف وتدمير البلاد، فلن يكون الحل في الإحجام عن مواجهتهم!! بل هذا الإحجام نفسه هو دعم لإجرامهم وإثبات لصحة خيارهم.
التخوف من النموذج السوري هو ذاته التخوف من الحرب العالمية الأولى..
وفي ظل وجود (هتلر/ عسكر) فإن النتيجة المتوقعة من هذا التخوف هو (الحرب العالمية الثانية/ نصف قرن من الإجرام والاستبداد).
كيف تحصل على سلام إن كان العدو لن يعطيك إياه أبدا؟!
الحفاظ على البنت لا يكون بتسليمها لمن يريد اغتصابها ويتمتع بإذلالها.
وصدق القائل: الناس من "خوف الذل" في ذل!
Published on January 11, 2014 02:39
January 7, 2014
المقاومة الآن.. أو بعد نصف قرن آخر
لماذا ينبغي أن نستمر في المقاومة الآن؟ ولماذا ينبغي ألا نقبل بغير النصر أو الشهادة؟
1. لأن مكافحة الانقلاب في مصر يتردد صداها في كل بلاد العرب والمسلمين..
فانكسار الانقلاب هو انتعاش لكل الثورات الشعبية وانكسار لكل الأنظمة الفاسدة والحكام المستبدين والجيوش الخائنة، ومن ورائهم السيد الأمريكي الصليبي والصهيوني اليهودي الذي هو العدو الأصلي، والباقي مجرد قناعات وقفازات.
كما أن انتصار الانقلاب هو ضربة لكل الثورات العربية، وتوحش لكل أنظمة الإجرام العربية، وانتعاش لفصائل العسكر في كل نظام فاسد.. ويقين يترسخ بأن القوة العسكرية قادرة على سحق الشعوب وإخضاعها مهما حدث.
2. لأن الساحة المشتعلة الآن تمتد عبر بلاد العرب، فالجبهات مفتوحة على عدونا في وقت واحد: مصر، ليبيا، تونس، سوريا، تركيا، العراق، اليمن، أفغانستان، باكستان، الشيشان، بورما (وقد بدأت تتشكل فيها حركة مقاومة)، مالي، إفريقيا الوسطى، نيجيريا.. وغيرها.
كل هذه مناطق تعيش ثورة أو تعيش نذير ثورة أو تتشكل فيها حركة مقاومة.. فأي دعوة لتفويت اللحظة الحاضرة تحت أي دعاوى هي دعوة لا تقرأ الواقع كله بل تعيش في اللحظة الحاضرة والمكان المحدود.
إن دعاوى العودة للتربية أو التهدئة أو الدعوة أو الانسحاب من صراع السلطة أو الذوبان في المجتمع... إلى آخر هذه السياقات، إنما هي في حقيقة الأمر دعوات هروب من المعركة، وهي فوق هذا دعوات فاشلة في نفسها، لم تفرز لنا إلا مغيبين عن الواقع لا يدرون كيف يفعلون في النوازل، ويتلاعب بهم الساسة الماكرون كيفما أرادوا.
3. لأن النصر إن لم يكن الآن فليس أقل من نصف قرن آخر على أحسن الأحوال.. فالاستبداد سيكون أسرع وأقوى في تشكيل وعي الناس وسحق نفوسهم فلا يصلحون لمقاومة أبدا، وسيكون علينا انتظار جيل أو اثنين..
من حقائق التاريخ أن الجيل الواحد لا يثور مرتين، وأن من لبسوا ثياب الذل لا يقومون بثورة ولو توفرت لهم أسباب النصر فيها.
4. ومن حقائق التاريخ أيضا أن الأمم تبني نهضتها في ظل الصراع لا في ظل التهدئة، وأن لحظات المعركة هي اللحظات التي تنطلق فيها المواهب والقدرات بأسرع وأقدر وأكبر ما يمكن، في حين لا يحدث هذا في لحظات التهدئة.. فما بالك إن كانت لحظات التهدئة تحت حكم عملاء يخلصون العمل لعدو الأمة الكبير، ترى هل سيسمحون ولو ببذور نهضة؟!
لو عدنا بالذاكرة نصف قرن مضى، لثبت لنا كيف ذهبت الأماني والأحلام في عصور التحرر ومقاومة الاستعمار، ثم ها نحن نرى بأعيننا كيف أن احتلال الاستبداد كانت أكثر كلفة ومصيبة علينا وأكثر ربحا ومزايا لعدونا وأقل كلفة لهم.
فهل استطعنا أن نبني شيئا من نهضتنا تحت حكم وكلاء الاحتلال، والتي كانت في غالبها لحظات تهدئة؟! أم صرنا من ضعف إلى أضعف ومن ذل إلى أذل، حتى اجتمعت علينا في بلادنا جيوش الاحتلال في قواعدها العسكرية العلنية والسرية وعساكر بلادنا الذين يمتصون دماءنا ليسفكوا دماءنا أيضا.
إن معركة التحرر والنهضة معركة واحدة تُخاض في وقت واحد.
وإن معركة "تربية الجيل" لن تتم في المساجد والزوايا وحلقات طلب العلم فقط، بل في ميادين الكفاح والمقاومة أيضا.. بل ربما يصدق القول بأن أكثر الناس انغماسا في المساجد والزوايا وحلقات طلب العلم كانوا أقل الناس انغماسا في ساحات المقاومة والكفاح.
5. لأن انصرافنا عن نظام لم يتمكن بعدُ أملا في الاستعداد والتهيؤ لمعركة معه في ظل تمكنه.. خرافة بادية البطلان، فإن العجز عنه وهو ضعيف لن يفضي إلى التقوي تحت ظله حين يتمكن ويثبت.
Published on January 07, 2014 20:22
January 2, 2014
الجهاد.. دواء الفساد
لو أن الناس يهتدون بمجرد بيان الحق لما احتاج النبي أن يحمل السيف..
بل ولما احتاج أحد من المصلحين أن يجاهد ويعاني، ولما تعرض أحدهم للنكال والعذاب..
بل ولاختفى من التاريخ الإنساني كافة مظاهر العشيرة والعصبية والعائلة والقبيلة، ولما ظهر في الدنيا شيء اسمه "دولة" أو "امبراطورية" أو "نظام عالمي"..
لو أن الناس يهتدون بمجرد بيان الحق لما احتاجت الدول إلى أجهزة أمن واستخبارات وجيوش، ولا كان في الدنيا سلاح وقتال وعساكر ومعدات حربية وأسلحة فتاكة..
لكن كل هذا ظهر، لأن الحقيقة أن مجرد بيان الحق للناس لا يعني اهتداؤهم إليه، الحقيقة ببساطة تقول أن مجرد "وجود" الحق وحده لا يكفي!!
***
الإنسان يعلم من نفسه وذاته أنه لا يلتزم بكل ما يعرف أنه الحق، بل ربما ارتكب الذنب والخطيئة والجريمة وهو يعلم أنه ذنب وخطيئة وجريمة..
والأصح أن نقول أن الذين لا يستسلمون لرغباتهم ويكبحون جماح أنفسهم وشهواتهم وطغيان نفسهم إنما هم القلة الفاضلة، بينما الكثرة الغالبة لا يردعها عن الخطيئة والجريمة إلا العجز والخوف من العاقبة والعقوبة.
الإنسان إنما هو مسرح لمهمة الشيطان الذي قال {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17].
والمفاجأة أن غالب البشر ينجح معهم الشيطان {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه من كل مائة (وفي رواية من كل ألف) سيدخل الجنة واحد فقط!!
فإذا كان ذلك في الإنسان نفسه، فهو في حالة الدول أشد وأخطر، إذ هي مظنة اجتماع الشهوات والرغبات والمطامح والمطامع، وشهوة المُلك والسلطة أقوى من شهوات الفرد بنفسه، حتى قالت العرب "المُلك عقيم"، إذ في سبيل الملك يقتل الرجل ابنه أو أباه أو أخاه فضلا عن أبناء عمومته وأهل عشيرته، فأما قرار قتل الناس فهو أسهل ما يأخذه المتسلط تمكينا لحكمه وإرساء لملكه، وإذا كان قرار قتل الأقربين سهلا فكيف بالإغارة على الأباعد؟! وإذا كانت المؤامرة تدبر للتخلص من الأقوياء والأذكياء فكيف إذا كان الخصم ضعيفا مهيض الجناح سهل المأخذ؟!
وإذا كانت رابطة الدم والعصبية وسنوات الوداد والوصال وأزمان العشرة والصحبة والفضل القديم، إذا كان كل ذلك لا يقف مانعا أمام رغبة فاسدة، فكيف نتوقع أن يكون الوعظ والبيان والنصح كافيا في تغيير الحال وردع المجرم وكبح جماح الفساد؟!!
***
قد يبلغ الجرح من الفساد ما لا يكون له دواء إلا الكيّ، وقد يبلغ المرض من التمكن ما لا يكون علاجه إلا البتر، وكذلك الفساد في النفوس والعقول والأمم قد يبلغ حدا لا يصلح له إلا الحسم!
إن ضلال النفس قد يحمل على غرائب مدهشة؛ فإن هؤلاء الذين عبروا البحر بمعجزة كونية هائلة، بجسر تكون فعبروا عليه ثم تلاشى فأغرق عدوهم، هؤلاء لم يلبثوا إلا قليلا حتى قالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ولو لم يكن عندهم نبيهم الذي ردعهم بقوة وحسم لاتخذوا صنما وعبدوه في تلك اللحظة!
بل ذلك ما فعلوه حين غاب عنهم أياما {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]، ولم ينفع معهم حينئذ وجود نبي الله هارون فلقد استضعفوه حتى أوشكوا أن يقتلوه، وما انتهى الباطل إلا حين أتى موسى –النبي القوي المُهاب- فحرق العجل ونسفه، ثم لم يكن علاجهم إلا بعقاب شديد {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54].
هؤلاء الذين تمنوا عبادة صنم واتخذوا عجلا صنعوه بأيديهم، قالوا لنبيهم {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55].. فانظر كيف اعتنقوا ما هو شديد البطلان ثم يمتنعون عن الإيمان بمن أنجاهم بالمعجزات وأنعم عليهم بالخيرات إلا أن يروه جهرة.. ولم تكن العقوبة إلا حسما شديدا {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]
وكم في ضلالات الناس من غرائب نراها صبحا وعشيا، لا سيما في زمان الإعلام الفاسد الذي يحيل الناس إلى كائنات عجيبة، يحبون من يقتلهم ويستبد لهم، ويبغضون من يكافح عنهم ويعمل لخدمتهم، وتنغلق عقولهم وقلوبهم أمام حقائق الحياة البسطية فلا يعرفون ما ينفعهم مما يضرهم، حتى لتبدو لهم أغلال الطغيان فخرا مجيدا، ويغدو من يحاول الخروج منها متمردا عنيدا!!
تجد المرء يرى قتل الآلاف في يوم واحد عملا جميلا، بينما ردة فعل واهنة قتلت واحدا أو جرحت غير واحد عملا إرهابيا مجرما!! تراه لا يهتز لمذابح المسلمين في كل مكان بينما يهتز لعملٍ مُقاوِمٍ فيهتف ضد الإرهاب!! وعلى رغم أن المسلمين هم المُعتدى عليهم في كل مكان، وهم المستباحة دماؤهم فلا يكاد يرى إرهابا إلا هم، وتصل القناعة حدا يصير عقيدة راسخة تذهب دونها كل الحقائق، ومثالها ذلك الجندي الإنجليزي الذي قتل إفريقيا ثم نظر في دهشة إلى زملائه وصاح متعجبا "يا له من همجي؟! تصور أنه عضني وأنا أقتله"!!!
فإذا بلغ الضلال في النفوس إلى هذا الحد، فبأي شيء ينفع الوعظ والنصح وبيان الحق!
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97]
***
وقد يتبين الحق، لكن النفوس لا تقبله رغم اعترافها بأنه الحق..
قد يكون لمجرد الكبر {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]
وقد يكون لطغيان الشهوة {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]
وقد يكون لطغيان العادة {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23، 24]
وقد يكون اتباعا للمنافع التي ارتبطت بوجود الباطل والفساد {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57]، فانظر كيف اعترفوا أنه "الهدى".
وفي كل الأحوال، فما دام الحق ضعيفا فلن يستجيب له إلا أولئك القلة النادرة الفاضلة، فيما يكون الرد التلقائي على نحو قولهم:
{يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29]
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]
{يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]
بل قد يبلغ التحدي والكبر مبلغا غريبا {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
وانظر إلى بني إسرائيل الذين شهدوا معجزات الله كيف لم ينضبط أمرهم إلا حين كانت تظللهم العقوبة، وذلك حين رفع الله فوقهم جبل الطور حتى كانوا يخشون إذا عصوا أن يقع عليهم، ثم لم يبلغوا شأنا إلا حين كانت أنبياؤهم ملوكهم كداود وسليمان عليهما السلام، وكما في الحديث "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي"لكل هذا كان لابد للحق من قوة، وإلا حاربه أقوام وفيهم من يعرفون أنه الحق لمخالفته شهواتهم وعاداتهم ومصالحهم.. ولقد كان أهل الكتاب يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، وكان كفار قريش يعرفون في النبي الصدق والأمانة، لكنهم كذبوه وحاربوه وكادوا أن يقتلوه! فلولا أن وقفت للحق سيوف تحملها الألوف لما انتفع أهل الحق بمجرد حمله ولا أثمرت جهودهم في بيانه والدعوة إليه.
***
هل مسالمة الباطل وتركه قد يكون حلا؟!
هذا ما لعلنا نجيب عنه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
البخاري (3268)، مسلم (1842). وقال الحافظ في الفتح " فيه إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريق الحسنة وينصف المظلوم من الظالم".
Published on January 02, 2014 00:04
December 29, 2013
خمسة عجائب أندلسية
محمد إلهاميبعد أيام تحل ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير)، ومن السنن الحسنة التي سنها الشباب على الانترنت هو إحياء هذه الذكرى ونشر سيرة الأندلس، تلك القطعة المقطوعة من قلب كل مسلم، وذلك الاسم الذي يثير الدموع حتى بعد سقوطه بأكثر من خمسة قرون!
وقد اخترت أن أكتب في شيء من مخترعات وابتكارات الأندلس ليعرف الشباب مدى ما بلغته الحضارة الإسلامية في الأندلس، واكتفيت من ذلك بخمسة لئلا يطول المقال الذي بلغ أكثر من ألف كلمة، وهذا غاية ما يطيقه قارئ الانترنت.
***
1. بِيلَتَيْ طليطلة
والبيلة هي حوض النافورة، وكان المهندس الفلكي الأندلسي عبد الرحمن الزرقال قد صنع حوضي نافورة داخل تجويف من الزجاج على نهر تاجُه في طليطلة، والعجيب في هذين الحوضين أنهما يمتلئان بالماء بنفس حساب التقويم القمري. بمعنى أنه إذا كان القمر هلالا وليدا يكون الماء فيهما بنسبة (1: 30) ثم تظل زيادة الماء فيهما متناسبة مع القمر حتى إذا صار القمر بدرا كاملا يكون الحوضان قد امتلآ بالماء، ثم يبدأ القمر في النقصان فيبدأ منسوب الماء في النقصان حتى إذا اختفى القمر وصار محاقا لم يعد في الحوضين ماء.
يقول المقري: "وإذا تَكَلَّف أحدٌ حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعتا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلا ما كان فيهما في تلك الساعة، وكذا لو تكلف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق فيهما شيئا ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين ... ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى دمرهم الله طليلة فأراد الفنش (ألفونسو السادس) أن يعلم حركاتهما فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء وكيف الحركة فيهما فقلعت فبطلت حركتهما"***
2. مجلس المأمون بن ذي النون
وهو ملك طليطلة في عصر ملوك الطوائف، وقد بلغ مجلسه في حديقة قصره الفاخر مبلغا أسطوريا..
كان مجلس المأمون في قبة مجوفة في وسط بحيرة، ويحف البحيرة نوافير على هيئة الأسود التي تقذف بالماء من أفواهها إلى البحيرة وتتركز عليها الأضواء التي يعكسها سطح الماء فكأن المشهد قادم من عالم الخيال، وأقوى ما في المشهد هذه القبة المجوفة في وسط البحيرة، إذ صممها المهندسون بحيث يرتفع الماء إلى سطحها ثم ينسكب من حولها بصفة مستمرة فتصير كأنها قبة من الماء المنسدل عليها من كل النواحي فيكون مجلس المأمون داخل هذه القبة دون أن تصيبه قطرات الماء***
3. طريقة التعليم المعجزة
نعرف جميعا قصة هيلين كيلر، الملقبة بمعجزة الإنسانية، تلك الفتاة العمياء الصماء البكماء التي استطاعت معلمتها آن سوليفان أن تبدأ معها مسيرة التعليم من خلال كتابة الحروف على يدها وتجسيمها في مجسمات تلمسها هيلين حتى تتعرف عليها ... إلى آخر القصة المعروفة.
من المدهش أنك تجد هذه الطريقة ذاتها قبل هيلين كيلر بثمانية قرون كاملة، في الأندلس، وذلك ما يرويه لنا الإمام ابن حزم في لفتة عابرة، في كتابه "التقريب لحد المنطق" فيقول:
"أخبرني مؤدبي أحمد بن محمد بن عبد الوارث رحمه الله أن أباه صَوَّر لمولود كان له أعمى وأكمه حروف الهجاء أجراما من قِير، ثم أَلْمَسَه إياها حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم أَلْمَسَه تراكبها وقيام الأشياء منها حتى تشكل الخط وكيف يُسْتبان الكتاب ويُقْرأ في نفسه، ورفع بذلك عنه غصة عظيمة، وأما الألوان فلا سبيل إلى ذلك فيها"ويتضح من النص أن بين ابن حزم وبين والد مؤدبه ثلاثة أجيال، أي نحو أربعين عاما على الأقل، أي أن ذلك كان في نهاية القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي.
***
4. قاعة السفراء (بهو قمارش)
وهي جزء من قصر المتزين في مدينة الحمراء –عاصمة غرناطة- بناه يوسف الأول، وصممت هذه القاعة لإلقاء الروعة والرهبة –معا- في نفوس الزائرين، خصوصا من سفراء القشتالين والممالك النصرانية، وما يزال شعور الرهبة والروعة باقٍ حتى عصرنا هذا في نفوس من يزوره.
ليس في القاعة شبر لا تنسال منه الزخارف والنقوش البديعة، حتى كأنه انفجار بصري أخاذ، ورغم أن الألوان الأصلية قد ذهبت الآن إلا أن تصورها يلقي في النفس مشهدا أسطوريا آسرا، وتعلو القاعة قبة مهيبة مهولة –بارتفاع 23 مترا- كأنها تمثل منبعا لفيضان الزخارف السيال من كل ركن في هذه القاعة.
كانت القاعة جزءا من برج المتزين، الذي كان الأعلى في محيطه، والحمراء نفسها إنما هي بناء عال فوق جبال سيرانيفادا المطلة على غرناطة، أي أن القاعة تشرف على غرناطة.. وبهذا الاعتبار فقد صمم المهندسون نوافذها في جهاتها كلها، وجعلوا مجلس السلطان في منتصف القاعة تحت القبة المهيبة، فيكون الداخل إليه كأنما يجد نفسه فجأة فوق العالم، أينما اتجه ببصره رأى عبر النوافذ غرناطة تحت قدميه في مشهد بانورامي يجتمع فيه التوجس والانبهار، ثم يزداد التأثير بفيضان الزخارف في كل ركن، ثم يكتمل بمجلس السلطان وأبهته وزينته، والذي يبدو –وهو في هذا الموضع- وكأنه يملك غرناطة ببصره ويهيمن عليها بسلطانه.
وهذا بخلاف مجموعة من النوافذ العلوية الصغيرة (التي تسمى قمريات، ومنها جاء اسم قمارش) المصممة بدقة والتي تتسرب منها أشعة الشمس لتنعكس فتصنع من الزخارف وألوانها عالما ساحرا خلابا.
***
5. مجلس أنس
يصف الشاعر ابن حمديس الصقلي مجلس أنس وخمر، ولا شك أننا ننقله لما فيه من الطرافة والإبداع في الصناعة لا إقرارا للخمر، ونحن لا ندري على وجه التحديد هل كان هذا مجلس ملوك فتكون هذه التقنية فيه نادرة اختصت بالملوك أم أحد الأغنياء فتكون هذه التقنية متوفرة شائعة.. لكن المعروف أن هذا الشاعر كان في زمن ملوك الطوائف وله مدائح في المعتمد بن عباد ملك إشبيلية، وعاصر محنته وخلعه ونفيه إلى أغمات.
كان مجلس السقي هذا دائري، صُنِع فيه مجرى للماء بحيث يجلس القوم على أطرافه، ويقف عند أول الدائرة الخدم الذين يحملون أنواع الخمر، فينادي من يريد الشراب على أحدهم (الذي يحمل نوعا بعينه من الخمر) فيضع له الخادم الكأس في الماء فيجري به الماء حتى صاحبه، فإذا فرغ من الكأس أعاده مرة أخرى إلى الماء الذي يواصل جريانه حتى يعود إلى الخادم.
ولا ريب أن هذه التقنية كانت لها تطبيقات أخرى في حياة المسلمين، لكن الذي عرفناها منه كان مجلس الخمر هذا.. يقول ابن حمديس:
وساقيةٍ تسقي الندامى بمدّها .. كؤوساً من الصهباءِ طاغيةَ السُّكْرِ
يعوَّمُ فيها كلّ جامٍ كأنما .. تَضَمّنَ روح الشمس في جسد البدر
إذا قَصَدَتْ منّا نديماً زجاجةٌ .. تناولها رفقاً بأنمله العشر
فيشربُ منها سكرةً عِنبِيَّةً .. تنّومُ عينَ الصحو منه وما يدري
ويُرسلها في مائها فيُعيدها .. إلى راحتي ساقٍ على حكمه تجري
جعلنا على شُرْبِ العُقَارِ سَمَاعَنَا .. لحوناً تغنّيها الطيورُ بلا شعر
وساقينا ماءٌ ينيل بلا يدٍ .. ومشروبُنَا نارٌ تضيء بلا جمر
سقانا مسرّاتٍ فكان جزاؤه .. عليها لدينا أنْ سقيناه للبحر
كأنا على شطِ الخليج مدائن .. تسافرُ فيما بيننا سُفُنُ الخمر
وما العيش إلاّ في تطرّفِ لذةٍ .. وخلعِ عذارٍ فيه مستحسنُ العذر
***
اقرأ: الأندلس المفقود، ترى كيف كان
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، تويتر @melhamy المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/ 206، 207. الطرطوشي: سراج الملوك ص26، ابن ظافر الخزرجي: بدائع البدائه ص169، المقري: نفح الطيب 4/353. ابن حزم: التقريب لحد المنطق ص192.
Published on December 29, 2013 14:03
December 23, 2013
جاذبية الإسلام الاجتماعية
مهما حاولنا الفصل بين الإسلام كدين مطلق وبين المسلمين كبشر يصيبون ويخطئون فسيظل واقع المسلمين هو المؤثر الأكبر في تلقي الناس للإسلام وتعرفهم عليه، ونحن لا نقصد بواقع المسلمين هنا واقعهم السياسي –وإن كان هذا مؤثرا بلا شك- وإنما نقصد واقعهم الاجتماعي وتفاصيل حياتهم الطبيعية.
إن حياة المسلمين التي تبدو لهم طبيعية ليست كذلك عند غير المسلمين، إن كثيرا من هؤلاء إنما أسلموا ودخلوا في دين الله –أو على الأقل: تغيرت قناعتهم عن الإسلام- بأشياء بسيطة للغاية يفعلها المسلم وهو لا يلقي لها بالا.. هذه الأمور التي يفعلها المسلم بتلقائية سواء أكانت من العبادات والشعائر أو كانت من العادات والأخلاق الإسلامية هي ما نعنيه بقولنا "جاذبية الإسلام الاجتماعية".
السطور القادمة هي لقطات تاريخية سريعة تلقي الضوء على هذا الموضوع.
***
لقد كان من فقه النبي r أن يُعرِّض بعض المعاندين لرؤية الحياة الإسلامية، وكان ذلك سببا في دخولهم الإسلام.
1. فهذا ثمامة بن آثال من زعماء بني حنيفة في اليمامة، وقد كان من أعداء النبي r، ورد عنه أنه عزم على قتل رسول الله أو حاول قتل مبعوث له، ثم وقع أسيرا بيد سرية من سرايا المسلمين، فجاءوا به إلى المدينة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، ثم خرج إليه النبي r فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: عندي خير يا محمد؛ إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فظل مأسورا في المسجد ثلاثة أيام ثم أمر النبي بإطلاقه، وإذا بثمامة ينطلق فيغتسل ثم يعود إلى المسجد يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب دين إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي"ففي هذه القصة ظل ثمامة بن آثال ثلاثة أيام في المسجد يرى سلوك الصحابة الإسلامي، ثم تمت النعمة بالعفو النبوي الكريم، فلهذا أسلم ثم قاد حملة مقاطعة لمكة فمنع عنهم كل ما كان يصلهم من اليمامة من الغلال والحبوب ثم كان ممن ثبت على إسلامه أيام مسيلمة الكذاب وانحاز إلى الجيش الإسلامي في حرب المرتدين.
وقد صار هذا من السنن التي استنَّ بها بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب، والقضاة كشريح، أن يحبسوا الغريم في المسجد2. وهذه هند بنت عتبة التي ظلت تعادي الدين والنبي r منذ اللحظة الأولى، وهي التي خططت لقتل حمزة بن عبد المطلب، وظلت على بغضها حتى تم فتح مكة وبعد أن أسلم زوجها أبو سفيان بن حرب، أصبحت في اليوم الثاني للفتح تقول لزوجها "إني أريد أن أتابع محمدا. قال: قد رأيتك تكرهين هذا الحديث أمس. قالت: إني والله ما رأيت الله عُبِدَ حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قياما وركوعا وسجودا"***
وسار هذا المسلك عبر التاريخ الإسلامي، فإذا نظرنا في تاريخ الفتوحات والممالك الإسلامية رأينا أن الناس إنما دخلت في دين الله أفواجا لما عاينته من حياة الفاتحين وأخلاقهم ومعاملاتهم مع بعضهم أو مع شعوب البلدان المفتوحة، فلقد كان الدليل الحي المتمثل في المسلمين أقوى وأوسع أثرا من الدليل العلمي العقلي الناشيء عن مقارنة الأديان ومطالعة الفروق ودراستها.
والحديث عن الفتوحات الإسلامية وأثر الفاتحين في إسلام الشعوب يتسع جدا والأمثلة كثيرة جدا، ولكن ربما كان من المناسب أن نضرب مثالا بانتشار الإسلام بين الزنوج الأفارقة، ففي قصة هؤلاء يتبدى الفارق واضحا تمام الوضوح بين التعامل الإسلامي الذي قدم عليهم بالدين والرحمة وبين التعامل المسيحي الأوروبي والأمريكي الذي قدم عليه بالمذابح والاستعباد ونهب الثروات، وسنأخذ شهادة مؤرخ إنجليزي هو توماس أرنولد الذي رصد انتشار الإسلام في إفريقيا فكتب يقول:
"لا شك أن نجاح الإسلام قد تقدم في إفريقية الزنجية تقدما جوهريا بسبب انعدام كل إحساس باحتقار الأسود، وفي الحق يظهر أن الإسلام لم يعامل الأسود قط على أنه من طبقة منحطة، كما كان الحال لسوء الحظ -في كثير من الأحيان- في العالم المسيحي... إن الأسود المُتَنَصِّر يميل إلى الإحساس بأن أبناء دينه من الأوربيين ينتمون إلى لون من الحضارة لا يلائم طبائعه في الحياة، على حين يشعر في المجتمع الإسلامي بأنه أكثر تعلقا به واطمئنانا إليه، وقد أجاد أحد المشاهدين المحدثين توضيح ذلك في الرسالة التالية: إن الإسلام لا يتطلب من أهل نيجيريا، أن يفقد أحدهم قوميته باعتبار أن ذلك شيء يصحب الدخول في الإسلام، ولا يستلزم تغييرات انقلابية في الحياة الاجتماعية يستحيل تحقيقها في المرحلة الحاضرة من تطور أهل نيجيريا، ولا هو يقوض نفوذ الأسرة وسلطة الجماعة، وليست هناك هوة بين الداعي إلى الإسلام والمتحول إليه؛ فكلاهما متساو أحدهما مع الآخر -لا نظريا بل عمليا- أمام الله، وكلاهما إفريقي، وهما من أبناء أرض واحدة، وينفذ مبدأ التآخي الإنساني تنفيذا عمليا، ولا يعني الدخول في الإسلام أن ينصرف الداخل فيه عن شئونه وأسرته وحياته الاجتماعية، ولا عن احترامه لسلطان حكام بلاده الأصليين... وليس هناك من لا يعجب بسلوك المسلم النيجيري ووقاره -بل بسلوك مسلمي إفريقية الغربية عامة، وإن هيئة الرجل العامة لتنم عن شعور بالقومية واعتزاز بالجنس، يخيل إليك أنه يقول: إن كلا منا يختلف عن الآخر، ولكننا جميعا بشر"، وضرب مثالا على مُنَصِّر تزوج من زنجية فواجه مشاعر عدائية من إخوانه المسيحيين إلى الحد الذي اضطر فيه إلى ترك المستعمرة، بينما لا يتأثر الداعية المسلم بمثل هذه العوائقوفي حين عاش العبيد الأفارقة قرونا من الذل والاستعباد تحت قهر الأوروبيين ولم يحصلوا حقوق البشر إلا بعد معارك ومذابح، كان العبيد الأفارقة لدى المسلمين على نقيض ذلك، يذكر الرحالة داوتي ذلك فيقول: "لا يوجد في نفوس أولئك الإفريقيين أي حقد من أنهم صيروا عبيدا... حتى ولو أن سُرَّاق البشر القساة قد انتزعوهم من ذويهم، وكان العملاء الذين يدفعون ثمنهم يتخذونهم في بيوتهم ويختتن الذكور منهم، وإن الذي حرر أرواحهم من الحنين الطويل إلى أوطانهم، هو أن الله قد تفقدهم في ملمتهم؛ إنهم يستطيعون أن يقولوا: إن نعمة الله قد تداركتهم منذ أن دخلوا بفضلها في الدين المنقذ. لذلك يرون أنهم في بلد خير من بلادهم، فهم في ذلك عتقاء الله، وهم في بقاع تحيا حياة أكثر مدنية، وهم في تربة الحرمين الشريفين، وفي بلد محمد r؛ لذلك يشكرون الله أن بيعت أجسادهم يوما ما بين الرقيق"والخلاصة –كما يقولها المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون- أن "ما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم"***
وحتى البلدان التي دخلها الإسلام دون فتح عسكري وصلت إليها هذه الجاذبية الاجتماعية للإسلام فدخلت فيه، وقد كتب المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس كتابا يرصد فيه المناطق التي دخلها الإسلام دون أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب ثم انتهى إلى أن قال: "أعدت النظر في المصور الجغرافي (للأرض) لأرى ما فتحنا بجهادنا وما فتح الإسلام بنفسه بالحكمة والموعظة الحسنة فخشعت نفسي، لأنني وجدت أن الإسلام فتح بنفسه أضعاف ما فتحنا، وأن دعوة الحق في تاريخنا كانت أمضى من كل سلاح، حتى البلاد التي خضنا المعارك لندخلها كان الإسلام هو الذي فتح قلوب أهلها واستقر فيها"، وكان تقديره أن مساحة الأرض التي بلغتها الفتوحات ليست إلا ثلث مساحة الأرض التي دخلها الإسلامولقد كان أبطال هذه القصة هم التجار المسلمون الذين كانت حياتهم وأخلاقهم هي سيوفهم الناعمة، ومما ينبغي أن يلفت النظر أن بلاد العرب الصحراوية والمتباعدة اضطرتهم من قديم إلى أن تكون رحلاتهم التجارية في قوافل كبيرة وعليها حراسة للتعامل مع قطاع الطرق أو وحوش الصحراء أو التعاون على مهالكها، مما جعل قوافل العرب أشبه بالمجتمعات المصغرة التي تبدو فيها الحياة الاجتماعية الإسلامية أكثر مما يبدو فيها أخلاق المسلم الفردية.
ولئن كان التجار هم فاتحة الخير لأهل هذه البلاد التي لم يصلها الإسلام، فإن ترسخ الإسلام وتعمقه كان برحلة تعبدية اجتماعية عالمية، وهي الحج، ففيه يرى المسلمون بعضهم بعضا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وينشأ من جراء ذلك من المواقف والتعاملات والعلاقات والتأثير المتبادل ما لا يُحصى.
***
بل إنه وفي عصور ضعف المسلمين ووقوعهم تحت الاحتلال الأجنبي، ظلت جاذبية الإسلام الاجتماعية الباب الأوسع لدخول الناس في الإسلام أو –على الأقل- تغير انطباعهم عنه:
1. فمنذ نحو قرن ونصف، كتب الفيلسوف الفرنسي الشهير إرنست رينان يقول: "ما دخلت مسجدا قط، دون أن تهزني عاطفة حادة، وبعبارة أخرى، دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلما"2. ومنذ نحو قرن كتب الكولونيل الإنجليزي رونالد فيكتور بودلي عن حياته بين البدو في صحراء المغرب يقول:
"قضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغنامًا، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام حتى أنني ألفت كتابًا عن محمد r عنوانه «الرسول» وقد كانت تلك الأعوام التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحل من أمتع سِنيّ حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان والرضى بالحياة. وقد تعلمت من عرب الصحراء التغلب على القلق، فهم -بوصفهم مسلمين- يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذا سهلًا هينًا. فهم لا يلقون أنفسهم بين براثن الهم والقلق على أمر، إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأنه لا يصيب الفرد منهم إلا ما كتب الله له، وليس معنى ذلك أنهم يتواكلون، أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلا، ودعني أضرب مثلًا لما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية، حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي الرون في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، حتى أحسست كأن شعر رأس ينتزع من منابته، لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون، ولكن العرب لم يشكوا إطلاقا، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: (قضاء مكتوب). ولكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل إن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء دون أن تبدو من أحدهم شكوى... قال رئيس القبيلة: لم نفقد الشيء الكثير، فقد كنا خلقاء بأن نفقد كل شيء، ولكن حمدًا لله وشكرًا، فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد"وإن قصص إسلام المفكرين والمستشرقين حافلة بهذه المعاني وهي من الكثرة والغزارة بحيث صارت تكتب فيها المؤلفات المطولة، والسلاسل ذات الأجزاء.
***
وليس الماضي بأقل وضوحا من الحاضر في جانب "جاذبية الإسلام الاجتماعية"، فالمراكز الإسلامية المعنية بالدعوة إلى الإسلام، خصوصا تلك التي في البلاد العربية وتتعامل يوميا مع الجاليات غير المسلمة، تشهد بأن هذا هو الباب الأوسع للدخول في الإسلام.
ولذا فقد ابتكرت بعض المراكز الإسلامية برنامجا لغير المسلمين لقضاء شهر في الحياة كأنهم من المسلمين، يقضون فيه أياما بلا طعام حتى صلاة المغرب كنوع من معايشة الصيام، ويستمعون لخطيب الجمعة، وترتدي النساء الحجاب... وهكذا.
ونحن إذ قد علمنا هذا، كان لا بد أن نسأل أنفسنا: فما هو دورنا؟
وهذا –إن شاء الله تعالى وقدر- يكون حديثنا في المقالات القادمة: الرعاية الاجتماعية لغير المسلمين، والرعاية الاجتماعية للمسلمين الجدد.
نشر في مجلة البشرى الكويتية، ديسمبر 2013
البخاري (4114)، وانظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/549، 550، وابن حجر: الإصابة 1/410، 411. ابن رجب الحنبلي: فتح الباري 3/362. ابن عساكر: تاريخ دمشق 70/177، وابن حجر: الإصابة 8/156. توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص394، 395. من كتابه (Arabia Deserta)، نقلا عن: توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص458. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص605. د. حسين مؤنس: الإسلام الفاتح ص4، 18. توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص459. من كتابه (wind in the saharaa). نقلا عن: ديل كارنيجي: دع القلق وابدأ الحياة، ص303: 305.
Published on December 23, 2013 11:53
December 11, 2013
الدعوة والحماية
في خلال أيام، تحول الرجل الحليم الرشيد الذي ينطق بالحكمة إلى مُخَرِّف يقول كلاما فارغا لا معنى له ويستحق عقوبة الرجم حتى الموت، هكذا تحولت نظرة أهل مدين إلى نبيهم شعيب عليه السلام، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ثم ما لبثوا أن قالوا {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
ذات هذا المشهد تكرر من قبل مع نبي الله صالح عليه السلام {يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}، ثم لم يجدوا حلا إلا أن يتآمروا لقتله ويقسمون لأوليائه أنهم ما فعلوا {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
فأما من لم يكن له مثل أولياء صالح ولا رهط شعيب فقد تمنى أن يكون له ذلك حين كان في اللحظة العصيبة، ذلك هو لوط عليه السلام الذي حاول أن يدفع قومه الفاحشين عن ضيفه فلم يستطع، فقال وهو يدافعهم وراء الباب {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ولقد كان عليه السلام يأوي إلى ركن شديد، فقال له ضيوفه {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} وأشار الملك إليهم فذهبت أعينهم {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}.
ويبدو –والله أعلم- أن قصة لوط كانت مثالا ضربه الله للناس، عن صاحب الدعوة حين يفتقد إلى الحماية ولو كان نبيا، ذلك أن الله لم يبعث من بعده نبيا إلا في "ثروة من قومه" كما قال النبي صلى الله عليه وسلموليس معنى هذا أن النبي يُحْفَظ من كل الأذى، بل يصير إيذاؤه أمرا عسيرا صعبا على خصومه وأعداء رسالته، ويصير قرار قتله هو القرار الأخير الذي لا يُتَّخَّذ إلا بعد استنفاد المحاولات الأخرى لإسكاته وقهر دعوته، فالأنبياء أشد الناس بلاء ومنهم من قُتِل كما فعلت بنو إسرائيل بأنبيائها، وكما كانت سيرة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فلقد أوذي في نفسه وأهله وأهين وضُيِّق عليه وحوصر، لكن قرار قتله لم يُتَّخذ إلا بعد ثلاثة عشر عاما.
وذلك أن الله بعث نبيه في أشرف نسب من قوم القرشيين، فحماه بالعصبية القبلية العشائرية، وامتن عليه بهذه الحماية منذ أول الأمر بعمه أبي طالب فقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}، وظل عمه -الذي هو سيد بني هاشم حينئذ- يحوطه ويرعاه ويدفع عنه رغم كراهيته لما جاء به ابن أخيه، حتى لم يكن أحد من المشركين يجد حلا سوى التفاوض مع أبي طالب أن يكف عنهم محمدا، ثم لم يظفروا منه بشيء.. فبهذه الحماية نجَّى الله نبيه من العذاب الذي نزل بالصحابة رضوان الله عليهم، وهو العذاب الذي أنزله بهم أهلوهم، فإن كفار مكة –احتراما للعصبية القبلية- قرروا أن يتولى كل قوم التنكيل بمن آمن منهم ومن مواليهم.
ولك أن تعجب إذا علمت أن حصار بني هاشم الذي استمر ثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر والجلود من الجوع، شمل بني هاشم مسلمهم وكافرهم، فكان ذلك الكافر يتحمل كل هذا الألم والعنت الرهيب لأجل عصبية قبلية في سبيل دين هو كافر به، وربما عرَّض أحدهم نفسه للقتل إذ يبيت مكان النبي الذي كان أبو طالب ينقل مبيته خوفا عليه من الاغتيال.
وقد ظلت هذه الحماية حتى اللحظة الأخيرة في الفترة المكية، فحتى بعد وفاة أبي طالب التي كانت من أصعب النوازل على النبي لم تنتهِ حماية بني هاشم، بل تولى العباس زعامتهم فكان على العهدولعل هذا يدلك على أن النبي حين هاجر أو بحث عن مأوى لم يكن ذلك فرارا من الأذى أو طلبا للحماية الشخصية، بل كان طلبا لأناس يقيمون الدولة ويحمون الدعوة لا صاحبها فحسب.
وحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، كان الأنصار على وعي بهذه المهمة، فاستقبلوه بالسلاح، وصار النبي تحت حراسة دائمة لمدة شهر، حتى نزل قول الله تعالى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فتخلى عن الحراسةوأهم ما يُستفاد من هذا أن النبي كان في الحراسة سواء وهو محميٌّ بعصبية النسب والقبيلة في مكة، أو وهو محميٌّ برجال الدين والدولة في المدينة، وفي هذا درس بليغ بليغ لمن يترك نفسه تحت رحمة الأعداء واثقا إلى قانون أو شرعية أو أعراف أو ضمير عالمي أو رأي عام ... إلى آخر هذه الترهات التي لم يؤمن بها إلا المغفلون فأوردتهم المهالك.
إن مجرد حمل الحق والدعوة إليه بالحسنى لا يغير شيئا في واقع الباطل، بل لا بد لكل حق يحمله داعية من حماية تحوطه من بطش الباطل حتى يستوي على عوده ويبدأ جهاده، وتلك سيرة التاريخ في الدعوات، يشرحها ابن خلدون في عبارات بسيطة نافذة فيقول: "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، وهذا لما قَدَّمْناه من أن كل أمر تُحمل عليه الكافَّة فلا بد له من العصبية، وفي الحديث الصحيح -كما مر- "ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه" وإذا كان هذا في الانبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم؟!... أحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه، وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم، فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب (أي الدعوة بغير قوة تحميه) -وكان فيه محقا- قَصَّر به الانفراد عن العصبية، فطاح في هوة الهلاك"والخلاصة:
أن الداعية –المؤسس على أقل تقدير- والدعوة لا بد لها من قوة وحماية تتقي بها بطش المجرمين المبطلين، وهذا المعنى من أهم المعاني الذي ينبغي أن تعتنقه الحركات الإسلامية، إذ ما من حركة استطاعت أن تنجح وهي تضع نفسها تحت رحمة عدوها، فليس أسهل من قرار ينتهي به أمرها أو في أحسن الأحوال يُبقي عليها موجودة بلا تأثير، بل إن فشل كثير من الحركات الإسلامية إنما كان لهذا السبب.
فكيف لم نتعلم وبين يدينا كتاب الله وسنة رسوله ومن بعدهما حكمة أسلافنا؟!
وإن لم نتعلم فيما سبق، فهل سنتعلم بعد أن يضاف إلى ذلك مرارة التجارب المعاصرة؟!
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
أحمد (8373)، والبخاري في الأدب المفرد (605)، والترمذي (3116) وحسنه، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. البخاري (7). بل إن ثمة رواية ضعيفة، نوردها هنا للاستئناس، أوردها ابن سعد في الطبقات ونقلها عنه ابن الجوزي في المنتظم وابن كثير في البداية والنهاية والحلبي في السيرة والصالحي في السبل، أن أبا لهب شقَّ عليه قلة خروج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بعد وفاة أبي طالب فذهب إليه وقال "يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا في صنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت"، وتصدى لرجل سب النبي حتى ظنوا أنه أسلم فأنكر ذلك وقال: "ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد". تختلف الروايات حول الآية هل هي مكية أم مدنية، وبالتالي: فهل الحراسة التي كانت للنبي كانت من بني هاشم بإشراف أبي طالب أم هي حراسة أصحابه في المدينة، والأرجح أنها مدنية بدليل رواية البخاري عن عائشة وفيها: "فلما قدم (النبي) المدينة قال: "ليت رجلا من أصحابي صالحاً يحرسني الليلة". إذ سمعنا صوت سلاح، فقال: "من هذا؟ " فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. فنام النبي". ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/159.
Published on December 11, 2013 13:32
December 8, 2013
زينب.. زوجة الأمراء
اختزنت صفحات التاريخ الإسلامي كثيرا من المواقف الماجدة والمتألقة لإسهام النساء في الحضارة الإسلامية، حتى إن للمرأة في تاريخ الإسلام ما ليس مثله لا قبله ولا بعده، دليل ذلك أنه حين "انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان تعداد الأمة التي دخلت الدين الجديد وانخرطت في رعية الدولة الوليدة 124.000 من المسلمين والمسلمات. وعندما رصد علماء التراجم والطبقات أسماء الأعلام والصفوة والنخبة التي تربّت في مدرسة النبوة وتميز عطاؤها في مختلف ميادين العطاء، رصدوا أسماء نحو ثمانية آلاف من صفوة الصفوة، فكان من بينهم أكثر من ألف من النساء. أي إن التحرير الإسلامي للمرأة قد دفع إلى مراكز الريادة والقيادة أكثر من واحدة من بين كل ثمانية من الصفوة والنخبة إبان التحرير الإسلامي في أقل من ربع قرن من الزمان، وهي أعلى نسبة للريادات النسائية في أي ثورة من ثورات التحرير أو نهضة من النهضات"ومنذ نشأت دولة الإسلام في المدينة اكتسبت المرأة منزلة جديدة، فبعدما تفاجأ عمر رضي الله عنه من أن زوجته تراجعه في الكلام، اندهش حين أخبرته بأن نساء النبي يراجِعْنَه أيضا وقد تغاصبه الواحدة منهن اليوم كله، فكان مما قال "كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذاهم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار"ثم لم يُقبض رسول الله إلا وكانت المرأة تشير في السياسة وتقاتل في الحرب وتُعَلِّم الدين، ومنذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقول أم سلمة يوم الحديبية لم يعد مستغربا أن نرى للمرأة مكانا في تاريخ الملوك والخلفاء، بل لم يعد يُستَنْكَر أن يقال على الرجل العظيم "غلبت عليه امرأته" ولم تكن هذه سبة في حقه إلا أن يكون من المخذولين أمام العدو أو ممن يرهق الرعية أو ممن يقدم رضاها على مصلحة الأمة.
لذلك اشتهرت كثير من نساء الخلفاء، مثل الخيزران جارية المهدي، وزبيدة زوجة الرشيد، وصبح البشكنسية جارية الحكم المستنصر الأموي، وتركان خاتون زوجة ملكشاه السلجوقي، وعصمت الدين خاتون زوجة نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، والزرقاء زوجة عبد المؤمن بن علي الموحدي، وشجر الدر زوجة نجم الدين أيوب، والرميكية زوجة المعتمد بن عباد.. وهذا الأخير هو الذي كثر الطعن فيه لأجل حبه لزوجته، وما ذلك إلا لما جناه في ملكه على الأمة من ضعف وذلة أمام العدو واستبداد واستكبار على الرعية وعلى المسلمين، فكان الطعن فيه طعن في ضعفه وسوء تدبيره على الحقيقة لا طعن في حبه.
وقد اخترنا من بين تلك الطبقة من النساء امرأة غير مشتهرة، لا سيما بين المشارقة، تلك هي زينب النفزاوية: زوجة الأمراء والملوك، وزوجة الرجليْن العظيميْن: أبو بكر بن عمر اللمتوني ويوسف بن تاشفين، والتي لُقِّبت بـ "الساحرة" لشدة ذكائها وحسن رأيها وتدبيرها ومشورتها.
***
في القرن الخامس الهجري كانت مناطق جنوب المغرب الأقصى تعيش جهالة كبرى كأنما لم يصلها الإسلام قط، حتى ظهر فيهم متنبئون وضعوا لهم أديانا وتعاليم غريبة، وتوزعوا طوائف متفرقة متناحرة، وكان الرجل يتزوج النساء بلا عدد وكانوا لا ينكرون زنا المحارم ولا ينكرون الزنا بالمتزوجة، حتى خرج رجل منهم إلى الحجّ فمرّ في طريقه بفقيه مغربي فأدرك ما عليه قومه من الجهالة، فعاد إلى قومه بطالب علم شاب اسمه: عبد الله بن ياسين.
لكن عبد الله بن ياسين لم يفلح في دعوة القوم الذين تحزبوا ضده حتى آذوه وطردوه ورفضوا ما جاء به، فسار جنوبا حتى نزل جزيرة يرجح أنها بالقرب من تنبكتو (في مالي) مع نفر قليل ممن استجاب له، وما زالوا يكثرون ويقومون بالدعوة حتى كانوا نواة الدولة المغربية العظيمة.. دولة المرابطين.
نمت دولة المرابطين وبدأت رحلة توحيد بلاد المغرب تحت سلطانها، فكان من ضمن البلاد التي حاربتهم "تادلا" التي كان يحكمها لقوط بن يوسف المغراوي فقُتِل في معاركه مع المرابطين، وكانت زينب النفزاوية هي زوجته.. وقد صارت الآن أرملته!
قبل زواجها بلقوط كانت زينب متزوجة من شيخ قبيلة "وريكة" لكن قومها هُزِموا في المعارك القبلية أمام جيش لقوط، وبعد مقتل لقوط تزوجها أمير المرابطين: أبو بكر بن عمر اللمتوني، غير أن زواجها لم يدم إلا ثلاثة أشهر فقط؛ إذ جاءت الأخبار إلى أبي بكر بأن اضطرابات تجتاح الدولة في الجنوب حيث الصحراء –وأَصْل الدولة- فاضطر أبو بكر أن يخرج إلى هناك بنفسه دون أن يستكمل توحيد المغرب، وقال لزوجته "يا زينب إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها وإني مطلقك، فاذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف ابن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب"، وهو ما كان.
ولما تولى يوسف بن تاشفين بلاد المغرب أظهر من السياسة والقوة والحكمة ما جعله المؤسس الثاني والشخصية الأهم في دولة المرابطين، فاتسع ملكه واشتدت دولته، وتوحدت المغرب تحت سلطانه، بل ولجأت إليه الأندلس –التي كانت تئن تحت حكم ملوك الطوائف- بعدما سقطت طليطلة (أحصن مدن الأندلس) وتهددت إشبيلية (أكبر وأقوى مملكة أندلسية آنذاك) فخرج بجيشه وخاض المعركة الخالدة "الزلاقة" التي أنقذ بها الإسلام في الأندلس لمائة عام على الأقل، ثم حين عاد ملوك الطوائف للتقاتل والتحالف مع الصليبيين ضد بعضهم، خاض معركته معهم، فتوحدت تحت سلطانه المغرب والأندلس معا، واستعاد المسلمون بذلك عزة غابت عنهم لنحو قرن من الزمان.
كانت زينب النفزاوية حاضرة طوال هذه المسيرة المجيدة، ويشهد المؤرخون بأنها "حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور"، بل ينسبون مجد يوسف بن تاشفين وتوحيده بلاد المغرب إليها فيقول ابن الأثير: "كانت من أحسن النساء ولها الحكم في بلاده" حتى كان العاقل ليتمنى الزواج بها، ويقول ابن خلدون: "كان لها رياسة أمره وسلطانه"، ويقول السلاوي: "كانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه -بحسن سياستها- لأكثر بلاد المغرب"وقد لا يعجب المرء من الخبرة السياسية لزينب وهي التي تنقلت بين أربعة أزواج بفعل أعاصير السياسة والحروب. ولذلك فقد استطاعت إنقاذ الدولة في لحظة عصيبة بمشورتها، كان ذلك حين رجع عمر بن أبي بكر إلى المغرب بعد أن استقر له أمر الصحراء، وكان ابن تاشفين قد أثمر إنجازات كبرى ما كان لابن عمه أن يفعلها، وكان من البديهي أن عودة أبا بكر تعني عودته أميرا وحاكما للدولة، وهو ما يهدد بزوال الثمرة التي أوشكت على الاكتمال، وكان يوسف ابن تاشفين يجد حرجا إذ أن تمسكه ببقاءه حاكما يوحي بانقلابه وغدره ونكثه لعهده مع ابن عمه مع احتمال نشوب حرب –أو انقسام شديد على الأقل- إن تمسك أبو بكر بحقه كأمير للدولة، بينما تنازله لابن عمه يهدد اكتمال إنجاز يوشك على التمام.
لكن زينب التي لم تعش مع أبي بكر سوى ثلاثة أشهر أشارت عليه بأن يتمسك ببقائه أميرا، ورغم أنها لم تعش مع أبي بكر إلا ثلاثة أشهر إلا أنها عرفت من طباعه الورع وحب الوحدة وخشية سفك الدماء، وأشارت عليه بأن يستقبل أبا بكر خارج المغرب لتجنب أي انشقاقات داخلية، وبأن يكلمه من موقع الندّ لا التابع، وأن يكون خروجه في جيش كبير، ومعه الهدايا الكثيرة التي يهديها لابن عمه "ليستعين بها على أمر الصحراء"، وقد كان ما أشارت به، وفهم أبو بكر المراد، وكان يستطيع أن يرجع بهدوء لكنه –من شدة ورعه- كتب ليوسف بن تاشفين عهد تجديد واستمرار ولايته على المغرب، واستكمل هو طريق الدعوة وإكمال بناء الفرع الثاني من الدولة في الصحراء.
ولقد صحت رؤية زينب، فما أنجزه أبو بكر في الجنوب لا يكاد يُذكر بجانب الإنجاز الضخم ليوسف بن تاشفين في المغرب والأندلس، بل لم تعش دولة أبي بكر كثيرا بينما ازدهرت دولة المرابطين وأنقذت الأندلس ووحدتها مع المغرب وأنزلت بالصليبيين هزيمة خالدة.. كما صحت رؤيتها في الطريقة التي اتبعتها لتوصيل الرسالة وإنهاء الأمر في هدوء، وبعيدا عن أعين الناس الذين قد يتسبب ظهور أبي بكر في انقسام بينهم يهدد وحدة الدولة، وصحت رؤيتها في فهم طباع أبي بكر وفي التعامل معه ومع رجاله بالرغبة (الهدايا) والرهبة (الجيش الكبير).
***
روى ابن الأثير أن ثلاثة اجتمعوا فتمنى الأول ألف دينار، وتمنى الثاني عملا يتولاه للمسلمين، وتمنى الثالث زوجة ابن تاشفين، فوصل خبرهم إلى ابن تاشفين فأعطى الأول ألف دينار والثاني بعض الأعمال، وأما الثالث فقال له: يا جاهل، ما حملك على تمني ما لا تصل إليه؟ ثم أرسله محبوسا، فأوصت زينب بأن يُطعم كل يوم من طعام واحد لثلاثة أيام، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت هذه الأيام؟ قال: طعاما واحدا، فقالت: فكل النساء شيء واحد، وأمرت له بمال وكسوة وأطلقته.
وهنا نرى امرأة ذات تواضع، وذات حكمة..
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، صفر 1435 هـ = ديسمبر 2013م
د. محمد عمارة: التحرير الإسلامي للمرأة ص20. البخاري (2336)، ومسلم (1479). ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 7/62، والسلاوي: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى 2/20، 23. النويري: نهاية الأرب 24/265، 266.
Published on December 08, 2013 13:41
December 5, 2013
أحلام نصارى المشرق
"ذبح ونحر، قتل وحرق، هدم وسفك دماء، معاناة يومية يلاقيها مسيحيو الشرق على أرض أجدادهم، علاوة على ذلك: تخوين، وعمالة! فَزَّاعات يواجهها مسيحيو الشرق، والطامة الكبرى: تآمرٌ غربيٌّ ودول المنطقة على الكيان المسيحى المشرقى بهدف خبيث ألا وهو تجريف المنطقة من جذورها الأصلية وهم مسيحيو الشرق.. لذلك كانت الحاجة الى التوحد فى كيان واحد بهدف حماية التواجد المسيحيى المُسْتَهْدِف لوجودهم فى العراق ومصر وسوريا وفلسطين والأردن.. وكانت خطوات عديدة للوحدة أهمها هى مؤتمر مسيحيي الشرق فى لبنان المنعقد خلال يومى 2 و3 تشرين الثانى وتم فيه تمثيل عدد من الرموز الوطنية من مسيحيي الشرق من مصر والعراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان.. تمَّ فيه إلقاء الضوء على آلامهم وأدركنا عن قرب معاناتهم من تيارات متأسلمة تدعى أنها تملك الحقيقة المطلقة وتستبيح بهذا كل القيم الإنسانية والأخلاقية بل وفى أحيان كثيرة القيم الشيطانية فأعمال تلك التيارات ربما تثير غثيان الشياطين في أغلبها".
هذا ما كتبه مدحت قلادة، رئيس اتحاد المنظمات القبطية في أوروبا، وعضو الوفد المصري المشارك في المؤتمر الأول لمسيحيي الشرق الذي انعقد في بيروتجاء في الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، والتي ألقاها حبيب افرايم (رئيس الرابطة السريانية) "من نحن؟ نحن شعوب وقوميات، وكنائس وإثنيات، وطوائف مسيحية مشرقية من صلب نسيج التنوع والتعدد في المنطقة، نحن أبناء هذه الأرض الأصيلين, هنا حتى قبل الآخرين... ماذا نريد؟ لا نطلب لأنفسنا إلا ما نطلبه لكل إنسان ولكل جماعة، لا نخاف من أحد، لا نتوهم أخطارا، ولا نشوه صورة أحد، من يخطفنا ويكفرنا ويذبحنا هو من يحرق وجه أمته ودينه ومذهبه... (نحن) مواطنون كاملي الأوصاف، 16 مليون أو أكثروقبل أيام من المؤتمر، وفي إطار التحضير له، قال الأمين العام المطران سمير مظلوم "يهدف (المؤتمر) إلى وضع الأسس لجهد مشترك بين المجتمع المدني والمؤسسات الكنسية لدرء الأخطار المميتة المحدقة بالمسيحية المشرقية خصوصا والمجتمعات المشرقية عموما، وإلى تعزيز الوجود المسيحي المشرقي الذي يعود إلى ألفي سنة"***
قبل مؤتمر بيروت بعام ونصف، وبالتحديد في إبريل 2012م، عقدت كنيسة مار شربل المارونية مؤتمرًا آخر في ديترويت، بولاية ميتشيجن الأمريكية، ذلك هو مؤتمر "مسيحيي الشرق الأوسط الأمريكيين"، وكان من ضمن الحضور الوزير اللبناني جبران باسيل الذي جاء في كلمته:
"على قدر فرحتي بلقائي معكم، يمتزج لدي شعوران من الفخر والاسى: الفخر بالتضامن الذي تظهرونه بعقدكم لهذا المؤتمر ولتأكيد متانة علاقتكم بالمشرق، والأسى للاضطرار للقائي معكم بعيدين آلاف الاميال عن أرض الآباء حيث "الأقدام الأولى للمسيحية... إن المسيحيين في الشرق مضطربون وضائعون بين واقع دعم السياسة الأميركية للحركات المتطرفة التي تحدد الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، والتساؤل حول إمكانية تغيير هذه السياسة التي تلحق الضرر ليس بالمسيحيين المشرقيين فقط بل بالمواطنين الأميركيين والمصالح الاميركية في العالم كله. إن تمدد هذه المظاهر إن لم يتم وقفها الآن في الشرق الأوسط فإنها ستصل بسرعة إلى أوروبا وبعدها إلى شواطىء أميركا، وعندها سيكون على أميركا التعاطي معها في قلب مجتمعها. لقد أظهرت استطلاع الرأي الاخيرة أن الأمريكيين قلقون بنسبة 56% من الاقتصاد بينما 26% قلقون من الإرهاب. إن هذه الأرقام قد تنقلب في الانتخابات المقبلة إذا وصلت موجات الكُرْه إلى شواطئكم. لقد حذرنا الغرب مراراً من جسامة الوضع وخطورة المشكلة"***
من يقرأ هذه الكلمات لا يشك في أن مسيحيي الشرق يواجهون خطر الفناء، فهم بين ذبح ونحر وقتل وخطف، بل إن كلمة جبران باسيل توحي بأن القوم يعقدون مؤتمراتهم في الشتات لعجزهم عن عقد أي منها في المشرق!
على أن جميع أجواء المؤتمر ترسم صورة أخرى تماما!!
فبخلاف الحاضرين من بطاركة الكنائس الشرقية حضر المؤتمر رؤساء أحزاب وفعاليات مسيحية من لبنان والأردن وسوريا والعراق وفلسطين ومصر ومن السويد وبلجيكا وإيران ودول أخرى، كما حضره عدد من الوزراء ورؤساء مجالس النواب وسفراء سابقين وحاليين من لبنان والعراق وفلسطين، بل وسفراء دول أجنبية مثل ألمانيا وفرنسا واليونان وروسيا، وحضره عدد من "رجال الدين الإسلامي"، بل وكان المؤتمر برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية الذي افتتحه وألقى كلمةً تَعَاطَفَ فيها مع مشكلات مسيحيي المشرق التي منها عدم "الفصل بين سلطة الدولة ومؤسساتها وأحكام الشريعة" وما يشوب "الحراك الشعبي من تطرف وعنف" و"تنامي الحركات الأصولية الرافضة للآخر"، كذلك وجه رئيس الحكومة اللبنانية رسالة رقيقة داعمة للمؤتمر.
وأما المكان الذي عُقِد فيه المؤتمر فهو مركز جديد لبطريركية الروم الكاثوليك في منطقة الربوة، تبرع بإنشائه سلطان عُمانوأما التوصيات فهي سماء، سماء لم تحلم بها أقلية في العالم، هذه بعض منها:
§ تشكيل اتحاد لمسيحيي المشرق، على أن يحظى بصفة مراقب في الأمم المتحدة والمجلس الدولي لحقوق الإنسان.
§ إنشاء مرصد يتولى رصد الانتهاكات التي يتعرض لها المسيحيون في المشرق.
§ استحداث آليات لدعم الوجود المسيحي المشرقي وزيادة فاعليته وبحث التفاصيل مع رؤساء الكنائس المشرقية.
§ تأسيس لجنة للمتابعة والاجتماع مرات متعددة سنوية.
§ إنشاء لجنة تأسيسية من الأمانة العامة للمؤتمر، واختير حبيب افرايم أمينا عاما لهاولقد اعتبر نائب رئيس المجلس النيابي (اللبناني) السابق إيلي الفرزلي أن "نجاح لقاء مسيحيي المشرق فوق المتوقع"، معتبرا أنه "أهم مؤتمر بسبب مستواه، ونوعية الوفود ومستواها، ودعوة الدول المشرقية"، وصرح أنهم بصدد "الإعداد لمؤتمر مسيحي مشرقي يجمع مسيحيي المشرق في الاغتراب"وكان إيلي الفرزلي مع حبيب افرايم مع جبران باسيل ضمن وفدٍ حمل الوثيقة المنبثقة من المؤتمر إلى رئيس قسم العلاقات الخارجية في كنيسة روسيا المطران إيلاريون، خلال لقاء في إيطاليا، وبعد اللقاء صرَّح المطران قائلا: "اكتشفت مرة جديدة هنا مدى صلابة المسيحيين الذين يرفعون الصوت عالياً للدفاع عن إيمانهم، وهم مستعدون للموت من أجله إذا تطلب الأمر"، "لن نسمح إطلاقاً بتصفية المسيحيين في هذه المنطقة، كما لا نوافق من يعتقد أن لا مستقبل للمسيحيين في الشرق، ونحن نعمل من أجل تثبيت المسيحيين وحمايتهم ليس في الشرق فحسب بل في العالم أجمع"ولم يفت الوفد المصري أن يرفع طلبات إلى المؤتمر كان منها:
1. تأييد "ثورة 30 يونيو" ومساندة مصر.
2. مطالبة العالم الحر بعدم التعاون ووقف المساعدات المالية والعسكرية للجماعات الإرهابية.
3. مساندة الشعب المسيحي ضد الهجمات الشرسة لجماعات الإسلام السياسي.
4. الدعوة إلى تقديم المساعدة السياسية والاقتصادية للمصريين حكومة وشعبا (!!) لمحاربة الإرهاب والتطرف لدى المنتمين إلى الاخوان المسلمين والتيار التكفيري ومحاولتهم تدمير الاقتصاد المصري.
5. إيجاد آلية لتعضيد القانون نحو القضاء علي الأعمال الإجرامية ضد المسيحيين في مصروإذن، فبينما توحي كلمات المؤتمر بأنهم أقلية يتهددها الفناء، تدل أجواء المؤتمر على أنهم أقوى وأهم وأسعد أقليات العالم: فالمشاركون منهم وزراء ومسؤلون ورؤساء أحزاب وفاعليات وهيئات (أي أنهم يتمتعون بنصيب من السلطة والنفوذ في بلدانهم)، وتُعْقَد مؤتمراتهم تحت الرعاية الرسمية وتشارك فيها الوفود الأجنبية بل وبعض الشخصيات الإسلامية الرسمية، في مكان تبرع لهم به حاكم عربي مسلم، وتحوطهم الحماية الدولية تتعهد أنها لن تسمح بتهديدهم، ثم تأتي توصياتهم لتكون بذرة لـ "تنظيم دولي" يدعم الشعوب المسيحية سياسيا وماليا وقانونيا، بل ويشكل جزءا من الرقابة على تلك الدول من خلال مقعد مراقب في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان!!!
أليس مدهشا أن تكون هذه أحلام أقلية تمثل 16 مليونا –لو أخذنا بتقديرات حبيب افرايم- بين 350 مليونا في العالم العربي، أي بنسبة 4.5%؟! وإذا أضفنا تعداد تركيا وإيران لنعرف نسبة نصارى "المشرق" لا العرب فقط، فستنخفض النسبة إلى 3% فقط!!
***
لم تنته مواطن الدهشة والذهول بعد، بل سنسوق إليك ثلاثة منها فقط:
1. العدو الحبيب.. والحبيب العدو!!
هؤلاء الذين امتلأ المؤتمر بحزنهم وحسرتهم على التهديد الوجودي الذي يعاني منه نصارى المشرق، إذا أخذت تفتش في كلامهم بحثا عن أرقام وإحصائيات (يقولون: أن نسبتهم كانت ربع السكان بداية القرن العشرين والآن وصلت إلى 6% فقط)، فإنك لن تجد تهجيرا إلا في بلدين اثنين: فلسطين والعراق!! أي أن الذين هجروهم ليسوا مسلمين أصلا، بل هي قوات الاحتلال: اليهودي الإسرائيلي والمسيحي الأمريكي.
لم يجد رئيس لبنان مثلا يضربه على تناقص أعداد المسيحيين إلا "الصراع العربي الإسرائيلي"، وهو لفظ لطيف ناعم لا يؤذي المشاعر الصهيونية كما ترى ويوزع مسؤولية الجريمة على الطرفين، في حين كان الوزير اللبناني جبران باسيل أكثر صراحة وهو يتكلم إلى النصارى الأمريكان في داخل كنيسة، فقال بصريح العبارة: "إن اعدادنا للأسف تناقصت في الخمسين سنة الماضية من 20% الى 8% في المشرق (وإلى أقل من 4% في الشرق الأوسط)، هذه الأرقام هي صاعقة في مهد المسيحية حيث انخفضت في القدس من 53% في عام 1922م الى 2% حالياً، ومن 85% في بيت لحم في 1948م إلى أقل من 12% حالياً"، وتشير تقارير أخرى إلى انخفاض عدد نصارى العراق من مليونين إلى نصف المليونلكنهم ما إن ينتهون من عرض هذه المأساة حتى ينصب هجومهم على الإسلاميين، والجماعات الإسلامية، والتطرف والأصولية، والإرهاب والتكفير... إلخ!! فيخرج المتابع بانطباع عام بأن التهجير إنما هو من أثر المذابح المنصوبة والمشانق المعقودة والسيوف المشهورة التي تقطف رقاب النصارى بيد الإسلاميين!!
ثم يتوجهون بنداء الاستغاثة إلى هذا الغرب لينقذهم من هذا المصير، هذا الغرب الذي إما جاء بنفسه في العراق أو اكتفى بالدعم والتأييد لما يحدث في فلسطين!!
وإنه مما لا يخفى من تاريخ الأمم، أن أقلية تبلغ 4% فقط لا تصمد عقودا، فضلا عن قرون طويلة، إذا ما أُرِيد التخلص منها وإفناؤها، ولعل النصارى أولى الناس بمعرفة ذلك، فقد فعلوه في إسبانيا وشرق أوروبا وروسيا حتى أفنوا المسلمين بالكلية من بلاد كثيرة. بينما يشهد حتى أعداء المسلمين بأنهم كانوا يملكون إفناء نصارى الشرق لو أرادوا لكنهم لم يفعلوا"لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي، ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها (فرديناند وإيزابيلا) دين الإسلام من إسبانيا، أو التي جعل بها (لويس الرابع عشر) المذهب البروتستانتي مذهبا يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة، وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالا تاما عن سائر العالم المسيحي، الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم باعتبارهم طوائف خارجة عن الدين، ولهذا فإن مجرد بقاء هذه الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما أقدمت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم"، "لقد كان من السهل على أي حاكم من حكام الإسلام الأقوياء أن يستأصل شأفة رعاياه المسيحيين، أو ينفيهم من بلادهم، كما فعل الإسبان بالعرب، والإنجليز باليهود مدة أربعة قرون تقريبا"2. الدين لنا، والقومية لنا ولهم
فكم شكى المؤتمرون من شيوع التعصب الديني، والحركات الأصولية، وكيف "اهتز الانتماء القومي" (كما جاء في كلمة الرئيس اللبناني) لحساب أفكار مثل الخلافة، وصار يُنادى بتطبيق الشريعة، وأسرف القوم في نقد هذا وفي التغزل بالعلمانية التي تحفظ المواطنة والمساواة والعدالة.
لكنهم في ذات اللحظة وبعد هذا الكلام بجملتيْن أو بسطريْن نجد حديثا لهم عن "نسبة مسيحية" في البرلمانات أو الوزارات أو المجالس والهيئات.
وهم بعد أن يعددوا مساوئ الدولة الدينية يطالبون بالحق في احترام "خصوصياتهم" الدينية والتعبدية والشعائرية، وهم إذ يفزعون من وجود هيئة دينية (إسلامية) تمثل ازدواجا في السلطة داخل الدولة وقد تؤدي إلى تأثير غير مأمون العواقب على الشباب الذي قد يتأثر بها فيتطرف.. هم إذ يفعلون ذلك يعبرون عن الامتنان للمجهودات التي يقوم بها المطارنة والآباء في الدفاع عن حقوق المسيحيين والسعي في حقوقهم، وقد أوقف المؤتمر للصلاة من أجل مطرانيْن مختطفيْن في سوريا وتلقى المؤتمرون تطمينات لبنانية وقطرية بالمساعي المبذولة لتحريرهما.
وهم بعد أن يتحدثوا عن خطورة وجود انتماء خارج الوطن لدى "المتطرفين والأصوليين" يعبرون عن الشكر والامتنان للدعم المادي والروحي الذي تتقدم به كنائس وهيئات في الشرق والغرب إذ هو دعم لازم وضروري لتعزيز الوجود المسيحي المشرقي وضمان مشاركته الفعالة في الحياة.
وبهذا تعرف أن المطلوب هو أن يلتزم المسلمون بانتمائهم القومي فلا يخرجون عن عبادة حدود سايكس بيكو، بينما من حقهم هم أن يتمتعوا بالآفاق الرحبة للقومية (بالمشاركة في كل شيء تحت عنوان المواطنة) وللدين (في التواصل مع الخارج والداخل وإنشاء كيانات عابرة للحدود وتلقي الأموال والدعم من إخوان الدين).
3. لبنان.. الفردوس المنشود
وهذه هي الخلاصة النهائية، إذ هذا النموذج المطلوب للتمتع بالقومية والدين في مقابل حصر المسلمين في القومية وحدها إنما يساوي النموذج اللبناني.
ولقد كثر في كلمات المؤتمرين، الإشادة بنموذج لبنان والتغزل فيه، والقوم يصرحون بأنه النموذج المطلوب تعميمه، ويمكن للقارئ أن يعود إلى أرشيف الكلمات والتقارير الإخبارية المصورة والمكتوبة ليرى أن لبنان صار بالنسبة لنصارى المشرق "الفردوس المنشود"!
وهنا يكمن خطر غير محدود، فإذا نظرت إلى لبنان من أي منظور استراتيجي تراها دولة ضعيفة متهافتة متهالكة مضطربة، ليست لها لا قوة عسكرية ولا اقتصادية ولا لها وزن سياسي في المحيط الإقليمي، بل هي بحق نموذج لدولة الطوائف المسلحة المخترقة أمنيا حتى لهي واحدة من أكثر مناطق العالم أمانا لرجال المخابرات، بوسع كل دولة أن تؤثر في أحوالها ببعض الأموال والمشروعات، ليس فيها نظام سياسي مستقر، بل بوسع طائفة أو بعض طائفة أن تعطل تشكيل الحكومة، بل كل طائفة تستقوي بالخارج ضد الطائفة الأخرى حتى إن البلد كله مجرد واجهة لصراعات الأقوياء ومسرحا لتنفيذها بالوكالة، جيشها مُصَمَّم لتنفيذ عمليات خاصة ولمكافحة الإرهاب ولا طاقة له بصد احتلال رغم أن الحدود الجنوبية يفترض أنها ما زالت محتلة بيد عدو!!
فإذا كان هذا هو الحلم فكيف يكون الكابوس؟!
وإذا كان هذا هو الفردوس فماذا يكون الجحيم؟!!
نشر في مجلة البيان السعودية، صفر 1435 هـ = ديسمبر 2013م
موقع الأقباط متحدون، بتاريخ 7/11/2013م. لن نناقش الآن مزاعم الأعداد هذه، وسنتقبل -في هذا المقال- هذه الأرقام على سبيل الجدال. تقرير مصور أذيع على قناة تلي لوميار المسيحية بتاريخ 11/10/2013م. نص الكلمة منشورة على صفحة الوزير بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، بتاريخ 30/9/2012، وألقيت قبل هذا التاريخ بيومين. مقال الأب رفعت بدر، الكاهن في بطريركية القدس اللاتين، ورئيس تحرير "الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة"، صحيفة الرأي الأردنية بتاريخ 31/10/2013م. مقال مدحت قلادة، وتقرير صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 27/10/2013م، وتقرير صحيفة الصنارة الفلسطينية المسيحية 1/11/2013م. صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 4/11/2013م. صحيفة النهار اللبنانية بتاريخ 12/11/2013م. نشرت الوثيقة المصورة في العديد من المواقع القبطية، وهي صادرة عن "هيئة الأقباط العامة في مصر". تقرير صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 27/10/2013م، تقرير الجزيرة نت 26/10/2013م، كلمة جبران باسيل السابق ذكرها. برنارد لويس: السياسة والحرب ص228 (ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث). توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص228، 464.
Published on December 05, 2013 12:34
December 2, 2013
من ابن خلدون إلى ابن مخيون
من بدائع ما كتبه العلامة الكبير حكيم التاريخ ابن خلدون، تفسيره لقوة المجتمع، يسميه "بأس الناس"، وخلاصة قوله أن البدو، هم أكثر الناس بأسا ومَنَعة، وأنفة وعزة، لا يقبلون الذل، بخلاف أهل الحضر الذين فقدوا هذه الطباع لوقوعهم تحت سلطة حاكمة، فلأن البدوي يعيش حياة قاسية فهو يقوم بأمر نفسه، فهو أكثر صبرا وجلدا وتحملا، وهو أكثر تيقظا وانتباها للمخاطر والعاديات، بينما يتعود أهل الحواضر على الاتكال على السلطة في الحماية من الأعداء وفي الفصل في القضاء وفي غير ذلك من الأمور.
هذه السلطة لها ثلاث حالات:
1. أن تكون سلطة رفيقة عادلة، فحينئذ يشيع في أهل الحواضر العزة ويتمتعون بمزايا الحرية وطباع الإنسانية.
2. أن تكون سلطة قهر وسطوة، فحينئذ تنكسر نفوس أهل الحواضر ويعانون الخوف والحذر، وتضعف قوتهم "لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة".
3. أن تكون سلطة عنف وقتل، فحينئذ يشيع فيهم الذل والعبودية.
ثم يلفت ابن خلدون النظر إلى سلطة أخرى غير سلطة الحكام، وهي سلطة المشايخ والمؤدبين، فيذكر أنه حتى البدوي الذي يتلقى تأديبا منذ الصغر ينكسر بأسه البدوي ويشب متعودا على الانقياد ومستسلما لتلقي العقوبة لما درج عليه من مجالس الشيوخ ذات الهيبة وما قد يكون فيها من التأديب. يقول:
"ونجد أيضا الذين يُعانون الأحكام (السلطة) وملكتها من لدن مَرْبَاهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه، وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة، فيهم هذه الاحوال وذهابها بالمنعة والبأس".
ويردُّ ابن خلدون عن تساؤل: فلماذا إذن لم يذهب بأس الصحابة رغم أنهم تأدبوا وتعلموا الدين وأخذوا العلم عن النبي؟ فيقول: لأنهم لم يأخذوا الدين كما يأخذه الناس بالتأديب والتعليم الذي هو مهنة وصنعة، بل تلقوه وهم أحرار النفس مقبلون عليه متحركون إليه فلم تنكسر نفوسهم، أو بتعبيره "كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تُلِي عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا، يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سَوْرَة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم".
وهكذا تجد أن ذهاب البأس له طريقتان: طريقة القهر والعنف التي تكون من السلطة الحاكمة، وطريقة الانقياد والخضوع التي تكون من النفس تجاه شيخها منذ الصغر، فتعتاد الانقياد والخضوع، وتستنكر المخالفة والجسارة أمامه.
فإذا اجتمعت الطريقتان على الشخص الواحد فأنت أمام نموذج شخص مقهور بعنف السلطة وسوطها، ثم هو مقهور لشيخ يمارس عليه ذلك السلطان العلمي.. فإذا كان الشيخ مقهورا للسلطة ساعيا في رضاها فأنت أمام نموذج مسكين من الشباب.. شباب قد ذهبت طاقة نفسه تماما لكنه يحب أن يقنع نفسه أن ذلك ليس ضعفا ولا جبنا، وإنما هو اتباع للعلماء.. فهم أكثر علما بالشرع وبالواقع وأقدر على الاجتهاد والنظر الكلي والجزئي، وهم قد كفونا مؤونة التفكير والتعب.
فإذا جاء من ينغص عليه حياته بالمناقشة صاح في وجهه "لحوم العلماء مسمومة، احفظ قدرك، تأدب مع العلماء، هل أنت أعلم منهم ... إلخ".
ولا تأمل في أن يستفيق من التناقضات أو كثرة التأويلات والاجتهادات والتراجعات، فالأمر ليس موقفا عقليا بل هو موقف نفسي، إنه الجنين الملتصق بأمه، فأينما توجهت به كان راضيا.
ولقد كان الصوفية صرحاء مع أنفسهم في هذا الأمر، فهم مستسلمون للسلاطين، يشترطون أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل، وها هو علي جمعة يملأ قلوب مريديه بأخبار الوالي الذي إن رأيته يزني فلا تصدق عينيك، أو لربما زنى وظلت كراماته الربانية لا تفارقه!
ومثلهم فعل الجامية المدخلية من السلفيين! فقد وضعوا أنفسهم في خدمة السلاطين، حتى قال قائلهم، لو تغلب شنودة على البلاد لسمعنا له وأطعنا ورأينا فيه ولي أمر!!
ثم جاءتنا الثورة وأمواجها، والانقلاب ومذابحه بطائفة أخرى.. طائفة حزب النور، زعيمه برهامي ورئيسه يونس بن مخيون!!
ولله الأمر من قبل ومن بعد!
Published on December 02, 2013 11:13
November 25, 2013
الجهاد والحضارة
يحلم الإنسان بالراحة والسعادة..
ولذا فهو يجتهد في تحصيل أسبابها، يسعى إلى المال لأن ذلك هو ما سيوفر له السفر، والجلوس على المقعد الوثير في المنزل الفسيح المطل على حمام السباحة، حين يأتي له الخادم بكوب العصير اللذيذ..
يحلم الإنسان -الأسمى نفسا- ألا يكون له أعداء، فيعيش في سلام نفسي مع كل الناس، حتى لو كانت الخلافات حتمية لأسباب كثيرة، فهو يتمنى أن تدار هذه الخلافات بما لا ينقلها لمرحلة العداء والمشاكسات وأخلاق الغدر والخيانة..
يحلم الإنسان -الأسمى أكثر- ألا يكون بين الناس صراعات تدور لأن أحدهم أناني أراد الاستئثار بالثروة أو بالسلطة بينما يعيش الآخر فقير أو ذليلا، ويتمنى أن تتخلص النفوس من الأنانية والأثرة وأن تكون أكثر رحمة وشفقة وإيثارا..
يحلم الإنسان -الأسمى أكثر وأكثر- ألا يكون في العالم حروب ونزاعات ومعارك على الأراضي والموارد، ويزعجه أن بعض البشر لا يتردد في ارتكاب مذابح هائلة وحروبا مدمرة تهلك فيها آلاف وملايين النفوس من أجل تحسين موقع نفوذه وسطوته على العالم أو لحيازة موارد أخرى من مزارع وسواحل وآبار نفط ومواد خام..
***
لكن المثير للتأمل أن كل هؤلاء البشر لم يحقق واحد منهم حلمه، رغم نبل نفوسهم ومثالية أحلامهم وروعة أفكارهم..
فالذي كان يحلم بالسعادة في الغنى لم يجدها، وهو حتى وإن جلس على الكرسي الوثير أمام حمام السباحة وأخذ في ارتشاف العصير المثلج فإنه لم يحقق ذلك الشعور الذي ظن أن سيغزوه حين تخيل هذا المشهد.. شعور الرضا والراحة!
فلقد كان في تلك اللحظة يخوض الصراع العقلي النفسي الطويل في تدبير الصفقة القادمة، والنجاة من الشريك المنافس، وتسديد ضربة للخصم، وكيفية إدارة العلاقة مع فلان الذي هو مضطر للتعامل معه ولكن لا يتحمل طباعه.. كان الرجل غارقا في التفكير القلق حول تثبيت ما حصل عليه ثم إنمائه وتوسيعه ثم الحفاظ عليه من المنافسين والخصوم.
هذا هو مصير أبسط الأحلام "السعادة الشخصية".. أما أحلام السلام النفسي مع الناس، والجنة الوطنية، والجنة الأرضية، فهي لم تتحقق أبدا.. وكل من حلموا ماتوا على طريق "الكفاح" دون أن يروا آثار حلمهم.
ثمرة التاريخ أنه يحكم على الأفكار.. فمهما بدت الفكرة نبيلة وأخلاقية ومتماسكة منطقيا فهذا لا يعني للأسف أنها صالحة للتطبيق، الواقع مختلف..
وبالنظر إلى التاريخ نجد أنه وباستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945م، ظهر أنه: نشبت 34531 حربا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلا لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقطيمكن للإنسان أن يحلم بعصر تنتهي فيه الحروب ويسود السلام، لكن واقعه الصغير لم يسعفه أبدا، كما أن التاريخ الطويل يثبت أنه مجرد إنسان.. يحلم!!
***
أين تكمن المشكلة إذن؟
تكمن -ببساطة- في هذا "التصور المادي" للحياة، التصور الذي يريد أن يرى الجنة على الأرض، التصور الذي بحث منذ قديم الزمان عن "المدينة الفاضلة".. التصور الذي لا يريد أن يؤمن بأن الدنيا "دار ممر، لا دار مقرّ"..
وهذه ليست دروشة (وإن من آثار المادية التي اجتاحت عالمنا في عصور الاستعمار وما بعده أن تعتبر كل كلمة دينية في مقال فكري أو سياسي نوعا من الدروشة والسطحية) وإنما هي النتيجة التي ينتهي إليها حتى التفكير المادي.. هل تعلم أن نماذج المدينة الفاضلة التي تصورها الفلاسفة والمفكرون عبر التاريخ إنما تنتهي إلى أن تكون مجتمعات عسكرية صارمة؟!!في كتابها المهم "المدينة الفاضلة عبر التاريخ"، تقول الباحثة الإيطالية، ماري لويزا برنيري -بعد رحلتها في بحث كل تصورات المدينة الفاضلة- بأن هذا يعود لعدد من الأسباب أهمها أن الفلاسفة بدلا من أن يحاولوا "اكتشاف قوانين الطبيعة فضَّلوا أن يخترعوها"، فلذلك رسموا في أذهانهم صورة للإنسان "المنشود" لتفكيره وطباعه وسلوكه، وللنظام "المنشود" سياسته واقتصاده واجتماعه، فأسسوا بذلك لـ "نظام ساكن ونهائي"، وما دام كذلك فهو لا يسمح حتى لمواطني المدينة الفاضلة بالكفاح لجعله أفضل من هذا!ومن المعروف أن كل تصورات المدينة الفاضلة فشلت، سواء منها ما سعى إلى تطبيق نفسه أو ذلك الذي بدأ في الخيال وانتهى فيه.
نحتاج إذن أن نفهم أن الجنة ليست على هذه الأرض! ونفهم بأن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وأنها كفاح لا استقرار، وعمل لا سكون!
أليس من المثير للتأمل أن الإنسان الذي حقق الغنى وجلس على الكرسي الوثير أمام حمام السباحة إذا سُئل عن سعادته لم يذكر هذه الجلسة بل طفق يتحدث عن "كفاحه" حتى وصل هنا؟
أليس من المدهش أن لحظات الفخر للأمم هي التي كانت فيها "تكافح، تحارب، تناضل" في سبيل "بناء" المجد لا فيما وصلت إليه الآن من "مجد" فعلي؟ ثم أليس لكل أمة حتى وهي في لحظة المجد كفاح آخر لتحقق به مجدا آخر؟!
لماذا تعظم الأمم جميعا شأن أبطالها المحاربين؟!
لا بأس أن ترى أن كل هذا كان خطئا، وأن البشرية ينبغي أن تفكر بطريقة أخرى وتسلك طريقا آخر.. لا بأس، إن لم يقنعك التاريخ الطويل فيمكنك أن تفني عمرك في محاولة أخرى!!!
ونعم، سيُفني الماديون أعمارهم في محاولة ومحاولات أخرى، فمن متلازمات الفكر المادي الاعتقاد بأنه كما تطور القرد إلى إنسان فإنه من المأمول أن يتطور الإنسان إلى "كائن أفضل".. وأن التاريخ ليس إلا خط الزمن الماضي لكنه لا يؤشر أبدا إلى "حقيقة وجودية" (أو: سنة كونية).
الفارق بين الماديين وأهل الدين لا يمكن ردمه..
***
وحيث وصلنا إلى نقطة أن السعادة في العمل لا في الخمول، وأن المجد في الكفاح لا في الرفاهية، وأن الدنيا بطبيعتها ليست الجنة المنشودة ولن تكون (لقد خلقنا الإنسان في كبد).. فإنه ينبغي علينا أن نفكر في طريق آخر:
هنا سيأتي الدين!
الدين يطرح تصورا عن أصل الإنسان، ما ينبغي عليه أن يفعل، جزاؤه الذي سيلقاه في الحياة الأخرى وليس على هذه الدنيا.
ولذلك، فبينما يتصور الماديون أن البشرية تحتاج (وتسير في طريق) أن تكتشف السبيل لإقامة الجنة على الأرض، يرى أهل الدين أن البشرية تعيش صراعا دائما بين "الحق" و"الباطل"، وأن اتباع الحق كفيل بإصلاح البشرية وتحقيق النهضة والرخاء والراحة والسعادة والرفاه المادي لكن المعركة مع الباطل تستلزم الكفاح الدائب الطويل!
أهل الدين يرون من يسقط في طريق الكفاح فهو في أسمى المنازل في الدنيا والآخرة (نموذج الشهيد)، بينما يحتم الفكر المادي اعتبار من يسقط "خسارة" في الطريق، وإن تعظيم من سقطوا في طريق الكفاح هو في عمقه أثر ديني لا مادي وقِيَمي لا عملي، فبالمقياس المادي: هذا أتعب نفسه في كفاح ولم يصل إلى الغاية، وما هو تعريف الخسائر إن لم يكن هذا التعريف؟!!
يذكرنا هنتنجتون في كتابه الشهير بقاعدة من قواعد التاريخ "الحضارات الكبرى قامت على الأديان"، لعل هذا يفسر لك لماذا نجحت الأديان "في الدنيا" رغم أنها تتطلع إلى الآخرة بينما فشلت المادية في الدنيا رغم أن الدنيا كل قضيتها (وفشلت في الآخرة طبعا).
وبنظرة عابرة سريعة سنكتشف أن الدول التي ليس لها "دين، فكرة، رسالة... إلخ" تعيش على هامش الحياة مهما كانت متقدمة ماديا وصناعيا واقتصاديا، وهي إن برزت يوما على سطح الحياة فلا تلبث أن تنتهي قبل أن تُكْمِل القرن أو نصف القرن، وهذا زمن لا يُقاس في عمر الحضارات.
***
فإذا وصلنا إلى أن السعادة هي ذاتها رحلة الكفاح والجهاد، وأن السعيد حقا هو صاحب الكفاح والجهاد، وأن مشهد الراحة الأخير هذا ليس إلا "ثمرة سعيدة" لرحلة جهاد طويلة..
وإذا وصلنا إلى أن الأمم التي لا رسالة لها تجاهد من أجلها، هي في أحسن الأحوال أمم تابعة لا وزن لها، وغالبا ما تكون ذليلة لا رأي لها، وكثيرا ما تكون مقهورة من غيرها أو مرشحة لأن تكون مقهورة..
إذا وصلنا هنا، علمنا أن الجهاد سر الحياة، وأنه لا حضارة بلا جهاد.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ = 1986م. ص19. علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: د. محمد يوسف عدس، مؤسسة بافاريا، ميونخ، ألمانيا، الطبعة الثانية، 1997م. ص239 وما بعدها، 246، 249. ماري لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة: د. عطيات أبو السعود، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 225، سبتمبر 1997م. ص19 وما بعدها.
Published on November 25, 2013 06:52