محمد إلهامي's Blog, page 74

April 10, 2014

مغالطات التغريبيين في مسألة "الحرية"




يقدم الغرب نفسه على أنه أرض الحرية (في داخله) وراعيها وحامل لوائها والمدافع عنها (في كل العالم)، وكذلك يراه التغريبيون من بني قومنا، فلئن صحَّ أن الغرب يرى نفسه كذلك عن حق أو عن باطل فهل يصح أن يراه قوم مسلمون كذلك؟!
لقد اضطر التغريبيون في بلادنا إلى اعتماد مغالطات منهجية عديدة في سبيل نشر هذه الفكرة، هذه السطور عرض لأهمها:
(1) التعميم والتخصيص
إذا أُطلقت كلمة "الحرية" شملت أربع معانٍ: حرية النفس، حرية الفكر والاعتقاد، حرية الأخلاق، الحرية السياسية.
الأولى لم تعد موضع نقاش في عصرنا هذا إذ لم يعد ثمة عبيد بمعنى امتلاك بشر لبشر آخرين، الثانية ليس فيها موضع نزاع بيننا وبينهم إلا في موضوع حرية الكفر والارتداد ونشر قيم تناقض الإسلام، الثالثة موضع النزاع فيها كبير والتناقض فيها ظاهر إذ ليست تقبل مجتمعاتنا الإسلامية الانفلات الأخلاقي والإباحية التي وصل إليها الغرب ولا حتى واحدا على الألف منها، والرابعة هي التي يمثل فيها الغرب نموذجا مغريا إذ أن كل نفس شريفة تتوق إلى التخلص من الاستبداد والطغيان وتحب أن يكون لها الحق في اختيار من يحكمها ومراقبته وعزله إن لزم الأمر.
ومن هنا تأتي المغالطة الكبرى: تمييع المساحات بين هذه المعاني الأربع، وتقديم الحرية –بمعناها السياسي المضاد للاستبداد- كرأس حربة لتسويق كل المعاني الأخرى: حرية الكفر والارتداد ونشر ما يناقض الإسلام من أفكار وسلوك وانفلات أخلاقي، وكانوا من انعدام الحياء بحيث كرروا أنه لن نصل إلى التقدم الغربي في العلم وفي السياسة إلا إن اعتنقنا وأنفذنا في عالمنا حرية الكفر والارتداد والإباحية وسائر ما يناقض ديننا الذي تحول –في كلامهم- إلى "تراث ينبغي التخلص منه ونبذه"، وهذا المعنى مما يتفقون عليه في الجملة وإن صاغه كل واحد منهم بحسب جرأته والبيئة من حوله.
وأعظم دليل على هذا أن كافة النخب المتغربة في بلادنا الإسلامية إنما نشأت تحت رعاية الاستبداد في بلادنا، ولم تقف يوما مع حرية الشعوب بل كانت في ركاب المستبد على طول الخط، وقد مكَّنها المستبدون من منافذ الثقافة والتوجيه والنشر حتى صاروا مع الاستبداد كيانا واحدا أو على الأقل حلفا واحدا.
ومع ذلك فما زالوا يتغزلون في الغرب ويتحدثون عن الحرية!!
(2) اللحظة والتاريخ
فإذا قصرنا الحديث عن المعاني المحمودة التي يتفق عليها الناس من كلمة "الحرية"، فنحن بإزاء مغالطة أخرى، إذ التغريبيون في بلادنا يعتمدون مقارنة عجيبة بين اللحظة الغربية الحاضرة وبين التاريخ الإسلامي الطويل، فلا هي مقارنة اللحظة الحاضرة في الغربي وبلاد المسلمين ولا هي مقارنة التاريخ الإسلامي بالتاريخ الغربي.
وكيف يفعلون؟! ولو فعلوا لكانت فضيحة! إذ من الثابت المعروف أن تاريخ الغرب في باب الحريات من أسوأ التواريخ، في ذات اللحظة التي ضرب فيها المسلمون نموذجا فذا تعلم منه الغربيون، تقول كارين أرمسترونج: "كان المسلمون يسمحون للمسيحيين، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان معظم أهل إسبانيا يعتزون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقا يقاس بالسنين الضوئية"ولم يكن من ملجأ يومئذ للمضطهدين في الغرب إلا في بلاد المسلمين، لا سيما الدولة العثمانية التي احتضنت الفارين من الاضطهاد والحروب الدينية الأوروبية، بل كان التيار الجارف بين الشعوب الأوروبية هو تفضيل الحكم العثماني المسلم على الأوروبي، يقول توماس أرنولد بأن "أصحاب "كالفن  Calvin  في المجر وترانسلفانيا، وأصحاب مذهب التوحيد من المسيحيين الذين كانوا في ترانسلفانيا، طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج المتعصبة، ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة، وتمنوا بسرور أن يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي، وحدث أن هرب اليهود الإسبانيون المضطهدون في جموع هائلة، فلم يلجئوا إلا إلى تركيا في نهاية القرن الخامس عشر، كذلك نرى القوزاق الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء -الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية- قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية"إذا قارنَّا التاريخ بالتاريخ فالنتيجة محسومة، إذ الحرية في الغرب عمرها قصير، ثم هي بعد ذلك مقصورة على مواطنيهم أو بعض مواطنيهم بينما الوجه الغربي البشع بادٍ في كل مكان احتله الغربيون أو ما زالوا يحتلونه ويهيمنون عليه.
بل إنه حتى لو قارنَّا اللحظة الحاضرة بين الغرب وبلاد الإسلام فلن يكون الغرب بريئا مما صارت إليه أحوال المسلمين، فالغرب كان وما يزال صاحب مرحلة الاحتلال البغيضة التي تخلفت فيها الأمة، ثم لم يخرج بجسده حتى كان قد مهّد ومكن في بلادنا لعملائه المستبدين الذين ما يزال يرعاهم ويحوطهم، ثم هو المتآمر على الثورات الشعبية العامل على إفسادها، فلئن كانت ثمة مقارنة ستميل إلى صالح الغرب فهي في أحد وجوهها مقارنة بين الوجهين الغربيين: الوجه البشع في بلادنا والوجه المتزين في بلادهم.
(3) النظرية والواقع
القارئ لليبراليين العرب يجد فيضا من أسماء الفلاسفة الغربيين حتى ليبدو كل منهم حريصا على استعراض مهارته في سرد أكبر عدد ممكن من الأسماء التي يوحي بأنه هضم أفكارهم وفلسفاتهم، وهذا المشهد يمثل تكرارا للشيوعين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويتفق المشهدان في الغزل المستمر لهذه الأفكار.
لكنهم لا يخرجون من مقارنة هذه النظريات لمقارنتها بـ "النظريات" الإسلامية الواردة في نصوص الكتاب والسنة والتراث الفقهي والأصولي الإسلامي، بل يهرعون إلى مقارنة ذلك بـ "الواقع" الإسلامي، سواء من التاريخ أو الحاضر، فيتحدثون عن الخليفة الذي كان همه السيف والخليفة الذي كان همه النساء والخليفة الذي كان يعذب أعداءه ويقطعهم... إلخ، ودعك الآن من أن كثيرا من الوقائع التي يتحدثون عنها غير ثابتة تاريخيا أو يأخذونها من كتب الأدب والأقاصيص والأهازيج، إنما المهم الذي نناقشة الآن هو هذه المنهجية في مقارنة "النظريات" بـ "الوقائع"، فلا هي مقارنة نظريات بنظريات ولا مقارنة وقائع بوقائع.
ولأن الغرض مرض فهم لا يتوقفون كثيرا أمام نظريات غربية ترسخ العبودية وتجعلها حتمية إنسانية، رغم أنها نظريات قال بها "الآباء المؤسسون الكبار" للثقافة الغربية مثل أفلاطون وتوماس مور (وهما أشهر اسمين في نظريات "المدينة الفاضلة") بينما يتوقفون طويلا ويستنكرون طويلا "سماح" الإسلام بوجود عبيد، وهو فارق دقيق وضخم لم يفهمه التغريبيون في بلادنا بينما فهمه بعض الغربيين مثل الخبير والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا الذي يقرر أن القاعدة في الشريعة هي الحرية وأنه قد ترتب على هذا أمور كثيرة منها أن اللقيط المجهول أصله ترجح حريته على عبوديته، وأن المشكوك في حريته لا يجبر على إثبات حريته حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم، وأن حالة الحرية ترجح عند وجود الشك، وأنه لا يجوز لمن كان حرا أن يبيع حريته أو يساوم عليها، والحر الذي يرغب في العبودية لا يُقَرّ على هذا، ثم قال: "وقد بشر الإسلام بهذه المساواة في وقت لم يعرف عنها العالم المسيحي شيئا"، وفي نهاية بحثه شهد شهادة منصف فقال: "المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"إنه لابد من مساحة بين النظرية والتطبيق، تلك حقيقة يفرضها مثالية التفكير وبشرية التطبيق، فالمقارنة تصح بين نظرية وأخرى أو بين تطبيق وآخر، وحتى لو شئنا أن نقارن بين "مستوى النجاح في تطبيق النظرية" فسنجد أنفسنا إزاء حقيقة صادمة لهم، ذلك أن الإسلام اشتمل على عصور ذهبية كانت فيه النظرية أقرب شيء إلى الواقع كعهد النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة وعديد من الخلفاء الصالحين، بينما لم ينجح تصور واحد من تصورات المدينة الفاضلة في الغرب كما تقرر الباحثة الإيطالية ماري لويزا برنيري بعد دراسة مطولة ومهمة في كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ".
***
ما تزال ثم مغالطات أخرى غير هذه الثلاث لكن المقام ضاق عن إيرادها، فلعلنا نستكملها في حديث قادم إن شاء الله.
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، إبريل 2014، جمادى الآخرة 1435
كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد، ص32. توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص181، 182. دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، ص417، 432، 439.
2 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on April 10, 2014 18:00

April 5, 2014

هل يسعنا ترك المقاومة؟





محمد إلهامييبدو الفارق واضحا بين سواعد الثوار وبين الآلة العسكرية الوحشية المدعومة أوروبيا وأمريكيا وإسرائيليا، وهذا ما يدفع بعض الناس إلى الدعوة للاستسلام وترك المقاومة لما تسببه من نزيف خسائر مستمر في الأرواح والأموال بغير أثر ظاهر ونكاية ملموسة في الخصوم.
بينما يرى الآخرون –وأنا منهم- أنه ينبغي رفع مستوى المقاومة لتشمل المواجهة العنيفة التي توقع النكاية في العدو، والحجة في ذلك أن الفارق في القوة العسكرية تعوضه فوارق أخرى في قوة الإرادة واختلاف الأهداف (فهدفهم السيطرة وهدفنا استنزافهم) فضلا عن أن كل حركة مقاومة بدأت في ظل ميزان قوى منهار، سواء منها ما نجح أو ما لم ينجح.. وعلينا سلوك سبيل من نجحوا ودراسة التجارب السابقة، والتي اختط بعضها لنفسه قواعد جديدة في العلوم العسكرية، ففيتنام مثلا أقرت قاعدة "كيف تخسر كل الجولات ثم تكسب المعركة" فيما خرج الأمريكي يجر أذيال الهزيمة ويعلن على الشاشات "إعلان النصر والانسحاب من فيتنام" ويحمل على رأسه راية مكتوب عليها "كيف تكسب كل الجولات ثم تخسر المعركة"!
يرد إخواننا: ليس المطلوب تطليق المقاومة كلها بل إيقافها مؤقتا لحين تهيؤ ظروف أفضل لها ثم استئنافها لتكون أنجع وأفضل.
وإلى هؤلاء كتبتُ هذه السطور.
***
أولا: اللحظة الفارقة
إن الدقيقة في ليلة الامتحان تساوي الدقيقة بعد انتهاء الامتحان، تساويها زمنيا فقط! أما المذاكرة في دقيقة ليلة الامتحان قد تساوي سنة كاملة بتحصيل معلومة تثمر نجاحا، بينما ساعات ما بعد الامتحان كلها لا تساوي شيئا.. تماما كالتوبة في لحظة ما قبل الغرغرة تلك التي يقبها الله فينجو بها الإنسان من النار، لا تساويها كل اللحظات فيما بعد تلك اللحظة التي قد أغلق فيها باب التوبة، وعاين الإنسان من أمر الآخرة ما لا ينفع معه إيمان!
اللحظة هي اللحظة في عمر الزمن، ولكن ثمرة الفعل في كلا اللحظتين لا سبيل إلى المقارنة بينهما.
وأيا ما كان خلافنا في تحديد لحظة تخلفنا، أهي منذ فساد حكم المماليك أو فساد حكم العثمانيين أو زمن الاحتلال.. فنحن أصحاب تجربة تاريخية طويلة تمكننا من إدراك عدد من اللحظات الفارقة التي لما ضاعت منا تخلفنا بها قرونا لا مجرد سنوات.
فمثلا: كان المسلمون أول من اكتشف الأمريكتين، وعند المسلمين رسمت أول الخرائط المعروفة لهذه البلاد الشاسعة الغنية بالذهب والزروع، لكن أول من استولى عليها هم الغربيون، على ضوء خرائطنا الجغرافية وأجهزة ملاحتنا البحرية –سواء بطريق مباشر، أو غير مباشر عبر إيطاليا التي ورثت إرث المسلمين في الأندلس وصقلية والشرق- فكان ماذا؟ كان أن انفتحت الأموال والمساحات الشاسعة وتدفق نهر الذهب لأعدائنا الذين لم يكتفوا بذلك بل والتفوا حول إفريقيا ينهبونها ثم يواصلون المسير حولها فيستولون على خيرات بلاد الجنوب والشرق الأقصى، وأسوأ من هذا كله أنهم قطعوا خطوط التجارة الواصلة بقلب العالم الإسلامي فكانت ضربة اقتصادية فوق الضربة العسكرية التي تحولت بدورها إلى ضربات اقتصادية تمهد لضربات عسكرية حتى تم الاستيلاء على العالم الإسلامي ولم ينفع صمود العثمانيين لثلاثة قرون.
لو تخيلنا في تلك اللحظة –أول القرن السادس عشر الميلادي- أن سلطة إسلامية استفادت بالإرث العلمي فتم لها فتح الأمريكتين واستطاعت إنشاء أساطيل تحمي الممالك الإسلامية في إفريقيا وآسيا.. لكان قد تغير التاريخ كله، اقتصادا وثقافة وعسكرية.. لكن البلاد الإسلامية التي حكمها العسكر آنذاك لم تفكر في هذا رغم أنه تحت أيديها، وكان منتهى آمالهم تثبيت أنفسهم على عروشهم واجتناء الأموال من رعاياهم ثم لم يستطيعوا صد عادية أعدائهم فأُخذت منهم بلادهم.
ومثلا: لما دخل العالم لحظة الثورة الصناعية لم نكن في عالم العرب نفتقد العلم الذي كان عندهم، بل هو –كما قال الجبرتي- نفتقد من يخرجه من الطاقة إلى الفعل، وهي "إرادة السلطة"، ولذلك تسارع الفارق بيننا وبين الغربيين حتى لم تعد أساطيل العثمانيين تستطيع الصمود أمام الأسلحة الغربية التي تتطور كل يوم، وانتقلت من الدولة العثمانية المرهوبة إلى "الرجل المريض" الذي كان الغربيون يبقون عليه مريضا ولا يريدون الإجهاز عليه حتى لا يختلفوا حول تركته –كما قال هاملتون سيمور سفير الإنجليز للقيصر الروسي نقولا- وتنشب بينهم الحروب الهادرة، فلما حكمت بينهم الحرب العالمية الأولى واتفقوا في سايكس بيكو، أجهزوا عليها وأسقطوا الخلافة.
ومثلا: لما تطورت الصناعات فأثمر تطورها تغيرا كبيرا في أشكال الزراعة والتجارة والعمارة والحرب، مما جعل التقدم منوطا بالسلطة بأكثر مما كان قبل ذلك، ومن بعد ما كان المجتمع يستطيع إنشاء نهضة ولو فسدت السلطة لم يعد مجتمع يستطيع إنشاء نهضة إلا في ظل السلطة، لقد صار الأمر أكبر من قدرة الأفراد، صار لا يمكن مجاراة التقدم إلا من موقع السلطة التي لا بد لها ليس فقط إنشاء المصانع الضخمة بل وإنشاء المدارس لتعليم الصناعات وفرض أنظمة بعينها في الزراعات لتوفير الهدر في المياه... إلى آخر التطورات التي جعلت العالم يتحول إلى "الدولة المركزية" بعد أن عاش في عصور "الإقطاع" أو "السلطة الإشرافية".
لما حدث كل هذا، لم يكن أمام الحكام في بلاد العرب والمسلمين –مهما قلنا في سوءهم- إلا النموذج الغربي ليستوردوا منه، ليس ثمة نموذج آخر لمن أراد أن يجاري هذا التقدم، لم يكن أمام العثمانيين إلا الأخذ بنظام الجيوش الأوروبية لكي يحاولوا إنقاذ جيشهم، ولم يكن محمد علي ليجد إلا فرنسا يرسل إليها البعوث ويستقدم منها الخبراء.. وإذا كنا الآن نلعن الاقتباس والاستقدام والبعوث وما صاحبهم من مساوئ –وهذا حق- فينبغي ألا ننسى تلك الضرورة القائمة التي تبدو في تفاصيل التاريخ لتلك المراحل، لقد كانت الدولة المركزية إنقاذا للناس من سلطة الزعامات والمشيخات التي تظلم الناس بغير الحق، وكان اللجوء إلى أوروبا ضرورة لمحاولة تغطية الفجوة العلمية.
والسؤال لماذا حدث هذا؟
والجواب ببساطة لأن التطور الغربي سار طبيعيا فأنتج نموذجه، بينما ظل التخلف في العالم الإسلامي يواصل مسيرته، ولم يجد من أراد النهوض من يقدم له النموذج الإسلامي لدولة تتضخم وتتسلط فيسبق إلى وضع الخطوط والحدود بينها وبين الناس لئلا تجور عليهم أو تنزع حقوقهم في مسيرة تغولها، فاقتبس النموذج بكل ما فيه، بل حتى لما أُريد الترقيع لم يجد من يفهم، ومن ذلك أن الخديو أراد تقنين الشريعة فارتاع الطهطاوي لطلبه هذا وامتنع عنه خوفا من تكفير الأزهريين له، فلم يكن أمام الحاكم إلا أن يأتي بالكفر نفسه.. القانون الفرنسي!
ربما نلوم الخديو –ولنا الحق- ولكن ينبغي ألا ننسى أن مشايخ وقته لم يدركوا مسار التحول، فلم يكن اعتراضهم على الكفر نفسه كاعتراضهم على محاولة مقاومة الكفر! فسارت الدولة تفعل ما تشاء ولم يملك المشايخ القدرة على الاعتراض، فلما اكتملت المسيرة ساد القانون الوضعي بالقهر والسيف وألغي كل ما للشريعة فيه قول بالقهر والسيف، وما كان للقهر والسيف أن يفعلا كل هذا وحدهما لولا أن مُهِّد لهما بالغزو الفكري!
والقصد من كل ذلك ليس الجدل ولا التفصيل في الحوادث التاريخية.. القصد أن إفلات اللحظة الفارقة دون تقديم العلاج المناسب أو اتخاذ الخطوة المناسبة يأتي بكوارث عظمى لم ترد على الخاطر.
***
ثانيا: المناهج الفارقة
ومن الكوارث العظمى التي تؤدي إليها ضياع اللحظات الفارقة تكوين مناهج فارقة أيضا!!
فجمال الدين الأفغاني يمثل ما يشبه المعجزة، ولعله نموذج غير مسبوق، ذلك رجل خرج من بلاد الأفغان فدار في بلاد فارس ومصر وتركيا والعراق، واستطاع أن يشعل في كل بلد نزل فيها ثورة، حتى إقاماته المؤقتة في فرنسا وانجلترا كانت كمركز عمليات لثورات داخل بلاد العرب، ولم يستطع أحد أن يوقف هذه الثورة إلا السلطان عبد الحميد، وذلك حين حدد إقامته إلى جواره في اسطنبول اتقاء لخطره.. هذا الحبس لم يستطع الأفغاني أن يفلت منه، فكتب في خاطراته ما حدث فعلا: أنه يرى احتلال العالم الإسلامي قادم كأنه رأي العين!
هذا الأفغاني الثورة ما كانت الأمة أحوج إلى شيء مثله في زمنه، لكن قتله شخصان، كلاهما نموذج في الصلاح: السلطان عبد الحميد، والشيخ محمد عبده.
أما عبد الحميد فقد كان ضعيفا مترددا من أنصار الإصلاح المتدرج (لتقريب الصورة: نفس موقف مرسي والإخوان من حازم أبو إسماعيل وأنصاره) وكان متميزا في إفلات الفرص التاريخية، وبدلا من أن يستقوي بالأفغاني الذي كان أقوى رجل في العالم الإسلامي وأقوى من يمكن دعم مشروع الجامعة الإسلامية (ضد تيارات القومية والعلمانية والتغريب) قرر أن يتخلص منه، ليس بالنفي إذ خاف أن يقود عليه ثورة، ولكن بالإقامة الجبرية التي ظاهرها الإكرام والفخامة وباطنها الحبس.
وأما محمد عبده فما إن هزم عرابي حتى طلق المنهج الثوري ورأى أن الحل في التربية والتعليم، والتدرج في أخذ الناس، فإذا نشأ جيل متعلم استطاع أن يقاوم الاحتلال والاستبداد، وقد سبب هذا نفورا بينه وبين الأفغاني الذي راسله قائلا "إنما أنت مثبط"، وكان عبده يظن أنه يمكنه تنفيذ مثل هذا الإصلاح المتدرج ولو في عهد الاحتلال الإنجليزي، ولو كانت له صحبة مع كرومر.. سنعود لمحمد عبده فيما بعد، لكن القصد الآن هو أن عبد الحميد لم ينجح في إصلاح متدرج ولا في تسكين الجبهات المشتعلة بل اضطر بعد فوات الأوان أن يستبد صراحة ليستدرك الانهيار، فخُلِع وعزل، ورأى اليهودي الذي طرده هو من يجبره على توقيع التنازل! وكذلك محمد عبده: عاش ثلاثين سنة بعد فشل ثورة عرابي، أي زمنُ جيلٍ، ومات والإنجليز مستقرون في بر مصر!! ولم يتغير من حال التربية والتعليم شيء يرضيه.
لست أدري، هل جال بخاطر الشيخ آخر أيامه أنه لو وقف بكل قوته مع عرابي، واستجاش شيوخ الأزهر فامتلك بالمقاومة زعامتهم التي سيتثمرها بالإصلاح فيما بعد.. ترى لو فعل هذا، ألم يكن الحال خيرا مما حدث؟!!
هذا الفارق بين المنهجين يتضح أكثر إذا تقدمنا في عمر الزمن قليلا، وقارنّا بين مصطفى كامل وسعد زغلول، وسنتجاوز الآن عن شخصية سعد زغلول لنتعامل معه باعتباره شخصية وطنية مخلصة، إذا قارنت بين المنهجيْن فستجد عجبا: مصطفى كامل يحفر في الصخر ليحصل على لحظة ثورية وبذل غاية ما أمكنه ليحول قضية دنشواي إلى شرارة ثورية ولم يستطع، بينما سعد زغلول جاءته ثورة هادرة فأدخلها بنفسه في نفق المفاوضات حتى ماتت، ولم يخرج منها إلا بمكسب هزيل: حبر على ورق اسمه دستور يصنع استقلالا شكليا، وصارت آخر أماني خليفته مصطفى النحاس أن يشكل الحكومة تحت ظل الملك الفاسد والإنجليز المحتلين!!
ونستطيع أن نسجل ذات الفارق بين شخصيتي حسن البنا وحسن الهضيبي، الأول أنشأ جماعة من العدم في ظروف مستحيلة، والثاني أضاعها في ظروف ثورية ولم يكن في مصر كلها أقوى منها!!
***
ثالثا: المعركة الفارقة
نحن الآن في معركة فارقة، وهي معركة لا يمكن تجنبها.. فالصراع بين الشرق والغرب تاريخي أبدي، والساعة ستقوم بعد أن نقاتل الروم في الملحمة الكبرى، فأي تصور لإمكانية تجنب المعركة ليس إلا حلم حالم ووهم واهم.
والعسكر هم الخط الأول لهذا الغرب، فليسوا إلا جماعة وظيفية تُرك لهم حكم البلاد ليكونوا المخلب الغربي في قلب الشعوب العربية المسلمة، وقد انبنت بالفعل واستقرت شبكة مصالح تربط قيادات العسكر بالمصالح الغربية والصهيونية، وأمريكا الآن تجمع أجزاء البازل لتصنع شبكتها العسكرية العالمية كما صرح الكولونيل مايكل ماكيرا والدكتور ستيفن جيراس المدرسان في كلية الحرب الأمريكية.
ونحن في هذه اللحظة نملك الأمور الثلاثة:
1. اللحظة الفارقة، وهي لحظة على مستوى الأمة، التي تثور شعوبها إما بدافع ذاتي أو بما ينزل بها من مصائب: من بورما شرقا إلى مالي غربا، ومن تركيا شمالا إلى اليمن والسودان وإفريقا الوسطى جنوبا.. وهي لحظة نادرة جدا لم تتكرر منذ نصف قرن، منذ ثورات الشعوب لطرد المحتل.. ونحن نرى من البذل وتقديم الأرواح والأموال ما لا عهد لنا به في حياتنا القصيرة.
2. المنهج الثوري الذي صار يحقق الآن شعبية لم يبلغها في أي من مراحله الماضية، ومن لم يؤمن به لمجرد الوعي أجبرته الانقلابات والمواقف الدولية ومحاولات سرقات الثورات على الإيمان بها.
3. الشخصيات الثورية: وأحسب أن تحرير رجل مثل الشيخ حازم أبو إسماعيل ينبغي أن يكون على رأس جدول أعمال الثورات، فما أشبهه –إن تحرر- بالخميني بالنسبة للثورة الإيرانية.
ولا أحسب الخلاف يكون حول امتلاك هذه الأمور، بل ربما يكون حول الدرجة والمدى والفائدة المرجوة، وهل هي بالدرجة التي يُسمح بتعلق الآمال عليها أم هي دون ذلك.
ولو تركنا الأمل جانبا، واعتمدنا مجرد الحساب العقلي وحده، فالحقيقة أنه لا بد لنا أن نحاول، فالمحاولة تشير إلى احتمالية الانتصار بينما ترك المقاومة لا احتمال له إلا الهزيمة..
هذا الشيخ محمد عبده لم يستطع إمضاء إصلاحه حين ترك المقاومة وجالس كرومر، وهذا مصطفى كامل لم يستطع في زمن الإخصاء الثوري أن يلهب أو يزرع أي بذرة ثورة في حياته، ذلك أن الشعوب ليست تحت الطلب، لا تثور إذا أحببنا أو إذا قررنا نحن أن الوقت مهيأ للثورة.. الشعوب تثور في لحظات أغلبها غير متوقع ولا مفهوم بالتحليل الرياضي الحسابي، أحيانا تثور بلا حدث كبير.. فلئن أفلتت تلك اللحظة فلا تعود.. ربما تعود في جيل قادم، وأقل فترات التغيير أربعين سنة كما قال ابن خلدون رحمه الله.
فمحاولة إرجاع الناس من الشوارع وتهدئة فورانهم لأن ميزان القوى غير متكافئ لا يؤدي –كما يُتَوَهَّم- إلى تحصيل المطلوب، فالعدو حاضر قائم مهيمن يعلم أن الصراع ديني أبدي، ومهما تخفى البعض تحت شعار الوطنية فهذا يشبه من يداري الشمس بغربال، ومنذ 1925 كتب فرنسي يقول لقومه عن الوطنيين العرب "الهدف الذي يسعون في سبيله غير الهدف الذي يظهرونه، وإنما هم يضمرون شرا للأمة الفرنساوية، ويرمون إلى استعادة السيطرة الإسلامية لتكون شاملة إفريقيا الشمالية كلها، وهذا المظهر هو أحد مظاهر الحرب الأزلية بين الشرق والغرب.. إن أقل ضعف يبدو من جانبنا يعجل بتنفيذ الخطة التي يعملون على تحقيقها".
نحن نرى بأعيننا كيف أن العدو لا يسمح إلا بدين يدعمه، أو على الأقل دين محرف منزوع الجهاد والمقاومة فيسكت عنه، ونبت من أثر ذلك قوم أخلص من فيهم يُتلاعب به ويسهل خداعه، فكيف بأسوأ من فيه؟!!
وما الذي حدث حين لم تكتمل ثورات ماضية؟! هل استطاع القوم تهيئة وضع أفضل حال سكوتهم أم اضطروا في كل الأحوال إلى خوض المعركة ذاتها من جديد في ظل فارق أوسع في ميزان القوى؟!
هل استطاع الإخوان أو الإسلاميون جميعا في سوريا الإعداد منذ مذبحة حماة وحتى ثورة مارس 2011؟! أبدا.. اشتعلت الثورة رغما عنهم جميعا وخاضوا معركة أعنف وأشرس وأقسى من تلك التي كانت قبل ثلاثين سنة؟!
هل استطاع مثل ذلك أحد في مصر أو ليبيا أو العراق أو الجزائر أو غيرها؟! أبدا.. كل الشعوب ما بين شعب يجدد ثورته ويخوضها كأعنف مما كانت، أو شعب يقاوم الاحتلال الذي كان الثمرة الطبيعية للاستبداد، أو شعب ما زال لا يستطيع زحزحة الاستبداد الذي يزيده رهقا وعنتا.
ما من عاقل يعتمد على الوعود في لحظات المعارك، ولا أحسب أن حسرة مرسي في سجنه تنقص عن حسرة عرابي في منفاه، هذا صدق السيسي وهذا صدق ديليسبس، ومن هنا جاءت الهزيمة.
ثم أي وعود مبذولة لنا؟!
إنه ليس ثمة وعد مبذول بشيء، حتى السفاح وهو يعلن ترشحه للرئاسة ويرجو تسكين المشكلات لم يتحدث عن عفو ولا عن مصالحات، بل تحدث عن "سيادة القانون، وهيبة الدولة" وأن يده ممدودة "لمن لم يُدِنْه القانون"، ذلك القانون الذي يمسح به بصاقته ثم يلقيه في أقرب مزبلة!
وكيف نصدقه، وما زالت منشوراته التي كانت تلقيها علينا الطائرات تبشرنا بالأمن والسلام إذا عدنا للبيوت – ما زالت لم يجف حبرها؟!
يا قومنا..
مربط الفرس أن المعركة مفروضة علينا، وأننا لا نملك الانسحاب منها، وليس لدينا ما يمكن تقديمه من تنازلات لتجنبها.
صحيح أن الفارق في ميزان القوة واضح.. ولكنه ما من بديل إلا خوضها؟!
فالأحرى أن نفكر في "كيف" يكون الخوض، وكيف نوقع النكاية بالعدو.





2 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on April 05, 2014 19:53

March 9, 2014

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (العمال)



اقرأ أولا: جاذبية الإسلام الاجتماعية الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (السائحين) الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (الخدم)
لم يزل الحديث موصولا عن الجاذبية الاجتماعية للإسلام، وقد تحدثنا قبل مقالين عن هذه الجاذبية واستعرضنا شذرات من فصولها عبر التاريخ لكي نثبت أنها الباب الأوسع والأكبر للدخول في الإسلام، سواء أكان المسلمون في حال قوة أو ضعف أو حتى تحت الاحتلال، وسواء أكان غير المسلم في بلد فتحه الإسلام أو في قوم غزوا هم ديار المسلمين واحتلوها. ثم أخذنا في تفصيل هذا الأمر، فتحدثنا عن الرعاية الاجتماعية الإسلامية لغير المسلمين، فتحدثنا عن شريحة السائحين ثم عن شريحة الخدم، وفي هذه السطور نتحدث عن شريحة العمال.
وإن مما أنعم الله به على بعض بلادنا الإسلامية –خصوصا في منطقة الخليج العربي- هو مرحلة النمو والانفتاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات، والتي من مقتضياتها وجود عدد كبير من العمال المجلوبين من سائر أنحاء العالم، من أول الفقراء الذين يمثلون الأيدي العاملة ويتحملون المهمات الشاقة وحتى الخبراء العالميين الذين يديرون المشاريع الكبرى، فكل هؤلاء أقوام يعيشون في بلادنا، فلا يصح ولا يليق أن يخرجوا من بلادنا كما دخلوها، بل كم تكرر في تاريخنا من آثر أن يبقى في حكم المسلمين وبلادهم وسلطانهم ولو ظل محتفظا بدينه، وهذا فضلا عمن دخلوا في دين الله أفواجا.
وحقا إن الله لا يحاسبنا على الهداية {نَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] إلا أنه يحاسبنا على العمل وبذل المجهود في دعوة الناس.
***
من عصور الملكيات والامبراطوريات والإقطاعيات ووصولا إلى عصر الرأسمالية العالمية، كانت فئة العمال هم الأكثر معاناة ورهقا، ولم يتغير هذا حتى في العصور الشيوعية التي بُنِيَت نظريتها واشتعلت ثورتها من رحم معاناة الطبقة العاملة!!
وعلى كثرة ما كتب العالَم من وثائق واتفاقيات لحفظ حقوق العمال وحفظ حقوق الإنسان، إلا أن كل هذا لم يتحول إلى واقع، وإنما المعادلة على ما كانت عليه: صاحب المال أعلى يدا وأسع سلطة ونفوذا والعامل –صاحب الفقر والحاجة- هو اليد السفلى والطرف الضعيف المهيض المهضوم.
وفي ظل آلة مالية لا ترحم في عالم لا يعرف سوى لغة القوة والمال، لم يعد الأمر مقصورا على الطبقات الفقيرة، بل صار يشمل كل من يُسمَّى عاملا أو موظفا، إذ لم يعد ضروريًّا أن يضحي أصحاب الشركات بالعمَّال؛ لأن الأرباح تتراجع، بل يمكن اتخاذ قرار تسريح الآلاف ببساطة حين يظهر عمال آخرون أقل كلفة، فشركة نوكيا المنتجة للهواتف المحمولة أغلقت مصانعها في مدينة بوخوم الألمانية بين ليلة وضحاها على الرغم من أنها حققت ربحًا زاد على السبعة مليارات يورو، فخسر 2300 عامل فرص عملهم لا لشيء إلا لأن الشركة فضَّلت نقل الإنتاج إلى رومانيا؛ حيث الأجور أدنى، وألغت شركة بي إم دبليو ثلاثة آلاف فرصة عمل وسرحت خمسة آلاف عامل، وبرَّر رئيس شركة سيمينز التخلص من 6400 وظيفة بحجة مفادها أن الشركة قررت التخلص من "طبقة الوحل" المتراكمة لديهاوإنه ليس من الإسلام أن تتحول بلادنا إلى قطيع في ركاب الرأسمالية العالمية التي تستعبد الناس وتسحقهم، لا سيما وبلادنا التي تشهد طفرة في الموارد حديثة عهد بغنى ومال، وما تزال لا تنسى كيف كانت أحوالها قبل وقت قريب، كما لا يضمن أحد تقلبات الدهر، فنحن بين قول الله تعالى {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] وقوله تعالى {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
إن ديننا لا يجيز لنا أن نكون إمَّعة، إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، وملف العمالة هذا –في وقتنا الحاضر- من أوسع أبواب الدعوة إلى الله واجتذاب الناس إلى الإسلام، إذ لو طبقنا حقا ما أوصانا به ديننا لصارت بلادنا مهوى القلوب والأفئدة، ودوحة ساحرة في ساحة الظلم العالمية الجليدية.
***
أول ما يدعو طائفة العمال للإسلام هو التزام المسلمين بما أمرهم به الإسلام وانتهاؤهم عما نهاه عنهم في شأن العمل، إذ هذا الشأن هو الذي حرك العامل من بلاده حتى أسكنه في بلادنا التي هي بالنسبة له دار غربة وبعد عن الأهل والزوج والولد، وسائر الآداب والأخلاق الأخرى إنما هي أمور هامشية وفرعية لا تقوم مقام الدعوة إذا ضاع الأصل.
وفي شأن العمل، نرى الإسلام ألزم أهله بحقوق للعمال يجب أن تؤدى لهم، وهذه الحقوق تعود في الأصل إلى رؤية وقاعدة تخالف الرؤية والقاعدة التي ينبني عليها النظام الرأسمالي المعاصر؛ ففي الإسلام يُقَدَّم الإنسان على المادة ولا يجوز أن يكون المال سببا في سحق كرامة الإنسان أو إذلاله باستغلال فقره وحاجته، أو سببا في تحميله ما لا يطيق من الجهد والمشقة لتوفير النفقات.
هذا هو الحد الأدنى، ثم يتفاضل الناس بمراتب الإحسان وهم يسمعون قول نبيهم (صلى الله عليه وسلم) "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"***
العدل والإنصاف هو الحد الأدنى الذي لا يجوز للمسلم أن يتجاوزه، فالظلم كله حرام، وما أحسن أن يستمع أصحاب الأعمال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم علي أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"والظلم مفسد للأعمال الصالحة، ومهما كان صاحب العمل والمال ملتزما بالشعائر والهدي الظاهر فلا ينجو يوم القيامة إلا بالبراءة من حقوق الناس، والمرء حين ينظر في حديث المفلس يشعر كأنما هو لأصحاب الأموال والأعمال دون غيرهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أتدرون مَنِ المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا.. فيقعد فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا، أُخذ من خطاياهم فطُرح عليه ثم طرح في النار"فمن العدل أن يُبَّين للعامل أجره قبل بدء العمل، كما رُوي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعثمان بن عفان قولهم " من استأجر أجيرا فليبين له أجره"فإذا انقضى العمل فليُوَفَّ أجره غير منقوص ولا مؤجل، كما قال الله تعالى {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم "أعط الأجير حقه قبل أن يجف عرقه"بل توعد النبي بخصومته يوم القيامة لمن يحرم العامل أجره، قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"وكانت توفية الأجر من الأعمال التي أنقذت صاحبها حين أغلقت عليهم الصخرة في الحديث المعروف "وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة"ومن العدل ألا يكلف العامل ما لا يطيق، كما جاء في قوله تعالى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] وفي حديث النبي "ولا يُكَلَّف من العمل إلا ما يطيق"ومن العدل إنصافهم والانتصاف لهم من خصومهم، مهما كانت منزلة الخصوم وقدرهم في بلادنا، بل إن هضم حقوق هؤلاء سبب للهلاك كما قال نبينا "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"ولا يكون إنصافهم والانتصاف لهم، إلا إن مُكِّنوا من الشكوى ويُسِّر لهم سبيل رفع المظلمة وأحيطوا بالأمن فلا يُخافون ولا يُرَوَّعون إذا اشتكوا.
وأما مراتب الإحسان فأمرٌ لا حدّ له، ويأتي كل امرئ منه بحسب ما وفقه الله فيه، ولقد كان رسول الله قدوة للمسلمين، فقد كان قريبا من البسطاء والفقراء متواضعا معهم، فكان "يأكل مع الخادم. ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه. ولو إلى أيسر شيء"***
فإذا وجد العامل في بلادنا إقامة الحق ثم الإحسان، فهو أحرى أن يدخل في الإسلام، فإن لم يدخل فيه فهو يقف على الباب، ويوشك هذا الواقف أن يدخل إن شاء الله.
ويكون هذا بكثير من الأفكار، وبعض أهل الفضل والصلاح يتفنون في جذب العمال لديهم إلى الدين:
فمنهم من يجعل الدين قريبا من العامل في مكان عمله –سواء مزرعة أو مصنع أو مكتب- سواء أكان ذلك بالكتيبات أو بتوفر نسخ مترجمة من القرآن الكريم باللغات المطلوبة، أو بغير ذلك من وسائط المواد المسموعة والمرئية، وهي قد صارت متوفرة في عصر الانترنت ومن خلال المراكز الإسلامية المهتمة بدعوة غير المسلمين، فهم يطالعونها في أوقات الراحة والفراغ والأوقات البينية، وقد وفق الله بعض بلدان الخليج لإنشاء إذاعات بلغات آسيوية يستفيد منها طوائف العمال في المزارع والبيوت وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم.
ومنهم من يجعل الأعياد والمناسبات الإسلامية فرصة للإغداق عليهم فيها بأموال أو مكافآت أو ساعات راحة، ويستثمر الفرصة في تحديثهم عن هذه المناسبة –بنفسه أو من خلال إقامة برنامج تعريفي متميز ومحترف- ومعانيها ودلالاتها ولماذا يهتم بها المسلمون.. ويجد صاحب العمل في هذا من يساعده سواء من المتخصصين في المراكز الإسلامية أو من العمال المسلمين أنفسهم، لا سيما وأن كل دين باطل فيه جزء من الحق، وكثير من الأديان الشرقية تتشابه في أمور كثيرة مع الإسلام، فيُؤمل إذا نُفِّذت البرامج التعريفية بكفاءة أن تؤتي ثمارها إن شاء الله تعالى.
ومنهم من يقيم احتفالات وفاعليات إسلامية بشكل دوري، فيجعل لمن يحضرها من العمال مميزات ومكافآت، فيحضرون أول الأمر لغرض الدنيا ثم قد ينعم الله عليهم فينعم عليهم بخيري الدنيا والآخرة، وكم في الناس من كان هذا هو المدخل إلى نفسه، فلهؤلاء كان مصرف "المؤلفة قلوبهم"، ثم اصطفى الله منهم من نصر الإسلام في مواقف فاصلة.
 نشر في مجلة البشرى، جمادى الأولى 1435هـ = مارس 2014
أولريش شيفر: انهيار الرأسمالية ص16، 17. أحمد (6494)، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924) وصححه الألباني. مسلم (2594). مسلم (2578). العيني: عمدة القاري 12/293. مسلم (2581). رواه موقوفا النسائي (4673)، وابن أبي شيبة (21109)، ورواه مرفوعا إلى النبي أحمد (11565)، والبيهقي (11431)، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على المسند: صحيح لغيره. المناوي: التيسير بشرح الجامع الصغير 1/70. ابن ماجه (2443)، وصححه الألباني. البخاري (2114). البخاري (2152). البخاري (5703)، مسلم (1662). البخاري (3288)، ومسلم (1688). ابن القيم: مدارج السالكين 2/313. ورد من ثمانية طرق عند الطبراني في الكبير وابن سعد في الطبقات والترمذي في الشمائل وأبي الشيخ في أخلاق النبي، انظر الألباني: السلسلة الصحيحة (2125). ابن ماجة (3312)، والحاكم (3733) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 09, 2014 04:54

March 8, 2014

محكمة المياه.. نموذج حضاري إسلامي




يكمن سرّ تفوق الحضارة الإسلامية وخلودها في أنها وليدة شريعة تقوي المجتمع وترفع من شأنه وتطلق طاقاته، فيستمر عطاؤه الحضاري بغض النظر عن حال السلطة السياسية من القوة أوالضعف، بل نحن أصحاب الحضارة التي ربما هُزِمت عسكريا ثم لم يلبث أن اعتنق المحتلون دينها وحضارتها كالمغول، أو حضارتها دون دينها كالصليبيين في الشام والإسبان في الأندلس والنورمان في صقلية.. وغير ذلك مما هو معروف ومشتهر.
ودَوْر السلطة –في تاريخنا الحضاري- أشبه بمن يطلق الشرارة أو يبذر البذرة، التي ترعاها الأمة فيما بعد، فيستمر حصادها حتى ولو ضعفت السلطة أو ذهبت بالكلية، وذلك راجع إلى قيمتين أساسيتين في الإسلام هما: الإنفاق في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما القيمتان اللتان أسستا لمؤسستي: الوقف والحسبة، وكلتاهما كانتا تعبيرا عن التميز الإسلامي، وكان لهما فضل حراسة قيم الأمة وحضارتها حتى جاءنا الاحتلال الحديث فكان أن استفاد منهما في بلاده وحرص على تدميرهما في بلادنا.
في السطور القادمة نتناول نموذجا من التاريخ لمؤسسة أطلقت شرارتها السلطة، لكنها بقيت خالدة حتى يومنا هذا بعد أن ذهب الخليفة وذهبت دولته بل وذهب المسلمون من تلك الأرض.. تلك هي محكمة المياه في بلنسية الأندلسية، وهي تمثل نموذجا للمسؤولية الاجتماعية والحلول المبدعة التي يفرزها المجتمع ويقوم عليها ويُبْقِيها.
كان عهد عبد الرحمن الناصر من أزهى عهود الأندلس، وهو العهد الذي استمر لنصف قرن، إذ تولى الحكم وهو شاب صغير في حدود العشرين سنة ثم مات وهو في السبعين من عمره (300 – 350 هـ)، واستطاع في عهده أن يغير حال الأندلس من ضعف وتفكك إلى قوة ومجد وازدهار.. فهذا الناصر هو من أطول الملوك حكما في تاريخ المسلمين.
كان من آثار عهده إنشاء "محكمة المياه" في بلنسية التي احتفلت إسبانيا بمرور ألف عام على إنشائها عام 1961م، وحضر الملك الإسباني خوان كارلوس جلساتها أربع مرات، واعتمدت في الدستور الإسباني 1978م، وصارت جزءا من قانون مقاطعة بلنسية الصادر 1982م، ومن قانون الماء الإسباني الصادر 1985م، وأخيرا فقد سجلتها منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي الذي يجب المحافظة عليه في سبتمبر 2009م.. فما هي قصة المحكمة؟
تحولت بلنسية التي أنشأها الرومان على ساحل البحر المتوسط في عهد المسلمين إلى أرض الحدائق والجنات، رغم قلة أمطارها، وذلك بأثرٍ مما أبدعه المسلمون من أنظمة الري والتحكم بالمياه من خلال ما بنوه من سواقي وسدود على نهر توريا الذي يمد المدينة بحاجتها من الماء، وهذه التقنيات التي تركها العرب منذ ألف سنة بلغت من التطور والإبداع حدًّا عظيما، ويكفي أنها ما تزال هي الأساليب المعتمدة في الزراعة حتى الآن.
نشأت محكمة المياه كنوع من المحاكم المتخصصة التي تسد حاجة سريعة في تنظيم الماء في بلنسية، وهي تتألف من ثمانية أعضاء يمثلون السواقي الثمانية القائمة على نهر توريا في بلنسية (وهي سواقي قوارت ــ مصلاتة ــ ترمس ــ مستليا ــ فبارة ــ رأس كانيا ــ روبية ــ بيناشير وفيتمار)، فلكل ساقية مستفيدون منها –وهم أصحاب الأراضي الواقعة حولها- وهم ينتخبون فلاحا منهم ليكون قاضيا عليهم، وتكون مدة انتخابه لسنتين أو ثلاثة، وحين يجتمع الأعضاء الثمانية يترؤسهم الأكبر سنا، ثم يختارون بالانتخاب رئيس المحكمة ونائبه.
تعقد جلسة المحكمة منتصف نهار يوم الخميس من كل أسبوع مثلما كان ذلك في عهد المسلمين، وفيها يتقدم الشاكي بشكايته ويدافع المُتَهَّم عن نفسه، ولا يشترك قاضي هذه الساقية في تداول شأن القضية بل يحكم فيها السبعة الآخرون، وتعد أحكامهم نافذة وغير قابلة للاستئناف أو الطعن أمام أي جهة أخرى، ويقوم بتنفيذها حُرَّاس السواقي تحت إشراف قاضي الساقية الذي لم يشترك في القضية ويعد هو المسؤول عن تنفيذ الأحكام.
وحراس السواقي أولئك هم بمثابة الشرطة المتخصصة، إذ بخلاف تنفيذهم للأحكام فهم أيضا من يبلغون المحكمة بأي تعديات أو مخالفات وقعت في ناحيتهم.
قضاة المحكمة هم من الفلاحين الذين يزرعون الأرض ويتكسبون منها بما يجعلهم متخصصون في هذا المجال ويعرفون دواخله وتفاصيله وأساليب الحيل والمخادعات فيه، وهم ما زالوا يرتدون الثياب السوداء التي كان يرتديها الفلاحون في بلنسية منذ العهد الإسلامي، ويجلسون على مقاعد جلدية كنحو التي كان يجلس عليها القضاة قديما، وجلسات المحكمة كانت ولا تزال علنية يمكن لأي امرئ أراد أن يحضرها، كما وتعقد المحكمة في ذات الفناء الذي كانت تعقد فيه غير أنه قديما كان فناء مسجد رحبة القاضي –وهو المسجد الجامع في بلنسية- بينما صار الآن فناء كاتدرائية بلنسية بعد هدم المسجد في زمن إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس.
وتضمن المحكمة استمرار نفسها من خلال التمويل الذاتي، إذ يحصل القضاة على نسبة من رسوم الري ونسبة من الغرامات التي توقع كعقوبات على المخالفين، وتُكفل لهم نفقات تنقلهم.
وفي حين كان الاجتثاث الإسباني للمسلمين في غاية الجنون، فإنهم ولافتقادهم أي أساليب تنظيمية للزراعة والتحكم في الماء فقد أبقوا على محكمة المياه هذه كأمر لابد منه لكي لا تخرب بلنسية، إلا أن الخراب أصابها من وجه آخر وهو نقص ذوي الخبرة والمهارة في الزراعة الذين كانوا من المسلمين، إذ صاروا بين قتيل وأسير ومهاجر.
ما تزال بلنسية تستعمل المقياس العربي "فيلان" في قياس كميات المياه التي تحصل عليها كل ساقية بحيث ينضبط التوزيع العادل لمياه النهر بحسب كل ساقية والمساحات التي ترويها، والتي تبلغ أكثر من 40 ألف فدان.
وبهذا تمثل محكمة المياه البلنسية الأندلسية نموذجا لمؤسسة اجتماعية ذات نفع عام، استمدت فكرتها وخلودها من خصائص الحضارة الإسلامية التي أنبتتها.
نشر في مجلة الوعي الإسلامي: جمادى الأولى 1435هـ = مارس 2014
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 08, 2014 12:41

هل الجهاد دمار الأوطان؟!




بلغت حملات الغزو الفكري والتخريب المعرفي حدًّا عظيما، حدًّا يريد الفتك بفطرة الإنسان التي خُلِقت ورُكِّبت فيه، ومن أوجه ذلك التخريب المناداة على كل ثائر وكل مجاهد بأنه "يخرب الوطن، يدمر الاقتصاد، يدمر البلد... إلخ"، ومآل هذا الكلام –سواء أقصد القائل إليه أم لم يقصد- هو الرضا بحياة الأنعام: الذل والانقياد مع وفرة المرعى، أو بالأحرى: رجاء وفرة المرعى، رغم أن المرعى لا يخصب أبدا، ولا يزيده الذل والانقياد إلا جدبا.
ولأن الأمر فطرة إنسانية، فإنه يضطرد في سائر الأمم، وإليك أربعة أمثلة مختلفة في الزمان والمكان والدين والأحوال:
1. كانت فرنسا وبريطانيا ملوك البحار فيما قبل الحرب العالمية الثانية، أما الإنجليز فقد خسروا سلطانهم البحري على يد اليابانيين، وأما الفرنسيين فقد حرقوا أسطولهم بأنفسهم كي لا يقع في يد الألمان!
2. قبل ذلك بسنوات قليلة، لم يجد الروس شيئا يفعلونه أمام الإعصار الألماني المفاجئ الزاحف نحو أراضيهم إلا أن يخرج ستالين فيأمر الناس بالانسحاب من قراهم وإحراقها بكل ما فيها كي لا ينتفع بها الألمان، وكانت تلك أول وخزة في جسد الوحش الألماني المرعب، إذ اكتشفوا –ولأول مرة- أن روسيا ليست كغيرها، وأنهم قد يسيرون مئات الكيلومترات دون أن يجد قرية يتزودون منها بما يبلغهم التي بعدها، فكيف إذا وصلوها لم يجدوا شيئا إلا الرماد؟!!
3. قبل ذلك بقرون لم يجد بنو النضير مفرًّا من النزول على حكم النبي: الجلاء من المدينة، فصاروا يُخربون بيوتهم بأيديهم، فما استطاعوا حمله حملوه، وما لم يستطيعوا حمله أحرقوه، وفيهم نزل قول الله تعالى {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: 2]، وقد رأينا ذات الموقف يتكرر حين انسحبوا من سيناء ثم حين انسحبوا من غزة، إذ أحرقوا ما بنوه وخربوه بأنفسهم.
4. وبعدها بسنتين وقعت بنو قريظة في شر أعمالها، إذ انسحبت قريش وغطفان والأحزاب إلى مواطنهم، وبقي هؤلاء أمام المسلمين ينتظرون المصير المحتوم، يومئذ عرض عليهم زعيمهم وحكيمهم كعب بن أسد ثلاثة حلول:
- قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فرفضوا.
- قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك، ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. فرفضوا وقالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير العيش بعدهم؟!
- قال: فإن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة، فرفضوا.
فقال: ما بات رجل منكم ليلة من الدهر حازما.
ولما لم يكن أحد منهم حازما، كان مصيرهم بعد الذل والهوان والهزيمة: قتل الرجال وسبي النساء والذرية، وغنيمة الأموال.
فهذه أربعة أمثلة من القديم والحديث، لملاحدة ونصارى ويهود.. كلهم أتلف ما يملكه كي لا ينتفع به عدوه.
***
إن إتلاف الموارد كي لا ينتفع بها العدو أمر متكرر قامت به الأمم والجيوش والقادة –على اختلاف أزمانهم وأديانهم وأجناسهم وأحوالهم- دون أن ترى في هذا إضرارا بالوطن أو الأمة.. بل الحق أنهم فعلوا ذلك لإنقاذ الأوطان وإنقاذ الأمة!
وهذه الفطرة التي هي الطبيعة الإنسانية، تتأكد لدينا بميزان الشرع، فالإسلام الذي جاء بعمارة الأرض وإصلاح شأن الناس ونهى عن الإفساد في الأرض، هو الإسلام الذي اتفق فقهاؤه على أنه "إذا دعت الحاجة إلى تخريب وإتلاف بعض أموال الكفار وتغوير الآبار لقطع الماء عنهم جاز ذلك، بدليل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين أمر بالقُلَب (أي: الآبار) فغُوِّرَت"كما اتفق الفقهاء أيضا على جواز قطع الشجر وإتلاف النبات في حالة الحرب، ذلك أن الرحمة بالبشر مقدمة على الرحمة بالشجر، والإضرار بالكافرين والمفسدين والمجرمين أولى من الإبقاء على الزرع والشجر، وكان دليلهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود بني النضير حين أحرق النخيل، نقل ابن قدامة عن إسحاق أنه قال: "التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو"والأمثلة كثيرة لكن نكتفي بمثالين لاثنين من أعظم شخصيات المسلمين:
فهذا القائد الفذ العظيم المنصور بن أبي عامر، الذي يمثل ذروة التاريخ الأندلسي مجدا وحضارة، يندم عند موته على أنه في ذروة نهضته هذه لم يراعِ الضرورات الحربية، ذلك أن تعميره لسائر المدن الأندلسية بما فيها المدن على الحدود والثغور سيعطي فرصة للعدو في لحظات تفوقه العسكري أن يستعين بها في حصار المسلمين والتفوق عليهم، ولقد كان الأولى أن يترك هذه المناطق بلا عمارة لتكون مناطق عازلة بين المسلمين وعدوهم.
يروى حاجبه كوثر هذه المراجعة لما حضرته الوفاة إذ وجده يبكى فقال له: "مم تبكي يا مولاي؟ لا بكت عيناك. فقال: مما جَنَيْتُ على المسلمين، فلو قتلوني وحرقوني ما انتصفوا مني، فقال له: كيف ذلك؟ وانت أعززت الإسلام وفتحت البلاد وأذللت الكفر وجعلت النصارى ينقلون التراب من أقصى بلاد الروم إلى قرطبة حين بنيت بها جامعها؟ فقال: لما فتحت بلاد الروم ومعاقلهم، عمرتها بالأقوات من كل مكان، وسجنتها بها حتى عادت في غاية الإمكان، ووصلتها ببلاد المسلمين، وحصنتها غاية التحصين، فاتصلت العمارة، وليس في بَنِيَّ من يخلفني، وسيشتغلون باللهو والطرب والشرب، فيجيء العدو فيجد بلادا عامرة وأقواتا حاضرة فيتقوى بها على محاصرتها، ويستعين بوجدانها على منازلتها فلا يزال يتغلبها شيئا فشيئا، ويطويها طيًّا فَطَيًّا حتى يملك أكثر هذه الجزيرة، ولا يترك فيها إلا معاقل يسيرة. فلو ألهمني الله إلى تخريب ما تغلبت عليه وإخلاء ما تملكت، وجعلت بين بلاد المسلمين وبين بلاد الروم، مسيرة عشرة أيام فيافيا وقفارا، لا يزالون لو راموا سلوكها حيارى، فلا يصلون إلى بلاد الإسلام إلا بمشقة وكثرة الزاد صعوبة المرام. فقال الحاجب: أنت إلى الراحة إن شاء الله أقرب، فتأمر بهذا الذي رأيت. فقال له: هيهات! حال الجريضوبعده بنحو قرنين، اضطر صلاح الدين الأيوبي أمام هجمة الحملة الصليبية الثالثة أن يهدم أسوار عدد من المدن منها طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل لما غلب على ظنه أن الصليبيين سيستولون عليها وأنه لا يستطيع صدهم عنها، فحرمهم من مزية الأسوار الدفاعية فلا يعتصمون بها، ثم اضطر إلى تخريب عسقلان –التي لقبها البعض بعروس الشام- حين لم يكن ممكنا الدفاع عنها وعن القدس في ذات الوقت.
***
والخلاصة: أن تحرر الأوطان واستقلالها أهم من عمارتها، وأن البشر يقبلون خوض الحروب من أجل الحرية والكرامة والاستقلال وإن مسَّت الحرب عمرانهم وأوطانهم بالسوء، ومما هو جدير بالتأمل أن الأمم تتذكر أبطالها المحاربين المقاتلين وتخلدهم أكثر ما تتذكر بنائيها ومهندسيها، رغم أن الميزان المادي يجعل الأولين مخربين والآخرين معمرين.
هذه الفطرة التي تستقر عند كل البشر يُراد لأمة الإسلام، وهي خير الأمم، أن تنتكس فتتخلى عنها، فتقبل بالاحتلال وهيمنته ووكلائه المستبدين المجرمين، فلا تجاهدهم في حرب ولا تشعل في وجوههم ثورة، وتنطلق الأصوات المفزوعة المرعوبة تحذر الناس من التخريب والتدمير وتراجع الاقتصاد وانهيار مؤشرات البورصة وضعف فرص الاستثمار وقلة الوظائف ... إلى آخر هذا الهراء الذي لا يفكر فيه إنسان حر إلا حين تكون له كرامة واستقلال!
أما الحرص على كل هذا تحت الاحتلال أو تحت الاستبداد فتلك هي عيشة الأنعام والبهائم، وهي أمر لا تقبله أمة على نفسها، فكيف إذا كانت خير الأمم!
ثم ما هي الأمة إن لم تكن البشر؟! وما هي الأوطان إن لم تكن حرة مستقلة غير مقهورة ولا مستعبدة؟!
***
قال أحمد مطر:
نموت كي يحيا الوطن؟
يحيا لمن؟
لابن زنى
يهتكه.. ثم يقاضيه الثمن؟!
لمن؟
لاثنين وعشرين وباء مزمنًا
لمن؟
لاثنين وعشرين لقيطًا
يتهمون الله بالكفر وإشعال الفتن
ويختمون بيته بالشمع
حتى يرعوي عن غيه
ويطلب الغفران من عند الوثن؟!
تف على هذا الوطن!
وألف تف مرة أخرى!
على هذا الوطن
من بعدنا يبقى التراب والعفن
نحن الوطن!
من بعدنا تبقى الدواب والدمن
نحن الوطن!
إن لم يكن بنا كريمًا آمنًا
ولم يكن محترمًا
ولم يكن حُرًّا
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن!

نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان الموسوعة الفقهية الكويتية 1/89. ابن قدامة المقدسي: المغني 10/501. الجريض: أي الغصة، وهو مثل يقال عما فات وقته. ابن الكردبوس: الاكتفاء في أخبار الخلفاء، تحقيق: د. أحمد مختار عبادي، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد، العدد 13، ص64 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 08, 2014 12:25

February 7, 2014

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (الخدم)




اقرأ أولا:  جاذبية الإسلام الاجتماعية الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (السائحين)  
تحدثنا في المقال الأول من هذه السلسلة عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية" لنثبت أن الحياة الاجتماعية للمسلمين ظلت الباب المفتوح للدخول في الإسلام، سواء أكانت الأمة عزيزة مكنة أو ضعيفة محتلة، وسواء أكان الداخلون في الإسلام من البلاد المفتوحة أو من البلاد التي لم تصل إليها جيوش الفاتحين، وسواء أكان الذي يسلم حرا أو عبدا أو أسيرا.
وبدأنا في المثال الثاني الحديث عن "الاحتضان الاجتماعي لغير المسلمين"، وقسمنا غير المسلمين –في بلاد المسلمين- إلى زائرين ومُقِيمين؛ وتحدثنا في المقال الماضي عن الزائرين لمدد قصيرة كالسائحين وكيف ينبغي أن نكون لهم، ونبدأ في هذا المقال والذي يليه في الحديث عن المقيمين في بلادنا، ونختار في هذه المرة الحديث عن شريحة الخَدَم.
ونحن نخصص الحديث عن الجانب الاجتماعي لأنه المساحة التي تقوم بها الأمة –أفرادا ومجموعات وهيئات- بغض النظر عن السلطة السياسية قوة وضعفا، سواءًا أكانت داعمة أو لا مبالية.
***
لعل شريحة الخدم هي أسهل الشرائح في إدخالها إلى الإسلام، إذ هو في مكانة الضعف والفقر والحاجة كالأرض الخصبة تؤثر فيه أدنى معاملة حسنة وأقل خلق كريم كما تنبت الأرض بأقل قطرات مطر، وتلك من المواضع القليلة التي يكون فيها المسلم –في هذا الزمان- في موضع الأعلى ويكون غيره في الموضع الأدنى من حيث القوة والمال والاحتياج.
وفقه التعامل مع الخدم مما ينبغي أن ينتشر في أوساط من أنعم الله عليهم بالغنى والثراء، خصوصا في منطقة الخليج التي تمثل شريحة الخدم ظاهرة واضحة ويمثل الخدم عنصرا أساسيا في تلك البلاد.
وقبل كل شيء، فإن أخلاق المسلم في معاملاته هي الداعية الدائم الذي يجذب القلوب والعقول، وليس من موطن تظهر فيه الأخلاق بحق سوى موطن كهذا، لا يكون الإنسان مضطرا فيه لحسن المعاملة فلا خوف من عاقبة ولا رجاء لمطمع، بل لا يلزمه بهذا إلا الدين.
وقد ألزم الإسلام أهله بأخلاق في معاملة الخدم، تبدأ من استشعار المسؤولية، إذ صاحب البيت مسؤول عن الخادم كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، واستعمال النبي لفظ "الرعاية" يوحي بالمعاني الإنسانية الراقية والرقيقة للتعاملات داخل نطاق هذه المسؤولية.
***
إذا نظرنا في النصوص التي تتحدث عن معاملة الخدم فسنجد أنها تعاملهم كأنهم من الأهل أو على الأقل كأنهم من الأصدقاء المقربين، الذين هم أولى الناس بالإكرام والرعاية والعفو والرحمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس..."ومن المعاني الرقيقة في معاملة الخدم ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم: أن يدعو المرء خادمه ليشاركه الأكل، وهذا مقام فضل واستحباب، يقول: "إذا جاء أحدَكَم خادُمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكله أو أكلتين، فإنه وَلِيَ عِلاجه"وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بالخادم، ففي الحديث الذي مرَّ معنا "فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يُكَلِّفُه من العمل ما يغلبه، فإن كَلَّفَه ما يغلبه فلْيُعِنْه عليه"، وفي رواية أخرى "ولا يُكَلَّف من العمل إلا ما يطيق"وإذا أخطأ الخادم فليكن سلوك المسلم هو العفو، ولقد أجاب النبي إجابة عجيبة حين سأله رجل يبدو من كلامه الضجر والغضب من خادمه: "يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟"، فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة"ولقد ضرب لنا النبي مثالا بنفسه في تعامله مع خدمه، فقد كان يهتم بحالهم وأمورهم، فمن ذلك أنه:
1. كان يدعو لخادمه أنس بن مالك –الذي خدمه عشر سنين- مثلما قال أنس: "فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، قال: "اللهم ارزقه مالا، وولدا، وبارك له"2. وهو الذي سعى في زواج خادمه ربيعة بن كعب الأسلمي، رغم فقره وحاجته، وألحَّ عليه فيه، يروى ربيعة: كنتُ أخدم النبي فقال لي النبي: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج؛ ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء. قال: فأعرض عني، ثم قال لي بعد ذلك: ياربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج، وما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عنِّي. وقال: ثم راجعتُ نفسي، فقلتُ: والله يا رسول الله أنت أعلم بما يُصلحني في الدنيا والآخرة. قال: وأنا أقول في نفسي: لئن قال لي الثالثة لأقولن: نعم. قال: فقال لي الثالثة: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلتُ: بلى يا رسول الله، مُرْنِي بما شئتَ، أو بما أحببت. قال: "انطلق إلى آل فلان". إِلى حيٍّ من الأنصار... 3. وحرص النبي على عيادة خادمه الغلام اليهودي في مرضه، وحرص على إسلامه، قال أنس بن مالك: "كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار"وبالعموم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير رجل لخادمه من الرفق به والعفو عن أخطائه وعدم التضييق عليه حتى لفظة "أف" لم يكن يقولها؛ قال أنس رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أُفٍ قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا وهلّا فعلت كذا؟***
وقد نهى الإسلام عن ظلم الخادم أو هضمه حقه أو الاعتداء عليه، ومن ينظر في نصوص النهي عن هذا يشعر لأول وهلة بالمفاجأة من شدة العبارات والألفاظ.
فلا يجوز ظلم الخادم في أجره، فهذا من أسباب خصومة الله يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"ونهى الإسلام عن ضرب الخادم، خصوصا على وجهه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعتق جارية لطمها سيدها، فتعلم أصحابه القصاص للخدم من أنفسهم وأبنائهم وصار ضرب الخادم مما يخشى منه المرء فيهرب، من بعد ما كان الخادم ملكا لسيده كما هو الحال في الجاهلية الأولى وفي جاهليتنا المعاصرةومثل ذلك ما جرى لأبي مسعود البدري الذي قال: "كنت أضرب غلاما لي. فسَمِعْتُ من خلفي صوتا: "اعلم، أبا مسعود.. لله أقدر عليك منك عليه"، فالتَفَتُّ فإذا هو رسول الله ، فقلت: "يا رسول الله، هو حر لوجه الله"، فقال: "أما لو لم تفعل، لَلَفَحَتْك النار، أو لَمَسَّتْك النار"وكان نبينا قدوة في هذا، تقول عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل"بل ولقد نهى النبي عن الدعاء على الخادم، وجعله بعد النفس والأهل، قال صلى الله عليه وسلم "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم"***
وبالجملة فإن الخدم ممن ينبغي أن يُعامَلوا بالرحمة، لما هم فيه من الحاجة والفقر والغربة أحيانا، وفي الحديث "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء"ولقد سمعت من أصحاب الدين ممن أنعم الله عليهم كثيرا من التفنن في معاملة الخدم، كاستقبالهم من المطار، وإشعارهم بالألفة وتخفيف الغربة عنهم والرفق في تعليمهم عادات البلد واستعمال أجهزة الطبخ والتنظيف والغسيل مما لا يعرفون استعماله، والإغداق عليهم في الأعياد، ومساعدتهم في أعمال الخدمة، والتخفيف عنهم، والتلطف بهم حال ضيقهم وغضبهم ومرضهم، والإحسان إليهم وإلى ذويهم سواء أكانوا في ذات البلد أو في غيرها، وتمكينهم من زيارة ذويهم والاتصال معهم، وسمعت في هذا قصصا عجيبا والعديد منها انتهى بإسلام هؤلاء الخدم حتى من كان يفعل هذا غافلا عن نية الدعوة إلى الله وإدخالهم في الدين.
ولو تذكر المرء نعمة الله عليه إذ جعله صاحب غنى ومال وقد كان يمكن أن يكون مكان هذا الخادم، بل لو تذكر أن أحدا لا يضمن تحول نعمة الله عنه وأن يصير فعلا في مستقبل الأيام مثله.. لو تذكر هذا لشكر نعمة الله عليه وعامل ذلك الخادم بما يحب أن يُعامل به، وكم في التاريخ من ملوك تحولوا إلى فقراء متسولين يتكففون الناس ولم يجد أولادهم –بعد العز والملك- نعلا يلبسونه فصاروا حفاة، ولا طعاما سوى كسرات خبز يابسة!!
فالبرُّ بهؤلاء إنما هو شكر لنعمة الله واتقاء لتحولات الأيام التي لا تدوم على حال.
 نشر في مجلة البشرى، فبراير 2014
البخاري (5703). البخاري في الأدب المفرد (82)، أحمد (17218)، والنسائي (9185)، وحسنه شعيب الأرناؤوط وصححه الألباني. البخاري في الأدب المفرد (197)، وحسنه الألباني. البخاري (2418). البخاري في الأدب المفرد (550)، وحسنه الألباني. البخاري (5703)، مسلم (1662). ابن حبان (4314)، وأبو يعلى (1472)، وقال حسين سليم أسد: رجاله ثقات. أبو داود (5164)، وصححه الألباني. البخاري (1881). أحمد (16627)، والحاكم (2718) وقال: على شرط مسلم. البخاري (1290). البخاري (2616)، مسلم (2309). البخاري (2114). تحمل لنا الصحف والأخبار أنباء في غاية الغرابة والدهشة عن معاملة أقوام لخدمهم، بالضرب والتعذيب والكي، ومما هو مشهور أن بعضهم تسبب في عاهات دائمة كالعمى والصمم مما ينزله بخادمه، وبعضهم اكتشف أنه حبس خادمه في بيته أو مزرعته لسنين وصلت إلى ثماني أو عشر سنين، ولعل ما خفي يكون أعظم.. وهذا غير الاستعباد الذي يجري على العمال والفقراء الذين تستغل حاجتهم وفقرهم في إذلالهم وامتصاص مجهوداتهم وربما دمائهم في الأعمال الشاقة ولوقت طويل بلا رحمة ولا شفقة. مسلم (1658). مسلم (1659). مسلم (2328). أبو داود (1532)، وصححه الألباني. أحمد (6494) أبو داود (4941)، الترمذي (1924)، وصححه الألباني. البخاري (6941)، مسلم (2319).
1 like ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on February 07, 2014 04:44

January 29, 2014

وا ثورتاه




لم تمت الثورة ما دام في الشوارع من يكافح عنها، ولكن النداء عليها بصيغة الميت "واثورتاه" من معاني الحماسة التي اشتهرت في تاريخنا كقول المرأة "وامعتصماه" وقول قطز "وا إسلاماه"، غير أن الحال صعب وفي ضيق وكرب، والأمل في الله لا ينقطع ثم في الشباب الذين يجددون الثورة ويخوضون الآن أحرج معاركها.
لكن الفارق بين الثورة إذ هي شباب هادرة، وبينها بعد أن تآمر عليها العسكر ومن خلفهم عروش ملوك وامبراطوريات فارق كبير.
(1)
الحاكم يريد إحياء النظام..
ليس من تعبير أقوى عن الفارق بين الثورة والانقلاب مثل الفارق بين "الشعب يريد" و"الحاكم يريد"، في الأولى الحاكم يستجيب للشعب وإن رغما عنه، وفي الثانية على الشعب أن ينزل لتفويض الحاكم ليفعل ما يشاء!
بعد الثورات يكون الشعب سيد نفسه ومالك أمره، وإذا ما تجاوزنا المطبات والمناورات التي عبرت بها ثورة يناير فإن صلب الحركة الثورية والمسار السياسي كان بيد الشعب، فالشعب هو الذي وافق على تعديلات دستورية، ثم هو الذي انتخب ممثليه لمجلس الشعب، وممثليه في مجلس الشورى، وهم بدورهم انتخبوا لجنة لكتابة الدستور، وهو من وقف المرشحون أمام الشاشات يستعرضون مهاراتهم وبرامجهم ويتعرضون لامتحانات قاسية ليحاولوا إقناع الشعب بالتصويت لهم، ثم وقف الشعب في الطوابير واختار من شاء في ظل حرية إعلامية ظاهرة، ثم نزل الشعب ليقرر رأيه في الدستور الذي كتبته لجنة منتخبة.. وهكذا كان المسار بعنوان "الشعب يريد".
بعد الانقلاب يختفي الشعب من المعادلة تماما، ويأتي الحاكم ومعه أجهزة الدولة والإعلام والأموال ليفعل ما يريد، فكل من ساهم في كتابة خريطة الطريق شخصيات غير منتخبة ولا تمثل إلا نفسها، فالعسكر هم مجرد موظفين لم يبلغوا أماكنهم باختيار الشعب بل إن الشعب لا يعرف حتى أسماءهم فضلا عن أن يكون اختارهم، والبرادعي مجرد رئيس حزب لم يحصل على أي شعبية في أي استحقاق انتخابي، وكذلك شيخ الأزهر الذي هو مجرد موظف اختاره حسني مبارك، وبابا الكنيسة جاء بالقرعة على يد طفل صغير بعد اختيار كنسي ضيق، فضلا عما سميت حركة تمرد التي بلغت من الفجور حدا غير مسبوق، إذ زعمت أنها جمعت ملايين التوقيعات دون أن تقدم على هذا أي دليل!
في ظل غياب أي إسهام شعبي، عُيِّن موظف بالمحكمة الدستورية شاءت له الأقدار أن يكون الأكبر سنا في تلك اللحظة (!) كرئيس للجمهورية، لكن الأقدار لم تُعطِه إلا الختم ليوقع به على القرارات الانقلابية مثل: حل مجلس الشورى المنتخب، تعيين لجنة لكتابة الدستور من الأصدقاء والمرضيّ عنهم، ثم لم يُسمح لأي مهرج بالمساس بالانقلابيين في أي وسيلة إعلامية، ولم يعد أحد يستطيع أن يفكر في خيار "لا" على الدستور، وفي سابقة "ديمقراطية" كان يقال: من يقول لا فهو خائن، وكانت الشرطة تقبض على من يقول لا أو يفكر في توزيع منشورات تدعو للتصويت بلا.
وهكذا، ما على الشعب إلا أن يستمع لوسائل إعلامنا، ثم ينزل إذا احتجنا أن نرتكب جريمة ليعطينا "التفويض"، والذي ستتولى الكاميرات والإعلام ترجمة مطالبه وتفسير إرادته كما نرغب.. فهكذا صار المسار بعنوان "الحاكم يريد".
فهذا فارق ما بين الثورة والانقلاب.
(2)
كلكم خالد سعيد..
بلغ من عتو النظام أنه لم يضحِّ حتى بأمناء الشرطة الذين قتلوا الشاب خالد سعيد –أيقونة الثورة، كما يحب البعض أن يسميه- فسارت محاكمتهم الهزلية برعاية القضاء الشامخ حتى تمت براءتهم، والآن تواجه أسرته تهمة البلاغ الكاذب ويطالب الجناة بتعويضات مادية ومعنوية!! مشهد يلخص انتكاسة الثورة.
قميص الشهداء رُفِع في وجه مرسي، وكان حقا أريد به باطل، ثم اختفى القميص في ظروف غامضة من بعد الانقلاب العسكري.
كانت "القوى السياسية والثورية" –وما هي بقوى، إن هي إلا ميكروفونات- تؤلف وتزيف وتخترع أرقاما للشهداء، وكان آخر ما بلغه خيالهم أن يقولوا "في عهد مرسي سقط مائة شهيد مصري"، وهذا دجل مفضوح، ولا يستطيع أحدهم إثبات أكثر من عشر حالات أغلبهم من مؤيدي مرسي!! لكنه مشهد الإنسان حين يتجرد من الشرف ويتجرد معه من الحياء!
وقد اكتمل المشهد بسقوط الآلاف في الأيام الأولى للانقلاب، ففي أول مذبحة (الحرس الجمهوري) سقط 112 شهيدا على الأقل، وفي ثانيها (المنصة) سقط 211 شهيدا، وهذا بخلاف المحارق الكبرى في رابعة والنهضة ورمسيس والمهندسين والدقي، وبخلاف العمليات العسكرية في كرداسة ودلجا، وبخلاف المحرقة المنصوبة يوميا ولا نعرف عدد شهدائها في سيناء.
وهم لم ينزلوا قميص الشهداء حتى رفعوا مكانه لواء الإفناء والسحق والاستئصال، وكتبت مقالات جادة تحرض على إفناء الإخوان باعتبارهم حشرات ضارة وأمراض معدية يجب "تعقيم" البلد و"تطهير" الوطن منهم!!
وفي حين تسعى الثورات للاقتصاص لكل خالد سعيد، تسعى الانقلابات لجعل الناس كلهم عبرة ومثلا كخالد سعيد.
(3)
إني هنا القانون..
رسم شاب ظريف كاريكاتيرا بهذا المعنى: قررت الدستورية حل مجلس الشعب، يسأل المواطن: وإرادة الناس؟ فيقال له: القانون فوق إرادة الناس. فلما تم الانقلاب العسكري سأل المواطن: أين القانون فقيل له: إرادة الناس فوق القانون!!
في الانقلابات العسكرية لا مجال لقانون، كان خطاب السيسي يمثل ساعة صفر لحملة إغلاق القنوات الفضائية واعتقال القيادات، وبعد ساعات عزل النائب العام ومدير المخابرات ورئيس الرقابة الإدارية وعدد من المناصب التي يشغلها معارضي الانقلاب، وبعد ساعات أخرى صدر قرار حل مجلس الشعب، وبعد ساعات صدر قرار بتعيين لجنة الدستور، واختفى الرئيس المنتخب فلا يُعرف مكانه لشهور تالية، وتمت كافة الإجراءات بلا أي غطاء قانوني.. ويجب ألا ننسى أن الانقلاب أصلا جريمة قانونية.
لكن، هكذا تكون الانقلابات..
لا كتلك الخديعة التي شربها الناس يوم 11 فبراير حين عُزِل مبارك فاستقر في قصره في شرم الشيخ وظل رجاله أحرارا لشهور، بل بدا لمبارك أن يسرب تسجيلا صوتيا أذاعته قناة العربية يتوعد فيه بمقاضاة كل من اتهمه في ذمته المالية! لو كان مبارك يشك لحظة واحدة أنه قد يُمَسّ لما بقي في مصر، وهذا يدلك على مستوى الأمن والرفاهية التي كانت له ولرجاله حتى أتموا أمورهم في تحويل الأموال وفرم الأوراق وتدبير أمورهم في التجارات والأملاك.
وكانت الحركة الثورية من السذاجة والغباء بحيث ابتلعت –أو حتى طالبت- بأن يأخذ القانون الطبيعي مجراه، وألا تكون المحاكمات ثورية أو استثنائية، وبعد استقرار هذه الخديعة، حدثت أمور مدهشة، إذ كان القضاء مستمرا في صدم الناس بتبرئة القتلة، فيشتم الناس القضاء، فيحاول مرسي إصلاح الوضع فتهب عليه الأعاصير التي ترفع لواء "دولة القانون، القضاء الشامخ، قدسية الأحكام القضائية... إلخ.
ونحن هنا لا نناقش خطأ مرسي الذي كان ينبغي له كرئيس بعد ثورة أن يضرب بهذه الشعارات وأصحابها عرض الحائط ويلقيهم وإياها في أقرب مزبلة أو أقرب زنزانة –أيهما أنسب- بل نناقش قميص القانون الذي اختفى هو الآخر في ظروف غامضة!
وقد صدق نيتشه في قوله "القانون ما هو إلا تعبير عن رغبات الأقوياء"، ومن بعد ما كان رئيس نادي القضاة يملك من الحرية ما يسمح لسفاهته أن تبلغ حد الاستغاثة بأوباما ودن أن يمسه أذى لتحصنه بثوب القضاء، فالآن تجري مذبحة قضائية للأقلية الضئيلة التي تتمتع بنزاهة قضائية.
في عهد مرسي قُتِل الشاب محمد الجندي في ظرف غامض، تقارير طبية قالت بأنه حادث سيارة وتقارير أخرى قالت بأنه تعذيب في معسكر أمن مركزي، وعقدت ثلاث لجان على الأقل للفصل في الحالة. في عهد الانقلاب لم تتحرك دعوى قضائية ضد آلاف المقتولين.
صارت القوة هي القانون، ولم يعد للقانون من قوة..
تماما كما قال القرضاوي في نونيته على لسان حمزة البسيوني، مدير السجن الحربي أيام عبد الناصر:
أين الأُلى اصطنعوا البطولة وادعوا .. أني أعذبهم هنا بسجوني
أظننتمُ هذا يخفف عنكمُ .. كلا فأمركم انتهى، وسلوني
إني هنا القانون أعلى سلطة .. من ذا يحاسب سلطة القانون
إن شئت سامحتكم فبرحمتي .. وإن أبيتُ فذاك طوع يميني
ومن ابتغى موتا فها عندي له .. موتا بلا غسل ولا تكفين
(4)
أرض الزنازين..
بعد الثورات يهدمون المعتقلات، وبعد الانقلابات يبنون المزيد. هذا ما يحدث في مصر الآن.
كانت الخلافات في أيام مرسي مهتمة بالتفاصيل، هل التابلت المصري مصري 100% أم فقط تغلب عليه المكونات المصرية؟ ما هي المزايا التي ستستطيع السيارة المصرية أن تنافس بها الشركات الكبرى؟ هل استطاع مرسي تحقيق المستهدف المعلن من إنتاج القمح أم حقق منه نسبة 75% فقط؟ هل تحسنت السياحة بنسبة ما قبل الثورة أم ما زالت النسبة تعاني ضعفا؟
بينما الخلافات بعد الانقلاب منصبة على أعداد القتلى، هل هم 7000 كما يقول مؤيدي الشرعية أم أربعة آلاف فقط كما يقول خصومهم، وكذلك عدد المصابين والمعتقلين، أين وكم سجنا جديدا أصدرت الحكومة تراخيص إنشائها؟ هل الزنازين الانفرادية يتوفر بها تهوية وإضاءة أم تخلو من كل هذا؟ ما الذي يُسمح بأخذه في زيارات المعتقلين، وما مدى الإهانات في إجراءات التفتيش لأهاليهم؟ هل معتقلي أبو زعبل قُتِلوا وهم يحاولون الهرب أم قُتِلوا لخطأ غير مقصود من الضابط الذي أطلق عليهم قنبلة غاز مسيل للدموع داخل قفص سيارة الترحيلات؟!
توقفت كل المشاريع التي بدأت في عهد مرسي، السيارة والتابلت وخطة الاكتفاء الذاتي من القمح، وصرح وزير التموين الجديد منذ الأيام الأولى بأن خطته هي استيراد القمح، وعادت مصر المستورد الأول للقمح في العالم، وفازت روسيا بمركز المصدر الأول للقمح، وكل الانهيارات في كل المجالات أقسى وأخطر وأفدح مما قبل الانقلاب.
إن مرسي مهما اختلفنا حوله كان يمثل الأمل القادم، بينما السيسي يمثل تجديدا لجحيم العسكر الذي عاشت فيه بلادنا ستين سنة سوداء مظلمة، لم تر فيها لا نصرا خارجيا ولا نهضة داخلية ولا حتى كرامة للإنسان.
مرسي يمثل الثورة، والسيسي يمثل الانقلاب.. وشتان بينهما كما هو شتان بين الثورة والانقلاب.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 29, 2014 23:18

ثمرة الجهاد في عصور الضعف


كم في التاريخ من لحظات كانت تنادي على البطل ولا تجده، وبمناسبة دخول العام الهجري 1435 فقد اخترنا أن نتحدث عن لحظة جرت في مثل هذا العام ولكن قبل ألف عام.. وكان ذلك في بغداد، معقل الخلافة الإسلامية، إذ كانت حينئذ في عصر يصلح أن نطلق عليه "عصر الضعفاء.
***
كانت بغداد، عاصمة الدنيا والخلافة، قد آل أمرها إلى الضعفاء:
1. فالخليفة العباسي ورث خلافة قد ذهبت قوتها بذهاب العباسيين الأقوياء الذين تسلط عليهم البويهيون.
2. والبويهيون –وهم قوم عسكريون- ظهروا أول أمرهم على الساحل الجنوبي لبحر قزوين ثم أخذوا في التوسع حتى سيطروا على بلاد طبرستان وفارس ثم العراق وصاروا ملوك بغداد على الحقيقة. فتحولت السلطة في بغداد إلى رأسين: الخليفة يملك الشرعية ويقوم بالإجراءات الرسمية بينما المُلك على الحقيقة بيد الملك البويهي الذي يدير الأمور ويُجيِّش الجيوش ويتصرف بالأموال وهو يملك –فعليا- إجبار الخليفة على خلع نفسه من الخلافة، لكنهم في العادة تركوا الخليفة يعيش معزولا في قصر الخلافة وأطلقوا له ما يكفيه من الأموال لشؤونه وشؤون أهله.
3. لكن البويهيين الأقوياء ذهبوا، وجاء الضعفاء الذين لم يعودوا يستطيعون السيطرة على الدولة ولا على الجيش الذي بدأت تظهر فيه الانقسامات العرقية بين الأتراك (وهم الذين كانوا يمثلون الجيش الأساسي للدولة منذ قرنين قبل قدوم البويهيين وجيشهم من العرق الديلمي) والديلم، وكانت الكفة تميل لصالح الأتراك بما لهم من مواهب شخصية ومن تاريخ قديم في العسكرية العباسية، وساعدهم على ذلك أن الديالمة أنفسهم ضعفوا بعد أن تفككت الدولة البويهية بتنازع أمرائها فصار بعضهم في فارس وبعضهم في العراق وبعضهم في طبرستان.
غير أن الأتراك يواجهون مشكلة أخرى، أنهم بلا قائد، وليس من بينهم من يمتلك مواهب الزعامة والقيادة، فهم قوة تبحث عمن تتحالف معه لكنها لا تجده!
وهكذا كان حال الخليفة العباسي (القائم بأمر الله) والملك البويهي (جلال الدولة) والأتراك الذين هم أقوى أجنحة الجيش.
فكل طرف من هؤلاء الثلاثة يملك شيئا ويفتقد آخر، الخليفة يملك الشرعية ويفتقد الهيبة والنفوذ والقوة، والبويهيون يملكون النفوذ وبعض القوة (والقوة للبويهيين هي قدرتهم على إدارة البلاد وحكمها) ولكنهم يفتقدون الشرعية والقوة العسكرية، والأتراك يملكون القوة العسكرية ولكنهم يفتقدون شرعية الخلافة والنفوذ والقدرة على الإدارة.
ولهذا جرت أمور السياسة غريبة مثيرة للدهشة، فالأحوال الاقتصادية المنهارة تؤثر على دفع رواتب الجيش، فيحمل هذا الوضعُ العسكرَ التركي على مهاجمة قصر الحكم البويهي ونهبه وخلع جلال الدولة، وجلال الدولة يستسلم لهذا الخلع ويأخذ أسرته ويخرج من بغداد، فيعيش الأتراك أزمة أكبر بعجزهم عن إدارة الدولة، وقد فشلوا أكثر من مرة في إيجاد البديل لجلال الدولة، فيضطرون مرة أخرى للاعتذار له وإعادته إلى الحكم، ويجري بينهم اتفاق يُنَظِّم دفع الرواتب، لكن الاقتصاد المنهار لا يسمح بسريان هذا الاتفاق فيعودون لخلعه فيستجيب ويستسلم ويخرج، فيفشلون في إيجاد البديل، فيعود مرة أخرى.. لقد تكرر هذا السيناريو الدرامي ثلاث مرات في ست سنوات!
وصار الاعتزال سنة، فالأتراك أحيانا يهددون بالإضراب عن العمل والخروج من بغداد لتفرغ من قوة الجيش كي يُستجاب لهم، والخليفة نفسه –الذي صار يُعتدى على بعض أمواله وممتلكاته لتوفير الأموال- يهدد بالخروج من بغداد بما يعني انهيار الشرعية، وبما يعني أن خروجه سيؤدي إلى أن يعرض آخرون من الأسر الحاكمة للأقاليم أن ينتقل إليهم وينزل عندهم، فيكونون بذلك نوابه، فيحلون –بهذا- محل البويهيين، وتكون لهم شرعية السيطرة على بغداد وحكمها باسم الخليفة العباسي أمير المؤمنين، وإضافة إلى ذلك فإن الخليفة يستطيع -بما له من مقام ديني وتاريخي- أن يأمر القضاة وبعض أصحاب المهن بالإضراب العام فتتعطل المصالح بما يسبب ضغطا على جلال الدولة وعلى الأتراك.
وتحت هذه المظلة السياسية الهشة والمتصارعة انهارت الدولة وانهار المجتمع ككل..
فأما انهيار الدولة فهو أنها لم تعد تسيطر إلا على العراق وحده بل هي فعليا لا تسيطر إلا على بغداد بينما استقل الأمراء بالبلاد وتفككت الدولة، بل حتى أطراف العراق قد صارت تحت نفوذ أمراء مستقلين بها ولا تربطهم بالخلافة إلا دفع أموال سنوية فحسب. بينما ما خلف العراق من بلاد فارس وخراسان والسند والهند وما وراء النهر تقوم فيها دول تستقل استقلالا كاملا عن خلافة بغداد، وكذلك الحال في الشام ومصر والشمال الإفريقي والأندلس.. بل وسيطرت عصابات الأعراب والقرامطة على طريق الحج وأجزاء من جزيرة العرب حتى لم يعد العراقيون وأهل المشرق يستطيعون أداء فريضة الحج، وإن غامروا وفعلوا فإنهم يعرفون أنهم يغامرون بحياتهم.
وأما انهيار المجتمع فلقد انتشرت فيه عصابات النهب والسلب وقطع الطرق، وصارت العصابات كيانات لها تنظيمات وعادات وزعماء، وازدهرت مهنة "الحراسات الخاصة"، وحدث بالفعل أن الناس كانوا أحيانا لا يستطيعون أداء صلاة الجمعة، وحدث يوما أن أقيمت الجمعة بثلاثة فقط في مسجد براثي ببغداد، وقد بلغت قوة هذه العصابات حد أنهم يهاجمون قوات الجيش وقد يأسرون بعضهم ونفذوا أكثر من اقتحام لسجون بغداد، ولم يكن أمام سلطة بغداد إلا التفاوض معهم إذا أرادت دخول مناطقهم. وفوق كل هذا وذاك كانت المواسم تحمل تجددا دائما للفتنة بين السنة والشيعة، فالشيعة يحتفلون بعيد الغدير (18 ذي الحجة) وعاشوراء (10 المحرم) فاخترع جُهَّال أهل السنة -مقابلة لهم وردا عليهم- يومين آخرين: نجاة النبي وأبي بكر يوم الغار (26 ذي الحجة) ومقتل مصعب بن الزبير (18 المحرم) وفي ظل عجز الجميع عن إيجاد أو تثبيت أي حل، فكان الجميع يرضى بالحلول التخديرية والتسكينية والتي ما تلبث أن تنهار لتبدأ الكرَّة من جديد.
ما يثير التأمل، ويثير الضحك المرير، أن جلال الدولة البويهي دخل في نزاع كبير مع الخليفة لأجل أن يُلقَّب بـ "ملك الملوك، مالك الأمم، شاهنشاه الأعظم" ثم استقر الأمر بعد مفاوضات ووساطات إلى أن يكون اللقب "ملك الدولة".
ما يثير التأمل أيضا أن الخليفة لم يكن يزعجه في كل هذا المشهد المرير إلا أن يُعتدى على بعض أملاكه أو تؤخذ بعض أمواله لسدّ حاجة الجيش ودفع رواتبهم، فهذا وحده الذي كان يجعله يرغي ويزبد ويهدد.
***
على أننا حين نرتد بالنظر إلى واقعنا فإننا نجده أسوأ..
ففي ذلك الوقت لم يكن ثمة صراع عالمي يملك فيه أعداء الإسلام من القوة والنفوذ ما يسمح لهم بالتدخل في أحوال الأمة الإسلامية وتجنيد أجنحة السلطة فيها أو السيطرة على جيوشها..
وفي ذلك الوقت كانت بغداد محروسة بالدول الإسلامية التي تحوطها شرقا وغربا، فمهما كانت النزاعات الداخلية مستعرة فهي في النهاية نزاعات إسلامية إسلامية، ليس فيها ما يهدف إلى محو الدين أو إضعاف المسلمين أو التمهيد لأعدائهم من الكافرين أو الملحدين..
وكل هذا إنما كان من الثمار المتأخرة لعصر الفاتحين، ذلك العصر الذي مدَّ خطوط التماس بعيدا عن عاصمة الدولة وقضى على قوة الأعداء بحيث صارت الاشتباكات عند أطراف الأمة الإسلامية، وصار بين العاصمة وبين أعداء الأمة بلادا وأراضي من المسلمين، وهذه البلاد كم قامت بواجبات الجهاد وفتح المزيد من البلاد حتى في ظل الضعف الشديد للخلافة في بغداد، فالسامانيون جاهدوا وفتحوا فيما وراء النهر شرقا، والغزنويون والغوريون جاهدوا وفتحوا في وسط آسيا والهند، والطولونيون والإخشيديون والحمدانيون تولوا عبء جهاد البيزنطيين في الشام وأطراف آسيا الصغرى، والأغالبة فتحوا صقلية وظلت تحت حكم الإسلام لقرنين من الزمان، والمسلمون في المغرب والأندلس كانوا يواجهون الصليبيين الإسبان.
وما يزال المرء يتأمل في أحوال التاريخ فلا يجد شيئا أعظم ثمرة ولا أكثر بركة ولا أقوى آثارا من الجهاد في سبيل الله.
نشر في الحملة العالمية لمقاومة العدوان
اختيار هذين اليومين فيه رد على الروافض؛ فيوم نجاة النبي وأبي بكر من الغار رد على تشنيع الروافض على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويوم مقتل مصعب بن الزبير كردٍّ على يوم مقتل الحسين، فأرادوا جعل مصعب بن الزبير لهم كالحسين للشيعة، وذلك أن مصعب بن الزبير هو من قتل أبا عبيدة الثقفي الذي كان من زعيم الشيعة ذلك الوقت. لكن التواريخ غير صحيحة، وهذا الأسلوب نفسه في الرد على البدع بابتداع بدعة جديدة باطل لا يقره أهل السنة، وإنما حملت عليه المنازعات المشتعلة.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 29, 2014 06:09

January 13, 2014

عسكر مصر يهددون بحرب على حماس!!


خبر منشور بالأهرام اليوم: اللواء محمود خلف: حماس عليها أن تنتظر عملاً عسكريًا مصريًا إذا لم تسلم غزة للسلطة الفلسطينية.
 التعليق:
 1. دليل آخر على أن عسكر مصر عملاء مرتزقة وكلب حراسة للصهاينة والأمريكان.
 2. موقف فاصل بين عباد الله المسلمين، وبين عباد سايكس بيكو من الكافرين والمنافقين والمغفلين.

مع العلم أن حدود سايكس بيكو لا يلتزم بها إلا المغفلون، فالحرب على الإسلام لا علاقة لها بالحدود، وإلا فما الذي يدفع عسكر مصر إلى تدخل عسكري خارج هذه الحدود.

3. بلاد العرب بغير جيوش، أفضل منها بهذه الجيوش التي لا تفعل إلا قتل شعوبها، بينما هم كلاب يهزون أذيالهم عند العدو.

4. أسأل الله هزيمة ساحقة للعسكر المجرمين أعداء الإسلام والمسلمين، فهي -على الحقيقة- هزيمة لأحد أذرع الصهاينة والأمريكان.

5. هذا ليس التصريح الأول، فمنذ هذا الانقلاب الملعون تم تدمير مئات الأنفاق -التي هي شريان الحياة، قبل أن تكون شريان المقاومة ضد إسرائيل- بل وسجلت طلعات طائرات مصرية فوق مقرات ومراكز تدريب للمقاومة في غزة.

6. لم تكفهم جرائمهم منذ كامب ديفيد، وحتى حصار غزة أيام مبارك، وما جرَّه هذا على أهلنا في غزة من أمراض وجوع وبرد وتوقف أعمال ومصانع، فالآن يريدون شن الحرب بأنفسهم.

7. لا أنتظر موقفا من كل نجس أو غبي أيد الانقلاب، ثم وضع ذيله في فمه، بما فيهم برهامي وطائفته ورمم الأزهر الرسميين.. فالذين هان عليهم مقاتل الآلاف واعتقال وتشريد عشرات الآلاف داخل حدود سايكس بيكو التي يعبدونها، لن يهزهم شيء مثل ذلك خارج هذه الحدود.

8. في ليلة الانقلاب تمنيت لو أن حماس كسرت خط الحدود، فهي المستهدف الأهم من هذا الانقلاب، وهو ما يعني عودة لعصر ألعن من عصر مبارك.. واستباقا للحرب التي سَتُشَنُّ عليها قبل أن يعدوا لها.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 13, 2014 05:19

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (السائحين)


ذكرنا في المقال الماضي "جاذبية الإسلام الاجتماعية" لقطات من صفحات التاريخ، تظهر كيف كانت حياة المسلمين الطبيعية وأخلاقهم غير المتكلفة هي الباب الأكبر الذي دخلت منه الشعوب في دين الله أفواجا، ورأينا كيف أن هذا الباب لا يُغلق أبدا، فهو يؤتي ثماره في عصر القوة والازدهار ويؤتي ثماره كذلك حتى في عصور الضعف والاحتلال.
وفي سياق الحديث عن موضوع: الرعاية الاجتماعية لغير المسلمين وللمسلمين الجدد، يحسن أن نفصل الحديث إلى موضوعين؛ الأول: عن رعاية غير المسلمين في المجتمع الإسلامي سواء أكانوا مقيمين أم زائرين، والثاني: عن رعاية المسلمين الجدد الذين أنبتت في قلوبهم بذرة الإيمان وتحتاج إلى من يتعهدها بالرعاية والسقاية حتى تصير سامقة زاخرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ونبدأ بالحديث –في هذا المقال والمقالات التي تليه- عن الموضوع الأول: رعاية غير المسلمين، فالله المستعان..
***
غير المسلمين في بلادنا نوعان: مقيمون فيها أو زائرون لها، وتختلف أغراض الزيارة ما بين السياحة القصيرة وأغراض العمل الطويلة التي قد تمتد إلى عقود متصلة، ولربما لا تبدو الفرصة واضحة في شأن السائحين لمدة أيام أو لأسابيع إلا أنها فرصة كاملة وجاهزة بالنسبة لأولئك المقيمين لأغراض العمل والتكسب، لا سيما في دول الخليج، التي تعتمد على العمالة الأجنبية من أول العامل الفقير وحتى أصحاب المشاريع العملاقة والاستثمارات الضخمة.
أولا: السائحون
ونعني بهم جميع من يرد بلادنا لمدد قصيرة، سواء للسياحة أو لعمل أو لغيره، ونحن إذا تدبرنا في حال من أسلم من هؤلاء -أو على الأقل تغيرت قناعاته عن الإسلام- سنفهم ماذا ينبغي لنا أن نفعل كي نجتذب هذه الشريحة إلى دين الله تعالى.
1. شعائر الإسلام
أول ما ينبغي أن نفهمه أن الإسلام هو أمر "مختلف" بالنسبة إلى هؤلاء، أي أنه لا يجذبهم في بلادنا ما نحاول أن نشابههم به من أنماط البناء والأزياء والمأكل والمشرب والترفيه، بل يجذبهم عندنا ما لا يجدوه عندهم. وقد نستغرب حين نعرف قصة إسلام المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس التي بدأت من صورة في مجلة هذا وصفها "منظر خشبي رأيت فيه منازل ذات سُقُف منبسطة تبرز من بينها هنا وهناك قباب مستديرة يزينها الخلال وسط سماء مظلمة، كما شاهدت رجالا يجلسون القرفصاء على السطح وعليهم حُلل غريبة وقد انتشرت ظلالهم في صفوف غامضة.. لقد ابتهج خيالي بهذه الصورة تبعا لاختلافها الشديد عن المناظر الطبيعية المعتادة في أوروبا، فقد كانت منظرا شرقيا"وإن أهم وأعظم ما لا يجدوه عندهم هو مظاهر الإسلام وشعائره، وهذه عوامل جذب إلهية لسنا ندري سرها ربما لأننا نشأنا فيها واعتدناها، غير أنها تؤثر فيهم تأثيرا كبيرا، ويستوي في ذلك عامتهم وخاصتهم من المفكرين والفلاسفة والباحثين.
ومن ذلك ما عرضته قناة الجزيرةومن أراد الاستزادة فعليه بالكتب التي تقصص حال من أسلموا ففيها مادة غزيرة عن التأثر بالشعائر الإسلامية.
وقد لا يبلغ الأثر حد الدخول في الإسلام، وهذا الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان يقول: "ما دخلت مسجدا قط، دون أن تهزني عاطفة حادة، وبعبارة أخرى، دون أن يصيبني أسف محقق على أنني لم أكن مسلما"وشعائر الإسلام كثيرة إلى الحد الذي لا يكاد يفلت منها نظر زائر لبلاد المسلمين، فالصلوات تشمل مساحة اليوم ويؤديها المسلمون في كل مكان، ثم صلاة الجمعة التي تؤدى كل أسبوع، ثم صيام رمضان الذي يشغل شهرا في السنة، ثم أيام الحج المشهودة، وارتباط المسلمين بها أمر ظاهر ملموس في كل بلدانهم، وهو ما يفسره الفيلسوف الفرنسي الشهير مونتسكيو بقوله "إن المرء لأشد ارتباطا بالدين الحافل بكثير من الشعائر منه بأي دين آخر أقل منه احتفالا بالشعائر، وذلك لأن المرء شديد التعلق بالأمور التي تسيطر دائما على تفكيره"ولربما يحاول البعض تفسير هذا التحول لمجرد رؤية الشعائر الإسلامية بأن فيها من المساواة والبساطة ومظاهر وحدة المسلمين ما هو جدير بجذب القادمين من مجتمعات رأسمالية طبقية أو مجتمعات عنصرية أو مجتمعات تعاني من الخلافات الأهلية، ولا ريب أن هذا صحيح، لكنه لا يصلح وحده لتفسير هذا التحول الكبير والأثر المباشر، ويبقى في الأمر سر إلهي رباني يخاطب الروح والنفس مما لا ندرك كنهه على الحقيقة.
ومما يتبع هذا ضرورةُ أن تكون الكتب والمواد التي تشرح الإسلام موجودة دائما أمام أعين السائحين والزائرين أينما حلوا، في الفنادق والمجمعات التجارية (المولات) والمطاعم والمكتبات والأماكن السياحية والأثرية ووسائل المواصلات بحيث تكون جاهزة للإجابة عن الأسئلة وإدراك لحظة التأثر في أي مكان كان.. إذ نحن لا ندري من أي شيء وفي أي موطن ستبدأ لحظة الهداية.
 
2. آثار المسلمين
بداية، فإن الإسلام يبيح دخول غير المسلمين إلى المساجد –ما عدا المسجد الحرام- شريطة الالتزام بالثوب المحتشم وتوقير المسجد وعدم إتيان المخالفات فيهولا ريب أن هذه الأماكن التي عُبِد فيها الله، وقُرِيء فيها القرآن وصُلِّيَت فيها الصلوات، لها تأثير روحي كبير على القادمين من بلاد تشكو من الضغط العنيف للمادية، هذا الضغط الذي يجعل البوذية أحد أكثر الأفكار رواجا في الغرب لأنها متطرفة في الجانب الروحي الذي يقابل التطرف المادي هناك.
تروي ليلى قنديل قصة أستاذ جامعي بلجيكي أسلم بعد زيارة إلى مساجد القاهرة القديمة وحصوله على نسخة مترجمة لمعاني القرآن الكريمومما يتبع الاهتمامَ بحضارة المسلمين، الاهتمامُ بإعداد المرشد السياحي، فذلك هو الذي سيلتقط لحظة التأثر فيضرب على الحديد وهو ساخن، فإن كان أكثر كفاءة فباستطاعته صناعة هذا التأثر وإنشائه، ومما يذكر في هذا الشأن ما رواه المرشد السياحي المصري عز الدين أحمد سالم أن وفدا سياحيا كاملا تأثر بالإسلام بعد أن حدثهم عن بعض جوانب إعجاز القرآن أثناء زيارتهم لأحد المساجد الأثرية بالقاهرة، ثم رَتَّب لهم لقاء مع أساتذة من كلية أصول الدين استغرق 4 ساعات، ولم ينته هذا الاجتماع إلا بعد أن أعلن عدد كبير من هؤلاء عن رغبتهم في اعتناق الإسلامومما يتبع الاهتمامَ بحضارة المسملين أيضا، الاهتمامُ بالملصقات والمطبوعات الإرشادية للآثار الإسلامية، إذ ينبغي ألا تكتفي المادة التعريفية بعرض تاريخ إنشاء الأثر وعصره، بل تضيف إليه نبذة عن صاحبه وعصره والغرض من بنائ وما إذا كانت ثمة مواقف ذات أثر أو قيمة إسلامية حدثت عنده، فهذا ما يعطي المكان قيمته الروحية والحضارية فضلا عن قيمته المادية والفنية والمعمارية، وإذا تحقق هذا في المطبوع الإرشادي لكل أثر فنكون قد حكينا للسائح -دون أن نشعر نحن ولا هو- تاريخ البلد وحضارته، وأعطيناه رحيق وخلاصة روح البلد وثقافته، وهذا يعمق الارتباط النفسي والروحي بين السائح والبلد، وهو في حد ذاته قيمة اقتصادية بحتة، ولو لم نهدف إلى التعريف بالإسلام.
وربما لا يبلغ التأثر حد الدخول في الإسلام، ولكنه يساهم في كسر الصورة المشوهة عنه في بعض النفوس، فها هي الكاتبة البريطانية المعروفة كارين أرمسترونج التي كانت راهبة كاثوليكية وصارت الآن من وجوه الدفاع عن الإسلام في أوروبا والدفاع عن قضايا المسلمين مثل القدس، كانت بداية تعرفها على الإسلام رحلة إلى سمرقند حيث تأثرت بالروحانية التي تفيض من العمارة الإسلامية 
3. أخلاق المسلمين
وهو الباب الأوسع للدخول في الإسلام، إذ هو يحدث في كل موقف وكل لحظة، ويكون بغير تكلف من المسلمين، وهذا الباب يؤتي ثماره في القديم كما في الحديث، فغالب من أسلموا من غير المسلمين إنما كان إسلامهم من هذا الباب، ومن نَظَر في الكتب التي تقصص قصص من أسلموا وجد ذلك واضحا لا يحتاج إلى إثبات.
وهذا الباب مستمر معنا في كل ما يخص غير المسلمين، سواء أكانوا سائحين أم مقيمين أم من أهل البلد أم كان المسلم في بلاد غير المسلمين، فلا نطيل الحديث فيه الآن، وربما أفردناه بمجموعة مقالات في نهاية هذه السلسلة.
***
وكل ما أوردناه من اقتراحات وأفكار يستطيع المجتمع أن يقوم بها بدون السلطة، أو في أكثر الأحوال لا يحتاج الأمر إلا مجرد "السماح" من السلطة، فالمتطوعون من الدعاة والمراكز الإسلامية يرحبون بأن يضعوا هم جداول الزيارات السياحية وإعداد مواد الإرشادات والمطبوعات وإقامة دورات التأهيل للمرشدين السياحيين واستقبال كل راغب في الاستزادة من المعرفة عن الإسلام وغير ذلك مما يتطلبه الأمر.
والخلاصة أننا نحاول اقتناص كل فرصة ممكنة –مهما كانت سريعة وبسيطة- في هذه الزيارة القصيرة التي يقوم بها غير المسلم لبلادنا الإسلامية، وهو أمر سيجد في نفسه موضع قبول وترحيب لأنه جديد عليه لا يجد مثله في بلاده وهو بطبيعة الحال متشوق للمعرفة والاطلاع على ما في بلادنا من أسرار وكنوز، فأرض الشرق ما تزال تمثل عند كثيرين –وخصوصا الغربيين- أرض الأسرار والكنوز والشمس والسحر واللبن والعسل، وهو من آثار التاريخ الطويل بين الغرب والشرق منذ الأندلس والحروب الصليبية وقصص ألف ليلة وليلة.
 نشر في مجلة البشرى الكويتية، يناير 2014، صفر 1435

د. عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا 2/161. برنامج من واشنطن، بتاريخ 11/9/2006. ( الرابط ) بتاريخ 5/12/2008. د. عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا 1/15 وما بعدها. توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص459. السابق ص458. انظر فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز على هذا الرابط تحقيق صحفي: المساجد الأثرية مراكز لدعوة غير المسلمين، موقع الشبكة الإسلامية، 10/6/2002. ( الرابط ) تحقيق الشبكة الإسلامية. د. كمال العشي: رجال ونساء أسلموا 2/167 وما بعدها. تحقيق الشبكة الإسلامية. كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ص22.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 13, 2014 03:39