محمد إلهامي's Blog, page 70
December 14, 2014
هل يكفي الربيع أن يكون عربيا؟!
كشف أحمد السيد النجار –اقتصادي يساري، ثوري أيام مبارك، ورئيس تحرير الصحيفة الحكومية الأولى أيام السيسي- أن السيسي، وكان وقتها رئيس المخابرات الحربية، اجتمع بالتيارات العلمانية عقيب ثورة يناير وأوصاهم بالعمل لمواجهة الإخوان المسلمين كي لا تؤول الثورة إليهم، وأن التيارات العلمانية من جانبها وعدت بالعمل.
ولم يعد سرا الآن أن اجتماع السيسي ببعض من سُلِّطت عليهم الكاميرات واعْتُبروا رموز ثورة يناير كان بغرض توصيل ذات الرسالة: مواجهة الإخوان المسلمين والحيلولة دون أن تؤول الثورة إليهم!
ويعرف كل من تابع الثورة من الميادين لا عبر الشاشات أن الثورة ما كان لها أن تبقى في الميدان لولا وجود الإسلاميين، حتى وإن تنازلوا فلم يرفعوا شعارات إسلامية صريحة بُغية ألا تظهر الثورة على أنها إسلامية فيكون ذلك أسهل في إزالة مبارك. ولقد قدم الإخوان التنازلات قبل أن يسقط مبارك حين أعلنوا أنهم لن يترشحوا للرئاسة ولن ينافسوا على أغلبية البرلمان، كما لم يحاولوا التواجد في صدارة المشهد وتركوه لمن عُرفوا بـ "شباب الثورة" الذين كان الواحد منهم بالأمس لا يأمن على قفاه من مخبر فصارت الطائرات تنقله إلى الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وصارت السيارات تحمله إلى مقر وزارة الدفاع والمخابرات الحربية.. وما فعل الإسلاميونذلك إلا لذات السبب: تسهيل إزاحة مبارك!
وجرت مياه كثيرة في المشهد المصري، كان خلاصتها انقلاب يوليو، حيث أثبت العلمانيون ومن عُرفوا بـ "شباب الثورة" أنهم مخلصون للحكم العسكري الاستبدادي ضد حرية الشعوب لأن هذه الحرية تأتيهم بالإسلاميين! ولم يعد باقيا في ميدان الثورة إلا الإسلاميون الذين يُقتلون يوميا برضا وتحريض من "شركاء الثورة"! أو على الأقل بسكوت العذراء في خدرها!
هذا المشهد المصري تكرر أيضا في تونس، وقدم الغنوشي وحركة النهضة تنازلات مهينة بغية توحيد القوى "الثورية" لضمان إنجاح الثورة، حتى لقد تنازلوا عن الحكم ضمانا لكتابة دستور، وتنازلوا عن مبادئهم في الدستور ليكون توافقيا، ولم يرشحوا أحدا للرئاسة لينجح المرزوقي (التوافقي)، ثم أعلنوا حيادهم في الانتخابات لكي لا يكونوا عبئا على المرزوقي.. وبعد هذا كله تحالف العلمانيون مع النظام القديم لإقصاء حركة النهضة!! فيستطيع حزب "نداء تونس" (رجال بن علي) بالتحالف مع بعضهم أن يشكل حكومة لا مكان فيها لحركة النهضة!
صحيح أن النهضة لم تذق حتى الآن سياط الدم العلماني بعد الثورة، لكنها على الطريق المؤكد، حتى إن نظام بن علي العائد مرة أخرى لا يخفي نواياه ولا حتى يتحرج في خطابه.. بل يعلنها مدوية: جئناكم بالذبح!!
قالوا قديما: السعيد من وُعِظ بغيره، والشقي من وُعِظ بنفسه، ونحن الآن نعيش في عصر من لم يتعظ حتى بنفسه، ولُدِغ من الجحر الواحد مرات ومرات!
إننا مهما حاولنا تغطية شمس المعركة بغربال الوطنية والتوافق فلن نفلح في ذلك!
إن المعركة التي تدور على أرضنا هي معركة بين الإسلام والغرب، فالمعركة بين الشعوب والاستبداد هي صورة هذه المعركة: شعوب تحب دينها وتختار الإسلاميين في أي انتخابات ولو شبه نزيهة ضد مستبدين جاءوا إلى الحكم على دبابة الغرب وظلوا فيه بدعم الغرب.
وأي محاولة للثورة على هؤلاء الحكام هي محاولة لإنقاص نفوذ الغرب ووجوده في هذه الأرض، والمساحة التي تنقص من نفوذ الغرب يملأها الإسلاميون بطبيعة الحال..
والغرب كما له ذراع عسكري ممثل في الجيوش العربية، له كذلك ذراع مدني ممثل في التيارات العلمانية، فهذه التيارات لم تنشأ إلا في عصور الاحتلال ولم تستمر إلا بدعمه، ولم يكن لها وجود إلا تحت رعاية الذراع العسكري الاستبدادي.
فلو كانت المعركة وطنيةً ضدَّ الاستبداد لوجدت العلمانيين أدعياء الديمقراطية والحرية وقفوا في صف الشعوب مهما كان اختياره، يريدون الحرية التي يستطيعون في ظلها تسويق أفكارهم!
لكن المعركة لم تكن أبدا كذلك، بل هي على الحقيقة معركة بين الإسلام والغرب، وعند لحظة المفاصلة تجد اتحاد الذراعان الغربيان: المستبدون والعلمانيون ضد حرية الشعوب وإرادتها التي تسفر عن الإسلاميين.
إن دعاوى التوافق دعاوى متهافتة تعبر عن سذاجة مهينة.. لكنها الآن بعد هذه السنوات والأحداث تعبر عن خيانة قبيحة!
وإن أي محاولة لنزع صفة "الهوية" عن المعركة القائمة وتغطية شمس الحقيقة بغربال الهويات الوطنية والتوافقات هي محاولة قتل للشعوب وثوراتها، لأنها محاولات إضلال وتزييف وحرث في البحر كطلب الماء من السراب وطلب العسل من الأفاعي!
إنه لا يكفي للربيع أن يكون عربيا .. بل لن يكون ربيع الشعوب إلا إسلاميا!
وتغييب الإسلام من هذا الصراع لشراء التوافق الموهوم هو تضحية بالقدرات الهائلة والروح الملتهبة التي يثيرها الإسلام في نفوس الناس، لأجل شراء قلة قليلة لا تثبت في المعارك ولا تؤثر في الصراع!
نشر في الجزيرة مباشر مصر
Published on December 14, 2014 15:45
فلسفة العلم في الإسلام (3/3)
قلنا في المقالين السابقين (ج1، ج2) أن الافتراق الأساسي بين الإسلام والمناهج الأخرى في فلسفة العلم قائمة على "مصدر العلم"، فبينما تقصره المناهج المادية على الكون وما تُدركه الحواس، فإن العلم في الإسلام له مصدران: الوحي والكون، فالوحي هو ما لا طاقة للإنسان بأن يصل إليه بمجرد العقل وفيه الإجابة عن الأسئلة الكبرى وتحديد للغايات والطرائق المسلوكة الموصلة إليها، والكون هو موضع التأمل والتدبر والتعلم والعمل.
هذا في المصدر، أما في الطريقة والوجهة والسبيل، فيمكننا إجمال ملامح "فلسفة العلم في الإسلام" -لنفهم مواضع تميزه وافتراقه عن المناهج والفلسفات الأخرى وآثار ذلك على طبيعة العلم- عبر التوقف والتدبر في ثلاث آيات:
أولها قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وثانيها قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وثالثها قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
وتحدثنا عن الآية الأولى وما يُستفاد منها، وها نحن نواصل ما يُستفاد من الآيتين الأخريين: لقد حددت هذه الآيات طبيعة ومفهوم العلم في الرؤية الإسلامية، ومنها ترشدت وتوجهت الحركة العلمية الإسلامية في التعامل مع الكون، عقلاً وقلبًا، لتأسس على هذه القواعد والمبادئ والمفاهيم.
ثانيا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ومن هذه الآية نفهم أن:
7. العلم ليس منحصرا في المادة وما تدركه الحواس وحدها، فمجال الروح مما لا يحيط الإنسان به، إلا أنه لا يمكن نفي وجوده أو تجاهله، والإنسان يُحاسب على أعمال غير مادية؛ مثل النية يترتب عليها أمور غير ظاهرة مثل العُجب أو الإخلاص، وقد قال ربنا جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] فأضاف الفؤاد إلى الحواس، فهو يدرك ما ليس بمادي والحواس تدرك هو ما هو مادي، وهكذا "جعل القرآن الكريم سُبُل العلم والمعرفة متعدية للسبل الحسية"8. العلم عملية مستمرة، ومساحة واسعة تنادي على الإنسان أن يبذل فيها جهده ويكتشف منها المزيد والجديد، والمسلم حين يستعصي عليه أمر في العلم يلجأ إلى الله ويضرع إليه أن يهديه إليه ويكشفه له.
ثالثا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ومن هذه الآية نفهم أن:
9. الخضوع لأوامر الله فيما أحل وحرَّم واجب وضرورة، وقد حرم الله علينا علوما بعينها؛ مثل السحر لما يسببه من ضرر وتفريق بين الناس، وحرم علينا استعمال العلوم في تزيين الحرام؛ كاستعمال الفصاحة والبلاغة في تزيين الباطل، وكاستعمال علوم التصوير والإضاءة والإخراج في خدمة الإباحية.
10. ضرورة التحرر والانعتاق من التقليد؛ إذ كل البشر معرضون للجهل والخطأ والضلال، ويبقى الله وحده مصدر العلم الحق، ولذا أنكر الله على من جاءهم العلم من عنده فتركوه وتمسكوا بتراث آبائهم وقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 23 - 25]
11. ويترتب على هذا أن العلوم -خصوصا العلوم الاجتماعية- هي علوم معيارية لا وضعية، بمعنى أنها تدرس ما يجب أن يكون وكيف نصل إليه، لا ما قد كان أو ما هو كائن مكتفية بتفسيره، وهذا لا يكون إلا في حالة وجود وحي، أي وجود علم فوقي معصوم من الخطأ، ولذا لا تجد أبدا -في الحضارة الإسلامية- من بحث في علم الاجتماع أو التاريخ أو السياسة إلا وبحثه يهدف إلى الوصول إلى "المعيارية" أي النموذج الذي أمر الله به، بينما منذ طلق الغرب الدين بزغ لديه فكرة دراسة العلوم على منهج وضعي لا يهتم إلا بتفسير ورصد ما قد كان وما هو كائن، ولذا ظهرت أمثلة شنيعة من علوم تنفي الأخلاق وتمجد القسوة وتؤيد إهلاك الضعفاء والفقراء والمعوقين.
12. وحيث كان الوحي ضرورة لا غنى عنها، كان تضييع الدين مُفسدا مُهلكا، ولذا فنحن إذ ندرس مجتمعات تضيع الدين أو تعتنق أديانًا فاسدة فنحن منشغلون -بطبيعة الحال- بتلمس هذا الفساد ومظاهره وتبيان علاجه، ونحن -بما نملك من اليقين من ضرورة الدين- أقرب لأن نفهم من أين فسد حال هؤلاء ومن أين يمكن إصلاح ما فسد.. لذا فنحن لا ندرس الغرب أو الشرق أو أي جاهلية من موقف اللا موقف كحال المتفحص، بل من موقف الطبيب الذي يبحث عن الخلل ويجتهد في إدراكه بدقة ثم يجتهد في علاجه بدقة، ومن ضرورات موقف الطبيب أن يبصر ويكتشف كذلك مواضع الصحة والقوة والتميز في الحالة التي أمامه.
13. وهذا يحدد أولوياتنا في الدراسة، فالعلوم الاجتماعية "هي المعنية أولا بعملية إسلامية المعرفة، بحيث تستحق أن تُمنح الأولوية بسبب من ارتباطها الوثيق بالمنظور الفكري والأخلاقي، وبسبب من أنها إلى حد كبير كانت ولا تزال بمثابة البوابات أو القنوات الكبرى التي تسرب منها الخلل والتضارب والفوضى وثنائية التوجيه وضيق الخناق على المعطيات الإسلامية"نشر في نون بوست
د. محمد عمارة: إسلامية المعرفة ماذا تعني ص60، 61. د. عماد الدين خليل: مدخل إلى إسلامية المعرفة ص21.
هذا في المصدر، أما في الطريقة والوجهة والسبيل، فيمكننا إجمال ملامح "فلسفة العلم في الإسلام" -لنفهم مواضع تميزه وافتراقه عن المناهج والفلسفات الأخرى وآثار ذلك على طبيعة العلم- عبر التوقف والتدبر في ثلاث آيات:
أولها قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وثانيها قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وثالثها قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
وتحدثنا عن الآية الأولى وما يُستفاد منها، وها نحن نواصل ما يُستفاد من الآيتين الأخريين: لقد حددت هذه الآيات طبيعة ومفهوم العلم في الرؤية الإسلامية، ومنها ترشدت وتوجهت الحركة العلمية الإسلامية في التعامل مع الكون، عقلاً وقلبًا، لتأسس على هذه القواعد والمبادئ والمفاهيم.
ثانيا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ومن هذه الآية نفهم أن:
7. العلم ليس منحصرا في المادة وما تدركه الحواس وحدها، فمجال الروح مما لا يحيط الإنسان به، إلا أنه لا يمكن نفي وجوده أو تجاهله، والإنسان يُحاسب على أعمال غير مادية؛ مثل النية يترتب عليها أمور غير ظاهرة مثل العُجب أو الإخلاص، وقد قال ربنا جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] فأضاف الفؤاد إلى الحواس، فهو يدرك ما ليس بمادي والحواس تدرك هو ما هو مادي، وهكذا "جعل القرآن الكريم سُبُل العلم والمعرفة متعدية للسبل الحسية"8. العلم عملية مستمرة، ومساحة واسعة تنادي على الإنسان أن يبذل فيها جهده ويكتشف منها المزيد والجديد، والمسلم حين يستعصي عليه أمر في العلم يلجأ إلى الله ويضرع إليه أن يهديه إليه ويكشفه له.
ثالثا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ومن هذه الآية نفهم أن:
9. الخضوع لأوامر الله فيما أحل وحرَّم واجب وضرورة، وقد حرم الله علينا علوما بعينها؛ مثل السحر لما يسببه من ضرر وتفريق بين الناس، وحرم علينا استعمال العلوم في تزيين الحرام؛ كاستعمال الفصاحة والبلاغة في تزيين الباطل، وكاستعمال علوم التصوير والإضاءة والإخراج في خدمة الإباحية.
10. ضرورة التحرر والانعتاق من التقليد؛ إذ كل البشر معرضون للجهل والخطأ والضلال، ويبقى الله وحده مصدر العلم الحق، ولذا أنكر الله على من جاءهم العلم من عنده فتركوه وتمسكوا بتراث آبائهم وقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 23 - 25]
11. ويترتب على هذا أن العلوم -خصوصا العلوم الاجتماعية- هي علوم معيارية لا وضعية، بمعنى أنها تدرس ما يجب أن يكون وكيف نصل إليه، لا ما قد كان أو ما هو كائن مكتفية بتفسيره، وهذا لا يكون إلا في حالة وجود وحي، أي وجود علم فوقي معصوم من الخطأ، ولذا لا تجد أبدا -في الحضارة الإسلامية- من بحث في علم الاجتماع أو التاريخ أو السياسة إلا وبحثه يهدف إلى الوصول إلى "المعيارية" أي النموذج الذي أمر الله به، بينما منذ طلق الغرب الدين بزغ لديه فكرة دراسة العلوم على منهج وضعي لا يهتم إلا بتفسير ورصد ما قد كان وما هو كائن، ولذا ظهرت أمثلة شنيعة من علوم تنفي الأخلاق وتمجد القسوة وتؤيد إهلاك الضعفاء والفقراء والمعوقين.
12. وحيث كان الوحي ضرورة لا غنى عنها، كان تضييع الدين مُفسدا مُهلكا، ولذا فنحن إذ ندرس مجتمعات تضيع الدين أو تعتنق أديانًا فاسدة فنحن منشغلون -بطبيعة الحال- بتلمس هذا الفساد ومظاهره وتبيان علاجه، ونحن -بما نملك من اليقين من ضرورة الدين- أقرب لأن نفهم من أين فسد حال هؤلاء ومن أين يمكن إصلاح ما فسد.. لذا فنحن لا ندرس الغرب أو الشرق أو أي جاهلية من موقف اللا موقف كحال المتفحص، بل من موقف الطبيب الذي يبحث عن الخلل ويجتهد في إدراكه بدقة ثم يجتهد في علاجه بدقة، ومن ضرورات موقف الطبيب أن يبصر ويكتشف كذلك مواضع الصحة والقوة والتميز في الحالة التي أمامه.
13. وهذا يحدد أولوياتنا في الدراسة، فالعلوم الاجتماعية "هي المعنية أولا بعملية إسلامية المعرفة، بحيث تستحق أن تُمنح الأولوية بسبب من ارتباطها الوثيق بالمنظور الفكري والأخلاقي، وبسبب من أنها إلى حد كبير كانت ولا تزال بمثابة البوابات أو القنوات الكبرى التي تسرب منها الخلل والتضارب والفوضى وثنائية التوجيه وضيق الخناق على المعطيات الإسلامية"نشر في نون بوست
د. محمد عمارة: إسلامية المعرفة ماذا تعني ص60، 61. د. عماد الدين خليل: مدخل إلى إسلامية المعرفة ص21.
Published on December 14, 2014 15:30
December 11, 2014
موجز تاريخ خلافة الفاروق
فاضت روح الصديق إلى بارئها بعد سنتين في الخلافة كانتا معجزة تاريخية حقيقية، وأقر المسلمون ترشيحه واختاروا عمر بن الخطاب خليفة من بعده.
لقد كان عمر بن الخطاب عنوانًا على عزَّة الإسلام والمسلمين، وكان رجل المواقف الصعبة، شديدًا في الحق، بصيرًا ألمعيًّا، نزل القرآن يُوافق رأيه في أكثر من حادثة، ولم يكن المسلمون يعدلون به أحدًا بعد أبي بكر - رضي الله عنه -.
لقد كان اقتراح أبي بكر على الأُمَّة بخلافة عمر مجرَّد اقتراح لا أكثر؛ فالأُمَّة هي صاحبة القرار والاختيار في النهاية، ولقد أقرَّت الأُمَّة اقتراح أبي بكر ورضيت باختيار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خليفة عليهم، وفي أولى خطبه - رضي الله عنه - أعاد التركيز والتأسيس للعلاقة بين الحاكم والأُمَّة، وأن الحاكم إنما هو وكيل عن الأُمَّة؛ وليس وصيًّا عليها، أو بديلًا عنها، وأن طاعته مشروطة بالتزامه شريعتها وقوانينها، وأن للأُمَّة حقًّا أصيلًا في مقاومة انحراف الحاكم وتقويمه، وأن العدل هو القيمة العظمى التي ينبغي على الخليفة أن يُقيمها، وأنه لا أحد من الناس يتميَّز في أخذ الحقِّ له أو أخذ الحقِّ منه.
وشهد عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قفزتين كبيرتين: الأولى على مستوى التنظيم الإداري الداخلي للدولة الإسلامية، والثانية على مستوى الفتوحات العظيمة التي انفجرت شرقًا وغربًا؛ حتى زالت في عهده الدولة الساسانية الفارسية، وترنَّحت الدولة الرومانية البيزنطية، وأصبح عالم الإسلام يمتدُّ على رقعة فسيحة من أواسط آسيا وحتى السواحل الغربية لإفريقيا.
اهتمَّ عمر بن الخطاب بجوانب النشاط الاجتماعي كالحسبة، والنشاط الاقتصادي كالتجارة وأحوال الأسواق، والنشاط العلمي التعليمي؛ حتى صارت المدينة في عهده منبع العلوم، وصار يبعث إلى الأمصار بالعلماء النابهين ينشرون دين الله، ويعلمونه للناس في الآفاق جميعًا، وقد وفَّرت هذه الموجة العلمية إسنادًا لموجة الفتوح؛ فبالعلم كثر المسلمون وكثر المجاهدون، واستقرَّ الإسلام في النفوس وفي البلاد المفتوحة, وحتى الجانب الأدبي إذ كان عمر -رضي الله عنه- حافظًا للشعر محبًّا له، مشهورًا بالاستشهاد به.
وشهدت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب خطوات متقدِّمة في البناء والتعمير وإنشاء المدن؛ كمعسكرات في بادئ الأمر، ثم كعواصم حضارية؛ مثل: البصرة، والكوفة، والفسطاط وسرت، كما شهدت اجتهادات جديدة مثَّلت تشريعات أصيلة للأُمَّة فيما بعدُ؛ مثل: حالات المجاعات، والنوازل العامة، كما حدث في عام الرمادة، وانتشار الطاعون، وأثَّر ذلك على دفع الزكاة، وتنفيذ الحدود، وابتكار الحجر الصحي، وتقسيم المواريث.
وفي عهد عمر نضجت وتطوَّرت مؤسَّسات الدولة المالية والقضائية، وأُنشئت الدواوين (الوزارات)، فضُبِطت أحوال الدولة ومواردها ونفقاتها، وحُصِر المواطنون في سجلات، وكانت لهم رواتب سنوية، وابتدأ التأريخ الإسلامي، وصدرت النقود الإسلامية، وتعامل عمر - رضي الله عنه - مع ولاة الدولة على المدن والأنحاء بالرقابة التامَّة في الأموال والإدارة وإقامة العدل، وكانت رغبات أهل المدن في تغيير ولاتهم نافذة ومستجابة؛ مهما كانت تَقْوَى هذا الوالي وعدله.
هذا الازدهار الداخلي لم يكن وحده الإنجاز الكبير الذي قام به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ بل لا يمرُّ قارئ على سيرة عمر بن الخطاب إلَّا ويرى موجة الفتوحات الهائلة التي توسَّعت فيها الدولة الإسلامية أضعاف مساحتها؛ ففي عهد عمر اكتمل فتح الشام ومصر والشمال الإفريقي، وسقطت الدولة الساسانية الفارسية، وواصلت الجيوش الإسلامية مسيرتها في فتح البلاد بروائع الخطط الحربية، وبسالات الشجاعة، ونوادر الإقدام، وفي فتح القلوب بما أقاموه من العدل وما نشروه من الرحمة.
ولا نعرف في كل التاريخ رجلا توسعت دولته في عهده هذا التوسع ثم شُهِد له بالعدل والرحمة إلا عمر بن الخطاب، فإن كل توسع نعرفه حمل من المآسي والمظالم والمذابح ما يصيب بالاشمئزاز، حتى إن جمهور المؤرخين من كثرة ما اعتادوا على هذا الطبع تعاملوا مع هذه المآسي ببساطة وكأنها ضريبة حتمية للتوسع، فلم تكن المذابح تخدش البطولات، فمذابح شارلمان لا تؤثر في كونه بطلا في المزاج الأوروبي، ولا مذابح فيليب، ولا مذابح نابليون، ولا ما فعله بسمارك، ولو قُدِّر لهتلر النصر ما أقيمت له المشانق بعد موته!
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد شهد له من غلبهم بالعدل والفضل، فقد جاء في رسالة يشوع ياف الثالث (III Isho Yaph) إلى المطران سمعان ( Simeon) مطران فارس في عهد عمر بن الخطاب إبان فتوحات فارس قوله: "إن العرب الذين منحهم الله سلطان الدنيا، يشاهدون ما أنتم عليه وهم بينكم كما تعلمون ذلك حق العلم، ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس يعطفون على ديننا ويكرمون قسسنا وقديسي الرب، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديار"
وقد كان للفتوح أثر كبير في الاحتكاك الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الأمم، وتأصَّلت في حركة الفتوحات تشريعات فقهية في التعامل مع الأمم والبلدان المفتوحة، وفي العلاقة بين دولة الإسلام وغيرها من الدول، وغير ذلك مما هو مبسوط في الكتب المتخصِّصة في الحضارة والإدارة والسياسة الشرعية؛ ولذلك فإن الفقه المأثور عن عمر - رضي الله عنه - غزير وفير
وقبل كل ذلك وبعده كان عمر - رضي الله عنه - مثالًا في الإيمان والزهد والتقشُّف، وكان يُحاسب نفسه حسابًا شديدًا، وكان يبكي من خشية الله ومن قراءة القرآن؛ حتى حفرت الدموع مسارًا لها في خَدَّيْه، وامتلأت قلوب الناس بمحبَّته وهيبته، ولئن كان الصديق قد ترك الدولة وقد وضعها بين مصافِّ القوى العظمى، فإن عمر بن الخطاب قد تركها وهي القوَّة الأكبر على الساحة العالمية؛ بعدما انهارت أمامها دولة بني ساسان، وانكمشت أمامها دولة البيزنطيين.
وكانت عشر سنوات فارقة في تاريخ الإنسانية، ثم جاءته الطعنة الغادرة ذات يوم وهو يُصَلِّي الفجر، طعنه عبد مجوسي ممَّنْ يعملون في المدينة، فكانت الطعنة النافذة القاتلة التي مكث فيها أيامًا ثم فاضت روحه إلى بارئها، - رضي الله عنه - ورحمه الله تعالى.
وكانت آخر مآثر عمر وآثاره أن اقترح على المسلمين طريقة اختيار الخليفة التالي، فاختار ستة من خيار الصحابة؛ وهم بقية العشرة المبشرين بالجنة مع استبعاد قرابته، ورتَّب أمر الاختيار بينهم؛ فلمَّا مات سار الصحابة على اقتراحه، وأسفر كل هذا عن انتخاب المسلمين للرجل الثالث في المنزلة والمكانة والفضل والمقام .. ذلك هو: عثمان بن عفان!
نشر في ساسة بوست
توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ص102. جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص151. قد اجتهد في جمعه الأستاذ الدكتور محمد رواس قلعه جي في كتابه: «موسوعة فقه عمر بن الخطاب»، وصدرت طبعته الأولى عن مكتبة الفلاح، الكويت، منذ أكثر من ثلاثين عامًا (1401 هـ= 1981م).
Published on December 11, 2014 15:26
December 10, 2014
فلسفة العلم في الإسلام (2/3)
ذكرنا في المقال السابق أن الافتراق الأساسي بين الإسلام والمناهج الأخرى في فلسفة العلم قائمة على "مصدر العلم"، فبينما تقصره المناهج المادية على الكون وما تُدركه الحواس، فإن العلم في الإسلام له مصدران: الوحي والكون، فالوحي هو ما لا طاقة للإنسان بأن يصل إليه بمجرد العقل وفيه الإجابة عن الأسئلة الكبرى وتحديد للغايات والطرائق المسلوكة الموصلة إليها، والكون هو موضع التأمل والتدبر والتعلم والعمل.
هذا في المصدر، أما في الطريقة والوجهة والسبيل، فيمكننا إجمال ملامح "فلسفة العلم في الإسلام" -لنفهم مواضع تميزه وافتراقه عن المناهج والفلسفات الأخرى وآثار ذلك على طبيعة العلم- عبر التوقف والتدبر في ثلاث آياتأولها قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]وثانيها قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]وثالثها قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
لقد حددت هذه الآيات طبيعة ومفهوم العلم في الرؤية الإسلامية، ومنها ترشدت وتوجهت الحركة العلمية الإسلامية في التعامل مع الكون، عقلا وقلبا، لتأسس على هذه القواعد والمبادئ والمفاهيم.
أولا: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]ومن هذه الآية نفهم أن:
1. العلم أساس للدين والدنيا، فأول ما حدث في حياة الإنسان أن علمه الله، وبغير العلم لا يكون الإنسان مؤهلا للاستخلاف في الأرض، بل "لا بد أن نضيف هنا حقيقة أخرى في غاية الأهمية، تلك هي أن كلمة "العلم" وردت في القرآن الكريم مرارا كمصطلح على "الدين" نفسه الذي علمه الله لأنبيائه عليهم السلام (وذلك) في مقابلة الأهواء والظنون البشرية، ومن ثم يغدو العلم والدين سواء في لغة القرآن"2. مصدر العلم هو الله، وموضوع هذا العلوم هو خَلْقُه: الإنسان أو الكون، ومن ثَمَّ فإنه لن يتعارض موضوع العلم مع الدين أبدا، وأي تعارض ظاهري مرده إلى سوء فهم الدين أو سوء تحقيق وتحرير الموضوع العلمي.
3. العلم منحة من الله، فهو نعمة تستوجب الشكر، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]، ومن شُكرها أن تُبذل في مرضاة الله وإصلاح الأرض والقيام بواجب الاستخلاف، وأن لا تستعمل فيما هو محرم أو باطل أو إفساد في الأرض.
4. وحيث إن العلم منحة من الله ونعمة، فإن كل ازدياد منه موجب لمزيد من الشكر والامتنان، لا كما اعتقد اليونان في أسطورة برومثيوس5. العلم للعمل، فلقد علم الله الأسماء لآدم ليقوم بواجب الخلافة في الأرض، ولهذا فالعلم -في الرؤية الإسلامية- مهتم بالعمل والتطبيق، وحائد عن الإسراف والإغراق في التنظير وما لا ينبني عليه عمل، وهذه هي حقيقة المسألة التي افترق فيها المسلمون عن اليونان؛ فأسس المسلمون المنهج العملي التجريبي وانطلقوا من الجزئيات ليُحكموا الكليات بالتجربة والقياس والبرهان، بينما أسرف اليونان في النظر والتأمل والتنظير، وحاولوا الوصول من الكليات (المجهولة) إلى الجزئيات فتخبطوا كثيرا6. العلم -بما أنه صادر عن الله، ويُتَقَرَّب به إلى الله، ويحاسب الله عليه- هو مظنة الإخلاص والعدل وتحري الحق والإنصاف، وهذا كله ضد الهوى والظلم والانحراف، فيتحقق بذلك البصر المطلوب والبحث المتجرد، فاتباع الهوى مذموم وهو طريق الضلال {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، وهذا هو مفتاح القضية الكبرى التي تمثل مشكلة عويصة، وهي استخدام العلم لخدمة الغرض المسبق، ولَيّ حقائق العلوم أو طمسها لتحقيق الغرض، وتلك مشكلة ما زالت بغير حل، ولا يُتوقع أن يكون لها حل مهما حاولت العلوم وضع الشروط والضوابط المنهجية لعملية البحث (خصوصا في العلوم الإنسانية)، إذ مجالها النفس والعقل، وكل بحث يمكن للباحث أن يُزينه بطلاء يبدو علميا منهجيا، وكلما كان متقنا لصنعته كلما كانت زخرفته أحكم.
ونكتفي الآن بهذا، لنواصل الحديث عن الآيتيْن الأخريين وما تبثانهما من معان ومبادئ ومفاهيم في موضوع العلم في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في نون بوست
هذه الملامح مستفادة من مؤلفات عديدة اهتمت ببحث "إسلامية المعرفة" و"تميز الحضارة الإسلامية" و"التوحيد" برؤية معاصرة، وأخذت منها ما له ارتباط ظاهر بموضوع بحثنا هذا، ولمن أراد الاستزادة فعليه بمؤلفات: سيد قطب ومحمد قطب ويوسف القرضاوي وإسماعيل راجي الفاروقي وأنور الجندي ومحمد عمارة وعماد الدين خليل وطه جابر علواني، وبإصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وخصوصا مجلة إسلامية المعرفة.وكل هذه المؤلفات تدور في هذا الموضوع حول معاني واحدة وإن كانت بأساليب وصيغ ومداخل متعددة، وضعت هذه المعاني تحت ثلاث آيات لتكون أسهل في الانضباط والاسترجاع والمذاكرة. د. عماد الدين خليل: حول تشكيل العقل المسلم ص76. تقول الأسطورة عن برومثيوس "سارق النار": استطاع برومثيوس سرقة النار المقدسة من الآلهة (التي هي العلم والمعرفة والنور) وأعطاها للإنسان، فأغضب هذا الآلهة التي تريد احتكار العلم لنفسها لتستمر سيطرتها على الإنسان، فانتقمت من برومثيوس ثم ألقت في الأرض الشرور. محمد قطب: واقعنا المعاصر ص89. أنور الجندي: معلمة الإسلام 1/355 وما بعدها.
Published on December 10, 2014 06:49
December 8, 2014
فلسفة العلم في الإسلام (1/3)
إن الإسلامَ تصورٌ شاملٌ للكون والحياة والإنسان، ومن خلال هذا التصور (العقيدة) تنبثق الطريقة التي يجب على المسلم أن يمضي بها في الحياة لأداء دوره المطلوب.
ومن بديهيات التصور الإسلامي أن هذا الكون وما فيه ومن فيه إنما هم مخلوقات الله عز وجل، وأن هذا الكون لا يستقيم على منهج سوى منهج الله عز وجل، فإن كان ثمة انحراف ذاق الناس سوء أثره بقدر ما اقترفوه لعلهم يعقلون فيرجعون {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
لهذا فإن الافتراق الأول والأكبر بين الإسلام وبين المناهج المادية هو في "مصدر العلم"، فبينما تقصره المناهج المادية على الكون وما تُدركه الحواس، فإن العلم في الإسلام له مصدران: الوحي والكون، فالوحي هو ما لا طاقة للإنسان بأن يصل إليه بمجرد العقل وفيه الإجابة عن الأسئلة الكبرى وتحديد للغايات والطرائق المسلوكة الموصلة إليها، والكون هو موضع التأمل والتدبر والتعلم والعمل، ومن ثَمَّ فإن إسلامية العلوم "إنما تعني إيجاد علاقة بينها وبين السنن الإلهية التي جاء بها الوحي في الكون والإنسان والاجتماع، وكذلك توظيف هذه العلوم والمعارف -عن طريق أسلمة فلسفتها- لتحقيق المقاصد والغايات الشرعية التي حددها الوحي"هذا الافتراق في التصور (العقيدة) يؤدي إلى افتراق في كل شيء بعده، فلو ضربنا مثلا بعلم الاقتصاد، وكيف يؤثر "التصور" في التفسير ومن ثم في إيجاد الحلول، فسنجد أنه:
· طبقا للرؤية المادية: فالاقتصاد هو العلم الذي يحاول التوفيق بين الموارد المحدودة في الكون والحاجات غير المحدودة للإنسان، ومن ثَمَّ لا يبعد أن تجد بين الماديين واحدا مثل مالثوس يقول إن الحروب والنزاعات إنما هي "حلول" تعيد الطبيعة بها تنظيم نفسها ومواردها، وإن الجوع والمرض والموت إنما هي "موانع إيجابية" في مقابل "الموانع السلبية" التي هي تأخير الزواج والشذوذ الجنسي، وهو ما أعطى -بشكل عملي- مبررا قويا لكثير من الحروب وعمليات الإبادة، حيث اعتبر بعض القادة الغربيين في كثير من حروبهم أن هذا قدر محتوم؛ لأن الطبيعة تعيد تنظيم نفسها، كذلك اقترح مالثوس أن أجرة العامل يجب ألا تتجاوز حد الكفاف كي لا يتكاثر كما يحلو له، واقترح أن لا تنفق الدولة على العاطلين لئلا يشجعهم ذلك على الكسل وعلى إنجاب أبناء يزيدون من "الأفواه" أكثر من زيادة "الطعام"، واقترح أيضا وقف الإعانات عن الفقراء، ووضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد. وكانت مثل هذه الاقتراحات مبررات ذهبية للبرلمان البريطاني ليبرر تخفيض إعانات الفقراء وإعانات البطالة وإعانات المرضى والمحتاجين، ولأصحاب المصانع للحفاظ على حد أدنى للأجور، لقد تلقوا آراء مالثوس كما يقول ول ديورانت: "كوحي إلهي مقدس"· بينما الأساس الإسلامي لعلم الاقتصاد قائم على أن الله عليم خبير حكيم، لم يكن ليخلق خلقا ثم لا يجعل لهم رزقا، كما أن الله هو الرزاق، وأن كل دابة في الأرض إنما على الله رزقها، وأنه ما يظهر من فساد في الموارد فإنه بما صنعت أيدي البشر، وأن السماوات والأرض مكنوزة بالثروات {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [الأعراف: 96]، ومن ثم يكون الحل في الضرب على أيدي ذوي الأطماع والمفسدين والسائرين في الناس بما يضخم ثرواتهم على حساب مصالح البشر، فيقف الإسلام ضد الربا والغش والاحتكار والتطفيف، ويفرض الزكاة ويحث على الصدقة ويصنع مؤسسات التكافل والوقف، ولا يمكن أن يصدر عن عالم مسلم مثل الذي صدر عن مالثوس أو فرانسيس بيلاسفبأثر من الخلاف في التصور يكون الخلاف في البحث عن الحلول وإدارة وتنظيم المؤسسات ووسائل الرقابة وأدوات العقاب.
إذن فالتصور الإسلامي للعلم، أو "فلسفة العلم في الإسلام"، تجعل العلم مؤسسا على تصور كوني شامل، يحدد أهدافه وغاياته، وضوابطه وقيوده، وبالإجمال فإن:
§ غاية الغايات عبادة الله وإرضاؤه عبر القيام بواجب الاستخلاف في الأرض بإصلاحها وإعمارها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] وإنقاذ الإنسانية والارتقاء بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
§ وأهم الضوابط والقيود هو الالتزام بأوامر الله ورسوله، فلا يُسلك إلى الغاية العظيمة طريق الشر والسوء، ولا تنتهك الأخلاق في سبيل المنفعة، ولا يُقصد إلى الهدف بمنهج وأسلوب يخالف ما أنزله الله في كتابه وقرره رسول الله في سنته {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]
هذه الغاية الكبرى وهذا الضابط الأهم قد جمعتهما آية في كتاب الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
هذا هو الإجمال، ونتناول هذا الأمر بنوع تفصيل في المقالين القادمين إن شاء الله تعالى.
نشر في نون بوست
د. محمد عمارة: إسلامية المعرفة ماذا تعني ص12. ول ديورانت: قصة الحضارة 42/251 - 253، 42/381 - 389، وانظر: رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص338، رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني: البيئة ومشكلاتها ص112، جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص27. فرانسيس بيلاس: مصلح (!) اجتماعي إنجليزي، محسوب على الليبرالية المتطرفة (!)، ورغم هذا دعم قانون الفقراء (1834م)، ومن أقواله: "إن توفير المزيد من الخدمات الاجتماعية للفقراء من العمال سيشجعهم على الإهمال والكسل، وسينتهي بالمشروعات القائمة إلى الخراب". رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص338.
Published on December 08, 2014 17:04
December 4, 2014
موجز تاريخ خلافة الصدِّيق
تُوُفِّيَ النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد أسس الدولة الإسلامية، فصارت دولة قوية محفوظة الحدود، قد اكتمل لها التشريع الإلهي الذي يمثِّل الدستور الخالد لها، وصار لها رجال تتمنَّى أي دولة أن كان لها واحد منهم .. فاجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينتخبوا من بينهم أفضلهم وأقواهم وخيرهم وسيدهم .. ذلك هو: أبو بكر الصديق
لقد تولَّى أبو بكر الخلافة في ظرف بالغ الدقَّة والخطورة؛ إذ نزلت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين كأشد صاعقة اهتزُّوا لها؛ حتى فقد بعضهم عقله لبعض الوقت، فكان - رضي الله عنه - أثبت الجميع وأسرعهم إفاقة حين صدح بقولته الشهيرة: «مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ». ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] (1). فعندئذٍ أفاق مَنْ لم يكن يُصَدِّق، أو بالأحرى مَنْ لم يكن يُريد أن يُصَدِّق، وعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استكمل أيامه في هذه الدنيا، وأنه قد فارقها إلى لقاء ربِّه جلَّ وعلا، بعد أن قام بالمهمَّة خير قيام: أدَّى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، ونصح للأُمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده.
اختار المسلمون أبا بكر الصديق ليكون خليفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منصب رئيس الدولة، وكان هذا الاختيار هو الأساس الشرعي في الفكر الإسلامي لشرعية الحكم؛ حيث لا حقَّ لأحد في تنصيب نفسه أو غيره على المسلمين بغير رضىً منهم وتشاور، وأعلن أبو بكر في أولى خطبه عددًا من المبادئ التي تُنَظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام؛ منها: أنه مُختار منهم وهم الذين نصبوه في هذا المقام، لا أنه نصب نفسه، أو نصبه أحد من الناس، أو أنه يستحقُّ هذا المنصب لأفضلية له على غيره. ومنها: أن للأُمَّة دستورًا وقانونًا متمثلًا في الشريعة، وأن الحاكم ملتزم به، وأن انحراف الحاكم عن القانون هو مدعاة لعصيانه وعدم القبول به وضرورة مقاومة انحرافه. ومنها: المساواة التامَّة بين الرعية؛ فكلهم أمام القانون سواء، كلهم يُؤخذ له حقُّه ويُؤخذ منه حقُّ غيره.
بدأ أبو بكر الصديق في منصب الخلافة وأمامه ثلاث مشكلات خطيرة: أولاها: ارتداد قبائل العرب التي أسلمت مؤخَّرًا وإعلانها الانفصال إمَّا عن الدين كله، وإمَّا عن تأدية الزكاة والأموال، وبعضهم وصل به الحال إلى أنه كان يجهِّز لحرب المسلمين في عاصمتهم في المدينة المنورة! والثانية: ذلك الجيش الذي أشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه على إعداده وتجهيزه للخروج إلى حرب الروم بقيادة الفتى القائد أسامة بن زيد -رضي الله عنه-؛ إذ اقترح بعض الصحابة إلَّا يخرج هذا الجيش مع تغيُّر الوضع الأمني بارتداد قبائل العرب، وضرورة أن تبقى القوَّة المقاتلة إلى جوار العاصمة تحسُّبًا لأي طارئ؛ وهو ما كان أبو بكر يرفضه بإصرار؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى بإنفاذ هذا الجيش، فكان هذا نصًّا صريحًّا من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحتمل أن يُوضع على محكِّ البحث والنقاش. والثالثة: هي التعامل مع إمبراطوريتي فارس والروم؛ وقد ظهرت عداوتهما، وصاروا في مجال التنفيذ للقضاء على الدولة الإسلامية كلها.
وقد ترتَّب على هذه المشكلات مشكلات أخرى فرعية؛ مثل: الحدِّ بين المسلم والكافر، وهل يُقاتل مَنْ لا يُؤدي الزكاة مع اعترافه بباقي أركان الإسلام؟ وماذا عن تسيير الدولة وقد انقطع الوحي ومات النبي المعصوم، وصار يحكم المسلمين واحدٌ منهم؛ ليس لكلمته قداسة ولا عصمة ولا يأتيه وحي؟ وما الشورى؟ ومَنْ أهلها؟ وما حدودها؟ وضرورة أن يُجمع القرآن في كتاب واحد مكتوبًا محفوظًا؛ لكيلا يضيع لوفاة الحافظين.
وقد قام الخليفة أبو بكر بمهمته خير قيام، فاضطلع بمهمَّة إنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى الروم مع وضع خطَّة لحماية المدينة؛ التي تشهد تداعيات الوضع الأمني الخطير المترتِّب على خلوِّها من المقاتلين، وهو ما كان له أثر بعيد حول ردع القبائل جميعًا التي رأت جيشًا يخرج في هذه الظروف إلى حرب مَنْ لا يتصوَّرون مواجهتهم، ثم أخرج الرسائل والجيوش تباعًا ضمن خطَّة موضوعة سلفًا لإنهاء حركة المرتدين سلمًا ثم حربًا في أنحاء الجزيرة العربية، واستطاعت الجيوش تحقيق انتصارات حاسمة على المرتدِّين وزعماء حركاتهم؛ مما أعاد الهيبة إلى الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، وانتهت حركة الردَّة سريعًا، وإن كلَّفت المسلمين عددًا من خيرة الرجال والأبطال.
وكان مما ترتب على حروب الردَّة ظهور الضرورة إلى جمع القرآن الكريم من الصدور والسطور والصحائف في كتاب واحد؛ من بعد ما فقد المسلمون كثيرًا من حفظة القرآن في حروب المرتدين، فتمَّ في عهد الصديق أهمُّ وأدقُّ وأعظم عمل توثيقي في التاريخ الإنساني كله، وجُمِع القرآن في كتاب واحد بطريقة علمية توثيقية، كانت الترجمة الواقعية لوعد الله الخالد: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وفي خلال هذه الفترة أسس الصديق للتنظيم الإداري للدولة؛ فكان الولاة خاضعين تابعين للسلطة في المدينة المنورة التي هي العاصمة؛ فمنها تصدر الأوامر إلى كل الأنحاء، وتأتي إليها الأموال المقرَّرة في الشريعة.
ثم بدأت مرحلة الفتوح بعدئذٍ؛ حيث استطاعت الدولة الإسلامية الوليدة والخارجة من حرب داخلية طاحنة أن تدخل المواجهة مع القوتين العالميتين في ذلك الوقت؛ وهما: إمبراطورية فارس، وإمبراطورية الروم، ومن العجيب المدهش أنها خاضت هذه المواجهات في وقت واحد، وهذا يُعَدُّ من عجائب التاريخ ووقائعه المدهشة.
وبرزت في تلك الفتوحات أسماء فرسان الإسلام ورجال الإيمان الخالدين، وعلى رأسهم سيف الله المسلول خالد بن الوليد - رضي الله عنه -؛ الذي لم يُهزم في معركة قط، وقد بدأت مسيرته المظفَّرة بقيادته فتوح العراق، وأخذت تتساقط أمامه المدن الفارسية الواحدة تلو الأخرى؛ حتى تحقَّق رسوخ مطمئن للفتوحات في فارس، ثم وجَّهه أبو بكر الصديق عونًا ومساعدة للجيوش التي تُجابه الروم؛ فقد كان الوضع أقلَّ نجاحًا منه في فارس، فانطلق خالد بن الوليد ليُغَيِّر خريطة الأوضاع في الشام، وتبدأ به مرحلة اكتساح الإمبراطورية الرومية وفتح مدن الشام.
في جبهة العراق تسلَّم الفارس الكبير المثنى بن حارثة الشيباني القيادة العامة من خالد بن الوليد، وواصل تقدُّمه في المدن الفارسية، وفي جبهة الشام كانت أربعة جيوش إسلامية تتقدَّم في المدن الرومية، ثم جاءها جيش خالد بن الوليد الخامس، فنشبت معركتان فاصلتان في تاريخ العلاقات الإسلامية البيزنطية: معركة أجنادين ومعركة اليرموك.
ورأى العالم وللمرَّة الأولى فتوحًا حربية ليست كغيرها من الفتوح، سرعة فروسية وقوَّة ورحمة وعدلًا وإحسانًا، وهي الفتوح التي أثارت وستظلُّ تُثير كل أنواع الاندهاش والإعجاب من المؤرِّخين عبر العصور، وهي التي يُسَمِّيها المؤرِّخ وعالم الاجتماع الإنجليزي هـ. ج. ويلز: «أعجب قصص الفتوح التي مرَّت على مسرح تاريخ الجنس البشري»(2). ولم تكن الفتوح عجيبة من حيث قوتها وسرعتها بل بأخلاق الفاتحين أيضًا، وهو ما تُعَبِّر عنه العبارة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي المعروف جوستاف لوبون: «وكان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويُسِيئُوا معاملة المغلوبين، ويُكْرِهُوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم»(3).
هذه الفتوح السريعة القوية صنعت موجة هادرة من الهيبة للمسلمين في العالم القديم، الذي استيقظ فجأة على قوم خرجوا من الصحراء المجهولة المهملة؛ فانطلقوا حتى لم يَعُدْ يقف أمامهم شيء، كما أن المعاملة الإسلامية بالعدل والرحمة بين الناس صنعت موجة هادرة أخرى من انتشار الإسلام بسرعة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا؛ بعد أن تعرَّفُوا على دين يحمله رجال لم يسمعوا عنهم إلَّا في الأساطير وحكايات الخيال، نبلًا ومروءة وعدلًا ورحمة!
وصحيح أن حركة الفتوح تمَّت تحت مظلَّة الإيمان القوي الهادر؛ إلَّا أنها لم تنجح بمجرَّد هذا، بل كانت الخطط الحربية التي وضعها القادة الميدانيون والقيادة العامة ثم القيادة العليا في العاصمة دليلًا على أن القوم كانوا من المحترفين الخبراء، ويمكن العودة في هذه التفاصيل إلى الكتب المتخصِّصة (4).
وتبلغ الدهشة منتهاها حين نعلم أن كل هذا قد تمَّ في عامين فحسب؛ هما فترة ولاية الصديق - رضي الله عنه -، فأي رجل هذا الذي تسلَّم زمام الحكم والعاصمة مهدَّدة بالاجتياح والنهاية، ثم ترك الحكم بعد عامين فقط وقد وضع دولته بين القوى العالمية العظمى؟!
لقد أنجز الصديق في عامين فحسب ما عجز عنه أبطال التاريخ وشخصياته الكبرى في أعمارهم؛ وذلك من إقرار الوضع الداخلي، ثم تثبيت أقدام المسلمين على الساحة العالمية، ثم هو بعد كل هذا رجل كغيره من الناس يتفقَّد الأيتام، ويقوم بحاجة الأرامل والفقراء والمحتاجين بنفسه، ويضرب المثل في الزهد والورع والخوف من الله .. إنها حقًّا شخصية لا تُحيط بها الكلمات!
جاء الأَجَلُ أبا بكر الصديق فترك هذه الدنيا غير آسف عليها، ولا حريص على أن يرى نفسه إمبراطور الدنيا، بل اشتاق إلى لقاء ربِّه، ولم يترك خلفه شيئًا ذا بال، إلَّا اقتراحًا على الأُمَّة أن يكون خليفتها من بعده رجلًا عظيمًا فريدًا من نوعه؛ ذلك هو: عمر بن الخطاب
نشر في ساسة بوست __________(1) البخاري (1185).(2) هـ. ج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص204.(3) جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص605.(4) أفضل ما كُتب في التفاصيل الحربية للفتوحات الإسلامية فيما نعلم هي مؤلفات الأستاذ أحمد عادل كمال في سلسلته «استراتيجية الفتوحات الإسلامية»، وتشمل: «الطريق إلى المدائن، سقوط المدائن ونهاية الدولة الساسانية، الطريق إلى دمشق، القادسية، الفتح الإسلامي لمصر»، ثم كتابه «أطلس الفتوحات الإسلامية» .. ثم يأتي بعدها مؤلفات اللواء محمود شيت خطاب، والركن بسام العسلي وغيرهم.
Published on December 04, 2014 09:54
December 3, 2014
من ذاكرة الغلو
يعد تاريخ القرامطة من التواريخ المحفورة في الذاكرة الإسلامية من قسوة ما بلغ من إجرامهم الذي شمل كثيرا من مدن العراق والشام والجزيرة العربية واليمن، فكانوا إذا اقتحموا المدينة استباحوا أهلها وأموالها ونساءها، ولما تصدت لهم جيوش الخلافة العباسية بدأوا في مهاجمة قوافل الحجيج واستباحتها، حتى بلغ من إجرامهم اقتحام مكة المكرمة وقتل الحجاج ونزع الحجر الأسود من مكانه، وهتف قائلهم "أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟"، واستمر إجرامهم نحو مائة عام.
وقصة القرامطة من القصص البليغة في أن الغلو يودي إلى الكفر، كما أن الكفر يتستر بالغلو، وفي تاريخنا القديم والحديث والمعاصر قصص كثيرة تثبت أن الغلاة كانوا مطايا ومدخلا وغطاء لمؤامرات الكافرين والمُفسدين.
كان أول أمر القرامطة هو الغلو في آل البيت، وهذا الغلو كان مدخلهم في دعوتهم، لكن مسيرتهم انتهت إلى أن صار كل قادتهم ليسوا من آل البيت، بل حاربوهم، وكانوا إذا دخلوا مدينة بدأوا بانتهاك حرمة الهاشميات، ثم استحلوا قواعد الإسلام جميعا، حتى حازوا جريمة اقتحام الحرم التي لم تكن لأحد قبلهم!
ومن بين قصص كثيرة –بامتداد مائة عام، وبمساحة أرض الجزيرة واليمن والعراق والشام- حفظ لنا التاريخ قصة هذه المرأة البائسة التي قتلها ابنها القرمطي.
روى الطبري عن طبيب في بغداد يُدعى أبا الحسن أنه جاءته امرأة تريد أن تعالج جرحا في كتفها، ولكنه كان طبيب عيون، فأجلسها تنتظر حتى جاءت طبيبة النساء والجراحة، ولما رأى بؤسها وبكاءها ألح عليها أن تروي ما بها لعله يساعدها، فقالت المرأة:
"كان لي ابن غاب عني وطالت غيبته، وخَلَفَ عليّ أخوات له فضقت واحتجت واشتقت إليه، وكان شَخَصَ إلى ناحية الرقة، فخرجت إلى الموصل وإلى بلد (اسم مدينة) وإلى الرقة كل ذلك أطلبه وأسأل عنه فلم أُدَلَّ عليه، فخرجت عن الرقة في طلبه فوقعت في عسكر القرمطي، فجعلت أطوف وأطلبه، فبينا أنا كذلك إذ رأيته فتعلقت به، فقلت: ابني، فقال: أمي؟ فقلت: نعم. قال: ما فعل أخواتي؟ قلت: بخير، وشكوت ما نالنا بعده من الضيق فمضى بي إلى منزله وجلس بين يدي وجعل يسائلني عن أخبارنا فخَبَّرتُه، ثم قال: دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بني أما تعرفني؟ فقال: وكيف لا أعرفك؟ فقلت: ولم تسألني عن ديني وأنت تعرفني وتعرف ديني؟ فقال: كل ما كنا فيه باطل والدين ما نحن فيه الآن. فأعظمت ذلك وعجبت منه، فلما رآني كذلك خرج وتركني ثم وجه إلي بخبز ولحم وما يصلحني وقال اطبخيه فتركته ولم أمسه، ثم عاد فطبخه وأصلح أمر منزله.
فدق الباب داقٌ فخرج إليه، فإذا رجل يسأله ويقول له: هذه القادمة عليك تحسن أن تصلح من أمر النساء شيئا؟ فسألني، فقلت: نعم، فقال: امضي معي فمضيتُ فأدخلني دارا، وإذا امرأة تطلق (تَلِد) فقعدت بين يديها وجعلت أكلمها فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذي جاء بي إليها: ما عليك من كلامها، أصلحي أمر هذه ودعي كلامها، فأقمتُ حتى ولدت غلاما وأصلحتُ من شأنه وجعلت أكلمها وأتلطف بها، وأقول: لها يا هذه لا تحتشميني (لا تخجلي مني) فقد وجب حقي عليك، أخبريني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبي، فقالت: تسألينني عن أبيه لتطالبيه بشيء يهبه لك؟ فقلتُ: لا، ولكن أحب أن أعلم خبرك.
فقالت لي: إني امرأة هاشمية ورفعت رأسها فرأيت أحسن الناس وجها، وإن هؤلاء القوم أتونا فذبحوا أبي وأمي وإخوتي وأهلي جميعا، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام ثم أخرجني، فدفعني إلى أصحابه فقال: طهروها، فأرادوا قتلي، فبكيتُ، وكان بين يديه رجل من قواده فقال: هبها لي، فقال: خذها. فأخذني وكان بحضرته ثلاثة أنفس قيام من أصحابه فسلوا سيوفهم وقالوا: لا نسلمها إليك إما أن تدفعها إلينا وإلا قتلناها، وأرادوا قتلي، وضجوا (تنازعوا وعلت أصواتهم)، فدعاهم رئيسهم القرمطي وسألهم عن خبرهم فخبروه، فقال: تكون لكم أربعتكم، فأخذوني فأنا مقيمة معهم أربعتهم، والله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم.
قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي: هنيه، فهنأته بالمولود، فأعطاني سبيكة فضة وجاء آخر وآخر أهنئ كل واحد منهم فيعطيني سبيكة فضة، فلما كان في السَّحَر جاء جماعة مع رجل وبين يديه شمع وعليه ثياب خز تفوح منه رائحة المسك، فقالت لي: هنيه، فقمتُ إليه فقلتُ بيض الله وجهك والحمد لله الذي رزقك هذا الابن ودعوت له فأعطاني سبيكة فيها ألف درهم، وبات الرجل في بيت وبِتُّ مع المرأة في بيت.
فلما أصبحتُ قلتُ للمرأة: يا هذه قد وجب عليك حقي، فالله الله فيَّ، خلصيني. قالت: مم أخلصك؟ فخبرتها خبر ابني وقلت لها: إني جئت راغبة إليه وإنه قال لي كيت كيت وليس في يدي منه شيء ولي بنات ضعاف خلفتهن بأسوأ حال فخلصيني من هاهنا لأصل إلى بناتي. فقالت: عليكِ بالرجل الذي جاء آخر القوم فسليه ذلك فإنه يخلصك، فأقمتُ يومي إلى أن أمسيتُ، فلما جاء تقدمتُ إليه وقبلت يده ورجله وقلتُ: يا سيدي قد وجب حقي عليك وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني ولي بنات ضعاف فقراء، فإن أذنت لي أن أمضي فأجيئك ببناتي حتى يخدمنك ويكن بين يديك. فقال: وتفعلين؟ قلت: نعم. فدعا قوما من غلمانه فقال: امضوا معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا ثم اتركوها وارجعوا، فحملوني على دابة ومضوا بي.
قالت: فبينما نحن نسير وإذا أنا بابني يركض، وقد كنا سرنا عشرة فراسخ فيما خبرني به القوم الذين معي، فلحقني وقال: يا فاعلة، زعمتِ أنك تمضين وتجيئين ببناتك؟ وسلَّ سيفه ليضربني، فمنعه القوم فلحقني طرف السيف فوقع في كتفي، وسَلَّ القوم سيوفهم فأرادوه، فتنحى عني وساروا بي حتى بلغا بي الموضع الذي سماه لهم صاحبهم فتركوني ومضوا، فتقدمت إلى هاهنا وقد طفت لعلاج جُرْحِي فوُصِف لي هذا الموضع فجئت إلى هاهنا.
قالت: ولما قدم أمير المؤمنين (المكتفي بالله) بالقرمطي وبالأسارى من أصحابه خرجت لأنظر إليها، فرأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس وهو يبكي، وهو فتى شاب فقلت له: لا خفف الله عنك ولا خلصك"فانظر إلى قصة الشاب اليتيم ذي الأم والأخوات الضعاف، دخل في الأمر يحسب أنه الهدى ورد الحق لآل البيت، فإذا به يستبيح نساء آل البيت، ويراهم ويرى الناس معهم كافرين، ولا يحجزه عن قتل أمه إلا العجز!!
نشر في نون بوست
الطبري: تاريخ الطبري 5/646، 647. ط دار الكتب العلمية.
Published on December 03, 2014 10:45
November 30, 2014
أخلاق المسلمين بأقلام المؤرخين الغربيين
لا يكاد المرء يدرك قيمة أن هذه الأمة هي "خير أمة أخرجت للناس" قدر ما يدركه حين يقرأ في كتب المستشرقين –لا سيما من أنصفوا- وفي كتب الرحالة الغربيين، فالقوم يدركون مما عندنا أشياء لا ننتبه نحن لها للاعتياد عليها، كما أن أبصارنا وأبصار المصلحين فيمن قبلنا تتجه إلى العيوب والمساوئ لإصلاحها، فيقل الشعور العام بأن أمتنا –خصوصا في أوقات ازدهارها- إنما كانت فردوس الأرض في عين الآخرين.
والمادة المكتوبة في هذا الموضوع غزيرة جدا، وقد كُتِب فيها بحوث كثيرة، ولهذا التقطنا من بينها تنويعات بين العصور، وتنويعات في وجوه الأخلاق، وتنويعات من الكتب أيضاالعدل والمساواة
قال الأديب والفيلسوف البريطاني الشهير توماس كارلايل: "في الإسلام خُلَّةٌ أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء، والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضا حتما على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل، فتكون جزءا من أربعين من الثروة، تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين، جميل والله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة، يصيح من فؤاد ذلك الرجل محمد، ابن القفار والصحراء"فضائل المسلمين
ذلك ما يشهد به المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل في استعراضه لأخلاق المسلمين، يقول: "لا يمكن إنكار أن الإسلام مارس فضائل حقيقية وخاصة منها الفضائل الاجتماعية، وهي استجابة لنداءات القرآن، نعثر فيها على أساليب تضيف إلى وصايا الله، وتبدو كأنها استمرار للبر؛ وذلك كما تحدد الآية الرائعة التالية: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. فالتعاون وحسن الضيافة والكرم والأمانة للالتزامات -التي تؤخذ تجاه أعضاء المجتمع والاعتدال في الرغبات والقناعة- تلك هي الفضائل التي لا تزال تميز المسلمين، وهي مثالية حقيقيةوقال مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "ويبدو بوجه عام أن المسلم كان أرقى من المسيحي في خلقه التجاري، وفي وفائه بوعده، وإخلاصه للمعاهدات التي يعقدها مع غيره، ولقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية. والمسلمون شرفاء فيما يختص بعادة الكذب، فهم يبيحون الكذب إذا كان فيه نجاة من الموت، أو حسم لخصومة، أو إدخال السرور على زوجة، أو خدعة في الحرب لأعداء الدين. والآداب الإسلامية تجمع بين التكلف والبشاشة، وحديث المسلم ملئ بالتحية والمبالغة في التأدب، والمسلمون كاليهود يحيي بعضهم بعضا، وينحني الواحد منهم لصاحبه ويصافحه، ويقول له: السلام عليكم. والرد الصحيح لهذه التحية: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وإكرام الضيف من صفاتهم العامة... المألوف أن المسلم كان مثال الرقة، والإنسانية، والتسامح، وكان -إذا وصفنا أواسط الناس- سريع الفهم، حاد الذكاء، سريع التهيج، يسهل إدخال السرور إلى قلبه، والمرح على نفسه؛ يجد الرضا في البساطة، ويصبر على بلواه في هدوء، ويتلقى جميع حوادث الأيام بصبر، وكرامة، وشمم، وكبرياء"رحمة المسلمين بالمنكوبين
ربما تكون حقبة الحروب الصليبية ثاني أكثر حقبة شهدت إسلام المحاربين بعد حقبة الفتوح الإسلامية، وقد سجَّل المستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولد في كتابه العديد من أخبار التحول للإسلام من بين صفوف الصليبيين الذين قدموا إلى الشرق أصلا لحرب المسلمين، إذ لم يجد هؤلاء بعد آلام الحرب من يحنو ويعطف عليهم إلا في معسكر المسلمين، فأسلم كثيرون منهم، وسجل ذلك كافة الغربيين الذين ذهبوا إلى الشرق حينئذ، حتى لم يعد من حلٍّ أمام هذه الظاهرة إلا أن أرسل القديس أموري دي لاروش، وكان رئيس فرسان المعبد، إلى أوروبا (664هـ = 1266م) يلتمس من البابا ونوابه في فرنسا وصقلية أن يمنعوا "الفقراء والشيوخ والعاجزين عن حمل السلاح من عبور البحر إلى فلسطين، لأن أمثال هؤلاء الأشخاص كانوا يتعرضون إما للقتل أو الأسر أو لأن يفتنهم العرب عن دينهم"، وحتى من لم يدخل في الإسلام منهم آثر أن يبقى في بلاد المسلمين وتحت ظلهم ورعايتهم، فقد كانوا "راضين كل الرضا عن سادتهم الجدد"وتسجل المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه وثيقة مهمة كتبها أسير صليبي للملك الكامل الأيوبي بعد المعاملة الكريمة منه للأسرى من بعد ما كان منهم من إجرام في دمياط، تقول هونكه: "لما انتصر السلطان الكامل على هذه الحملة سنة (1221م) أكرم أسراهم، ولم يقتص منهم: العين بالعين، والسن بالسن، وإنما أطعمهم في مسغبة أربعة أيام طوالا، مرسلا إلى جيوشهم المتضورة جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف، ومواد غذائية أخرى، وشهد بهذا الإكرام أحد هؤلاء الأسرى - عالم الفلسفة اللاهوتية أوليفروس من كولونيا نهر الراين بألمانيا - فكتب يقول للملك الكامل:
منذ تقادم العهود لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما، شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات، ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم، وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم، وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بها من خصاصة، وأسدوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان"معاملة المسلمين لغير المسلمين
هذه النقطة تحديدا أفاضت فيها كل المراجع التي تحدثت عن المسلمين، إذ كان هذا الموضوع من أظهر وأوضح الفروقات بين مجتمع المسلمين وغيرهم من المجتمعات، وقد أخذنا ثلاث مقتبسات فحسب من بين آلاف الصفحات المكتوبة في هذا الموضوع:
1. يقول هنري دي كاستري -الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر- والذي قال: "أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي -بعد ذلك- أن معاملة المسلمين للمسحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذا ذاك، وخصوصا أن الشفقة والحنان كان عنوان الضعف عند الأوربيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجها للطعن فيها على وجه العموم"2. ولقد كان لهذا أثر كبير كما يقول المستشرق الألماني آدم ميتز: "وجود النصارى بين المسلمين كان سببا لظهور مبادئ التسامح، التي ينادي بها المصلحون المحدثون، وكانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة -وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق- مما أوجد من أول الأمر نوعا من التسامح، الذي لم يكن معروفا في أوربا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان، أي دراسة الملل والنحل على اختلافها، والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم"3. ولهذا فضَّل كثير من غير المسلمين الحكم الإسلامي على حكم طغاتهم، ومن كان مضطهدا في بلده هرع هاربا إلى بلاد المسلمين، يقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "في إيطاليا عبرت كثير من الأقاليم لحكوماتها المستبدة عن أنها ترحب من كل قلبها بغزو تركي مثلما فعل بعض البلقانيين المسيحيين"، ولقد "لجأ أتباع مذهب (كالفن) (1509 - 1564م) في هنغاريا وترنسلفانيا، وبروتسنت سيليزيا، وقدماء المؤمنين من قفقاس روسيا إلى تركيا، أو تطلعوا إلى الباب العالي في هروبهم من الاضطهاد الكاثوليكي أو الأرثوذكسي، وذلك مثلما فعل اليهود الإسبانيون قبل ذلك بقرنين"المسلمون والرفق بالحيوان
يقول المستشرق الفرنسي المعروف جوستاف لوبون: "يُعامل الشرقيون الكلاب وجميع الحيوانات برفق عظيم، ولا ترى عربيًّا يؤذي حيوانًا، وإيذاء الحيوان من عادة سائقي العربات في أوربا، وليس من الضروري –إذن- أن يؤلف العرب جمعيات رفق بالحيوان، والحق إن الشرق جنة الحيوانات، وفي الشرق تُراعى الحيوانات الكلاب والهررة والطيور... وتحلق الطيور في المساجد، وتوكِّر في أطنافها مطمئنة، وتأوي الكراكيُّ إلى الحقول من غير أن تُؤذى، ولا تجد صبيًّا يمسُّ وكنًا، وقد قيل لي في القاهرة بصيغة التوكيد -وهذا يدل على ما ذكره بعض المؤلفين- إن في القاهرة مسجدًا تأتيه الهررة في ساعات معينة لتتناول طعامها وفق شروط أحد الواقفين منذ زمن طويل، وجزئيات كتلك تدلُّ على طبائع الأمة، وتدلُّ على درجة افتقار الأوربيين إلى تعلم الشيء الكثير من حلم الشرقيين وأُنسهم"أسف وحسرة!
ويتحسر جوستاف لوبون على أن المسلمين هُزِموا أمام شارل مارتل في معركة بلاط الشهداء، ويردّ على من يعتبر هذا إنقاذا للبشرية بقوله "لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جوّ شمال فرنسا غير بارد ولا ماطر كجو إسبانيا، ، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة قرون"ومثله يرى الكولونيل البريطاني رونالد بودلي –وهو الذي تغيرت حياته لما عاش بين البدو المغاربة فأحبهم وأثنى عليهم وألف كتابا في سيرة النبي- أنها مأساة لكنه يرى أن الأوروبيين قوما معقدين، ولهذا لم يكن لينتشر بينهم الإسلام، يقول: "ما كانت أوربا لتعتنق الإسلام لو أن شارل مارتل قد هزم في تور (مدينة قريبة من موقع معركة بلاط الشهداء)، فهذا الدين يوائم أناسا غير معقدين؛ أناسا أرواحهم قريبة من الطبيعة، والعرب حقا غير معقدين، وكان محمد غير معقد"، أما المسلمون فقد "كانوا كالغيث الذي يخصب المكان الذي ينزل فيه"نشر في نون بوست
ونحن نوصي ونرجو أن يرجع القارئ الكريم إلى هذه الكتب (وجلها أصبح متوفرا على الانترنت بالمجان) وليقرأ في سيرة أجداده وكيف كانت حضارتهم رحمة للعالمين. توماس كارلايل: الأبطال ص80. كلمة "مثالية" في الذهن الغربي تكون بمعنى خيالية أو أسطورية أو غير حقيقية أو لا يمكن تحقيقها.. فهو هنا يؤكد على أن هذه الفضائل التي تبدو كأساطير قد تحققت في المسلمين فعلا. دومينيك سورديل: الإسلام ص107. ول ديورانت: قصة الحضارة 13/141 وما بعدها. توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص108 وما بعدها. زيجريد هونكه: الله ليس كذلك ص33. هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح ص79. آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1/61. مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث ص49، 55. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص360، 361. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص317. رونالد فيكتور بودلي: الرسول ص147، 340.
Published on November 30, 2014 10:22
November 28, 2014
معركة الهوية مستمرة
أيا ما كانت نتائج يوم 28 نوفمبر التي حملت عنوان "انتفاضة الشباب المسلم" وشعارها "معركة الهوية"، فإن هذه الدعوة قد نجحت في تحقيق كثير من أهدافها من قبل أن يبدأ اليوم!
لقد أبانت هذه الدعوة عن الاصطفاف الحقيقي الكائن في الساحة المصرية، التي هي جزء من الساحة العربية والإسلامية، تلك الساحة التي تجري عليها المعركة العالمية منذ مائتي سنة.. هذه المعركة هي بوضوح "معركة الهوية".
لم يكن العرب وشعوب الشرق الأدنى شيئا قبل الإسلام، الإسلام وحدهم جعلهم أمة عظيمة حققت أعظم النتائج في أسرع وقت وبأعمق رسوخ، فلقد فتح المسلمون في ثمانين سنة ما فتحه الروم في ثمانية قرون، وصنعوا دولة عظيمة وحضارة زاهرة لألف عام على الأقل، ثم –وأهم من كل ما سبق- نشأت أمة جديدة تتحد في الدين ويتحد ثلثها في اللغة، وترتبط بقيم ومفاهيم وثقافة مشتركة رغم تباعد الزمان والمكان واللغات!
بهذا الدين، ولأول مرة ظهرت هذه الأمة على سطح التاريخ، ولهذا فإن المعركة الناجحة للاحتلال الأجنبي كانت معركة تغييب هذه الهوية وتزييفها وصناعة ولاءات أخرى: عرقية، قومية، قطرية .. إلخ! وحققت في بعض الأحيان نجاحات كبرى، وهي نجاحات بالقهر والسيف في عموم الأحوال، حتى ظهر من قال:
آمنت بالبعث ربا لا شريك له .. وبالعروبة دينا ما له ثان وقال الآخر هبوني عيدا يجعل العرب أمة .. وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحِّد بيننا .. وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وقال ثالث: "الهرم أقدس عندي من المسجد الأقصى"، وقال رابع: "القبطي المصري أهم عندي من المسلم الأفغاني"... وهكذا!
هذا التاريخ الذي استطاع فيه الغرب صناعة هويات جديدة لشعوب هذا الشرق، وفرض عليهم حكاما اعتنقوا هذه القناعات.. هذا التاريخ هو نفسه تاريخ الهزائم والنكبات والضياع الكبير!
منذ أن سادت هذه الهويات في بلادنا لم نحقق أي نصر على عدونا، لم يستطع المصريون ذوي الهوية الفرعونية أن يبعثوا مجد الفراعنة أبدا، ولم يستطع القوميون العرب أن يجمعوا الأمة العربية أبدا، بل لم تتقزم مصر في تاريخها كله كما تقزمت تحت حكم "المتفرعنين" ولم يذق العرب من الوبال والنكال كما ذاقوا على يد هذه الحكومات "المتعربة"!
معركة الهوية أعادت المعركة القائمة في بلادنا إلى حقيقتها، إنها تحاول إزالة هذه الهويات المصطنعة المزيفة التي صُبِغنا بها قهرا، بيد الاحتلال ثم بيد عملائه وصنائعه وكل هذا تحت إشراف الغرب وتوجيهه.
إن حركات المقاومة في هذا الشرق آلت إلى الإسلاميين، فلست تجد الآن أي حركة مقاومة ضد الاحتلال إلا وهي إسلامية. كذلك هذه الثورات التي اشتعلت في بلادنا.. لقد آلت إلى الإسلاميين أيضا، فسواء كانت الثورة سلمية وانقلبت إلى مسلحة (سوريا، ليبيا) أو كانت سلمية وانقلب عليها مسلح (مصر)، أو سلمية وما زالت تعاني (تونس، واليمن)، فلن تجد في كل هذه الثورات من فاعلين إلا الإسلاميين في مواجهة النظم القديمة التي يدعمها الغرب ويرعاها.. مما يدلك دلالة بالغة على أنها معركة هوية.
وفي مصر –التي هي في قلب الموضوع الآن- تجد ثورة في مواجهة انقلاب، ولن يختلف الحال لو وضعت الإسلاميين في خانة الثورة والعلمانيين في خانة الانقلاب.. إنها نفس المعسكرات، وشواذ الإسلاميين هم من وقفوا في معسكر الانقلاب، وشواذ العلمانيين هم من وقفوا في معسكر الثورة، ولكل قوم نخالة!
إن أفكار الإنسانية الواحدة والعالم الواحد والثقافة الواحدة هي أفكار هرائية تخلى عنها الغرب منذ زمن، وهو لا يستعملها إلا في سياق دعائي إعلامي كجزء من إلحاق الناس به وقهرهم على مذهبه، لا كجزء من صناعة سلام عالمي!
ولا بأس أن نسوق على هذا شيئا من كلام الغربيين أنفسهم؛ إذ إن محاولة توحيد العالم في أمة واحدة عسكريا ليست بأفشل من توهم إمكانية توحيدها ثقافيا وحضاريا، فكما "وثَّق العديد من العلماء، وكما بيَّنت الأحداث الجيوسياسية عمليا، فإن البشر لا يفكرون عادة "تفكيرا كوكبيا"، وإن الثقافة المحلية، والقومية، والإقليمية، والتاريخ، والدين، والسياسات، ليست جاهزة كي تكنس إلى سلة النفايات التي سُميت "التاريخ"، وإن أولئك الذين تخيلوا غير ذلك يعانون الآن صدمات كريهة"لقد انهار حلم لطالما راود خيال الكثيرين على اختلاف نظراتهم: الحكماء العقلاء الفلاسفة ومعهم الشعراء العاطفيون الخياليون ومعهم السياسيون المعرفون بالانتهازية إلى جانب الأتقياء الزاهدين، حلم الكثيرون من هؤلاء بعالم واحد، وأغراهم التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات بأن الأمر ممكن، وقريب، ويلوح في الأفق ولا يحتاج إلا لبذل بعض الجهد.
كان الظن بأن أساس المشكلة سوء تفاهم ناتج عن الجهل وضعف التواصل، وحيث إن هذا السبب على وشك النهاية فلا بد أننا سنصل عند نهايته إلى بداية الحلم السعيد!
ومن المدهش أنه في اللحظة التي انهار فيها الاتحاد السوفيتي ولم يعد في العالم إلا قطب واحد هو أمريكا، حدث ما لم يكن متوقعا، وخرج من قلب القطب المنتصر من يتحدث عن أن الحلم السعيد قد تحقق ولكن "لنا نحن .. وحدنا"!!
كان هذا فوكوياما، أعلن أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، تلك النقطة التي تمثل هوسا غربيا حقيقيا ينتجه فلاسفتهم كل فترةتبخر حلم العالم الواحد والسلام العالمي والثقافة الواحدة وكافة مظاهر السعادة، هكذا في لحظة! وأشد بؤسا من هذا الحلم الضائع أن فوكوياما تأمل في حال ما بعد التاريخ فوجده مأساويا كئيبا!! لماذا يا ابن فوكوياما؟! لأن كل شيء موجود ومتوفر ومن ثم فلا منافسة ولا إبداع ولا كفاح ولا شيئا مما يجعل للحياة طعما!
يا له من حلم جميل، اتضح أنه أقبح من كل قبيح!!
لكن فصول القصة لم تنتهِ بعد، فقد تصدى للرد عليه مُنظّر آخر شهير، هو صمويل هنتنجتون، بكتابه الأشهر "صدام الحضارات"، فدعاه لأن يكون واقعيا وعقلانيا وأن يبصر أن العالم ينقسم إلى حضارات، كل قوم يعكفون على هويتهم التي تميزهم وينفخون فيها الروح والحياة ويتمسكون بها وينسجون حولها أحلامهم وآمالهم، ومن ثم فيجب علينا أن نحدد من نحن لنحدد من الذين ينبغي أن نكرههم ونعاديهم ونحاربهم!
وأجرى هنتنجتون قسمة حضارية جديدة جمع بها الغرب في وحدة واحدة استثنى منها السلافيين في شرق أوروبا، وحزم أمره ونصب معسكراته وأخذ يبدي توصياته بشأن ما سيكون عليه الحال في الملحمة الكبرى الموعودة: صدام الحضارات!
هكذا بدت لحظة الحلم الذي انتظره الناس طويلا حينما تحقق!
لقد أطال هنتنجتون في إثبات أن البشر لا يفكرون بشكل عالمي، بل يفكرون بشكل أكثر خصوصية، يفكرون كأمم متميزة لا كأمة إنسانية واحدة، وكلامه هذا حق، إلا أن الشيء الثابت عنده وعند غيره أن هذا الاختلاف سيؤدي إلى الحرب حتما وقولا واحدا.
فأما تمايُز الناس إلى أمم فهو حق، وأما أن الاختلاف الرئيسي بينهم هو "ثقافي" فهذا حق أيضا، وكل ذلك عندنا حقيقة إلهية، نأخذها من قول ربنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110]، ففي هذه الآية معنى تمايز البشر إلى أمم، ومعنى تفاضل بعض الأمم على بعض، ثم معنى أن أمة الإسلام هي أفضل هذه الأمم لما تقوم به من خير لباقي الأمم، ومعنى أن التقسيم الصادق للبشر إنما هو بالنظر إلى أديانهم.
إلا أن المسارعة إلى دفع هذا الاختلاف إلى الحرب هو المثير للتأمل!
ففي الإسلام لا يكون الاختلاف موجبا للقتال، بل القتال مكروه في فطرة الناس، ولا يؤمر به إلا لدفع باطل بإقامة حق، ولئن كان الصراع بين الحق والباطل مستمرا فإن هذا يقع على جهة الإرادة الكونية لا الإرادة الشرعية، ثم إن الإسلام إذ يقاتل لا تكون النتيجة أن يتخذ ذلك سبيلا لقهر المغلوبين وإدخالهم فيه.
بينما يطرح الفكر الغربي مسألة الحرب كضرورة حتى في لحظة النصر، فما إن سقط الخطر الأحمر حتى بحثوا عن خطر جديد: الخطر الأخضر!
وحيث إننا نحن هذا الخطر الأخطر، فما يبدو أن ثمة خيارًا أمامنا، بل حال أخي العرب الآن كحال نصر بن سيار إذ يحرض ويقول:
أبلغ ربيعة من مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا تُحَرَّق في حافاتها الحطب من كان يسألني عن أصل دينهمُ ... فإن دينهم أن يُقتل العرب
ولئن كنا سنغضب وننصب الحرب، فإننا قبل ذلك وبعده أهل دين ورسالة ودعوة، فليست تجزئنا الحرب وحدها أمام الله تعالى، بل لا يجزئنا إلا أن ندعوهم إلى الخير، فإن أبوا تعاونَّا معهم على الخير وكف الشر، فإن أبوا إلا الحرب فما حيلة المضطر إلا ركوبها!
***
إن قسمة الناس إلى أمم لم يصنعها السابقون الأولون فمن ثَمَّ يكون تقليدهم جمود ومَعَرَّة، بل هي قسمة إلهية في عقيدتنا، ثم إن هذه القسمة ليست مدخلا للتنازع والحروب بل هي مجعولة للتكامل والتعاضد، ثم إنه ليس لأحد -بقسمة الأرض أو العرق أو اللون أو اللغة- فضل على أحد فيعطيه ذلك الحق في قهر غيره والسطو على نفسه وعلى ما بيده. وكل هذا قد قيل في آية واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
كما أن الحلم الذي يراود خيال الفلاسفة والشعراء على السواء، حلم توحد الإنسانية على خير ما في الماضي والحاضر وخير ما في الشرق والغرب، إنما هو متحقق في الإسلام وحده؛ إذ الأمة الإسلامية تتجاوز كل حواجز الاختلاف التي يظنونها مُفضيةً إلى التنازع والتقاتل؛ فرابطة الدين تجمعها وتتفوق على روابط اللون والعرق والأرض واللغة والجغرافيا والتاريخ، فكل من أسلم لله إنما هو فرد في هذه الأمة سواء كان في الشرق أو في الغرب، وهذا هو الاجتماع على "الفكرة، القيمة، المطلق ... "، فالاجتماع على الدين هو في حقيقته اجتماع على خير ما في الإنسانية شرقها وغربها ماضيها وحاضرها.
على أن لهذا المعنى تفصيل ليس الآن مقام بيانه! فنتركه لموضع آخر إن شاء الله.
نشر في نون بوست
ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص49، 50. بخلاف كل ما كتبه الغربيون في المدينة الفاضلة من أحلام منذ أفلاطون (أقلهم خيالا) وحتى توماس مور (أكثرهم خيالا)، فإنه حتى هيجل وكانت كانا في ذات حالة فوكوياما هذه في أجواء الثورة الفرنسية، كذلك وبدرجة أقل قليلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، يتحدثون عن دولة واحدة وسلام عالمي .. ولنا نحن فقط! أيضا!!
لقد أبانت هذه الدعوة عن الاصطفاف الحقيقي الكائن في الساحة المصرية، التي هي جزء من الساحة العربية والإسلامية، تلك الساحة التي تجري عليها المعركة العالمية منذ مائتي سنة.. هذه المعركة هي بوضوح "معركة الهوية".
لم يكن العرب وشعوب الشرق الأدنى شيئا قبل الإسلام، الإسلام وحدهم جعلهم أمة عظيمة حققت أعظم النتائج في أسرع وقت وبأعمق رسوخ، فلقد فتح المسلمون في ثمانين سنة ما فتحه الروم في ثمانية قرون، وصنعوا دولة عظيمة وحضارة زاهرة لألف عام على الأقل، ثم –وأهم من كل ما سبق- نشأت أمة جديدة تتحد في الدين ويتحد ثلثها في اللغة، وترتبط بقيم ومفاهيم وثقافة مشتركة رغم تباعد الزمان والمكان واللغات!
بهذا الدين، ولأول مرة ظهرت هذه الأمة على سطح التاريخ، ولهذا فإن المعركة الناجحة للاحتلال الأجنبي كانت معركة تغييب هذه الهوية وتزييفها وصناعة ولاءات أخرى: عرقية، قومية، قطرية .. إلخ! وحققت في بعض الأحيان نجاحات كبرى، وهي نجاحات بالقهر والسيف في عموم الأحوال، حتى ظهر من قال:
آمنت بالبعث ربا لا شريك له .. وبالعروبة دينا ما له ثان وقال الآخر هبوني عيدا يجعل العرب أمة .. وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحِّد بيننا .. وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وقال ثالث: "الهرم أقدس عندي من المسجد الأقصى"، وقال رابع: "القبطي المصري أهم عندي من المسلم الأفغاني"... وهكذا!
هذا التاريخ الذي استطاع فيه الغرب صناعة هويات جديدة لشعوب هذا الشرق، وفرض عليهم حكاما اعتنقوا هذه القناعات.. هذا التاريخ هو نفسه تاريخ الهزائم والنكبات والضياع الكبير!
منذ أن سادت هذه الهويات في بلادنا لم نحقق أي نصر على عدونا، لم يستطع المصريون ذوي الهوية الفرعونية أن يبعثوا مجد الفراعنة أبدا، ولم يستطع القوميون العرب أن يجمعوا الأمة العربية أبدا، بل لم تتقزم مصر في تاريخها كله كما تقزمت تحت حكم "المتفرعنين" ولم يذق العرب من الوبال والنكال كما ذاقوا على يد هذه الحكومات "المتعربة"!
معركة الهوية أعادت المعركة القائمة في بلادنا إلى حقيقتها، إنها تحاول إزالة هذه الهويات المصطنعة المزيفة التي صُبِغنا بها قهرا، بيد الاحتلال ثم بيد عملائه وصنائعه وكل هذا تحت إشراف الغرب وتوجيهه.
إن حركات المقاومة في هذا الشرق آلت إلى الإسلاميين، فلست تجد الآن أي حركة مقاومة ضد الاحتلال إلا وهي إسلامية. كذلك هذه الثورات التي اشتعلت في بلادنا.. لقد آلت إلى الإسلاميين أيضا، فسواء كانت الثورة سلمية وانقلبت إلى مسلحة (سوريا، ليبيا) أو كانت سلمية وانقلب عليها مسلح (مصر)، أو سلمية وما زالت تعاني (تونس، واليمن)، فلن تجد في كل هذه الثورات من فاعلين إلا الإسلاميين في مواجهة النظم القديمة التي يدعمها الغرب ويرعاها.. مما يدلك دلالة بالغة على أنها معركة هوية.
وفي مصر –التي هي في قلب الموضوع الآن- تجد ثورة في مواجهة انقلاب، ولن يختلف الحال لو وضعت الإسلاميين في خانة الثورة والعلمانيين في خانة الانقلاب.. إنها نفس المعسكرات، وشواذ الإسلاميين هم من وقفوا في معسكر الانقلاب، وشواذ العلمانيين هم من وقفوا في معسكر الثورة، ولكل قوم نخالة!
إن أفكار الإنسانية الواحدة والعالم الواحد والثقافة الواحدة هي أفكار هرائية تخلى عنها الغرب منذ زمن، وهو لا يستعملها إلا في سياق دعائي إعلامي كجزء من إلحاق الناس به وقهرهم على مذهبه، لا كجزء من صناعة سلام عالمي!
ولا بأس أن نسوق على هذا شيئا من كلام الغربيين أنفسهم؛ إذ إن محاولة توحيد العالم في أمة واحدة عسكريا ليست بأفشل من توهم إمكانية توحيدها ثقافيا وحضاريا، فكما "وثَّق العديد من العلماء، وكما بيَّنت الأحداث الجيوسياسية عمليا، فإن البشر لا يفكرون عادة "تفكيرا كوكبيا"، وإن الثقافة المحلية، والقومية، والإقليمية، والتاريخ، والدين، والسياسات، ليست جاهزة كي تكنس إلى سلة النفايات التي سُميت "التاريخ"، وإن أولئك الذين تخيلوا غير ذلك يعانون الآن صدمات كريهة"لقد انهار حلم لطالما راود خيال الكثيرين على اختلاف نظراتهم: الحكماء العقلاء الفلاسفة ومعهم الشعراء العاطفيون الخياليون ومعهم السياسيون المعرفون بالانتهازية إلى جانب الأتقياء الزاهدين، حلم الكثيرون من هؤلاء بعالم واحد، وأغراهم التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات بأن الأمر ممكن، وقريب، ويلوح في الأفق ولا يحتاج إلا لبذل بعض الجهد.
كان الظن بأن أساس المشكلة سوء تفاهم ناتج عن الجهل وضعف التواصل، وحيث إن هذا السبب على وشك النهاية فلا بد أننا سنصل عند نهايته إلى بداية الحلم السعيد!
ومن المدهش أنه في اللحظة التي انهار فيها الاتحاد السوفيتي ولم يعد في العالم إلا قطب واحد هو أمريكا، حدث ما لم يكن متوقعا، وخرج من قلب القطب المنتصر من يتحدث عن أن الحلم السعيد قد تحقق ولكن "لنا نحن .. وحدنا"!!
كان هذا فوكوياما، أعلن أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، تلك النقطة التي تمثل هوسا غربيا حقيقيا ينتجه فلاسفتهم كل فترةتبخر حلم العالم الواحد والسلام العالمي والثقافة الواحدة وكافة مظاهر السعادة، هكذا في لحظة! وأشد بؤسا من هذا الحلم الضائع أن فوكوياما تأمل في حال ما بعد التاريخ فوجده مأساويا كئيبا!! لماذا يا ابن فوكوياما؟! لأن كل شيء موجود ومتوفر ومن ثم فلا منافسة ولا إبداع ولا كفاح ولا شيئا مما يجعل للحياة طعما!
يا له من حلم جميل، اتضح أنه أقبح من كل قبيح!!
لكن فصول القصة لم تنتهِ بعد، فقد تصدى للرد عليه مُنظّر آخر شهير، هو صمويل هنتنجتون، بكتابه الأشهر "صدام الحضارات"، فدعاه لأن يكون واقعيا وعقلانيا وأن يبصر أن العالم ينقسم إلى حضارات، كل قوم يعكفون على هويتهم التي تميزهم وينفخون فيها الروح والحياة ويتمسكون بها وينسجون حولها أحلامهم وآمالهم، ومن ثم فيجب علينا أن نحدد من نحن لنحدد من الذين ينبغي أن نكرههم ونعاديهم ونحاربهم!
وأجرى هنتنجتون قسمة حضارية جديدة جمع بها الغرب في وحدة واحدة استثنى منها السلافيين في شرق أوروبا، وحزم أمره ونصب معسكراته وأخذ يبدي توصياته بشأن ما سيكون عليه الحال في الملحمة الكبرى الموعودة: صدام الحضارات!
هكذا بدت لحظة الحلم الذي انتظره الناس طويلا حينما تحقق!
لقد أطال هنتنجتون في إثبات أن البشر لا يفكرون بشكل عالمي، بل يفكرون بشكل أكثر خصوصية، يفكرون كأمم متميزة لا كأمة إنسانية واحدة، وكلامه هذا حق، إلا أن الشيء الثابت عنده وعند غيره أن هذا الاختلاف سيؤدي إلى الحرب حتما وقولا واحدا.
فأما تمايُز الناس إلى أمم فهو حق، وأما أن الاختلاف الرئيسي بينهم هو "ثقافي" فهذا حق أيضا، وكل ذلك عندنا حقيقة إلهية، نأخذها من قول ربنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110]، ففي هذه الآية معنى تمايز البشر إلى أمم، ومعنى تفاضل بعض الأمم على بعض، ثم معنى أن أمة الإسلام هي أفضل هذه الأمم لما تقوم به من خير لباقي الأمم، ومعنى أن التقسيم الصادق للبشر إنما هو بالنظر إلى أديانهم.
إلا أن المسارعة إلى دفع هذا الاختلاف إلى الحرب هو المثير للتأمل!
ففي الإسلام لا يكون الاختلاف موجبا للقتال، بل القتال مكروه في فطرة الناس، ولا يؤمر به إلا لدفع باطل بإقامة حق، ولئن كان الصراع بين الحق والباطل مستمرا فإن هذا يقع على جهة الإرادة الكونية لا الإرادة الشرعية، ثم إن الإسلام إذ يقاتل لا تكون النتيجة أن يتخذ ذلك سبيلا لقهر المغلوبين وإدخالهم فيه.
بينما يطرح الفكر الغربي مسألة الحرب كضرورة حتى في لحظة النصر، فما إن سقط الخطر الأحمر حتى بحثوا عن خطر جديد: الخطر الأخضر!
وحيث إننا نحن هذا الخطر الأخطر، فما يبدو أن ثمة خيارًا أمامنا، بل حال أخي العرب الآن كحال نصر بن سيار إذ يحرض ويقول:
أبلغ ربيعة من مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا تُحَرَّق في حافاتها الحطب من كان يسألني عن أصل دينهمُ ... فإن دينهم أن يُقتل العرب
ولئن كنا سنغضب وننصب الحرب، فإننا قبل ذلك وبعده أهل دين ورسالة ودعوة، فليست تجزئنا الحرب وحدها أمام الله تعالى، بل لا يجزئنا إلا أن ندعوهم إلى الخير، فإن أبوا تعاونَّا معهم على الخير وكف الشر، فإن أبوا إلا الحرب فما حيلة المضطر إلا ركوبها!
***
إن قسمة الناس إلى أمم لم يصنعها السابقون الأولون فمن ثَمَّ يكون تقليدهم جمود ومَعَرَّة، بل هي قسمة إلهية في عقيدتنا، ثم إن هذه القسمة ليست مدخلا للتنازع والحروب بل هي مجعولة للتكامل والتعاضد، ثم إنه ليس لأحد -بقسمة الأرض أو العرق أو اللون أو اللغة- فضل على أحد فيعطيه ذلك الحق في قهر غيره والسطو على نفسه وعلى ما بيده. وكل هذا قد قيل في آية واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
كما أن الحلم الذي يراود خيال الفلاسفة والشعراء على السواء، حلم توحد الإنسانية على خير ما في الماضي والحاضر وخير ما في الشرق والغرب، إنما هو متحقق في الإسلام وحده؛ إذ الأمة الإسلامية تتجاوز كل حواجز الاختلاف التي يظنونها مُفضيةً إلى التنازع والتقاتل؛ فرابطة الدين تجمعها وتتفوق على روابط اللون والعرق والأرض واللغة والجغرافيا والتاريخ، فكل من أسلم لله إنما هو فرد في هذه الأمة سواء كان في الشرق أو في الغرب، وهذا هو الاجتماع على "الفكرة، القيمة، المطلق ... "، فالاجتماع على الدين هو في حقيقته اجتماع على خير ما في الإنسانية شرقها وغربها ماضيها وحاضرها.
على أن لهذا المعنى تفصيل ليس الآن مقام بيانه! فنتركه لموضع آخر إن شاء الله.
نشر في نون بوست
ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص49، 50. بخلاف كل ما كتبه الغربيون في المدينة الفاضلة من أحلام منذ أفلاطون (أقلهم خيالا) وحتى توماس مور (أكثرهم خيالا)، فإنه حتى هيجل وكانت كانا في ذات حالة فوكوياما هذه في أجواء الثورة الفرنسية، كذلك وبدرجة أقل قليلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، يتحدثون عن دولة واحدة وسلام عالمي .. ولنا نحن فقط! أيضا!!
Published on November 28, 2014 13:53
November 25, 2014
دعاة في ظلال النكبة
أكتب هذه السطور ونفسي تتمزق من الأسى والحسرة، حتى لقد كانت كتابتها موضع تردد كبير، ثم قدَّرتُ أن نشرها خير من كتمانها، فلا يُظلم أبطالها مرتين: مرة بخذلان أقوامهم لهم، ومرة بسكوتنا نحن عن عظيم ما فعلوا دفعا لحرج صدورنا مما نزل بهم.
حديثنا عن أولئك الدعاة الذين لا يكاد يعرفهم أحد، أولئك الذين كانوا يدعون إلى الله في الظروف المريرة، في الذل والقهر والهزيمة، ولكنهم –وعلى عكس أي توقعات- نجحوا نجاحا غريبا مثيرا للدهشة، بل إن بعض هذا النجاح كان من غرائب التاريخ ومن الأمثلة المعدودة فيه.
***
إن سنة الله لا تحابي أحدا، فإن أخذ قوم بأسباب التمكين مُكِّنوا ولو كانوا كافرين، وإن أخذ قوم بأسباب الهزيمة هُزِموا وقُهِروا ولو كانوا مسلمين، ولقد جرى على دول الإسلام قدر الله النافذ، فمن بعد اتساع المشارق والمغارب، سقطت كثير من أرض الإسلام بيد أعدائه، وبكى رجالنا كالنساء ملكا لم يحفظوه كالرجال، فذهبت الدولة وجاء الذل والهزيمة.. ووقع الرجال في الأسر والنساء في السبي، وتمكن المجرمون من أعراضنا وحرماتنا، وصارت بنات الملوك والأميرات أسيرات جواري في بلاط المنتصر، وطُرد المسلمون من أراض عمروها إلى حيث يفرون بدينهم في الصحاري أو الجبال أو ما وسعهم من أرض الله.
إلى هذا الحد يتوقف تاريخ السياسة، ويبدأ عمل لا تلحظه عين التاريخ حتى تفاجأ بنتائجه، وذلك هو موضوعنا: الدعاة الذين أدخلوا الناس في الإسلام وهم تحت سلطان النكبة.
(1) في بلاط النورمان
نبدأ من صقلية.. تلك الأرض التي حكمها المسلمون قرنين من الزمان ثم تنازعوا وفشلوا وذهبت ريحهم وانتزعها منهم النورمان الذين هم بالأصل مرتزقة استطاعوا تكوين دولتهم في لحظة تاريخية عجيبة كان كل من حولهم فيها يعاني الفرقة والتشتت، فاستولوا على أجزاء من إيطاليا ثم انتزعوا صقلية من أيدي المسلمين.
لم يكن لهم حضارة سابقة، فأسرتهم حضارة المسلمين، فظل البلاط النورماني إسلاميا في الصورة والرسوم والنظم والترتيبات لمدة طويلة، وعاملوا المسلمين أول الأمر بنوع من التسامح لكسب ما لديهم من العلوم وللحفاظ على عمارة البلاد، ثم لم يلبث أن أبادوهم وطردوهم ولم يكن من خيار إلا التنصر.. وحتى الهرب لم يكن مستطاعا، في صورة مخففة من محاكم التفتيش التي أنشأها الإسبان بعد خمسة قرون من هذا التاريخ.
يروي الرحالة ابن جبير –الذي زار صقلية في ذلك الوقت- عن الجواري المسلمات والخدم المسلمين في قصر الملك النورماني غليوم الثاني فيقول:
"وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن. ومن أعجب ما حدثنا به خديمه المذكور -وهو يحيى بن فتيان الطراز، وهو يطرز بالذهب في طراز الملك- أن (المرأة) الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة؛ تعيدها الجواري المذكورات مسلمة، وهن على تكتم من مَلِكِهِنَّ في ذلك كله ولهن في فعل الخير أمور عجيبة، وأَعْلَمَنَا (الخادم) أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذُعِر لها هذا (الملك) المشرك فكان يتطلع في يقصره فلا يسمع إلا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه، وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به تسكينا لهم.
وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون، ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعا وتأجرا، ويتصدق تقربا إلى الله وتزلفا، ويفتك الأسرى، ويربى الأصاغر منهم، ويزوجهم ويحسن إليه ويفعل الخير ما استطاع، وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناء الله عز وجل بهم.
لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح من وجوههم وكبرائهم بعد تقدمة رغبة منه إلينا في ذلك، فاحتفل في كرامتنا وبرنا، وأخرج إلينا عن سره المكنون بعد مراقبة منه في مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه، فسألنا عن مكة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام فأخبرناه وهو يذوب شوقا وتحرقا، واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام، فائزون بما قصدتم له، رابحون إن شاء الله في متجركم، ونحن كاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا، مُعْتَقَلون في ملكة كافر بالله قد وضع في أعناقنا ربقة الرق، فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج، واستهداء أدعيتهم، والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة، لنتخذها عدة للإيمان وذخيرة للأكفان، فتفطرت قلوبنا له إشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة وأتحفاه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمنا سائر إخوإنه من الفتيان.
ولهم في فعل الجميل أخبار مأثورة، وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجميع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا (أفرادا) من مجلسه، فيقضون صلاتهم، وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عز وجل، فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم والله ينفعهم ويجمل خلاصهم بمنه"انتهى كلام ابن جبير، فانظر كيف كانت النساء المسلمات الأسيرات يقمن بالدعوة إلى الإسلام حتى ما تدخل بينهم امرأة نصرانية إلا أسلمت! وانظر كيف يكتم الفتيان إسلامهم ولا يقصرن في النصح للمسلمين ونفعهم وإزالة ما ينزل بهم.
(2) في سلطان المغول
لم يكن من عاصفة جرت على المسلمين أشد من عاصفة المغول، أولئك القوم الجفاة الغلاظ الذين انطلقوا من أقصى الشرق يكتسحون كل شيء كأنهم الموت، يقتلون لأجل القتل، لا يرحمون من لا يستطيع حتى إيذاءهم من نساء أو أطفال أو كهول.
وسقطت حواضر الإسلام أمام صاعقة المغول، حتى سقطت عاصمة الدنيا وحاضرة الإسلام ودرة تاج المدائن: بغداد، ثم مدن الشام حتى كانت كسرتهم الأولى والأقوى على يد المماليك في عين جالوت.
ومنذ موت جنكيز خان انقسمت امبراطورية المغول إلى أربعة ممالك كبرى: المملكة الأولى في وسط آسيا، القبيلة الذهبية في القوقاز وروسيا، وفي فارس، وفي الهند، وكان من الحوادث النادرة في التاريخ أن اعتنق الغالبين عقيدة المغلوبين ودخلوا في الإسلام، فانتصرت قوة الحضارة على قوة العسكر.
لكن تحول المغول إلى الإسلام ما زال لا يُعرف عنه الكثير، غير أن بعض الشذرات تفيد أن نصيبا كبيرا منه كان لأولئك النساء المسلمات اللاتي أُخِذْن سبايا خلال موجة الحروب هذه، لا سيما اللاتي استقررن في بلاط ملوك المغول.
كان مغول القبيلة الذهبية هم أول من دخلوا في الإسلام، كان زعماؤهم "باتو" و"بركة خان" وهما ابني جوجي بن جنكيز خان، عُرف باتو بعطفه على المسلمين بينما أسلم بركة خان وبايع الخليفة العباسي المستنصر (إذ لم تكن بغداد قد سقطت حينئذ) وحاول جهده منع هولاكو من الزحف على أراضي المسلمين لكنه لم يفلح، ثم اشترك مع المماليك –وبالتحديد: الظاهر بيبرس- في محاربة هولاكو وجيوشه.
ما يهمنا في هذا السياق أن هذا كله كان من ثمار الأميرة رسالة بنت السلطان علاء الدين خوارزم شاه –سلطان الدولة الخوارزمية التي كانت أول دولة إسلامية أزاحها المغول- وأخت السلطان جلال الدين منكبرتي الذي كان آخر سلاطين الخوارزميين، ومن العجيب أن الأميرة التي لا يعرف لها كبير أثر وهي في المال والسلطان كان لها هذا الأثر وهي سبية أسيرة!!
وقد كان إسلام هذا الفرع المغولي من أهم أسباب انتشار الإسلام في مناطق روسيا والقوقاز لقرون، وكان التتار المسلمون من أقوى من واجهوا الدولة الروسية في مقتبل أمرها وهزموها أكثر من مرة وكانوا حلفاء الدولة العثمانية، فكانت لهم على تاريخ الإسلام أيادي بيضاء جليلة.
وأما في الفرع الفارسي فقد كان دخول الملك المغولي غازان خان –وهو سابع الملوك المغول في هذا الفرع- فتحا جديدا، وذلك بعد نصف قرن من سقوط بغداد أمام جيش هولاكو، وكان الفتح الأكبر منه هو في الملك الثامن أوليجاتو الذي خلف غازان خان على العرش، فلقد كان أوليجاتو نصرانيا لأن أمه كانت كذلك، ولكنه دخل في الإسلام بتأثير زوجته وكان في مقتبل الشباب، وكانت هذه بداية رسوخ الإسلام بين المغول في فارس.
وفي المملكة المغولية الأولى التي تسيطر على وسط آسيا كانت زوجة أخرى مسلمة -نعرف أن اسمها "أرغنة Organa"- تقوم بعمل فارق، إذ على يديها كان إسلام ابنها "مبارك شاه"، الذي تولى الملك على هذا الفرع، وبه انتشر الإسلام فيهم، ويكمن جلالة ما قامت به في أن زوجها قرة هولاكو الذي هو حفيد جغطائي بن جنكيز خان الذي كان ألد أعداء المسلمين من بين خانات المغول كافة، ولم يكن يطيق أن ينطق أحد بكلمة مسلم في حضرته، اللهم على سبيل التحقير.
ويا سبحان الله! فمن يصدق أن ما عجزت عنه السيوف والحروب تأتي به أحيانا نساء أسيرات!!
(3) في جبال الجزائر
مع تطاول الزمن كان سكان بعض المناطق الجبلية في الجزائر قد ابتعدوا عن الإسلام ونسوا حظا مما ذكروا به، وكانوا لوعورة أماكنهم منعزلين يفتقدون وجود الدعاة بينهم، ولم يكن فيهم مثل إبراهيم الجدالي ولا قدم عليهم مثل عبد الله بن ياسين اللذيْن أنقذ الله بهما قبائل صنهاجة المغربية عبر دعوة المرابطين التي صنعت للإسلام في المغرب والأندلس والصحراء الإفريقية ما يملأ المجلدات الكبار.
وبحسب ما يرويه المستشرق الفرنسي تروميللي في كتابه "أولياء الإسلام" فإنه لم ينتهض لهذه المهمة إلا قوما لا يكاد يتوقعهم أحد، أولئك هم المطرودين المهجرين من الأندلس عقب سقوطها، فتجاسروا عما تكاسل عنه كثير من دعاة هذه الأنحاء، ونجحوا فيما أخفق فيه غيرهم، فلقد وجههم شيخ من هذه الأنحاء إلى دعوة تلك القبائل، وجاء في حديثه لهم: "إنه لواجب قد ألقى على عاتقنا أن نحمل مشعل الإسلام إلى تلك الأصقاع التي ضيعت ما ورثته من بركات هذا الدين، ذلك أن هذه القبائل البائسة لم تزود مطلقًا بالمدارس, وليس لديهم شيخ يعلم أبناءهم مبادئ الأخلاق وفضائل الإسلام, لهذا فهم يعيشون كالحيوان الأعجم لا يعرفون إلهًا ولا دينًا. ولكي تنزع عنهم هذه الشقاوات, عقدت النية على أن أناشد غيرتكم الدينية وهدايتكم. لا تَدَعوا بعد اليوم سكان هذه الجبال غارقين في حالة يرثي لها من الجهل بحقائق ديننا العظمى؛ انطلقوا وانفخوا في نيران دينهم الزائلة, وأعيدوا إنارة جذوتها الخامدة. طهروهم مما يظل عالقًا بهم من أثر من آثام اعتقادهم القديم في النصرانية. فطّنوهم إلى أن الله لا يقبل الرجس في دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, كما لا يقبله في النصرانيةوبالفعل، خرجت مجموعات الدعاة إلى هذه الأنحاء، وأثاروا بزهدهم وتعبدهم شغف أهل الجبال، ولم يلبث أن نشروا فيهم الدين وذكروهم ما كان قد اندرس وأزالوا ما علق بأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم من النصرانية، بل ونشروا بينهم العلوم والصناعات التي كانت مزدهرة في الأندلس فصارت تلك المناطق زاخرة بمراكز تعليمية مشرقة، فجذبت الشباب –في أول الأمر- ثم صار هؤلاء الشباب طليعة لأقوامهم ومن ورائهم القبائل التي تسكن صحراء الجزائر***
هذه الأخبار وغيرها مما يملأ زوايا التاريخ المنسية والمجهولة تقيم علينا الحجة في أمر الدعوة ونشر الدين، ونحن في حال الصحة والأمن والعافية.
ومع أن نشر هذه الأخبار يجدد في النفوس حسرات الذلة والقهر لما حل بالمسلمين ونسائهم، إلا أنه يجدد معها الفخر والإعجاب بدين يدعو إليه ويعمل من أجله من كان في ظلال النكبات والآلام والحسرات، حتى يفتح الله على يديه ما قد أغلق بهزيمة من لا يحفظ لهذا الدين ولهذه الأمة قدرها.
نشر في نون بوست
رحلة ابن جبير ص299، 300. ط دار بيروت وهنا يعلق توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: قارن هذا بالمواد التي نشرها المجلس الذي عقد في مدريد سنة 1566م, وهو يتعلق بتنصير المسلمين المقيمين في أسبانيا (أي بعد زوال الحكم العربي منها), ومنها مادة تقول: "لا يسمح مطقًا لهم ولا لنسائهم ولا لأي فرد آخر أن يغتسلوا أو يستحموا في منازلهم أو في أي مكان آخر, كما يجب أن تهدم وتخرب حماماتهم كلها". نقلا عن: توماس أرنولد: الدعوة إلى السلام ص151 وما بعدها.
Published on November 25, 2014 13:41