محمد إلهامي's Blog, page 65
March 17, 2015
لماذا علم الاستغراب؟ - المواجهة
كان حق هذا المقال أن يكون الأول قبل: العلم والدعوة والتعاون، لا سيما ونحن في ظلال تدشين الحرب الجديدة على الإسلام، والعنوان هذه المرة هو "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، إلا أني آثرت الترتيب الذي أدركناه من الإسلام: التعارف ثم الدعوة، فإن لم يمكن فالتعاون، فإن لم يكن من سبيل فالجهاد والمواجهة، وقد جعل الله آخر الدواء الكي، وفرض على عباده القتال وهو كره لهم.
إن الصراع بين الحق والباطل مستمر منذ أن كان هذا المشهد {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 75 - 83].
وذلك الصراع لا يكتفي فيه الباطل بالقلم واللسان بل يسرع إلى السيف والسنان، فإن حجته داحضة، وإنه زهوق! لذا سرعان ما يعبر الصراع عن نفسه في ساحات القتال!
باستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945م، ظهر أنه: نشبت 34531 حربا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلا لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقطإننا الآن في القرن الخامس عشر للهجرة، ويمكن القول بأن هذه القرون الطويلة لم تشهد هدنة طويلة بين الإسلام والغرب، فما إن تسكن الحرب حتى تشتعل مرة أخرى، رغم أن أول أمرها كان رسالة أرسلها النبي r إلى هرقل، والذي كان ممن {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ففضَّل الملك والحياة الدنيا على الآخرة، ثم مات مهزوما يرى جيوشه تنهار أمام المسلمين.
وإننا لنعلم من حديث نبينا r أن المعركة بين المسلمين والروم مستمرة إلى نهاية الزمان، ولذا لا يصح أن يخجل المرء أن يقول بأن من أغراض دراسة الغرب هو جهادهم وقتالهم، فهذه بمثابة الحقيقة الكونية التي لا سبيل إلى تغييرها، ولو كان الأمر بيدنا فلربما حاولنا لكنه أمرٌ لا نتحكم فيه وحدنا!
بل إن الخجل من قول هذا هو من علامات الانهيار النفسي، فالحقيقة والواقع أننا أمة مسحوقة على يد الغرب، وصاحبة ثأر طويل معه، فقد شرب من دمائنا ونهب ثرواتنا ثم يقول: هل من مزيد، ثم سلط علينا صنائعه من المستبدين والمفسدين ودعمهم، فحكم بهم البلاد وأذل بهم العباد، وأعطاهم من الأموال والأسلحة ما مَكَّنهم من ذبح الأمة وتسليمها ذليلة قابلة للاحتلال والاستعباد، وأنشأ إسرائيل في بلادنا وكان لها شريان حياة، وما تزال حممه تنهمر علينا في كل حين، وليس من داعٍ للإطالة فيما هو معروف مشهور!
ويزيد من شدة اللحظة الحاضرة ذلك الصعود السياسي للمتعصبين في الغرب -سواء اليمين المسيحي الصهيوني في أمريكا، أو الأحزاب اليمينية العنصرية في أوروبا- ووجود قوات عسكرية غربية في عواصمنا المحتلة -عسكريا وسياسيا- وعلى سواحلنا، والصوت المرتفع للمنظرين والمفكرين الذين يوجهون الاستراتيجية نحو مزيد من الحرب والسيطرة.
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بإعداد القوة حتى في حال السلم لتحقيق الردع: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، فكيف ونحن الآن في حال الحرب وفي وضع الهزيمة والدفاع عن النفس؟! إنه جهاد مفروض على كل مسلم، وكلٌّ بقدر ما يستطيع.
ومن القوة الواجب إعدادها دراسة الخصم والعلم بكل ما يجري في معسكره ويؤثر عليه، ونحن أحرى الناس أن نفقه هذا بعدما رأينا من الفائدة العظمى التي حققها الغرب من علم الاستشراق وجهود المستشرقين في احتلال بلادنا، إذ لم يعد الغزو عسكريا فحسب، بل صار إعلاميا وثقافيا، وهذا نابليون نزل مصر بجيوشه وهو يعلن أنه قد أسلم وأنه تابع للخليفة العثماني وأنه أحسن دينا من المماليك بل إنه ما قدم إلا لإزالة فسادهميبدو الغرب من بعيد ككتلة واحدة، بينما إذا اقتربنا شيئا يسيرا وجدناه كُتَلًا متفرقة وإن استطاعت الحفاظ على تعاون وثيق فيما بينها، ومنذ أن تفرقت اللغة اللاتينية إلى لغات عدة فليس ثمة إمكانية لإعادة هذه الكتل إلى كتلة واحدة، إذ وحدة اللغة من أهم عوامل الوحدة السياسية، ثم إن ما مرَّ به الغرب من أحداث هائلة –آخرها الحرب العالمية الثانية- أحدث شروخا عميقة، فالألمان -مثلا- صار لديهم شعور عميق بالمظلومية فهم أقوى اقتصاد في أوروبا لكنهم بلا نفوذ سياسي وبلا جيش، وتشيع في دول جنوب أوروبا موجة من الفقر كما في إيطاليا وإسبانيا، وقد تزيد حدة كما في اليونان، وهذا بخلاف طموحات الانفصال كما في اسكتلندا عن بريطانيا وكتالونيا عن إسبانيا والبندقية عن إيطاليا، وعلى ضفة المحيط الأخرى يعتبر الأمريكان انفصالهم عن الإنجليز "استقلالا"، ولديهم فخر بالآباء المؤسسين وبالدستور الذي تنطق نقاشاته بالعداء للإنجليز ونظامهم وابتغاء بناء نظام على خلاف نظامهم، حتى إن صحفيا أمريكيا تضيق الصحف والقنوات الأمريكية بتقاريره لا يجد متنفسا له إلا في الصحف والقنوات الإنجليزية، وهو حين يفعل تصله رسائل تقول "ابتعد عن أمورنا السياسية أيها الخنزير الإنجليزي"لكن المواجهة تحتاج إلى الاقتراب أكثر وأكثر وأكثر، وتستلزم علما بالتفاصيل والدواخل، لتترتب الأولويات والعداوات، ونعرف كيف نحفظ أنفسنا وكيف نصيب من عدونا، ورحم الله أبا الطيب لما قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان .. هو أولا، وهي المحل الثاني
عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية ص19. الجبرتي: مظهر التقديس ص23، 24. يذكر مؤرخ الحملة الفرنسية كريستوفر هيرولد أن أول رحلة استطلاعية لاحتلال مصر كانت قبل الاحتلال الفعلي بعشرين سنة، حيث أوفدت الخارجية الفرنسية البارون دتوت إلى مصر، وصحبه في رحلته العالِم الطبيعي سونيني، ومما جاء في تقريره: التوصية بأن تبدأ الحملة أعمالها بإذاعة "منشور يطمئن الأهالي إلى أن الفرنسيين قدموا بوصفهم أصدقاء، وحلفاء للسلطان، ومحررين لهم من ربقة المماليك". كريستوفر هيرولد: بونابرت في مصر ص17، 20. جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها ص9، 11، 13، 15.
إن الصراع بين الحق والباطل مستمر منذ أن كان هذا المشهد {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 75 - 83].
وذلك الصراع لا يكتفي فيه الباطل بالقلم واللسان بل يسرع إلى السيف والسنان، فإن حجته داحضة، وإنه زهوق! لذا سرعان ما يعبر الصراع عن نفسه في ساحات القتال!
باستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى 1945م، ظهر أنه: نشبت 34531 حربا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلا لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقطإننا الآن في القرن الخامس عشر للهجرة، ويمكن القول بأن هذه القرون الطويلة لم تشهد هدنة طويلة بين الإسلام والغرب، فما إن تسكن الحرب حتى تشتعل مرة أخرى، رغم أن أول أمرها كان رسالة أرسلها النبي r إلى هرقل، والذي كان ممن {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ففضَّل الملك والحياة الدنيا على الآخرة، ثم مات مهزوما يرى جيوشه تنهار أمام المسلمين.
وإننا لنعلم من حديث نبينا r أن المعركة بين المسلمين والروم مستمرة إلى نهاية الزمان، ولذا لا يصح أن يخجل المرء أن يقول بأن من أغراض دراسة الغرب هو جهادهم وقتالهم، فهذه بمثابة الحقيقة الكونية التي لا سبيل إلى تغييرها، ولو كان الأمر بيدنا فلربما حاولنا لكنه أمرٌ لا نتحكم فيه وحدنا!
بل إن الخجل من قول هذا هو من علامات الانهيار النفسي، فالحقيقة والواقع أننا أمة مسحوقة على يد الغرب، وصاحبة ثأر طويل معه، فقد شرب من دمائنا ونهب ثرواتنا ثم يقول: هل من مزيد، ثم سلط علينا صنائعه من المستبدين والمفسدين ودعمهم، فحكم بهم البلاد وأذل بهم العباد، وأعطاهم من الأموال والأسلحة ما مَكَّنهم من ذبح الأمة وتسليمها ذليلة قابلة للاحتلال والاستعباد، وأنشأ إسرائيل في بلادنا وكان لها شريان حياة، وما تزال حممه تنهمر علينا في كل حين، وليس من داعٍ للإطالة فيما هو معروف مشهور!
ويزيد من شدة اللحظة الحاضرة ذلك الصعود السياسي للمتعصبين في الغرب -سواء اليمين المسيحي الصهيوني في أمريكا، أو الأحزاب اليمينية العنصرية في أوروبا- ووجود قوات عسكرية غربية في عواصمنا المحتلة -عسكريا وسياسيا- وعلى سواحلنا، والصوت المرتفع للمنظرين والمفكرين الذين يوجهون الاستراتيجية نحو مزيد من الحرب والسيطرة.
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بإعداد القوة حتى في حال السلم لتحقيق الردع: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، فكيف ونحن الآن في حال الحرب وفي وضع الهزيمة والدفاع عن النفس؟! إنه جهاد مفروض على كل مسلم، وكلٌّ بقدر ما يستطيع.
ومن القوة الواجب إعدادها دراسة الخصم والعلم بكل ما يجري في معسكره ويؤثر عليه، ونحن أحرى الناس أن نفقه هذا بعدما رأينا من الفائدة العظمى التي حققها الغرب من علم الاستشراق وجهود المستشرقين في احتلال بلادنا، إذ لم يعد الغزو عسكريا فحسب، بل صار إعلاميا وثقافيا، وهذا نابليون نزل مصر بجيوشه وهو يعلن أنه قد أسلم وأنه تابع للخليفة العثماني وأنه أحسن دينا من المماليك بل إنه ما قدم إلا لإزالة فسادهميبدو الغرب من بعيد ككتلة واحدة، بينما إذا اقتربنا شيئا يسيرا وجدناه كُتَلًا متفرقة وإن استطاعت الحفاظ على تعاون وثيق فيما بينها، ومنذ أن تفرقت اللغة اللاتينية إلى لغات عدة فليس ثمة إمكانية لإعادة هذه الكتل إلى كتلة واحدة، إذ وحدة اللغة من أهم عوامل الوحدة السياسية، ثم إن ما مرَّ به الغرب من أحداث هائلة –آخرها الحرب العالمية الثانية- أحدث شروخا عميقة، فالألمان -مثلا- صار لديهم شعور عميق بالمظلومية فهم أقوى اقتصاد في أوروبا لكنهم بلا نفوذ سياسي وبلا جيش، وتشيع في دول جنوب أوروبا موجة من الفقر كما في إيطاليا وإسبانيا، وقد تزيد حدة كما في اليونان، وهذا بخلاف طموحات الانفصال كما في اسكتلندا عن بريطانيا وكتالونيا عن إسبانيا والبندقية عن إيطاليا، وعلى ضفة المحيط الأخرى يعتبر الأمريكان انفصالهم عن الإنجليز "استقلالا"، ولديهم فخر بالآباء المؤسسين وبالدستور الذي تنطق نقاشاته بالعداء للإنجليز ونظامهم وابتغاء بناء نظام على خلاف نظامهم، حتى إن صحفيا أمريكيا تضيق الصحف والقنوات الأمريكية بتقاريره لا يجد متنفسا له إلا في الصحف والقنوات الإنجليزية، وهو حين يفعل تصله رسائل تقول "ابتعد عن أمورنا السياسية أيها الخنزير الإنجليزي"لكن المواجهة تحتاج إلى الاقتراب أكثر وأكثر وأكثر، وتستلزم علما بالتفاصيل والدواخل، لتترتب الأولويات والعداوات، ونعرف كيف نحفظ أنفسنا وكيف نصيب من عدونا، ورحم الله أبا الطيب لما قال:
الرأي قبل شجاعة الشجعان .. هو أولا، وهي المحل الثاني
عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية ص19. الجبرتي: مظهر التقديس ص23، 24. يذكر مؤرخ الحملة الفرنسية كريستوفر هيرولد أن أول رحلة استطلاعية لاحتلال مصر كانت قبل الاحتلال الفعلي بعشرين سنة، حيث أوفدت الخارجية الفرنسية البارون دتوت إلى مصر، وصحبه في رحلته العالِم الطبيعي سونيني، ومما جاء في تقريره: التوصية بأن تبدأ الحملة أعمالها بإذاعة "منشور يطمئن الأهالي إلى أن الفرنسيين قدموا بوصفهم أصدقاء، وحلفاء للسلطان، ومحررين لهم من ربقة المماليك". كريستوفر هيرولد: بونابرت في مصر ص17، 20. جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها ص9، 11، 13، 15.
Published on March 17, 2015 10:45
March 15, 2015
لماذا ينبغي أن نستشعر الكارثة من هذا المؤتمر الاقتصادي؟
بداية، فإن كاتب هذه السطور ليس متخصصا في الاقتصاد، ومعلوماته في هذا المجال لا تعدو المعلومات المأخوذة من كتب التاريخ ومذكرات الساسة والاستماع للمتخصصين بغية فهم "دور الاقتصاد في السياسة العالمية".
كذلك فإن هذه السطور موجهة لعموم الناس لا لغيرهم، ومهمتها محاولة تبسيط المشهد السياسي الذي يُراد ترسيخه، والذي يُعد هذا المؤتمر الاقتصادي واحدا من أجزائه.
(1)
مما يثير الاستغراب أن كافة التقارير المنشورة في الصحافة والمجلات السياسية الغربية على اختلاف توجهاتها توصي بأن مصر في حاجة إلى "دعم اقتصادي" وأن على الغرب تقديم هذا الدعم، حتى تلك التي لا تهتم بمستقبل السيسي.وذلك وحده دليل على أن الهدف من المؤتمر الاقتصادي ليس مجرد دعم السيسي من عدمه، بل هو حلقة في ربط مصر أكثر وأكثر بالنظام الغربي.
ليس هذا شيئا جديدا ولا مستغربا في التاريخ..
هذا جون بركنز صاحب الكتاب الشهير "الاغتيال الاقتصادي للأمم" يشرح بوضوح أن سياسة استعمار البلدان اقتصاديا تقوم على أحد هذين الطريقين:
الأول: تقديم مشروع تحديث للبلد، بأرقام ضخمة، للإغراء بالرخاء، لكن هذه الأموال لا تصب إلا في صالح الطبقة المتنفذة الملتصقة بالغرب، فيزداد معدل النمو الاقتصادي نظريا لكن أيضا يزداد معدل الفقر، لأن كل معدلات النمو صبت في جيوب حفنة قليلة، وهذا هو التطبيق العملي للنظام الرأسمالي "أن يزيد الغنى غنى والفقير فقرا".. ثم تعجز ميزانية البلد عن سداد الديون المستحقة (فهذا الأسلوب قائم أصلا على قاعدة فساد الطبقة الحاكمة) فتباع موارد البلاد للشركات الدائنة وكذلك تباع المواقف السياسية والعسكرية.. وبهذا تكون البلد تحت السيطرة الحقيقية للدولة الأجنبية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتكون الطبقة الحاكمة هي الممثلة لهذا الاحتلال الأجنبي.
الثاني: في حالة كون البلد غنية الموارد لا يمكن أن تعاني من عجز عن السداد (كما في حالة السعودية وإيران في عهد الشاه) تكون الخطة هي إغراق هذه البلد في التحديث الغربي بحيث يكون معدل التطوير في البنية التحتية والعمران سريعا وواسعا وتقوم مساحات واسعة من المدن، وكل هذا بعقود فلكية تدفع فيها الأرقام الخيالية للشركات الأجنبية.. وبعد هذا التمدد العمراني والتطور التنظيمي والإداري القائم كله على النمط الغربي وعلى الشركات الغربية تعجز الدولة عن "فك الارتباط" مع هذا النظام الغربي، لأن كل نظامها قائم عليه بما فيه الصيانة والتطوير واستغلال الموارد.
وإذن، لم يكن الدعم الاقتصادي أبدا في مصلحة البلد.. بل هو في مصلحة الدول الأجنبية، ثم في مصلحة الطبقة الحاكمة المنفصلة عن مصالح الشعب والممثلة لمصالح الدولة المحتلة.
(2)
من المعروف تاريخيا أن الثورات تقوم بها "الطبقة الوسطى"، وهي الطبقة التي لديها الحد الكافي من الطعام والتعليم والثقافة، وذلك أن الطبقة الفقيرة الكادحة لا تملك من التعليم ولا من الثقافة ولا حتى من الغذاء ما يمكنها من فهم الوضع أو التفكير في ثورة. كما أن الطبقة المترفة لا تحتاج إلى ثورة بل هي في العادة عدوة الثورات وسبب اشتعالها بما ترتكبه من المظالم.
والمجتمعات السوية هي المجتمعات التي تمثل الطبقة الوسطى الغالبية فيها، وكلما زادت الطبقة الوسطى كلما كان هذا دليل صحة المجتمع وتوزع الثروة فيها على نحو عادل، بينما تآكل هذه الطبقة وزيادة عدد الفقراء واتساع الفارق بين الطبقات هو دليل انهيار مجتمعي وعلامة على أزمات وتوترات قليلة أو عنيفة.
النظام الرأسمالي يقود المجتمعات إلى إنهاء الطبقة الوسطى، ليصير المجتمع على نوعين: الغنى الفاحش والفقر المدقع، أو بتعبير أوضح: سادة وعبيد!
وهذا هو النظام القديم الذي كانت تفنى فيه الشعوب والموارد تحقيقا لرغبة الملك أو النبيل، ولم يكن من بأس في أن يتسلى النبيل بمعركة مصارعة بين العبيد أو بين العبد والأسد!
وطبقات العبيد نادرا ما تثور ضد هذا الوضع، بل على العكس، الأغلب أن يستسلمون وتظهر أفكار وعقائد وشرعيات جديدة، حتى ليخيل إليهم أن النبيل ذو دم أزرق، وأنه مكلف من السماء بأن يحكمهم، وأن النجاة في الآخرة هي في الاستسلام لحكم هذه الأسرة الحاكمة. وأحيانا قد يصدر قانون تحرير العبيد ولكن "العجز النفسي" عن الحياة في حالة الحرية يدفع العبيد إلى العودة راضين مختارين إلى أسيادهم، لأنه لا يستطيع ولا يتصور أن يعيش حرا مسؤولا عن نفسه ممتلكا لقراره.
وتاريخ الإقطاع والعبودية والتمييز الطبقي تاريخ طويل أسود معروف مشهور لا يحتاج لمزيد بيان.
(3)
إن "الدعم الاقتصادي" المكتوب في التقارير الغربية ليس دعما لصالح البلد أو الشعب، بل هو دعم لترسيخ وتمتين وتعميق هذا النظام الرأسمالي في جميع الدول، لأنه النظام الذي يحافظ على بقاء هذه الدول في حالة الاحتلال وينزع منها عوامل القوة والمقاومة.
الدول الغربية نفسها تعاني من سيطرة الاقتصاديين على النظام السياسي، وفي هذا الإطار كتبت مئات الكتب في بيان هذه المعضلة في النظام الرأسمالي (أرشح منها للقارئ كتاب الألمانية نورينا هيرتس: السيطرة الصامتة، وكتاب الأمريكي جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها، وسلسلة الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن تلاعب مصانع إنتاج السلاح بالكونجرس الأمريكي لتمرير الميزانيات الضخمة لوزارة الدفاع)..
إن أصحاب الأموال يمتلكون أجهزة أمنية وعسكرية خاصة، لكن الحيتان منهم يستطيعون تسيير مصالح الدول نحو الحروب (الحروب التي قد يفنى فيها مئات الآلاف أو الملايين من البشر) لتحقيق أهداف السيطرة الكاملة على موارد العالم.
ولذلك -وكما شرح جون بركنز بإصرار- إذا فشل رجال الاقتصاد في السيطرة على بلد ما، تحرك رجال المخابرات لتنفيذ اغتيال الرئيس أو تنفيذ انقلاب عسكري عليه، فإن فشلوا في هذا تحركت الجيوش بنفسها لتعيد الهيمنة على موارد الثروة.
لكن الجيوش الآن لا تتحرك لتبقى بنفسها كما في حال الاستعمار القديم، بل تنصب الحكومات العميلة التي تمثل مصالحها مع بقاء قواعد وحاميات عسكرية تتدخل عند اللزوم للحفاظ على هذا النظام العميل.
ومن نافلة القول أن النظام المصري هو من هذه الأنظمة الوظيفية العميلة المدعومة لتحقيق مصالح الأجنبي المحتل والحفاظ على إسرائيل ومحاربة الصحوة الإسلامية وفي مقدمتها الحركات الجهادية.
إن كثيرا من الأنظمة القائمة في دول العالم -وبخاصة في إفريقيا- تبيع موارد البلد ومواقفها وتتاجر في مستقبل الأجيال مقابل بقائها في كرسي السلطة، بل إن بعض البلاد قامت بالفعل ومنذ سنوات بتأجير بعض أراضيها لدفن النفايات النووية مقابل مبالغ مالية تصب جميعها في خزائن الطبقة الحاكمة وحدها.
هذه الأنظمة لا تسيطر إلا على العاصمة أو المنطقة الأمنية في العاصمة بالإضافة إلى موارد الثروات (حقول النفط والغاز أو مناجم الذهب والماس وغيره)، وجيوشها لا مهمة لها إلا الحفاظ على تأمين السلطة وتأمين هذه الموارد، وكثيرا ما تكون هذه الجيوش من المرتزقة الأجانب، أو قد تكون فرقا عسكرية أجنبية تابعة مباشرة للمحتل.فيما ترزح باقي البلد في الفقر والجوع والمرض، ويتكرر ببساطة أن تصدم سيارة رجلا، فيموت، ويظل ميتا، لا يتحرك إسعاف، حتى تتقطع الجثة، وتتحلل، وتذوب في التربة.. وأصدقاؤنا المهندسون العاملون في الدول الإفريقية يمكنهم حكاية آلاف القصص على هذا النحو.
هذا النظام هو ما نحن مقبلون عليه، بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، ومن قبله بإنشاء مناطق متخصصة مثل القرية الذكية، ومجتمعات غنية ومنفصلة عن الناس كالمدن الجديدة.
هذه العاصمة الإدارية قد وُقِّعت اتفاقية بنائها في هذا المؤتمر الاقتصادي..
من أجل كل ما سبق ينبغي أن نستشعر الكارثة الكبرى.
اقرأ:المنطقة الخضراء المصرية عن العاصمة الإدارية الجديدة - مقال منذ يوليو 2014: النموذج الفرعوني ليس في السياسة فقط عن الديمقراطية في البلاد الإسلامية المعركتان ثقافة الإسراف
هل يسعنا ترك المقاومة؟
كذلك فإن هذه السطور موجهة لعموم الناس لا لغيرهم، ومهمتها محاولة تبسيط المشهد السياسي الذي يُراد ترسيخه، والذي يُعد هذا المؤتمر الاقتصادي واحدا من أجزائه.
(1)
مما يثير الاستغراب أن كافة التقارير المنشورة في الصحافة والمجلات السياسية الغربية على اختلاف توجهاتها توصي بأن مصر في حاجة إلى "دعم اقتصادي" وأن على الغرب تقديم هذا الدعم، حتى تلك التي لا تهتم بمستقبل السيسي.وذلك وحده دليل على أن الهدف من المؤتمر الاقتصادي ليس مجرد دعم السيسي من عدمه، بل هو حلقة في ربط مصر أكثر وأكثر بالنظام الغربي.
ليس هذا شيئا جديدا ولا مستغربا في التاريخ..
هذا جون بركنز صاحب الكتاب الشهير "الاغتيال الاقتصادي للأمم" يشرح بوضوح أن سياسة استعمار البلدان اقتصاديا تقوم على أحد هذين الطريقين:
الأول: تقديم مشروع تحديث للبلد، بأرقام ضخمة، للإغراء بالرخاء، لكن هذه الأموال لا تصب إلا في صالح الطبقة المتنفذة الملتصقة بالغرب، فيزداد معدل النمو الاقتصادي نظريا لكن أيضا يزداد معدل الفقر، لأن كل معدلات النمو صبت في جيوب حفنة قليلة، وهذا هو التطبيق العملي للنظام الرأسمالي "أن يزيد الغنى غنى والفقير فقرا".. ثم تعجز ميزانية البلد عن سداد الديون المستحقة (فهذا الأسلوب قائم أصلا على قاعدة فساد الطبقة الحاكمة) فتباع موارد البلاد للشركات الدائنة وكذلك تباع المواقف السياسية والعسكرية.. وبهذا تكون البلد تحت السيطرة الحقيقية للدولة الأجنبية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتكون الطبقة الحاكمة هي الممثلة لهذا الاحتلال الأجنبي.
الثاني: في حالة كون البلد غنية الموارد لا يمكن أن تعاني من عجز عن السداد (كما في حالة السعودية وإيران في عهد الشاه) تكون الخطة هي إغراق هذه البلد في التحديث الغربي بحيث يكون معدل التطوير في البنية التحتية والعمران سريعا وواسعا وتقوم مساحات واسعة من المدن، وكل هذا بعقود فلكية تدفع فيها الأرقام الخيالية للشركات الأجنبية.. وبعد هذا التمدد العمراني والتطور التنظيمي والإداري القائم كله على النمط الغربي وعلى الشركات الغربية تعجز الدولة عن "فك الارتباط" مع هذا النظام الغربي، لأن كل نظامها قائم عليه بما فيه الصيانة والتطوير واستغلال الموارد.
وإذن، لم يكن الدعم الاقتصادي أبدا في مصلحة البلد.. بل هو في مصلحة الدول الأجنبية، ثم في مصلحة الطبقة الحاكمة المنفصلة عن مصالح الشعب والممثلة لمصالح الدولة المحتلة.
(2)
من المعروف تاريخيا أن الثورات تقوم بها "الطبقة الوسطى"، وهي الطبقة التي لديها الحد الكافي من الطعام والتعليم والثقافة، وذلك أن الطبقة الفقيرة الكادحة لا تملك من التعليم ولا من الثقافة ولا حتى من الغذاء ما يمكنها من فهم الوضع أو التفكير في ثورة. كما أن الطبقة المترفة لا تحتاج إلى ثورة بل هي في العادة عدوة الثورات وسبب اشتعالها بما ترتكبه من المظالم.
والمجتمعات السوية هي المجتمعات التي تمثل الطبقة الوسطى الغالبية فيها، وكلما زادت الطبقة الوسطى كلما كان هذا دليل صحة المجتمع وتوزع الثروة فيها على نحو عادل، بينما تآكل هذه الطبقة وزيادة عدد الفقراء واتساع الفارق بين الطبقات هو دليل انهيار مجتمعي وعلامة على أزمات وتوترات قليلة أو عنيفة.
النظام الرأسمالي يقود المجتمعات إلى إنهاء الطبقة الوسطى، ليصير المجتمع على نوعين: الغنى الفاحش والفقر المدقع، أو بتعبير أوضح: سادة وعبيد!
وهذا هو النظام القديم الذي كانت تفنى فيه الشعوب والموارد تحقيقا لرغبة الملك أو النبيل، ولم يكن من بأس في أن يتسلى النبيل بمعركة مصارعة بين العبيد أو بين العبد والأسد!
وطبقات العبيد نادرا ما تثور ضد هذا الوضع، بل على العكس، الأغلب أن يستسلمون وتظهر أفكار وعقائد وشرعيات جديدة، حتى ليخيل إليهم أن النبيل ذو دم أزرق، وأنه مكلف من السماء بأن يحكمهم، وأن النجاة في الآخرة هي في الاستسلام لحكم هذه الأسرة الحاكمة. وأحيانا قد يصدر قانون تحرير العبيد ولكن "العجز النفسي" عن الحياة في حالة الحرية يدفع العبيد إلى العودة راضين مختارين إلى أسيادهم، لأنه لا يستطيع ولا يتصور أن يعيش حرا مسؤولا عن نفسه ممتلكا لقراره.
وتاريخ الإقطاع والعبودية والتمييز الطبقي تاريخ طويل أسود معروف مشهور لا يحتاج لمزيد بيان.
(3)
إن "الدعم الاقتصادي" المكتوب في التقارير الغربية ليس دعما لصالح البلد أو الشعب، بل هو دعم لترسيخ وتمتين وتعميق هذا النظام الرأسمالي في جميع الدول، لأنه النظام الذي يحافظ على بقاء هذه الدول في حالة الاحتلال وينزع منها عوامل القوة والمقاومة.
الدول الغربية نفسها تعاني من سيطرة الاقتصاديين على النظام السياسي، وفي هذا الإطار كتبت مئات الكتب في بيان هذه المعضلة في النظام الرأسمالي (أرشح منها للقارئ كتاب الألمانية نورينا هيرتس: السيطرة الصامتة، وكتاب الأمريكي جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها، وسلسلة الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن تلاعب مصانع إنتاج السلاح بالكونجرس الأمريكي لتمرير الميزانيات الضخمة لوزارة الدفاع)..
إن أصحاب الأموال يمتلكون أجهزة أمنية وعسكرية خاصة، لكن الحيتان منهم يستطيعون تسيير مصالح الدول نحو الحروب (الحروب التي قد يفنى فيها مئات الآلاف أو الملايين من البشر) لتحقيق أهداف السيطرة الكاملة على موارد العالم.
ولذلك -وكما شرح جون بركنز بإصرار- إذا فشل رجال الاقتصاد في السيطرة على بلد ما، تحرك رجال المخابرات لتنفيذ اغتيال الرئيس أو تنفيذ انقلاب عسكري عليه، فإن فشلوا في هذا تحركت الجيوش بنفسها لتعيد الهيمنة على موارد الثروة.
لكن الجيوش الآن لا تتحرك لتبقى بنفسها كما في حال الاستعمار القديم، بل تنصب الحكومات العميلة التي تمثل مصالحها مع بقاء قواعد وحاميات عسكرية تتدخل عند اللزوم للحفاظ على هذا النظام العميل.
ومن نافلة القول أن النظام المصري هو من هذه الأنظمة الوظيفية العميلة المدعومة لتحقيق مصالح الأجنبي المحتل والحفاظ على إسرائيل ومحاربة الصحوة الإسلامية وفي مقدمتها الحركات الجهادية.
إن كثيرا من الأنظمة القائمة في دول العالم -وبخاصة في إفريقيا- تبيع موارد البلد ومواقفها وتتاجر في مستقبل الأجيال مقابل بقائها في كرسي السلطة، بل إن بعض البلاد قامت بالفعل ومنذ سنوات بتأجير بعض أراضيها لدفن النفايات النووية مقابل مبالغ مالية تصب جميعها في خزائن الطبقة الحاكمة وحدها.
هذه الأنظمة لا تسيطر إلا على العاصمة أو المنطقة الأمنية في العاصمة بالإضافة إلى موارد الثروات (حقول النفط والغاز أو مناجم الذهب والماس وغيره)، وجيوشها لا مهمة لها إلا الحفاظ على تأمين السلطة وتأمين هذه الموارد، وكثيرا ما تكون هذه الجيوش من المرتزقة الأجانب، أو قد تكون فرقا عسكرية أجنبية تابعة مباشرة للمحتل.فيما ترزح باقي البلد في الفقر والجوع والمرض، ويتكرر ببساطة أن تصدم سيارة رجلا، فيموت، ويظل ميتا، لا يتحرك إسعاف، حتى تتقطع الجثة، وتتحلل، وتذوب في التربة.. وأصدقاؤنا المهندسون العاملون في الدول الإفريقية يمكنهم حكاية آلاف القصص على هذا النحو.
هذا النظام هو ما نحن مقبلون عليه، بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، ومن قبله بإنشاء مناطق متخصصة مثل القرية الذكية، ومجتمعات غنية ومنفصلة عن الناس كالمدن الجديدة.
هذه العاصمة الإدارية قد وُقِّعت اتفاقية بنائها في هذا المؤتمر الاقتصادي..
من أجل كل ما سبق ينبغي أن نستشعر الكارثة الكبرى.
اقرأ:المنطقة الخضراء المصرية عن العاصمة الإدارية الجديدة - مقال منذ يوليو 2014: النموذج الفرعوني ليس في السياسة فقط عن الديمقراطية في البلاد الإسلامية المعركتان ثقافة الإسراف
هل يسعنا ترك المقاومة؟
Published on March 15, 2015 04:22
March 14, 2015
لماذا علم الاستغراب؟ - التعاون
والتعاون هو الغرض الثالث من أغراضنا في علم دراسة الغرب "الاستغراب"، بعد العلم والدعوة.
ويمثل التعاون الحد الأدنى من العلاقة السوية بين المختلفين، وليس بعده إلا القتال والصراع، والتعاون فطرة أصيلة في الإنسان وهو قديم فيه، ومهما اختلف علماء الأنثربولوجيا في "لماذا" و"كيف" نشأ لأول مرة فإنهم متفقون على أنه وُجِد منذ اللحظات الأولىوقد أمر القرآن الكريم بالتعاون فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقال الإمام القرطبي بأن هذا "أمر لجميع الخلقوأنكر القرآن الكريم على الناس أن يجعلوا ما بينهم من خلافات مبعثا للتنازع، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، قال سيد قطب: "يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات"وجاء في سنة النبي r أن "الدال على الخير كفاعله"ولما أراد المشركون تفريق أهل المدينة استعمل النبي r صلة الرحم -لا صلة الدين- في الخطاب، وقصة ذلك أن مشركي قريش أرسلوا إلى عبد الله بن أبي ابن سلول -وقد كان الشخصية التي تتهيأ لتزعم المدينة- ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج رسالة تقول: "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم". فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله r، فلما بلغ ذلك النبي r لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم؛ تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم". فلما سمعوا ذلك من النبي r تفرقواوللفقهاء كلام طويل مبسوط في مسائل التعاون مع الكافر والاستعانة به في السلم والحرب، ولهم تحقيقات مطولة في ضبط الموضوع لئلا يخرج عن كونه تعاونا على البر والتقوى فيدخل في كونه تعاونا على الإثم والعدوانوقد بني الفقه كله على قاعدة المصلحة التي تنفع الناس، قال الغزالي: "جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم"وتاريخنا زاخر بالتعاون مع الأمم الأخرى، نسوق منه مثالا واحدا نستدل به على حرص المسلمين على تعاون "أكثر من المطلوب"، وهو موقف السلطان العثماني عبد المجيد الأول مع مجاعة أيرلندا التي ضربت البلاد بسبب آفة البطاطا التي أكلت المحصول، والذي كان المحصول الرئيسي في أيرلندا، وقد عمل جشع أصحاب المال على منع استيراد الحبوب من أمريكا الشمالية، فلما سمع السلطان عبد المجيد الأول بأنباء المجاعة أرسل عشرة آلاف جنيه استرليني للمساعدة، فرفضت الملكة فيكتوريا هذا المبلغ لأن البروتوكول لا يسمح لأحد بما يفوق ما تبرعت به، وقد تبرعت بألفي جنيه فقط، فاكتفي السلطان بإرسال ألف جنيه، ثم أرسل ثلاث سفن محملة بالأغذية إلى ميناء دروهيدا (Drogheda) ساهمت في إنقاذ الوضع، وما زال الأيرلنديون يحفظون الجميل ويجعلون من الشعار العثماني شعارا لبعض منتدياتهم مثل ستاد دروهيدا، ويعمل بعضهم على إنتاج فيلم سينمائي يخلد هذه القصة سيظهر للنور قريباإن دراسة الغرب تدلنا على مواطن التعاون مع القوم، فنحن مع أهل الكتاب ضد الملحدين، ومع أهل الدين ضد الماديين، ومع المؤمنين بالإنسان ضد العنصريين، ومع المنصفين للإسلام وأهله وحضارته ضد المتعصبين، ومع المؤمنين بالعدل وحقوق الإنسان ضد مسعري الحروب والداعين للاحتلال، وهكذا.. فنحن وإن كنا طريقا وسطا متميزا بين الأمم، إلا أن كثيرا من المواقف العملية والجدالات النظرية تستدعي أخذ جانب الأقرب فالأقرب، ولذا سنجد أنفسنا مع فلاسفة فرانكفورت ضد فلاسفة المادية، ومع جون لوك ضد توماس هوبز في الحريات السياسية، ومع دور كايم ضد نيتشه في الأوضاع الاجتماعية، ومع توينبي ضد ماركس في العوامل الروحية المحركة للتاريخ... إلخ.
وليس يمكن أن نتعاون في كل هذا ما لم نعلم ونفهم وندرس هذا الغرب.نشر في نون بوست
ه. جـ. ويلز: معالم تاريخ الإنسانية 1/114، ول ديورانت: قصة الحضارة 1/12، أشلي مونتاغيو: البدائية ص14، 15. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/43. قوله "لجميع الخلق" وليس للمسلمين فحسب، فجمهور العلماء على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عقلا وشرعا. انظر التفصيل في: الموسوعة الفقهية الكويتية 35/19 وما بعدها. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/46. الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 6/87. سيد قطب: في ظلال القرآن 6/3348. الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 26/260. أحمد (23077)، وأبو داود (5129)، والترمذي (2670) واللفظ له، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. أحمد (9187)، والحاكم (59)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6662). البيهقي (12859)، ابن هشام: السيرة النبوية 1/113، وانظر: الألباني: صحيح السيرة النبوية ص35 وما بعدها. الطبراني في المعجم الكبير (19015)، والهيثمي في مجمع الزوائد (15289)، وانظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 152. محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص57 وما بعدها، إبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية ص145 وما بعدها. أبو داود (3004)، وقال الألباني: صحيح الإسناد. ومن أدق هذه المسائل وأدلها على الغرض منع الفقهاء الاستعانة بالكافر على قتال المسلم ولو كان باغيا، والقلة التي أجازت هذا من علماء الأحناف اشترطوا وجود القدرة والسيطرة للمسلمين في حال القتال. فكان القصد كما عليه جميعهم هو "إعزاز الدين" وضبط أن يكون التعاون على البر والتقوى لا الإثم والعدوان. وجدير بالذكر أن أقوال الفقهاء هذه لا تنطبق بحال على أحوالنا المعاصرة لعلو حكم الكفر وظهوره على المسلمين. الغزالي: المستصفى ص174. انظر تقريرا مرئيا لقناة الجزيرة، ضمن برنامج "مراسلو الجزيرة" بُث بتاريخ 18/3/2014، وعرض الوثيقة العثمانية الخاصة بالموضوع، وانظر أيضا البحث الموسع الصادر حديثا لكريستين كينيلي عن المجاعة العظمى بأيرلندا "بذل المعروف والمجاعة العظمى في أيرلندا: عطف الغرباء"، والذي تتبع الموضوع، وتوجد منه نسخة إلكترونية على موقع جوجل للكتب:Christine Kinealy: Charity and the Great Hunger in Ireland, The Kindness of Strangers
ويمثل التعاون الحد الأدنى من العلاقة السوية بين المختلفين، وليس بعده إلا القتال والصراع، والتعاون فطرة أصيلة في الإنسان وهو قديم فيه، ومهما اختلف علماء الأنثربولوجيا في "لماذا" و"كيف" نشأ لأول مرة فإنهم متفقون على أنه وُجِد منذ اللحظات الأولىوقد أمر القرآن الكريم بالتعاون فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقال الإمام القرطبي بأن هذا "أمر لجميع الخلقوأنكر القرآن الكريم على الناس أن يجعلوا ما بينهم من خلافات مبعثا للتنازع، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، قال سيد قطب: "يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات"وجاء في سنة النبي r أن "الدال على الخير كفاعله"ولما أراد المشركون تفريق أهل المدينة استعمل النبي r صلة الرحم -لا صلة الدين- في الخطاب، وقصة ذلك أن مشركي قريش أرسلوا إلى عبد الله بن أبي ابن سلول -وقد كان الشخصية التي تتهيأ لتزعم المدينة- ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج رسالة تقول: "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم". فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله r، فلما بلغ ذلك النبي r لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم؛ تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم". فلما سمعوا ذلك من النبي r تفرقواوللفقهاء كلام طويل مبسوط في مسائل التعاون مع الكافر والاستعانة به في السلم والحرب، ولهم تحقيقات مطولة في ضبط الموضوع لئلا يخرج عن كونه تعاونا على البر والتقوى فيدخل في كونه تعاونا على الإثم والعدوانوقد بني الفقه كله على قاعدة المصلحة التي تنفع الناس، قال الغزالي: "جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم"وتاريخنا زاخر بالتعاون مع الأمم الأخرى، نسوق منه مثالا واحدا نستدل به على حرص المسلمين على تعاون "أكثر من المطلوب"، وهو موقف السلطان العثماني عبد المجيد الأول مع مجاعة أيرلندا التي ضربت البلاد بسبب آفة البطاطا التي أكلت المحصول، والذي كان المحصول الرئيسي في أيرلندا، وقد عمل جشع أصحاب المال على منع استيراد الحبوب من أمريكا الشمالية، فلما سمع السلطان عبد المجيد الأول بأنباء المجاعة أرسل عشرة آلاف جنيه استرليني للمساعدة، فرفضت الملكة فيكتوريا هذا المبلغ لأن البروتوكول لا يسمح لأحد بما يفوق ما تبرعت به، وقد تبرعت بألفي جنيه فقط، فاكتفي السلطان بإرسال ألف جنيه، ثم أرسل ثلاث سفن محملة بالأغذية إلى ميناء دروهيدا (Drogheda) ساهمت في إنقاذ الوضع، وما زال الأيرلنديون يحفظون الجميل ويجعلون من الشعار العثماني شعارا لبعض منتدياتهم مثل ستاد دروهيدا، ويعمل بعضهم على إنتاج فيلم سينمائي يخلد هذه القصة سيظهر للنور قريباإن دراسة الغرب تدلنا على مواطن التعاون مع القوم، فنحن مع أهل الكتاب ضد الملحدين، ومع أهل الدين ضد الماديين، ومع المؤمنين بالإنسان ضد العنصريين، ومع المنصفين للإسلام وأهله وحضارته ضد المتعصبين، ومع المؤمنين بالعدل وحقوق الإنسان ضد مسعري الحروب والداعين للاحتلال، وهكذا.. فنحن وإن كنا طريقا وسطا متميزا بين الأمم، إلا أن كثيرا من المواقف العملية والجدالات النظرية تستدعي أخذ جانب الأقرب فالأقرب، ولذا سنجد أنفسنا مع فلاسفة فرانكفورت ضد فلاسفة المادية، ومع جون لوك ضد توماس هوبز في الحريات السياسية، ومع دور كايم ضد نيتشه في الأوضاع الاجتماعية، ومع توينبي ضد ماركس في العوامل الروحية المحركة للتاريخ... إلخ.
وليس يمكن أن نتعاون في كل هذا ما لم نعلم ونفهم وندرس هذا الغرب.نشر في نون بوست
ه. جـ. ويلز: معالم تاريخ الإنسانية 1/114، ول ديورانت: قصة الحضارة 1/12، أشلي مونتاغيو: البدائية ص14، 15. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/43. قوله "لجميع الخلق" وليس للمسلمين فحسب، فجمهور العلماء على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عقلا وشرعا. انظر التفصيل في: الموسوعة الفقهية الكويتية 35/19 وما بعدها. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/46. الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 6/87. سيد قطب: في ظلال القرآن 6/3348. الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 26/260. أحمد (23077)، وأبو داود (5129)، والترمذي (2670) واللفظ له، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. أحمد (9187)، والحاكم (59)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6662). البيهقي (12859)، ابن هشام: السيرة النبوية 1/113، وانظر: الألباني: صحيح السيرة النبوية ص35 وما بعدها. الطبراني في المعجم الكبير (19015)، والهيثمي في مجمع الزوائد (15289)، وانظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 152. محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص57 وما بعدها، إبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية ص145 وما بعدها. أبو داود (3004)، وقال الألباني: صحيح الإسناد. ومن أدق هذه المسائل وأدلها على الغرض منع الفقهاء الاستعانة بالكافر على قتال المسلم ولو كان باغيا، والقلة التي أجازت هذا من علماء الأحناف اشترطوا وجود القدرة والسيطرة للمسلمين في حال القتال. فكان القصد كما عليه جميعهم هو "إعزاز الدين" وضبط أن يكون التعاون على البر والتقوى لا الإثم والعدوان. وجدير بالذكر أن أقوال الفقهاء هذه لا تنطبق بحال على أحوالنا المعاصرة لعلو حكم الكفر وظهوره على المسلمين. الغزالي: المستصفى ص174. انظر تقريرا مرئيا لقناة الجزيرة، ضمن برنامج "مراسلو الجزيرة" بُث بتاريخ 18/3/2014، وعرض الوثيقة العثمانية الخاصة بالموضوع، وانظر أيضا البحث الموسع الصادر حديثا لكريستين كينيلي عن المجاعة العظمى بأيرلندا "بذل المعروف والمجاعة العظمى في أيرلندا: عطف الغرباء"، والذي تتبع الموضوع، وتوجد منه نسخة إلكترونية على موقع جوجل للكتب:Christine Kinealy: Charity and the Great Hunger in Ireland, The Kindness of Strangers
Published on March 14, 2015 12:01
March 12, 2015
موجز تاريخ الدولة الأموية (7)
اقرأ أولا:
موجز تاريخ الدولة الأموية (1)
موجز تاريخ الدولة الأموية (2)
موجز تاريخ الدولة الأموية (3)
موجز تاريخ الدولة الأموية (4)
موجز تاريخ الدولة الأموية (5)
موجز تاريخ الدولة الأموية (6)
بينما تحاول الدولة الأموية علاج التفكك الذي اعتراها والصراعات التي نشبت في جسدها الكبير، إذ نبتت في خراسان –أقصى الشرق- بذرة الدعوة العباسية التي ما لبثت أن كبرت واستفحلت واستولت على خراسان، إلا أن أحدا لم يكن ليخطر بباله أن هذه الثورة البعيدة ستكون هي الثورة الكبرى ووريثة الدولة الأموية العظيمة!
لم يفلح رجال الحرب وأبطال الدولة في أن يصمدوا أمام هذه العاصفة القادمة من المشرق، كانوا قلة في العدد والعدة لكنهم يحملون روحا وثابة وبسالة عجيبة، كانوا رجال الدولة كما تكون الدول في أول عهدها، العفاء والفتوة والشباب.. وكان الأمويون أمامهم –رغم العدد والعدة والتاريخ المجيد- كالدولة التي في أواخر زمانها، تدبر عنها الأيام وتعاكسها تصاريف الزمان.
وبالرغم من أن الأمويون استطاعوا اعتقال رأس الدعوة العباسية الإمام إبراهيم بن محمد إلا أن هذا لم يغير شيئا من مسار الأحداث إذ كانت الدولة قد قامت فعلا في المشرق وتسير نحو المغرب.
كذلك فقد كانت العلاقة المضطربة بين الخليفة الأموري مروان بن محمد وواليه على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة من أسباب تضعضع موقف الأمويين، وكلاهما من الخبرات العسكرية النادرة. وقد استهان قادة الجيوش الأموية أحيانا بجيش العباسيين فلقوا جراء ذلك هزائم مريعة.
واصل العباسيون تقدمهم من المشرق إلى المغرب، وكان يمدهم بالمعلومات مركزهم السري في الكوفة –والذي يتولاه أبو سلمة الخلال كبير الدعاة- وتأتيهم توجيهات القيادة العامة للدعوة في الشام، واستطاعوا من خلال هذين المصدرين من المعلومات تغيير بعض الخطط ومسارات المعارك بما حقق لهم النصر.
واستعمل العباسيون سلاح الإشاعات، واستطاع قحطبة بن شبيب –قائد جيش الدعوة العباسية- أن يكسب بالإشاعة معركتين من أهم المعارك، فعندما تحصن يزيد بن عمر بن هبيرة لقتاله عند جلولاء انطلق وأشاع أنه سيذهب مباشرة إلى الكوفة (عاصمة العراق) فأجبر جيش يزيد على العودة المسرعة إلى الكوفة خشية أن تسقط بيد العباسيين تاركا كثيرا من الغنائم والعدد في جلولاء، فعاد قحطبة سريعا إلى المعسكر واستولى على هذه الغنائم وأحرق ما لم يقدر على الاستفادة منه.
كذلك أشاع قحطبة أنه سيقصد إلى المدائن (عاصمة العراق القديمة أيام الفرس) فاستعد ابن هبيرة لذلك ثم تبين له أن قحطبة سيقصد إلى الكوفة، فالتقى الجيشان أخيرا بعد مناورات ومعارك محدودة في منطقة غرب الفرات (5 المحرم 132 هـ).
من مطالعة الروايات وتتبعها نأسف أن المصادر التي وصلتنا لا تكشف بوضوح الدور الخطير الذي لعبه أبو سلمة (كبير دعاة العباسيين في الكوفة)، فنحن لا نراه إلا في لحظات قليلة لكنها دائما حاسمة وفاصلة ومؤثرة. وأهم من المعلومات والتوجيهات التي كان يرسلها إلى قحطبة تحركاته الداخلية بين عشائر الكوفة وزعمائها وأنصار آل البيت فيها، واستطاع أن يدبر انقلابا داخليا في لحظة شديدة الحرج، ففي ليلة واحدة خرج زعماء الكوفة في تتابع مدروس مع أنصارهم وهم يلبسون السواد (شعار العباسيين) فكانت مفاجأة قاسية لم يستطع أن يصمد أمامها صاحب الشرطة (وزير الداخلية) فهرب إلى معسكر الجيش الذي كان يستعد لمواجهة جيش العباسيين القادم من المشرق، ودخل أصحاب السواد قصر الإمارة في الكوفة بانقلاب داخلي قبل وصول الجيش، وخرجت الكوفة فعليا من سلطة الأمويين. واستولى أهلها على الأموال وما في الخزائن وصار الجيش الأموي في وضع شديد الحرج.
ثم أرسل أبو سلمة بكل ذلك إلى جيش قحطبة وأمره بأن يقرأ هذه الأخبار على الجنود وأن يشيعها في جنود الأمويين أيضا، فبلغت معنويات جيش العباسيين عناء السماء فيما نزل الخبر كالصاعقة على جيش الأمويين، فاضطر ابن هبيرة أن يرسل فرقة من جيشه لحماية الكوفة، لكن الفرقة ما إن وصلت حتى كانت الكوفة قد انتهى أمرها تماما، وساهم خروج هذه الفرقة في ضعف الجيش الأموي أكثر وأكثر.ثم وقعت المعركة بينهما بالقرب من "الفلوجة"، وجرى قتال بدا فيه أن النصر للأمويين حتى جاء خبر دخول الكوفة في طاعة العباسيين فانقلبت نتائج المعركة بما شاع في جيش الأمويين من الهزيمة، فتم النصر للعباسيين.
إلا أن الجيش المنتصر تلفت بعد النصر فلم يجد قائده الباسل المحنك وصاحب كل انتصاراتهم منذ خرجوا من خراسان، والذي لم يبق له إلا أن يرى ثمرة نصره الكبرى (دخول الكوفة)، وأغلب الظن أنه غرق في نهر الفرات، فانتصر الجيش رغم هزيمة قائده!
والعكس بالعكس أيضا، فقد انهار جيش الأمويين رغم بقاء قائده حيا، ولم تفلح محاولات ابن هبيرة لتدارك انسحابات الجيش، ثم استقر رأيه مع فلول جيشه على الاعتصام بمدينة واسط، وهو قرار يعني ترك الكوفة لمصيرها المحتوم ودخول العراق فعليا في سلطان العباسيين. كما أنه يدل على سوء الأوضاع بين ابن هبيرة والخليفة الأموي إذ كان بالإمكان الانضمام بباقي الجيش إلى الجيش الرئيسي الذي يقوده مروان بن محمد والقادم من الشام. وهو القرار الذي أغضب مروان بن محمد لا سيما بعد أن عرف أن الجيش المنصور قد قُتِل قائده!!
وهكذا دخلت الكوفة في طاعة العباسيين، وأعلنها العباسيون عاصمة لهم، وصار أبو سلمة الخلال الحاكم الفعلي في الكوفة وصاحب الأمر والنهي فيها، وخرج الناس إليه فبايعوه كنائب عن الإمام الذي ما زال مجهولا وخفيا.
خرج أبو سلمة في موكب يحف به الجيش العباسي نحو مسجد الكوفة، وألقى خطبة افتتاح العصر العباسي، التي أراد بها أن يقطع كل أمل في عودة الأمويين ويبث في الناس اليقين بأن زمانهم قد ولَّى إلى غير رجعة، وجاء زمان الأئمة المقدمين من آل البيت النبوي الكريم، قال:
«إن الله قد أكرمكم بهذه الدعوة المباركة، التي لم تزل القلوب تتشوق إليها فخصكم الله بها، وجعلكم أهلها، ألا وإنه ليس لأحد فيها شرف إلا بعدكم، ولا منزلة في حباء ولا في مجلس ولا مدخل ولا مخرج عند أئمتكم إلا دونكم، ألا وإنها دولتكم فاقبلوها وأيقنوا بنصر الله إياكم كعادته فيما أبلاكم حتى بلغكم ما أنتم فيه، فاعتبروا ما بقي بما مضى، وتحفظوا من خدع السفهاء وتزيين شياطينهم لكم اتباع أهوائهم؛ فإنهم سيقرعون لكم بالحسد على هذه النعمة، فاتهموهم ولا تقاربوهم ولا تطمعوهم في أنفسكم؛ فيردوكم على أعقابكم، وأبشروا بالخير الكثير في عاجلكم إلى ما قد ذخره الله لكم في آجلكم».
وكعادة الناس في أزمان انهيار الدول وقدوم العهد الجديد أجابوه بالهتاف والطاعة والعزم على الصبر ومواصلة الجهاد.
وأعلن أبو سلمة أنه سيزيد العطاء (الرواتب) فبدلًا من ثلاثمائة درهم في العام كما كان في عهد بني أمية؛ فإنه سيعطي ثمانين درهمًا في الشهر الواحد (أي 960 درهمًا في العام)، وهذا للعامة، وأما الخاصة والمقدمون فهم أعلى من ذلك في العطاء، ومارس أبو سلمة من هذه اللحظة إدارة الأمور بنفسه لا عبر الرسائل، فوجه الجيوش والسرايا إلى واسط وإلى غيرها من الجيوب الأخرى، وولَّى الأعمال والولايات والدواوين، وجبى الخراج من الأقاليم التابعة للكوفة، وبدأ في حشد الأجناد لمواجهة جيش مروان بن محمد القادم من الشام، وراسل أبا مسلم الخراساني ليرسل إليه بالجنود؛ فبعث أبو مسلم لمَنْ يتبعه من القادة والقبائل، فأخرجوا له أعدادًا من الجنود بعثها إلى أبي سلمة الخلال.
ومن هذه اللحظة صارت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة.. الدولة العباسية الزاهرة!
بينما تحاول الدولة الأموية علاج التفكك الذي اعتراها والصراعات التي نشبت في جسدها الكبير، إذ نبتت في خراسان –أقصى الشرق- بذرة الدعوة العباسية التي ما لبثت أن كبرت واستفحلت واستولت على خراسان، إلا أن أحدا لم يكن ليخطر بباله أن هذه الثورة البعيدة ستكون هي الثورة الكبرى ووريثة الدولة الأموية العظيمة!
لم يفلح رجال الحرب وأبطال الدولة في أن يصمدوا أمام هذه العاصفة القادمة من المشرق، كانوا قلة في العدد والعدة لكنهم يحملون روحا وثابة وبسالة عجيبة، كانوا رجال الدولة كما تكون الدول في أول عهدها، العفاء والفتوة والشباب.. وكان الأمويون أمامهم –رغم العدد والعدة والتاريخ المجيد- كالدولة التي في أواخر زمانها، تدبر عنها الأيام وتعاكسها تصاريف الزمان.
وبالرغم من أن الأمويون استطاعوا اعتقال رأس الدعوة العباسية الإمام إبراهيم بن محمد إلا أن هذا لم يغير شيئا من مسار الأحداث إذ كانت الدولة قد قامت فعلا في المشرق وتسير نحو المغرب.
كذلك فقد كانت العلاقة المضطربة بين الخليفة الأموري مروان بن محمد وواليه على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة من أسباب تضعضع موقف الأمويين، وكلاهما من الخبرات العسكرية النادرة. وقد استهان قادة الجيوش الأموية أحيانا بجيش العباسيين فلقوا جراء ذلك هزائم مريعة.
واصل العباسيون تقدمهم من المشرق إلى المغرب، وكان يمدهم بالمعلومات مركزهم السري في الكوفة –والذي يتولاه أبو سلمة الخلال كبير الدعاة- وتأتيهم توجيهات القيادة العامة للدعوة في الشام، واستطاعوا من خلال هذين المصدرين من المعلومات تغيير بعض الخطط ومسارات المعارك بما حقق لهم النصر.
واستعمل العباسيون سلاح الإشاعات، واستطاع قحطبة بن شبيب –قائد جيش الدعوة العباسية- أن يكسب بالإشاعة معركتين من أهم المعارك، فعندما تحصن يزيد بن عمر بن هبيرة لقتاله عند جلولاء انطلق وأشاع أنه سيذهب مباشرة إلى الكوفة (عاصمة العراق) فأجبر جيش يزيد على العودة المسرعة إلى الكوفة خشية أن تسقط بيد العباسيين تاركا كثيرا من الغنائم والعدد في جلولاء، فعاد قحطبة سريعا إلى المعسكر واستولى على هذه الغنائم وأحرق ما لم يقدر على الاستفادة منه.
كذلك أشاع قحطبة أنه سيقصد إلى المدائن (عاصمة العراق القديمة أيام الفرس) فاستعد ابن هبيرة لذلك ثم تبين له أن قحطبة سيقصد إلى الكوفة، فالتقى الجيشان أخيرا بعد مناورات ومعارك محدودة في منطقة غرب الفرات (5 المحرم 132 هـ).
من مطالعة الروايات وتتبعها نأسف أن المصادر التي وصلتنا لا تكشف بوضوح الدور الخطير الذي لعبه أبو سلمة (كبير دعاة العباسيين في الكوفة)، فنحن لا نراه إلا في لحظات قليلة لكنها دائما حاسمة وفاصلة ومؤثرة. وأهم من المعلومات والتوجيهات التي كان يرسلها إلى قحطبة تحركاته الداخلية بين عشائر الكوفة وزعمائها وأنصار آل البيت فيها، واستطاع أن يدبر انقلابا داخليا في لحظة شديدة الحرج، ففي ليلة واحدة خرج زعماء الكوفة في تتابع مدروس مع أنصارهم وهم يلبسون السواد (شعار العباسيين) فكانت مفاجأة قاسية لم يستطع أن يصمد أمامها صاحب الشرطة (وزير الداخلية) فهرب إلى معسكر الجيش الذي كان يستعد لمواجهة جيش العباسيين القادم من المشرق، ودخل أصحاب السواد قصر الإمارة في الكوفة بانقلاب داخلي قبل وصول الجيش، وخرجت الكوفة فعليا من سلطة الأمويين. واستولى أهلها على الأموال وما في الخزائن وصار الجيش الأموي في وضع شديد الحرج.
ثم أرسل أبو سلمة بكل ذلك إلى جيش قحطبة وأمره بأن يقرأ هذه الأخبار على الجنود وأن يشيعها في جنود الأمويين أيضا، فبلغت معنويات جيش العباسيين عناء السماء فيما نزل الخبر كالصاعقة على جيش الأمويين، فاضطر ابن هبيرة أن يرسل فرقة من جيشه لحماية الكوفة، لكن الفرقة ما إن وصلت حتى كانت الكوفة قد انتهى أمرها تماما، وساهم خروج هذه الفرقة في ضعف الجيش الأموي أكثر وأكثر.ثم وقعت المعركة بينهما بالقرب من "الفلوجة"، وجرى قتال بدا فيه أن النصر للأمويين حتى جاء خبر دخول الكوفة في طاعة العباسيين فانقلبت نتائج المعركة بما شاع في جيش الأمويين من الهزيمة، فتم النصر للعباسيين.
إلا أن الجيش المنتصر تلفت بعد النصر فلم يجد قائده الباسل المحنك وصاحب كل انتصاراتهم منذ خرجوا من خراسان، والذي لم يبق له إلا أن يرى ثمرة نصره الكبرى (دخول الكوفة)، وأغلب الظن أنه غرق في نهر الفرات، فانتصر الجيش رغم هزيمة قائده!
والعكس بالعكس أيضا، فقد انهار جيش الأمويين رغم بقاء قائده حيا، ولم تفلح محاولات ابن هبيرة لتدارك انسحابات الجيش، ثم استقر رأيه مع فلول جيشه على الاعتصام بمدينة واسط، وهو قرار يعني ترك الكوفة لمصيرها المحتوم ودخول العراق فعليا في سلطان العباسيين. كما أنه يدل على سوء الأوضاع بين ابن هبيرة والخليفة الأموي إذ كان بالإمكان الانضمام بباقي الجيش إلى الجيش الرئيسي الذي يقوده مروان بن محمد والقادم من الشام. وهو القرار الذي أغضب مروان بن محمد لا سيما بعد أن عرف أن الجيش المنصور قد قُتِل قائده!!
وهكذا دخلت الكوفة في طاعة العباسيين، وأعلنها العباسيون عاصمة لهم، وصار أبو سلمة الخلال الحاكم الفعلي في الكوفة وصاحب الأمر والنهي فيها، وخرج الناس إليه فبايعوه كنائب عن الإمام الذي ما زال مجهولا وخفيا.
خرج أبو سلمة في موكب يحف به الجيش العباسي نحو مسجد الكوفة، وألقى خطبة افتتاح العصر العباسي، التي أراد بها أن يقطع كل أمل في عودة الأمويين ويبث في الناس اليقين بأن زمانهم قد ولَّى إلى غير رجعة، وجاء زمان الأئمة المقدمين من آل البيت النبوي الكريم، قال:
«إن الله قد أكرمكم بهذه الدعوة المباركة، التي لم تزل القلوب تتشوق إليها فخصكم الله بها، وجعلكم أهلها، ألا وإنه ليس لأحد فيها شرف إلا بعدكم، ولا منزلة في حباء ولا في مجلس ولا مدخل ولا مخرج عند أئمتكم إلا دونكم، ألا وإنها دولتكم فاقبلوها وأيقنوا بنصر الله إياكم كعادته فيما أبلاكم حتى بلغكم ما أنتم فيه، فاعتبروا ما بقي بما مضى، وتحفظوا من خدع السفهاء وتزيين شياطينهم لكم اتباع أهوائهم؛ فإنهم سيقرعون لكم بالحسد على هذه النعمة، فاتهموهم ولا تقاربوهم ولا تطمعوهم في أنفسكم؛ فيردوكم على أعقابكم، وأبشروا بالخير الكثير في عاجلكم إلى ما قد ذخره الله لكم في آجلكم».
وكعادة الناس في أزمان انهيار الدول وقدوم العهد الجديد أجابوه بالهتاف والطاعة والعزم على الصبر ومواصلة الجهاد.
وأعلن أبو سلمة أنه سيزيد العطاء (الرواتب) فبدلًا من ثلاثمائة درهم في العام كما كان في عهد بني أمية؛ فإنه سيعطي ثمانين درهمًا في الشهر الواحد (أي 960 درهمًا في العام)، وهذا للعامة، وأما الخاصة والمقدمون فهم أعلى من ذلك في العطاء، ومارس أبو سلمة من هذه اللحظة إدارة الأمور بنفسه لا عبر الرسائل، فوجه الجيوش والسرايا إلى واسط وإلى غيرها من الجيوب الأخرى، وولَّى الأعمال والولايات والدواوين، وجبى الخراج من الأقاليم التابعة للكوفة، وبدأ في حشد الأجناد لمواجهة جيش مروان بن محمد القادم من الشام، وراسل أبا مسلم الخراساني ليرسل إليه بالجنود؛ فبعث أبو مسلم لمَنْ يتبعه من القادة والقبائل، فأخرجوا له أعدادًا من الجنود بعثها إلى أبي سلمة الخلال.
ومن هذه اللحظة صارت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة.. الدولة العباسية الزاهرة!
Published on March 12, 2015 10:34
March 10, 2015
لماذا علم الاستغراب؟ - الدعوة
اقرأ أولا:
لماذا علم الاستغراب؟ - العلم
إن الدعوة إلى الله من صميم واجبات الأمة الإسلامية، وإن القيام بهذا الواجب يقتضي العلم بأمة الدعوة وأحوالها وما هي عليه من أفكار وما لديها من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية.
وهذا العلم هو البديل الإسلامي للوهم الغربي المسمى بـ "الحياد العلمي"، إذ ليس ثمة إنسان يمكنه أن يكون محايدا، لا سيما إن كان موضوع الدراسة موضوعا إنسانيا، فكيف إذا كان الموضوع مما قد يصطدم مباشرة بأفكار الباحث الذي تكونت نفسيته وشخصيته وثقافته في ظل مناخ حضاري وثقافي؟! كيف لمثل هذا أن يدعي أنه محايدٌ؟!
والعلم الذي يترتب عليه واجب الدعوة أقوى وأعمق حتى من فكرة "الموضوعية"، فهما وإن اشتركا في ضرورة التوثق من كل معلومة والفحص لكل ظاهرة، إلا أن العلم الذي يترتب عليه دعوة هو بحثٌ تلهبه روح الدعوة وتحركه حماسة الداعية، فهو أعمق من الرصد والفحص والتسجيل لأنه يبتغي الفهم والوصول إلى أعماق الظواهر ابتغاء الإمساك بمفاتيح الموضوع وأصوله لأنها ستكون ركائز عملية الدعوة في الخطوة التالية.
ولا ريب أن الفهم العميق لأمة الدعوة مع اتخاذ موقف من هذه الأفكار هو أمر ممكن إنسانيا، بخلاف محاولة الخروج من كل موقف مسبق والانسلاخ عن كل فكرة قبل الدخول إلى البحث لتحقيق هدف "الحيادية"، وسنأتي إلى هذه النقطة بمزيد تفصيل في الباب القادم.
إن مما يلفت النظر ويثير التأمل أن الجزء الأول من القرآن الكريم كان حديثا مطولا عن أعداء الأمة من المنافقين واليهود والمشركين، وذلك أن الدعوة تحتاج إلى هذه البصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
إنه لا مناص من دراسة معمقة للغرب نعرف منها مداخل الدعوة إليه، وما الذي يثير أشواق الناس، أو يكدر حياتهم، ما أحلامهم وما همومهم، وبهذا وحده نستطيع أن نقدم الإسلام بالوجه المناسب.
إن الدعوة إلى الزهد لها رنين خاص في مجتمع فوجئ بأنه لم يصل إلى الراحة مع التقدم التقني، بل على العكس وصل إلى اللهاث، "لم ينتج عن هذا زيادة التحكم في الذات الإنسانية أو في الواقع الموضوع بل على العكس، فمع ظهور الإنسان الطبيعي (المادي) وتحديد المنفعة واللذة باعتبارهما الهدف الأساسي للوجود الإنساني، ترجم هذا نفسه إلى الاستهلاكية، وتصور أن مزيدا من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة، وقد تسارعت وتائر هذه الاستهلاكية تسارعا مذهلا، وبعد أن كانت الحاجة هي أم الاختراع أصبح الاختراع هو الذي يولد الحاجة، فوجد الإنسان نفسه محاطا بسلع وأجهزة ليس متأكدا تماما أنه يريدها والسلعة مثل المادة شيء يتحرك بلا هدف أو غاية، وبدأ الإنسان يشعر أنه لم يعد يملك من أمره شيئا وأنه يدخل في بحث لا ينتهي عن هدف لم يحدده في عالم ليس من صنعه تتراكم فيه سلع لا يريدها"وإن بيان حال المرأة في الإسلام وما أوجبه على زوجها أو أبيها من النفقة عليها له رنين خاص في مجتمع يشهد عودة المرأة إلى بيتها وعزوفها عن المشاركة في الرأي العام، ومن ثَمَّ تراجع الإقبال على دور الحضانة، وقد علقت صحيفة التايم البريطانية على هذا بأن النساء استسلموا ودخلوا المطابخإن أهل الإسلام يجب أن يكونوا حاضرين في لحظة تشهد موجة العودة إلى الدين في الغرب، وهي الظاهرة التي تشمل العالم كلهإن الوقت يبدو مناسبا لاستقبال الإسلام في ظل انطفاء بريق الفلسفات، إذ ليس ثمة فلسفة لها ذات البريق القديم، بل إن أزمة هوية تبدو واضحة في الكتابات الغربية، كما يبدو واضحا ذلك القلق والخوف من المستقبل، حتى لتشيع الكتب ذات العناوين الموحية "سقوط الغرب"، "انتحار الغرب"، "موت الغرب"... إلخ.
في كتاب "انتحار الغرب" لخص المؤلفان دوافع التأليف في هذه الفقرة التي تشير إلى عمق هذه الأزمة: "أطروحتنا هي أن الفرد الذي يحسن نفسه، والواثق، والمسؤول، والمتجذر تجذرا كاملا في مجتمع ليبرالي مع إحساس بالواجب نحو ذلك المجتمع، هو الفرد الذي يتلاشى الآن تدريجيا، وفي مكان الإيمان لدينا اللا أدرية أو النسبية، وفي مكان التفاؤل لدينا الجبرية، وفي مكان الإحساس بالتقدم لدينا التحذيرات المسبقة، وفي مكان الأحلام لدينا الكوابيس، وفي مكان التوفير لدينا الاستهلاك، وفي مكان الكفاح لدينا العاطفية، وفي مكان المسؤولية نحو الآخرين لدينا الإحساس بكونهم ضحية، وفي مكان المثالية لدينا الارتياب، وفي مكان المعنى والهدف لدينا المال، وفي مكان العقل لدينا العواطف، وفي مكان الجدية لدينا التفاهة والإفراط في اتباع شهوات النفس، وفي مكان نماذج الدور الأصيل لدينا المشاهير الـمُمِلُّون، وفي مكان المجتمع لدينا التشظي"وليس يتأثر بمثل هذه الحال كما ينبغي أن يتأثر لها صاحب رسالة، وإن أمة الإسلام التي تحمل رسالة إنقاذ الناس وإصلاح الأرض، ينتظرها حمل ثقيل!
وفي مقام الدعوة هذا ينبغي أن نشير إلى أمريْن مهميْن:
أولهما: أن دعوة أهل الغرب يجب أن تقوم على أسس من أهمها دراسة الأسلوب الأنسب في الدخول إلى العقلية والنفسية الغربية، وهنا سنجد أنفسنا ملزمين بالاطلاع على كتب المستشرقين المنصفين أو شبه المنصفين ممن أرادوا تغيير الصورة الذهنية السيئة لدى الغربيين عن الإسلام والمسلمين، فإن ثمة خيطا متينا واصل بين هؤلاء يدركه من أكثر القراءة لهم. فمن هذا نعلم ما يُقال وما حضر أهله وما حان وقته من سائر الكلام.
وثانيهما: أن الحرص على دعوة الغربيين وحب الخير لهم والحرص عليهم وبذل الدعوة لهم، لا ينافي اليقين في أن الغرب سيظل غربا وسيكون مركز العداء للإسلام وطرف الملاحم التي في آخر الزمان، استنادا على ما نعلمه من أحاديث النبي r.نشر في نون بوست
د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص133. كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص15. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص78، 79، وهو ينقل عن: أليس مايلز Alice Milesفي التايم 2/5/2007م. كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص15 وما بعدها. صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص158. د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص65 وما بعدها، ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص81 وما بعدها، وتقدر معظم الاستطلاعات أن حوالي 85% من الأمريكيين يعتنقون عقيدة دينية، و55% يحضرون الطقوس الدينية بانتظام. العربية نت بتاريخ 2/5/2012م. وهو الكتاب الذي يعدُّ مثالا على الفارق بين عين صاحب الرسالة ويقظته وبين عين الباحث "المحايد" إن صحَّ وجود مثل هذا. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص106 وما بعدها. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص146 وما بعدها. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص84 وما بعدها. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص20، 21.
إن الدعوة إلى الله من صميم واجبات الأمة الإسلامية، وإن القيام بهذا الواجب يقتضي العلم بأمة الدعوة وأحوالها وما هي عليه من أفكار وما لديها من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية.
وهذا العلم هو البديل الإسلامي للوهم الغربي المسمى بـ "الحياد العلمي"، إذ ليس ثمة إنسان يمكنه أن يكون محايدا، لا سيما إن كان موضوع الدراسة موضوعا إنسانيا، فكيف إذا كان الموضوع مما قد يصطدم مباشرة بأفكار الباحث الذي تكونت نفسيته وشخصيته وثقافته في ظل مناخ حضاري وثقافي؟! كيف لمثل هذا أن يدعي أنه محايدٌ؟!
والعلم الذي يترتب عليه واجب الدعوة أقوى وأعمق حتى من فكرة "الموضوعية"، فهما وإن اشتركا في ضرورة التوثق من كل معلومة والفحص لكل ظاهرة، إلا أن العلم الذي يترتب عليه دعوة هو بحثٌ تلهبه روح الدعوة وتحركه حماسة الداعية، فهو أعمق من الرصد والفحص والتسجيل لأنه يبتغي الفهم والوصول إلى أعماق الظواهر ابتغاء الإمساك بمفاتيح الموضوع وأصوله لأنها ستكون ركائز عملية الدعوة في الخطوة التالية.
ولا ريب أن الفهم العميق لأمة الدعوة مع اتخاذ موقف من هذه الأفكار هو أمر ممكن إنسانيا، بخلاف محاولة الخروج من كل موقف مسبق والانسلاخ عن كل فكرة قبل الدخول إلى البحث لتحقيق هدف "الحيادية"، وسنأتي إلى هذه النقطة بمزيد تفصيل في الباب القادم.
إن مما يلفت النظر ويثير التأمل أن الجزء الأول من القرآن الكريم كان حديثا مطولا عن أعداء الأمة من المنافقين واليهود والمشركين، وذلك أن الدعوة تحتاج إلى هذه البصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
إنه لا مناص من دراسة معمقة للغرب نعرف منها مداخل الدعوة إليه، وما الذي يثير أشواق الناس، أو يكدر حياتهم، ما أحلامهم وما همومهم، وبهذا وحده نستطيع أن نقدم الإسلام بالوجه المناسب.
إن الدعوة إلى الزهد لها رنين خاص في مجتمع فوجئ بأنه لم يصل إلى الراحة مع التقدم التقني، بل على العكس وصل إلى اللهاث، "لم ينتج عن هذا زيادة التحكم في الذات الإنسانية أو في الواقع الموضوع بل على العكس، فمع ظهور الإنسان الطبيعي (المادي) وتحديد المنفعة واللذة باعتبارهما الهدف الأساسي للوجود الإنساني، ترجم هذا نفسه إلى الاستهلاكية، وتصور أن مزيدا من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة، وقد تسارعت وتائر هذه الاستهلاكية تسارعا مذهلا، وبعد أن كانت الحاجة هي أم الاختراع أصبح الاختراع هو الذي يولد الحاجة، فوجد الإنسان نفسه محاطا بسلع وأجهزة ليس متأكدا تماما أنه يريدها والسلعة مثل المادة شيء يتحرك بلا هدف أو غاية، وبدأ الإنسان يشعر أنه لم يعد يملك من أمره شيئا وأنه يدخل في بحث لا ينتهي عن هدف لم يحدده في عالم ليس من صنعه تتراكم فيه سلع لا يريدها"وإن بيان حال المرأة في الإسلام وما أوجبه على زوجها أو أبيها من النفقة عليها له رنين خاص في مجتمع يشهد عودة المرأة إلى بيتها وعزوفها عن المشاركة في الرأي العام، ومن ثَمَّ تراجع الإقبال على دور الحضانة، وقد علقت صحيفة التايم البريطانية على هذا بأن النساء استسلموا ودخلوا المطابخإن أهل الإسلام يجب أن يكونوا حاضرين في لحظة تشهد موجة العودة إلى الدين في الغرب، وهي الظاهرة التي تشمل العالم كلهإن الوقت يبدو مناسبا لاستقبال الإسلام في ظل انطفاء بريق الفلسفات، إذ ليس ثمة فلسفة لها ذات البريق القديم، بل إن أزمة هوية تبدو واضحة في الكتابات الغربية، كما يبدو واضحا ذلك القلق والخوف من المستقبل، حتى لتشيع الكتب ذات العناوين الموحية "سقوط الغرب"، "انتحار الغرب"، "موت الغرب"... إلخ.
في كتاب "انتحار الغرب" لخص المؤلفان دوافع التأليف في هذه الفقرة التي تشير إلى عمق هذه الأزمة: "أطروحتنا هي أن الفرد الذي يحسن نفسه، والواثق، والمسؤول، والمتجذر تجذرا كاملا في مجتمع ليبرالي مع إحساس بالواجب نحو ذلك المجتمع، هو الفرد الذي يتلاشى الآن تدريجيا، وفي مكان الإيمان لدينا اللا أدرية أو النسبية، وفي مكان التفاؤل لدينا الجبرية، وفي مكان الإحساس بالتقدم لدينا التحذيرات المسبقة، وفي مكان الأحلام لدينا الكوابيس، وفي مكان التوفير لدينا الاستهلاك، وفي مكان الكفاح لدينا العاطفية، وفي مكان المسؤولية نحو الآخرين لدينا الإحساس بكونهم ضحية، وفي مكان المثالية لدينا الارتياب، وفي مكان المعنى والهدف لدينا المال، وفي مكان العقل لدينا العواطف، وفي مكان الجدية لدينا التفاهة والإفراط في اتباع شهوات النفس، وفي مكان نماذج الدور الأصيل لدينا المشاهير الـمُمِلُّون، وفي مكان المجتمع لدينا التشظي"وليس يتأثر بمثل هذه الحال كما ينبغي أن يتأثر لها صاحب رسالة، وإن أمة الإسلام التي تحمل رسالة إنقاذ الناس وإصلاح الأرض، ينتظرها حمل ثقيل!
وفي مقام الدعوة هذا ينبغي أن نشير إلى أمريْن مهميْن:
أولهما: أن دعوة أهل الغرب يجب أن تقوم على أسس من أهمها دراسة الأسلوب الأنسب في الدخول إلى العقلية والنفسية الغربية، وهنا سنجد أنفسنا ملزمين بالاطلاع على كتب المستشرقين المنصفين أو شبه المنصفين ممن أرادوا تغيير الصورة الذهنية السيئة لدى الغربيين عن الإسلام والمسلمين، فإن ثمة خيطا متينا واصل بين هؤلاء يدركه من أكثر القراءة لهم. فمن هذا نعلم ما يُقال وما حضر أهله وما حان وقته من سائر الكلام.
وثانيهما: أن الحرص على دعوة الغربيين وحب الخير لهم والحرص عليهم وبذل الدعوة لهم، لا ينافي اليقين في أن الغرب سيظل غربا وسيكون مركز العداء للإسلام وطرف الملاحم التي في آخر الزمان، استنادا على ما نعلمه من أحاديث النبي r.نشر في نون بوست
د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص133. كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص15. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص78، 79، وهو ينقل عن: أليس مايلز Alice Milesفي التايم 2/5/2007م. كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص15 وما بعدها. صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص158. د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص65 وما بعدها، ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص81 وما بعدها، وتقدر معظم الاستطلاعات أن حوالي 85% من الأمريكيين يعتنقون عقيدة دينية، و55% يحضرون الطقوس الدينية بانتظام. العربية نت بتاريخ 2/5/2012م. وهو الكتاب الذي يعدُّ مثالا على الفارق بين عين صاحب الرسالة ويقظته وبين عين الباحث "المحايد" إن صحَّ وجود مثل هذا. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص106 وما بعدها. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص146 وما بعدها. د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص84 وما بعدها. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص20، 21.
Published on March 10, 2015 07:35
March 9, 2015
سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (4)
اقرأ أولا:
سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (1)
سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (2)
سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (3)
في هذا المقال يتذكر عبد الرحمن بدوي، الحال التي صارت إليها مصر تحت حكم العسكر، ويحكم بأن كل مفاسد عهد الملكية لا تساوي واحدا في الألف من مفاسد وقبائح عهد العسكر.
ونحن نواصل استعراض رأيه من واقع مذكراته الحافلة على النحو الذي جرينا عليه في المقالات الماضية:
16. "أعرف سوريا جيدا من سنة 1946، وكنت أتردد عليها في كل عطلة أثناء إقامتي في لبنان لعامين... ولي صلات وثيقة حميمة بكثير من أدبائها وأساتذتها ومثقفيها وأسرها وسياسييها... وفي جميع هذه الزيارات كنت ألقى ترحيبا بالغا وحرارة استقبال ولقاء عند سائر أفراد الشعب السوري في دمشق، مما جعل هذا البلد أثيرا عندي ويحتل في مشاعري مكانة عزيزة.
لكن حين زرت دمشق في سبتمبر 1958 لحضور ذلك المؤتمر (مؤتمر المستشارين والملحقين الثقافين ومديري البعثات التعليمية)، شعرت بعامة الناس يعاملونني بحذر، بل وبنفور وكراهية وغيظ. وكان هذا كله بسبب الوحدة التي فُرِضَت على الشعب السوري فرضا من جانب عسكريين وسياسيين غير مخلصين، وما ترتب على ذلك من إرهاب وقد مارسهما عبد الحميد السراج وزبانيته، وكل ذلك باسم الوحدة مع مصر فيما يزعمون، وهو زعم كاذب كل الكذب. إن أوزار هؤلاء العسكريين وأذنابهم السياسيين السوريين قد انصبت كلها على رأس مصر، ومصر منها براء كل البراءة"17. "كان من المفروض أن يكون القصد من هذا المؤتمر (مؤتمر المستشارين والملحقين الثقافين ومديري البعثات التعليمية) تبادل الرأي في المشاكل الثقافية بين مصر والبلاد الأخرى، والكشف عن النقائص، واقتراح العلاج. لكن نتيجة المؤتمر كانت على العكس تماما: فالذين أوضحوا المشاكل واقترحوا وسائل العلاج قد قرر وزير المعارف (كمال الدين حسين) إعادتهم إلى مصر، بينما الذين لم ينطقوا بكلمة واحدة طوال عشرين يوما هم الذين أُبقي عليهم في أماكنهم في الخارج. فهل هناك عبث أكبر من هذا العبث؟! فيم إذن كان استدعاؤهم وتحمل تكاليف أسفارهم وإقامتهم وبدلات سفرهم – إذا كانت هذه هي النتيجة؟! إن المرء ليحار كل الحيرة في فهم تصرفات القائمين على تسيير الحكم في مصر! إن الهوى واللامعقول والاستبداد الأحمق- هي التي تحكم تصرفاتهم"18. يروي بدوي من موقعه كمستشار ثقافي بالسفارة المصرية في برن بسويسرا: "أما آراؤهم السياسية (أي الطلاب) في الأحوال في مصر، فقد رأيت ألا أتدخل فيها بأي حال من الأحوال. وهذا هو ما أسخط الملحق العسكري الذي كان يريد استغلالهم، ومن أجل ذلك كان يلح علي باستمرار ولدى الوزير في إنشاء نواد لهم لتسهيل مراقبة آرائهم. فوقفت بحزم تام ضد هذا الاقتراح، ولم يتحقق منه شيء طوال مدة عملي. لقد عجبت لهذا التدخل من جانب الملحق العسكري. ألم يكن الأجدر به أن يهتم بمهمته التي من أجلها عيِّن في وظيفته، بدلا من أن ينصرف عنها إلى التجسس على اتجاهات الطلاب وآرائهم في أحوال بلدهم!
وكان هذا تصرفا حكيما مني. لأن من خلفني –وكان ضابطا في الأصل برتبة بكباشي- حاول التدخل في أفكار الطلاب السياسية، فكانت النتيجة أن بعضهم اعتدى عليه بالصفع والركل في أول اجتماع عقده لهم! وتمشيا مع المبدأ الذي اتخذته؛ فإني كنت أرفض الاستماع إلى أية وشاية من طالب على طالب آخر فيما يتعلق بالأمور السياسية أو السلوك الشخصي، رغم تطوع البعض لهذه الوشايات والدسائس... ولما وجد هذا النفر الخسيس من الطلاب أن بابي موصد تماما أمام وشاياتهم، اتجهوا بها إلى باب الملحق العسكري"19. "الغالب على لقاءات الدبلوماسيين هو التفاهة والحذر الشديد والكلام الخالي من كل معنى. فأحاديثهم هي عن الجو، ومتى سيأخذ الواحد منهم إجازة، والملابس، وأحسن الأسعار لشراء السلع والألعاب الرياضية. وإذا سألت أحدهم عن مشكلة حادة في بلده تتناقل أخبارها الصحف والإذاعات أكتفى بالقول: كل شيء يسير على أحسن وجه، ولا يوجد أي خلاف. وإذا بك تسمع أو تقرأ بعد يومين أن أحد المخاصمين في بلده قد أطاح بالآخر وربما قتله! والبعض الآخر كان لا يرد على سؤالك، بل يقول: إنني لم أسمع آخر الأخبار، فهل سمعت أنت شيئا؟!"20. "السنة الكبرى
هي سنة 1952..
وهي سنة الفصل بين عهد وعهد.
كانت الحرية نعمة ينعم الكل بظلالها الوارفة ويطالب دائما بالمزيد، وإذا بها في العهد الجديد حكرا لفرد تحيط به عصابة.
وكانت الكرامة من أعز ما يعتز به المصري، فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدرا لكل حرمان وشقاء.
وكان الأمن على النفس والمال موفورا لكل شخص، فصار الخوف على كليهما يقضّ كل فرد وكل أسرة.
وكان النفاق مقصورا على فئة من الوصوليين وعديمي الضمائر، فأضحى خصلة لشعب بأسره يتنافس الجميع في ممارستها ويتباهي بالتفوق فيها.
وكان التفريط في أي حق من الحقوق الوطنية خيانة تنهار بسببها الحكومات، وإذا بالتخلي عن أكبر هذه الحقوق –وهو حق مصر في السودان- يعد إنجازا عظيما يتباهى به الحكام.
وكانت الهزيمة البسيطة في فلسطين سنة 1948 كارثة تزعزت بسببها الثقة في الحاكمين، وإذا بالهزيمة الساحقة الماحقة في يونيو سنة 1967 تحتشد لها جماهير 9 و 10 يونيو للهتاف بحياة من تسببوا في الهزيمة، ويرقص لها ممثلو الشعب في مجلس الأمة ابتهاجا باستمرار المسؤولين عن الهزيمة في التحضير لهزائم تالية.
وكان ضياع آلاف قليلة من الجنيهات في شراء أسلحة فاسدة جريمة هائلة طالت من أجلها المحاكمات، وإذا بالتخلي لإسرائيل عن أسلحة تقدر بآلاف الملايين أمر هيّن يُكافأ عليه فاعلوه بالمزيد من التمكين لهم من البطش والاستبداد.
وكان النقص في سلعة من السلع أمرا نادر الوقوع، فصار النقص في معظم السلع هو القاعدة وتوفير سلعة هو الاستثناء.
وكانت العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية تتسم بالمودة وتبادل المنافع وبالتقدير، فصارت القطيعة والعداوة وعدم التعاون هي الصفات السائدة في هذه العلاقات.
وكان المصري في سائر بلاد العالم مقبولا لا يثير نفورا ولا ارتيابا ولا ازدراء، فإذا به يصبح هدفا لكل مظنة فاسدة، ومدعاة للحذر أو الاحتقار.
وكانت حقوق الإنسان المصري مكفولة بالدستور والقوانين، فإذا انتهكها حاكم ردَّه القضاء إلى الصواب وأنصف المظلومين، فإذا بهذه الحقوق تصبح تعطفا متعاليا من الحاكم على المحكومين، أو تُهْدَر دون مراجعة ولا جزاء، ويضحى الدستور والقوانين ألعوبة في أيدي الحاكم وزبانيته يعبث بها كما يشاء هواه.
وكان الاقتصاد المصري يقوم على أسس راسخة وأرقام صادقة واضحة وينهض بأعبائه رجال وشركات خاصة تخلص في أعمالها وإدارتها، وإذا به يصبح أرقاما بهلوانية يتلاعب بها وزراء مال لا علم عندهم ولا ضمير، يقدمون موازنات زائفة ويخططون خططا وهمية خمسية وغير خمسية مما أدى باقتصاد مصر إلى الإفلاس وتكاثر الديون وانهيار سعر الجنيه المصري انهيارا متواصلا لا يصده شيء حتى أصبح –في مقابل العملات القوية- يساوي أقل من عشرة في المائة من سعره القديم.
وكان الإسكان ميسورا يُعلن في كل مكان عن شقق خالية للإيجار وتتزايد المباني بما يزيد عن حاجة الساكنين، وإذا بالملايين لا يجدون مساكن لهم، فضلا عن عشرات الآلاف من المنازل القديمة التي تنهار كل عام على رؤوس ساكنيها.
وكان لكل مصري الحق في أن يغادر وطنه طلبا للرزق أو للعلم أو للتجارة أو غير ذلك من مطالب الحياة، وإذا بمصر تتحول إلى سجن كبير يُعتقل فيه كل المصريين، ولا يُسمح بالخروج منه إلا لحفنة قليلة جدا من المحسوبين والمقربين إلى الحاكم وزبانيته.
وكانت أدوات الثقافة تتدفق على البلاد في حرية تامة ودون انقطاع أو تشويه ورقابة، وإذا بهذه الأدوات تُمنع من الدخول تدريجيا حتى فقدت مصر الاتصال بمصادر الفكر العالمي.
وما أريد بهذه المقارنة أن أُمَجِّد العهد السابق على 1952، فهيهات، هيهات! ولكن الأمر كما قال الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما .. صرت في غيره بكيت عليه
ولا يعقل مني أن أمجد العهد السابق على سنة 1952، وأنا الذي ناضلت طوال الأعوام السبعة عشر السابقة على ذلك التاريخ ضد مفاسد ذلك العهد، وما استشرى فيه من خيانات في حقوق الوطن ومن مفاسد ومحسوبيات ومظالم واستهتار بالحقوق وعدوان على الحريات. لكن هذه المفاسد والشرور لا تعادل واحدا في الألف مما حدث بعد 23 يوليو 1952"
سيرة حياتي 1/252. سيرة حياتي 1/252، 253. سيرة حياتي 1/279. سيرة خياتي 1/281. سيرة حياتي 1/322 وما بعدها.
في هذا المقال يتذكر عبد الرحمن بدوي، الحال التي صارت إليها مصر تحت حكم العسكر، ويحكم بأن كل مفاسد عهد الملكية لا تساوي واحدا في الألف من مفاسد وقبائح عهد العسكر.
ونحن نواصل استعراض رأيه من واقع مذكراته الحافلة على النحو الذي جرينا عليه في المقالات الماضية:
16. "أعرف سوريا جيدا من سنة 1946، وكنت أتردد عليها في كل عطلة أثناء إقامتي في لبنان لعامين... ولي صلات وثيقة حميمة بكثير من أدبائها وأساتذتها ومثقفيها وأسرها وسياسييها... وفي جميع هذه الزيارات كنت ألقى ترحيبا بالغا وحرارة استقبال ولقاء عند سائر أفراد الشعب السوري في دمشق، مما جعل هذا البلد أثيرا عندي ويحتل في مشاعري مكانة عزيزة.
لكن حين زرت دمشق في سبتمبر 1958 لحضور ذلك المؤتمر (مؤتمر المستشارين والملحقين الثقافين ومديري البعثات التعليمية)، شعرت بعامة الناس يعاملونني بحذر، بل وبنفور وكراهية وغيظ. وكان هذا كله بسبب الوحدة التي فُرِضَت على الشعب السوري فرضا من جانب عسكريين وسياسيين غير مخلصين، وما ترتب على ذلك من إرهاب وقد مارسهما عبد الحميد السراج وزبانيته، وكل ذلك باسم الوحدة مع مصر فيما يزعمون، وهو زعم كاذب كل الكذب. إن أوزار هؤلاء العسكريين وأذنابهم السياسيين السوريين قد انصبت كلها على رأس مصر، ومصر منها براء كل البراءة"17. "كان من المفروض أن يكون القصد من هذا المؤتمر (مؤتمر المستشارين والملحقين الثقافين ومديري البعثات التعليمية) تبادل الرأي في المشاكل الثقافية بين مصر والبلاد الأخرى، والكشف عن النقائص، واقتراح العلاج. لكن نتيجة المؤتمر كانت على العكس تماما: فالذين أوضحوا المشاكل واقترحوا وسائل العلاج قد قرر وزير المعارف (كمال الدين حسين) إعادتهم إلى مصر، بينما الذين لم ينطقوا بكلمة واحدة طوال عشرين يوما هم الذين أُبقي عليهم في أماكنهم في الخارج. فهل هناك عبث أكبر من هذا العبث؟! فيم إذن كان استدعاؤهم وتحمل تكاليف أسفارهم وإقامتهم وبدلات سفرهم – إذا كانت هذه هي النتيجة؟! إن المرء ليحار كل الحيرة في فهم تصرفات القائمين على تسيير الحكم في مصر! إن الهوى واللامعقول والاستبداد الأحمق- هي التي تحكم تصرفاتهم"18. يروي بدوي من موقعه كمستشار ثقافي بالسفارة المصرية في برن بسويسرا: "أما آراؤهم السياسية (أي الطلاب) في الأحوال في مصر، فقد رأيت ألا أتدخل فيها بأي حال من الأحوال. وهذا هو ما أسخط الملحق العسكري الذي كان يريد استغلالهم، ومن أجل ذلك كان يلح علي باستمرار ولدى الوزير في إنشاء نواد لهم لتسهيل مراقبة آرائهم. فوقفت بحزم تام ضد هذا الاقتراح، ولم يتحقق منه شيء طوال مدة عملي. لقد عجبت لهذا التدخل من جانب الملحق العسكري. ألم يكن الأجدر به أن يهتم بمهمته التي من أجلها عيِّن في وظيفته، بدلا من أن ينصرف عنها إلى التجسس على اتجاهات الطلاب وآرائهم في أحوال بلدهم!
وكان هذا تصرفا حكيما مني. لأن من خلفني –وكان ضابطا في الأصل برتبة بكباشي- حاول التدخل في أفكار الطلاب السياسية، فكانت النتيجة أن بعضهم اعتدى عليه بالصفع والركل في أول اجتماع عقده لهم! وتمشيا مع المبدأ الذي اتخذته؛ فإني كنت أرفض الاستماع إلى أية وشاية من طالب على طالب آخر فيما يتعلق بالأمور السياسية أو السلوك الشخصي، رغم تطوع البعض لهذه الوشايات والدسائس... ولما وجد هذا النفر الخسيس من الطلاب أن بابي موصد تماما أمام وشاياتهم، اتجهوا بها إلى باب الملحق العسكري"19. "الغالب على لقاءات الدبلوماسيين هو التفاهة والحذر الشديد والكلام الخالي من كل معنى. فأحاديثهم هي عن الجو، ومتى سيأخذ الواحد منهم إجازة، والملابس، وأحسن الأسعار لشراء السلع والألعاب الرياضية. وإذا سألت أحدهم عن مشكلة حادة في بلده تتناقل أخبارها الصحف والإذاعات أكتفى بالقول: كل شيء يسير على أحسن وجه، ولا يوجد أي خلاف. وإذا بك تسمع أو تقرأ بعد يومين أن أحد المخاصمين في بلده قد أطاح بالآخر وربما قتله! والبعض الآخر كان لا يرد على سؤالك، بل يقول: إنني لم أسمع آخر الأخبار، فهل سمعت أنت شيئا؟!"20. "السنة الكبرى
هي سنة 1952..
وهي سنة الفصل بين عهد وعهد.
كانت الحرية نعمة ينعم الكل بظلالها الوارفة ويطالب دائما بالمزيد، وإذا بها في العهد الجديد حكرا لفرد تحيط به عصابة.
وكانت الكرامة من أعز ما يعتز به المصري، فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدرا لكل حرمان وشقاء.
وكان الأمن على النفس والمال موفورا لكل شخص، فصار الخوف على كليهما يقضّ كل فرد وكل أسرة.
وكان النفاق مقصورا على فئة من الوصوليين وعديمي الضمائر، فأضحى خصلة لشعب بأسره يتنافس الجميع في ممارستها ويتباهي بالتفوق فيها.
وكان التفريط في أي حق من الحقوق الوطنية خيانة تنهار بسببها الحكومات، وإذا بالتخلي عن أكبر هذه الحقوق –وهو حق مصر في السودان- يعد إنجازا عظيما يتباهى به الحكام.
وكانت الهزيمة البسيطة في فلسطين سنة 1948 كارثة تزعزت بسببها الثقة في الحاكمين، وإذا بالهزيمة الساحقة الماحقة في يونيو سنة 1967 تحتشد لها جماهير 9 و 10 يونيو للهتاف بحياة من تسببوا في الهزيمة، ويرقص لها ممثلو الشعب في مجلس الأمة ابتهاجا باستمرار المسؤولين عن الهزيمة في التحضير لهزائم تالية.
وكان ضياع آلاف قليلة من الجنيهات في شراء أسلحة فاسدة جريمة هائلة طالت من أجلها المحاكمات، وإذا بالتخلي لإسرائيل عن أسلحة تقدر بآلاف الملايين أمر هيّن يُكافأ عليه فاعلوه بالمزيد من التمكين لهم من البطش والاستبداد.
وكان النقص في سلعة من السلع أمرا نادر الوقوع، فصار النقص في معظم السلع هو القاعدة وتوفير سلعة هو الاستثناء.
وكانت العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية تتسم بالمودة وتبادل المنافع وبالتقدير، فصارت القطيعة والعداوة وعدم التعاون هي الصفات السائدة في هذه العلاقات.
وكان المصري في سائر بلاد العالم مقبولا لا يثير نفورا ولا ارتيابا ولا ازدراء، فإذا به يصبح هدفا لكل مظنة فاسدة، ومدعاة للحذر أو الاحتقار.
وكانت حقوق الإنسان المصري مكفولة بالدستور والقوانين، فإذا انتهكها حاكم ردَّه القضاء إلى الصواب وأنصف المظلومين، فإذا بهذه الحقوق تصبح تعطفا متعاليا من الحاكم على المحكومين، أو تُهْدَر دون مراجعة ولا جزاء، ويضحى الدستور والقوانين ألعوبة في أيدي الحاكم وزبانيته يعبث بها كما يشاء هواه.
وكان الاقتصاد المصري يقوم على أسس راسخة وأرقام صادقة واضحة وينهض بأعبائه رجال وشركات خاصة تخلص في أعمالها وإدارتها، وإذا به يصبح أرقاما بهلوانية يتلاعب بها وزراء مال لا علم عندهم ولا ضمير، يقدمون موازنات زائفة ويخططون خططا وهمية خمسية وغير خمسية مما أدى باقتصاد مصر إلى الإفلاس وتكاثر الديون وانهيار سعر الجنيه المصري انهيارا متواصلا لا يصده شيء حتى أصبح –في مقابل العملات القوية- يساوي أقل من عشرة في المائة من سعره القديم.
وكان الإسكان ميسورا يُعلن في كل مكان عن شقق خالية للإيجار وتتزايد المباني بما يزيد عن حاجة الساكنين، وإذا بالملايين لا يجدون مساكن لهم، فضلا عن عشرات الآلاف من المنازل القديمة التي تنهار كل عام على رؤوس ساكنيها.
وكان لكل مصري الحق في أن يغادر وطنه طلبا للرزق أو للعلم أو للتجارة أو غير ذلك من مطالب الحياة، وإذا بمصر تتحول إلى سجن كبير يُعتقل فيه كل المصريين، ولا يُسمح بالخروج منه إلا لحفنة قليلة جدا من المحسوبين والمقربين إلى الحاكم وزبانيته.
وكانت أدوات الثقافة تتدفق على البلاد في حرية تامة ودون انقطاع أو تشويه ورقابة، وإذا بهذه الأدوات تُمنع من الدخول تدريجيا حتى فقدت مصر الاتصال بمصادر الفكر العالمي.
وما أريد بهذه المقارنة أن أُمَجِّد العهد السابق على 1952، فهيهات، هيهات! ولكن الأمر كما قال الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما .. صرت في غيره بكيت عليه
ولا يعقل مني أن أمجد العهد السابق على سنة 1952، وأنا الذي ناضلت طوال الأعوام السبعة عشر السابقة على ذلك التاريخ ضد مفاسد ذلك العهد، وما استشرى فيه من خيانات في حقوق الوطن ومن مفاسد ومحسوبيات ومظالم واستهتار بالحقوق وعدوان على الحريات. لكن هذه المفاسد والشرور لا تعادل واحدا في الألف مما حدث بعد 23 يوليو 1952"
سيرة حياتي 1/252. سيرة حياتي 1/252، 253. سيرة حياتي 1/279. سيرة خياتي 1/281. سيرة حياتي 1/322 وما بعدها.
Published on March 09, 2015 18:17
March 7, 2015
النموذج الفرعوني ليس في السياسة فقط
لعل مشاكل البشرية جميعا تؤول إلى وتنبع من سيادة "النموذج الفرعوني" في كافة مناحي الحياة..
يبدو هذا الأمر واضحا للغاية في نظام الحكم، فلقد سرد الله علينا في القرآن كيف يبلغ الطغيان بالفرد حتى يصير فرعونا يدعي لنفسه الألوهية ويصيح في الناس (أنا ربكم الأعلى)..
وإذا واجهته ثمة مشكلة كان من أيسر الأمور عنده أن يقتل (وقال الملأ من قوم فرعون: أَتَذَر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال: سنُقَتِّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).
فالحاكم الفرعون يبلغ من الطغيان حدَّ أن يصدق كونه يملك الحياة والموت (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت).
لذلك كان النظام السياسي الإسلامي قائما على أمور تمنع من هذه الفرعونية، منها:
1. تقوية المجتمع: بتغذية وتمتين روابط الرحم والجيرة فضلا عن الرابطة الإسلامية العامة، لكي يكون المجتمع أقوى من نزوات الحاكم الفاسد وعاصما له من الظلم والاستبداد.
2. تقوية المجتمع: بالعبادات والتكاليف الشرعية التي تزيد من تماسكه وتلاحمه، بكثرة اجتماع الناس (الصلوات اليومية، الجمعة الأسبوعية، الحج والأعياد السنوية).. وبالعبادات والتكاليف الشرعية التي تجمعه على الخير مثل الزكاة والصدقات والأوقاف والتي تتحول بطبيعة الحال إلى مؤسسات ونظم يحافظ بها المجتمع على نفسه وتقاربه وتلاحمه، ويطور بها من نفسه ومؤسساته ومشاريعه الحضارية.
3. نزع التشريع من الحاكم وجعله لله، وجعل العلماء شركاء للحكام في مسمَّى "ولي الأمر"، وجعلهم مرجعية عليا للمجتمع والحاكم معا.. وحيث لم يكن للعلماء في الإسلام تنظيم هرمي أو نظام كهنوتي فإن العلماء كانوا تيارا حقيقيا فاعلا لا يمكن السيطرة عليه ولا تحجيمه ولا تنظيمه على نحو ما حدث في الكنيسة أو في الأنظمة الفرعونية.. وظل العلماء فاعلون في مقاومة تغول السلطة حتى انكسار المجتمع الإسلامي كله أمام الهجمة الغربية الحديثة.
وهذا النظام السياسي الإسلامي في تقوية جميع أطراف المجتمع يخالف ويناقض تماما النظام الغربي الذي يجعل السلطة هي المحتكر الوحيد لعوامل القوة، فيجعل السلطة هي الإله الحقيقي في المجتمع.. فيما تظل الأكثرية من الناس في حكم العبودية حقا.. إما بالقهر (كما في حال الكنيسة والإقطاع قديما أو النظام الشيوعي حديثا) أو بالخداع (كما في النمط الرأسمالي حديثا).
هذا النموذج الفرعوني الذي يبدو في السياسة، هو كذلك مرفوض في ميزان الإسلام في سائر المجالات الأخرى:ففي مجال الاقتصاد، قضى الله بتعاليم في الزكاة والصدقات والإنفاق لأجل ألا يكون المال في يد طائفة قليلة من الناس (كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم).. فنهى عن كل ما يفضي إلى ذلك كالربا والاحتكار والغش والتدخل بالتسعير في غير حال الضرورة.
وفي مجال العلم نهى الله عن كتم العلم و"احتكاره" بين الناس، فقال تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) ويشتد هذا في وقت الحاجة والضرورة أو عند السؤال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".
والمقصود من كل ما سبق أن النظام الذي فيه "كتم" أو "احتكار" أو "أثرة" أو "استحواذ" على شيء يحتاجه الناس من دونهم هو نقيض المنهج الإسلامي في الحياة..
وأزمة أمتنا المعاصرة يكمن كثير منها في هذا الكتم والحجب.. فنحن ممنوعون من الاطلاع على تقنيات بعينها، وثمة أجهزة نحن ممنوعون من استيرادها واستخدامها، بل ثمة مكونات بعينها تستخدم في الأجهزة نحن ممنوعون من استيرادها..
وكذلك فإن ثمة جامعات ومراكز بحثية لا يدخلها الطلاب العرب والمسلمون في الغرب، وتصنف على أن ما يدرس فيها "أمن قومي".. بل وفي مكتبة الكونجرس نفسها وثائق تتاح للجميع ما عدا الباحثون من بلاد بعينها في مواضيع بعينها.
ولهذا فإن انتشار "البرامج مفتوحة المصدر" هو فتح ورحمة على العالمين ضد الاحتكاريين وشركات البرمجة التي تستعبد الناس وتستغل حاجتهم وتمتص أموالهم، وربما صنعت هي الفيروس لتبيع الأنتي فيروس، ولربما لم تتقن المنتج لكي تبيع المنتج التالي الخالي من هذا العيب.. وأهل الاقتصاد يستطيعون سرد الكثير الكثير من هذه الألاعيب لسلب أموال الناس.
وكذلك انتشار العلم.. فإن كثيرا من العلوم المادية بل والاجتماعية محجوبة عن أمتنا، ولقد حدثني أحد الأساتذة قبل أيام أن العالم العربي كله ليس فيه مكان يدرس العلوم الاستراتيجية إلا في جامعة نايف للعلوم الأمنية (فقط: العسكريون ورجال المخابرات في بلادنا هم من يدرسون هذا العلم) ثم إنه لا يوجد في كل العالم العربي مركز واحد متخصص في العلوم الاستراتيجية في حين يحفل العالم بـ 480 مركزا منها 200 في أمريكا و90 في روسيا و 22 في إسرائيل و8 في إيران واثنان في تركيا!!!
يعني حتى الجامعة الوحيدة التي يدرس فيها هذا العلم لا يدخلها إلا الأمنيون ورجال المخابرات!!!
هذا الانترنت نفسه من فتوح الله ونعمه الكبرى على الأمة، وبه تحقق لجميع الفاعلين فيها ما لم يكونوا يحلمون به، إن في تلقي العلم أو في العمل به أو في التعاون بين العاملين، أو في تلاقي الطاقات المتباعدة المتناثرة.
وكي لا أطيل أكثر من ذلك فإن أهم ما في هذا الموضوع ثلاثة خلاصات:
1. إن الذين أتاح الله لهم أن يتعلموا علوما لم توجد في بلادنا عليهم مسؤولية عظيمة في نقل هذه العلوم إلى أمتهم.. مسؤولية عظيمة ضخمة بعِظَم وضخامة الفارق بين التقدم والتخلف.. وبهذا وحده يتبين من عمل للآخرة ممن عمل للدنيا، ومن كان همه دينه وأمته ممن كان همه أمواله ومركزه.
2. إن أهل العلم من أمتنا (وأعنى أهل العلم المادي) عليهم أن يفكروا باتجاه تطوير العلوم بما يسمح بانتشارها واتساعها.. فعلى من يفكر في تطوير التسليح أن يفكر بمنهج "كيف يكون السلاح منتشرا وسهلا وميسورا بين كل أفراد الأمة" (فبهذا تتحقق القوة المجتمعية والتوازن بين السلطة والناس).. وعلى من يفكر في تطوير البرامج أن يفكر باتجاه نشر وتيسير وسائل البرمجة وإنشاء هياكل عامة تصلح للاستخدام في مجالات متعددة، وعلى من يعمل على تطوير العلوم أن يفكر باتجاه استعمال المواد والخامات الموجودة في البيئة الطبيعية وبين الناس بحيث يكون هذا التطوير في متناول الجميع.
(وهنا أتوجه بالشكر مرارا وتكرارا وليلا ونهارا وفي كل ساعة لكل من يصور كتابا ويرفعه على الانترنت فيتيحه لخلق الله جميعا ويكسر احتكار دور النشر البغيض، فينفع بذلك ما لا يعلمه إلا الله)
3. أن أي تطوير علمي أو اقتصادي أو اجتماعي لن ينجح في ظل منظومة سياسية فرعونية.. فالنظام السياسي هو دائما أهم ما في الأنظمة والمجتمعات، وهو العامل الأهم والأخطر والأكبر، ودوره في التأثير والتغيير يفوق كل تأثير آخر. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. وقالت العرب "الناس على دين ملوكهم".. ولم يتطور مجتمع قط إلا بعد أن تولى أمره المخلصون له، وكانت بدايات نهضات الأمم ثورات على الحكام الفاسدين والعملاء.. ولم تتقدم أمة يحكمها مفسد أو عميل.
يبدو هذا الأمر واضحا للغاية في نظام الحكم، فلقد سرد الله علينا في القرآن كيف يبلغ الطغيان بالفرد حتى يصير فرعونا يدعي لنفسه الألوهية ويصيح في الناس (أنا ربكم الأعلى)..
وإذا واجهته ثمة مشكلة كان من أيسر الأمور عنده أن يقتل (وقال الملأ من قوم فرعون: أَتَذَر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال: سنُقَتِّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).
فالحاكم الفرعون يبلغ من الطغيان حدَّ أن يصدق كونه يملك الحياة والموت (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت).
لذلك كان النظام السياسي الإسلامي قائما على أمور تمنع من هذه الفرعونية، منها:
1. تقوية المجتمع: بتغذية وتمتين روابط الرحم والجيرة فضلا عن الرابطة الإسلامية العامة، لكي يكون المجتمع أقوى من نزوات الحاكم الفاسد وعاصما له من الظلم والاستبداد.
2. تقوية المجتمع: بالعبادات والتكاليف الشرعية التي تزيد من تماسكه وتلاحمه، بكثرة اجتماع الناس (الصلوات اليومية، الجمعة الأسبوعية، الحج والأعياد السنوية).. وبالعبادات والتكاليف الشرعية التي تجمعه على الخير مثل الزكاة والصدقات والأوقاف والتي تتحول بطبيعة الحال إلى مؤسسات ونظم يحافظ بها المجتمع على نفسه وتقاربه وتلاحمه، ويطور بها من نفسه ومؤسساته ومشاريعه الحضارية.
3. نزع التشريع من الحاكم وجعله لله، وجعل العلماء شركاء للحكام في مسمَّى "ولي الأمر"، وجعلهم مرجعية عليا للمجتمع والحاكم معا.. وحيث لم يكن للعلماء في الإسلام تنظيم هرمي أو نظام كهنوتي فإن العلماء كانوا تيارا حقيقيا فاعلا لا يمكن السيطرة عليه ولا تحجيمه ولا تنظيمه على نحو ما حدث في الكنيسة أو في الأنظمة الفرعونية.. وظل العلماء فاعلون في مقاومة تغول السلطة حتى انكسار المجتمع الإسلامي كله أمام الهجمة الغربية الحديثة.
وهذا النظام السياسي الإسلامي في تقوية جميع أطراف المجتمع يخالف ويناقض تماما النظام الغربي الذي يجعل السلطة هي المحتكر الوحيد لعوامل القوة، فيجعل السلطة هي الإله الحقيقي في المجتمع.. فيما تظل الأكثرية من الناس في حكم العبودية حقا.. إما بالقهر (كما في حال الكنيسة والإقطاع قديما أو النظام الشيوعي حديثا) أو بالخداع (كما في النمط الرأسمالي حديثا).
هذا النموذج الفرعوني الذي يبدو في السياسة، هو كذلك مرفوض في ميزان الإسلام في سائر المجالات الأخرى:ففي مجال الاقتصاد، قضى الله بتعاليم في الزكاة والصدقات والإنفاق لأجل ألا يكون المال في يد طائفة قليلة من الناس (كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم).. فنهى عن كل ما يفضي إلى ذلك كالربا والاحتكار والغش والتدخل بالتسعير في غير حال الضرورة.
وفي مجال العلم نهى الله عن كتم العلم و"احتكاره" بين الناس، فقال تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) ويشتد هذا في وقت الحاجة والضرورة أو عند السؤال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".
والمقصود من كل ما سبق أن النظام الذي فيه "كتم" أو "احتكار" أو "أثرة" أو "استحواذ" على شيء يحتاجه الناس من دونهم هو نقيض المنهج الإسلامي في الحياة..
وأزمة أمتنا المعاصرة يكمن كثير منها في هذا الكتم والحجب.. فنحن ممنوعون من الاطلاع على تقنيات بعينها، وثمة أجهزة نحن ممنوعون من استيرادها واستخدامها، بل ثمة مكونات بعينها تستخدم في الأجهزة نحن ممنوعون من استيرادها..
وكذلك فإن ثمة جامعات ومراكز بحثية لا يدخلها الطلاب العرب والمسلمون في الغرب، وتصنف على أن ما يدرس فيها "أمن قومي".. بل وفي مكتبة الكونجرس نفسها وثائق تتاح للجميع ما عدا الباحثون من بلاد بعينها في مواضيع بعينها.
ولهذا فإن انتشار "البرامج مفتوحة المصدر" هو فتح ورحمة على العالمين ضد الاحتكاريين وشركات البرمجة التي تستعبد الناس وتستغل حاجتهم وتمتص أموالهم، وربما صنعت هي الفيروس لتبيع الأنتي فيروس، ولربما لم تتقن المنتج لكي تبيع المنتج التالي الخالي من هذا العيب.. وأهل الاقتصاد يستطيعون سرد الكثير الكثير من هذه الألاعيب لسلب أموال الناس.
وكذلك انتشار العلم.. فإن كثيرا من العلوم المادية بل والاجتماعية محجوبة عن أمتنا، ولقد حدثني أحد الأساتذة قبل أيام أن العالم العربي كله ليس فيه مكان يدرس العلوم الاستراتيجية إلا في جامعة نايف للعلوم الأمنية (فقط: العسكريون ورجال المخابرات في بلادنا هم من يدرسون هذا العلم) ثم إنه لا يوجد في كل العالم العربي مركز واحد متخصص في العلوم الاستراتيجية في حين يحفل العالم بـ 480 مركزا منها 200 في أمريكا و90 في روسيا و 22 في إسرائيل و8 في إيران واثنان في تركيا!!!
يعني حتى الجامعة الوحيدة التي يدرس فيها هذا العلم لا يدخلها إلا الأمنيون ورجال المخابرات!!!
هذا الانترنت نفسه من فتوح الله ونعمه الكبرى على الأمة، وبه تحقق لجميع الفاعلين فيها ما لم يكونوا يحلمون به، إن في تلقي العلم أو في العمل به أو في التعاون بين العاملين، أو في تلاقي الطاقات المتباعدة المتناثرة.
وكي لا أطيل أكثر من ذلك فإن أهم ما في هذا الموضوع ثلاثة خلاصات:
1. إن الذين أتاح الله لهم أن يتعلموا علوما لم توجد في بلادنا عليهم مسؤولية عظيمة في نقل هذه العلوم إلى أمتهم.. مسؤولية عظيمة ضخمة بعِظَم وضخامة الفارق بين التقدم والتخلف.. وبهذا وحده يتبين من عمل للآخرة ممن عمل للدنيا، ومن كان همه دينه وأمته ممن كان همه أمواله ومركزه.
2. إن أهل العلم من أمتنا (وأعنى أهل العلم المادي) عليهم أن يفكروا باتجاه تطوير العلوم بما يسمح بانتشارها واتساعها.. فعلى من يفكر في تطوير التسليح أن يفكر بمنهج "كيف يكون السلاح منتشرا وسهلا وميسورا بين كل أفراد الأمة" (فبهذا تتحقق القوة المجتمعية والتوازن بين السلطة والناس).. وعلى من يفكر في تطوير البرامج أن يفكر باتجاه نشر وتيسير وسائل البرمجة وإنشاء هياكل عامة تصلح للاستخدام في مجالات متعددة، وعلى من يعمل على تطوير العلوم أن يفكر باتجاه استعمال المواد والخامات الموجودة في البيئة الطبيعية وبين الناس بحيث يكون هذا التطوير في متناول الجميع.
(وهنا أتوجه بالشكر مرارا وتكرارا وليلا ونهارا وفي كل ساعة لكل من يصور كتابا ويرفعه على الانترنت فيتيحه لخلق الله جميعا ويكسر احتكار دور النشر البغيض، فينفع بذلك ما لا يعلمه إلا الله)
3. أن أي تطوير علمي أو اقتصادي أو اجتماعي لن ينجح في ظل منظومة سياسية فرعونية.. فالنظام السياسي هو دائما أهم ما في الأنظمة والمجتمعات، وهو العامل الأهم والأخطر والأكبر، ودوره في التأثير والتغيير يفوق كل تأثير آخر. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. وقالت العرب "الناس على دين ملوكهم".. ولم يتطور مجتمع قط إلا بعد أن تولى أمره المخلصون له، وكانت بدايات نهضات الأمم ثورات على الحكام الفاسدين والعملاء.. ولم تتقدم أمة يحكمها مفسد أو عميل.
Published on March 07, 2015 13:04
لماذا علم الاستغراب؟ - العلم
إن تحديد أغراضنا من دراسة الغرب هو فرع من تعريفنا لأنفسنا، وحيث إننا أمة الإسلام فنحن نستمد معرفتنا بأنفسنا ودورنا في الحياة من كتاب ربنا وسنة نبينا r، وقد أوجز سيدنا ربعي بن عامر هذا كله في عبارته الخالدة: "الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"وهذه المهمة تستلزم أشياء أربعة: العلم، والدعوة، والتعاون، والمواجهة.
وليس ثمة رسالة حققت نجاحا إذا لم تحقق هذه الرباعية، فكل واحد منها يُفضي إلى الآخر أو يلزمه.. فتلك هي أغراضنا في دراسة الغرب.
ونبدأ في هذه السطور بأولها:
(1) العِلْم
بوَّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه "باب العلم قبل القول والعمل"، فالعلم مبتدأ كل أمر، فلا يصلح القول إلا إن كان على علم، ولا يصلح العمل إلا إن بُني على علم، وهذا من الوضوح والظهور بمكان يغني عن التدليل عليه.
وتحصيل العلم بالغرب هو من ضرورات الأمة، وإذا اعتمدنا تجديد الشيخ القرضاوي لمقاصد الشريعةفأما من تصدى للعمل للإسلام في مجال يحتك بالغرب فقد صار العلم بالغرب واجبا عليه بقدر ما يحتاجه، وصار التكليف في حاله متعينا بهذا القدر، إذ العلم في هذه الحال من ضرورات حفظ العقل الذي قصد إليه الإسلام "بوسائل وأمور كثيرة، منها: فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، والرحلة في طلب العلم، والاستمرار في طلب العلم من المهد إلى اللحد، وفرض كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها أو دنياها فرض كفاية، وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى، كما ترفض التقليد للآباء وللسادة الكبراء، أو لعوام الناس"وتحصيل العلم بالغرب يحقق للأمة عددا من المصالح والمقاصد الشرعية، أهمها هذه الستة:
1. تحقيق التعارف: وذلك مأخوذ من قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة في خلق الناس شعوبا وقبائل2. معرفة الجاهلية: فإنها طُرُق وألوان وسُبُل كثيرة {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} [الأنعام: 153]، ومعرفة الشر من وسائل معرفة الخير كما كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل النبي r عن الشرّ مخافة أن يدركه3. طلب الحكمة: التي هي ضالة المؤمن والتي أنى وجدها فهو أحق الناس بها، والتي من أجلها طلب الناس العلم في الشرق والغرب، وقد أخذ النبي r عن الروم ختم الكتب بخاتم فاتخذ خاتما من فضةوما لدى الغرب الآن من القوة لم يكن من فراغ ولم ينبت فجأة، والحاجة إلى القوة تستوجب الحاجة إلى الاطلاع على ما لديهم والتعلم منهم والتتلمذ عليهم والاستفادة من تجاربهم، وفي النهاية سنجد أن كل خير طبقوه إنما هو موجود -أو له أصل- في كتاب ربنا وسنة نبينا وتراثنا الفقهي والتاريخي ولكن القوم فعلوه ونحن غفلنا عنه أو أهملناه.
"إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب، فمن فقد شيئًا من هذه الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم، وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم"كذلك نطلب الحكمة في وسائلهم لحل المشكلات التي واجهتهم، فما كان نافعا ومناسبا وناجعا تدبرناه، وما كان فاشلا أو فاسدا لم نحتج أن نجربه مرة أخرى، ولا يمكن الوصول إلى حكم بالنجاح والفشل إلا بعد دراسة وتدبر وتعمق في عوامل وظروف عديدة.
4. فهم السنن الكونية: وذلك أن سنن الله المسطورة في كتابه وفي سنة نبيه، إنما تستبين وتتضح من خلال الواقع والتاريخ، ومن هنا كان السير في الأرض وسيلة للعلم بالسنن: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
فإذا درسنا الغرب علمنا على وجه العلم واليقين لا الظن والتخمين أنهم {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113]، وعرفنا فيم يتفقون وفيم يختلفون، وما الذي يفرقهم وما الذي يجمعهم، ومتى نتعامل معهم جملة ومتى لا يسعنا إلا التفريق في المعاملة.
وإذا درسنا الغرب علمنا كيف تعمل سنن الله في قيام الأمم وسقوطها، وفسَّرنا ما يحل بهم من تقدم أو تراجع على ضوء معرفتنا بهذه السنن، فبالتفاصيل نعرف قدر كل عمل وأثره في ميزان النهضة أو السقوط، وعرفنا ما هي العوامل التي تحافظ على بقائهم وما هي التي تدفعهم للهاوية، وإذا ضبطنا هذا الميزان -وهو عملٌ جليل رهيب، لا يتأتى إلا بعد مجهود ضخم هائل- استطعنا أن نفهم أسئلة تبدو من بعيد محيرة ومثيرة مثل:
لماذا تظل الرأسمالية متماسكة رغم كل مشكلاتها وكوراثها؟ وكيف بعد هذه القرون من المادية التي صبغت الحياة الغربية وأنظمتها لا زالت ثمة مظاهر إنسانية أصيلة؟ وكيف نجمع بين انحسار تأثير المسيحية والنقص المضطرد في أعداد المسيحيين والمترددين على الكنائس وبين ارتفاع شأن المسيحية وعلو صوتها وزيادة أموال الكنائس وثرواتها وابتلاع المجتمع الغربي لكل ما يصدر عن الكهنة والقساوسة من فضائح أخلاقية؟ وكيف يجمع الغرب بين مظهرين يبدوان متناقضين: الرحمة والرعاية الوافرة للأطفال، والقسوة والإهمال للكبار؟!
أليس مثيرا للتأمل أن الفلسفات الغربية قد أدت إلى عكس مقصودها؟! كيف تطورت الرأسمالية التي قامت لمحاربة الاحتكار وتوفير اختيارات متعددة إلى أن صنعت أعظم طبقة احتكارية في التاريخ حتى إنها لتتحكم في مقدرات الدول وثروات الأرض؟! وكيف تطورت الاشتراكية التي قامت لتحرير الشعوب من الطبقية وتحكم الأقلية وسطوتها لتنتج أبشع نظام طبقي أفرز أوسع المذابح الشعبية وامتلكت أقليته من القهر ما لم يمتلكه إقطاعي عبر التاريخ؟! وكيف تطورت "النسبية" من فلسفة قامت وهي ترجو أن تكون سببا في التعددية التي تفرز التسامح إلى فلسفة تُميِّع كل الحقائق حتى لم يعد من سبيل لإثبات شيء ما على أنه "حقيقة" إلا بقوة السلاح، فكأنها أفسدت كل منطق إلا منطق القوة، فأي تسامح يبقى حينئذ؟! وهل كانت العلمانية خروجا من الدين حقا أم أنه اعتناق لدين جديد: حلت فيه الدولة محل الكنيسة، والدستور محل "الكتاب المقدس"، وعلم الدولة محل الصليب؟!
وهذا فضلا عن الأسئلة الكبرى المطروحة دائما، والتي تعد الحضارة الغربية إحدى التجارب الإنسانية المهمة المفيدة في تحديد الإجابة، مثل: ما هي الفطرة الإنسانية؟ ما هو المشترك بين كل البشر؟ ومتى تنتصر الفطرة على نواقضها؟ ومتى تستطيع النواقض تحريف الفطرة وتنكيسها؟ وما الوزن النسبي لكل من: القوة المادية، القوة الناعمة، العدالة الاجتماعية، الاستقرار الاقتصادي ...إلخ في معادلة النهضة؟ وما مدى قدرة الأرقام والإحصائيات على التعبير عن حقائق إنسانية مركبة؟
5. القيام بالواجبات: وذلك أن الأمة صاحبة رسالة إصلاح الأرض لا بد لها من العلم بكل ما يقتضيه هذا الإصلاح، سواء بالدعوة إلى الله وتبيين محاسن الدين وحقيقته وقدرته على إصلاح أحوال العباد وإنقاذ البلاد، أو بالتعاون على البر والتقوى مع المسلمين وغيرهم، أو بجهاد المفسدين والمبطلين ومقاومة شرهم ودرء فسادهم وإفسادهم. فكل هذا يستلزم علما واسعا وافرا في كل المجالات، وأيما مجال لم يكن فيه من يقوم به كان ثغرة، وربما كان ذلك إثما تحمله الأمة كلها إذا كان من فروض الكفايات التي لا تجد من يقوم بها.
6. معرفة فضل الإسلام: فمن الحقائق أن كثيرا من فضل الإسلام على الغرب لم نعرفه إلا من خلال الغرب والمستشرقين، وقد قدَّمنا لدى مناقشة الاستشراق وآثاره كيف كشف المستشرقون كثيرا من فضل الإسلام على الغرب وعلى الإنسانية، سواء بما حفظوه من تراث الأقدمين أو بما طوروه وجددوه أو بما أبدعوه وابتكروه، وتزيد الأهمية إذا كنا سندرس مناطق عاش فيها الإسلام زمنا كالأندلس وصقلية وشرق أوروبا أو شعوبا ما تزال مسلمة رغم وجودها -جغرافيا- في الغرب كشعوب البلقان، "إذ لا بد من دراسة عميقة واسعة لتاريخ الشعوب والأمم والبلاد والمجتمعات، حتى نستطيع أن نقارن بين ماضيها وحاضرها ونهتدي إلى عمل الدعوة الإسلامية والبعثة المحمدية في تغيير العقيدة وإصلاحها، والقضاء على آثار الجاهلية والفلسفات الوثنية والتقاليد الموروثة، وتحويل التيار الفكري من جهة إلى جهة، والتغيير الثوري في القيم والمثل، وتناول المدنيات بالتهذيب والتحسين"نشر في نون بوست
الطبري: تاريخ الطبري 2/ 401. رأى الشيخ القرضاوي أن مقاصد الشريعة التي ذكرها الأقدمون متعلقة بالفرد "الدين، النفس، العقل، النسل، المال"، وينبغي أن يُضاف إليها ما يتعلق بمصلحة المجتمع والأمة. انظر: د. يوسف القرضاوي: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص27 وما بعدها. د. يوسف القرضاوي: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص29، 30. محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان 3/45، 7/417. الشافعي: تفسير الإمام الشافعي 3/1281. محمد أبو زهرة: زهرة التفاسير 2/652. البخاري (3411)، ومسلم (1847). البخاري (6889). ابن تيمية: منهاج السنة 2/398. البخاري (5537). الغيلة: هي وطء الزوجة المرضع، وكانت العرب تظن أنه يضر بالولد. مسلم (1442). أحمد (18265)، والترمذي (1768)، والنسائي (125)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. الطبراني: المعجم الأوسط (2250)، وابن خزيمة (1777)، وقيل عن الرومي إنه ربما يكون تميما الداري "لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم". ابن حجر: فتح الباري 2/399. محمد رشيد رضا: مجلة المنار 17/10. الندوي: الإسلام أثره على الإنسانية وفضله على الحضارة ص13.
وليس ثمة رسالة حققت نجاحا إذا لم تحقق هذه الرباعية، فكل واحد منها يُفضي إلى الآخر أو يلزمه.. فتلك هي أغراضنا في دراسة الغرب.
ونبدأ في هذه السطور بأولها:
(1) العِلْم
بوَّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه "باب العلم قبل القول والعمل"، فالعلم مبتدأ كل أمر، فلا يصلح القول إلا إن كان على علم، ولا يصلح العمل إلا إن بُني على علم، وهذا من الوضوح والظهور بمكان يغني عن التدليل عليه.
وتحصيل العلم بالغرب هو من ضرورات الأمة، وإذا اعتمدنا تجديد الشيخ القرضاوي لمقاصد الشريعةفأما من تصدى للعمل للإسلام في مجال يحتك بالغرب فقد صار العلم بالغرب واجبا عليه بقدر ما يحتاجه، وصار التكليف في حاله متعينا بهذا القدر، إذ العلم في هذه الحال من ضرورات حفظ العقل الذي قصد إليه الإسلام "بوسائل وأمور كثيرة، منها: فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، والرحلة في طلب العلم، والاستمرار في طلب العلم من المهد إلى اللحد، وفرض كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها أو دنياها فرض كفاية، وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى، كما ترفض التقليد للآباء وللسادة الكبراء، أو لعوام الناس"وتحصيل العلم بالغرب يحقق للأمة عددا من المصالح والمقاصد الشرعية، أهمها هذه الستة:
1. تحقيق التعارف: وذلك مأخوذ من قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة في خلق الناس شعوبا وقبائل2. معرفة الجاهلية: فإنها طُرُق وألوان وسُبُل كثيرة {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} [الأنعام: 153]، ومعرفة الشر من وسائل معرفة الخير كما كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل النبي r عن الشرّ مخافة أن يدركه3. طلب الحكمة: التي هي ضالة المؤمن والتي أنى وجدها فهو أحق الناس بها، والتي من أجلها طلب الناس العلم في الشرق والغرب، وقد أخذ النبي r عن الروم ختم الكتب بخاتم فاتخذ خاتما من فضةوما لدى الغرب الآن من القوة لم يكن من فراغ ولم ينبت فجأة، والحاجة إلى القوة تستوجب الحاجة إلى الاطلاع على ما لديهم والتعلم منهم والتتلمذ عليهم والاستفادة من تجاربهم، وفي النهاية سنجد أن كل خير طبقوه إنما هو موجود -أو له أصل- في كتاب ربنا وسنة نبينا وتراثنا الفقهي والتاريخي ولكن القوم فعلوه ونحن غفلنا عنه أو أهملناه.
"إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب، فمن فقد شيئًا من هذه الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم، وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم"كذلك نطلب الحكمة في وسائلهم لحل المشكلات التي واجهتهم، فما كان نافعا ومناسبا وناجعا تدبرناه، وما كان فاشلا أو فاسدا لم نحتج أن نجربه مرة أخرى، ولا يمكن الوصول إلى حكم بالنجاح والفشل إلا بعد دراسة وتدبر وتعمق في عوامل وظروف عديدة.
4. فهم السنن الكونية: وذلك أن سنن الله المسطورة في كتابه وفي سنة نبيه، إنما تستبين وتتضح من خلال الواقع والتاريخ، ومن هنا كان السير في الأرض وسيلة للعلم بالسنن: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
فإذا درسنا الغرب علمنا على وجه العلم واليقين لا الظن والتخمين أنهم {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113]، وعرفنا فيم يتفقون وفيم يختلفون، وما الذي يفرقهم وما الذي يجمعهم، ومتى نتعامل معهم جملة ومتى لا يسعنا إلا التفريق في المعاملة.
وإذا درسنا الغرب علمنا كيف تعمل سنن الله في قيام الأمم وسقوطها، وفسَّرنا ما يحل بهم من تقدم أو تراجع على ضوء معرفتنا بهذه السنن، فبالتفاصيل نعرف قدر كل عمل وأثره في ميزان النهضة أو السقوط، وعرفنا ما هي العوامل التي تحافظ على بقائهم وما هي التي تدفعهم للهاوية، وإذا ضبطنا هذا الميزان -وهو عملٌ جليل رهيب، لا يتأتى إلا بعد مجهود ضخم هائل- استطعنا أن نفهم أسئلة تبدو من بعيد محيرة ومثيرة مثل:
لماذا تظل الرأسمالية متماسكة رغم كل مشكلاتها وكوراثها؟ وكيف بعد هذه القرون من المادية التي صبغت الحياة الغربية وأنظمتها لا زالت ثمة مظاهر إنسانية أصيلة؟ وكيف نجمع بين انحسار تأثير المسيحية والنقص المضطرد في أعداد المسيحيين والمترددين على الكنائس وبين ارتفاع شأن المسيحية وعلو صوتها وزيادة أموال الكنائس وثرواتها وابتلاع المجتمع الغربي لكل ما يصدر عن الكهنة والقساوسة من فضائح أخلاقية؟ وكيف يجمع الغرب بين مظهرين يبدوان متناقضين: الرحمة والرعاية الوافرة للأطفال، والقسوة والإهمال للكبار؟!
أليس مثيرا للتأمل أن الفلسفات الغربية قد أدت إلى عكس مقصودها؟! كيف تطورت الرأسمالية التي قامت لمحاربة الاحتكار وتوفير اختيارات متعددة إلى أن صنعت أعظم طبقة احتكارية في التاريخ حتى إنها لتتحكم في مقدرات الدول وثروات الأرض؟! وكيف تطورت الاشتراكية التي قامت لتحرير الشعوب من الطبقية وتحكم الأقلية وسطوتها لتنتج أبشع نظام طبقي أفرز أوسع المذابح الشعبية وامتلكت أقليته من القهر ما لم يمتلكه إقطاعي عبر التاريخ؟! وكيف تطورت "النسبية" من فلسفة قامت وهي ترجو أن تكون سببا في التعددية التي تفرز التسامح إلى فلسفة تُميِّع كل الحقائق حتى لم يعد من سبيل لإثبات شيء ما على أنه "حقيقة" إلا بقوة السلاح، فكأنها أفسدت كل منطق إلا منطق القوة، فأي تسامح يبقى حينئذ؟! وهل كانت العلمانية خروجا من الدين حقا أم أنه اعتناق لدين جديد: حلت فيه الدولة محل الكنيسة، والدستور محل "الكتاب المقدس"، وعلم الدولة محل الصليب؟!
وهذا فضلا عن الأسئلة الكبرى المطروحة دائما، والتي تعد الحضارة الغربية إحدى التجارب الإنسانية المهمة المفيدة في تحديد الإجابة، مثل: ما هي الفطرة الإنسانية؟ ما هو المشترك بين كل البشر؟ ومتى تنتصر الفطرة على نواقضها؟ ومتى تستطيع النواقض تحريف الفطرة وتنكيسها؟ وما الوزن النسبي لكل من: القوة المادية، القوة الناعمة، العدالة الاجتماعية، الاستقرار الاقتصادي ...إلخ في معادلة النهضة؟ وما مدى قدرة الأرقام والإحصائيات على التعبير عن حقائق إنسانية مركبة؟
5. القيام بالواجبات: وذلك أن الأمة صاحبة رسالة إصلاح الأرض لا بد لها من العلم بكل ما يقتضيه هذا الإصلاح، سواء بالدعوة إلى الله وتبيين محاسن الدين وحقيقته وقدرته على إصلاح أحوال العباد وإنقاذ البلاد، أو بالتعاون على البر والتقوى مع المسلمين وغيرهم، أو بجهاد المفسدين والمبطلين ومقاومة شرهم ودرء فسادهم وإفسادهم. فكل هذا يستلزم علما واسعا وافرا في كل المجالات، وأيما مجال لم يكن فيه من يقوم به كان ثغرة، وربما كان ذلك إثما تحمله الأمة كلها إذا كان من فروض الكفايات التي لا تجد من يقوم بها.
6. معرفة فضل الإسلام: فمن الحقائق أن كثيرا من فضل الإسلام على الغرب لم نعرفه إلا من خلال الغرب والمستشرقين، وقد قدَّمنا لدى مناقشة الاستشراق وآثاره كيف كشف المستشرقون كثيرا من فضل الإسلام على الغرب وعلى الإنسانية، سواء بما حفظوه من تراث الأقدمين أو بما طوروه وجددوه أو بما أبدعوه وابتكروه، وتزيد الأهمية إذا كنا سندرس مناطق عاش فيها الإسلام زمنا كالأندلس وصقلية وشرق أوروبا أو شعوبا ما تزال مسلمة رغم وجودها -جغرافيا- في الغرب كشعوب البلقان، "إذ لا بد من دراسة عميقة واسعة لتاريخ الشعوب والأمم والبلاد والمجتمعات، حتى نستطيع أن نقارن بين ماضيها وحاضرها ونهتدي إلى عمل الدعوة الإسلامية والبعثة المحمدية في تغيير العقيدة وإصلاحها، والقضاء على آثار الجاهلية والفلسفات الوثنية والتقاليد الموروثة، وتحويل التيار الفكري من جهة إلى جهة، والتغيير الثوري في القيم والمثل، وتناول المدنيات بالتهذيب والتحسين"نشر في نون بوست
الطبري: تاريخ الطبري 2/ 401. رأى الشيخ القرضاوي أن مقاصد الشريعة التي ذكرها الأقدمون متعلقة بالفرد "الدين، النفس، العقل، النسل، المال"، وينبغي أن يُضاف إليها ما يتعلق بمصلحة المجتمع والأمة. انظر: د. يوسف القرضاوي: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص27 وما بعدها. د. يوسف القرضاوي: دراسة في فقه مقاصد الشريعة ص29، 30. محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان 3/45، 7/417. الشافعي: تفسير الإمام الشافعي 3/1281. محمد أبو زهرة: زهرة التفاسير 2/652. البخاري (3411)، ومسلم (1847). البخاري (6889). ابن تيمية: منهاج السنة 2/398. البخاري (5537). الغيلة: هي وطء الزوجة المرضع، وكانت العرب تظن أنه يضر بالولد. مسلم (1442). أحمد (18265)، والترمذي (1768)، والنسائي (125)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. الطبراني: المعجم الأوسط (2250)، وابن خزيمة (1777)، وقيل عن الرومي إنه ربما يكون تميما الداري "لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم". ابن حجر: فتح الباري 2/399. محمد رشيد رضا: مجلة المنار 17/10. الندوي: الإسلام أثره على الإنسانية وفضله على الحضارة ص13.
Published on March 07, 2015 10:18
موجز تاريخ الدولة الأموية (6)
اقرأ أولا:
موجز تاريخ الدولة الأموية (1)
موجز تاريخ الدولة الأموية (2)
موجز تاريخ الدولة الأموية (3)
موجز تاريخ الدولة الأموية (4)
موجز تاريخ الدولة الأموية (5)
توفي هشام بن عبد الملك (125 هـ) آخر الخلفاء الأقوياء من بني أمية، وكان مُلزمًا بأن يكون ولي العهد من بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ولم يكن الوليد على مستوى المسؤولية بل كان منصرفا للهو والعبث والمجون وشرب الخمر، وتفيض بعض المصادر في وصف مساوئ الوليد إلى حد لا يمكن تصديقه. ولهذا عزم هشام على عزله من ولاية العهد، وأيَّده في هذا الإمام الكبير ابن شهاب الزهري الذي قال للوليد يوما: "ما كان الله ليسلطك علي يا فاسق"، واستجاب الله له فمات قبل أن يتولى الوليد. وقد تمنى المحدث المؤرخ ابن كثير أن لو نجح هشام في عزمه هذابدأ الوليد خلافته بالإكثار من إنفاق الأموال –وكانت الميزانية قد فاضت لما عُرِف عن هشام من الحرص على المال الذي وصفه البعض بالبُخْل- فرفع الرواتب والأعطيات ولم يسأله أحد شيا إلا أعطاه ما أراد. وزاد فسوقا ومجونا في الخمر واللهو ومصاحبة الفُسَّاق حتى إن الطبري –وهو المؤرخ المعروف بالإطالة في تقصي الروايات- أعرض عن ذكر هذه الأخبار لطولها وكثرتها.
كذلك فقد بدأ في التنكيل والبطش بكل من وافق هشاما في خلعه من ولاية العهد، وصادر أموال الخليفة السابق، وعزل طائفة كبيرة من الولاة والعُمَّال والموظفين، وشمل بطشه حتى أبناء الخليفة –وهم أبناء عمه- فقد جلد ابن عمه سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهانه على مشهد من الناس، فبذر بذلك بذرة الانقسام في بيت الخلافة، إذ صار سليمان هذا من زعماء الثورة على الوليد ورجلا ممن سارت الخلافة إلى الانهيار على يديه.
ثم زاد الطين بلة حين أراد الوليد أن يأخذ البيعة لولاية العهد من بعده لولديه الصغيرين الحكم وعثمان، وهما ولدا جارية، ولم يكن هذا معروفا من قبل ولا مقبولا لا في البيت الأموي ولا في عصبة العرب، إلا أن الوليد أصر وعزم وبطش بكل من عارضه في هذا وأبرزهم والي الكوفة السابق وأحد أبرز رجال العرب وزعيم القبائل اليمانية: خالد بن عبد الله القسري، فقد أسلمه الوليد لعدوه يوسف بن عمر بن هبيرة –وهو الآن والي الكوفة- الذي سجنه وعذبه حتى قتله. وبهذا غضبت قبائل اليمانية على الوليد وصارت وقودا للثورة.
هذا الوقود التقطه الأمراء الأمويين الحانقين على سيرة الوليد، ورتبوا تمردا على الوليد، واستغلوا خروجه للصيد واللهو خارج دمشق، وسيطروا على دمشق وقبضوا على رجاله، وبايعوا يزيد بن الوليد –ابن عم الخليفة، وابن الخليفة الأسبق- خليفة، ومن دمشق انطلق جيش إلى الوليد بن يزيد فهزمه وقتله (جمادى الآخرة 126 هـ) بعد خلافة قلقة دامت سنة وثلاثة أشهر.
لكن الأحداث تفاعلت بما لم يتوقعه أحد، فقد كانت هذا الانقلاب سابقة في تاريخ الإسلام وتاريخ البيت الأموي، وهذه السابقة رفعت من شأن قبائل اليمانية مما ضاعف من حدة العصبية بينهم وبين قبائل القيسية، والخليفة مضطر أن ينحاز إلى طرف اليمانية لأنهم أصل الثورة، بينما قبائل القيسية تأنف من ارتفاع شأن اليمانية وتتمسك –ضمن هذا التنافس العصبي- بشرعية الخليفة المقتول صاحب البيعة، ونشبت ثورات في حمص وفلسطين والأردن والمدينة، بعضها أمكن تهدئته وبعضها أُخْمِد بالقوة.
وزاد من سوء الأوضاع الوفاة السريعة للخليفة الجديد –وهو في أواخر الثلاثينيات- (ذي الحجة عام 126هـ) بعد ستة أشهر فقط من توليه، وكان في هذه الفترة القصيرة قد أبدى من التقوى والخير ما جعلهم يشبهونه بعمر بن عبد العزيز ويجعلونه من خير خلفاء بني أمية.
وهنا تفجرت الأحداث مرة أخرى بأقوى من السابق، إذ لما مات يزيد بويع لأخيه وولي عهده إبراهيم بن الوليد، ولم يُرضِ هذا عددا من الأمراء الأقوياء، أبرزهم مروان بن محمد –الشخصية العسكرية القوية، ووالي منطقة أرمينية- والذي رأى أنه أحق الناس بالخلافة وأنه القادر على إنهاء هذه الفوضى في الحكم، لكنه اتخذ إلى هذه الغاية شعار "شرعية" الخليفة المقتول الوليد بن يزيد، ودعا لبيعة ولديه الحكم وعثمان –وهما وليي عهد الخليفة المقتول في حياته- رجاء أن يكون هو الوصي عليهما، وقطعا لهذه الحجة اقتحم يزيد بن خالد القسري –وهو زعيم اليمانية الذي أخذ بثأر أبيه- السجن الذي فيه الولدين فقتلهما وقتل معهما يوسف بن عمر –الذي كان واليا على الكوفة والذي قتل أباه خالدا القسري من قبل- لكن هذا لم يغن شيئا.
لقد اعتمد مروان بن محمد على قبائل القيسية المتضررين من ارتفاع شأن اليمانية، مما مكنه من هزيمة جيش إبراهيم بن الوليد، ودخل دمشق منتصرا واضطر إبراهيم بن الوليد أن يخلع نفسه ويتنازل له عن الخلافة.
يعتبر مروان بن محمد –بالتصنيف المعاصر: مدنيين وعسكريين- أول شخصية عسكرية تصل إلى منصب الخلافة، وهي الشخصية التي ستنهار الخلافة الأموية في عهدها.
لقد فَجَّرَ وصول مروان بن محمد إلى الخلافة كثيرا من التفاعلات، فلقد اعتبر هذا نصرا للقيسية على اليمانية، ومزيدا من الاضطراب في منصب وهيبة الخلافة لأنه وصول بالتغلب والقتال، ومزيدا من الانشقاق في البيت الأموي لأن مروان بن محمد من خارج الفرع المرواني الذي استقر له الحكم منذ نصف قرن.
حاول مروان بكل وسيلة أن يهدئ من هذه الأوضاع، لكنه لم يستطع، إذ انفجرت في وجهه ثورات متعاقبة متتابعة لم يكد يستريح من واحدة حتى تقوم الأخرى.
ففي الشام ثارت حمص (127 هـ) وفشل في تهدئتهم فخرج إليهم بجيش فأخمد الثورة وهدم سور حمص كي لا يثوروا مرة أخرى، وبينما هو هناك إذ كان يزيد بن خالد القسري –زعيم اليمانية- يحاصر دمشق بجيش من قومه ومن أنصار الخليفة السابق، فأرسل إليهم فرقة من جيشه استطاعت هزيمتهم وإنهاء حركتهم. لكن ما انهزم هؤلاء حتى ثار والي فلسطين ولكن مروان تمكن من هزيمته.
وفي العراق ثار عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في الحيرة، فهُزِم وانسحب إلى الكوفة فهُزِم مرة أخرى على يد والي الكوفة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فانسحب إلى فارس وهناك وجد عددا ومددا ممن انضم إليه ومن الخوارج المنهزمين أمام مروان بن محمد في شمال العراق، واستطاع أن يقيم لنفسه حكما في فارس استمر عاما لانشغال الخلافة الأموية عنه بالثورات الأخرى. فما إن فرغوا له حتى هزمه الجيش الأموى (129 هـ) واضطره لأن ينسحب نحو خراسان التي كانت تقوم فيها بذرة الدولة العباسية.
لكن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي الكوفة الذي انتصر لتوه على عبد الله بن معاوية، تمرد على مروان بن محمد وقد وجد عدته وأتباعه في القبائل اليمانية المجروحة مما وقع بهم في الشام منذ مقتل شيخهم خالد القسري ثم ابنه وإحراق ديارهم، وارتفاع شأن القيسية وبهم سيطر على الكوفة والحيرة ومناطق أخرى.
وفي هذه الأثناء ظهر سليمان بن هشام بن عبد الملك، ابن الخليفة قائدا لثورة جديدة في حمص، واستطاع ترميم الأسوار، وكانت له شرعية كونه من البيت المرواني وابن آخر الخلفاء الأقوياء والذي كاد يكون خليفة لولا أزمة بيعة العهد المعقودة للوليد بن يزيد، وكانت ثورته هي الأخطر لما له من نوع شرعية ومكانة في البيت الأموي، إلا أن مروان بن محمد استطاع أن يهزمه وظل يطارده حتى فشلت ثورته وانضم إلى ثورة الخوارج بقيادة الضحاك بن قيس، وكانت هذه إحدى مفارقات التاريخ أن يبايع أمويٌّ خارجيًا بالخلافة!!
وكانت ثورة الضحاك هذه قد بدأت في الموصل –شمال العراق- (128 هـ) فقد استولى عليها وقتل والي بني أمية، ورغم أن مروان استطاع هزيمتهم بعد قتال شديد إلا أنها لم تكن هزيمة حاسم، بل ظل القتال مشتعلا لعشرة أشهر يتولى فيها قيادة الخوارج شخصيات قتالية باسلة يعجز جيش الخلافة عن هزيمتها، إلا أن النهاية كانت لصالح جيش الخلافة الذي ظهر فيه أبطال باسلون استطاعوا بعد هذه المدة الطويلة إنهاء ثورات الخوارج وطردوهم من الكوفة ثم من الموصل ثم من الأهواز وظل أولئك الخوارج في انهزام وانسحاب حتى وصلوا إلى السند.
كذلك أشعل الخوارج في اليمن ثورة أخرى قادها عبد الله بن يحيى الكندي الذي اتخذ لنفسه لقب "طالب الحق"، وكان خطر هذه الثورة في أنها استطاعت أن تمتد نحو مكة والمدينة، إذ استطاع أبو حمزة الخارجي قائد جيش ثورة اليمن نحو الحجاز أن يسيطر على مكة والمدينة. وقد أرسل مروان بن محمد إليه جيشا هزمه وقتله وأنهى تمرده.
وما كاد مروان يفرغ من ثورات العراق واليمن ويولي وجهه شطر الثورات التي اشتعلت في المغرب العربي حتى ظهر أبو مسلم الخراساني في خراسان، وأبو مسلم هذا هو عنوان انهيار الدولة الأموية وزوالها من الوجود!
نشر في ساسة بوست
ابن كثير: البداية والنهاية 10/3.
توفي هشام بن عبد الملك (125 هـ) آخر الخلفاء الأقوياء من بني أمية، وكان مُلزمًا بأن يكون ولي العهد من بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ولم يكن الوليد على مستوى المسؤولية بل كان منصرفا للهو والعبث والمجون وشرب الخمر، وتفيض بعض المصادر في وصف مساوئ الوليد إلى حد لا يمكن تصديقه. ولهذا عزم هشام على عزله من ولاية العهد، وأيَّده في هذا الإمام الكبير ابن شهاب الزهري الذي قال للوليد يوما: "ما كان الله ليسلطك علي يا فاسق"، واستجاب الله له فمات قبل أن يتولى الوليد. وقد تمنى المحدث المؤرخ ابن كثير أن لو نجح هشام في عزمه هذابدأ الوليد خلافته بالإكثار من إنفاق الأموال –وكانت الميزانية قد فاضت لما عُرِف عن هشام من الحرص على المال الذي وصفه البعض بالبُخْل- فرفع الرواتب والأعطيات ولم يسأله أحد شيا إلا أعطاه ما أراد. وزاد فسوقا ومجونا في الخمر واللهو ومصاحبة الفُسَّاق حتى إن الطبري –وهو المؤرخ المعروف بالإطالة في تقصي الروايات- أعرض عن ذكر هذه الأخبار لطولها وكثرتها.
كذلك فقد بدأ في التنكيل والبطش بكل من وافق هشاما في خلعه من ولاية العهد، وصادر أموال الخليفة السابق، وعزل طائفة كبيرة من الولاة والعُمَّال والموظفين، وشمل بطشه حتى أبناء الخليفة –وهم أبناء عمه- فقد جلد ابن عمه سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهانه على مشهد من الناس، فبذر بذلك بذرة الانقسام في بيت الخلافة، إذ صار سليمان هذا من زعماء الثورة على الوليد ورجلا ممن سارت الخلافة إلى الانهيار على يديه.
ثم زاد الطين بلة حين أراد الوليد أن يأخذ البيعة لولاية العهد من بعده لولديه الصغيرين الحكم وعثمان، وهما ولدا جارية، ولم يكن هذا معروفا من قبل ولا مقبولا لا في البيت الأموي ولا في عصبة العرب، إلا أن الوليد أصر وعزم وبطش بكل من عارضه في هذا وأبرزهم والي الكوفة السابق وأحد أبرز رجال العرب وزعيم القبائل اليمانية: خالد بن عبد الله القسري، فقد أسلمه الوليد لعدوه يوسف بن عمر بن هبيرة –وهو الآن والي الكوفة- الذي سجنه وعذبه حتى قتله. وبهذا غضبت قبائل اليمانية على الوليد وصارت وقودا للثورة.
هذا الوقود التقطه الأمراء الأمويين الحانقين على سيرة الوليد، ورتبوا تمردا على الوليد، واستغلوا خروجه للصيد واللهو خارج دمشق، وسيطروا على دمشق وقبضوا على رجاله، وبايعوا يزيد بن الوليد –ابن عم الخليفة، وابن الخليفة الأسبق- خليفة، ومن دمشق انطلق جيش إلى الوليد بن يزيد فهزمه وقتله (جمادى الآخرة 126 هـ) بعد خلافة قلقة دامت سنة وثلاثة أشهر.
لكن الأحداث تفاعلت بما لم يتوقعه أحد، فقد كانت هذا الانقلاب سابقة في تاريخ الإسلام وتاريخ البيت الأموي، وهذه السابقة رفعت من شأن قبائل اليمانية مما ضاعف من حدة العصبية بينهم وبين قبائل القيسية، والخليفة مضطر أن ينحاز إلى طرف اليمانية لأنهم أصل الثورة، بينما قبائل القيسية تأنف من ارتفاع شأن اليمانية وتتمسك –ضمن هذا التنافس العصبي- بشرعية الخليفة المقتول صاحب البيعة، ونشبت ثورات في حمص وفلسطين والأردن والمدينة، بعضها أمكن تهدئته وبعضها أُخْمِد بالقوة.
وزاد من سوء الأوضاع الوفاة السريعة للخليفة الجديد –وهو في أواخر الثلاثينيات- (ذي الحجة عام 126هـ) بعد ستة أشهر فقط من توليه، وكان في هذه الفترة القصيرة قد أبدى من التقوى والخير ما جعلهم يشبهونه بعمر بن عبد العزيز ويجعلونه من خير خلفاء بني أمية.
وهنا تفجرت الأحداث مرة أخرى بأقوى من السابق، إذ لما مات يزيد بويع لأخيه وولي عهده إبراهيم بن الوليد، ولم يُرضِ هذا عددا من الأمراء الأقوياء، أبرزهم مروان بن محمد –الشخصية العسكرية القوية، ووالي منطقة أرمينية- والذي رأى أنه أحق الناس بالخلافة وأنه القادر على إنهاء هذه الفوضى في الحكم، لكنه اتخذ إلى هذه الغاية شعار "شرعية" الخليفة المقتول الوليد بن يزيد، ودعا لبيعة ولديه الحكم وعثمان –وهما وليي عهد الخليفة المقتول في حياته- رجاء أن يكون هو الوصي عليهما، وقطعا لهذه الحجة اقتحم يزيد بن خالد القسري –وهو زعيم اليمانية الذي أخذ بثأر أبيه- السجن الذي فيه الولدين فقتلهما وقتل معهما يوسف بن عمر –الذي كان واليا على الكوفة والذي قتل أباه خالدا القسري من قبل- لكن هذا لم يغن شيئا.
لقد اعتمد مروان بن محمد على قبائل القيسية المتضررين من ارتفاع شأن اليمانية، مما مكنه من هزيمة جيش إبراهيم بن الوليد، ودخل دمشق منتصرا واضطر إبراهيم بن الوليد أن يخلع نفسه ويتنازل له عن الخلافة.
يعتبر مروان بن محمد –بالتصنيف المعاصر: مدنيين وعسكريين- أول شخصية عسكرية تصل إلى منصب الخلافة، وهي الشخصية التي ستنهار الخلافة الأموية في عهدها.
لقد فَجَّرَ وصول مروان بن محمد إلى الخلافة كثيرا من التفاعلات، فلقد اعتبر هذا نصرا للقيسية على اليمانية، ومزيدا من الاضطراب في منصب وهيبة الخلافة لأنه وصول بالتغلب والقتال، ومزيدا من الانشقاق في البيت الأموي لأن مروان بن محمد من خارج الفرع المرواني الذي استقر له الحكم منذ نصف قرن.
حاول مروان بكل وسيلة أن يهدئ من هذه الأوضاع، لكنه لم يستطع، إذ انفجرت في وجهه ثورات متعاقبة متتابعة لم يكد يستريح من واحدة حتى تقوم الأخرى.
ففي الشام ثارت حمص (127 هـ) وفشل في تهدئتهم فخرج إليهم بجيش فأخمد الثورة وهدم سور حمص كي لا يثوروا مرة أخرى، وبينما هو هناك إذ كان يزيد بن خالد القسري –زعيم اليمانية- يحاصر دمشق بجيش من قومه ومن أنصار الخليفة السابق، فأرسل إليهم فرقة من جيشه استطاعت هزيمتهم وإنهاء حركتهم. لكن ما انهزم هؤلاء حتى ثار والي فلسطين ولكن مروان تمكن من هزيمته.
وفي العراق ثار عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في الحيرة، فهُزِم وانسحب إلى الكوفة فهُزِم مرة أخرى على يد والي الكوفة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فانسحب إلى فارس وهناك وجد عددا ومددا ممن انضم إليه ومن الخوارج المنهزمين أمام مروان بن محمد في شمال العراق، واستطاع أن يقيم لنفسه حكما في فارس استمر عاما لانشغال الخلافة الأموية عنه بالثورات الأخرى. فما إن فرغوا له حتى هزمه الجيش الأموى (129 هـ) واضطره لأن ينسحب نحو خراسان التي كانت تقوم فيها بذرة الدولة العباسية.
لكن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي الكوفة الذي انتصر لتوه على عبد الله بن معاوية، تمرد على مروان بن محمد وقد وجد عدته وأتباعه في القبائل اليمانية المجروحة مما وقع بهم في الشام منذ مقتل شيخهم خالد القسري ثم ابنه وإحراق ديارهم، وارتفاع شأن القيسية وبهم سيطر على الكوفة والحيرة ومناطق أخرى.
وفي هذه الأثناء ظهر سليمان بن هشام بن عبد الملك، ابن الخليفة قائدا لثورة جديدة في حمص، واستطاع ترميم الأسوار، وكانت له شرعية كونه من البيت المرواني وابن آخر الخلفاء الأقوياء والذي كاد يكون خليفة لولا أزمة بيعة العهد المعقودة للوليد بن يزيد، وكانت ثورته هي الأخطر لما له من نوع شرعية ومكانة في البيت الأموي، إلا أن مروان بن محمد استطاع أن يهزمه وظل يطارده حتى فشلت ثورته وانضم إلى ثورة الخوارج بقيادة الضحاك بن قيس، وكانت هذه إحدى مفارقات التاريخ أن يبايع أمويٌّ خارجيًا بالخلافة!!
وكانت ثورة الضحاك هذه قد بدأت في الموصل –شمال العراق- (128 هـ) فقد استولى عليها وقتل والي بني أمية، ورغم أن مروان استطاع هزيمتهم بعد قتال شديد إلا أنها لم تكن هزيمة حاسم، بل ظل القتال مشتعلا لعشرة أشهر يتولى فيها قيادة الخوارج شخصيات قتالية باسلة يعجز جيش الخلافة عن هزيمتها، إلا أن النهاية كانت لصالح جيش الخلافة الذي ظهر فيه أبطال باسلون استطاعوا بعد هذه المدة الطويلة إنهاء ثورات الخوارج وطردوهم من الكوفة ثم من الموصل ثم من الأهواز وظل أولئك الخوارج في انهزام وانسحاب حتى وصلوا إلى السند.
كذلك أشعل الخوارج في اليمن ثورة أخرى قادها عبد الله بن يحيى الكندي الذي اتخذ لنفسه لقب "طالب الحق"، وكان خطر هذه الثورة في أنها استطاعت أن تمتد نحو مكة والمدينة، إذ استطاع أبو حمزة الخارجي قائد جيش ثورة اليمن نحو الحجاز أن يسيطر على مكة والمدينة. وقد أرسل مروان بن محمد إليه جيشا هزمه وقتله وأنهى تمرده.
وما كاد مروان يفرغ من ثورات العراق واليمن ويولي وجهه شطر الثورات التي اشتعلت في المغرب العربي حتى ظهر أبو مسلم الخراساني في خراسان، وأبو مسلم هذا هو عنوان انهيار الدولة الأموية وزوالها من الوجود!
نشر في ساسة بوست
ابن كثير: البداية والنهاية 10/3.
Published on March 07, 2015 10:10
February 27, 2015
البحث عن مشكلة الإخوان: التنظيم أم الجماعة الوسطية
كتب الأخ الكريم أيمن عبد الرحيم ثلاث مقالات مطولة بعنوان "معا لحل تنظيم الإخوان" (ج1 - ج2 - ج3)، وكنت لما قرأت مقاله الأول منها كتبت ردا عليه فجاء ردا مطولا، فلما بلغت مقالاته الثلاث لم يعد بالإمكان كتابة رد ولو شبه مفصل، ولم يعد من مناص سوى كتابة تعليقات سريعة عابرة.
وقبل كل شيء لا بد من توضيح أن هذا المقال ليس له نصيب في شيء إلا المسألة العلمية التي هي همُّ الأمة، فلست من الإخوان، ولا حتى ممن يعقدون أملا كبيرا عليهم في مستقبل الأيام، فالمسألة مقتصرة على مناقشة الفكرة المطروحة حول عيوب التنظيم وضرورة أن يستبدل به نمط "الجماعات الوسيطة" المتمركزة حول الوحي فهي متحررة من أعباء التنظيم وقيوده، ومنطلقة من التكليف الرباني مباشرة.
وكنوع من الدفاع المسبق أيضا أقول، بأن الاتهام الأكبر لهذا المقال سيكون "أني لم أفهم مراد أيمن"، ولهذا أقول: ربما أنت الذي لم تفهم مرادي، ولا شك أن ضرورات الاختصار مسؤولة عن نصيب من هذا.
(1)الماء الخارق
بدأ أخونا مقاله بمثال ضربه يقول: "الماء لا يمكن كسره إلا إذا تجمد وصار قطعا ثلجية" في إشارة إلى أن التنظيم يجعل من الماء العصي على الكسر قطعا ثلجية قابلة للكسر.
وذلك ذكَّرني بدرس أخذناه في مادة الميكانيكا في كلية الهندسة، عن عملية "الثقب"، وفيه فوجئنا بأن أفضل مادة لثقب الحديد هي الماء، فانطلاقة الماء المضغوط بسرعة عالية قادرة على ثقب الحديد بأفضل مما يفعل الليزر. فهذا هو الماء الخارق.. الذي يجعل من الماء السائل الرقيق -العاجز عن خدش نتوء في صفحة الحديد- قوة جبارة تخرقه ولا تبالي..
فذلك مثل التنظيم وفكرته، تجميع الجهود السائلة لتكون فعالة، فتكتسب بتضافر قواها ما يساوي أضعاف المجموع العددي لقوة كل منها منفردة.
إن الماء السائل –وإن كان لا يُكسر- إلا أنه يُتحكم فيه بالتوجيه والاحتواء ويُقاد إلى حيث يُراد له أن ينقاد!
(2)التنظيم.. حقيقة صلبة وخالدة
إن محاولة إثبات فائدة التنظيم يشبه عندي محاولة إثبات النهار. ذلك أن "السلطة" حقيقة تاريخية ثابتة وصلبة، والسلطة في أبسط تعريفاتها هي: قلة "منظمة" تحكم أكثرية غير منظمة، وهي قادرة على إنفاذ حكمها وسيطرتها على هذه الأكثرية لا لشيء إلا لأنها "منظمة، منتظمة، نظامية".
ومن فروع هذه الحقيقة أننا لا نعرف في التجارب التاريخية سلطة منظمة أسقطتها حركات غير منظمة! كذلك لا نعرف تجربة قيام دولة أو انبعاث نهضة إلا وكان وراءها تنظيم فعال يلتقي على قاعدة فكرية واضحة، ربما يكون هذا التنظيم دعوة إصلاحية أو عنصرية قومية أو قد يكون هذا التنظيم هو الدولة وذلك حين يصل صاحب فكر إلى موقع السلطة فيتخذ من نظام الدولة وعصبتها وسيلة إلى نشر الفكرة والدعوة.
كذلك فإن "التنظيم" و"السلطة باعتبارها التنظيم الأوقى" هو فكرة ثابتة وخالدة، فحتى نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان ستظل طريقة الحياة فيها سلطة ورعية وحاكم ومحكوم، ففي الحديث أنه "سيحكم بكتاب الله"، وأن المال سيفيض حتى "يُنادى عليه"، فهذه دلائل سلطة.
يمكننا أن نتحدث كثيرا عن جهود اليهود في إعادة إحياء لغتهم بعد موات من خلال "الجماعات الوسيطة"، لكنهم لم يكونوا يستطيعون "إنشاء دولة" ولا التأثير في السياق العالمي حقا بغير هرتزل وتنظيمه، ولا بغير دعم ومساندة الدول (التي هي تنظيمات). ويمكننا أن نتحدث عن جهود شعبية لإنشاء جامعة بولندا الطائرة ولكن ما كان للجامعة ولا عشرة مثلها أن تقف أمام اجتياح وحش ألماني أو وحش سوفيتي فما كان لها أن تؤدي دورها إلا لأن تصاريف وتوازنات الدول (التنظيمات) سمحت لها بالبقاء. ويمكننا أن نتحدث عن مجهودات تأسيس المراكز الإسلامية في الشرق والغرب، عن مشاريع خيرية في الداخل والخارج.. لتفعل الجماعات الوسيطة ما شاءت، تستطيع "الدولة / التنظيم الأقوى" أن تنهي كل هذا بجرة قلم، وقد فعلت.
إن بقاء كل مجهودات الجماعات الوسيطة هذه مرهون بسماح التنظيم الأقوى (الدولة) بهذا الوجود.
(3)الدولة: التنظيم القاهر للجماعات الوسيطة
ولهذا كانت حاجة كل الحركات التغييرية إلى الوصول إلى السلطة حاجة ضرورية وملحة، والحركات التي عملت في إطار السلطات القائمة إما أنها ليست حركات تغييرية أو أنها حركات انحرفت عن طريق التغيير لتبقى في مربع التعايش مع الأنظمة القائمة.
ولهذا فإن كل دولة بدأت فإنما اعتمدت على تنظيم، حتى لو كان هذا التنظيم هو "القبيلة"، فالقبيلة هي نوع بسيط من أنواع التنظيم فيه القيادة والملأ ووجهاء القوم ثم أتباع كثيرون، وقد قامت دولة الإسلام اعتمادا على الأنصار –الأوس والخزرج- ثم قامت دولة الراشدين اعتمادا على عصبة قريش (التي لا يقبل الناس غيرها في ذلك الوقت) ثم قامت الدولة الأموية بتنازل الحسن (ممثل عصبة بني هاشم) لمعاوية (ممثل عصبة بني أمية) وهو انتقال في إطار ذات العصبة القرشية. ثم جاء التنظيم العباسي لينتظم عصبة من آل البيت حتى يقيموا الدولة، وهكذا سائر الدول.. فبدعوة أبي عبد الله الشيعي وعصبة أهل كتامة نشأ التنظيم الذي سيلد الدولة العبيدية (الفاطمية) وبدعوة ابن ياسين وعصبة الصنهاجيين نشأ التنظيم الذي سيلد دولة المرابطين، وبدعوة ابن تومرت وعصبة المصامدة نشأ التنظيم الذي سيلد دولة الموحدين.. ولو شئنا الإطالة فالأمثلة غزيرة.
والمقصد من هذه الأمثلة التأكيد على أمرين؛ الأول: أن فكرة الجماعة الوسيطة لو كانت كافية في حسم التغيير لاكتفى الدعاة بها، ولكنها لم تكن كذلك فكان التنظيم هو الحل لإزالة التنظيم المنافس (السلطة = الدولة) القائمة. والثاني: أن الجماعات الوسيطة لم تتبدل مع تبدل الدول وتغيرها، وهذا وإن كان تميزا من جانب استمرار الأمة وحضارتها، إلا أنه دليل على أن هذه الجماعات الوسيطة ليست شيئا كبيرا في معادلة السلطة والحكم والتغيير الحاسم الحقيقي.
ولما جاء عصر الدولة المركزية بتغيراته الهائلة (وأبرزها في سياقنا هذا: تطور الأسلحة بما صنع فارقا ضخما بين السلطة والناس، والهجرة من الريف إلى المدينة بما أضعف العشائر والقبائل وأنواع الجماعات الوسيطة وقوَّى سلطة الدولة، والتضخم في وسائل الري والزراعة والصناعة بما جعل حاجة التنمية تقتضي تدخلا واسعا للسلطة في تنظيم هذه الأمور) عاد هذا بالسلب على الجماعات الوسيطة، واستطاع ممثلو الدولة المركزية –بعد هذه التغيرات العلمية والاقتصادية والاجتماعية- من إحداث تطور حاسم في العلاقة بين الدولة والجماعات الوسيطة.. فأكلت السلطة مساحات الجماعات الوسيطة، وصارت الجماعات الوسيطة كالأسير بين يدي السلطة. واستطاع محمد علي (مثلا، في حالة مصر) أن يستولي على الأوقاف وهو الأمر الذي لم يستطعه قبله أحد من المماليك ولا العثمانيين رغم محاولاتهم ورغم أنهم نموذج لسلطة مستبدة.
لقد طرح وجود الدولة المركزية عنصرا جديدا في معادلة الحكم.. صارت كل محاولة تغيير تصطدم عمليا بالسلطة، صارت السلطة قادرة أن تتدخل في كل شأن، فتصدر تصريحا ببناء باب في جدار كما تصدر تصريحا يأذن لشيخ في صعود منبر. الحقيقة أننا في هذه اللحظة أمام سلطة لا تترك مساحة للجماعات الوسيطة.. ولئن تركت مساحة فهي تملك أخذها، كما أنها من ناحية أخرى تصنع جماعات وسيطة خاصة بها (لكن يُطلق عليها في هذه الحالة: جماعات وظيفية)، مما يعني أن أي محاولة تغيير حقيقية وفعالة لن تجد أمامها حلا سوى اللجوء لحل "التنظيم".
(4)الجماعات الوسيطة كنموذج مقاوم
يأتي سؤال مهم: هل استطاعت الجماعات الوسيطة الانتصار على سلطة مركزية (تنظيم الدولة المركزية) من قبل؟
نعم، ربما تستطيع الجماعات الوسيطة إشعال "مقاومة"، وهي في هذا مثل حرب العصابات التي ترهق الجيوش النظامية، لما لها من سيولة وخفة حركة وانعدام تنظيم.. لكن الحقيقة الصادمة كذلك أن حروب العصابات "وحدها" لا تؤدي في نهاية المطاف إلى التحرير.
إن فرنسا لم تخرج من مصر لمجرد المقاومة الشعبية المصرية –وإن كانت في غاية البسالة- بل لأن تحالفا دوليا (إنجليزيا عثمانيا) أجبرها على هذا، كذلك لم تخرج بريطانيا من مصر إلا على يد أمريكا رغم بسالة المقاومة المصرية، ولم تخرج فرنسا من الجزائر إلا على يد أمريكا رغم تضحيات الجزائريين، ولم تخرج أمريكا من فيتنام إلا بوجود الاتحاد السوفيتي رغم كل تضحيات الفيتناميين. وأنا هنا لا أقلل أبدا من شأن التضحيات، بل هي عامل أساسي في كل ما حدث، لكني في ذات الوقت لا أريد أن ننسى الجانب الآخر من الصورة وهو أن الجماعات الوسيطة لم تبلغ "وحدها" أن تحقق نصرا حاسما في أي لحظة.. هذا إن لم تنتهِ وتنهزم أمام قوة منظمة لا قبل لها به.
في حين أننا نستطيع أن نقول بالعكس.. تستطيع محصلة نتائجة القوى أن تؤدي إلى تغييرات حاسمة بدون وجود جماعات وسيطة، كما تكتب الجيوش مصائر التاريخ بغير حروب عصابات، وكما تنتصر ثورات "سلمية" لاستنادها إلى قوة دولة بعينها (فالثورة السلمية خرافة، إما أن تكون ثورة مسلحة تعتمد على قوتها الذاتية، وإما أن تكون قوتها في الدولة الداعمة لها).
ومن الحقائق كذلك أن الذين يخوضون حروب العصابات أنفسهم هم أكثر من يشعرون بحاجتهم إلى التنظيم لكي يبلغوا من عدوهم ما لا يبلغونه بأنفسهم، ولكي لا تتضارب الجهود وتتناقض.
ونستطيع أن نقول بالعكس من جهة أخرى، وهو أن (تنظيم الدولة المركزية) يستطيع القضاء على الجماعات الوسيطة قضاء مبرما، خصوصا إذا طال الزمن.. ولنا في الأندلس خير عبرة ودليل، فمع كل البسالة الأسطورية التي تمتع بها المسلمون واحتفظوا بدينهم لخمسة قرون تحت حكم الإسبان إلا أن نظامهم الاجتماعي والثقافي قد تم تدميره تماما واختفى وزال من الوجود.. ولماذا نذهب بعيدا؟! ها هو محمد علي قد دمر المجتمع المدني المصري وجماعاته الوسيطة وظلت سلالته في الحكم من بعده قرنا ونصف القرن، وها هو الاحتلال أنشأ نظاما جديدا في الدول التي نزلها (بقوة السلطة = تنظيم الدولة المركزية) فأزال ما أراد من الجماعات الوسيطة وغيَّر النظام الاجتماعي والاقتصادي وكثيرا من النظام الثقافي في البلاد التي احتلها.
وإذن فلدينا ثلاث معادلات هي:
1. الجماعات الوسيطة "وحدها" لم تحقق أبدا نصرا على (تنظيم السلطة = الدولة)
2. بينما (تنظيم السلطة = الدولة) وحده استطاع تحقيق انتصارات حاسمة على الجماعات الوسيطة
3. وحدثت تغييرات حاسمة بمجرد (تنظيم السلطة = الدولة) وحده، في ظل وجود أو اختفاء الجماعات الوسيطة.
وبمحصلة هذه المعادلات يتبين نصيب "التنظيم" ونصيب "الجماعة الوسيطة" من معادلة التغيير الحقيقي الحاسم الفعال.
وهذا ما يؤكده قول النبي "... وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"، وقول عمر بن الخطاب لزياد بن حدير: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين"، وقول عثمان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. وقد قالت العرب "الناس على دين ملوكهم".
(5)تنظيم الإخوان
بداية فإن أجواء نشأة الجماعة حكمت شكل تنظيمها، فوجودها في دولة غاب الإسلام عن مفاصلها السياسية والثقافية وبعض طبقاتها الاجتماعية اضطرها لأن تكون جماعة دعوية.. لكن هذا نصف الصورة فقط، النصف الآخر هو أن هذه الدولة واقعة تحت الاحتلال.. فلذلك كانت الجماعة جماعتين في الحقيقة: تيار علني دعوي، وتنظيم خاص سري مسلح يعمل كجهاز حربي وجهاز مخابرات بهدف مواجهة الاحتلال.
وكان لا بد –والحال هذه- من وجود هذا الشكل الهرمي بالذات للنظام الخاص السري الذي يمثل العمود الفقري والجماعة الحقيقية، فمن هنا نعلم أن الإخوان لم يختاروا الشكل الهرمي بقدر ما فُرِض عليهم، ثم إنهم منذ نشأوا حتى الآن عاشوا في أجواء اضطهاد ومطاردة جعلت الشكل الهرمي السري اضطرار لا اختيار.
صحيح أن هذا الشكل ترسخ في تصورهم حتى استعملوه في مناطق لم يكونوا فيها بحاجة إلى السرية، إلا أن هذا أيضا هو نوع من الاضطرار باعتبارات التعود وعدم ضمان استمرار حال الفسحة والأمان.
وهنا يجب أن ننبه إلى أن البنا لم يتخل عن النظام الخاص، وأن ما ورد في شأن نيته لحله أو حل الجماعة إنما هي روايات مشكوك فيها ليس هنا مجال نقدها. كذلك فإن الروايات متضاربة بشأن رؤية الهضيبي نفسه للنظام الخاص، فكما ورد عنه قوله "لا سرية في الإسلام" ورد عنه قوله "النظام الخاص بالنسبة للإخوان هو كحرفي الألف واللام (والمعنى أنه خصيصة لا تنفك لها وإلا فقدت معناها وتميزها) وإنما قلت هذا أمام من لا يجوز له أن يعلم"، وهذا الموضوع من أكثر الموضوعات التي بحثت فيها وحادثت فيها بعضا ممن عاصروا الهضيبي وأبناء من عاصروه وسمعت روايات كثيرة متناقضة، إلا أن الثابت هو أن سياسته في إدارة الجماعة منذ تولى كانت سياسة مؤسفة أدت لتدمير النظام الخاص مما جعلها فريسة سهلة لنظام عبد الناصر.. هذه السياسة ونتائجها هي التي جعلت البعض يقول بأنه اختراق ماسوني للجماعة، وبرأيي أنه لولا صموده الرهيب هذا لكانت فكرة أنه اختراق ماسوني لتدمير الجماعة هي التفسير الأقوى لما حدث.
المهم في سياق موضوعنا الآن أن مشكلة الإخوان لم تكن في بنية التنظيم نفسه، لأننا نستطيع أن نعد تنظيمات استطاعت أن تحقق مشاريعها من خلال ثورات أو انقلابات.. وإنما تبدو المشكلة برأيي في ثلاث أمور:
1. طول الأمد:
وهو ما أنتج مشكلات التنظيم التي قال بها أيمن –وأوافقه عليها- في مقاله الثالث.. ذلك أنه يجب التنبه إلى أن الدعوات الناجحة إنما حققت هدف الوصول إلى السلطة (التنظيم الأقوى) في عهد المؤسس أو في عهد تلاميذه بحد أقصى.. فإن طال الزمن بأكثر من هذا دخلت "الدعوة، الحركة، التنظيم" في مراحل الجمود والتيبس والفشل. وهو أمر لم تراعيه الجماعة بل ظلت تقول "ثمانون سنة ليست شيئا في عمر الأمم" وكأننا نكوِّن أمة لا نصنع حركة دعوية تغييرية.
2. تشوش المهمة:
مما أدى إلى تشوش الوسائل، وهو من مقتضيات وتوابع "طول الأمد"، فمن بعد اغتيال البنا، لم يكن واضحا عندهم ما هي "المهمة" التي يريدون تنفيذها، ولهذا استغرقتهم جوانب الدعوة والمقاومة كلها، فكأنهم يدعون إلى الدين من الجديد لا أنهم يكونون فريق العمل الذي يمثل الطليعة التي تشتبك مع السلطة، ولهذا استهلكوا أنفسهم في مسالك كثيرة ومتفرقة ومتباعدة، وقد رقعوا فساد الأنظمة بما فعلوه من أعمال الخير والبر لمساعدة الناس (ثم كانت السلطة تضربهم ضربة قاضية، فلا يتحرك لهم أولئك الناس الذين ساعدوهم، بل ربما ساعد أولئك الناسُ السلطةَ في ضربهم)، وأدى هذا إلى أن اجتذبت صفوفهم كثيرا من غير المؤهلين للدعوة إما لصفاتهم الشخصية أو لأوضاعهم المالية أو الاجتماعية فكانوا بهذا عبئا على الجماعة إذ استنفدوا كثيرا من مجهودها وكثَّروا البطالة الدعوية في صفوفها وأبطأوا حركتها وجعلوها مترهلة (أعددا كثيرة لكن الفَعَّالين قليل) ثم إن طول الأمد بلا تحقق إنجازات ملموسة أصابها بالجمود والتيبس وأنشأ فيها الجهاز التبريري الذي صار روحا تجعل من الإنجاز القليل نجاحا كبيرا وتجعل من طول الوقت "لا شئ في عمر الأمم" بل والأهم أنها تجعل من الفشل "ليس في الإمكان أبدع مما كان" ثم يصير هذا الذي في الإمكان هو الأصل الذي ما كان ينبغي أن يُفعل غيره، وهنا تدخل دوامات التنظير لتصنع وعيا جديدا: فيتحول الحكام من خصوم إلى محل دعوة، ومن تابعين للغرب إلى وطنيين يمكن التفاهم معهم، ويتحول العلمانيون من أعداء للمشروع الإسلامي إلى رفاق كفاح ضد الاستبداد.. وعند اللحظة التي يولد فيها مثل هذا التنظير تنحرف البوصلة ويتغير الاتجاه.
3. افتقاد القوة:
سواء القوة الذاتية التي يملكون بها أن يكونوا جزءا من معادلة السياسة والتغيير والحكم، أو القوة الداعمة التي تمثلها مظلة دولة إقليمية أو دولة كبرى، وانعدام القوة يجعل أي تنظيم مهما كان محكما ضعيف، وأي جماعة مهما كانت بارعة أسيرة لدى صاحب القوة. ولهذا كان يمكن دائما للتنظيم الأقوى منها (الدولة) أن يضربها وقتما شاء، وأن يزيل كل مكاسبها التي حازتها في أوقات الفسحة التي سمح هو أيضا بها إما لغرض في نفسه (كضرب التيارات الجهادية) أو لأنها أهون من أن تهدد حكمه.
والتنظيمات المؤثرة والفاعلة شرقا وغربا لم تخل أبدا من هذه القوة.. وأقربها لنا مكانا وزمانا: حزب الله والحوثيين.فالمشكلة ليست في بنية التنظيم نفسه، بل في "زمنه"، و"مهمته"، و"قوته".
(6)الحاجة إلى الجماعات الوسيطة
فهل معنى هذا أننا لا نحتاج إلى جماعات وسيطة؟
أبدا، ولا يمكن أن أقول هذا.. وفي مقالات كثيرة ومحاضرات سابقة كنت أفيض في شرح مزايا أن تكون الأمة فوق السلطة، وأن طبيعة النظام الإسلامي هو أنه مؤسس على "توازن القوى" بخلاف النظام الغربي المؤسس على "احتكار القوة من قبل الدولة"، مما يجعل المجتمع الإسلامي في غاية الاستقلال عن السلطة ماليا فتستمر الحضارة وإن ضعف النظام السياسي، ولا يؤثر الضعف السياسي على ضعف المجتمع، ويستمر المجتمع في المقاومة وإن انهزم الجيش الرسمي على عكس نظام الدولة المركزية الذي يعني سقوط الجيش النظامي انهيار الدولة ونهاية الحرب.. وكم حاولت بيان مزايا وفضائل هذا النظام الذي يقصر من يد السلطة ويعصم الناس من شرها وتغولها.
كل هذا وغيره وأكثر منه تحدثنا وكتبنا فيه كثيرا.. لكن هذا سياق، وهذا سياق آخر.
إن الجماعات الوسيطة ضرورية للمجتمع، ولكننا لن نستطيع إطلاق طاقاتها إلا إذا أمسكنا بهذه السلطة، فالجماعات الوسيطة لا تنجح إلا في ظل سلطة تسمح لها بالقيام بدورها أو تنسجم معها. إن المشروع السياسي الإسلامي مشروع قائم على "تمكين الأمة" وترشيد السلطة، لا على النموذج الفرعوني في السلطة الذي يستعبد الأمة (يجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم).
لو أننا الآن نعيش في ظل أنظمة مخلصة للأمة لكان للدعوة إلى استبدال الجماعات الوسيطة بالتنظيمات المقاوِمة وجه من النظر، أما ونحن نعيش في أنظمة احتلالية وفي دولة مركزية فلا مناص من تنظيمات تقاومها (وقد أثبتا في أول المقال أن السلطة –باعتبارها التنظيم الأقوى- لا تسقط إلا على يد تنظيم، داخلي كالثورة والانقلاب أو خارجي: الدولة المحتلة) وعليه فإن حل التنظيمات إنما هو هدية للأنظمة الاحتلالية بإزالة العقبة الكأداء في طريقها، مهما كان تقييمنا لهذه العقبة وقوتها.
إن مجرد التركيز على الإخوان كجماعة وتقديم الحلول لها لدليل في ذاته على أنها صاحبة الفاعلية، وصاحبة قرار مؤثر، وأنها لو سمعت لهذه النصيحة أو أخذت هذا الحل لكان الحال أفضل.. إن مناهضي التنظيمات مضطرون لمخاطبة التنظيمات في نهاية الأمر، وهذا هو عينه دليل أهمية التنظيم.
(7)متفرقات
طال المقال جدا، برغم حرصي على الاختصار في كل ما مضى، وبقيت أمور لا بد من الإشارة إليها ولو في أسطر:
إن كل الأمثلة التي ضربها أخي أيمن نصرة لفكرته لا تخرج عن أهمية الجماعات الوسيطة في خوض معركة أو الحفاظ على هوية أو تحقيق منفعة عامة لم ينهض لها أحد، وهي أمور أتفق معه فيها، لكنها لا تدل على أن الجماعات الوسيطة تستطيع تحقيق نصر كامل في حرب (ربما في جولة) أو إسقاط أنظمة فاسدة (كما حدث في ثورة العلماء على خورشيد التي نجحت في إسقاط خورشيد لكنهم اضطروا بعد ذلك للإتيان بمحمد علي: نموذج الحاكم الصالح في نفس النظام وبذات الشرعية) أو تحقيق منفعة في ظرف عصيب بشرط أن قد وُجِد من الظروف ما حافظ على هذا النموذج ولم يحاربه.
وهذه ليست مشكلتنا الآن..
كما أن العيوب التي ذكرها للتنظيمات لا تخرج عن كونها وقعت في واحدة من الثلاثة: طول الأمد، انحراف الوجهة لتشوش المهمة والغاية، انعدام القوة.
إن الصحابة حين اختاروا خليفة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عبروا عن أهمية "السلطة" في الإسلام، وأنها شيء لا يؤخر، ولهذا فإن معركة السلطة هي معركة الإصلاح الحقيقية لأن الله "يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ولأن "الناس على دين ملوكهم".. ولهذا فلا يسعنا –ونحن تحت الاحتلال بالوكالة- أن نؤخر معركة السلطة لنتحدث عن معركة تكوين المجتمع.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يمتعنا بأخي الحبيب أيمن عبد الرحيم وأن يفتح عليه من بركاته ورحماته وأن يجعله من رواد هذه الأمة والقائمين لله بالحجة في زمنه.
مقالات أخرى سابقة، يرجى مطالعتها: خلاصات في مسألة السلطة بمن نبدأ.. المجتمع أم الدولة؟
نشر في مصر العربية
وقبل كل شيء لا بد من توضيح أن هذا المقال ليس له نصيب في شيء إلا المسألة العلمية التي هي همُّ الأمة، فلست من الإخوان، ولا حتى ممن يعقدون أملا كبيرا عليهم في مستقبل الأيام، فالمسألة مقتصرة على مناقشة الفكرة المطروحة حول عيوب التنظيم وضرورة أن يستبدل به نمط "الجماعات الوسيطة" المتمركزة حول الوحي فهي متحررة من أعباء التنظيم وقيوده، ومنطلقة من التكليف الرباني مباشرة.
وكنوع من الدفاع المسبق أيضا أقول، بأن الاتهام الأكبر لهذا المقال سيكون "أني لم أفهم مراد أيمن"، ولهذا أقول: ربما أنت الذي لم تفهم مرادي، ولا شك أن ضرورات الاختصار مسؤولة عن نصيب من هذا.
(1)الماء الخارق
بدأ أخونا مقاله بمثال ضربه يقول: "الماء لا يمكن كسره إلا إذا تجمد وصار قطعا ثلجية" في إشارة إلى أن التنظيم يجعل من الماء العصي على الكسر قطعا ثلجية قابلة للكسر.
وذلك ذكَّرني بدرس أخذناه في مادة الميكانيكا في كلية الهندسة، عن عملية "الثقب"، وفيه فوجئنا بأن أفضل مادة لثقب الحديد هي الماء، فانطلاقة الماء المضغوط بسرعة عالية قادرة على ثقب الحديد بأفضل مما يفعل الليزر. فهذا هو الماء الخارق.. الذي يجعل من الماء السائل الرقيق -العاجز عن خدش نتوء في صفحة الحديد- قوة جبارة تخرقه ولا تبالي..
فذلك مثل التنظيم وفكرته، تجميع الجهود السائلة لتكون فعالة، فتكتسب بتضافر قواها ما يساوي أضعاف المجموع العددي لقوة كل منها منفردة.
إن الماء السائل –وإن كان لا يُكسر- إلا أنه يُتحكم فيه بالتوجيه والاحتواء ويُقاد إلى حيث يُراد له أن ينقاد!
(2)التنظيم.. حقيقة صلبة وخالدة
إن محاولة إثبات فائدة التنظيم يشبه عندي محاولة إثبات النهار. ذلك أن "السلطة" حقيقة تاريخية ثابتة وصلبة، والسلطة في أبسط تعريفاتها هي: قلة "منظمة" تحكم أكثرية غير منظمة، وهي قادرة على إنفاذ حكمها وسيطرتها على هذه الأكثرية لا لشيء إلا لأنها "منظمة، منتظمة، نظامية".
ومن فروع هذه الحقيقة أننا لا نعرف في التجارب التاريخية سلطة منظمة أسقطتها حركات غير منظمة! كذلك لا نعرف تجربة قيام دولة أو انبعاث نهضة إلا وكان وراءها تنظيم فعال يلتقي على قاعدة فكرية واضحة، ربما يكون هذا التنظيم دعوة إصلاحية أو عنصرية قومية أو قد يكون هذا التنظيم هو الدولة وذلك حين يصل صاحب فكر إلى موقع السلطة فيتخذ من نظام الدولة وعصبتها وسيلة إلى نشر الفكرة والدعوة.
كذلك فإن "التنظيم" و"السلطة باعتبارها التنظيم الأوقى" هو فكرة ثابتة وخالدة، فحتى نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان ستظل طريقة الحياة فيها سلطة ورعية وحاكم ومحكوم، ففي الحديث أنه "سيحكم بكتاب الله"، وأن المال سيفيض حتى "يُنادى عليه"، فهذه دلائل سلطة.
يمكننا أن نتحدث كثيرا عن جهود اليهود في إعادة إحياء لغتهم بعد موات من خلال "الجماعات الوسيطة"، لكنهم لم يكونوا يستطيعون "إنشاء دولة" ولا التأثير في السياق العالمي حقا بغير هرتزل وتنظيمه، ولا بغير دعم ومساندة الدول (التي هي تنظيمات). ويمكننا أن نتحدث عن جهود شعبية لإنشاء جامعة بولندا الطائرة ولكن ما كان للجامعة ولا عشرة مثلها أن تقف أمام اجتياح وحش ألماني أو وحش سوفيتي فما كان لها أن تؤدي دورها إلا لأن تصاريف وتوازنات الدول (التنظيمات) سمحت لها بالبقاء. ويمكننا أن نتحدث عن مجهودات تأسيس المراكز الإسلامية في الشرق والغرب، عن مشاريع خيرية في الداخل والخارج.. لتفعل الجماعات الوسيطة ما شاءت، تستطيع "الدولة / التنظيم الأقوى" أن تنهي كل هذا بجرة قلم، وقد فعلت.
إن بقاء كل مجهودات الجماعات الوسيطة هذه مرهون بسماح التنظيم الأقوى (الدولة) بهذا الوجود.
(3)الدولة: التنظيم القاهر للجماعات الوسيطة
ولهذا كانت حاجة كل الحركات التغييرية إلى الوصول إلى السلطة حاجة ضرورية وملحة، والحركات التي عملت في إطار السلطات القائمة إما أنها ليست حركات تغييرية أو أنها حركات انحرفت عن طريق التغيير لتبقى في مربع التعايش مع الأنظمة القائمة.
ولهذا فإن كل دولة بدأت فإنما اعتمدت على تنظيم، حتى لو كان هذا التنظيم هو "القبيلة"، فالقبيلة هي نوع بسيط من أنواع التنظيم فيه القيادة والملأ ووجهاء القوم ثم أتباع كثيرون، وقد قامت دولة الإسلام اعتمادا على الأنصار –الأوس والخزرج- ثم قامت دولة الراشدين اعتمادا على عصبة قريش (التي لا يقبل الناس غيرها في ذلك الوقت) ثم قامت الدولة الأموية بتنازل الحسن (ممثل عصبة بني هاشم) لمعاوية (ممثل عصبة بني أمية) وهو انتقال في إطار ذات العصبة القرشية. ثم جاء التنظيم العباسي لينتظم عصبة من آل البيت حتى يقيموا الدولة، وهكذا سائر الدول.. فبدعوة أبي عبد الله الشيعي وعصبة أهل كتامة نشأ التنظيم الذي سيلد الدولة العبيدية (الفاطمية) وبدعوة ابن ياسين وعصبة الصنهاجيين نشأ التنظيم الذي سيلد دولة المرابطين، وبدعوة ابن تومرت وعصبة المصامدة نشأ التنظيم الذي سيلد دولة الموحدين.. ولو شئنا الإطالة فالأمثلة غزيرة.
والمقصد من هذه الأمثلة التأكيد على أمرين؛ الأول: أن فكرة الجماعة الوسيطة لو كانت كافية في حسم التغيير لاكتفى الدعاة بها، ولكنها لم تكن كذلك فكان التنظيم هو الحل لإزالة التنظيم المنافس (السلطة = الدولة) القائمة. والثاني: أن الجماعات الوسيطة لم تتبدل مع تبدل الدول وتغيرها، وهذا وإن كان تميزا من جانب استمرار الأمة وحضارتها، إلا أنه دليل على أن هذه الجماعات الوسيطة ليست شيئا كبيرا في معادلة السلطة والحكم والتغيير الحاسم الحقيقي.
ولما جاء عصر الدولة المركزية بتغيراته الهائلة (وأبرزها في سياقنا هذا: تطور الأسلحة بما صنع فارقا ضخما بين السلطة والناس، والهجرة من الريف إلى المدينة بما أضعف العشائر والقبائل وأنواع الجماعات الوسيطة وقوَّى سلطة الدولة، والتضخم في وسائل الري والزراعة والصناعة بما جعل حاجة التنمية تقتضي تدخلا واسعا للسلطة في تنظيم هذه الأمور) عاد هذا بالسلب على الجماعات الوسيطة، واستطاع ممثلو الدولة المركزية –بعد هذه التغيرات العلمية والاقتصادية والاجتماعية- من إحداث تطور حاسم في العلاقة بين الدولة والجماعات الوسيطة.. فأكلت السلطة مساحات الجماعات الوسيطة، وصارت الجماعات الوسيطة كالأسير بين يدي السلطة. واستطاع محمد علي (مثلا، في حالة مصر) أن يستولي على الأوقاف وهو الأمر الذي لم يستطعه قبله أحد من المماليك ولا العثمانيين رغم محاولاتهم ورغم أنهم نموذج لسلطة مستبدة.
لقد طرح وجود الدولة المركزية عنصرا جديدا في معادلة الحكم.. صارت كل محاولة تغيير تصطدم عمليا بالسلطة، صارت السلطة قادرة أن تتدخل في كل شأن، فتصدر تصريحا ببناء باب في جدار كما تصدر تصريحا يأذن لشيخ في صعود منبر. الحقيقة أننا في هذه اللحظة أمام سلطة لا تترك مساحة للجماعات الوسيطة.. ولئن تركت مساحة فهي تملك أخذها، كما أنها من ناحية أخرى تصنع جماعات وسيطة خاصة بها (لكن يُطلق عليها في هذه الحالة: جماعات وظيفية)، مما يعني أن أي محاولة تغيير حقيقية وفعالة لن تجد أمامها حلا سوى اللجوء لحل "التنظيم".
(4)الجماعات الوسيطة كنموذج مقاوم
يأتي سؤال مهم: هل استطاعت الجماعات الوسيطة الانتصار على سلطة مركزية (تنظيم الدولة المركزية) من قبل؟
نعم، ربما تستطيع الجماعات الوسيطة إشعال "مقاومة"، وهي في هذا مثل حرب العصابات التي ترهق الجيوش النظامية، لما لها من سيولة وخفة حركة وانعدام تنظيم.. لكن الحقيقة الصادمة كذلك أن حروب العصابات "وحدها" لا تؤدي في نهاية المطاف إلى التحرير.
إن فرنسا لم تخرج من مصر لمجرد المقاومة الشعبية المصرية –وإن كانت في غاية البسالة- بل لأن تحالفا دوليا (إنجليزيا عثمانيا) أجبرها على هذا، كذلك لم تخرج بريطانيا من مصر إلا على يد أمريكا رغم بسالة المقاومة المصرية، ولم تخرج فرنسا من الجزائر إلا على يد أمريكا رغم تضحيات الجزائريين، ولم تخرج أمريكا من فيتنام إلا بوجود الاتحاد السوفيتي رغم كل تضحيات الفيتناميين. وأنا هنا لا أقلل أبدا من شأن التضحيات، بل هي عامل أساسي في كل ما حدث، لكني في ذات الوقت لا أريد أن ننسى الجانب الآخر من الصورة وهو أن الجماعات الوسيطة لم تبلغ "وحدها" أن تحقق نصرا حاسما في أي لحظة.. هذا إن لم تنتهِ وتنهزم أمام قوة منظمة لا قبل لها به.
في حين أننا نستطيع أن نقول بالعكس.. تستطيع محصلة نتائجة القوى أن تؤدي إلى تغييرات حاسمة بدون وجود جماعات وسيطة، كما تكتب الجيوش مصائر التاريخ بغير حروب عصابات، وكما تنتصر ثورات "سلمية" لاستنادها إلى قوة دولة بعينها (فالثورة السلمية خرافة، إما أن تكون ثورة مسلحة تعتمد على قوتها الذاتية، وإما أن تكون قوتها في الدولة الداعمة لها).
ومن الحقائق كذلك أن الذين يخوضون حروب العصابات أنفسهم هم أكثر من يشعرون بحاجتهم إلى التنظيم لكي يبلغوا من عدوهم ما لا يبلغونه بأنفسهم، ولكي لا تتضارب الجهود وتتناقض.
ونستطيع أن نقول بالعكس من جهة أخرى، وهو أن (تنظيم الدولة المركزية) يستطيع القضاء على الجماعات الوسيطة قضاء مبرما، خصوصا إذا طال الزمن.. ولنا في الأندلس خير عبرة ودليل، فمع كل البسالة الأسطورية التي تمتع بها المسلمون واحتفظوا بدينهم لخمسة قرون تحت حكم الإسبان إلا أن نظامهم الاجتماعي والثقافي قد تم تدميره تماما واختفى وزال من الوجود.. ولماذا نذهب بعيدا؟! ها هو محمد علي قد دمر المجتمع المدني المصري وجماعاته الوسيطة وظلت سلالته في الحكم من بعده قرنا ونصف القرن، وها هو الاحتلال أنشأ نظاما جديدا في الدول التي نزلها (بقوة السلطة = تنظيم الدولة المركزية) فأزال ما أراد من الجماعات الوسيطة وغيَّر النظام الاجتماعي والاقتصادي وكثيرا من النظام الثقافي في البلاد التي احتلها.
وإذن فلدينا ثلاث معادلات هي:
1. الجماعات الوسيطة "وحدها" لم تحقق أبدا نصرا على (تنظيم السلطة = الدولة)
2. بينما (تنظيم السلطة = الدولة) وحده استطاع تحقيق انتصارات حاسمة على الجماعات الوسيطة
3. وحدثت تغييرات حاسمة بمجرد (تنظيم السلطة = الدولة) وحده، في ظل وجود أو اختفاء الجماعات الوسيطة.
وبمحصلة هذه المعادلات يتبين نصيب "التنظيم" ونصيب "الجماعة الوسيطة" من معادلة التغيير الحقيقي الحاسم الفعال.
وهذا ما يؤكده قول النبي "... وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"، وقول عمر بن الخطاب لزياد بن حدير: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين"، وقول عثمان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. وقد قالت العرب "الناس على دين ملوكهم".
(5)تنظيم الإخوان
بداية فإن أجواء نشأة الجماعة حكمت شكل تنظيمها، فوجودها في دولة غاب الإسلام عن مفاصلها السياسية والثقافية وبعض طبقاتها الاجتماعية اضطرها لأن تكون جماعة دعوية.. لكن هذا نصف الصورة فقط، النصف الآخر هو أن هذه الدولة واقعة تحت الاحتلال.. فلذلك كانت الجماعة جماعتين في الحقيقة: تيار علني دعوي، وتنظيم خاص سري مسلح يعمل كجهاز حربي وجهاز مخابرات بهدف مواجهة الاحتلال.
وكان لا بد –والحال هذه- من وجود هذا الشكل الهرمي بالذات للنظام الخاص السري الذي يمثل العمود الفقري والجماعة الحقيقية، فمن هنا نعلم أن الإخوان لم يختاروا الشكل الهرمي بقدر ما فُرِض عليهم، ثم إنهم منذ نشأوا حتى الآن عاشوا في أجواء اضطهاد ومطاردة جعلت الشكل الهرمي السري اضطرار لا اختيار.
صحيح أن هذا الشكل ترسخ في تصورهم حتى استعملوه في مناطق لم يكونوا فيها بحاجة إلى السرية، إلا أن هذا أيضا هو نوع من الاضطرار باعتبارات التعود وعدم ضمان استمرار حال الفسحة والأمان.
وهنا يجب أن ننبه إلى أن البنا لم يتخل عن النظام الخاص، وأن ما ورد في شأن نيته لحله أو حل الجماعة إنما هي روايات مشكوك فيها ليس هنا مجال نقدها. كذلك فإن الروايات متضاربة بشأن رؤية الهضيبي نفسه للنظام الخاص، فكما ورد عنه قوله "لا سرية في الإسلام" ورد عنه قوله "النظام الخاص بالنسبة للإخوان هو كحرفي الألف واللام (والمعنى أنه خصيصة لا تنفك لها وإلا فقدت معناها وتميزها) وإنما قلت هذا أمام من لا يجوز له أن يعلم"، وهذا الموضوع من أكثر الموضوعات التي بحثت فيها وحادثت فيها بعضا ممن عاصروا الهضيبي وأبناء من عاصروه وسمعت روايات كثيرة متناقضة، إلا أن الثابت هو أن سياسته في إدارة الجماعة منذ تولى كانت سياسة مؤسفة أدت لتدمير النظام الخاص مما جعلها فريسة سهلة لنظام عبد الناصر.. هذه السياسة ونتائجها هي التي جعلت البعض يقول بأنه اختراق ماسوني للجماعة، وبرأيي أنه لولا صموده الرهيب هذا لكانت فكرة أنه اختراق ماسوني لتدمير الجماعة هي التفسير الأقوى لما حدث.
المهم في سياق موضوعنا الآن أن مشكلة الإخوان لم تكن في بنية التنظيم نفسه، لأننا نستطيع أن نعد تنظيمات استطاعت أن تحقق مشاريعها من خلال ثورات أو انقلابات.. وإنما تبدو المشكلة برأيي في ثلاث أمور:
1. طول الأمد:
وهو ما أنتج مشكلات التنظيم التي قال بها أيمن –وأوافقه عليها- في مقاله الثالث.. ذلك أنه يجب التنبه إلى أن الدعوات الناجحة إنما حققت هدف الوصول إلى السلطة (التنظيم الأقوى) في عهد المؤسس أو في عهد تلاميذه بحد أقصى.. فإن طال الزمن بأكثر من هذا دخلت "الدعوة، الحركة، التنظيم" في مراحل الجمود والتيبس والفشل. وهو أمر لم تراعيه الجماعة بل ظلت تقول "ثمانون سنة ليست شيئا في عمر الأمم" وكأننا نكوِّن أمة لا نصنع حركة دعوية تغييرية.
2. تشوش المهمة:
مما أدى إلى تشوش الوسائل، وهو من مقتضيات وتوابع "طول الأمد"، فمن بعد اغتيال البنا، لم يكن واضحا عندهم ما هي "المهمة" التي يريدون تنفيذها، ولهذا استغرقتهم جوانب الدعوة والمقاومة كلها، فكأنهم يدعون إلى الدين من الجديد لا أنهم يكونون فريق العمل الذي يمثل الطليعة التي تشتبك مع السلطة، ولهذا استهلكوا أنفسهم في مسالك كثيرة ومتفرقة ومتباعدة، وقد رقعوا فساد الأنظمة بما فعلوه من أعمال الخير والبر لمساعدة الناس (ثم كانت السلطة تضربهم ضربة قاضية، فلا يتحرك لهم أولئك الناس الذين ساعدوهم، بل ربما ساعد أولئك الناسُ السلطةَ في ضربهم)، وأدى هذا إلى أن اجتذبت صفوفهم كثيرا من غير المؤهلين للدعوة إما لصفاتهم الشخصية أو لأوضاعهم المالية أو الاجتماعية فكانوا بهذا عبئا على الجماعة إذ استنفدوا كثيرا من مجهودها وكثَّروا البطالة الدعوية في صفوفها وأبطأوا حركتها وجعلوها مترهلة (أعددا كثيرة لكن الفَعَّالين قليل) ثم إن طول الأمد بلا تحقق إنجازات ملموسة أصابها بالجمود والتيبس وأنشأ فيها الجهاز التبريري الذي صار روحا تجعل من الإنجاز القليل نجاحا كبيرا وتجعل من طول الوقت "لا شئ في عمر الأمم" بل والأهم أنها تجعل من الفشل "ليس في الإمكان أبدع مما كان" ثم يصير هذا الذي في الإمكان هو الأصل الذي ما كان ينبغي أن يُفعل غيره، وهنا تدخل دوامات التنظير لتصنع وعيا جديدا: فيتحول الحكام من خصوم إلى محل دعوة، ومن تابعين للغرب إلى وطنيين يمكن التفاهم معهم، ويتحول العلمانيون من أعداء للمشروع الإسلامي إلى رفاق كفاح ضد الاستبداد.. وعند اللحظة التي يولد فيها مثل هذا التنظير تنحرف البوصلة ويتغير الاتجاه.
3. افتقاد القوة:
سواء القوة الذاتية التي يملكون بها أن يكونوا جزءا من معادلة السياسة والتغيير والحكم، أو القوة الداعمة التي تمثلها مظلة دولة إقليمية أو دولة كبرى، وانعدام القوة يجعل أي تنظيم مهما كان محكما ضعيف، وأي جماعة مهما كانت بارعة أسيرة لدى صاحب القوة. ولهذا كان يمكن دائما للتنظيم الأقوى منها (الدولة) أن يضربها وقتما شاء، وأن يزيل كل مكاسبها التي حازتها في أوقات الفسحة التي سمح هو أيضا بها إما لغرض في نفسه (كضرب التيارات الجهادية) أو لأنها أهون من أن تهدد حكمه.
والتنظيمات المؤثرة والفاعلة شرقا وغربا لم تخل أبدا من هذه القوة.. وأقربها لنا مكانا وزمانا: حزب الله والحوثيين.فالمشكلة ليست في بنية التنظيم نفسه، بل في "زمنه"، و"مهمته"، و"قوته".
(6)الحاجة إلى الجماعات الوسيطة
فهل معنى هذا أننا لا نحتاج إلى جماعات وسيطة؟
أبدا، ولا يمكن أن أقول هذا.. وفي مقالات كثيرة ومحاضرات سابقة كنت أفيض في شرح مزايا أن تكون الأمة فوق السلطة، وأن طبيعة النظام الإسلامي هو أنه مؤسس على "توازن القوى" بخلاف النظام الغربي المؤسس على "احتكار القوة من قبل الدولة"، مما يجعل المجتمع الإسلامي في غاية الاستقلال عن السلطة ماليا فتستمر الحضارة وإن ضعف النظام السياسي، ولا يؤثر الضعف السياسي على ضعف المجتمع، ويستمر المجتمع في المقاومة وإن انهزم الجيش الرسمي على عكس نظام الدولة المركزية الذي يعني سقوط الجيش النظامي انهيار الدولة ونهاية الحرب.. وكم حاولت بيان مزايا وفضائل هذا النظام الذي يقصر من يد السلطة ويعصم الناس من شرها وتغولها.
كل هذا وغيره وأكثر منه تحدثنا وكتبنا فيه كثيرا.. لكن هذا سياق، وهذا سياق آخر.
إن الجماعات الوسيطة ضرورية للمجتمع، ولكننا لن نستطيع إطلاق طاقاتها إلا إذا أمسكنا بهذه السلطة، فالجماعات الوسيطة لا تنجح إلا في ظل سلطة تسمح لها بالقيام بدورها أو تنسجم معها. إن المشروع السياسي الإسلامي مشروع قائم على "تمكين الأمة" وترشيد السلطة، لا على النموذج الفرعوني في السلطة الذي يستعبد الأمة (يجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم).
لو أننا الآن نعيش في ظل أنظمة مخلصة للأمة لكان للدعوة إلى استبدال الجماعات الوسيطة بالتنظيمات المقاوِمة وجه من النظر، أما ونحن نعيش في أنظمة احتلالية وفي دولة مركزية فلا مناص من تنظيمات تقاومها (وقد أثبتا في أول المقال أن السلطة –باعتبارها التنظيم الأقوى- لا تسقط إلا على يد تنظيم، داخلي كالثورة والانقلاب أو خارجي: الدولة المحتلة) وعليه فإن حل التنظيمات إنما هو هدية للأنظمة الاحتلالية بإزالة العقبة الكأداء في طريقها، مهما كان تقييمنا لهذه العقبة وقوتها.
إن مجرد التركيز على الإخوان كجماعة وتقديم الحلول لها لدليل في ذاته على أنها صاحبة الفاعلية، وصاحبة قرار مؤثر، وأنها لو سمعت لهذه النصيحة أو أخذت هذا الحل لكان الحال أفضل.. إن مناهضي التنظيمات مضطرون لمخاطبة التنظيمات في نهاية الأمر، وهذا هو عينه دليل أهمية التنظيم.
(7)متفرقات
طال المقال جدا، برغم حرصي على الاختصار في كل ما مضى، وبقيت أمور لا بد من الإشارة إليها ولو في أسطر:
إن كل الأمثلة التي ضربها أخي أيمن نصرة لفكرته لا تخرج عن أهمية الجماعات الوسيطة في خوض معركة أو الحفاظ على هوية أو تحقيق منفعة عامة لم ينهض لها أحد، وهي أمور أتفق معه فيها، لكنها لا تدل على أن الجماعات الوسيطة تستطيع تحقيق نصر كامل في حرب (ربما في جولة) أو إسقاط أنظمة فاسدة (كما حدث في ثورة العلماء على خورشيد التي نجحت في إسقاط خورشيد لكنهم اضطروا بعد ذلك للإتيان بمحمد علي: نموذج الحاكم الصالح في نفس النظام وبذات الشرعية) أو تحقيق منفعة في ظرف عصيب بشرط أن قد وُجِد من الظروف ما حافظ على هذا النموذج ولم يحاربه.
وهذه ليست مشكلتنا الآن..
كما أن العيوب التي ذكرها للتنظيمات لا تخرج عن كونها وقعت في واحدة من الثلاثة: طول الأمد، انحراف الوجهة لتشوش المهمة والغاية، انعدام القوة.
إن الصحابة حين اختاروا خليفة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عبروا عن أهمية "السلطة" في الإسلام، وأنها شيء لا يؤخر، ولهذا فإن معركة السلطة هي معركة الإصلاح الحقيقية لأن الله "يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ولأن "الناس على دين ملوكهم".. ولهذا فلا يسعنا –ونحن تحت الاحتلال بالوكالة- أن نؤخر معركة السلطة لنتحدث عن معركة تكوين المجتمع.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يمتعنا بأخي الحبيب أيمن عبد الرحيم وأن يفتح عليه من بركاته ورحماته وأن يجعله من رواد هذه الأمة والقائمين لله بالحجة في زمنه.
مقالات أخرى سابقة، يرجى مطالعتها: خلاصات في مسألة السلطة بمن نبدأ.. المجتمع أم الدولة؟
نشر في مصر العربية
Published on February 27, 2015 13:34