محمد إلهامي's Blog, page 58

August 6, 2015

ماذا قال المؤرخون الأجانب عن قناة السويس

يصنع العسكر في مصر شعبا من العبيد، لا يرون إلا ما يرى الفرعون ولا يسمعون إلا ما يسمع، والبشر –إلا القليل منهم- أتباع من غلب، ومن غرائب النفس البشرية أنها تُلبس قول القوي لباسا من قوته وسطوته، فتصدق ما يقول مهما كان غريبا، وقديما رُويت لنا قصة الملك الذي خدعه بعض حاشيته فأوهموه بقدرتهم على صناعة ثوب له من شعاع الشمس وضوء القمر، فانخدع واقتنع وخرج بين الناس عاريا وقد تملكه الوهم بأنه يرتدي هذا الثوب المبهر، وسار بين الناس فلم يملك أحد أن يقول شيئا حتى صاح صبي برئ لم يفهم سطوة القوة بعد: انظروا إني أرى الملك عاريا! فسقط الوهم وانكشف كل شيء.
ذلك الوهم نفسه يسوقه السيسي وفئة العسكر بمشروع تفريعة قناة السويس الذي لا تبدو له بعد التدقيق أية فوائد إلا مزيد حماية لإسرائيل، بتوسيع القناة التي هي العازل المائي المشؤوم الذي فصل أرض مصر وعزل سيناء عن الوادي ومثَّل خطا حربيا دفاعيا متقدما لإسرائيل، هذه القناة التي منذ نشأت تمثل واحدة من أبشع جرائم التاريخ الإنساني في حق الشعوب، وقد دفع الشعب المصري فيها ما لا يقدر بثمن: من دمائه وأمواله وحريته واستقلاله وكرامته وأمنه.. وما يزال يدفع، وسيظل كذلك!
سيظل كذلك حتى تسقط الدولة العلمانية التي نشأت في مصر منذ مائتي سنة، وساعتها سيُسمح للصبي أن يصيح بما أراد ليكتشف ذلك الجيل كم كانت جريمة قناة السويس بشعة، وهو الجيل الذي لن يهدأ حتى يسترد الثمن المناسب من دول الاستعمار البغيض!
كتبت مقاليْن في هذا الموضوع (الأول، الثاني) فوصلني سيل من الشتائم ولم يصلني رد علمي واحد، طبيعي أن عبيد الطغاة والعسكر لا يحبون التفكير ويكرهون من ينغص عليهم عبوديتهم، فأحببت أن أزيدهم رهقا بهذا المقال الثالث الذي يستعرض أقوال المؤرخين الأجانب عن هذه القناة وضررها على مصر، فتكون الحجة أبلغ، إذ ليس من بين هؤلاء إخواني أو حتى مسلم!
(1)
ونبدأ بالبريطانيين الذين كانوا أكبر المستفيدين قاطبة من قناة السويس، فبرغم هذا لم يستطع أحد تحدث عن قصة القناة –فيما أعلم- من زاوية المصلحة المصرية إلا واعترف بأنها كانت ضررا على مصر.
فهذا ريمون فلاور، في كتابه "مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر" يعتبر أن هذه القناة هي "أكبر عملية نهب فاقت كل شيء"(2)
وهذا جورج يانج، في كتابه الذي ترجم جزء منه إلى العربية وطبع بعنوان "مصر من نهاية عهد المماليك إلى نهاية عهد إسماعيل" يروي قصة القناة الاقتصادية باختصار شديد فيصل إلى نتيجة عجيبة مفادها أن الخديوي سعيد لو أنفق كل هذه الأموال على ملذاته وزخرفة قصره لكان خيرا للبلاد من إنفاقها على قناة السويس، يقول:
"وليس يخفى أن تورطه (الخديوي سعيد) في مشروع قناة السويس هو الذي دفع مصر إلى عقد أول قرض عام من بيت فريهلنج وجوشن (المالي) في لندن (1862م) وكانت شروط القرض تنذر بالشر وقد بلغ مقداره 3.3 مليون جنيه (استرليني) وفائدته 7% وثمن السهم فيه 75% ولما أدركت سعيدا الوفاة (1863م) بلغ مجموع ما على مصر من الديون الخارجية التي عقدت بشروط كهذه 10 ملايين جنيه، ولكن بعض الكتَّاب الإنجليز وبينهم لورد كرومر يقدرونها بثلاثة ملايين جنيه فقط ولكنهم يتناسون –على ما يظهر- مقدار الدين السائر.
ولما كان معظم هذه الديون إنما عُقِد للإنفاق على القناة لم يكن في فداحة هذه المبالغ الطائلة ما يمكن وقتئذ أن يُخشى منه على مستقبل الأمة المصرية من الوجهة المالية. أما من الوجهة السياسية فربما كان يكون خيرا لمصر لو أن سعيدا أنفق تلك الأموال كلها في زخرفة حجرة الاستقبال. لأن امتياز قناة السويس قد ترتب عليه أن مصالح بريطانيا في مصر بعد أن كانت مجرد إحساس معنوي غامض بما يُحتمل أن يكون لمصر من الأهمية في نظر سياسة الإمبراطورية البريطانية، قد تحولت إلى اعتبارات مادية جدا لها ارتباط بالمسائل العسكرية والتجارية مما يؤثر أكبر تأثير في قوة بريطانيا البحرية وسيادة إنجلترا في الهند. ثم إن بريطانيا كانت إلى هذه اللحظة قانعة بمنع الفرنسيين من أن تكون لهم السيطرة على القاهرة كما منعت من قبل سيطرة الروس على الآستانة. ولكن مصلحتها الحيوية صارت من الآن فصاعدا تتطلب انفرادها بالسيطرة على القاهرة دون سائر الدول الأخرى"ويرى جورج يانج أن الوقت الذي توفرت فيه عوامل نجاح المشروع كان أنحس وقت على مصر، يقول: "غرور الأسرة الحاكمة (أسرة محمد علي) وما تكدس تحت أيديها من موارد أنتجتها أعمال السخرة في مصر في خلال السنوات الأخيرة وما رأته من السهولة في عقد القروض الأجنبية إبان الأعوام الماضية كل ذلك ساعد على إنجاز المشروع في أنحس وقت بالنسبة لمصلحة الأجيال المصرية المقبلة"ويعترف الرجل بأن القناة أهم أسباب بقاء الاحتلال الإنجليزي في مصر ولكنه يدافع عن موقف قومه ويحمل المسؤولية للفرنسيين أصحاب فكرة القناة فيقول: "وغير خافٍ أن ما للقناة من الأهمية العظمى في سير العلاقات الدولية كان ولا يزال يعتبر إحدى الصعوبتين الرئيسيتين اللتين تحولان دون حصول مصر على سيادتها التامة. أما الصعوبة الثانية فهي طبعا ما للمصريين من مصالح إمبراطورية في السودان. فالقناة إذن أهم عامل في سبيل وضع مصر تحت الإدارة البريطانية مدة ربع قرن كامل. لذلك نرى من حق الإنجليز أن يعلنوا على رؤوس الأشهاد أنهم لم يلزموا مصر بحفرها"(3)
وتنقل الكاتبة الروسية جالينا نيكيتينا في كتابها "قناة السويس ملكية وطنية للشعب المصري" -وهو كتاب تُرجم إلى العربية وصدر في القاهرة ضمن حملة إثبات حق مصر في القناة- قول المؤرخ والناشر الإنجليزي المعروف إدوارد ديزي: "لم يحدث أبدا أن مُنِح امتياز يكفل مثل تلك المزايا للحاصل عليه، ويلقي مثل تلك الأعباء والتكاليف على عاتق من أصدره، مثل الامتياز الذي منحه سعيد باشا لشركة السويس"(4)
ونذهب إلى رواية القنصل الأمريكي في مصر حينذاك، ألبرت فارمان، وقد وضع مذكراته في كتاب ترجم إلى العربية ونشر بعنوان "مصر..وكيف غُدر بها"، خصص منه فصلا لمأساة قناة السويس، وبعد أن ذكر القصة المريرة في جانب الأموال وحدها قال في الختام:
"بالرغم من كل هذه التضحيات وبذل المال لم تحصل مصر على أية منفعة، فقد كلفت القناة مصر خسائر جسيمة أثَّرت على تجارتها، إذ كانت لها تجارة برية واسعة فقدتها كلية، وتمر السفن محملة ببضائع وفيرة خلال القناة التي تشق الصحراء شرق أراضيها الزراعية، ولكنها لا تعود على مصر بالفائدة كما كانت تمر خلال البحر الأبيض المتوسط"واتخذ فارمان قصة قناة السويس المأساوية ليجمل بها وجه بلاده (أمريكا) إذ هي صاحبة مأساة أخرى في قصة أخرى لقناة أخرى هي "قناة بنما"، فيجعل بلاده خيرا للبنميين من فرنسا وإنجلترا للمصريين.

(5)
ويقول أولج فولكف في كتابه "القاهرة.. مدينة ألف ليلة وليلة" عن ضرر القناة الاقتصادي: "كان حفر قناة السويس ضربة قاضية لتجارة الترنزيت في القاهرة. فلم يعد للقاهرة من وظيفتها السابقة كمركز للتبادل التجاري وتجازة الترانزيت إلا الشطر الأول"***
هذه خمسة أقوال جمعناها بغير مجهود كبير، من كتب في متناول اليد (جميع مصادر المقال متوفرة على الانترنت مجانا للتحميل)، ومن بحث عن المزيد جاءه المزيد المرير.. ولكن أكثر الناس لا يفعلون!
نشر في ساسة بوست

ريمون فلاور: مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر ص136. ريمون فلاور: مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر ص142. جورج يانج: مصر من نهاية عهد المماليك إلى عهد إسماعيل ص196 وما بعدها. جورج يانج: مصر من نهاية عهد المماليك إلى عهد إسماعيل ص209. جورج يانج: مصر من نهاية عهد المماليك إلى عهد إسماعيل ص210 وما بعدها. جالينا نيكيتينا: قناة السويس ملكية وطنية للشعب المصري ص18. ألبرت فارمان: مصر وكيف غُدِر بها ص236. أولج فولكف: القاهرة ص148.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 06, 2015 06:40

August 4, 2015

قصة الحضارة الإسلامية

أمضى ول ديورانت أكثر من أربعين سنة في تأليف موسوعته الفريدة "قصة الحضارة" والتي تتبع فيها تاريخ الحضارة منذ نشأتها وحتى العصر الحديث، وقد طال عمر ول ديورانت حتى قارب المائة عام (ستة وتسعين عاما: 1885 – 1981م)، وخرجت موسوعته لتكون من أكثر الكتب إفادة وتوسعا، وقد كساها قلم المؤلف أسلوبا جذابا رائقا.
وُلد ول ديورانت(Will Durant) في نورث آدامز من ولاية ماساتشوستس، وتعلم في مدارس كاثوليكية، ودرس في كلية القديس بطرس (اليسوعية) وفي جامعة كولومبيا، ثم عمل بالصحافة والتدريس، وحصل على الدكتوراة في الفلسفة (1917م)، ومن أشهر كتبه –بخلاف الموسوعة- كتابه المبسط في تاريخ الفلسفة "قصة الفلسفة"، وباقي كتبه لم تشتهر في الأوساط العربية رغم ترجمتها والحصول عليها لم يعد يسيرا مثل: "عظات التاريخ"، "أبطال من التاريخ"، وبعض كتبه لم تترجم بعد!
تحدث ول ديورانت عن الحضارة الإسلامية في الجزء الثالث عشر من موسوعته "قصة الحضارة" من طبعتها العربية التي أصدرتها دار الجيل في بيروت، وصدرت منها نسخة ضمن مشروع مكتبة الأسرة، وقسمها إلى سبعة أبواب:
تحدث في الباب الأول عن محمد صلى الله عليه وسلم، فشرح حال الجزيرة العربية قبل مولده، ثم تتبع سيرته باختصار منذ بداية بعثته مرورا بالهجرة والنصر وحتى الرفيق الأعلى، ثم تحدث في الباب الثاني عن القرآن وما يحويه من عقائد وأخلاق وسياسة وما إلى ذلك، ثم تتبع في الباب الثالث الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا وشمالا، وعرض بإيجاز لدولة الأمويين والعباسيين منذ النشأة مرورا بالذروة وحتى الاضمحلال والانهيار!
ثم أفرد الباب الرابع للحديث عن الحضارة الإسلامية، وأحوال البلدان الإسلامية الاقتصادية والروحية والاجتماعية والسياسية، وتعرض لبعض الحواضر الإسلامية واصفا ما كانت عليه من النبوغ والازدهار والثقافة والحضارة، وفي الباب الخامس دخل إلى أعماق المشهد الحضاري الإسلامي فتحدث عن التعليم والطب والعلوم والفلسفة والتصوف والأدب والفنون.
ثم خصص فصلا كاملا للحديث عن الإسلام في الغرب، فتعرض لمسيرة الإسلام التي أثرت في الحضارة الغربية منذ فتح الشمال الإفريقي، وتوقف بشكل لافت عند الحضارة الأندلسية التي كانت صلة الشرق بالغرب وصلة التاريخ بالحاضر، وكذلك عند الحضارة الإسلامية في صقلية التي عاش المسلمون فيها قرنين من الزمان وكانا هما القرنان الذيْن كان لصقلية فيهما وجود على الساحة الحضارية عبر كل تاريخها.
وختم أبوابه بباب عن عظمة المسلمين واضمحلالهم، عرض فيه لبعض أعلامهم الكبار من الفلاسفة والمفكرين، وتعرض فيه لغزو المغول للعالم الإسلامي، وتوقف مستعرضا تأثير الإسلام في العالم المسيحي!
ثم نجد في تاريخه آثارا متناثرة أخرى للحضارة الإسلامية، أبرزها حين استعرض "انتقال المعارف" في مطلع عصر النهضة الأوروبية، فتحدث عن الكتب والمترجمين وما نقلوه عن الحضارة الإسلامية، وما أنشأوه من المدارس والمعاهد العلمية.
وديورانت –ككثير من المستشرقين- لا يجعل الدولة العثمانية جزءا من الحضارة الإسلامية، وذلك أن النزعة القومية التي سادت كتابة التاريخ في أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر القرن العشرين جعلت الحضارة الإسلامية مرادفة للعرب، ومن ثم فالأتراك –وإن كانوا مسلمين- إلا أنهم سياق حضاري آخر منفصل! ولقد استعرض ول ديورانت تاريخ الدولة العثمانية وآثارها في أوروبا في الأجزاء الثالث والعشرين والسادس والعشرين والثلاثين والحادي والأربعين. إلا أنه في هذا الاستعراض للتاريخ العثماني كان أقل إنصافا، وذلك يعود إلى أن المصادر التي اعتمد عليها في ذلك الوقت كانت مشبعة بروح العداء للعثمانيين إذ أن الدراسات الاستشراقية الأنضج والأفضل تحقيقا وإنصافا لم تكن قد ظهرت وانتشرت بعد. فكانت الصورة المعهودة للعثمانيين هي صورة البرابرة الأجلاف الغلاظ ذوي الطباع القاسية والقلوب الخالية من الرحمة! ولا يعني هذا أنه خلا من الإنصاف كلية، ولكن نقول بأن دراسة الحضارة الإسلامية في العصور العربية كانت أنضج وأحسن حالا من دراسة العصر العثماني.
كتاب ول ديورانت ككل كتب الغربيين والمستشرقين، فيه بعض أخطاء في التحليل والتفسير ناتج معظمها عن اختلاف الروح وقصور الفهم وغير ذلك مما يشوب الدراسات الاستشراقية، إلا أنه يظل مع هذا كتابا رائعا فريدا، وهو أحد الشهادات المهمة للحضارة الإسلامية من مؤرخ مرموق، لم يكن مسلما، فشهادته هي من قبيل (وشهد شاهد من أهلها).
تدوينة الانطلاقة لموقع هفنغتون بوست

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 04, 2015 12:01

على هامش قصة زعيم (2) العلمانية المتأسلمة

كان من أهم ما صدم الإسلاميين أثناء ثورة يناير هو موقف فئة "الممثلين التائبين" منها ومن مبارك، وقد شمل هذا الموقف عددا ممن كان الظن بهم أنهم تابوا وحسنت توبتهم فلم يُرَوْا على الشاشة منذ تابوا أبدا، أو لم يُرَوْا إلا في أعمال دينية خالصة.
إلا أن هذا الموقف نبَّه العقول إلى الحقيقة الأصيلة التي تنزل الأمور منازلها، فارتداء الحجاب والاحتجاب عن مواطن السوء هو طاعة جميلة، إلا أنه يسبقها في منهج الإسلام: العقيدة، والعقيدة هي التصور الإسلامي الشامل للدين والحياة والمصير بعد الحياة، وهي بهذا المعنى أمر شديد التعلق والارتباط بالسياسة ونظام الحكم، فالحاكم الظالم المجرم –فضلا عن الكافر أو المحارب للدين- هو أولى الناس بالدفع والمقاومة، وقد صار القتيل على يديه "سيد الشهداء". أما ارتداء الحجاب أو إطالة اللحية أو اعتزال التمثيل مع البقاء على الولاء لهذا النوع من الحاكم فهو خلل عظيم في الفهم والاعتقاد. ولا ريب أن المتبرجة أو الممثلة التي نزلت تعترض على حكم مبارك دفعا لظلمه وإجرامه خيرٌ في هذا الموطن من متحجبة معتزلة تدعمه وترجو بقاءه.
هذا في حقيقته ما يمكن أن نسميه بالعلمانية المتأسلمة، العلمانية التي لبست الحجاب أو أطالت اللحية أو حافظت على الصلاة لكنها لم تفهم ولم تعتنق مبدأ الإسلام ودوره في الحياة ونظامه في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وغيره.
ولذلك فكثير من أنماط الصوفية وأنماط السلفية تفني نفسها في معارك اللحية والحجاب، ثم هي ذاتها أذرع ضاربة للأنظمة المستبدة التي تحارب الدين وتخدم أعدائه من اليهود والصليبيين!
تلك الأنماط من التدين تكون أشد استعصاءا على المصلحين من المذنبين المجاهرين بذنوبهم، وهي أشد خطرا من مجرد الذنب، وقد اضطرد في أقوال العلماء أن البدعة أشد من المعصية، إذ صاحب البدعة يفعلها وهو يتقرب بها إلى الله، وصاحب الذنب يفعله وهو يعرف أنه ذنب!
يورد مؤلفا كتاب "قصة زعيم"، حكاية تستحق التوقف عندها على لسان تحسين دندار مرافق أردوغان في حملة انتخابات تكميلية بلدية عام 1986م:
"ذهبنا إلى جامع (سيد نظام)، وخططنا لأن نصلي هناك، إلا أننا تأخرنا كثيرا بسبب ازدحام الطريق، وعندما وصلنا إلى الجامع وجدنا الجماعة قد انتهت وانفض المصلون. ورأينا إلى جانب الجامع رجلا مسنا ذا لحية. فقال له أردوغان: السلام عليكم يا عمي الحاج. غير أن الرجل كان في عالم آخر.
فأراد أردوغان أن يجرب حظه مرة أخرى فلم يتلقّ جوابا أيضا، إذ أصرّ الرجل العجوز على الصمت وعدم رد السلام. وعندما غضب أردوغان وقال له: يا عمي الحاج ألقينا عليك سلام الله فلم تنظر حتى إلى وجوهنا، فما يضيرك لو رددت السلام وقلت وعليكم السلام؟ فقال العجوز: أنا أنتمي إلى حزب الوطن الأم ولا أعطيكم صوتي في الانتخابات.
فقال له أردوغان: لا عليك، هلا دعوتنا إلى شرب الشاي عندك؟
فأجاب العجوز: كلا.
وعندها تحول الأمر إلى عناد، وقال له أردوغان: حسنا، نحن ندعوك إلى احتساء الشاي. فأجاب العجوز: لا، أنا لا أشرب شايكم.
وفي تلك الأثناء سمعنا صوتا ينادينا من على الجانب الآخر من الشارع ويقول: يا ريّس يا ريّس. فتركنا العجوز وتوجهنا نحو صاحب الصوت. وقال صاحب الصوت لنا: أنا تاجر أعمل هنا، وأتابعكما منذ عشر دقائق، وحسب ما رأيت فأنتم لم تفلحوا في دخول قلب ذلك العجوز. فإن لم يكن لديكم مانع تفضلوا إلى متجري واشربوا الشاي معي.
فنظرتُ إلى المكان الذي يسميه الرجل متجرا فإذا به قد كُتِب عليه (متجر بيرة) فقال أردوغان: بكل سرور. ولعلها المرة الأولى التي يدخل فيها محلا يبيع الخمور، ولكنه قبل الدعوة من دون أي تردد. أما عن داخل المتجر فلا يمكنني أن أصف لكم كيف كانت رائحة الأدخنة والخمور العتيقة تلف المكان، وكيف كان مكانا لا يعرف الهواء طريقة لدخوله إلا من منفذ ضيق من جانب واحد. ولكن، ولا أقول إلا صدقا، أنا لم أر احتراما أو ضيافة في مكان ما مثلما رأيت من أولئك السكارى، كانوا يأتون ويسلمون علينا فيحتضوننا ويُقَبِّلوننا. وكنت كلما حاولت أن أبتعد عنهم خشية أن يلطحني لعابهم أو أشم رائحة الخمر، كان أردوغان ينحني على أذني ويحذرني ويقول لي: تحمّل تحمّل، الرجل سيحتضنك وأنت أيضا ستحضنه، لن يؤدي ذلك إلى موتك، فإنك في النهاية ستخرج وتنفض ملابسك إلى أن تصل إلى المنزل.وكلما تحدث أردوغان أقبل عليه أولئك المخمورون والدموع تنهال من عيونهم وقالوا له: يا ريّس لقد ضِعْنا ولم يعد فينا أمل أو رجاء، فلا عليك بنا ولكن أنقذ أطفالنا وصغارنا من الضياع.
مكثنا ساعتين في تلك الخمارة في ظروف صعبة، وإن لم نطلب الإذن بالخروج لبقينا على الأقل ساعتين، فقد كانوا يستمعون بحرارة وشوق إلى أردوغان.
وفي الطريق فكرتُ في سرّي: يا "تحسين"، إننا نتجول ونزور أماكن غير صحيحة ونبذل جهودنا سدى في صحون الجوامع وأفنيتها، بينما يرتاد الذين يحتاجون إلينا حقا هذه الأماكن"يبدو أنها قصة المصلحين جميعا..
إن الدعوات التي بدأت من المساجد وحدها لم تبرحها في غالب الأحوال، بل ظلت تراوح مكانها فيها، وتجتذب إليها أنصارها من أهلها، ثم جعلت قضيتها ورسالتها علمية كلامية تنحصر في طلب العلم الشرعي وجمع مسائله، أو جعلت رسالتها تربوية روحية تنحصر في أحوال القرب والكشف والمقام.
بينما الدعوات التي طار صيتها وصار لها أثر في عالم الناس بدأت من المقاهي والنوادي ومجالس الناس، ورحم الله الإمام البنا الذي بدأ من المقاهي وزاحم "الحكواتية" فيها وصار جل جمهور دعوته من "الأفندية" لا من "الأزاهرة"، فجمع إليه أشتات الموظفين والعمال والطلاب والفلاحين والفتوات والصحافيين وبعض السياسيين والعسكريين والشرطيين وغيرهم.
وإني لأشهد أن جلَّ وصية الشيخ حازم أبو إسماعيل –فك الله أسره- لفرق عمله هو مخاطبة "الشباب على نواصي الشوارع وفي المقاهي"، وكان لا يفرح بشيء كفرحه باجتذاب هؤلاء الناس إليه، وكان يستكثر من رواية قصة أبيه رحمه الله في اجتذاب أمثال هؤلاء إلى ساحة الدين والعمل له.
وهذا وهذا وغيرهم إنما يتأسى بالمصلح الأعظم: محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يغشى الناس في أنديتهم ومجالسهم فيدعوهم إلى الله!
لربما كان يصح البدء من المساجد في زمن قوة الدولة الإسلامية، إذ المساجد حينئذ تجتذب صفوة الناس وزهرتهم، أما في زمن الحكومات التي خربت المساجد وسيطرت عليها وسلطت عليها العيون والرقباء وأفسدت أئمتها ومناهج تعليمهم.. نقول: في مثل هذا الزمن لن يكون صفوة الناس وزهرتهم بالضرورة في المساجد، بل إن بعض سكنى المساجد هؤلاء لم يسكنها إلا بعد أن رضيت عنه السلطة أو لما اطمأنت إليه وصارت لا تخشى منه!
ولا ينبغي أن يُفهم من هذا دعوة إلى هجر المساجد وأهلها، أبدا.. إنما هو حديث عن البداية والانطلاقة فقط، ثم لن يتكون من يحمل هم الدين على عاتقه إلا في المساجد التي يذوق فيها العبادة وطعم الجماعة ويسمع فيها ترتيل القرآن ويتعلق بها قلبه.
وها هي الحوادث تثبت أن شباب المساجد هم من يقاومون الجبابرة في ثبات ورسوخ وإن نزلت بهم الأهوال، بينما شباب الأحزاب الذين لم يمروا على المساجد قد عادوا عند الصدمة والأزمة إلى بيوتهم أو هاجروا وطووا صحيفة نضالهم مكتفين بالسكوت إن لم يتحولوا إلى منافقين.
اقرأ: على هامش قصة زعيم (1) الطاقات المسفوكة
نشر في تركيا بوست 

حسن بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص111، 112.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 04, 2015 08:42

August 1, 2015

قناة السويس.. هل تضحي مصر بنفسها خدمة للأجانب؟!

في مثل هذا اليوم (31 يوليو 1981م) انفجرت طائرة عمر توريخوس رئيس بنما، في واحدة من عمليات الاغتيال الناجحة التي دبرتها المخابرات الأمريكية ضد المعادين لسياستها.
قصة عمر توريخوس يمكن إيجازها ببساطة في قصة "قناة بنما".. وهي قصة سنحتاج أن نعرج إليها في حديثنا عن قصة قناة السويس.
(1)
أثار مقالي الأخير على هذا الموقع انتقادا وهجوما كبيرا، لا سيما بعدما حقق معدلا عاليا من القراءات وأعادت نشره عدد من المواقع، لم يكن هذا مفاجئا بطبيعة الحال، وإنما سارت سنة الناس أن يندفعوا لمهاجمة ما يثير استغرابهم، وفي مصر –ومنذ نحو قرن ونصف القرن- لم تسمح السياسة بمناقشة حقيقية لفوائد وأضرار قناة السويس، بل على العكس: صارت القناة منذ أنشئت واحدة من "المقدسات الوطنية" التي لا ينبغي الحديث عنها إلا بالإعجاب والتقدير. وينسى الجميع أننا منذ حُفِرت القناة ونحن تحت الهيمنة الأجنبية المباشرة (كما في عصر الاحتلال الإنجليزي) أو غير المباشرة (كما في عصر الأسرة العلوية ثم عصر العسكر)، وأن كل الحكومات الوطنية التي حكمت مصر منذ عهد الفراعنة وحتى عصر الخديوي عباس رفضوا تماما فكرة إنشاء قناة تربط البحرين الأبيض والمتوسط لما لها من أضرار بالغة على مصر وأهلها.
وفي جلسة مع بعض الأصدقاء الذين لم يُخفوا مفاجأتهم مما حكيتُ عن تاريخ القناة، كان السؤال الأبرز: فما العمل الآن؟ يستحيل طبعا أن نفكر في ردم القناة، فكيف يكون الحل؟
وقبل أن أجيب على هذا السؤال سأعود إلى قصة الجنرال عمر توريخوس رئيس بنما!
(2)
أصل القصة أن دولة بنما -في أمريكا اللاتينية، وهي الشريط البري الواصل بين الأمريكتين- أخرجت الرئيس الوطني عمر توريخوس، كان عسكريا وقاد انقلابا عسكريا وصل به إلى زعامة البلاد، ولكنه لم يكن من تلك الانقلابات التي دبرتها المخابرات الأمريكية، كان وسطا بين الإصلاحية والثورية، لم يحاول أن يلبس ثياب جيفارا أو كاسترو أو يجهر بمعاداة أمريكا واستضاف شاه إيران عندما كان وجوده في أمريكا يثير المتاعب مع ثورة الخميني. ولكنه في ذات الوقت لم يَرْضَ أن يكون تابعا لها ولا رجلها في بنما، وكان يقظا لمحاولات سيطرة الشركات العالمية على موارد بلاده فلم يسمح باتفاقيات مجحفة بالفقراء وإن سمح بنوع اتفاقيات أفضل كثيرا (كما روى ذلك جون بركنز، رجل الاقتصاد الذي أعجب به ونفذ معه عددا من الاتفاقيات ممثلا لشركة MAIN العملاقة، في كتابه: الاغتيال الاقتصادي للأمم).
إلا أن أهم إنجازات عمر توريخوس هو إصراره على استعادة بلاده للسيطرة على قناة بنما، التي تمر في أراضيها ولكنها تحت السيادة الأمريكية، وإغلاق المدرسة الحربية الأمريكية التي تقع على ضفاف هذه القناة ويجري فيها تدريب العسكريين الذين يُصَنَّعون فيها كعملاء لأمريكا ليكونوا فيما بعد حُكَّاما مستبدين لبلادهم وفيها تتدرب فرق الموت للقيام بالعمليات القذرة ضد المعادين لسياسة أمريكا، والقاعدة العسكرية الأمريكية "قاعدة الكومانذوز الجنوبية في المركز الحربي الاستوائي".
وقد خاض عمر توريخوس معارك سياسة مع أمريكا -مع الفارق الضخم في القوة- واستطاع أن يتوصل إلى اتفاق مع كارتر لإعادة القناة وإغلاق المدرسة العسكرية الأمريكية بعد أن هدد أنه ربما يضطر إلى تفجير سد جاتون على قناة بنما لتتوقف الملاحة في القناة، وعمل على حفر قناة جديدة بالتعاون مع اليابانيين. إلا أن ريجان -الذي خلف كارتر- لم يَرُقْ له ما قد كان، فأَصَرَّ على عودة الأمور كما كانت، وبالطبع كان هذا مستحيلا لدى توريخوس، فكانت نهايته بالاغتيال في تفجير طائرته في مثل هذا اليوم (31/7/1981م). وتنصيب عميلهم "نورويجا" الذي لم يستطع هو الآخر تحقيق كل مطالب الأمريكان ولا النزول الكامل من السقف الذي وصل إليه توريخوس، فلم يتردد ريجان عن قصف بنما بالطائرات واختطاف نورويجا ومحاكمته في أمريكا في مشهد يكون به عبرة لكل من يفكر في الوقوف أمام الغول الأمريكي.
(3)نعود إلى سؤال: ما الحل؟ وما العمل؟
لقد رأينا كيف هدَّد عمر توريخوس بتفجير سد جاتون على قناة بنما ووقف الملاحة فيها إن لم تعد لسيادة بنما، ولم يجادل أحد في أن هذا عمل ثوري ووطني! فما من بلد وما من حركة جهاد وتحرر إلا وهي تنظر لمواردها في ضوء انتفاعها بها، فإن لم يكن نفعها لعدوها لم تبال بتدمير هذه الموارد، وهذه سنة مضطردة لا تتخلف (انظر هنا بعض التجارب التاريخية المتنوعة). وقد سخر عبد الرحمن الرافعي –مؤرخ مصر الحديثة- سخرية مريرة من خدعة أن قناة السويس "خدمة للإنسانية"، وقال بأنه لا توجد أمة تفرط في استقلالها وكرامتها خدمة للإنسانية!! فكيف وحقيقة الأمر أنها خدمة للأجانب الأعداء وليس للإنسانية؟!!
وتلزمنا أمانة البحث العلمي أن نقول ما نراه وافيا في موضوع الحل وإن كان بعضه يبدو بعيد المدى.
وأول مراحل حل هذه المعضلة هو التوعية:
إذ يجب أن يزال هذا التراكم التاريخي الزائف حول منافع قناة السويس لمصر، وإبراز الحقيقة التاريخية الأصيلة التي نطق بها مؤرخون لا شك في وطنيتهم بل ومؤرخون أجانب لا مصلحة لهم من أن قناة السويس عمل يضر بمصر ضررا بالغا:
-       إن على المستوى الاقتصادي بحرمانها من أن تكون مقرا للتبادل التجاري وجعلها مجرد ممر بدلا من ذلك
-       وإن على المستوى العسكري بإيجاد مانع مائي يفصل بين أراضيها ويعزل أرض سيناء عن أرض الوادي وهو الضرر العسكري الذي عانت منه مصر واقعيا في ثلاثة حروب على الأقل (1956، 1967، 1973) حتى صار الإنجاز العسكري المصري الوحيد في تاريخ جيشها هو النجاح في "عبور القناة"، ويزيد هذا الخطر العسكري في ظل وجود إسرائيل واحتياجها لمنطقة عازلة (على نحو ما فصَّلناه في المقال الماضي)
-       وإن على المستوى السياسي الذي جعل مصر مركزا للتنافس الاستعماري منذ نشأتها، وجعل كل مفاوضات الاستقلال ثم كل اتفاقيات ما بعد الاستقلال ثم معاهدات الحروب تتوقف أو تتعثر أو نتنازل فيها عن صميم حقوقنا من أجل القناة وضمان أمان الملاحة فيها وإتاحتها لكل أنواع السفن مهما كانت تابعة لدولة معادية أو تهدد المصالح المصرية أو العربية والإسلامية أو تحمل مواد ضارة بالبيئة أو بالثروة المصرية.
لا يليق بحال أن تشرب الصفوة المصرية خدعة فائدة القناة وأن تتمسك بها باعتبارها مقدسا وطنيا، بل يجب أن يكون الشعب وقادته على وعي بخطورة هذه القناة وأضرارها وإن عجزوا عن الحل الشافي أو النهائي لمشكلة القناة. وأن ينتشر الوعي بوضع القناة وتاريخها وتأثيرها على البلاد بين الناس وفي المقام الأول بين ممثلي الشعب ونخبته وقادته.
وثاني مراحل الحل هو: التنمية
وذلك ما سعى إليه الدكتور محمد مرسي أثناء فترة ولايته، فلئن كان العجز قائما في تلك اللحظة عن إزالة القناة فلا بد من تعظيم وتكثيف الوجود البشري والعمراني والاقتصادي حولها، فهذا التعمير للقناة هو الذي يقلل أضرار وجودها ويعيد الاتصال بين سيناء والوادي، ولهذا السبب تحديدا يقف في وجه مشروع القناة كل كاره لمصر ومصالحها، بدءا بإسرائيل التي تلزمها قواعد الأمن أن تحافظ على سيناء جرداء خالية وصحراء معزولة، وقد حدثني أحد أعضاء لجنة الأمن القومي بالبرلمان المنتخب أن العسكريين المصريين كانوا يرفضون صراحة أي تنمية لمحور قناة السويس وأي زيادة في الوجود العمراني والبشري في سيناء بزعم أن هذا يعيق حركتهم العسكرية إن كان ثمة احتلال إسرائيلي لسيناء، وهذا كذب فج أبله، فإن أول ما يعيق الاحتلال هو الكثافة البشرية، خصوصا إذا كان الجيش معروفا ومشهورا بالهزائم والانسحابات بدون قتال حتى إن مساحة سيناء العظيمة يبتلعها الإسرائيليون في ساعات!!ولهذا يجب أن يخشى المصريون جميعا من أي محاولات توسيع للقناة أو زيادة لتفريعاتها، فإن هذا يزيد من حجم المانع المائي والانفصال بين الأراضي المصرية، ويصعب أكثر إمكانية عبور القناة في أي وقت قادم، لأن كل زيادة في عرض القناة تساوي استحالة أكثر لإمكانية عبورها وتحقيق مفاجأة كالتي كانت في لحظة العبور الأولى في 1973م.. وهذا التوسيع وزيادة التفريعات هو ما يفعله عبد الفتاح السيسي الآن!
ولمزيد من بيان خطورة هذا العازل المائي يكفي أن تنظر إلى إسرائيل التي تستطيع إقامة قناة في أراضيها بين البحرين المتوسط والأحمر، لكنها رغم كل ما تشيعه عن نواياها في هذا الشأن لم تفعله أبدا.
إلا أني أعود وأقول بأن محور التنمية هذا لن يتم إلا بعد امتلاك المصريون لسيادتهم على بلادهم وأن يكون رئيسهم وطنيا ومنتخبا ومعبرا عن مصالحهم، لا عسكريا انقلابيا جاء بدعم الخارج فهو يعبر عن مصالح العدو ويستميت في الحفاظ عليها.. وبيننا وبين الوصول إلى هذا الرئيس المنتخب وامتلاك السيادة الحقيقية على البلد ثورة مريرة وجهاد طويل ومعاناة لا محيص عنها، فإن الحقوق تنتزع، وإن الغرب لن يفرط في الهيمنة على مصر بسهولة.
وثالث مراحل الحل: هو إزالة القناة وردمها
وهذا حل تسوق إليه المعطيات التاريخية، وأول وآخر تفكير فيه كان للبطل أحمد عرابي، وهو آخر قائد وطني حقيقي للجيش المصري، وكل من تولى القيادة العامة للجيش المصري منذ ذلك الوقت وحتى الآن إما كان عميلا أو مغفلا أو ضعيفا، وقد حال السادات دون وصول رجل كسعد الشاذلي إلى قيادة الجيش وأتى برجله الضعيف أحمد إسماعيل ليكون طوع أمره وقد كان، وساهم في تدمير الجيش المصري في أكتوبر حتى انتهى النصر العسكري الذي تحقق أول أيام الحرب إلى نصف نصر عسكري وهزيمة سياسية كاملة.
ويكاد يتفق المؤرخون أن عرابي لو أغلق القناة لما استطاع الإنجليز احتلال مصر بحال، ولو تخيلنا تاريخ مصر بدون القناة فلا شك في أن دماء غزيرة كانت ستُحقن وأموالا طائلة كانت ستُصان ووضعا سياسيا واقتصاديا آخر كان سيكون!

وتلزم أمانة البحث أيضا أن أقول: إن هذا الحل تسوق إليه المعطيات التاريخية، فهو حل من وجهة نظر تاريخية فحسب، ولكنه يحتاج بحثا جادا متعدد التخصصات: السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاستراتيجية لمناقشة الفائدة أو الضرر من بقاء القناة أو إزالتها.
نشر في نون بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 01, 2015 10:36

July 31, 2015

مراحل بناء المسلم (5) اليأس.. حرام

اقرأ أولا:
مراحل بناء المسلم (1) كل مسلم مسؤول مراحل بناء المسلم (2) استقلال الشخصية مراحل بناء المسلم (3) التكوين الأخلاقي مراحل بناء المسلم (4) التكليفات المتكاملة
وآخر ما نلحظ في "التكليفات الفردية" هو حرمة اليأس؛ إذ يحرم على المسلم الانسحاب من مهمة إصلاح الحياة، والانهزام أمام ضغوط الواقع وقهر الظروف؛ بل إنه مأمور باستعمال سنن الله I في مغالبتها، والصبر عليها.
إن الإسلام يسلح المسلم بأخلاق التوكل على الله والصبر على الأذى فيه: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 9، 10]، وفي وصية لقمان لابنه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، والمسلم -في هذا- يقتدي بتاريخ الأنبياء وصحابتهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
والمسلم يقرأ في سيرة النبي r كيف كان أول من أوذي في سبيل الله؛ فعن أنس أن النبي r قال: "لقد أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يُؤْذى أحد، ولقد أتَتْ عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيءٌ يواريه إبط بلال"(كما ويعلم المسلم كيف كان صحابته الكرام أثبت الناس تحت عذاب المشركين، حتى رسخت قواعد الإسلام، ونشأت دولته في المدينة بعد ثلاثة عشر عامًا من العذاب والعنت والتضييق، ويحفظ أسماء بلال بن رباح وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وأمه سمية.. وغيرهم، ويعلم ما تحملوه من العذاب الرهيب، فلو كان لليأس مكان في الرسالة لما صبر أهلها ثلاثة عشر عامًا؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إننا لم نر النبي r غاضبًا إلا حين بدا ضجر من سيدنا خباب بن الأرت t مما نزل بهم من العذاب فذهب إلى النبي وقال: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال r: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجْعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشَقُّ باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"(ولقد استعمل القرآن الكريم والنبي r بشائر انتصار الإسلام في تثبيت المؤمنين على ما ينزل بهم من ابتلاء سواء في بداية الدعوة أو في بناء الدولة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21]، وقَصَّ الله على المؤمنين كيف نجى أنبياءه من أعدائهم وكيف نصرهم عليهم: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] وبمثل ذلك وعد الله المؤمنين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].والمسلم استنادًا إلى عقيدته في الله القوي العزيز، وبعلمه بسيرة الأنبياء والمصلحين وببشارات الله والنبي لما سيبلغه الإسلام في المشرق والمغرب، يعلم أن اليأس من صفات الكافرين: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وكفى بهذا الوصف حاجزًا بين المسلم وبين اليأس!
لقد أمر الإسلام بالعمل حتى اللحظة الأخيرة في الدنيا، فقال r: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"(وقد وصف القرآن شخصية من يصيبه اليأس بالطيش والتقلب قائلاً: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83]، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 9 - 11].
كما حرص الإسلام على محاربة التثبيط ونشر اليأس، وأنكر القرآن على من قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}، وأثنى على من قالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وأنعم على المجاهدين بأنه أقعد المنافقين فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وقال رسول الله r: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أَهْلَكَهم" -أو قال: "أهْلَكُهُم"(وكان الانتحار -وهو آخر مراتب اليأس- من أكبر الكبائر في الإسلام، "وقد قرر الفقهاء أن المنتحر أعظم وزرًا من قاتل غيره، وهو فاسق وباغ على نفسه، حتى قال بعضهم: لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه كالبغاة، وقيل: لا تقبل توبته تغليظًا عليه، كما أن ظاهر بعض الأحاديث يدل على خلوده في النار"(لكل ما سبق، كان اليأس أبعد ما يكون من أخلاق المسلمين؛ ومن ثم كان استشعارهم المسئولية دافعًا لهم إلى العمل، ثم العمل، ثم التغلب على معوقات العمل حتى تزول.
***
مما سبق –في هذه المقالات الخمس- نرى أن "التكليفات الفردية" التي جاء بها الإسلام قد حققت الأمور الخمسة:
1.    فليس في الإسلام عاطل أو مهمل، بل الكل مكلف مسئول وله دور في مهمة الإصلاح.
2.    والمسلم شخص مستقل متحرر من تقاليد الماضي وأعرافه الموروثة، ومن ضغوط الحاضر وقيوده وعوائقه.
3.    ويتخلق بالأخلاق الحسنة في نفسه ومع الناس.
4.    وإن بدر منه خطأ أو زلل وجد من يستدرك عليه أو استدرك هو على غيره بما سميناه "التكليفات المتكاملة".
5.    ومتسلح بالصبر والتوكل على الله فمنعه ذلك من اليأس والقنوط والانهزام أمام الواقع.
نشر في ساسة بوست

([1])أحمد (12233)، الترمذي (2472)، وابن ماجه (151)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. ([2])ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/321، وتبدو رواية الثمانية غير مقبولة؛ إذ يتنافى هذا العدد عقلاً مع القدرة على صناعة سفينة كبيرة تضم زوجين من كل المخلوقات. ([3])البخاري (5420)، ومسلم (220). ([4])البخاري (3416). ([5])أحمد (13004) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. والبخاري في الأدب المفرد (479)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد. ([6])محمد قطب: قبسات من الرسول ص27. ([7])مسلم (2623). ([8])البخاري (69)، ومسلم (1732). ([9])الموسوعة الفقهية الكويتية 6/283، 284. ([10])البخاري (5442)، ومسلم (109). ([11])البخاري (1298).
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 31, 2015 01:17

July 28, 2015

على هامش قصة زعيم (1) الطاقات المسفوكة

أشهر كتاب تحدث عن تجربة أردوغان فيما أعلم هو كتاب "رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم" لمؤلفيْه: حسن بسلي وعمر أوزباي، وربما نفرد مقالا مستقلا عن الكتاب ومنهجه فيما بعد، إلا أن الأوْلى في تلك اللحظة أن نبصر في القصة أمورا نحتاج للتوقف عندها مليَّا.. هذه السطور القادمة تسجل شيئا من أزمة: الطاقات المسفوكة.
وإنه بقدر ما تزخر الشعوب الإسلامية بالطاقات الهائلة، بل بقدر ما تزخر الحركة الإسلامية بالكثير منها، إلا أن عوائق كثيرة –أهمها: فكرية ونفسية- تحول دون استثمار هذه الطاقات، فيما لا يضنّ العدو بالتخلي عن أي طاقة مهما صغرت، ويمكن أن نضرب مثلا بالمشهد السوري الذي يقتتل فيه فصائل من تيار فكري واحد "السلفية الجهادية" وأمامهم عدو إيراني اثنا عشري يدعم عدوهم النصيْري بكل ما يملك، رغم ما هو معروف من أن الاثنا عشرية يكفرون النصيْرية من فرط غلوهم!
(1)
استطاعت القوى الغربية أن تهزمنا وتسيطر على بلادنا وتفرض علينا أنظمتها التي لا شك في تناقضها مع ديننا وأصولنا وثوابتنا، وفيما أدرك الجميع مدى ما هو قائم من هذا التناقض إلا أن بعض المصلحين وأهل الدين وقف مكانه يكتفي بالإشارة إلى التناقض، فيرفض مزاحمة هذه الأنظمة في ما يُتاح من مساحات كالإعلام والانتخابات وأعمال النقابات والجمعيات، رفضا للدخول تحت مظلة "الدستور والقوانين الوضعية"، ثم هم لم يقدموا حلا لرفع هذه الهيمنة وهذا الاحتلال، في مشهد غريب تقول خلاصته: الإسلام ليس صالحا لكل زمان ومكان، وها هو العدو قد استطاع هزيمته ولا يجد أنصاره شيئا يفعلونه لإعادة شأنه.
بل لقد كان هؤلاء في غالب الأحيان طعنة في ظهر من حاول نزول الساحة ومقاومة هذه الأنظمة بما يُتاح.. يرمونهم بالتهم التي تبدأ بالكفر وتمر بالبدعة ولا تقف عند المعصية!
وهنا تُسفك الطاقات ثلاث مرات: مرة بحذف طاقات هائلة من معركة التغيير ومقاومة الأنظمة المتغربة، ومرة بصرفها نحو إثبات الثابت وتوضيح الواضح وهو بذل المجهود في بيان التناقض بين الإسلام والأنظمة القائمة، ومرة بتوجيه هذه الطاقة للطعن فيمن يزاحم ويجاهد.
في تركيا تكرر هذا المشهد على هذا النحو:
"ظهرت حركة (الفكر الوطني) على الساحة السياسية مع ظهور (حزب النظام الوطني) ثم تابعت الحركة مسيرتها مع تأسيس (حزب السلامة الوطني).
وكانت الغالبية العظمى من شباب الإسلاميين، سواء أكانوا على علاقة بالحزب أو لا، تربطهم به علاقة قريبة في أفكارها من التفسير الراديكالي للإسلام، حيث لم يروا في حركة (الفكر الوطني) بزعامة "نجم الدين أربكان" الحركة التي تمثل الإسلام بالقدر الكافي.
وكان الاعتراض الأساسي الذي تستند إليه هذه الرؤية يتعلق بالشكوك والمخاوف من امتزاج الحركة الإسلامية بأي حزب سياسي، فضلا عن الاعتراض على مفهوم الزعامة المطلقة التي يمثلها "أربكان". ولهذا، كانت حركة (الفكر الوطني) محل انتقاد دائم من شباب الحركة الإسلامية، فقد كانت بالنسبة للبعض منهم حركة تتجاهل الصدام الموجود بين النظام السياسي القائم وبين التصور الإسلامي للكون، كما أنها كانت بالنسبة للبعض الآخر حركة تستهدف الاستيلاء على الحكم من دون أن تكون في نيتها تشكيل حكومة إسلامية، كما أنها أيضا حركة ابتعدت عن المرجعية الإسلامية بتوافقها مع مفهوم الديمقراطية الذي يخوِّل السلطة للأمة من دون قيد أو شرط"وبعض هؤلاء لا يتحرج من إلقاء تهمة الانسجام مع الغرب والتنازل عن الإسلام تفسيرا لصعودهم في الانتخابات وتحقيقهم لبعض الإنجازات، فإذا جرى انقلاب غربي عليهم وعُلِّقوا على المشانق وطُرحوا في الزنازين لم يراجع رأيه ولم يُخطِّئ نفسه بل انصرف عن المعركة، ولربما دعم قاتليهم!!
(2)
يعتبر تولي أردوغان رئاسة بلدية (باي أوغلو) في انتخابات 1989م من أهم محطاته السياسية، وبحسب ما وثق مؤلفا كتاب "رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم" فإن ترشحه في هذه الانتخابات كان قرارا فرديا أصرَّ عليه رغم معارضة حزبه (الرفاة)، وذلك أنه كان يرى أن الحزب يمكنه بتغيير بعض الأساليب والوسائل في التواصل مع الناس أن يحقق المركز الأول. وقد صححت النتائج وجهة نظره واستطاع الفوز بمقعد البلدية في هذه المنطقة التي كانت حكرا على حزب الشعب الجمهوري والتي لم تكن تعطي حزب الرفاه إلا 3% من أصواتها.
ما يهمنا في سياق هذه القصة هو ذلك الرجل الذي فتح لهم الطريق إلى حي حاجي خسرو، وقد كان ذلك الحي قلعة حزب الشعب الجمهوري ولم يكن يعطي حزب الرفاه ولا صوتا واحدا، كان ذلك الرجل يدير مكانا للعب القمار! لكنه بدافع من المروءة اختار أن يكون صاحب معركة فتح الحي اليساري أمام الشاب ذي الخمسة والثلاثين عاما المرشح عن الحزب الإسلامي "المتشدد المتطرف"!!
يقول أردوغان عن دور هذا الرجل: "لم يدخر "قدرت" جهدا، ولم يبخل بمساعدة طوال الحملة الانتخابية، ونظَّم ليلة جميلة دعا إليها من يعرف من الفنانين، ورافقنا في لقاءاتنا مع سكان الحي، وفي اجتماعاتنا معهم على المقاهي، وفتح لنا الطرق، وسهل لنا الأمور، حتى بدا كأنه أكثر اهتماما بأمرنا منا".
ويقول أيضا: "كان قدرت يرهق نفسه ويجهدها كثيرا في مساعدتنا، حتى إنه في صباح يوم الانتخابات استيقظ قبل أن تشرق الشمس، وجاء إلى مركز تنسيق الانتخابات بملابس نومه من دون أن يغيرها، وتضايق كثيرا عندما لم يجد أحدا. وكنت أتفقد صناديق الاقتراع، فنظرت، فإذا بالسيد قدرت قد وضع واحدا من رجاله على رأس كل صندوق، واتخذ تدابير أمنية حازمة. وعندما رآني تقدم نحوي، وكان الغضب لا يزال يتملكه وباديا على وجهه وقال لي: يا سيدي الرئيس! إن أصحابك لا يُصلُّون، لتكن على علم بذلك. فقلت له: خير؟ ماذا حدث؟! فقال: ذهبت في الصباح إلى مكتبكم الانتخابي فلم أجد أحدا فقلت في نفسي لعلهم الآن في صلاة الفجر ثم سيعودون إلى هنا، ولكنني انتظرت فلم يأت أحد ولم يذهب أحد... سيدي الرئيس لا يمكنك الفوز في انتخابات أو في غيرها بهؤلاء الأصدقاء".
ويسجل أردوغان "وأذكر أنه وأصدقاءه طيلة فترة الانتخابات لم تلمس شفاههم الخمر"فهذا وأمثاله من الطاقات المسفوكة التي نادرا ما يفكر الإسلاميون في استثمارها، رغم أن الأمر لم يحتج إلا إلى طرق الباب!
إن الإسلام عميق كامن في نفوس شعوبنا، أو هو كما يقول الشهيد سيد قطب:
"إن الشر ليس عميقا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحيانا. إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء، فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية، هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يُشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم، وعلى حماقاتهم كذلك، وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون".
وأضيف على قول الشهيد بأن ذلك لا يحدث في سياق الضعف بل القوة، فالناس لا يلتفتون للضعيف حين يُبدي الحنان والمودة بل يرونها من ضرورات تسول وتوسل مشاعرهم، وإنما يأسرهم ذلك من القوي، وقد أخطأ قوم ظنوا أن التودد مع الضعف يرقق قلوب الناس حتى دفعوا ثمن ذلك من دمائهم، ولو أنهم توددوا في إهاب من القوة والمهابة لكان الناس لهم جنودا أوفياء!!
نشر في تركيا بوست

حسين بسلي وعمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم ص41. السابق ص61 وما بعدها.
 •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on July 28, 2015 05:33

July 26, 2015

هل مشاركة تركيا في ضرب داعش مفاجأة؟

صديق وأخ كريم كتب منشورا، أغلب الظن أنه يعنيني به، في موضوع سكوتي عن الموقف التركي بضرب ‫داعش.. وحقيقة الأمر أني لم أفكر في كتابة شيء عن هذا الأمر لأسباب كثيرة ليس أولها أني لا أرى نفسي محللا سياسيا ينبغي أن يقول كلمة في كل موقف، ولا آخرها أني لست متابعا عن كثب للأمر.
والحمد لله ليس يستفزني طلب أحد للكتابة عن شيء أو قول شيء، إلا أن هذا المنشور وغيره دفعوني لكتابة نقاط أحسبها غائبة عن النقاش الدائر.
1. تدين الأتراك صوفي، وبين الصوفية والسلفية ما صنع الحداد، وهو إرث طويل من الخلاف لا يُتوقع حله في وقت قريب، وأشد ما على قلب التركي المتدين (حقا) أن يقال له: هذا وهابي!
2. لا يقتصر الأمر على "التدين" وحده، فالتاريخ بين الوهابيين والدولة العثمانية ملتهب كما هو معروف، والسلفيون يرون الدولة العثمانية قبورية منحرفة واقعة في الشرك بينما يراها الأتراك (حتى غير المتدين منهم) مصدر عزهم وفخرهم، فيما يرون الوهابيين من مؤامرات الإنجليز لتدمير الخلافة العثمانية.
3. والحاضر الآن ليس أقل وردية.. فالسلفية -لا سيما من هم في معسكر #داعش- لا خلاف بينهما على أن أردوغان كافر مرتد، وهم لا يكتمون ولا أحدا من أنصارهم أنهم إن أتيحت لهم الفرصة فسيدخلون تركيا ويضمونها لخلافتهم تحت ظل أمير المؤمنين "البغدادي".
4. وعلى الناحية الأخرى تركيا لا تخشى كثيرا من داعش، لأن الوضع التركي أبعد ما يكون عن تأثير داعش فيه، وبينهما حواجز اللغة (العربية التركية) والمذهب (السلفية الصوفية) والتدين (ما يزال بعد الأتراك عن الدين هو الغالب بأثر سنوات العلمانية الطويلة).. إلا أن تركيا تستفيد بطبيعة الحال من كل الأوضاع السياسية وتتعامل مع كل الأطراف، وهي ربما أبرز من استفاد من وجود داعش في أكثر من ملف، أبرزها الملف الاقتصادي (داعش تصدر البترول بثلث السعر العالمي ولا تجد منفذا سوى تركيا، وتتيح مجالا واسعا لعمليات خلفية للمهربين والمقاولين وتجار مواد البناء ونحوه).
5. أي أن العلاقة بين الطرفين أصلا علاقة نفع متبادل، فهو بالنسبة لداعش تعامل مع كفار بدافع المصلحة، وبالنسبة للأتراك تعامل مع عبثيين عدميين لا مستقبل لهم (لأنهم يعادون الجميع ولأنهم بلا حلفاء ولن يصدموا أمام أي حرب حقيقية، وبقاؤهم مرهون بترتيبات دولية لا أكثر).
6. وغني عن البيان أن أردوغان يمكن أن تفسر مواقفه على احتماليْن:
أ- الأول: أنه إسلامي على الحقيقة ولكنه في دائرة صعبة وضيقة وكان لا بد له أن يتدثر بالعلمانية ليصل إلى الحكم، غير أن سياسته تدل على إسلاميته التي سببت له متاعب كثيرة، لكنه في النهاية مقهور ومحكوم بنظام دولي أقوى منه بكثير، ثم إنه لم يستكمل التمكين داخل دولته بعد.. فهو سائر في سبيله الإسلامي ما استطاع، لكنه يخضع ويُقهر حين يصير الوضع أكبر منه ولا يملك له ردا، وكل امرئ أدرى بنفسه.
ب- الثاني: أنه علماني على الحقيقة، ولكنه سياسي ذكي، يتاجر بأحلام وآمال الشعب التركي المسلم، ويدغدغ مشاعر المسلمين بكلمات وعبارات جوفاء لا شيء وراءها، إلا أنه عند الجد وفي موقع الاختبار يكشف عن علمانيته ويقدم على الكفر بلا تردد، إلهه المصلحة وسبيله البرجماتية النفعية المحرمة. ولا مانع أن تكون أمريكا تسوقه نحو إظهار هذه "الإسلامية" تحقيقا لأهدافها.
(ولكي أريحك، مع أي الاحتمالين أنا، فأقول لك: مع الأول.. والشرح يطول وليس هذا موضع بيانه بطبيعة الحال)
7. المهم الذي يجب أن يكون واضحا: أن الطرفين يعرفان ويعترفان بعداوة كل منهما للآخر، وأنه في لحظة القدرة -أو المصلحة- لن يتردد صاحب القدرة على الفتك بالآخر..
وجاءت هذه اللحظة في الوقت الذي كان فيه الأتراك هم الأقدر والأعلى يدا وأصحاب المصلحة في الهجوم.
وأكاد أرى الذين اندفعوا لمهاجمة الموقف التركي (ولا أدينهم وأتفهم موقفهم) إذا كان البادئ بالهجوم هو داعش، فسيتقبلون هذا على أقل تقدير وربما فسروه وبرروه ودعموه وباركوه.
8. تركيا، مهما بلغت من قوة اقتصادية، لا تجرؤ بطبيعة الحال على مناقضة موقف دولي حقيقي، فهذا حقا فوق طاقتها.. ثم إنه لو أخذنا زاوية السياسي التركي فسنرى الأمور على هذا النحو:
- أردوغان العلماني: سيندفع لتحقيق مصلحته ومصلحة بلاده بالوقوف مع الأقوى والأقدر طالما تحققت له مكاسب هو يطلبها أو أوقفت أخطار ينزعج منها (أحلام الأكراد مثالا).. ثم إن داعش في كل الأحوال منهزمة أمام أي حرب حقيقية فهي لا تملك لا عمقا جغرافيا ولا دعما بشريا ولا حليفا سياسيا ومواردها لا تعزب عن يد أعدائها. بل إن الإسلاميين -بما فيهم الجهاديون- أنفسهم منقسمون حولها.
- أردوغان الإسلامي: يرى أن داعش وهابيين وتكفيريين، وعدو متأخر في قائمة الأعداء، ولا يمثلون الإسلام الصحيح، فهم والأمريكان بالنسبة إليه سواء، والاضطرار الآن أن تكون في جانب الأمريكان فهم الأقوى والأقدر والأوسع تأثيرا على تركيا ونظامها.. فهو أيضا مضطر لتحقيق مصلحة ودفع مضرة.
9. أكاد أسمع قول القائل: حسنا، وفي النهاية، ما موقفك أو ما رأيك؟
ولإراحة صاحب هذا السؤال أقول:
موقفي: لا موقف، ولا أعرف..
وهو ذات موقفي من لحظات تاريخية كثيرة، وقد قلت أكثر من مرة وكررت في مقالات سابقة (انظر هذا على سبيل المثال) أنه في لحظات الضعف تصير الخيارات كلها مريرة، ولا يستطيع أحد أن يتخذ الموقف الأمثل بل يكون مضطرا لاتخاذ الموقف الأقل سوءا وخسائر.
ومثال هذه المواقف التاريخية المحيرة: الصراع الوهابي العثماني.. فأنت إذا نظرت من زاوية الوهابيين وجدت لهم منطقا بليغا في الدفاع عن الدين وتصحيح العقيدة.. وإذا نظرت من زاوية الدولة العثمانية التي تصارع على 4 جبهات (الروس الأرثوذكس، والغرب الكاثوليكي، والشيعة في الشرق، والتمردات الصليبية في أوروبا وغيرها) كنتَ أكثر انزعاجا من بزوغ تمرد آخر في أرض السنة والحرمين.. فهذا موقف محير حقا عند الدخول في تفاصيله إذ يتخيل المرء أنه يعيش في هذا الزمن.. هل يقف المرء مع أصحاب نقاء المنهج بكل عبثيتهم وعدميتهم وضعفهم (وقد أنهاهم جيش محمد علي ودمر الدرعية كأن لم يكونوا دولة تهدد بغداد ودمشق والحرمين) أم مع الدولة التي تحمل عبء الإسلام وتجاهد في البر والبحر شرقا وغربا؟!!
تخيل نفسك واسأل: أيهما أولى بالإصلاح، الدولة الفتية ذات المنهج النقي هي من تستحق الدعم لترث الخلافة التي صارت تضعف وتجدد أمر الإسلام.. ثم نحاول ترشيد تشددهم وغلوهم وتوجيه سيوفهم -بعدئذ- لدول الكفر المتربصة؟!
أم الأولى بالدعم والإسناد هو تلك الخلافة التي تقوم بأمر أمة الإسلام وتجاهد دول الكفر، مع بذل المجهود في تصحيح العقائد علميا وعمليا؟!
هذا مثال على مواقفة تاريخية محيرة (على الأقل لي).

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 26, 2015 14:50

ماذا تعرف عن أخطار وأضرار قناة السويس؟

في ظل الحملة الهائلة لترويج مشروع السيسي بإنشاء قناة سويس جديدة، اتضح أنها تفريعة فقط، ثم اتضح أنها تفريعة قديمة، ولا ندري ماذا ستكشف الأيام من فضائح المشروع!.. نقول: في ظل هذه الحملة الهائلة قررنا أن نكتب هذه السطور التي ستكون صادمة للغالبية العظمى من القراء!
ولا نرجو إلا أن يلتزم المرء الحكمة في القراءة بقدر ما التزمنا من موضوعية في الكتابة الموثقة بالمصادر، ومن شخصيات لا علاقة لها لا بالإخوان ولا بالإسلاميين ولا عاشوا حتى في هذا الزمن!
(1)لقد ظل مشروع ربط البحرين الأحمر والأبيض المتوسط يراود من حكموا مصر منذ القدم، إلا أنهم جميعا لم يفكروا في ربط البحرين مباشرة، بل كانوا يحفرون قناة توصل من البحر الأحمر إلى النيل الذي يصب في البحر المتوسط.
ويذكر المؤرخون أن أول تنفيذ لهذا المشروع كان في عصر الفراعنة، وأعيد تجديده أكثر من مرة في عصر الفراعنة ثم في عصر البطالمة.
وعقب الفتح الإسلامي حفر عمرو بن العاص هذه القناة الواصلة بين البحر الأحمر والنيل وسمَّاها "خليج أمير المؤمنين".
لكن أول تفكير في الوصل المباشر بين البحرين الأحمر والأبيض –فيما نعلم- كان في عصر هارون الرشيد، إلا أن وزيره ومستشاره يحيى بن خالد البرمكي حذَّره من هذه الفكرة لما لها من خطورة عسكرية استراتيجية متمثلة في أن أسطول الروم (البيزنطيين) يستطيع أن يسلك من البحر الأبيض إلى هذه القناة إلى البحر الأحمر فيكون ذلك تهديدا مباشرا للحرمين ولأهل الحجاز، فامتنع الرشيد عن تنفيذ الفكرةوالفارق الأساسي بين ربط البحر الأحمر بالنيل ثم بالبحر المتوسط وبين الربط المباشر بين البحرين تكمن في تلافي هذا الخطر الحربي والاستراتيجي، إذ أن أي هجوم عسكري بحري سيكون مجبرا على المرور في الدلتا من أحد فروع النيل حيث الكتلة البشرية الضخمة ذات القدرة الكبيرة على المقاومة، بينما الربط المباشر بين البحرين يمرّ من منطقة صحراوية قليلة السكان مما يكلف الدولة وجود سلاح بحري قوى يتولى حراسة هذا الممر المائي بكل ما يستلزم هذا من تكاليف مالية وبشرية، ثم إن نتائجه لن تكون بحال أفضل من نتائج التصدي الشعبي الواسع في الدلتا الحافلة بالتضاريس والمسالك.
وهنا يجب أن ننتبه إلى أن رفض فكرة الربط المباشر بين البحرين إنما جاءت في وقت تفوق الدولة الإسلامية الكاسح على الروم البيزنطيين، أي أنه لم يكن متوقعا بحال في تلك الفترة أن تستطيع أساطيل الروم سلوك البحر المتوسط ثم القناة ثم البحر الأحمر دون أن تجد الأساطيل الإسلامية في انتظارها، ولكنه التفكير الاستراتيجي بعيد المدى!
وفي زمن أعظم سيطرة إسلامية على البحر المتوسط، زمن الخلافة العثمانية في عهود: سليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني، برزت فكرة شق قناة السويس لتسهيل عبور الأسطول العثماني إلى البحر الأحمر للقيام بواجب الجهاد في الخليج العربي وخليج عدن والمحيط الهندي ضد غارات البرتغاليين والإسبان على تلك الأنحاء، ولدينا وثيقة عثمانية بأمر سليم الثاني يطلب فيها دراسة وافية عن تكاليف المشروع وفوائده، إلا أن الفكرة لم تنفذ (2)
أما أول تفكير جدي في ربط البحرين مباشرة فكانت فكرة استعمارية أجنبية، أتى بها لأول مرة نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وكان شق القناة يتيح لفرنسا –الأضعف من بريطانيا خصوصا في السلاح البحري- أن تضايق وتشغب وتنافس بريطانيا من خلال الوصول السريع للأسطول الفرنسي إلى الهند (التي تحتلها بريطانيا)، إلا أن المهندس الذي درس المشروع قدَّر أن البحر الأحمر مرتفع عن البحر المتوسط مما يعني أن شق القناة قد يؤدي لغرق مصر (وفكرة ارتفاع البحر الأحمر عن المتوسط نجدها عند المسعودي قبل نحو تسعمائة عام) فتوقف المشروع.
إلا أن مهندسين فرنسيين آخرين ممن ملأوا مصر في عصر محمد علي أعادوا الدراسة وتوصلوا إلى أن البحريْن مستويان وأنه يمكن إنشاء القناة، غير أن محمد علي رفض تنفيذ هذه الفكرة، وهو أمر بديهي لمن يحكم مصر خصوصا وقد انقلبت موازين القوى وصارت قوة مصر هي الأضعف وصار الأجانب ملوك البحار، وتعلل في ذلك بالرفض البريطاني القاطع، وذلك أن بريطانيا لا تريد لأحد أن يسيطر على طريق يسهل له الوصول إلى الهند.
وإن رجلا بعبقرية محمد علي لم يكن ليفوته أضرار قناة السويس على مصر التي سيزيد لأجلها التنافس بين الدول الأجنبية، وتزيد إغراءهم باحتلال البلد للسيطرة على هذا الطريق الحيوي، فاعتبر القناة "بسفورا" جديدا في مصروبلغ اليأس الفرنسي غايته في عهد الخديوي عباس الأول الذي كان يكره الفرنسيين، ورفض تماما شق قناة السويس، وأنفذ مشروعا يحقق الصالح الوطني وإن كان يصب في المصلحة البريطانية أيضا، إذ مهد الطريق بين القاهرة والسويس وبدأ في إنشاء سكة حديد الإسكندرية القاهرة، وكان هذا يخدم البريطانيين من جهة تسهيل نقل البضائع والسياح والبريد من إنجلترا إلى الهند عبر مصر ولا يضيق على التفوق البحري البريطاني وفي نفس الوقت يحفظ لمصر الاستفادة من الحركة التجارية العابرة فوق أراضيها.
إلا أن عباسا اغتيل ولم يكمل السنوات الثلاث في منصبه، وجاء الخديوي سعيد العاشق لفرنسا والفرنسيين والصديق الشخصي للرجل الخطير المشهور: فريدناد دي ليسبس!
(3)
عبد الرحمن الرافعي هو مؤرخ مصر الحديثة، من الحزب الوطني (الذي أسسه مصطفى كامل)، وهو مؤرخ وطني قومي، بل لا نبالغ إن قلنا إنه فيه "عنصرية" مصرية، أو لنقل كما قال أستاذنا جلال كشك "كان الرافعي وطنيا بمفهوم القرن التاسع عشر"وإنما ذكرنا هذا لكي نثبت أن الرجل أبعد ما يكون عن غرض تشويه مشروع قناة السويس، وأن هذا المشروع لو كانت فيه 10% من الفوائد لمصر لكان الرافعي قد جعلها 70% على الأقل واعتبره مشروعا وطنيا عظيما، إلا أنه كان مؤرخا وطنيا حقا فشنّ على هذا المشروع حملة قاسية.
لقد قرر الرافعي أن "مصر لم تستفد شيئا من فتح قناة السويس، بل كانت القناة شؤما عليها"، وأنها "أكبر غلطة" في تاريخ الخديوي سعيد، الذي كان قصير النظر وخُدِع بأنه سيدخل التاريخ بهذه الخدمة للإنسانية فيم الحقيقة الواقعة أن الأمم لا تضحي باستقلالها ومصالحها في سبيل "وهم" خدمة الإنسانية، الذي هو على الحقيقة خدمة للدول الاستعمارية فحسب.
لقد تحملت مصر تكاليف إنشاء القناة، بشريا واقتصاديا وعسكريا وسياسيا:
فأما بشريا فقد ساهم في حفر القناة مليون مصري سيقوا بالسخرة إلى الحفر في ظروف مأساوية مات منهم مائة وعشرون ألفا.
وأما اقتصاديا فكما يقول أولج فولكف "كان حفر قناة السويس ضربة قاضية لتجارة الترنزيت في القاهرة. فلم يعد للقاهرة من وظيفتها السابقة كمركز للتبادل التجاري وتجارة الترانزيت إلا الشطر الأول"وأما عسكريا فمنذ اللحظة الأولى ولتوفير أعداد للحفر قضى الخديوي سعيد على الجيش المصري فأنقص عدده من ستين ألفا إلى ثمانية أو عشرة آلاف.
وكانت القناة حاضرة في كل كارثة حربية نزلت بمصر كما سنأتي لها بعد قليل.
وأما سياسيا فمنذ حفرت القناة صار يُنظر إلى المسألة المصرية كأنها "هي مسألة قناة السويس، فكأنها اندمجت فيها، وتبدلت أوضاعها تبعا لهذا الاندماج... ففتح القناة يعادل في تأثيره الاستعماري غزوة نابليون بونابرت".
ومنذ تلك اللحظة ومصر لم تزل فعليا تحت النفوذ الأجنبي، وهي مكلفة بحماية قناة السويس وضمان حرية الملاحة فيه، ولو كانت السفن العابرة تحمل مواد ملوثة أو مشعة أو سفن حربية تهدد المصالح المصرية أو العربية والإسلامية.. والحديث في هذا يطول وهو مشهور!
بل يقول الرافعي كلمة مريرة (كتبها 1932) "لئن عادت القناة يوما إلى مصر فلا يمكن أن ننسى أن مصر خسرت فيها ثمنا باهظا وتضحيات جسيمة، ويكفي أنها بذلت لها 16 مليون جنيه من أموالها، ثم حرمت ما هو أعز من المال، وهو الاستقلال، وعندما تسترد مصر استقلالها تاما فستكون قد حرمت استقلالها بسبب القناة ردحا طويلا من الزمن، وهو حرمان لا يُعوَّض بمال"(4)
لقد كانت القناة هي العامل الأهم في هزيمة الجيش المصري بقيادة عرابي أمام الإنجليز بعدما خدع ديليسبس عرابي وأفهمه أنه من المستحيل أن تخرق بريطانيا قواعد القانون الدولي وتستعمل القناة في العمليات الحربية لأنها ممر مائي محايد، وبهذا عدل عرابي عن فكرة ردم القناة ليمنع التقاء الجيوش البريطانية القادمة من الهند في البحر الأحمر مع تلك القادمة من البحر المتوسط، ولو أنه فعل لتغير وجه التاريخ.
ثم كانت القناة من أهم العقبات في كل مفاوضات الاستقلال عن الاحتلال الإنجليزي حتى إن الإنجليز في أواخر عهدهم انسحبوا من القاهرة وتمركزوا في منطقة القناة!
ثم كانت القناة سببا في نكبة 1956 حين اتخذ عبد الناصر قراره المجنون (وإن كانت الأحداث جرت بما جعلته مفيدا نوعا ما) بتأميم القناة وهو لا يملك أي أوراق للدفاع عنها، ولولا أنه كان في الحضن الأمريكي آنذاك، وكانت أمريكا عازمة على إنهاء الوجود البريطاني في الشرق لما استطاع شيئا.
ثم كانت القناة سببا في احتلال إسرائيل لسيناء احتلالا هادئا ومستقرا، بل بنت إسرائيل ساترا ترابيا وخطا دفاعيا حربيا على ضفة القناة الشرقية، وكان كل الإنجاز المصري يتمثل في "عبور" القناة. ولو أنه لم توجد قناة لما خاطرت إسرائيل باحتلال مصر فإما أنها كانت مجبرة على التوغل واحتلال مصر كلها (وهذا في وقته في حكم المستحيل عليها بشريا وماليا وعسكريا) وإما توقفت قبل الحدود المصرية لئلا تجر مصر إلى الحرب.. لكن القناة وفرت لها مانعا مائيا ممتازا تتحصن خلفه.
وبعد حرب أكتوبر وتوقيع معاهدة السلام كانت القناة هي المانع المائي الذي جعل سيناء منطقة مغلقة ومنفصلة عمليا عن مصر، مما سهَّل كونها منطقة عازلة، وأريد لها أن تبقى منطقة عازلة لتكون حماية طبيعية لإسرائيل، ومن ثمَّ عانى سكان سيناء من الإقصاء والتهميش والظلم لنحو نصف قرن (منذ 1967). ولو لم توجد هذه القناة لما كان ممكنا بقاء سيناء بهذه العزلة والانفصال عن الجسد المصري، ولما كان ممكنا حرمانها من التعمير والتنمية والانتقال الطبيعي بين سكان سيناء وسكان وادي النيل.
والآن يبقى التخوف قائما من مشروعات السيسي التي عنوانها توسيع وتعميق القناة لاستيعاب المزيد من السفن، بينما الواقع أنه مزيد من تعظيم العازل المائي هذا بما يعني أنه مزيد من عزلة سيناء والحفاظ عليها كمنطقة حماية لإسرائيل والسيطرة على سوق تهريب السلاح إلى غزة عبر سيناء.. وكلها مصالح إسرائيلية!
نشر في نون بوست


المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1393هـ = 1973م. 2/264. انظر:-         يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عادل محمود سليمان، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، استانبول، 1988م. 2/443، 444.-         د. عبد القادر أوزجان: النظم العسكرية العثمانية، ضمن "الدولة العثمانية تاريخ وحضارة" بإشراف: أكمل الدين إحسان أوغلو، ترجمة صالح سعداوي، اسطنبول، 1999م. 1/417. عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1987م. 1/54. محمد جلال كشك: ثورة يوليو الأمريكية، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1408هـ = 1988م. ص18. أولج فولكف: القاهرة.. مدينة ألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد صليحة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1986م. ص148. انظرها عند الرافعي في كتاب "عصر إسماعيل" بجزأيْه، وانظر مختصرا لها عند كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. ص575 وما بعدها. عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل 1/20 وما بعدها، 1/53 وما بعدها.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 26, 2015 01:24

July 23, 2015

مراحل بناء المسلم (4) التكليفات المتكاملة

اقرأ أولا:
مراحل بناء المسلم (1) كل مسلم مسؤول مراحل بناء المسلم (2) استقلال الشخصية مراحل بناء المسلم (3) التكوين الأخلاقي
إن الإسلام دين واقعي يعالج أمر البشر، وأولئك البشر من طبعهم النقص، فهم يزلون ويخطئون ويتعثرون وتصدر عنهم الذنوب والمعاصي، تغلبهم أنفسهم وشهواتها أو يستزلهم الشيطان أو يقعون في حبائل ذوي المكر.. وهكذا، فلا إنسان بلغ الكمال سوى الأنبياء والمرسلين، فهم وحدهم أهل العصمة، وقد دُفِنت العصمة مع خاتم الأنبياء r، فكل الناس يجري عليهم الخطأ ويقع منهم الزلل.
وقد تدارك الإسلام أخطاء المسلمين بما يمكن أن نسميه "التكليفات المتكاملة"؛ وذلك بكونه يدرأ خطأ الفرد بتيقظ الآخرين، فلا يقع فساد أو فتنة من حيث يخطئ الواحد فقط؛ بل يجد الواحد مَنْ يُصَوِّبه ويستدرك زلته، فإن وقع الفساد أو الفتنة فليُعلم أن الخطأ قد عَمَّ جمعًا ولم يكن من طرف واحد.
ويمكن أن نضرب لهذه "التكليفات المتكاملة" بعض الأمثلة؛ منها:
(1)الكذب والتبيُّن
فالإسلام يأمر المسلم بالصدق وينهاه عن الكذب، قال r: "إن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا"(ومع هذا الأمر بالصدق والنهي عن الكذب، أمر الإسلام أن يتوثق المسلم مما يسمع فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]،  بل إن النبي وصف من لا يتثبت بالكذب فقال r: "بِحَسْبِ المرء من الكذب أن يُحَدِّث بكل ما سَمِع"(فلئن أخطأ أو كذب الواحد فالآخر مكلف بالتبين والتثبت، وبهذا تتكامل التكاليف!
(2)التعفف والإنفاق
إن الإسلام يأمر أتباعه بالتعفف والقناعة، ويثني على من لا يسأل الناس وإن كان محتاجًا: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، وأثنى الله على الصابرين في وقت الحاجة: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وسمى رسول الله آخذي المال بـ"اليد السفلى" وقال r: "اليد العُلْيا خير من اليد السُّفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن بالله يُغْنِه الله"(وفي الوقت ذاته فإن الإسلام يحث على الإنفاق: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، سرًّا وعلنًا: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وفي حال السراء والضراء: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 134]، وقد عَظَّم الله الأجر للمنفقين: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7] وضاعفه أضعافًا مضاعفة: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]؛ بل وصف الله الإنفاق وصفًا يهز أعماق المسلمين هزًّا عنيفًا، وصفه بأنه إقراض لله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
(3)الاحتشام وغض البصر
فلقد أمر الله النساء بالعفاف والاحتشام: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، وأمر الرجال -في الوقت ذاته- بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30].
(4)أدب المجالس
فلقد أمر الله القادمين إلى المجلس بالجلوس حيث ينتهي المجلس، قال رسول الله r: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فإن وُسِّع له فليجلس، وإلا فلينظر إلى أوسع مكان يَرَى، فليجلس"(ومع ذلك أمر الله القاعدين بأن يتفسحوا في المجالس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11]، وفي حديث واحد نرى النبي r ينهى "أن يُقَامَ الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا"(ويمكن أن نذكر الكثير من الأمثلة؛ مثل: كف الأذى ومقابله الأمر بكظم الغيظ والعفو والإحسان، والتواضع في مقابل إنزال الناس منازلهم، وإكرام الضيف في مقابل الاستجابة والرجوع إذا لم يسمح صاحب البيت، وسلامة الصدر وحسن الطوية في مقابل اليقظة والانتباه للخديعة، وأمور أخرى يعرفها عوام المسلمين.
وهكذا لا يقع الفساد في بلاد المسلمين بخطأ الواحد فإن ذلك أحرى أن يستوعبه الآخرون، وإنما يقع الفساد بخطأ في الجهتين، فلو أن الكاذب يكذب وغيره يتحرى الصدق ويهتم بالتبين لما جرى سوء، ولكن يجري السوء حين يجد الكذب من يصدقه بغير تبين. ويجري السوء حين يطلق أحدهم بصره وتكون المرأة غير محتشمة، أما لو كانت محتشمة بين قوم يطلقون أبصارهم أو كانت غير محتشمة بين قوم يغضون أبصارهم لما جرى سوء.. وهكذا!
نشر في ساسة بوست

([1])البخاري (5743)، ومسلم (2607). ([2])البخاري (33)، ومسلم (58). ([3])يمين الصبر: هي التي ألزم بها الحالف كما في القضاء أو لدى الحاكم. ([4])مسلم (110). ([5])البخاري (2511)، ومسلم (87). ([6])مسلم (5). ([7])البخاري (1361)، ومسلم (1033). ([8])أحمد (22428)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، وأبو داود (1643)، وصححه الألباني. ([9])الطبراني في المعجم الكبير (7213)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/59)، وصحيح الجامع الصغير (399). ([10])الألباني: مختصر الشمائل النبوية للترمذي ص23. ([11])البخاري (5915)، ومسلم (2177).
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 23, 2015 09:30

سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (12 - الأخيرة)

اقرأ أولا:
سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (1) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (2) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (3) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (4) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (5) سياط الفيلوسف على ظهور العسكر (6) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (7) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (8) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (9) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (10) سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (11)
هذا ختام هذه المقالات التي التقطنا فيها مواقف الفيلسوف المخضرم الكبير د. عبد الرحمن بدوي من حكم العسكر عبر مذكراته الحافلة الصادرة في جزئين، وهو الذي عايش العهدين: الملكي والعسكري، وحقق من المكانة الفكرية ما لا ينكره أحد ولو كان من أشد أعدائه.
ونعيد التذكير بأنه كتب هذه المذكرات وقت علمانيته وضلالته وقبل تحوله إلى الإسلام الذي كان في آخر حياته!
(44)
لقد عاصر عبد الرحمن بدوي تجارب حكم العسكر في الوحدة بين البلاد العربية، ورأى كيف أنها فشلت جميعا، حتى أنه اعتقد في آخر الأمر أن مسألة الوحدة مستحيلة، وكتب يقول بعد فشل محاولة الوحدة بين مصر وليبيا والسودان فقرة تحمل طعم اليأس والمرارة وتشير إلى نكبة أمتنا بمن حكموها من العسكر:
"تكفي هذه الشواهد لتقديم الدليل القاطع على فساد فكرة الاتحاد أو الوحدة بين مصر وبين أية دولة عربية أخرى، وبوجه أعمّ بين أية دولة عربية وأية دولة عربية أخرى. والشواهد أمامنا ماثلة للعيان لا تحتاج إلى مزيد بيان: مثل مشروعات الوحدة بين العراق وسوريا، وبينهما وبين الأردن، ثم بين المغرب وليبيا، ثم بين ليبيا وتونس، إلخ – وكلها ما لبثت عما قليل أن انهارت وتجلت أنها مجرد أوهام ودجل وتهريج سياسي.
بل إن أبسط مظاهر التقارب معدومة بين الدول العربية: مثل إلغاء تأشيرات الدخول، وحرية تنقل العاملين للعمل في بلد آخر، وحرية تملك الأراضي الزراعية والمنازل، وتخفيض التعريفة الجمركية إن لم يكن إلغاؤها كلية – وما شاكل ذلك من ألوان التيسير في التعامل بين الدول، مما هو موجود مثلا بين دول المجموعة الأوروبية. نعم قد يتقرر إلغاء التأشيرات بين بعض الدول العربية وبعضها الآخر، لكن هذا الإلغاء ما يلبث بعد فترة قصيرة أن يُلغى وتعود الأمور إلى سابق عهدها: من التضييق الشديد وإقامة العقبات العديدة والمهينة في سبيل الحصول على تأشيرات دخول. ناهيك بدول الخليج الست. فإن الدخول فيها لغير أبنائها قد يصل به العسر أحيانا إلى حد أن يكون دخول الجنة أيسر منه!!
وأمام هذه الحقائق الدامغة فإننا نجزم بأن "دعاة الوحدة" إنما هم دجالون مضلِّلون متاجرون بالشعارات الباطلة تحقيقا لأطماعهم الخسيسة، وهم مجرد طبّالين وزمّارين للمتطلعين إلى زعامات وهمية على سائر الشعوب العربية"(45)
منذ خرج عبد الرحمن بدوي من مصر في زمن عبد الناصر لم يعد إليها ولم يفكر في العودة إليها إلا فترة شهرين في عهد السادات الذي تدخل لدى القذافي للإفراج عنه، وكان القذافي قد اعتقله ضمن حملاته المجنونة العديدة من بين عدد من أساتذة الجامعات، وكان بدوي حينها يُدرِّس في ليبيا. وفي هذه العودة طلب إليه بعض الزملاء أن يعود للتدريس في جامعة عين شمس التي فُصِل منها فأبى إلا أن تلغي الجامعة قرار فصله من نفسها.. وهو إذ يحكي عن قرار فصله يكشف جانبا من أحوال مصر وأساتذة الجامعة فيها تحت حكم العسكر، يقول عن هذا:
"كان الذي أصدر القرار هو مدير الجامعة آنذاك د. إسماعيل غانم، وكان منذ سنة 1962 تقريبا يعمل عميلا لجهاز المخابرات، ورئيسا للجهاز السرِّي الخاص بجامعة عين شمس، وتبعا لذلك كان يتولى كتابة التقريرات السياسية ضد أعضاء هيئة التدريس ورجال الإدارة في الجامعة. ومكافأة له على هذه الأعمال الخسيسة الدنيئة القذرة عُيّن وزيرا للثقافة ثم مديرا لجامعة عين شمس!! (حتى بعد الثورة التصحيحية للسادات) وظل يلقى رعاية من جهاز المخابرات حتى في عام 1973م"(46)
ويتحدث بدوي في هذه الزيارة القصيرة عن مصر بعد "ثورة التصحيح" مايو 1951 فيقول:
"لم ألحظ في مصر، عند عودتي هذه المرة تغييرا كبيرا من النوع الذي أوْهَمَتْ بحدوثه تلك "الثورة التصحيحية". فلئن كان قد تم إلغاء الحراسة على الأشخاص والأموال، فإن هذا الإلغاء كان نظريا أكثر منه عمليا:
-       فما قيمة إلغاء الحراسة على الأراضي الزراعية مع بقاء عقود الإيجار التي فرضت عليها نتيجة الحراسة، ومن شأن هذه العقود الإيجارية أن تنزل بريع الأرض بالنسبة إلى المالك بمقدار أربعة أخماس أو يزيد؟!
-       والعمارات التي فرضت عليها الحراسة وضُمّت إلى شركات التأمين أو استولى عليها أصحاب السلطان في عهد عبد الناصر بقيت عمليا على حالها ولم يستلمها أصحابها.
-       وأمر آخر أشد هولاء ونكرا، وهو قانون الإصلاح الزراعي الثالث الصادر في أغسطس سنة 1969 الذي نصّ على الحد الأقصى للملكية الزراعية خمسين فدانا للفرد كما نصَّ على التعويض للمُلاّك عن الزيادة على هذا الحد – لم يُطبَّق لا في عهد عبد الناصر، ولا في عهد السادات، ولا حتى الآن في عهد حسني مبارك رغم مرور 19 عاما على صدر هذا القانون! ولقد طُبِّق علي هذا القانون واستولى "الإصلاح" الزراعي على 25 فدانا من أملاكي، وحتى كتابة هذه السطور (في 19 يناير 1988م) لم أحصل على مليم واحد تعويضا عما استولوا عليه من أملاكي الزراعية!!
ثم إن أحوال نشر الكتب في مصر قد ساءت إلى أقصى حد: فالورق نادر، ومرتفع السعر جدا، والطبع كذلك، والناشرون قد انصرفوا عن طبع ما ليس كتبا مقررة على الطلاب في الجامعات. ومصر التي كانت حتى عشر سنوات خلت المصدر الرئيسي –بل شبه الوحيد- لنشر الكتب قد تجلت فيها آثار التخريب الشيوعي الذي انكبّ على النشر في مصر في الفترة من سنة 1964 حتى سنة 1971. فحقّق لهؤلاء الشيوعيين ما هدفوا إليه آنذاك من القضاء على كل ثقافة وفكر حرّ في مصر، على غرار ما عليه الحال في مهبط وحيهم: روسيا السوفيتية"***
انتهى رصد موقف الفيلسوف من حكم العسكر، في ست وأربعين فقرة، عبر اثني عشر مقالا، مأخوذة من مذكراته التي ناهزت الثمانمائة صفحة والحافلة بثراء علمي واسع.. وهذه المواقف أقرب إلى السياط منها إلى الكلام، فالحمد لله أولا وآخرا.. نسأل الله السلامة لبلادنا من حكم العسكر المشؤوم!

سيرة حياتي 2/246، 247. سيرة حياتي 2/253، 254. سيرة حياتي 2/254، 255.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 23, 2015 06:46