محمد إلهامي's Blog, page 56

September 10, 2015

كيف نَظَّم الإسلام العلاقة بين الأمة والسلطة

رأينا في المقالات السابقة كيف أنشأ الإسلام السلطة السياسية، ثم كيف بنى المجتمع المتماسك المترابط بروابط الدين والرحم والجوار، وبقي أن ننظر في العلاقة بينهما ليكتمل تصور "النظام العام" في البناء الإسلامي.
وخلاصة ما نراه في العلاقة بينهما أن السلطة تقوم بالمهام التي لا تنعقد بغير القوة والنظام؛ لتنطلق طاقة الأمة بذاتها في عمارة الأرض ونشر الحضارة، ففي ظلِّ السلطة الإسلامية تكون المساحة مفتوحة أمام الأمة في الانطلاق الحضاري بغير تعويق من السلطة؛ بل إن من مهام السلطة ما يجعلها محفزة لمجهود الأمة، فالحد الأدنى هو إقرار الأمن، وكلما رَشَدَت السلطة كان تحفيزها أقوى وأوسع، فمن السلطة تندلع "شرارة الحضارة" لتتلقفها الأمة فتكون نورًا عظيمًا، وتفصيل ذلك كالآتي:
أولاً: واجبات السلطة
قال الماوردي: "يلزمه (أي الخليفة) من الأمور العامة عشرة أشياء:
1.    أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نَجَمَ مبتدع أو زَاغَ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
2.    الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، فلا يتعدَّى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
3.    الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
4.    والرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
5.    والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.
6.    والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
7.    والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف.
8.    والثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9.    التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
10.           العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفُّح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملَّة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذَّة أو عبادة"(وإذا أردنا تلخيص هذه العشرة فهي: إقامة الأمن في بلاد المسلمين؛ سواء بحماية الداخل من الاضطرابات بإقامة الدين وحفظ حقوق الناس، أو حماية الثغور وجهاد الخارج وحفظ دولة الإسلام من أعاديها، فكأن واجب السلطة يمكن إجماله في "ضبط وتنظيم أوضاع الأمة".
ثانيًا: واجبات الأمة نحو السلطة
وقد أجملها الماوردي بقوله: "إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة؛ فقد أدَّى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله، والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص في بدنه"(فعلى الأمة الطاعة في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر ما دامت الطاعة في المعروف، وهذا يوفر للسلطة القدرة على القيام بأمر الحكم بأيسر سبيل؛ إذ الطاعة ليست للسلطة وإنما هي لله؛ بل ويكون التعاون على إقامة أمر الله درجة أعلى من مجرد الطاعة؛ فهي مشاركة في المسئولية وتحمل للأمانة.
ثالثًا: استقلال الأمة بحركتها عن السلطة
حيث تمثل المساجد مراكز اجتماعية لتعاون الناس على البر والتقوى، ويمكن لأي تجمع أن ينشئ من وجوه الخير ما استطاع دون أن يُواجَه بمعوقات من قِبَل السلطة، وجاء الإسلام بما أعطى للأمة القدرة على تمويل ذاتها وحركتها الحضارية دون لجوء إلى السلطة، وتلك هي فكرة "الوقف".
إن الأوقاف من الابتكارات الحضارية الإسلامية، فلم يكن موجودًا في العالم القديم إنفاق على أوجه الخير -اللهم إلا ما كان ينفق منه على المعابد وكهنتها، مما لا يمثل إلا جزءًا ضئيلاً من فكرة الأوقاف(واستمرَّ نمو مؤسسة الوقف في العالم الإسلامي؛ لتشكل المصدر الذاتي الذي تمول الأمة به مشاريعها الحضارية، فبما أوقف المسلمون من ممتلكاتهم توفرت أموال غزيرة أُنْفِق بها على العلماء وطلبة العلم والمكتبات والكتاتيب وشيوخها، وعلى إنشاء المدارس والمستشفيات، وعلى الجهاد وبناء الثغور وتحرير الأسرى، وعلى الفقراء والأيتام والضعفاء والمحتاجين والمسنين والعجزة واللاجئين والمشردين، وعلى تنمية البلدان بشقِّ الأنهار وتعبيد الطرق وإنشاء الجسور، وعلى دعم المعوزين كحمل من عجز عن الحج، وإيواء المطلقات، وتأجير ملابس الأفراح، وتوزيع الحلوى في رمضان، وتبديل الثياب الملوثة، وتعويض الأواني المكسورة، بل وعلى رعاية الحيوانات التي مرضت أو عجزت أو كبرت، وسائر ما يُمكن أن يُتَخَّيل من وجوه الخير ضربت فيه الأمة بسهم عبر مؤسسة الأوقاف(ومن بين الآثار الكثيرة للوقف يهمنا التركيز على أثر استقلال مسار الأمة عن مسار السلطة، فلم يكن انهيار السلطة أو ضعفها السياسي والعسكري منعكسًا -بقوة- على نمو الأمة الحضاري؛ بل قد تسقط البلدان عسكريًّا ثم تأسر الغازين حضاريًّا وثقافيًّا كما حدث مع الصليبيين في الشام، والنورمان في صقلية، والإسبان في الأندلس، والمغول في الشرق الإسلامي.
إذًا، فالنتيجة النهائية أن الحضارة لا بد لها من أرضٍ تنشأ عليها، ولابد لها من دولةٍ توفر لها مقومات الحياة (الأمن والكرامة والراية والجيش والإدارة)، وهكذا بدأت حضارة الإسلام من "دولة" المدينة المنورة، ففيها نزلت الأحكام الربانية التي تنظم شئون المجتمع، فالدولة تُطلق "الشرارة الحضارية"؛ كقرارات تدوين الدواوين، وتعريب المكاتبات والنقود، وترجمة علوم اليونان والفرس والهند والصين، ثم بعدئذٍ تتمكن الأمة من تمويل هذه البدايات الحضاريَّة ورعايتها ودعمها؛ حتى تتمكن من الاستقرار والمواصلة ولو ضعفت السلطة السياسية.
صحيح أنَّ الحضارة الإسلاميَّة لم تكن تنتهي حين ينتهي النظام السياسي؛ إلا أنها كانت تتأثر بمناخ الضعف والانحدار ولا شك، وحين يطول عليها الانهيار في الحالة السياسيَّة فإن أعراض الضعف تبدأ فيها حتى نصل إلى التخلُّف الحضاري.
هكذا يبني الإسلام نظامه العام على ثلاثة أركان:
1. السلطة تُبْنَى على هيمنة الشريعة، والحاكم فيها وكيل عن الأمة، وتدار فيها الأمور بالشورى.. فبهذا تتحمل الأمة مسئولية إقامة السلطة، ومسئولية مراقبتها، ومسئولية تصحيح انحرافها.
2. والأمة وحدة مترابطة متماسكة متينة، تشملها رابطة الدين ورابطة الرحم ورابطة الجوار، وهي العلائق التي تحفظها من ظلم الحكام كما تجعل الجميع مستشعرًا للمسئولية تجاه الجميع، فلا يُفعل الذنب إلا خفية واستتارًا، فإن ظهر سارعت الأمة إلى مقاومته وإصلاحه.
3. ثم تتعاون السلطة والدولة في إصلاح أمر الأمة وأمر الناس جميعًا؛ فالسلطة تؤمن استقرار الأمة وقوتها، وتشعل شرارة الحضارة فيها، والأمة تنطلق لبناء الحضارة ونشر الدعوة، والارتقاء بحالها وبحال البشر أجمعين.فتلك الثلاثية بفروعها وتفاصيلها تُجَيِّش طاقات الأمة في إصلاح أحوال الدنيا، وتترجم بطريقة عملية مهمتها في الحياة {أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
نشر في ساسة بوست


([1])الماوردي: الأحكام السلطانية ص40. ([2])الماوردي: الأحكام السلطانية ص42. ([3])د. منذر قحف: الوقف الإسلامي ص23 وما بعدها. ([4])ابن قدامة: الشرح الكبير 6/185. ([5])انظر في الأوقاف وآثارها: محمد أبو زهرة: محاضرات في الوقف، محمد بن أحمد الصالح: الوقف في الشريعة الإسلامية وأثره في تنمية المجتمع، د. راغب السرجاني: روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية. وانظر: بحوث مؤتمر الأوقاف الأول، جامعة أم القرى، مكة المكرمة 1422هـ.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 10, 2015 21:23

September 8, 2015

قراءة في كتاب: أردوغان.. قصة زعيم

§         اسم الكتاب: رجب طيب أردوغان .. قصة زعيم§         المؤلف: حسين بسلي – عمر أوزباي§         المترجم: د. طارق عبد الجليل§         دار النشر: الدار العربية للعلوم ناشرون§         سنة النشر: 1432هـ = 2011م§         عدد الصفحات: 430
وهو الكتاب الوحيد الذي تُرجم من التركية إلى العربية –فيما أعلم- عن شخصية أردوغان، ألفه اثنان ممن عملوا معه في رحلة الصعود منذ كان رئيسا لشعبة اسطنبول في حزب الرفاه! وهما: حسين بسيلي وعمر أوزباي. وترجمته إلى العربية جيدة.
تكمن قيمة الكتاب في أن مؤلفيه شهود عيان، وهم ممن اقتربوا من أردوغان وفريقه منذ وقت مبكر، ولذلك كانت لديهم الصورة الداخلية للتطورات وأجواء اتخاذ القرارات وعلاقات بأطراف القصة، مما مكَّنَهم من إدراج شهادات شهود العيان الذين حضروا مواقف تفصيلية.
ويكمن جمال الكتاب في اعتمادهم أسلوب القصة المحكية دون أساليب النظر والبحث والتحليل الأكاديمي، وقد حرصوا على أن يبدؤوه بداية تشويقية بقصة اغتيال استهدفت أردوغان منذ كان مرشحا لرئاسة بلدية اسطنبول الكبرى لتدفعه للتنازل عن الترشح. كذلك خاتمته التي وقفت عند قصة اغتيال أخرى في سرت، وكانت تستهدف إنهاء حياته لئلا يصعد إلى منصب رئيس الوزراء بعد رفع الحظر القانوني على ترشحه وممارسته السياسة.
ويمكن اختصار الكتاب كله في أن أردوغان رجل من عامة الشعب وفقرائه، نهض بعزمه وإرادته وإخلاصه ليدخل ميدان السياسة، وفي ذلك الميدان واجهته عقبة كبرى: هي عقبة النظام العلماني الفاسد المتكبر عن الشعب المنصرف عن مصالحه والمتركز على مصالح الطبقة الحاكمة. وفي إطار هذه العقبة كان منذ شبابه المبكر عضوا في الحزب الإسلامي (الذي دائما ما يُحلَّ ثم يعود باسم جديد وشعار جديد) وفاعلا فيه، وفي مسيرته داخل الحزب واجه عقبتين؛ الأولى: هي نمط القيادة الفردي المستبد الذي يمارسه أربكان حتى ليستحيل معه إحداث إصلاح أو تعديل في سياسة الحزب وطريقته بل إن نمط القيادة الأربكاني يتوجس خيفة من وجود قيادات شابة تفكر بطريقة مختلفة ولهذا كثرت بينهما التوترات. والثانية: هي التشدد والانغلاق في مخاطبة الجماهير والسعي إليهم والتمسك بأمور تنفر الناس منهم وتعزلهم عنهم وتعطل طاقاتهم المكنونة خصوصا الطاقة النسائية.
هذه العقبات الثلاثة هي التي ولَّدت –بعد كثير من الصراعات- حزب العدالة والتنمية في صيغته تلك التي يراها البعض من الخصوم والمؤيدين "إسلامية متنكرة بفعل الاضطرار" ويراها البعض من الخصوم والمؤيدين قد خرجت عن وصف الإسلامية.. ولذا ليس غريبا أن يكره البعض ذلك الحزب لما عندهم من الإسلام ويكرهه الآخرون لخروجهم عنه.
هذه التجربة الثرية الحافلة بالمصاعب لم تعرض في الكتاب كما ينبغي!
يكمن العيب الأساسي للكتاب في كونه كتابا دعائيا عاطفيا لا عمق فيه ولا تحليل ولا محاولة رصد حقيقية لكافة عوامل النهوض أو الأزمة، ولا كيف جرى حلها، بل الأزمات دائما تنشأ لمحاولة ماكرة شريرة، وتُحَلَّ لما لدى الزعيم من صدق وثقة وإخلاص وعزم وتصميم... إلخ! وهذا نمط من التأليف ربما ينجح في إضفاء الصفات العظيمة والأسطورية على الزعيم لكنه لا يفيد في باب رواية التاريخ والتعلم من التجربة، بل هو على الحقيقة مضطر لأن يحذف من رواية التاريخ ما قد يُظَنُّ منه الإساءة للزعيم أو إظهار بعض ضعفه أو خطئه أو تنازله!
ولذلك، يخرج القارئ للكتاب في أحسن الأحوال متمنيا أن يبقى أردوغان حيا أبدا أو أن تُرزق أمته رجلا مثل أردوغان، بينما يغيب عنه تماما منهج الرجل في الاختيار والترجيح ومواجهة العواصف السياسية، فمتى يصبر ويسكت، ومتى يتقدم ويغامر، ومتى يتراجع وينسحب.. إن نمط الكتاب يجعل الصبر والسكوت أدبا وخلقا، ويجعل التقدم والمغامرة شجاعة وإقداما، ويجعل التراجع والانسحاب (إن وُجد، وقليل ما هو) حكمة وبعد نظر!
ولذا كان هذا النمط من التأليف قليل الفائدة في ميزان التاريخ وإن كان كبير الفائدة في ميزان الدعاية!
ومن آثار هذا أن الكتاب عبر على مواقف مفصلية بسرعة، بل وأغفل بعضها تماما، فيما أطال الوقوف أمام مواقف أخرى عاطفية وإنسانية وخصص مساحة واسعة لنقل مقاطع من خطب أردوغان وتصريحاته وقضية سجنه وأيامه في السجن! وخصص مساحة طويلة نسبيا لإنجازات أردوغان الاقتصادية والعمرانية في بلدية اسطنبول، وفي الحديث عن إعجاب الناس به وتأثرهم الشديد بخطاباته وثقتهم الوافرة فيه ودموعهم التي تسيل دائما حين يسمعونه، وعن خطاب له أصرَّ فيه على خلع السترة الواقية من الرصاص مع وجود تهديدات بالاغتيال، وقصص إفطاره في رمضان مع الفقراء والمعدمين بل انتبه الكتاب لقصة طالبة صغيرة ترسل له رسالة في سجنه فيهتم أن يرد عليها بنفسه (من بين مئات أو آلاف الرسائل) وكيف كان أثر هذا على الفتاة الصغيرة.
وأما المواقف التي عبر عليها بسرعة فمنها ذلك النمط الجديد الذي اعتمد عليه حزب التنمية والعدالة في الاعتماد على "قاعدة رجال الأعمال الشباب" بدلا من الاعتماد بالكامل على الجماهير والظهير الشعبي كما كان الحال سابقا في تجارب الأحزاب الإسلامية. وكان الأحرى الوقوف أمام هذا التحول وبيان أسبابه بعمق، لتفيد منه الحركات الإسلامية. ولست أحسب السبب إلا أن نقاش هذا الأمر مُضِرٌّ في باب الدعاية ومخالف لعاطفة الجماهير.
ومن تلك المواقف التي عبر عليها بسرعة هو تلك الترتيبات مع أوروبا وأمريكا في شأن برنامج الحزب الاقتصادي، إذ لم يقل الكتاب سوى أن البرنامج الاقتصادي للحزب بعدما وُضِع في تركيا انطلق أصحابه في جولات خارجية.. ثم أغفل مطلقا حقيقة ما دار في هذه الجولات اللهم إلا أن البرنامج حقق إعجابا وثقة (بالطبع!)
كذلك من المواقف التي عبر عليها بسرعة هو ذلك التحول من "الإسلامية الصريحة" إلى حزب يجمع إليه كل المواطنين، حزب يتخلص من "العبء الأيديولوجي"، فبرغم أهمية وجوهرية هذه المسألة إلا أن الذي قيل فيها قليل مُبتسر، أريد به ألا يؤذي العلمانيين ولا الإسلاميين، فكان العبور السريع هو الطريق الأسلم!
أما المواقف التي أغفلها مطلقا فكثيرة، وأهمها ما يخص الوضع الدولي، فلقد سار الكتاب سيرة من يتعامل مع تركيا وكأنها ملف داخلي بحت، لا على أنها في بؤرة صراع عالمي، وأهم ما يمكن أن نضرب به مثلا على هذا هو: ما الثمن المدفوع لقاء أن يوافق حزب الشعب على رفع عبارة "الأفعال الأيديولوجية والتحريضية" من المادة 76 من الدستور ووضع عبارة "الأفعال الإرهابية" وهو ما ترتب عليه رفع الحظر السياسي عن أردوغان، مما جعله يقفز مباشرة إلى موقع رئيس الوزراء! لقد كان الأولى (بميزان التاريخ لا بميزان الدعاية طبعا) أن يتوقف أمام ملابسات تلك اللحظة العصيبة، وما جرى فيها من مساومات في ملف حرب العراق وملف الجيش التركي وملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي!
إن أردوغان زعيم يفتخر به العالم الإسلامي، ويتعلق به ملايين في الشرق والغرب، سواء أَحَبَّ ذلك الأتراك أم كرهوه وسواء فهموه أم لم يفهموه، وما يزال المسلمون لما هو معروف من سوء حالهم يتوقون إلى زعيم ويتعلقون بكل من يبدو منه أدنى بادرة لتحقيق هذه الزعامة، ولو كان مطاردا ومختفيا كابن لادن والظواهري والبغدادي، ولو كان لا يملك من القوة سوى مال وإعلام كأمير قطر، ولو كان لم يبدُ منه سوى بادرة ضئيلة لتغير السياسية كالملك سلمان.. فكيف إذا كان من بدت زعامته على رأس دولة قوية وناهضة مثل تركيا، ينطق بالكلام القوي ويتخذ المواقف الجريئة في المحافل الدولية؟! ثم كيف بهم بعد أن تعلقوا بأمل قوي مع ثورات الربيع العربي ووصول محمد مرسي إلى الرئاسة في مصر مما هيَّج الأحلام وجعلها في عنان السماء؟!

إن الأمة تحتاج من يسطر لها التجربة التركية بصدق وعمق، لتستفيد وتتعلم، بما في هذه التجربة من إخفاقات ونقاط ضعف واحتمالات تهديد.. كما يحتاج الأتراك أنفسهم هذا، ولذلك فإن تقزيم تجربة أردوغان في كتاب أقرب إلى الدعائية لم يكن عملا موفقا ولا سديدا.
نشر في تركيا بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 08, 2015 08:00

September 6, 2015

خلايا القرامطة النائمة في الخليج (2)

 بدأنا في المقال السابق مختصرا لقصة القرامطة، وقد وصلنا إلى اللحظة التي صار فيها أبو طاهر القرمطي يمثل تهديدا خطيرا للخلافة العباسية، وقد ساعده في هذا ضعف الأحوال في بلاط الخلافة واختلاف رجالها وتنازعهم، حتى لقد استطاع هذا القائد القرمطي الشاب بجيش قوامه ثمانمائة أن ينتصر على فرقتين من جيش الخلافة قوامهما سبعة آلاف، وانقض على الكوفة واقتحمها وظل فيها ستة أيام يستخلص أموالها ومتاعها وكنوزها ويحمل ما استطاع منها، يقضي فيها النهار ثم يخرج في الليل إلى معسكره، وما إن ترامت أنباء خروج جيش الخلافة الرئيسي بقيادة القائد العسكري العام مؤنس الخادم حتى انسحب عائدا إلى بلاده.
غير أن هاتين الهزيمتين كان لهما أبلغ الأثر في النفوس، فقد عم البلاء بلاد العراق حتى إن أهل بغداد أنفسهم انصرفوا من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي لنهر دجلة، ولم تهدأ الأحوال إلا حين وصل مؤنس بجيشه الكبير إلى الكوفة، فبقي فيها حتى هدأت الأمور ثم ترك القائد ياقوت واليا عليها، وذهب هو إلى واسط خشية أن يكون القرمطي يدبر للهجوم عليها. وبطبيعة الحال فلم يحج أحد من أهل العراق هذا العام (312هـ) خوفا من القرامطة.
وفي العام التالي خرج الناس للحج (ذي القعدة 313هـ) فاعترضهم أبو طاهر القرمطي، فلذلك عاد أكثر الناس إلى بلادهم دون حج، وأما الذين وقعوا في يده فلم تنفعهم فرقة الجيش التي انهزمت أمام القرامطة، وكان مصيرهم أفضل من سابقيهم إذ أخذ القرمطي منهم مالا مقابل أن يتركهم، فكتب الله لهم النجاة.
ثم حدث تطور خطير في العام التالي (314هـ) إذ سارت الأخبار بتوجه القرامطة نحو مكة ذاتها هذه المرة، وهو ما أشاع الرعب في مكة حتى إن كثيرا من أهلها رحلوا إلى الطائف ونواحيها، وهو ما أدى إلى أن الخلافة توقف قوافل الحج التي تنطلق من العراق وما وراءها من بلاد المشرق لهذا التهديد غير المسبوق في تاريخ الإسلام!
صار القرامطة اسما يثير الرعب والفزع في القلوب، وكانت انتصاراتهم المتوالية مع قلة عددهم وصغر سن قائدهم على أضعافهم من الجيوش التي يقودها قادة الخلافة الكبار تزيد من معنوياتهم وثقتهم في أنفسهم، كما تزيد من صيتهم في الآفاق والبلاد بل وفي جيش الخلافة نفسه.
وفي ذلك الوقت كانت الخلافة تعاني انتشار الدسائس والمؤامرات في بلاط القصر، حتى لقد بدأت العلاقات تتوتر بين الخليفة وقائد الجيش مؤنس لإشاعة وصلت إلى مؤنس وكادت أن تصل الأمور إلى عصيان عسكري، وكانت حال الوزارة والوزير في غاية القلق والاضطراب مع العزل والتولية المتكررة وسعى الكثيرين إلى السلطة مما سينعكس حاله على الحرب مع القرامطة.
كان الوزير في ذلك الوقت هو أبا العباس الخصيبي الذي وصل إلى المنصب من خلال عمله ككاتب لأم المقتدر، ثم أضاف إلى هذا تعذيب زوجة الوزير السابق حتى استخلص منها ما استطاع من الأموال، ثم بذل هذه الأموال للخليفة المقتدر وأمه فارتفع بهذا شأنه، وحين وصل إلى المنصب لم يكن أهلا له بل كان سكيرا مدمنا للخمر، مهملا لأحوال البلاد والعباد، لا ينظر في الرسائل والمكاتبات ولا يتابعها، وعهد بالتصرف إلى نواب وضعهم لكي ينوبوا عنه، وهؤلاء حين لم يجدوا من يسألهم ويتابعهم فسدوا وأفسدوا، فساءت أحوال البلاد، وكان من قراراته أنه استدعى والي أرمينية وأذربيجان يوسف بن أبي الساج بجيشه لمواجهة القرامطة، برغم أنه وجيشه قد اعتادوا على البلاد الباردة كثيرة الأنهار على عكس الحرب في بلاد الجزيرة العربية، ثم إنه -مع كل هذا- لم يرتب موارد جديدة لدعم هذا الجيش!
ربما أراد الوزير أن يأتي بجيش لم يسمع عن القرامطة فهو لا يهابهم ولا يخشى مواجهتهم، أو لعله فكَّر في جيش ذى قتال مختلف وخطط حربية مختلفة متمرسة على حرب العصابات الخاطفة كجيش ابن أبي الساج .. والله أعلم!
استقر جيش يوسف بن أبي الساج في واسط، ثم جاءت الأخبار بأن أبا طاهر القرمطي متوجه إلى الكوفة، وأراد المقتدر أن يسارع جيش من الخلافة بالوصول إلى الكوفة قبل أن يصلها القرامطة، فأمر هذا الجيش بالمسارعة إلى الكوفة، فخرج الجيش من واسط (30 رمضان 315هـ)، وعظم الأمل في نفوس أهل الكوفة بهذا الجيش الكبير، وأعدوا له ما استطاعوا من الطعام والمتاع للجنود والدواب، لكن القرمطي وصل إلى الكوفة قبل جيش ابن أبي الساج بيوم واحد، وبطبيعة الحال هرب من أمامه ولاة الكوفة دون قتال، فاستولى على ما كانوا قد أعدوه لجيش ابن أبي الساج!
وصل الجيش إلى الكوفة يوم الجمعة (8 شوال 315هـ) فوجدها في حوزة القرامطة، فدعاهم يوسف إلى التوبة والعودة إلى طاعة الخلافة فإن رفضوا قاتلهم يوم الأحد، وإذا بالرد يأتي: لا طاعة علينا إلا لله، والقتال غدا السبت!
كان جيش يوسف أربعين ألفا فيما كان جيش القرامطة بين الألف وخمسمائة والألف وسبعمائة، لذا فما إن رآهم يوسف حتى استهان بهم وقال: "إن هؤلاء الكلاب بعد ساعة في يدي"، ومن فرط الثقة أمر الكاتب أن يرسل إلى الخليفة بخبر النصر على القرامطة، ثم ما إن بدأ اللقاء حتى ثبت القرامطة ثباتا عظيما، ونزل قائدهم أبو طاهر القرمطي يباشر القتال بنفسه في جرأة وبطولة حتى انهار أمامه الجيش الكبير، فهُزِم هزيمة شنيعة، بل واستطاع القرامطة أسر قائد الجيش يوسف بن أبي الساج!!
واهتزت بغداد لهذا الخبر لا سيما وقد وصلها المنهزمون وهم في أسوأ حال، حفاة وعراة قد أهلكتهم الحرب والهزيمة والطريق، وبدأ كثيرون يهربون إلى الجانب الشرقي من بغداد، أو إلى ما وراء ذلك من المدن كهمذان وحلوان بل وفارس وخراسان.
ناشد الوزيرُ عليُّ بن عيسى المقتدرَ وقال: "يا أمير المؤمنين إن الأموال إنما تدخر لتكون عونا على قتال أعداء الله، وإن هذا الأمر لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة، وإن بيت المال ليس فيه شيء. فاتق الله يا أمير المؤمنين وخاطِب السيدة -يعني أمه- لعل أن يكون عندها شىء ادخرته لشدة، فهذا وقته"، فدخل على أمه فبادرته بإخراج نصف مليون دينار، وكان في بيت المال مثلها، فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز الجيوش لقتال القرامطة.
وأما القرمطي فقد سار شمالا على امتداد نهر الفرات على شاطئه الغربي قاصدا مدينة الأنبار، وهي التي تقع على الجانب الشرقي للفرات، فسارع أهلها بقطع الجسر الذي على نهر دجلة ليمنعوا القرامطة من العبور إليهم، فلما وصل القرامطة ولم يستطيعوا عبور النهر، أرسل أبو طاهر القرمطي بعض رجاله إلى مدينة الحديثة لكي يشتري لهم السفن، فاشتراها وقدمت إليه، وكل هذا في زمن قياسي حتى إن أهل الأنبار لم يشعروا بشيء، ثم فوجئوا بالقرامطة يعبرون إليهم فقاتلوا عسكر الخلافة فيها فهزموهم وصارت الأنبار في حوزتهم بالفعل، وأخطر ما في هذا أنهم صاروا على الضفة الشرقية للفرات فهم يهددون بغداد ذاتها!
وباتت بغداد في شر حال، ولو أنها نطقت لقالت: ضيعني الخلفاء والوزراء ورجال الحكم ولولاهم لم يجرؤ عليّ القرامطة!
وللحديث بقية..
نشر في الخليج أون لاين

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 06, 2015 02:48

September 5, 2015

د. محمد محسوب مواطن صالح أكثر من اللازم

صدمني مقال د. محمد محسوب "الدولة والجيش" صدمة بالغة، رغم أني سيء الظن في القانونيين عامة ولا أستبعد منهم أي نوع من الصدمات، إلا أن ذلك المقال فعلها، ذلك أن الحديث عن الدولة القومية باعتبارها من الثوابت أمرٌ لم يعد موجودا على الساحة الثقافية، فلو تحدث به مثقف غربي لاحتقره الغربيون أنفسهم.
لقد كانت الدولة القومية –فيما يبدو للناس- مكسبا وضع نهاية للحروب الدينية في أوروبا، ومن ثم ساد الاعتقاد بأن الاجتماع على قاعدة الأرض والعرق أفضل من الاجتماع على أي قاعدة أخرى، خصوصا قاعدة الدين، إلا أن هذه القناعة ذهبت أدراج الرياح بعد الحربين العالميتين، اللتين أسفرتا عن أن القومية هي أسوأ قاعدة اجتماع تسد الطرق كلها أمام السلام وإيقاف الحرب. إذ لو كانت أوروبا ملكية أو حتى مسيحية ما كان يمكن لهذه الحروب أن تطول كل هذه الأعوام وتحصد كل هذه الضحايا وتدمر كل هذه البلدان.. بل كان يكفي أن يحل الأمر بتدخل من البابا أو حتى بزواج ملك بابنة ملك آخر لتنتهي الحرب ويعم السلام.
(انظر مثلا أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 2/18 وما بعدها، وانظر كذلك: ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص30 وما بعدها، وانظر كذلك: أنتوني بلاك: الإسلام والغرب ص121 وما بعدها.. والمصادر كثيرة وغزيرة، ولا تخفى على أدنى من له اطلاع على الموضوع)
وكان الاتحاد الأوروبي من ثمرات التحرر من هذه القومية.
المثير للأسى أن القوم الذين أسسوا للقومية يتحررون منها، رغم أنهم حصلوا عليها كمكسب تاريخي بعد كفاح طويل، لم يفرضها عليهم محتل ولم يجبرهم عليها عميل.. فكيف يُسَوَّق هذا في بلادنا نحن التي كانت دولة واحدة على الحقيقة، لم تعان من اختلاف الأعراق والقوميات ولم تنشب فيها حروب عرقية أو دينية طاحنة، ولم يعرفوا معنى القومية إلا تحت حكم المحتل الغربي أو أتباع المحتل الغربي؟!
ثم هم لم يعرفوا القومية إلا لأنها كانت وسيلة لضرب هذا الاجتماع الإسلامي وزرع الضغائن والأحقاد بين العرب والترك تمهيدا لإنهاء الخلافة الإسلامية ووعدا بالخلافة العربية التي سيمهد لها الإنجليز!!!
إن المحتلين هم من خطَّ لنا الحدود، فرسم لنا الهويات، وجعل هذا مصريا وهذا فلسطينيا وهذا سودانيا، وهذا سوريا، وهذا عراقيا، وهذا سعوديا.. إلخ، فصرنا نستمد هويتنا من خط رسمه المحتل، بل صارت تنشب على هذه الحدود حروب يهلك فيها من لم يكن آباؤهم يغامرون بقطرة دم في سبيل رمال أو صحراء.
والمحتلون هم من أَسَّسَ هذه الجيوش، بل قادوها بأنفسهم كثيرا، وكانوا هم بأنفسهم قيادتها العامة وأركان حربها وقادة الفرق فيها، فمن ذا الذي لا يعرف لورنس العرب أو جلوب باشا أو الجنرال سيف (المشهور بسليمان باشا الفرنساوي)، بل إن الجيش المصري في عهد الخديوي إسماعيل كان كالمرتع الأجنبي لكثرة الأجانب في قيادته، ثم جاء الإنجليز وأنشأوه على أعينهم ثم أورثوه البلاد.
والمحتلون هم من كتب لنا مناهج التعليم، ومن ذا ينسى دنلوب –مستشار وزارة المعارف في مصر- والذي لم يزل أولاده وأربابه يتحكمون في مناهج التعليم ويصوغونها على هواهم (وهنا أوصي بمتابعة سلسلة الكتب التي أصدرها د. جمال عبد الهادي ود. وفاء مسعود وأ. علي لبن عن التعليم المصري وتطوره وهيئة المراجعين للمناهج)
والمحتلون هم من وضع لنا القوانين، ومن ذا يجهل المستر فيدال ومدرسة الإدارة والألسن، الذي يعد بحق مؤسس القانون في مصر الحديثة، وقد كان أصلا مهندسا فرنسيا شابا لا علاقة له بالقانون إلا حصوله على بكالوريوس الحقوق.. فكيف يأتي هذا إلى مصر ويؤسس فيها دراسة القانون ويظل حتى آخر عمره مديرا لها؟! وقد استمر خلفاؤه من بعده.. فلئن كان هذا أجنبيا دما ولحما فقد ورثه الأجانب روحا وعقلا حتى غُيِّبت الشريعة وجاءت القوانين الوضعية.
ثم ما إن انتهت الخلافة الإسلامية حتى أخلفوا وعودهم ولم يسمحوا بخلافة عربية، بل جعلوها أقطارا لا تستند في قِسْمتها إلى أي هوية، بل ينقسم فيها العرق الواحد والقبيلة الواحدة بل والمدينة الواحدة والعائلة الواحدة بين أكثر من دولة، ومع تغذية الشعور القومي والوطني تنفجر كل تلك المشكلات بين الحين والآخر، فتجد مشكلة الأكراد الذين يحلمون بوطن، ومشكلة القبائل التي انقسمت بين البلاد فبعضهم هنا وبعضهم هناك وقد لا يستطيعون التزاور، وها هي مدينة رفح مثالا على مدينة انقسمت فصار شطرها مصريا وشطرها فلسطينيا، والأولى تحاصر الثانية!!
قاعدة التقسيم الوحيدة كانت مفاوضات المحتلين، فالموصل أحيانا سورية وأحيانا عراقية حسب تبدل اتفاقياتهم.. والذين نادوا بالقومية العربية كانوا يجهرون بأنهم لا يريدون في خلافتهم العربية لا مصر ولا الشمال الإفريقي، واختلقوا لذلك الحجج التافهة لكي لا يكشفوا السبب الحقيقي: رغبة المحتل نفسه!
لم تأتِ الخلافة العربية إذن، بل منذ بدا في الأفق انهيار الخلافة الإسلامية حتى تصاعدت المطالب بأن تكون الدولة العربية الموعودة أقطارا منفصلة بينها نوع من التحالف وتسودها العلمانية، (ويمكن مطالعة السجالات الفكرية التي تؤسس للقومية العربية ثم تتدرج بها إلى القطرية العلمانية المحلية في كتاب ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة).
وقد كان، وصِرْنا -من بعد ما كنا دولة واحدة- دولا صغيرة ممزقة منكوبة، لا أقول: يتحكم بها الأجنبي، بل هي على الحقيقة ولايات خاضعة له يحكمها بنفسه ويتعامل مع ثرواتها ومواردها ورجالها تعامل المالك مع العبيد.
لقد كشفت الثورات العربية والانقلابات عليها ما لو أنفقنا مئات السنين في بيانه لما اقتنع الناس، ولا أقول إن الثورات كشفت شيئا على سبيل التحليل والاستنتاج بل إن العمالة صارت تُقال علنا عيانا بيانا في حوارات صحفية وجلسات كونجرس ومؤتمرات أجنبية وتسريبات هاتفية أيضا!!
ولئن كان التعامل مع الدولة القومية والجيش "الوطني" يعد غفلة وجهلا فيما قبل مرحلة الثورات العربية، فإن تسويق هذه الصورة بعد الانقلابات ليس جهلا بل هو خيانة وتضليل.
لقد أكسبتنا هذه الانقلابات ما يُعدُّ التفريط فيه جريمة تاريخية، لقد أثبتت لا بالدليل وحده بل بالدماء أن هذه الدولة "القومية" وهذه الجيوش "الوطنية" إنما هي صنيعة المحتل وذراعه الضارب وخط دفاعه الأول والعقبة والكبرى أمام التحرر من الأجنبي.
إن الذين نشأوا في ظلال الدولة القومية وتشربوا أصولها الفلسفية عبر التعليم والقانون والثقافة ونمط الحياة (الذي يجعل المواطن عبدا حقيقيا للدولة) هم في ميزان هذه الدولة "المواطن الصالح" بينما هم في ميزان التحرر والثورة أسوأ مثال.
إن المواطن الصالح بالنسبة للدولة هو من لا يستطيع التفكير خارج ما فرضته عليه من نمط حياة، نمط يستلزم وجود جيش نظامي ومؤسسات تدير كل التفاصيل، وكل هذا مسنود بفلسفة وثقافة وتاريخ (مزور) يجعلها من الأصول والثوابت.
هذا المواطن الصالح يمكن ابتلاع أفكاره إن كان في الغرب حيث توجد الوفرة الاقتصادية وتنعدم الانقلابات العسكرية والمذابح الدموية، أما في أوطاننا هذه فكيف؟!!!
ما الذي يحتاجه ذلك المواطن الصالح ليكفر بهذه الدولة وهذا الجيش وهذا النمط من الأنظمة بعد كل ما حدث له من مذابح هائلة، لا في مصر وحدها بل في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر وسائر البلاد.. أي أنها ليست حالة شاذة بل هي القاعدة: هذه الجيوش لا تقتل غير الشعوب وتفر دائما أمام العدو، وهذه الأنظمة لم تفلح في شيء غير القهر والاستبداد وكتم الأنفاس!

ما أرى لهؤلاء مثلا إلا قوم إبراهيم، رأوا آلهتهم متكسرة مُهانة، ثم لم يرجعوا عن عبادتها بل بحثوا عمن فعل هذا بآلهتهم ليحرقوه وينصروا آلهتهم!!!
نشر في مصري 24
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 05, 2015 02:46

September 2, 2015

مقاومة المجتمع الإسلامي للاستبداد (3/3)

ذكرنا أن من أصول منهج الإسلام في بناء المجتمع تقوية الأمة وتمتين ما بينها من الروابط والعلاقات بحيث تتكون القوة الاجتماعية المتكتلة التي تمنع الحاكم من الاستبداد، كما تتكون المناعة الاجتماعية المتضافرة التي تمنع المفسدين من نشر الفساد وسوء الأخلاق.
لقد أنشأ الإسلام رابطة الدين وجعلها فوق كل الروابط، ثم أعطى أهمية قصوى لرابطة الرحم فدعمها وقوَّاها ورسَّخها، وفي هذه السطور نرى رابطة الجوار (ويمكن أن نسميها: رابطة الجغرافيا) وكيف أقام الإسلام روابطها ومَتَّنَها وعضَّدها، وكان في هذا نموذجا فريدا لم تصل إليه أي فلسفة أو منهج وضعي.
إن رابطة الجوار قد تجمع رابطتي الدين والرحم، وذلك إذا اجتمع في المكان الواحد المسلمون وذوي الأرحام، وقد لا تجمع شيئًا مما سبق؛ فيجتمع في المكان الواحد المسلم مع غير المسلم البعيد.
ولهذه الرابطة كانت المساجد؛ فالمسجد هو الذي يجمع أهل الأرض في مكان واحد وفي لحظة واحدة، والمسجد هو صاحب أكبر إنجاز تاريخي في التأليف بين الأغراب والمتباعدين ومزجهم مزجًا استعصى على كل محاولات التاريخ..
كان ذلك في بداية الدولة الإسلامية حيث كان المسلمون أطيافًا شتى؛ مهاجرين وأنصار وهم غرباء على بعضهم في الطباع والعادات وأسلوب الحياة، والمهاجرون أنفسهم هم مجموعات غير متجانسة ممن آمنوا من كافة قبائل العرب، كما أن الأنصار -أيضًا- حديثو عهد بالنزاع الطويل بين الأوس والخزرج، فهو -بهذه الصورة- أبعد ما يكون عن التماسك والانسجام، وما كان هذا بالذي يغيب عن النبي r.
لهذا وقبل أن يدخل النبي r أرض المهجر أمر ببناء المسجد في قباء قبل المدينة، وقبل أن تطأ قدمه r أرض المدينة كان قد حدَّد موضع المسجد، لقد كان المسجد هو المؤسسة الأولى والمركزية في الدولة الإسلامية، لم يكن فقط دار عبادة، بل هو مدرسة تعليم الدين، ووسيلة الإعلام، وهو قصر الرئاسة الذي يستقبل فيه الوفود وتتخذ فيه القرارات، وهو بعد ذلك مأوى من لا مأوى له من المسلمين الفقراء، وقد يكون أحد جوانبه مستشفى لعلاج الجروح، أو سجنًا للأسرى(وكان الإسلام يدفع المسلمين للالتقاء في هذا المسجد خمس مرات يوميًّا على الأقل، ويرغبهم في كثرة الترداد عليه، وإقامة مجالس الذكر فيه؛ فهي من أسباب رفع الدرجات وغفران السيئات، ومن أسباب نزول الملائكة والرحمة والسكينة، ومن موجبات النور التام في ظلمات يوم القيامة، حتى الخطوة إلى المسجد لها أجر، وبلغ اندفاع المسلمين في هذا حدًّا وصفه ابن مسعود t بقوله: "ما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف"(وبهذا تم التلاحم بين القيادة (النبي) والأتباع، وبين الأتباع بعضهم بعضًا بأسرع وقت ممكن، لقد عرف الجميع بعضهم بعضًا، واختلطوا ببعضهم، فعرفوا أخبارهم وأحوالهم، وفقراءهم وأغنياءهم، فمن كان لديه فضل مال أو طعام ذهب به إلى الفقراء في المسجد، فَعَمَّ التكافل هذا المجتمع الصغير، وصاروا بعد الاغتراب والانقسام كتلة واحدة.
ولا نكاد نعرف عبر التاريخ وسيلة أسرع في اندماج المجتمعات من التقائهم يوميًّا خمس مرات على الأقل!
وقد كانت المدن الإسلامية في القرون الأولى ليس بها إلا مسجد واحد جامع يصلي فيه الناس جميعا يوم الجمعة معا، ما يؤدي إلى التعارف والاندماج بين أهل المدينة جميعا عبر الالتقاء لمرة واحدة أسبوعيا بحد أدنى، حتى توسعت المدن اتساعا كبيرا جعل من الضرورة تعدد المساجد الجامعة في المدينة الواحدة فكانت الجمعة تُصلى فيها بالتعاقب، ثم زاد توسع المدن وكثر سكانها بحيث صار من العسير التقاؤهم جميعا في مسجد واحد فتعددت المساجد الجامعة التي تقام فيها الجمعة في المدينة الواحدة.
وأما من لم يكن مسلمًا، أو كان مسلمًا عاصيًا ليس من أهل المسجد؛ فقد جعل الإسلام له حق الجار، ويوصي بحسن الجوار والمعاملة والمعاشرة، قال ابن حجر: "واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد"(ونزل القرآن يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء: 36]، وعن أبي ذر t قال: "إنَّ خليلي r أوصاني: "إِذا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انظر أهل بيت من جيرانك،فَأَصِبْهُمْ منها بمعروف"(وبالإجمال فإن "حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة؛ كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه.. إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية، وقد نفى r الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه، وهي مبالغة تُنبئ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر، قال (الشيخ ابن أبي جمرة): ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع: إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له؛ إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدَّم، وغير الصالح كَفُّه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويَعِظُ الكافرَ بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه زَلَلَه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه، وإلا فيهجره قاصدًا تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف"(وقد حثَّ الإسلام على مظاهر الود والتراحم مثل عيادة المريض والحرص على صلاة الجنائز والمواساة في الشدائد، بل في أبسط من هذا كإفشاء السلام وتشميت العاطس، وإن مجتمعًا يتبادل أفراده السلام غادين رائحين لهو مجتمع سائر في طريق التحابب والترابط كما قال النبي r: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"(بهذه الروابط الثلاث (رابطة الدين، رابطة الرحم، رابطة الجوار) تحفظ المجتمعات نفسها، وتكون مواجهة المنكر فيها أفضل ما تكون، ولقد كانت عقوبة المسلمين للثلاثة الذين تخلَّفوا عن الغزو هي مجرد مقاطعتهم؛ فكانت عقوبة شديدة صورها الله بقوله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]، وما كان ممكنًا لمثل هذه العقوبة أن تكون مؤثِّرة إلا بما بلغه المجتمع من تماسك متين.
إن المجتمعات المتماسكة هي التي تستطيع الحفاظ على ذاتها وخصوصيتها، ولو تطاول عليها العمر، وهؤلاء اليهود حين قَطَّعَهم الله أسباطًا أممًا كانوا في حاراتهم ومناطقهم يحيون مجتمعهم القديم؛ فحافظوا بذلك على وجودهم من الذوبان، وكانت هذه المجتمعات هي نواة تجددهم وإعادة انبعاثهم في دولة، فحتى "الحديث اليومي بين اليهود في المجتمع لم يكن يتمُّ بلغة البلاد، وإنما برطانة يهودية خاصة تُسَمَّى باليديش، وحين كان يهودي الجيتو يتعلَّم لغة جديدة، فإنه كان يتعلَّم "لشون هاقدوش"؛ أي: اللسان المقدس أو اللغة العبرية؛ لأن مجرَّد النظر إلى أبجدية الأغيار كان يُعَدُّ كفرًا ما بعده كفر، يستحقُّ اليهودي عليه حرق عينيه"(والمجتمعات المتماسكة هي الأوسع تأثيرًا في صباغة غيرها بصبغتها، فحتى اليهود أنفسهم حين عاشوا بجانب العرب تأثروا بأخلاقهم على نحو لافت للنظر، فهم وإن كانوا أحرص الناس على حياة فقد تسرب إليهم بعض من طباع شجاعة العرب؛ فهذا حيي بن أخطب يضمن لبني قريظة أنه إن فشلت خطته في ضمهم لحلف المشركين؛ فإنه سيدخل معهم في حصنهم؛ ليقع عليه ما يقع عليهم، وقد كان: فلقد غدروا بعهدهم مع النبي، وتحالفوا مع الأحزاب؛ فلما نصر الله المؤمنين دخل معهم حيي بن أخطب وقُتِل معهم(وقبل ذلك بأعوام كلَّف النبي r فريقًا من الصحابة بقتل اليهودي كعب بن الأشرف الذي نقض عهده مع المسلمين، وكان يهجو النبي، ويحرض عليه، ويرثى قتلى المشركين، فذهب هذا الفريق -وهو المكون من محمد بن مسلمة وأبو نائلة وآخريْن- إلى كعب بن الأشرف، وبعد تحضير وتدبير نادوا عليه، فخافت زوجته، وحاولت منعه من النزول قائلة: "أسمع صوتًا يقطر منه الدم". فكان من ضمن ما قاله لها: "إن الكريم إذا دُعِي إلى طعنة بليل أجاب". وقد كان في هذا مقتله(وقد ضرب العرب مثلا للوفاء بيهودي في عصر الجاهلية هو السموأل بن عادياء، وذلك أن امرؤ القيس استودع عنده دروعا، فلما مات امرؤ القيس في رحلته إلى قيصر الروم أقبل ملك من ملوك الشام يريد أن يأخذ ميراث امرئ القيس من السموأل فأبى واعتصم بحصنه، لكن الملك أمسك بابن السمؤال الذي كان خارج الحصن وساومه أن يعطيه دروع امرئ القيس وإلا قتل ابنه، فأبى فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه، فصار السموأل مثلا في الوفاءتُعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدنا .. فقلت لها: إن الكرام قليلوما ضرَّنا أنَّا قليلٌ وجارنا .. عزيزٌ، وجار الأكثرين ذليل
نشر في ساسة بوست

([1])د. علي الصلابي: السيرة النبوية ص306 وما بعدها. ([2])مسلم (654). ([3])ابن حجر: فتح الباري 10/441. ([4])مسلم (2625). ([5])أحمد (6566) وقال شعيب الأرناءوط: إسناد قوي على شرط مسلم. والترمذي (1944)، وصححه الألباني. ([6])أبو يعلى (2699) والبيهقي (20160)، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 149). ([7])البخاري (5670)، ومسلم (46). ([8])البخاري (5669)، ومسلم (2624). ([9])ابن حجر: فتح الباري 10/442. والقول لابن أبي جمرة. ([10])مسلم (54). ([11])د. عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية 1/ 31، 32. ([12])ابن كثير: البداية والنهاية 4/118، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة ص427، 428. ([13])البخاري (3811)، ومسلم (1801). الميداني: مجمع الأمثال 2/374.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 02, 2015 23:09

September 1, 2015

على هامش قصة زعيم (6) اسطنبول عاصمة المسلمين

أينما سرت في اسطنبول وجدتَ قوما لم تكن تتوقع أن تراهم، مدينة السلاطين العظام هذه كأنما تختصر العالم الإسلامي من جديد، أو كأن روح العثمانيين الأممية تعود إليها مرة أخرى.
في هذه المدينة ترى من قذفت بهم البلاد بأثر الاضطهاد، من سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر والجزائر والمغرب وجزيرة العرب، حشد كبير من قادة العمل الإسلامي وشبابه الذين لم يجدوا ملجأ سوى تركيا!
هنا ترى أنشطة الدعم المادي والإعلامي والإغاثي للمسلمين في بورما وتركستان الشرقية والقوقاز وإفريقيا الوسطى وجمهوريات وسط آسيا، وتلقى أناسا ما كان يمكن لقياهم إلا هنا، يتولون جمع التبرعات أو التعريف بالقضية المنسية للمسلمين في هذه الأنحاء!
حتى الأطياف الإسلامية تبدو الآن وكأنها قد حُشرت وحُشدت في تركيا، فأقصى يمين السلفية الجهادية (داعش) حتى أقصى يسار الصوفية الشعائرية الذاهلة عن العالم موجودة في تركيا، ولتنظيم الدولة أتباع ومؤيدون بين الأتراك أنفسهم، وما بين هذين الحدين سائر الطيف الإسلامي من الإخوان والسلفيين والجهاديين مع دفقات غير منحصرة من الأفراد المفكرين والعلماء والهيئات المستقلة.
وأما الأعراق فكذلك، ففي تركيا العرب والأتراك والأكراد والتركمان والألبان والأفارقة والأمازيغ والقوقاز والشركس والروس والأعراق الآسيوية الممتدة من تركيا في أقصى غرب آسيا حتى الصين في أقصاها الشرقي.
اسطنبول الآن صورة مختصرة من العالم الإسلامي، قضاياه وهمومه وتياراته وأعراقه.. ولا يمر يوم في اسطنبول إلا وفيه فاعلية أو فاعليات لنصرة قضية من قضايا المسلمين، منذ المؤتمرات الكبرى حتى المسيرات والوقفات الصغيرة، وكثير من القنوات الداعمة لهذه القضايا تتخذ مقراتها من الأرض التركية.
لو لا قدر الله وأصاب اسطنبول شيء، فالخسارة الإسلامية العامة ستكون محققة وأكبر مما يتوقع الجميع!!
ما كان لهذه الصورة أن تكون كما هي عليه الآن لولا أن الرجل الذي يقود هذه البلاد يمتلك هذا التفكير الأممي، ومن الملفت للنظر لدى قراءة سيرة صعود أردوغان هو أن الرجل كان منذ قديم يحمل هذه الرؤية العالمية الأممية.
فمنذ وقت مبكر، وحين كان رئيسا لشعبة اسطنبول في حزب الرفاه (الذي قاده نجم الدين أربكان حتى الانقلاب العسكري في فبراير 1997م) لم تكن همومه منصبة على اسطنبول، بل ولا على تركيا وحدها. بل "تتناول اجتماعات مجلس إدارة شعبة اسطنبول برئاسة أردوغان كل الموضوعات تقريبا ذات العلاقة بتركيا، وليس الموضوعات الخاصة بالحزب أو بالشعبة فقط. فلم تكن تلك الاجتماعات عبارة عن تهيئة أو تخطيط توازنات القوى داخل الحزب، بل كانت بمثابة منتديات نقاشية يتم فيها تناول قضايا تركيا ومعالجة مشكلاتها بإخلاص وصدق. فعلى سبيل المثال كانت مشكلة جنوب شرق تركيا ومعالجة مشكلاتها بإخلاص وصدق. فعلى سبيل المثال كانت مشكلة جنوب شرق تركيا أي مشكلة الأكراد، تطرح نفسها دائما على جدول أعمال الاجتماعات ما لم تُعرض الأحداث التي تجري في البلقان على جدول الأعمال. وفي تلك الأيام كانت هذه الاجتماعات تناقش موضوعات مثل حرب الخليج، والقضية الفلسطينية، والجمهوريات التركية المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفيتي المنهار، والتطورات السياسية الأخرى كافة بالإضافة إلى قضايا الداخل التركي"ومناقشة مثل هذه الأمور هو أمر مستغرب من مسؤول حزبي في محافظة من المحافظات التركية، فكيف إن كانت تركيا هي العلمانية الكمالية التي تقيم محاكم التفتيش على أمر الدين؟!
وقد انزعج أردوغان –وهو إذ ذاك رئيس شعبة اسطنبول- من قرار قيادة الحزب بالتحالف مع حزب الجبهة القومية (وهو حزب تركي قومي يمجد العرق التركي وبينه وبين الأكراد عداء مستحكم) في انتخابات 1991م، لما لهذا من تأثير على احترام ومكانة حزب الرفاه في منطقتي شرق وجنوب شرق الأناضول (وهي المنطقة الكردية)وفي تلك الأثناء (1991م) نظم الحزب ندوة عن الجزائر في اسطنبول، وفيها تحدث أردوغان عن مأساة الانقلاب العسكري في الجزائر على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فكان مما قال:
"إنني أدرك التطورات التي وقعت في الجزائر باعتبارها عدم احترام للشعب الجزائري وتحقيرا لإرادته. فرغم النظام الانتخابي الجائر يفوز الإسلاميون بالسلطة، ثم وعلى الفور ينقلب عليهم الجيش، فيستولي على السلطة ويمعن في البطش والتنكيل بهم.
إن الغرب يعجز عن نقل تعريفه للديمقراطية إلى ميدان الممارسة. فتعريفات الديمقراطية التي تعج بها دوائر المعارف بدت عاجزة عن الوقوف في ساحة التطبيق. فرغم المفاهيم مثل "حكم الشعب للعشب"، "حكم الأغلبية"، نجد الجزائر لا تحترم النتيجة التي كشفت عنها العملية الديمقراطية، بل وتعجز عن تحملها، وتكون النتيجة أن عشرات الآلاف من الناس قد زُجّ بهم في السجون والمعتقلات الآن. إن العسكر في الجزائر قد صُمَّت آذانهم عن سماع ما يقولوه مسؤولو FIS [الجبهة الإسلامية للإنقاذ]: زجوا بنا في السجون كيفما شئتم، فقد انطلق السهم من قوسه، وسيصل حتما إلى هدفه، وسيحكم الشعب بإرادته.
إن كل نظام يعجز عن الاستقواء بشعبه فليس لأي قوة أخرى أن تحميه أو تشد من أزره، وسيكون الانهيار والزوال حتما مصيره، وعاقبته المنتظرة. وأولئك الانقلابيون تنتظرهم عاقبة السوء مثلهم..."ويبدو أنه كان ينطق عن الأتراك وتركيا أكثر مما كان ينطق عن الجزائريين، فلم تمض إلا سنوات ووقع الانقلاب العسكري في تركيا على حزب الرفاه (فبراير 1997م)، وساعتها كان أردوغان في منصب رئيس بلدية اسطنبول الكبرى، وكان من آثار هذا الانقلاب اتهامه بالفتنة والتحريض لأبيات شعر ألقاها في محافظة ديار بكر، فقضت المحكمة بحبسه.
ما يهمنا في سياقنا الآن هو أنه وقبل دخوله إلى السجن ألقى كلمة جاء فيها:
"إخواني الأعزاء!
إنني أريد قول بعض الكلمات. اليوم هو 26 مارس لعام 1999م. وبعد غد إن شاء الله عيد الأضحى المبارك. وإنني أتمناه عيدا مباركا لكل أهالي اسطنبول وكل أفراد أمتي والعالم الإسلامي بأسره.
فهذا العيد له خصوصيته، فقد مر إخواننا في كوسوفا بأيام عصيبة في الأوقات الأخيرة، فأنا أتوجه إليهم بكل أمنياتي بأن يعودوا إلى ديارهم في أسرع وقت، وبقضاء عيد مبارك تتخلله السعادة والسلام والحرية. كما أرسل من هنا خالص تقديري ومحبتي لإخواني من شباب الطيارين الذين تحملوا مهمة شاقة ومشرفة حتى ينقذوا إخواننا في كوسوفا من ظلم الصرب، وأتمنى لهم عيدا مباركا. وأتمنى أن يعودوا إلى وطننا بسعادة وسلامة وهم ناجحون في مهمتهم ليشرفونا جميعا"والآن لسنا في حاجة للتدليل على الاهتمام الأممي لأردوغان بقضايا العالم الإسلامي، لا سيما القضايا المنسية في بورما وتركستان الشرقية والبلقان وإفريقيا.. كما لسنا بحاجة للتدليل على تعلق الملايين من المسلمين به ودعائهم له، خصوصا في تلك المناطق البعيدة: من إندونيسيا شرقا مرورا بشعوب وسط آسيا حتى شعوب البلقان في أوروبا، ومعهم كثير من العرب والمسلمين.
نشر في تركيا بوست

حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص88. حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص90. حسين بسلي وعمر أوزباي: قصة زعيم ص107. قصة زعيم ص270، 271.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 01, 2015 15:40

خلايا القرامطة النائمة في الخليج (1)

القرامطة من أخبث الفرق الكفرية التي ظهرت في تاريخ الإسلام، وارتكبت من الجرائم ما لم يرتكبه غيرها، واستنزفت من المجهود الإسلامي طاقة هائلة، ولم تنتهِ إلا بفضل الله تعالى، فقد أهلك الله زعيمهم أبا طاهر القرمطي وهو ما زال في سن الشباب، ولو أنه عاش أكثر من ذلك مع استمرار التدهور في بغداد عاصمة الخلافة لكان استيلاء القرامطة على بغداد من أسهل ما يكون.
هذه السطور القادمة هي مختصر القصة الأليمة..
في (278هـ) بدأ ظهور القرامطة إلى العلن بعد أعوام من العمل السري، ولكي نعرف أصل القرامطة ينبغي أن نعود قليلا إلى الخلف..
رأت فرقة من الشيعة أن الإمامة من بعد جعفر الصادق يجب أن تكون في حفيده محمد بن إسماعيل، ولذلك سُمُّوا "الإسماعيلية"، وقد بدأ الفارسي عبد الله بن ميمون القداح في تكوين جماعة حول محمد بن إسماعيل الصادق، وكانت البداية من الأهواز، وهناك انضم إليهم رجل يدعى حسين الأهوازي، وحاولا أولا أن يبدآ في البصرة إلا أن والي البصرة انتبه لنشاطهما فهربا إلى "سَلَمْيَة" بالقرب من اللاذقية في الشام، وهناك بدأت بذرة تنظيم القرامطة.
وإذ يتسترون في أول الأمر بالتشيع وآل البيت فكان لا بد من المحاولة في الكوفة ذات الهوى العلوي، وهناك استطاع حسين أن يجتذب شخصية خطيرة: رجل يدعى حمدان ويلقب بـ "قرمط"، وأبدى الأخير من الإخلاص والموهبة ما جعله رئيس الدعوة بعد وفاة حسين الأهوازي، واستطاع أن يقفز بالجماعة قفزات على مستوى التخطيط والتنظيم والاستكثار من الأتباع.
تطور الأمر وانتشر، وبدأ انقسام الجماعة السرية إلى جماعات تتضارب مصالحها في الزعامة والقيادة، ثم امتازوا إلى جماعتين كبيرتين: جماعة في الشام، وجماعة في شرق الجزيرة العربية! كلتا الجماعتين أثخنتا في المسلمين وقتلت منهم الآلاف، إلا أن جماعة الشام كانت أسرع في الظهور والعلن والمواجهة مستغلة ضعف الدولة الطولونية هناك، ولكن الخلافة العباسية -في ذلك الوقت- كانت أحسن حالا فاستطاعت بعد جهد وحروب ومعارك القضاء عليها.
وأما حديثنا الآن فسينتقل إلى جماعة شرق الجزيرة العربية، تلك التي وصلت زعامتها إلى رجل خطير يُدعى أبو سعيد الجنابي، وقد كان من الكفاية والكفاءة بحيث ظلت جماعته ساكنة تعد العدة حتى بلغت من الخطوة ما هدَّد عاصمة الخلافة نفسها تهديدا لم يسبق له نظير.
وضع أبو سعيد نظاما حربيا دقيقا لمشروع دولته استطاع بمقتضاه إعداد جيش قوي، ومن ذلك أنه جمع الأطفال في دور خاصة وتتولى تدريبهم وتنشئتهم عسكريا. ولهذا فبرغم أن انكشاف أمر الجماعة وقع عن غير قصد منها ولا تدبير إلا أن هذا لم يقلل من خطرها ولكنه أبعد مركز نفوذها من العراق إلى شرق الجزيرة العربية في منطقة الهفوف الآن. إذ اضطر أبو سعيد الجنابي إلى هناك بعد انكشاف أمره.
ومن منطقة الهفوف في قرية سمَّاها "المؤمنية" أخذ في التوسع والسيطرة، فاستولى على البحرين بسهولة (286هـ) وأشاع فيها القتل لينشر الخوف ويُحكم أمره، ثم هاجم القطيف فأوقع بها مذبحة أخرى (286هـ)، وأشاع أن المحطة الثالثة ستكون البصرة، فجدَّد والي البصرة سورها بأربعة عشر ألف دينار فصار منيعا. لكن باقي المناطق لم تأمن بل استمرت إغارات القرامطة الذين تفاقم أمرهم، وأرسلت الخلافة جيشا هُزِم هزيمة (أواخر شعبان 287هـ)، وأُسِر قائده، وقتل أبو سعيد كل الأسرى أمام عيني قائدهم ثم أطلقه برسالة إلى الخليفة المعتضد ليثبت له قوته. وتقدم القرامطة بعد هذه الهزيمة فاقتربوا من البصرة (288هـ) فاضطرب أمر أهلها وأرادوا الهجرة منها لولا أن منعهم الوالي.
ثم توقف نشاط جبهة القرامطة هذه وسكن وكأنما اختفى وانتهى لبعض سنين. وإن لم يتوقف فساد باقي الجبهات القرمطية الفاعلة والتابعة لزعماء آخرين في سواد الكوفة وفارس واليمن، واهتمت الخلافة على وجه خاص بما هو قريب منها فتتابعت الفرق العسكرية من المعتضد إليهم حتى كاد أن يبيدهم، وأسر بعضا من قادتهم ورؤسائهم. وساعد في ذلك تدهور أحوال تنظيمات القرامطة واختلاف أمر زعمائهم. وكان من نتائج مواجهات الخلافة مع القرامطة في جبهة الشام أن نشطت أجهزة الاستخبارات في سائر الأنحاء، فأثمر هذا هجوما كبيرا مفاجئا قاده أمير البحرين على حصن للقرامطة في الأحساء فأوقع بهم هزيمة كبيرة (290هـ) قتل فيها الرجل الثاني بعد أبي سعيد الجنابي، وسيطر فيها على مدينة القطيف. ويبدو أن هذه الهزيمة هي التي أوقفت عمل هذه الجبهة القرمطية طوال عهد المكتفي.
ثم عاودت جبهة القرامطة في الجزيرة العربية التحرك بعد وفاة الخلفاء الأقوياء: المعتضد بالله والمكتفي بالله، فظهرت مرة أخرى في عهد الخليفة المقتدر بالله، وهو عهد ضعف تحكمت فيه النساء وتنازعت أجنحة القوة مساحات النفوذ في القصر. وكان من فضل الله على الأمة أن استطاع الخليفة المكتفي بالله قبل موته أن يقضي نهائيا على جبهة القرامطة في الشام بعد معارك مريرة. ولو أن هؤلاء بقوا حتى عهد المقتدر فلربما كانوا اجتاحوا بغداد نفسها في غير عناء إذا انتهزوا لحظة ضعف واضطراب .. وما أكثرها في أيام المقتدر.
تحركت طليعة من ثلاثين رجلا من القرامطة في الأحساء فهاجموا البصرة، وهي أقرب مناطق العراق إلى نفوذهم (299 هـ)، لكن أمير البصرة كان منتبها فأرسل فرقة عسكرية طاردتهم وقتلت منهم وأخذ في تحصين البصرة وطلب المدد من بغداد.
كان القرامطة يسيطرون فعليا على هجر والأحساء والقطيف والطائف، وقد فكر الوزير علي بن عيسى حين تولى الأمر (301هـ) أن يبدأ معهم بالوسائل الدبلوماسية، فكتب إليهم على لسان الخليفة رسالة تدعوهم إلى التوبة والطاعة وإطلاق أسرى المسلمين الذين بأيديهم، على أن حامل الرسالة ما كاد يصل إلى البصرة حتى جاء الخبر بمقتل زعيم القرامطة أبو سعيد الجنابي على يد خادمه الذي كره ما عليه من باطل وقتل معه أربعة من كبار زعماء القرامطة.
إلا أن ابنه أبا طاهر، واسمه سليمان، كان شجاعا جريئًا قوي الشخصية فانتزع زعامة القوم من يد أخيه الأكبر سعيد رغم وصية أبيه إليه قبل موته، فما إن وصلته الرسالة من الخلافة حتى استقبلها بالترحاب وأكرم رسل الخلافة وأطلق ما عنده من الأسرى.. في محاولة لتهدئة الأجواء مع الخلافة ريثما يتسنى له ترتيب الوضع الداخلي بعد الوفاة المفاجئة لأبيه، والتي سيتوقف بسببها نشاط القرامطة عشر سنين أخرى.
وفي ليلة من (ربيع الآخر 311هـ) هاجم القرامطة -وكان عددهم ألفا وسبعمائة- البصرة على حين غفلة من الجميع، فاقتحموا السور وقتلوا الحراسة، وكان الهجوم مفاجئا وسريعا حتى إن والي البصرة نفسه سُبُك المفلحي لم يعلم إلا في آخر الليل، فانطلق فيمن استطاع جمعه من الرجال وقاتلهم وهو يظنهم مجموعة من الأعراب لا القرامطة فهُزِم بطبيعة الحال، وبدأ القرامطة في تنفيذ المذبحة في البصرة التي هام أهلها هربا في كل وجه حتى ألقى الكثير منهم بنفسه في الماء طلبا للنجاة فأدركه الغرق، وظل أبو طاهر سليمان الجنابي في البصرة سبعة عشر يوما يقتل ويأسر ويأخذ من الأموال والمتاع والكنوز، بل من النساء والأطفال ما استطاع.
ثم ما هي إلا شهور أخرى حتى نفذ القرامطة هجوما غادرا (المحرم 312هـ) على قافلة الحجاج العراقيين العائدة من مكة، فأوقع بهم مقتلة شنيعة وأسر منهم أكثر من ألفين، وأخذ كل ما لديهم من الأموال مما يقدر بمليون دينار، ثم لم يكفه هذا فترك من لم يأسرهم في الصحراء بلا طعام ولا شراب ولا دواب حتى هلك أكثرهم من الجوع والعطش والحرِّ!! وحين تصدى له أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان المسؤول عن طريق الكوفة لقي هزيمة نكراء قبيحة قتل فيها أغلب الجنود وأُسِر فيها كبار القادة ومنهم أبو الهيجاء نفسه.
وتشير بعض الروايات إلى أن أبا طاهر هذا كان عمره حينئذ سبعة عشر عاما فقط، وهو ما نستبعده إلا أنه دليل على صغر سنه وعلى قوته وشراسته وجرأته!! وكانت عدة جيشه ثمانمائة فحسب!! وكانت فرصته مضاعفة بما أسفرت عنه نزاعات رجال القصر من تنحية الرجال الأقوياء. وهكذا دائما، تدفع الأمة ثمن شهوات وأهواء رجال الحكم أرواحا ودماء وأعراضا.
أطلق أبو طاهر الأسرى مع رسالة إلى الخليفة يطلب فيها أن يتولى البصرة والأهواز، ولما لم يُجب إلى طلبه استعد لمهاجمة قافلة الحجيج القادمين من طريق الكوفة، وكانت القافلة تحت حماية فرقتين عسكريتين: فرقة متقدمة قوامها ألف بقيادة والي الكوفة، وفرقة من ستة آلاف بقيادة ثلاثة من قواد الخلافة العسكريين، لكن القرمطي هزم الفرقتين هزائم منكرة وانقض على الكوفة واقتحمها وظل فيها ستة أيام يستخلص أموالها ومتاعها وكنوزها ويحمل ما استطاع منها.

وللحديث بقية..
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 01, 2015 05:29

August 30, 2015

تعليقا على فيلم عودة الدينار

وأخيرا استطعت أن أشاهد فيلم "عودة الدينار"، بعد رحلة مطاردة استمرت يوما وليلة، كان اليوتيوب أسبق مني دائما في حذف الفيديو..
وهذه تعليقات سريعة جدا عليه، مأخوذة منه نفسه، دون استعانة بشيء من خارجه.
1. الفيلم قوي بصريا، كعادة إصدارات تنظيم "الدولة"، ولعله أقوى مما سبق كثيرا (إذ لم أشاهد جميع إصداراتهم).. ولذلك فهو ممتع ومؤثر بلا شك.
2. والفيلم قوي في المحتوى العلمي، ومكثف، بدأ بطيئا حتى وصل إلى بداية التاريخ الاقتصادي الأوروبي في إنشاء البنوك ثم جرى سريعا وكثيفا، وأظن أن فهمه صعب على من يتعرض للموضوع لأول مرة.. بينما من يفهم قصة الاقتصاد هذه سيرى أنه فيلم متين ومتقن.
3. وحيث أني شاهدت رد فعل الكثيرين على الفيلم قبل الفيلم نفسه، فيلزمني هذا أن أقول إن المحتوى العلمي للفيلم ليس اكتشافا خرجت به دولة البغدادي ولا هو من عبقريات خبرائهم الاقتصاديين، بل هذه المادة مطروحة مبذولة معروفة مشهورة لكل من بحث في الأمر سابقا، وكتبت عنه أبحاث وروايات وأفلام وثائقية وأفلام درامية وأفلام كارتون.. هذه فقط ملحوظة لمن يتخيل أن تنظيم الدولة اكتشف ما كان مجهولا وعرف ما كان سرا مكينا.
(من هنا يبدأ النقد)
4. استعرض الفيلم تاريخ الخداع العالمي منذ الإقراض بالربا، ثم تحويل الذهب إلى عملة ورقية، ثم رفع غطاء الذهب عن العملة الورقية.. ثم رفع غطاء الذهب عن الدولار (وهنا أهم نقطة باعتبار أن الفيلم كله موجه في معركة النظام العالمي).
لقد أغفل الفيلم، أو لنقل: سيغفل الكثيرون ممن يشاهدونه، عن أن رفع غطاء الذهب عن الدولار لم يكن ليتم أولا قبل إقرار الجميع بأن الدولار هو عملة موثوقة وقوية ومعبرة عن مخزون ضخم من الذهب. تراكم في أمريكا بفعل قوتها الصناعية والعسكرية وبفعل حسن سياستها في بيع المنتجات وقت الحرب مقابل الذهب.
[أي أن القوة الصناعية والعسكرية، ثم قوة السياسة.. هي التي منحت الدولار قيمته التي اضطرت باقي الدول أن تستسلم له.. أو بعبارة أخرى أوضح: لو لم تكن أمريكا متفوقة على مستوى القوة لما استطاعت بحال خزن الذهب عندها وإخضاع الجميع للتعامل بعملتها]
الخلاصة: أن القوة الحقيقية هي التي صنعت الدولار (وليس العكس).
5. وبهذه القوة الحقيقية، القوة العسكرية والصناعية، صدم نيكسون العالم حين قال له: لا غطاء ذهبي للدولار، وعليكم أن تتعاملوا به.. ولم يكن ليفعل هذا، ثم لم يكن لأحد أن يقبل بهذا، لولا القوة الحقيقية (الصناعية والعسكرية) الأمريكية.. فما لأحد بهم طاقة.. فخضعوا لهم.
6. وبهذه القوة الحقيقية، القوة العسكرية والصناعية، أجبرت أمريكا دول النفط، كما أجبرت باقي الدول على أن تستعمل الدولار لبيع وشراء منتجاتها وكنوزها وثرواتها بالدولار الذي تطبعه هي.
7. هل إهمال الدولار وطبع عملة ذهبية أو فضية يقضي على سيطرة الدولار؟
لو كان الأمر هكذا فما أهون هذا وما أيسره، وساعتها سنرمي بالغباء كل عدو واجه أمريكا منذ الاتحاد السوفيتي الرهيب حتى كوبا النحيلة!
ربما يمكن أن نتصور هذا لو كانت الدولة منغلقة على نفسها لديها اكتفاء ذاتي فلن تضطر للتعامل مطلقا خارج حدودها مع القدرة التامة على حماية نفسها.. ساعتها فقط يمكن إهمال الدولار والتعامل بالذهب أو الفضة أو النحاس أو حتى التراب.. ساعتها سينهار الدولار (لكن داخل هذه البلد) لكنه لن يسقط عن عرش العالم أبدا.
8. أما إذا كانت الدولة (وكل الدول هكذا) لا تملك أن تنعزل عن العالم، بل هي مضطرة للتعامل معهم، فهنا ستُصدم بالدولار في وجهها، لأنها مجبرة على التعامل به.. فباقي الدول لا تقبل التعامل بغيره لحاجتها إليه.. وما هذا إلا لأن القوة الأمريكية الحقيقية (الصناعية والعسكرية) تفرض على العالم التعامل به.
ولهذا يسعى كل مخلص إلى المنافسة في مجال القوة الحقيقية (الصناعية والعسكرية) تحت قيد الدولار الذي لا يملك منه فكاكا، حتى يستطيع (بهذه القوة) أن يُحجم من تأثيرات الدولار عليه.. برفع قيمة عملته، أو بالدخول في شراكات وتحالفات تجعل مجموعة من الدول تتبادل فيما بينها بعملة أخرى غير الدولار أو تصنع لنفسها عملة موحدة أخرى أو غير هذا من الإجراءات التي تحتاج قوة حقيقية (صناعية، عسكرية) تسندها في محاولة التحرر من الدولار.
9. ولذلك فالمعضلة الحقيقية التي لن يتبه لها معظم من شاهدوا الفيلم.. خصوصا لو كانوا من مؤيدي "الدولة" هو:
- ما هي قدرة "الدولة" على التبادل بالذهب والفضة مع من يشتري منها النفط (بصورة أساسية) وغيره من السلع؟
- ما هي قدرة "رعية البغدادي" على التعامل بالذهب والفضة خارج حدود الدولة؟
- هل يملك البغدادي إجبار أحد خارج نفوذه على مبادلة ديناره الذهبي أو درهمه الفضي بقيمته الحقيقية بالذهب والفضة؟.. إنه إن لم يفعل فسيصير الذهب فعلا بقيمة التراب إن حبكت عليه مؤامرة بسيطة صغيرة، فكيف وهو يرى "العالم كله" يتآمر عليه؟!!!
- ثم ما هي قدرة رعية البغدادي على مبادلة السلع والبضائع حتى داخليا بقيمة الذهب والفضة.. كيف سيقسم الدينار إلى عملات أصغر ذهبية أو فضية لتصلح للتعامل في حدود شراء كيلو طماطم أو جلبابا أو حذاء أو نحو هذا من السلع البسيطة الصغيرة اليومية؟ هل حل العملة النحاسية حل ناجع (هذا السؤال لا أدري إجابته حقا، وأطرحه للاستفسار)
ومن هنا نفهم جانبا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم بإقرار التعامل (بعملة المشركين: الفرس والروم) كما ذكر الفيلم نفسه، وأن هذا الوضع لم يتغير إلا حينما صارت الدولة الإسلامية قوة عالمية في عهد عبد الملك بن مروان.
ولعل القراء يتذكرون السؤال الذي طالما طُرح على الشيخ البصير الأسير حازم أبو إسماعيل: هل ستجعل دخل قناة السويس بالجنيه المصري؟ فكان رده البسيط: هذا أمر يحتاج دراسة واسعة، لكن هل أجعلها بالجنيه المصري ثم أذهب لكي أشتري الدولار مرة أخرى به؟!.. فماذا استفدنا إذن؟
10. ومنذ أن انتهى الفيلم من شرح طبيعة النظام الرأسمالي حتى ترك الواقعية ودخل في التفاؤل والأحلام.. إذ جعل مجرد بيع السندات والتخلص منها مؤديا إلى الانهيار بتلقائية.. وهذا صحيح ولكن بشرط واحد، وهو الشرط الذي يدور كلامنا كله حوله.. القوة الحقيقية (العسكرية، الصناعية).. ذلك أن الأمر ليس متروكا لمزاج الدول، بل إن أمريكا بما لديها من قوة تمارس القهر والإجبار لئلا يتغير وضع النظام المالي، ولذلك سترانا نحوم ونحوم حول الدولار لكننا نجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام القوة.. القوة الصلبة (الصناعية، العسكرية).
وقد اعترف الفيلم ببعض هذا، حين قال بأن الدول الطاغوتية تستفيد كذلك من وجود البنكنوت، ولكنها تخزن الذهب وتنتظر التغير المثير (انهيار القوة الأمريكية).. وهنا، فجأة: ترك الفيلم كل العقلانية والواقعية وأعطانا زخة من الأناشيد والصور لمقاتلي "الدولة" قائلا: بأن الدولة هي الوحيدة التي ستهاجم هذا الفساد مباشرة وستسقط أمريكا!! في نقلة مفاجئة لا يبتلعها إلا مشاهد مؤيد مبهور أو مشاهد لم يفكر في إعمال عقله.
11. يشبه الأمر مشهد بلطجي يحكم الحارة، أخذ ذهبهم وأجبرهم على التعامل بالخرز أو حتى الخزف الذي يصنعه هو وحده.. وبه يشتري أملاكهم وثرواتهم ومجهودهم (يعطيهم رواتب).. لا تكمن المشكلة في فكرة "تجنب الخرز أو الخزف" فهي بديهية، بل تكمن حقا في "القدرة" على مواجهة قوته وتجبره وتسلطه.
12. بلا شك أن كل ما سبق هو تبسيط شديد لصورة النظام العالمي، فالأمر معقد جدا، فهذا الجانب المالي فضلا عن أنه محمي بالقوة العسكرية والاقتصادية والأمنية (المخابراتية) فإنه قد ترتبت عليه أوضاع ونشأت حوله شبكات مصالح متعددة ومتداخلة بشكل يجعل كسرها عملية لا يسبق فيها جانب على جانب. وهذه الشبكات صارت محكومة بمنظمات عالمية تتحكم في شروط ومعايير الجودة وتقييم السلوك المنفرد للدول والأنظمة والهيئات.. وأمور أخرى لا محل لبسطها هنا.
13. بدون عملية دعوية جهادية واسعة تؤسس لقيم (الزهد) و (الجهاد) و (التراحم والتكافل والتماسك) فضلا عن محاولات عظيمة لتوحيد الجهود الإسلامية وتحييد الأعداء وشراء الخصوم.. فلن نصل إلى شيء مؤثر.. إذ نحن نحتاج لكل خطوة تحجم نطاق تدخل المؤسسات في العمليات الصغيرة الفردية والمحلية..

نعم، سيبقى الجهاد أول الطريق وآخره ومبدأه ومنتهاه.. ولكن الجهاد بدون علم وحكمة يتحول إلى إجرام وقطع طريق كما قال شيخ المجاهدين عبد الله عزام.. وأبعد الناس عن عمل ضخم كهذا أناس يكفرون أقرب الناس إليهم ويستحلون ذبحهم، وليس لهم في محيطهم صديق ولا حليف!!!
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 30, 2015 12:02

August 27, 2015

مقاومة المجتمع الإسلامي للاستبداد (2/3)

ذكرنا في مقال سابق أن الإسلام يبني نظامه بتقوية الأمة بعيدا عن السلطة، بحيث تكون هذه التقوية في ذاتها عاملا رادعا لاستبداد السلطة وعاملا فاعلا في نهضة الأمة وإن ضعفت السلطة. ولهذا فإن الأصل الكبير في منهج الإسلام هو تمتين روابط الأمة وتقويتها، ذلك أن كل استبداد أو فساد لا يبدأ دفعة واحدة، بل يبدأ بتفريق الناس طوائف وأحزابًا.
وباستقراء المنهج الإسلامي رأينا أن الإسلام اعتنى بتقوية ثلاثة روابط كبرى هي: رابطة الدين التي تناولناها في المقال الماضي، ورابطة الرحم التي نتناولها في هذه السطور، ثم رابطة الجوار التي نؤجلها إلى المقال القادم إن شاء الله تعالى.
إن الإسلام الذي أنشأ رابطة الدين لم يهدم ما سواها، بل أكد الإسلام على رابطة الأرحام بين الناس، وكان هذا منذ اللحظات الأولى في عمر الرسالة بتوجيه المؤمنين إلى البر بالوالدين، وإن ظلوا على الشرك: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14، 15]، وحين جاء عمرو بن عبسة في بداية الدعوة إلى النبي سأله: "ما أنت؟ قال r: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوَحَّد الله لا يُشْرَك به شيء"واستمر هذا حتى اكتمل الدين وتمت الرسالة، فكان الإحسان إلى ذوي الأرحام من أولويات التكاليف: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ...} [النساء: 36]، وكان الإنفاق عليهم من أفضل وجوه الصدقات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...} [البقرة: 177]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى...} [البقرة: 215]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].
وقد قَرَن الله بين قطع الأرحام والإفساد في الأرض؛ إذ قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، كما قرن النبي r بين وصل الأرحام وتعمير الأرض؛ ففي الحديث: "صلة الرحم وحُسْن الخلق وحُسْن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"وبلغت صلة الرحم مقامًا عظيمًا في الإسلام؛ إذ أخبر النبي أن الله الرحم قالت لله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أَصِل من وَصَلك، وأقطع من قطعك؟"والنصوص في ذلك كثيرة ومشهورة. قال القاضي عياض: "لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة... وصِلَتُها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة؛ فمنها واجب ومنها مستحب؛ لو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعًا، ولو قَصَّر عما يقدر عليه وينبغي له لا يسمى واصلاً"(ولا ريب أن العاطفة المركبة في النفس من حب الأهل هي أول وأكبر دواعي استشعار المسئولية نحوهم، وإنتاجها الحرص عليهم وحب الخير لهم، واستثمر الإسلام هذه الطبيعة الإنسانية، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وفي الحديث: "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته". فذَكَرَ: "الرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها... والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"لكن الضابط الذي وضعه الإسلام على رابطة الرحم أن لا تعلو على الحق، ولا تتحول إلى العصبية الجاهلية، فتكون مدخلاً إلى الكبر والاستعلاء واحتقار الناس؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وقال r: "دعوها (أي العصبية) فإنها مُنْتِنَة"وبهذا بقيت القبلية وعصبيتها في عهد النبي r وزمن الخلافة الراشدة، ولم يسعَ الإسلام لتفكيكها أو إنهائها؛ بل على العكس من ذلك، اسْتُثْمِرَتْ عاطفة الرحم وروابط القربى في نصرة الدين؛ فقد ميز خالد بن الوليد الجيش المقاتل في اليمامة إلى القبائل؛ ليمتاز الناس ويُعرف من أين يؤتى الخلل، فدافع كل قوم أشد المدافعة لئلاَّ يقال أُتِي المسلمون من قبلهموالأمر لم يكن هكذا فقط في حال الحرب؛ بل في حال السلم؛ فمنذ نزل النبي r المدينة وزَّع على المهاجرين ما لم يكن مملوكا من أرضها وما تنازل عنه الأنصار أو ما غنمه من ديار اليهود، فأقطع كل قبيلة أرضا، فكانت كل قبيلة في ناحية لهاولم يجد المسلمون بأسا في استدعاء أحلاف القبلية القديمة طالما كان الأمر في الحق، ففي عهد معاوية t وقعت منازعة بين الحسين بن علي بن أبي طالب t وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -ابن أخي معاوية، والوالي على المدينة- "فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه؛ فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله r ثم لأدعون بحلف الفضول. قال: فقال عبد الله بن الزبير -وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعًا. قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي"ولا ريب أن قوة القبيلة واتحاد كلمتها منعت من ظلم الحكام، أو هي على الأقل مهدت السبيل لحل المشكلات بالسلم والمفاوضة؛ إذ لم تكن السلطة قادرة على إشعال معركة وفي القوم من إذا غضب غضب له عشرة آلاف أو مائة ألف سيف!
ويبقى المذموم شرعًا هو رفع رابطة الرحم فوق الحق والدين.
نشر في ساسة بوست 

مسلم (832). الألباني: صحيح السيرة ص174، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/173، 174. أحمد (25298)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. الحاكم (7282)، وقال: غريب صحيح ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (12586) وقال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 13457)، وهو إن ضعفه بعض المحدثين كالألباني (صحيح وضعيف الترغيب والترهيب 1491) إلا أن معناه صحيح كما في الآية والحديث السابق له. البخاري (4552)، ومسلم (2554). البيهقي (20364)، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 977). يُنْسأ له في أثره: أي يؤخر ويبارك له في بقية عمره. البخاري (1961)، ومسلم (2557). الترمذي (3895)، وابن ماجه (1977)، وصححه الألباني. النووي: شرح صحيح مسلم 16/113. البخاري (2278)، ومسلم (1829). البخاري (4622)، ومسلم (2584). بطر الحق: دفعه ورفضه استعلاء وترفعًا، غمط الناس: احتقارهم. مسلم (91). الطبري: تاريخ الطبري 2/278، ابن كثير: البداية والنهاية 6/357، وانظر: محمد بن طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 3/63 (قسم الصحيح)، د. أكرم العمري: عصر الخلافة الراشدة ص407، 408. أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن ص20، وإن كُتُبَ أحمد عادل كمال "سلسلة استراتيجية الفتوحات الإسلامية" هي -على حد ما نعلم- أفضل ما كُتِبَ مطلقًا في دراسة الفتوحات. ابن شبة: تاريخ المدينة 1/260 وما بعدها. محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص49، 57، 58، 61. الألباني: صحيح السيرة النبوية ص36، 37. ابن حجر: فتح الباري 5/123. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 27, 2015 02:03

August 25, 2015

على هامش قصة زعيم (5) صراع المناهج والقيادة

يشبه مشهدُ الصراع داخل قيادة الإخوان المسلمين اليوم مشهدَ الصراع داخل قيادة حزب الفضيلة (وريث حزب الرفاه) التركي، بين القيادة القديمة: نجم الدين أربكان، وطلائع الجيل الأصغر الذين يمثلهم أردوغان!
لقد تلقى الحزب صدمة واضحة بانقلاب فبراير 1997 الذي أزاح أربكان وحظر حزب الرفاه وبعض شخصياته من ممارسة العمل السياسي، وزجَّ بأردوغان في السجن بتهمة أبيات شعر في إحدى خطبه، ولما خرج من سجنه كانت المعركة بين جيله وبين أستاذه تصل إلى ذروتها. كذلك أحدث انقلاب يوليو 2013 في مصر صاعقة نزلت بجماعة الإخوان المسلمين وأبانت –بعد سنتين- أن جيل القيادة القديم قد انتهت صلاحيته ولم يعد مستطيعا شيئا جديدا.نسوق في هذه السطور مختصر حكاية أردوغان مع أربكان، ضمن سياقنا حول كتاب "قصة زعيم".
بدأت الحكاية قديما، منذ 1993، ويسجل حسين بسلي –وهو أحد مؤلفي الكتاب- نقدا مبكرا لبقاء القيادات التي تدير العمل زمنا طويلا في مواقعها، وكان ذلك في اجتماع شعبة اسطنبول (التابعة لحزب الرفاه والتي يرأسها أردوغان 27/5/1993)، وهو الاجتماع الذي قُصِد به المراجعة وإعادة تقييم المسار استعدادا لانتخابات 1994، قال حسين بسلي حينذاك:
"لا أعتقد أن إدارة اسطنبول بوضعها الحالي يمكنها أن تنجح في تحقيق ذلك. كما أننا الآن مخطئون من حيث المبدأ في مسألة (التنفيذ). فالأشخاص الذين يقومون بالعملية التنفيذية منذ فترة طويلة هم أنفسهم من دون أي تغيير. إن العمل بهذه الطريقة لفترة طويلة يجعل هؤلاء الأشخاص بمرور الوقت يصدرون ردود أفعال متشابهة ومتكررة إزاء الأحداث والمواقف، كما أنه يجعلهم يتأثرون بالوقائع بالدرجة ذاتها التي تأثروا بها من قبل، أي أن الأفكار تكرر بعضها بعضا من دون تجدد أو تطور. ولذلك أرى أنه من المفيد أن يتم إجراء تعديلات"ولم يكن مثل هذا الكلام ليُقال، أو حتى لمثل هذا الاجتماع أن ينعقد، إلا في ظل رئاسة أردوغان لشعبة اسطنبول، إذ كانت رئاسته فاتحة طريقة جديدة "ديمقراطية" في الإدارة، يسمح فيها للجميع بإبداء الرأي والمشاركة في القرار، وذلك ما جعله موضع شك وارتياب ونفور من قِبَل الإدارة العليا للحزب برئاسة أربكان، فمنذ "الفترة التي بدأت بتوليه رئاسة جناح الشباب حتى رئاسته لبلدية اسطنبول، لم يكن أردوغان مرشحا من الدرجة الأولى من قبل المركز العام للحزب، ولم يحظ باتفاق وقبول عام من المركز العام، بل على النقيض من ذلك نافَسَ المرشحين الذين أعلنهم المركز العام في الانتخابات الداخلية التي يجريها الحزب وفاز دائما. ورغم أن المركز العام للحزب كان يبدو مرحبا بجهود أردوغان داخل الحزب بل ومصنعا له، ولا سيما بآرائه خلال الفترات الانتخابية بصفته رئيسا لشعبة اسطنبول، إلا أنه في الحقيقة كان يقترب من أردوغان دائما اقترابا حذرا، ولم يستطع إخفاء مخاوفه من أن تؤدي نجاحات أردوغان إلى ميلاد زعيم بديل. وإن أحد الإجراءات التي دفعت المركز العام إلى القلق والتخوف من أردوغان –بل ولعله أهم هذه الإجراءات- هو تحقيق أردوغان للديمقراطية داخل الحزب في شعبة اسطنبول. إذ كان المركز العام يخشى من اتخاذ شُعَب الحزب الأخرى من هذا الإجراء نموذجا لها، ثم ينتشر ويعم أرجاء الحزب، وبالتالي ينتقل إلى إدارة المركز العام، وهو ما جعله يدرك أن ذلك يعتبر تهديدا موجها وبشكل مباشر لسلطة أربكان المطلقة. إذ إن الزعامة المركزية في الحزب كانت ذات صفة أبوية أكثر من كونها زعامة سياسية. وكما أنها لا تنظر بارتياح إلى أي نمط من أنماط العلاقات التي تخالف مفهوم الطاعة المطلقة، فإنها كانت لا تتورع عن اتهام المعارضين لها بأثقل الاتهامات وأغلظها"يرصد الكتاب جانبا من مؤسسية عمل الشعبة تحت رئاسة أردوغان حين يتعرض بشيء من التفصيل للحملة الانتخابية التي قادت أردوغان للفوز برئاسة بلدية اسطنبول، وفيها يبدو عمل شعبة اسطنبول لحزب الرفاه عملا مؤسسيا، فمسؤول التواصل مع الإعلام يأمر أردوغان وينهاه حول تصرفاته في وسائل الإعلام، وأردوغان ينفذوقد ظل الخلاف مكتوما بين شعبة اسطنبول ورئاسة الحزب حتى ظهر بوضوح في انتخابات البلديات عام 1994، فإدارة الحزب لا تريد ترشيح أردوغان على قوائمها لمنصب رئيس بلدية اسطنبول الكبرى لكنها من جهة أخرى لا تجد بديلا له، أو بالأحرى لا تجد بديلا تضمن نجاحه أو تضمن عدم انشقاق كثير من شعبة اسطنبول عنها. وفي ذات الوقت فإن أردوغان وفريقه قاموا وبادروا بكل الإجراءات التي تجعل اختيار أردوغان في حكم الضرورة وتجعل التفكير بغيره مغامرة كبرى.
ودارت حرب أعصاب وأجراءات بين الفريقين انتهت بفوز فريق أردوغان الذي ترشح ممثلا لحزب الرفاه، وفاز برئاسة بلدية اسطنبول الكبرى، وكان هذا نجاحا سياسيا كبيرا لحزب الرفاه ونجاحا كبيرا لأردوغان ونجاحا منقوصا لأربكان.نجح أردوغان نجاحا كبيرا في مهمته كرئيس لبلدية اسطنبول الكبرى، ولمع نجمه، وصار حديث الإعلام المبغض والمادح على السواء، ومن ناحيته لم يفرط أردوغان في أن يكون حديثا دائما وحاضرا في وسائل الإعلام للحديث عن إنجازاته وللرد على خصومه وفضح أعدائه.
وكان نجاحه سببا أساسيا في الفوز الذي حققه حزب الرفاه في انتخابات البرلمان، والذي أدى إلى تشكيله الحكومة التي انقلب عليها العسكر عام 1997م، وكان من آثاره إغلاق حزب الرفاه وحظر بعض قيادييه من ممارسة العمل السياسي، وكان من بينهم: أربكان، ثم لحق به أردوغان الذي سُجِن بتهمة إلقاء أبيات شعر "دينية مثيرة للفرقة"!
وبطبيعة الحال سعى أربكان في تأسيس حزب جديد يقوده هو من الظل، وعن هذه الفترة يقول أردوغان: "قبيل إغلاق حزب الرفاه تم إجراء استطلاع للرأي بين الأعضاء حول إنشاء حزب جديد ومن يقوده، وكانت النتيجة أن هناك 85% ممن يؤيدون أن أكون أنا قائد هذا الحزب الجديد المقترح إنشاؤه. والجميع يعلمون ذلك مثل علمي به. وقد تم عقد اجتماعات في أنقره وأقر المنضمون لهذه الاجتماعات أن أكون أنا الرئيس العام لهذا الكيان الجديد الذي يفكرون في إنشائه... وعلى الرغم من ذلك، فقد رغب الأستاذ أربكان في أن يتولى رئاسة الحزب السيد رجائي (قوطان)، فكان وقتها يبحث عن شخص تابع ينفذ ما يأمره به أكثر من شخص ينمّي الكيان الجديد ويطوره. ولولا هذا ما تطورت الأمور بتلك الصورة"وكطبيعة أي تجربة فاشلة، كان للانقلاب العسكري آثار بليغة على قيادة أربكان، واتسعت دائرة المعارضة له بين صفوف حزبه، ولأول مرة وجد رئيس الحزب (رجائي) أصواتا تعارض رغبة "الأستاذ" أربكان وترفض تمرير قائمة الأسماء التي يزكيها وتجبره على إجراء انتخابات حقيقية، فاز فيها فريق الجيل الجديد، وكانت هذه بداية صراع آخر بين الفريقين، وكان فريق "التجديديين" –كالعادة في مثل تلك المواقف- يملك الكوادر والحماسة ولا يملك المال ولا النفوذ!!وحيث كان أردوغان نفسه محظورا من العمل السياسي، فإن فريق التجديد هذا اختار عبد الله جُل ليرشحه رئيسا للحزب أمام رجائي قوطان (مرشح أربكان)، ويعترف جُل بأن الأمر كان عسيرا؛ إذ سيتعرضون لتهم الخيانة وشق الصف وإشعال الفتن، ذلك أنهم كانوا يحتجون على "تقاليد وسلطة استمرت ثلاثين عاما، وكانت تزداد رسوخا عاما بعد عام، وعلى قيادة تعتمد على الشخصية المنفردة وعلى مُنَظَّمة مُشَكَّلة أيديولجيا... وعلى مفهوم سياسي يعتمد في الإطار الأول على الطاعة العمياء"توترت أرجاء الحزب بأثر من هؤلاء الذين يريدون تنافسا حقيقيا ولا يخضعون لرغبة الأستاذ أربكان، ولم يُخف بعضهم نواياه صراحة بأن هؤلاء إذا فازوا فسيؤسس "الأستاذ" حزبا جديدا وينسحبون هم معه إلى الحزب الجديد. وهكذا صار واضحا أن الفريقين لن يجتمعا، فلما جرت الانتخابات خسر التجديديون بفارق قليل وشككوا في هذه النتيجة التي بُنيَت على تشويههم وعرقلتهم، وساروا في المسار المتوقع: تأسيس حزب جديد لهم، وكانت خسارتهم خيرا لهم إذ أن السلطة اعتبرت حزب الفضيلة تحايلا على القانون وامتدادا لحزب قد أغلق ومركزا لمناهضة العلمانيةولئن تشابه المشهد التركي قبل خمسة عشر عاما مع المشهد المصري الآن فإن الفوارق واضحة.. فهناك انقلاب ناعم وهذا انقلاب دموي، وهناك يستطيع الشباب السير في ممارسة ديمقراطية وإن كانت شكلية ضد قيادة قديمة في فسحة من الوقت، بينما لا يستطيع الشباب هنا الوصول إلى هذا الحد في ظرف عصيب ومع قيادة تحتكر لنفسها الجماعة بمنطق وضع اليد.
على أن أبرز الدروس المستفادة هي أنه لا بد من التجديد وتغيير القيادات القديمة التي فشلت فشلا ذريعا والأنكى أنها لا ترى أنها فشلت مما يعني انفصالا حقيقيا عن دنيا الناس والعيش في أوهام وخيالات عجيبة. كما أنه يجب السعي حتى النهاية في الاحتفاظ بشرعية الجماعة واسمها، وعدم تركها بيد هؤلاء حفاظا على الجماعة نفسها وعلى منهجها وشبابها وعلى أمانة الدماء التي سالت والتي تنتظر أن تسيل فوق المشانق.
نشر في تركيا بوست

قصة زعيم ص128. قصة زعيم ص121، 122. قصة زعيم ص153، 154. قصة زعيم ص157، 158. قصة زعيم ص289. قصة زعيم ص294 وما بعدها. قصة زعيم ص297. قصة زعيم ص301 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 25, 2015 17:21