مقاومة المجتمع الإسلامي للاستبداد (2/3)

ذكرنا في مقال سابق أن الإسلام يبني نظامه بتقوية الأمة بعيدا عن السلطة، بحيث تكون هذه التقوية في ذاتها عاملا رادعا لاستبداد السلطة وعاملا فاعلا في نهضة الأمة وإن ضعفت السلطة. ولهذا فإن الأصل الكبير في منهج الإسلام هو تمتين روابط الأمة وتقويتها، ذلك أن كل استبداد أو فساد لا يبدأ دفعة واحدة، بل يبدأ بتفريق الناس طوائف وأحزابًا.
وباستقراء المنهج الإسلامي رأينا أن الإسلام اعتنى بتقوية ثلاثة روابط كبرى هي: رابطة الدين التي تناولناها في المقال الماضي، ورابطة الرحم التي نتناولها في هذه السطور، ثم رابطة الجوار التي نؤجلها إلى المقال القادم إن شاء الله تعالى.
إن الإسلام الذي أنشأ رابطة الدين لم يهدم ما سواها، بل أكد الإسلام على رابطة الأرحام بين الناس، وكان هذا منذ اللحظات الأولى في عمر الرسالة بتوجيه المؤمنين إلى البر بالوالدين، وإن ظلوا على الشرك: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14، 15]، وحين جاء عمرو بن عبسة في بداية الدعوة إلى النبي سأله: "ما أنت؟ قال r: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوَحَّد الله لا يُشْرَك به شيء"واستمر هذا حتى اكتمل الدين وتمت الرسالة، فكان الإحسان إلى ذوي الأرحام من أولويات التكاليف: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ...} [النساء: 36]، وكان الإنفاق عليهم من أفضل وجوه الصدقات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...} [البقرة: 177]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى...} [البقرة: 215]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].
وقد قَرَن الله بين قطع الأرحام والإفساد في الأرض؛ إذ قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، كما قرن النبي r بين وصل الأرحام وتعمير الأرض؛ ففي الحديث: "صلة الرحم وحُسْن الخلق وحُسْن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"وبلغت صلة الرحم مقامًا عظيمًا في الإسلام؛ إذ أخبر النبي أن الله الرحم قالت لله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أَصِل من وَصَلك، وأقطع من قطعك؟"والنصوص في ذلك كثيرة ومشهورة. قال القاضي عياض: "لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة... وصِلَتُها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة؛ فمنها واجب ومنها مستحب؛ لو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعًا، ولو قَصَّر عما يقدر عليه وينبغي له لا يسمى واصلاً"(ولا ريب أن العاطفة المركبة في النفس من حب الأهل هي أول وأكبر دواعي استشعار المسئولية نحوهم، وإنتاجها الحرص عليهم وحب الخير لهم، واستثمر الإسلام هذه الطبيعة الإنسانية، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وفي الحديث: "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته". فذَكَرَ: "الرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها... والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"لكن الضابط الذي وضعه الإسلام على رابطة الرحم أن لا تعلو على الحق، ولا تتحول إلى العصبية الجاهلية، فتكون مدخلاً إلى الكبر والاستعلاء واحتقار الناس؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وقال r: "دعوها (أي العصبية) فإنها مُنْتِنَة"وبهذا بقيت القبلية وعصبيتها في عهد النبي r وزمن الخلافة الراشدة، ولم يسعَ الإسلام لتفكيكها أو إنهائها؛ بل على العكس من ذلك، اسْتُثْمِرَتْ عاطفة الرحم وروابط القربى في نصرة الدين؛ فقد ميز خالد بن الوليد الجيش المقاتل في اليمامة إلى القبائل؛ ليمتاز الناس ويُعرف من أين يؤتى الخلل، فدافع كل قوم أشد المدافعة لئلاَّ يقال أُتِي المسلمون من قبلهموالأمر لم يكن هكذا فقط في حال الحرب؛ بل في حال السلم؛ فمنذ نزل النبي r المدينة وزَّع على المهاجرين ما لم يكن مملوكا من أرضها وما تنازل عنه الأنصار أو ما غنمه من ديار اليهود، فأقطع كل قبيلة أرضا، فكانت كل قبيلة في ناحية لهاولم يجد المسلمون بأسا في استدعاء أحلاف القبلية القديمة طالما كان الأمر في الحق، ففي عهد معاوية t وقعت منازعة بين الحسين بن علي بن أبي طالب t وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -ابن أخي معاوية، والوالي على المدينة- "فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه؛ فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله r ثم لأدعون بحلف الفضول. قال: فقال عبد الله بن الزبير -وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعًا. قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي"ولا ريب أن قوة القبيلة واتحاد كلمتها منعت من ظلم الحكام، أو هي على الأقل مهدت السبيل لحل المشكلات بالسلم والمفاوضة؛ إذ لم تكن السلطة قادرة على إشعال معركة وفي القوم من إذا غضب غضب له عشرة آلاف أو مائة ألف سيف!
ويبقى المذموم شرعًا هو رفع رابطة الرحم فوق الحق والدين.
نشر في ساسة بوست 

مسلم (832). الألباني: صحيح السيرة ص174، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/173، 174. أحمد (25298)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. الحاكم (7282)، وقال: غريب صحيح ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (12586) وقال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 13457)، وهو إن ضعفه بعض المحدثين كالألباني (صحيح وضعيف الترغيب والترهيب 1491) إلا أن معناه صحيح كما في الآية والحديث السابق له. البخاري (4552)، ومسلم (2554). البيهقي (20364)، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 977). يُنْسأ له في أثره: أي يؤخر ويبارك له في بقية عمره. البخاري (1961)، ومسلم (2557). الترمذي (3895)، وابن ماجه (1977)، وصححه الألباني. النووي: شرح صحيح مسلم 16/113. البخاري (2278)، ومسلم (1829). البخاري (4622)، ومسلم (2584). بطر الحق: دفعه ورفضه استعلاء وترفعًا، غمط الناس: احتقارهم. مسلم (91). الطبري: تاريخ الطبري 2/278، ابن كثير: البداية والنهاية 6/357، وانظر: محمد بن طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 3/63 (قسم الصحيح)، د. أكرم العمري: عصر الخلافة الراشدة ص407، 408. أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن ص20، وإن كُتُبَ أحمد عادل كمال "سلسلة استراتيجية الفتوحات الإسلامية" هي -على حد ما نعلم- أفضل ما كُتِبَ مطلقًا في دراسة الفتوحات. ابن شبة: تاريخ المدينة 1/260 وما بعدها. محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص49، 57، 58، 61. الألباني: صحيح السيرة النبوية ص36، 37. ابن حجر: فتح الباري 5/123. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 27, 2015 02:03
No comments have been added yet.