محمد إلهامي's Blog, page 53
November 5, 2015
في العطاء الحضاري الإسلامي للإنسانية بأقلام المستشرقين
ذكرنا في مقالات سابقة كيف أخرج الإسلام خير أمة للناس، وحاولنا استقراء هذا في بناء الإسلام للفرد والمجتمع والسلطة، ثم أردنا أن نثبت بأن الإنجاز الإسلامي لم يكن فقط على مستوى البناء والنظرية التي تفوقت على الفلسفات والمناهج البشرية الوضعية، بل كان في تحويله هذا البناء النظري إلى واقع عملي، وقد قدَّمنا في المقال السابق ما يثبت أن الإسلام كان أنجح حركة في تاريخ البشرية، واستشهدنا على ذلك بأقوال المستشرقين ليكون ذلك أوضع في الحجة وأبلغ في الدليل.
لكن التأثير الإسلامي لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية:
ففي ميدان العلومتقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه: "لقد طوَّر العرب بتجاربهم وأبحاثهم العملية ما أخذوه من مادَّة خام عن الإغريق، وشكَّلوه تشكيلاً جديدًا، فالعرب -في الواقع- هم الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحقَّ القائم على التجربة... إن العرب لم يُنْقِذُوا الحضارة الإغريقية من الزوال ونَظَّمُوها ورتَّبُوهَا ثم أَهْدَوْهَا إلى الغرب فحسب؛ إنهم مُؤَسِّسُو الطُّرُقَ التجريبية في الكيمياء، والطبيعة، والحساب، والجبر، والجيولوجيا، وحساب المثلثات، وعلم الاجتماع، وبالإضافة إلى عددٍ لا يُحْصَى من الاكتشافات والاختراعات الفردية في مخْتَلَفِ فروع العلوم -والتي سُرق أغلبها ونُسب لآخرين- قدَّم العرب أثمن هدية؛ وهي طريقة البحث العلمي الصحيح، التي مَهَّدَتْ أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتَسَلُّطِهِ عليها اليوم"(وفي ميدان التشريعيقول القانوني والمستشرق الإيطالي دافيد دي سانتيلانا: "إننا لو ضربنا صفحًا عن كل ما تقدَّم (من ذِكْرِه مزايا الشريعة الإسلامية)، فلا شك وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"(وفي ميدان الاجتماعيقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون: "العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقًا لنُظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوروبا -قولاً لا فعلاً- راسخٌ في طبائع الشرع رسوخًا تامًّا، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدَّى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي"(وفي ميدان الأخلاقنرى المستشرق والكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي يتعجب قائلاً: "إن مما يؤثر في الغريب اليوم أدب العربي الصميم، ورقة قلبه، وحسن ضيافته، ولا يوجد جنس بشري آخر يبلغ في الكرم ما يبلغه العربي، كرم يصدر عن نفس صادقة، لقد انقضى ثلاثة عشر قرنًا منذ أعطى محمد r دروس الأخلاق في المدينة، ولكن تلك الدروس لم تُنْسَ إلى الآن". وهو يبدو منبهرًا إذ يطالع هذه النتيجة فيقول: "يبدو هذا العمل عظيمًا لمن لا يعرف العرب عن كثب؛ ولكنه أعظم خطورة مما يظهر؛ فالعرب فوضويون بطبعهم، لا يخضعون لقانون، فإذا ما اشتغل العربي أو حارب، فإنما يفعل ذلك بدافع من حماسته الشخصية، ولا يتحلَّى العربي بروح الجماعة... إن طريقة صهر محمد r العرب في فريق واحد لا يهزم، لإحدى معجزاته العظمى، وإن الفضل كل الفضل له"(وفي ميدان اللغة والأدبيقول المستشرق الإسباني أميركو كاسترو: "أغلب المتخصصين يعرفون أن صدى الإسلام ظلَّ باقيًا في الآثار التي خلفها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة، وكذلك العديد من المدن الأخرى قليلة الأهمية في هذا المقام، أما فيما يتعلق باللغة فهناك الآلاف من الألفاظ والمصطلحات العربية التي ما زال بعضها حيًّا، بينما عفا الزمان على بعضها الآخر، كما أن الأدب استلهم المصادر العربية، ووضح هذا الإلهام في قواعد الكهنوت... بل إن هناك تعبيرات قرآنية يتم تداولها في لغة الحياة اليومية، ومن يقرأ القرآن بعناية سيعثر على الكثير، ونقول على الآلاف من الأقوال والأمثال الإسبانية، فيقال بالإسبانية -مجازًا- "إن فلانًا حمار محمل بالعلوم"، وهذا معناه أن القيمة الثقافية لذلك الإنسان ضعيفة رغم أنه يعرف الكثير... وفي البرتغالية عبارة مرحة تقول: (إن الحمار المحمل بالكتب دكتور). وهنا يتضح معنى الاستعارة بشكل أفضل، وعندما نقرأ القرآن نجد أنه يوضحها بجلاء لا لبس فيه؛ إذ تقول الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]"(ويشهد المستشرق البريطاني ألفريد جيوم بأنه "عندما ترى ضوءَ النهار جميعُ المواد النفيسة المختزنة في مكتبات أوروبا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عرف عنه حتى الآن"(إن هذه ليست أكثر من لمحات خاطفة، فإن أثر الإسلام في العرب وفي الدنيا كلها كُتبت فيه المجلدات الكثيرة، وما زال يُكتب المزيد، ويبقى أن نؤكد معنى مهمًّا، وهو أن هذا الأثر لم يعد تاريخًا قد مضى، بل ما زال الإسلام منشودًا ومرغوبًا في أرضه وخارج أرضه أيضًا.
فأما داخل أرضه فتثبته كل انتخابات ولو شبه نزيهة؛ إذ يكتسحها الإسلاميون في كافة أنحاء العالم الإسلامي، وأما خارج أرضه فهو مبثوث في العديد من كتابات المفكرين غير المسلمين، وقد ارتفعت الوتيرة كثيرًا بعد الأزمة المالية العالمية، التي لم يصمد فيها إلا المؤسسات المصرفية الإسلامية، بل إن المتعصبين ضد الإسلام؛ إذ يصرحون بأن الإسلام هو الخطر، وهو القادر على تقديم بديل حقيقي للفكر الغربي فإنهم -بهذا- يعترفون بأنه الأمل الذي يداعب خيال العالم بعد فشل النماذج الغربية(إن رسوخ الإسلام كواقع حضاري بعد نحو ألف وخمسمائة عام، بل ووجوده كبديل مطروح قوي حتى في ظل ضعف البلاد الإسلامية، إن هذا الخلود بحد ذاته دليل لا يقبل الشك على قوة الإنجاز الإسلامي على أرض الواقع لا في مساحات التنظير فحسب.نشر في ساسة بوست
([1]) زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص401، 402. ([2]) كارا دي فو: الفلك والرياضيات بحث منشور بكتاب تراث الإسلام بإشراف (أرنولد) ص564. ([3]) دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، دراسة منشورة في "تراث الإسلام" بإشراف توماس أرنولد ص439. ([4]) جوستاف لوبون: حضارة العرب ص391. ([5]) ر. ف. بودلي: الرسول ص138، 140. ([6]) أميركو كاسترو: إسبانيا في تاريخها ص63، 92. ([7]) ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف توماس أرنولد، ص401. ([8]) على الرغم من الخلاف الأساسي بين طرحي فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنجتون، فإنهما يتفقان في أن العقبة الرئيسية أمام انتشار الحضارة الغربية هي الإسلام والدول الإسلامية، وبينما يأمل فوكوياما في أن الوقت سيأتي بهم إلى محراب الحضارة الغربية (فيما بعد تراجع فوكوياما عن نظريته "نهاية التاريخ")، يرى هنتنجتون أن هذا من الأحلام المستحيلة وأن المسلمين أبدًا لن يتغربوا، وأن الصدام لا محالة واقع بين الغرب والإسلام. انظر: فوكوياما: نهاية التاريخ ص56، 57، هنتنجتون: صدام الحضارات ص166، 168.
لكن التأثير الإسلامي لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية:
ففي ميدان العلومتقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه: "لقد طوَّر العرب بتجاربهم وأبحاثهم العملية ما أخذوه من مادَّة خام عن الإغريق، وشكَّلوه تشكيلاً جديدًا، فالعرب -في الواقع- هم الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحقَّ القائم على التجربة... إن العرب لم يُنْقِذُوا الحضارة الإغريقية من الزوال ونَظَّمُوها ورتَّبُوهَا ثم أَهْدَوْهَا إلى الغرب فحسب؛ إنهم مُؤَسِّسُو الطُّرُقَ التجريبية في الكيمياء، والطبيعة، والحساب، والجبر، والجيولوجيا، وحساب المثلثات، وعلم الاجتماع، وبالإضافة إلى عددٍ لا يُحْصَى من الاكتشافات والاختراعات الفردية في مخْتَلَفِ فروع العلوم -والتي سُرق أغلبها ونُسب لآخرين- قدَّم العرب أثمن هدية؛ وهي طريقة البحث العلمي الصحيح، التي مَهَّدَتْ أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتَسَلُّطِهِ عليها اليوم"(وفي ميدان التشريعيقول القانوني والمستشرق الإيطالي دافيد دي سانتيلانا: "إننا لو ضربنا صفحًا عن كل ما تقدَّم (من ذِكْرِه مزايا الشريعة الإسلامية)، فلا شك وأن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"(وفي ميدان الاجتماعيقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون: "العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقًا لنُظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوروبا -قولاً لا فعلاً- راسخٌ في طبائع الشرع رسوخًا تامًّا، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدَّى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي"(وفي ميدان الأخلاقنرى المستشرق والكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي يتعجب قائلاً: "إن مما يؤثر في الغريب اليوم أدب العربي الصميم، ورقة قلبه، وحسن ضيافته، ولا يوجد جنس بشري آخر يبلغ في الكرم ما يبلغه العربي، كرم يصدر عن نفس صادقة، لقد انقضى ثلاثة عشر قرنًا منذ أعطى محمد r دروس الأخلاق في المدينة، ولكن تلك الدروس لم تُنْسَ إلى الآن". وهو يبدو منبهرًا إذ يطالع هذه النتيجة فيقول: "يبدو هذا العمل عظيمًا لمن لا يعرف العرب عن كثب؛ ولكنه أعظم خطورة مما يظهر؛ فالعرب فوضويون بطبعهم، لا يخضعون لقانون، فإذا ما اشتغل العربي أو حارب، فإنما يفعل ذلك بدافع من حماسته الشخصية، ولا يتحلَّى العربي بروح الجماعة... إن طريقة صهر محمد r العرب في فريق واحد لا يهزم، لإحدى معجزاته العظمى، وإن الفضل كل الفضل له"(وفي ميدان اللغة والأدبيقول المستشرق الإسباني أميركو كاسترو: "أغلب المتخصصين يعرفون أن صدى الإسلام ظلَّ باقيًا في الآثار التي خلفها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة، وكذلك العديد من المدن الأخرى قليلة الأهمية في هذا المقام، أما فيما يتعلق باللغة فهناك الآلاف من الألفاظ والمصطلحات العربية التي ما زال بعضها حيًّا، بينما عفا الزمان على بعضها الآخر، كما أن الأدب استلهم المصادر العربية، ووضح هذا الإلهام في قواعد الكهنوت... بل إن هناك تعبيرات قرآنية يتم تداولها في لغة الحياة اليومية، ومن يقرأ القرآن بعناية سيعثر على الكثير، ونقول على الآلاف من الأقوال والأمثال الإسبانية، فيقال بالإسبانية -مجازًا- "إن فلانًا حمار محمل بالعلوم"، وهذا معناه أن القيمة الثقافية لذلك الإنسان ضعيفة رغم أنه يعرف الكثير... وفي البرتغالية عبارة مرحة تقول: (إن الحمار المحمل بالكتب دكتور). وهنا يتضح معنى الاستعارة بشكل أفضل، وعندما نقرأ القرآن نجد أنه يوضحها بجلاء لا لبس فيه؛ إذ تقول الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]"(ويشهد المستشرق البريطاني ألفريد جيوم بأنه "عندما ترى ضوءَ النهار جميعُ المواد النفيسة المختزنة في مكتبات أوروبا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عرف عنه حتى الآن"(إن هذه ليست أكثر من لمحات خاطفة، فإن أثر الإسلام في العرب وفي الدنيا كلها كُتبت فيه المجلدات الكثيرة، وما زال يُكتب المزيد، ويبقى أن نؤكد معنى مهمًّا، وهو أن هذا الأثر لم يعد تاريخًا قد مضى، بل ما زال الإسلام منشودًا ومرغوبًا في أرضه وخارج أرضه أيضًا.
فأما داخل أرضه فتثبته كل انتخابات ولو شبه نزيهة؛ إذ يكتسحها الإسلاميون في كافة أنحاء العالم الإسلامي، وأما خارج أرضه فهو مبثوث في العديد من كتابات المفكرين غير المسلمين، وقد ارتفعت الوتيرة كثيرًا بعد الأزمة المالية العالمية، التي لم يصمد فيها إلا المؤسسات المصرفية الإسلامية، بل إن المتعصبين ضد الإسلام؛ إذ يصرحون بأن الإسلام هو الخطر، وهو القادر على تقديم بديل حقيقي للفكر الغربي فإنهم -بهذا- يعترفون بأنه الأمل الذي يداعب خيال العالم بعد فشل النماذج الغربية(إن رسوخ الإسلام كواقع حضاري بعد نحو ألف وخمسمائة عام، بل ووجوده كبديل مطروح قوي حتى في ظل ضعف البلاد الإسلامية، إن هذا الخلود بحد ذاته دليل لا يقبل الشك على قوة الإنجاز الإسلامي على أرض الواقع لا في مساحات التنظير فحسب.نشر في ساسة بوست
([1]) زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص401، 402. ([2]) كارا دي فو: الفلك والرياضيات بحث منشور بكتاب تراث الإسلام بإشراف (أرنولد) ص564. ([3]) دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، دراسة منشورة في "تراث الإسلام" بإشراف توماس أرنولد ص439. ([4]) جوستاف لوبون: حضارة العرب ص391. ([5]) ر. ف. بودلي: الرسول ص138، 140. ([6]) أميركو كاسترو: إسبانيا في تاريخها ص63، 92. ([7]) ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف توماس أرنولد، ص401. ([8]) على الرغم من الخلاف الأساسي بين طرحي فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنجتون، فإنهما يتفقان في أن العقبة الرئيسية أمام انتشار الحضارة الغربية هي الإسلام والدول الإسلامية، وبينما يأمل فوكوياما في أن الوقت سيأتي بهم إلى محراب الحضارة الغربية (فيما بعد تراجع فوكوياما عن نظريته "نهاية التاريخ")، يرى هنتنجتون أن هذا من الأحلام المستحيلة وأن المسلمين أبدًا لن يتغربوا، وأن الصدام لا محالة واقع بين الغرب والإسلام. انظر: فوكوياما: نهاية التاريخ ص56، 57، هنتنجتون: صدام الحضارات ص166، 168.
Published on November 05, 2015 13:08
November 3, 2015
فوارق رئيسية بين التجربتين العربية والتركية
لم تكن فرحة أنصار حزب العدالة والتنمية في تركيا بالفوز بأقل من فرحة العرب والمسلمين، في تركيا وخارجها، بهذا الفوز نفسه. بل نقول: فرحة العرب تزيد، فإن منهم اللاجئ ومنهم المطارد ومنهم من فقد الأمل في الحكام جميعا ولم يعد ينظر بعين الأمل إلا إلى أردوغان.
وحيث ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فإنه ليس أسوأ من الهزيمة إلا الفشل في قراءة أسباب النجاح، وإذا كان يُقال: للنجاح آباء كُثُر، فإن تفرق نسب النجاح بين الآباء لم نستطع أن نعرف أصله وسببه، ولم ندرك أين يكمن معدنه وجوهره.. فإن كل ذي رأي يمدُّ سبب النجاح إلى رأيه ويبحث فيه عن هواه.
ولتهذيب وضبط القراءات المتعددة للتجربة التركية نكتب هذه السطور:
(1)العسكر الترك والعسكر العرب
بداية فإن الشبه الأساسي بين تركيا والبلاد العربية هو في كونهما حُكِما بأنظمة استبدادية، ومثلما يرى العسكر أنفسهم في العالم العربي أصحاب الدولة وأنها ملكهم يرى العسكر الترك ذلك، فعسكر تركيا يرون أنهم مؤسسو الدولة الحديثة وأصحاب الانقلاب على الإرث العثماني "المتخلف" وأصحاب معركة التحرير واستنقاذ البلاد من أنياب معاهدة سيفر التي كانت تقضي عليها عمليا، ويفتخر العسكر حتى الآن بإنجاز لم يكونوا قد وُلِدوا حين تمَّ، هذا لو تجاوزنا كل ما يثار من إشكاليات حول كونه إنجازا.
ورغم هذا الاتفاق فإن الفارق الكبير أن العسكر الترك كانوا منذ ظهرت آفاق التحديث ذوي رأي وسياسة، فحين بدأت سياسة ما يُعرف بالتنظيمات أو الإصلاحات في الدولة العثمانية كانت بدايتها في الجيش، وفي الجيش تكونت الحركات التي انقلبت فيما بعد على الخلافة العثمانية، ومنذ تأسيس الجمهورية والجيش هو من يحكم بسياسة علمانية واضحة وصريحة اشتبكت مباشرة مع نظام الخلافة ومع المجتمع المسلم، فالعسكر التركي يرث ميراثا علمانيا هو من أسسه ورعاه وصار ذا خبرة في معاركه.
بينما العسكر العرب جهلاء بلا فكر ولا رؤية ولا لهم دور في بناء دولهم ولا خاضوا معارك تحرير حقيقية يمكنهم أن يستمدوا منها شرعيتهم أو يفهموا بها معنى الصراع الحضاري، بل إن عامة سيرتهم هو أنهم ورثوا البلاد من احتلال أجنبي سابق، هذا الاحتلال هو من قام بمهمة المواجهة مع المجتمع المسلم ونظامه ومؤسساته ثم قهر البلاد والعباد ثم أورثهم إياها جاهزة ممهدة قد استقرت فيها العلمانية على مستوى النخب.. فكانت سيرة العسكر العرب في بلادهم أسوأ من سيرة الاحتلال نفسه.
ولذلك فبقدر ما يتصرف العسكر العرب تماما كأذيال للغرب بلا أدنى رؤية ولا فكر، بقدر ما يرى العسكر الترك أنفسهم أصحاب عقيدة ورأي في وضع تركيا وخياراتها ومصيرها! ولذلك آثار بعيدة على التعامل مع المدنيين!
(2)المشهد الديمقراطي
بينما وقعت عدد من البلاد العربية تحت نمط الحكم الشيوعي، كانت تركيا واقعة تحت نمط الحكم الغربي الرأسمالي، وكانت تركيا خط دفاع متقدم للمعسكر الغربي بوجه المعسكر الشرقي، وكان من ضرورات هذا الصراع أن يقوم في تركيا "مشهد ديمقراطي" يحتوي على أحزاب وتعددية وانتخابات نزيهة، فيما يغيب هذا المشهد بالكلية عن البلاد العربية فيكون استبدادها فجًّا غليظًا متوحشا لا يتجمل ولا يتزين.
من هنا فرضت الرغبة الغربية أن يكون في تركيا أحزاب وانتخابات نزيهة وسلطة تُتَداول، مع الاحتفاظ للعسكر بحقهم في "تصحيح مسار الديمقراطية" إن جاءت على خلاف العلمانية، لذلك لا تعرف تركيا تزوير الانتخابات، بل تعرف تداول السلطة وتعدد الأحزاب والتنافس الحقيقي على مواقع الحكومة، ولكن في ذات الإطار الغربي الذي يجعل الناس تحت سقف العلمانية وحكمها ويطحن المجتمعات التقليدية غير المعلمنة ويهمشها ويزيحها إلى أطراف المجتمع.
بينما ظل العالم العربي محكوما بجثة عسكري أو ملك حتى يتعفن، بلا أحزاب ولا مشهد ديمقراطي ولا تداول سلطة ولا انتخابات نزيهة، ولئن كان ثمة انقلابات عسكرية فإنها ليست لحماية العلمانية بل هي صراع أجنحة داخل العلمانية نفسها، وهو صراع ممدود إلى حبل أصله في الخارج.
(3)الحركة الإسلامية: احتواء وممارسة
وكان من آثار هذا على الحركة الإسلامية أن اختلفت اتجاهاتها بين تركيا والعالم العربي، ففي العالم العربي حيث الأفق السياسي منغلق تماما اتجهت الحركة الإسلامية إلى المواجهة المسلحة مع الأنظمة أو ظلت تدور تحت السقف السياسي المسموح به، وفي كل الأحوال ظلت الحركة الإسلامية بعيدة تماما عن السلطة الحقيقية ودهاليزها وفهم خريطتها، فأعلى ما حققوه أن تكون لهم حكومة بلا صلاحيات تحت ظل سلطة تسيطر على المال والعسكر والأمن (مراكز القوى الحقيقية لأية سلطة) بينما كانوا نزلاء السجون وضيوف المشانق كثيرا وطويلا.
بينما كان الحال على النقيض في التجربة التركية، فبرغم الانقلابات العسكرية الكثيرة (حتى لقد وصفت تركيا بأنها بلد الانقلاب العسكري كل عشر سنوات) إلا أن الإسلاميين هناك وصلوا إلى السلطة غير مرة ضمن حكومات ائتلافية، كما تولوا بلديات مهمة بصلاحيات حقيقية، ولذلك كانوا ممارسين بالفعل للسلطة وأقدر على فهم خريطتها والتعامل معها. ومن ناحية أخرى كانوا دائما تحت احتواء النظام إذ لم يبدُ منهم أي محاولة حقيقية للتحول نحو السلاح ومواجهة النظام القائم بالخروج عليه.. كانت العملية الديمقراطية (نصف الشكلية) تستطيع دائما استيعاب الطاقة الإسلامية ومنعها من الذهاب نحو أن تكون ضد النظام. إلا أن العملية الديمقراطية ذاتها سمحت بوصول من وضع نفسه الآن في موضع يبدو معه أنه صار عصيا على الانقلابات العسكرية وأنه يستطيع أن يحمي تجربته مما شهدته التجارب السابقة.
(4)العلمانية الشعبية
ليس سرا أن تركيا كانت تجربة لبناء "الإسلام المعتدل" أمريكيا، وهو الإسلام الذي يمنح الناس حرية العبادة الشعائرية والتعبير عن الرأي بينما تبقى الخيارات الحضارية الكبرى رأسمالية غربية علمانية تامة. وأغلب الظن أن ما فعله أردوغان عبر هذه التجربة قد جعلت الأمريكان يعدلون عن تكرار هذه التجربة، بدليل ما فعلوه في مصر مع الإخوان الذين أعلنوا بوضوح أنهم يتوقون لتطبيق النموذج الأردوغاني.
لكن ثمة فارقا كبيرا يجعل تطبيق التجربة عسيرا في البلاد العربية، فمما لا يُنتبه له في الشأن التركي أنه قد جرت عملية ضخمة لتحويل الأتراك وفصلهم عن جذورهم، وقد استمرت هذه العلمانية لثلاثة أرباع القرن تعمل بكل شراسة وهي تملك إمكانيات السلطة المركزية الضخمة.. إلا أن أصعب ما جرى في هذا السياق هو تغيير اللغة الذي شمل حروفها وكثيرا من ألفاظها كذلك، فهنا صارت القطيعة بين الشعب التركي وتراثه قطيعة كبرى تبدو عملية علاجها مستحيلة.. فإذا وضعنا هذا مع عامليْن آخريْن هما (عدم تعرب الدولة العثمانية، وكون التدين التركي صوفيا) أمكن أن نتصور مدى الفجوة التي حدثت بين الإسلام كما هو في مصادره الأصلية وبين الإسلام كما أرادت له السلطة العلمانية أن يكون.
لقد أثمر كل هذا نجاحا ملموسا للعلمانية داخل الشعب التركي (لا طبقة النخبة)، فصار طبيعيا جدا أن ترى في تركيا من يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد ثم ينتخب حزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي، وأن ترى من لا يشرب الخمر ويكرهها ولكنه يتخوف بجد من أن الإسلاميين قد يمنعونها فهي حرية شخصية (والحرية الشخصية مقدسة)، وأن ترى متحجبة متمسكة بالحجاب لكن سلوكها في حجابها لا يختلف عمن تعتنق العلمانية!
هذه النماذج لا تكاد توجد في العالم العربي، بل الناس في أرض العرب منقسمون إلى مسلمين وطبقة علمانية متغربة، وإن كانت أفكار العلمنة تزحف رويدا رويدا في بلادنا فتكتسب جمهورا جديدا من الطبقة الوسطى، إلا أن نجاح العلمانية في عالمنا العربي شعبيا لا يمكن أن يقارن بنجاحه في تركيا.
ولست أعني هنا أن عموم الشعب التركي صار متعلمنا، إطلاقا، فما يزال الترك من أصلب الناس إسلاما وحمية للدين، وإنما يكثر التشوش في مسائل العلمانية والحكم ومساحة الدين بالنسبة للسلطة، وثمة مناطق –مثل اسطنبول وأنقرة وإزمير وبعض المدن الساحلية- صارت العلمانية فيها نمطا معتادا، حتى يُسأل الشاب هناك: من تنتخب؟ فيقول: حزب الشعب الجمهوري. فيقال له: لماذا؟ فيقال: هذا تقليدنا في العائلة!
نشر في تركيا بوست
وحيث ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فإنه ليس أسوأ من الهزيمة إلا الفشل في قراءة أسباب النجاح، وإذا كان يُقال: للنجاح آباء كُثُر، فإن تفرق نسب النجاح بين الآباء لم نستطع أن نعرف أصله وسببه، ولم ندرك أين يكمن معدنه وجوهره.. فإن كل ذي رأي يمدُّ سبب النجاح إلى رأيه ويبحث فيه عن هواه.
ولتهذيب وضبط القراءات المتعددة للتجربة التركية نكتب هذه السطور:
(1)العسكر الترك والعسكر العرب
بداية فإن الشبه الأساسي بين تركيا والبلاد العربية هو في كونهما حُكِما بأنظمة استبدادية، ومثلما يرى العسكر أنفسهم في العالم العربي أصحاب الدولة وأنها ملكهم يرى العسكر الترك ذلك، فعسكر تركيا يرون أنهم مؤسسو الدولة الحديثة وأصحاب الانقلاب على الإرث العثماني "المتخلف" وأصحاب معركة التحرير واستنقاذ البلاد من أنياب معاهدة سيفر التي كانت تقضي عليها عمليا، ويفتخر العسكر حتى الآن بإنجاز لم يكونوا قد وُلِدوا حين تمَّ، هذا لو تجاوزنا كل ما يثار من إشكاليات حول كونه إنجازا.
ورغم هذا الاتفاق فإن الفارق الكبير أن العسكر الترك كانوا منذ ظهرت آفاق التحديث ذوي رأي وسياسة، فحين بدأت سياسة ما يُعرف بالتنظيمات أو الإصلاحات في الدولة العثمانية كانت بدايتها في الجيش، وفي الجيش تكونت الحركات التي انقلبت فيما بعد على الخلافة العثمانية، ومنذ تأسيس الجمهورية والجيش هو من يحكم بسياسة علمانية واضحة وصريحة اشتبكت مباشرة مع نظام الخلافة ومع المجتمع المسلم، فالعسكر التركي يرث ميراثا علمانيا هو من أسسه ورعاه وصار ذا خبرة في معاركه.
بينما العسكر العرب جهلاء بلا فكر ولا رؤية ولا لهم دور في بناء دولهم ولا خاضوا معارك تحرير حقيقية يمكنهم أن يستمدوا منها شرعيتهم أو يفهموا بها معنى الصراع الحضاري، بل إن عامة سيرتهم هو أنهم ورثوا البلاد من احتلال أجنبي سابق، هذا الاحتلال هو من قام بمهمة المواجهة مع المجتمع المسلم ونظامه ومؤسساته ثم قهر البلاد والعباد ثم أورثهم إياها جاهزة ممهدة قد استقرت فيها العلمانية على مستوى النخب.. فكانت سيرة العسكر العرب في بلادهم أسوأ من سيرة الاحتلال نفسه.
ولذلك فبقدر ما يتصرف العسكر العرب تماما كأذيال للغرب بلا أدنى رؤية ولا فكر، بقدر ما يرى العسكر الترك أنفسهم أصحاب عقيدة ورأي في وضع تركيا وخياراتها ومصيرها! ولذلك آثار بعيدة على التعامل مع المدنيين!
(2)المشهد الديمقراطي
بينما وقعت عدد من البلاد العربية تحت نمط الحكم الشيوعي، كانت تركيا واقعة تحت نمط الحكم الغربي الرأسمالي، وكانت تركيا خط دفاع متقدم للمعسكر الغربي بوجه المعسكر الشرقي، وكان من ضرورات هذا الصراع أن يقوم في تركيا "مشهد ديمقراطي" يحتوي على أحزاب وتعددية وانتخابات نزيهة، فيما يغيب هذا المشهد بالكلية عن البلاد العربية فيكون استبدادها فجًّا غليظًا متوحشا لا يتجمل ولا يتزين.
من هنا فرضت الرغبة الغربية أن يكون في تركيا أحزاب وانتخابات نزيهة وسلطة تُتَداول، مع الاحتفاظ للعسكر بحقهم في "تصحيح مسار الديمقراطية" إن جاءت على خلاف العلمانية، لذلك لا تعرف تركيا تزوير الانتخابات، بل تعرف تداول السلطة وتعدد الأحزاب والتنافس الحقيقي على مواقع الحكومة، ولكن في ذات الإطار الغربي الذي يجعل الناس تحت سقف العلمانية وحكمها ويطحن المجتمعات التقليدية غير المعلمنة ويهمشها ويزيحها إلى أطراف المجتمع.
بينما ظل العالم العربي محكوما بجثة عسكري أو ملك حتى يتعفن، بلا أحزاب ولا مشهد ديمقراطي ولا تداول سلطة ولا انتخابات نزيهة، ولئن كان ثمة انقلابات عسكرية فإنها ليست لحماية العلمانية بل هي صراع أجنحة داخل العلمانية نفسها، وهو صراع ممدود إلى حبل أصله في الخارج.
(3)الحركة الإسلامية: احتواء وممارسة
وكان من آثار هذا على الحركة الإسلامية أن اختلفت اتجاهاتها بين تركيا والعالم العربي، ففي العالم العربي حيث الأفق السياسي منغلق تماما اتجهت الحركة الإسلامية إلى المواجهة المسلحة مع الأنظمة أو ظلت تدور تحت السقف السياسي المسموح به، وفي كل الأحوال ظلت الحركة الإسلامية بعيدة تماما عن السلطة الحقيقية ودهاليزها وفهم خريطتها، فأعلى ما حققوه أن تكون لهم حكومة بلا صلاحيات تحت ظل سلطة تسيطر على المال والعسكر والأمن (مراكز القوى الحقيقية لأية سلطة) بينما كانوا نزلاء السجون وضيوف المشانق كثيرا وطويلا.
بينما كان الحال على النقيض في التجربة التركية، فبرغم الانقلابات العسكرية الكثيرة (حتى لقد وصفت تركيا بأنها بلد الانقلاب العسكري كل عشر سنوات) إلا أن الإسلاميين هناك وصلوا إلى السلطة غير مرة ضمن حكومات ائتلافية، كما تولوا بلديات مهمة بصلاحيات حقيقية، ولذلك كانوا ممارسين بالفعل للسلطة وأقدر على فهم خريطتها والتعامل معها. ومن ناحية أخرى كانوا دائما تحت احتواء النظام إذ لم يبدُ منهم أي محاولة حقيقية للتحول نحو السلاح ومواجهة النظام القائم بالخروج عليه.. كانت العملية الديمقراطية (نصف الشكلية) تستطيع دائما استيعاب الطاقة الإسلامية ومنعها من الذهاب نحو أن تكون ضد النظام. إلا أن العملية الديمقراطية ذاتها سمحت بوصول من وضع نفسه الآن في موضع يبدو معه أنه صار عصيا على الانقلابات العسكرية وأنه يستطيع أن يحمي تجربته مما شهدته التجارب السابقة.
(4)العلمانية الشعبية
ليس سرا أن تركيا كانت تجربة لبناء "الإسلام المعتدل" أمريكيا، وهو الإسلام الذي يمنح الناس حرية العبادة الشعائرية والتعبير عن الرأي بينما تبقى الخيارات الحضارية الكبرى رأسمالية غربية علمانية تامة. وأغلب الظن أن ما فعله أردوغان عبر هذه التجربة قد جعلت الأمريكان يعدلون عن تكرار هذه التجربة، بدليل ما فعلوه في مصر مع الإخوان الذين أعلنوا بوضوح أنهم يتوقون لتطبيق النموذج الأردوغاني.
لكن ثمة فارقا كبيرا يجعل تطبيق التجربة عسيرا في البلاد العربية، فمما لا يُنتبه له في الشأن التركي أنه قد جرت عملية ضخمة لتحويل الأتراك وفصلهم عن جذورهم، وقد استمرت هذه العلمانية لثلاثة أرباع القرن تعمل بكل شراسة وهي تملك إمكانيات السلطة المركزية الضخمة.. إلا أن أصعب ما جرى في هذا السياق هو تغيير اللغة الذي شمل حروفها وكثيرا من ألفاظها كذلك، فهنا صارت القطيعة بين الشعب التركي وتراثه قطيعة كبرى تبدو عملية علاجها مستحيلة.. فإذا وضعنا هذا مع عامليْن آخريْن هما (عدم تعرب الدولة العثمانية، وكون التدين التركي صوفيا) أمكن أن نتصور مدى الفجوة التي حدثت بين الإسلام كما هو في مصادره الأصلية وبين الإسلام كما أرادت له السلطة العلمانية أن يكون.
لقد أثمر كل هذا نجاحا ملموسا للعلمانية داخل الشعب التركي (لا طبقة النخبة)، فصار طبيعيا جدا أن ترى في تركيا من يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد ثم ينتخب حزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي، وأن ترى من لا يشرب الخمر ويكرهها ولكنه يتخوف بجد من أن الإسلاميين قد يمنعونها فهي حرية شخصية (والحرية الشخصية مقدسة)، وأن ترى متحجبة متمسكة بالحجاب لكن سلوكها في حجابها لا يختلف عمن تعتنق العلمانية!
هذه النماذج لا تكاد توجد في العالم العربي، بل الناس في أرض العرب منقسمون إلى مسلمين وطبقة علمانية متغربة، وإن كانت أفكار العلمنة تزحف رويدا رويدا في بلادنا فتكتسب جمهورا جديدا من الطبقة الوسطى، إلا أن نجاح العلمانية في عالمنا العربي شعبيا لا يمكن أن يقارن بنجاحه في تركيا.
ولست أعني هنا أن عموم الشعب التركي صار متعلمنا، إطلاقا، فما يزال الترك من أصلب الناس إسلاما وحمية للدين، وإنما يكثر التشوش في مسائل العلمانية والحكم ومساحة الدين بالنسبة للسلطة، وثمة مناطق –مثل اسطنبول وأنقرة وإزمير وبعض المدن الساحلية- صارت العلمانية فيها نمطا معتادا، حتى يُسأل الشاب هناك: من تنتخب؟ فيقول: حزب الشعب الجمهوري. فيقال له: لماذا؟ فيقال: هذا تقليدنا في العائلة!
نشر في تركيا بوست
Published on November 03, 2015 10:56
November 2, 2015
تقرير كارنيجي والعار الكبير
نشر مركز كارنيجي للشرق الأوسط تقريرا بعنوان "تصاعد التمرد الإسلامي في مصر" أعده مختار عوض ومصطفى هاشم، يحاول التقرير أن يرسم خريطة للمقاومة الشعبية للانقلاب العسكري في مصر، ويختم هذا بتوصيات يرفعها للحكومة المصرية من جهة وللقيادات "العاقلة" في جماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى.
بداية فلا ريب أن التقرير أنفق مجهودا في رصد الحالة المقاومة للانقلاب، واعتمد في ذلك على ما قال أنها مقابلات شخصية مع ناشطين في المقاومة، على أن الحقيقة البادية خلف هذا الكلام هو أن من أعدوا التقارير كان لديهم محاضر التحقيقات المأخوذة بعد التعذيب مع المعتقلين في السجون المصرية، هذا إن لم يكن بعض من أعدوه حاضرا في التحقيقات أو ممارسا لها، وهذا ليس مستبعدا عندي.
لا يختلف التقرير –الذي أعده مسلمون كما يظهر من أسمائهم- في أي شيء عن تقرير يعده صهاينة أو غربيون، فاللغة يهيمن عليها الطابع الأمني، وهي لغة تسبغ على كل أفعال النظام نوعا من الحيادية أو التفهم أو التبرير بينما تسبغ على أفعال المعارضين أنواع التشكيك والتجريم؛ فالتقرير يتحدث مثلا عن "الاعتداءات الجنسية المزعومة على النساء المحتجزات"، فيجعل من هذه الحقيقة الموثقة زعما يستغله "من يرغب في ممارسة العنف" ليؤيد وجهة نظره "بانتهازية سياسية" ويمارس "التحريض" بهدف "التجنيد" للشباب الصغير.
ولا يرضى واضعا التقرير عن أي تصريح ليست فيه إدانة صريحة ومباشرة للمقاومة، ويعتبرون كل تصريح يحمل نوعا من السكوت أو المراوغة أو حتى دعم "السلمية المبدعة" إنما هو شرعنة للعنف وبداية طريق زلق ينحدر بصاحبه نحو العنف الكامل.
ويذهب التقرير صراحة إلى إعطاء توصياته للطرفين، وتقتصر توصياته للنظام في أمرين؛ الأول: أن يعمل بمبدأ "فرق تسد" في عموم الأحوال للقضاء على "التمرد" الإسلامي على نحو أفضل، فيفرق بين الإسلاميين وبعضهم لتزيد الهوة بين الإخوان وغيرهم من الإسلاميين، ويفرق بين الإخوان وبعضهم لتزيد الهوة بين "العقلانيين" وغيرهم من المتبنين للمقاومة، ويفرق به بين المعتقلين فيفرج عمن لم يتورط فيما يسميه "العنف". والثاني: أن يتوقف عما من شأنه أن يزيد في إلهاب المشاعر، كالقتل خارج أحكام القضاء، والاختطاف، وتحسين أحوال السجون.
ويوصي التقرير "العقلانيين" في قيادة الإخوان بأن تقبل بالانقلاب العسكري وتبحث عن تسوية مع النظام الحالي، وأن يستخدموا نفوذهم وثقلهم وخبرتهم بدهاليز الجماعة وسيطرتهم على مفاتيح التمويل في شن حرب على "المتطرفين" لكبح جماحهم، خصوصا داخل الجماعة، وذلك لكي تعود الجماعة كما كانت نموذجا في الطاعة العمياء والثقة والانضباط التنظيمي والهرمي الذي عرفت به طيلة تاريخها، ولكي يحافظوا على الجماعة موحدة.
تلك خلاصة التقرير..
وأطرف ما في التقرير المتصهين هذا أنه حين يتحدث عن التوصيات الموجهة للإخوان يبدو وكأن الشفقة بالجماعة والحرص على مصيرها قد انفجر في قلبه الرقيق، فهو متأثر أن تنهار صورة الجماعة المستقرة والتي كانت واحدة موحدة ونموذجا في الطاعة والثقة والالتزام!!! وما أسخف عظة الثعالب!
ويسيطر على التقرير لهجة واضحة تفصل تماما بين "الثورة المصرية" وبين ما يسميه "التمرد الإسلامي"، فهو لا يفلت موقفا يمكنه فيه وضع هذا الحاجز بينهما إلا ووضعه. وهو دائم التعليق على أن الإسلاميين "ينتهزون/ يستغلون.." فرصة الثورة لتحويل خطابهم إلى خطاب ثوري، فيما الأصل والأساس أنه خطاب جهادي لا علاقة له بالثورة ولا الثوار.. أي أن كل علاقة الإسلاميين بالثورة هو محاولتهم شرعنة أفكارهم وخطواتهم من خلال شعارات الثورة!
وليس يُسْتَبْعَد هذا من مثل واضعي التقرير الذين لا يفهمون -أو لا يحبون أن يفهموا، أو لا يحبون أن يفهم أحد- أن الإسلام هو روح الثورة المصرية، وأن الإسلاميين هم صلب هذه الثورة منذ لحظاتها الأولى، وأن كل الخيارات الشعبية التي انبثقت عن هذه الثورة كانت إسلامية.
تكمن القيمة الأساسية لهذا التقرير الغربي في عدة أمور ينبغي أن نفقهها ونتعامل معها بجدية وعناية، أهمها:
1. شعور الغرب بخطورة عدم الاستقرار في مصر، وسعيه نحو صناعة استقرار قائم على أساس التسليم بالانقلاب العسكري ونظامه.
2. أن روح هذا الشعب هو الإسلام، وأن مقاومة الانقلاب العسكري تكاد تنحصر في الإسلاميين، فهو لا ينظر إليها على أنها مقاومة شعبية، ولا يفهم المنضمين لمقاومة النظام العسكري إلا على أنهم إسلاميون حتى وإن اعترف بأن بعضهم لم يكن كذلك وإنما دخل مدفوعا بما جرى في الانقلاب العسكري ومذابحه.. وهو وإن كان يريد بهذا تعميق الفصل بين "الإسلاميين" و"عموم الشعب" إلا أنه يكشف عن أمر آخر في غاية الأهمية هو: أن لا راية تحرك المقاومة وتحشد الطاقات وتلهب الخيال في هذه البلد سوى راية الإسلام.
3. وذلك يؤدي بنا إلى استنتاج آخر مهم، وهو أن أي تدخل في المشهد السياسي لمقاومة هذا الانقلاب تحت عناوين مثل الاصطفاف والتوافق وما شابهها إنما هو تدخل لسرقة هذا الإنجاز وتزييفه. إذ ليس ثمة مقاومة للانقلاب على الأرض ليبرالية أو اشتراكية أو ذات طابع أيديولوجي آخر.
4. أما العار الكبير في هذا التقرير فهو أنه يتوجه بالتوصية لمن يسميهم "العقلانيين" في قيادة الإخوان أن يستخدموا نفوذهم وسيطرتهم على التمويل في إزاحة وإقصاء الجناح الآخر الذي يصفه بـ "المتطرفين"، وهو ما يجعل هؤلاء القادة المقصودين محطّ أمل من قِبَل غربيين متصهينة يريدون استقرار النظام العسكري الانقلابي. ونحن وإن كنا لا نسيئ الظن بهم إلى هذا الحد إلا أننا ننبهم إلى أن وجودهم في هذا الموضع يجعل منهم موضع أمل يستثمره العدو! وهو أمر كفيل بأن يتيقظ له كل من ظنَّ يوما أن هذه الأنظمة تسقط بمجرد السلمية.
إن التقرير لا يجد شيئا يعدهم به إلا أن يداعب خيالهم بأيام الماضي حين كانوا يأمرون فيُطاعون ويشيرون فيُستجاب لهم بغير نقاش، لأول مرة تصير "الطاعة العمياء" شيئا ممدوحا في تقرير غربي وقد كان من قبل من علامات انغلاق التنظيم ورجعيته!
لا يجد التقرير شيئا يتوقعه إن هم فعلوا ذلك، فلا مكسب سياسي ولا حتى وجود سياسي آمن، فقط أن تعود لهم عروش القيادة السابقة، على أن هذا في الحقيقة لن يكون أبدا لأن الوقت قد مضى فعلا، وإن لم يستجب "العقلانيون" لضرورات المرحلة فأفضل ما سيصل إليه الإخوان هو الانقسام لجناحيْن، الجناح العقلاني ويضم قليلا من الكبار وأقل منهم من الشباب حتى وإن كان يملك الكثير من المال والتاريخ، وجناح شبابي يملك الكثير كما يملك الطاقة والحماس والعزم، وليس أحد ينظر إلى هذه القسمة إلا ويرى أن المستقبل في جانب الشباب.
فعار وأي عار أن يستجيب من كانوا يوما نجوما في العمل الإسلامي لتوصيات تقرير أمني غربي عدو لهم؟!!
نشر في الخليج أون لاين
بداية فلا ريب أن التقرير أنفق مجهودا في رصد الحالة المقاومة للانقلاب، واعتمد في ذلك على ما قال أنها مقابلات شخصية مع ناشطين في المقاومة، على أن الحقيقة البادية خلف هذا الكلام هو أن من أعدوا التقارير كان لديهم محاضر التحقيقات المأخوذة بعد التعذيب مع المعتقلين في السجون المصرية، هذا إن لم يكن بعض من أعدوه حاضرا في التحقيقات أو ممارسا لها، وهذا ليس مستبعدا عندي.
لا يختلف التقرير –الذي أعده مسلمون كما يظهر من أسمائهم- في أي شيء عن تقرير يعده صهاينة أو غربيون، فاللغة يهيمن عليها الطابع الأمني، وهي لغة تسبغ على كل أفعال النظام نوعا من الحيادية أو التفهم أو التبرير بينما تسبغ على أفعال المعارضين أنواع التشكيك والتجريم؛ فالتقرير يتحدث مثلا عن "الاعتداءات الجنسية المزعومة على النساء المحتجزات"، فيجعل من هذه الحقيقة الموثقة زعما يستغله "من يرغب في ممارسة العنف" ليؤيد وجهة نظره "بانتهازية سياسية" ويمارس "التحريض" بهدف "التجنيد" للشباب الصغير.
ولا يرضى واضعا التقرير عن أي تصريح ليست فيه إدانة صريحة ومباشرة للمقاومة، ويعتبرون كل تصريح يحمل نوعا من السكوت أو المراوغة أو حتى دعم "السلمية المبدعة" إنما هو شرعنة للعنف وبداية طريق زلق ينحدر بصاحبه نحو العنف الكامل.
ويذهب التقرير صراحة إلى إعطاء توصياته للطرفين، وتقتصر توصياته للنظام في أمرين؛ الأول: أن يعمل بمبدأ "فرق تسد" في عموم الأحوال للقضاء على "التمرد" الإسلامي على نحو أفضل، فيفرق بين الإسلاميين وبعضهم لتزيد الهوة بين الإخوان وغيرهم من الإسلاميين، ويفرق بين الإخوان وبعضهم لتزيد الهوة بين "العقلانيين" وغيرهم من المتبنين للمقاومة، ويفرق به بين المعتقلين فيفرج عمن لم يتورط فيما يسميه "العنف". والثاني: أن يتوقف عما من شأنه أن يزيد في إلهاب المشاعر، كالقتل خارج أحكام القضاء، والاختطاف، وتحسين أحوال السجون.
ويوصي التقرير "العقلانيين" في قيادة الإخوان بأن تقبل بالانقلاب العسكري وتبحث عن تسوية مع النظام الحالي، وأن يستخدموا نفوذهم وثقلهم وخبرتهم بدهاليز الجماعة وسيطرتهم على مفاتيح التمويل في شن حرب على "المتطرفين" لكبح جماحهم، خصوصا داخل الجماعة، وذلك لكي تعود الجماعة كما كانت نموذجا في الطاعة العمياء والثقة والانضباط التنظيمي والهرمي الذي عرفت به طيلة تاريخها، ولكي يحافظوا على الجماعة موحدة.
تلك خلاصة التقرير..
وأطرف ما في التقرير المتصهين هذا أنه حين يتحدث عن التوصيات الموجهة للإخوان يبدو وكأن الشفقة بالجماعة والحرص على مصيرها قد انفجر في قلبه الرقيق، فهو متأثر أن تنهار صورة الجماعة المستقرة والتي كانت واحدة موحدة ونموذجا في الطاعة والثقة والالتزام!!! وما أسخف عظة الثعالب!
ويسيطر على التقرير لهجة واضحة تفصل تماما بين "الثورة المصرية" وبين ما يسميه "التمرد الإسلامي"، فهو لا يفلت موقفا يمكنه فيه وضع هذا الحاجز بينهما إلا ووضعه. وهو دائم التعليق على أن الإسلاميين "ينتهزون/ يستغلون.." فرصة الثورة لتحويل خطابهم إلى خطاب ثوري، فيما الأصل والأساس أنه خطاب جهادي لا علاقة له بالثورة ولا الثوار.. أي أن كل علاقة الإسلاميين بالثورة هو محاولتهم شرعنة أفكارهم وخطواتهم من خلال شعارات الثورة!
وليس يُسْتَبْعَد هذا من مثل واضعي التقرير الذين لا يفهمون -أو لا يحبون أن يفهموا، أو لا يحبون أن يفهم أحد- أن الإسلام هو روح الثورة المصرية، وأن الإسلاميين هم صلب هذه الثورة منذ لحظاتها الأولى، وأن كل الخيارات الشعبية التي انبثقت عن هذه الثورة كانت إسلامية.
تكمن القيمة الأساسية لهذا التقرير الغربي في عدة أمور ينبغي أن نفقهها ونتعامل معها بجدية وعناية، أهمها:
1. شعور الغرب بخطورة عدم الاستقرار في مصر، وسعيه نحو صناعة استقرار قائم على أساس التسليم بالانقلاب العسكري ونظامه.
2. أن روح هذا الشعب هو الإسلام، وأن مقاومة الانقلاب العسكري تكاد تنحصر في الإسلاميين، فهو لا ينظر إليها على أنها مقاومة شعبية، ولا يفهم المنضمين لمقاومة النظام العسكري إلا على أنهم إسلاميون حتى وإن اعترف بأن بعضهم لم يكن كذلك وإنما دخل مدفوعا بما جرى في الانقلاب العسكري ومذابحه.. وهو وإن كان يريد بهذا تعميق الفصل بين "الإسلاميين" و"عموم الشعب" إلا أنه يكشف عن أمر آخر في غاية الأهمية هو: أن لا راية تحرك المقاومة وتحشد الطاقات وتلهب الخيال في هذه البلد سوى راية الإسلام.
3. وذلك يؤدي بنا إلى استنتاج آخر مهم، وهو أن أي تدخل في المشهد السياسي لمقاومة هذا الانقلاب تحت عناوين مثل الاصطفاف والتوافق وما شابهها إنما هو تدخل لسرقة هذا الإنجاز وتزييفه. إذ ليس ثمة مقاومة للانقلاب على الأرض ليبرالية أو اشتراكية أو ذات طابع أيديولوجي آخر.
4. أما العار الكبير في هذا التقرير فهو أنه يتوجه بالتوصية لمن يسميهم "العقلانيين" في قيادة الإخوان أن يستخدموا نفوذهم وسيطرتهم على التمويل في إزاحة وإقصاء الجناح الآخر الذي يصفه بـ "المتطرفين"، وهو ما يجعل هؤلاء القادة المقصودين محطّ أمل من قِبَل غربيين متصهينة يريدون استقرار النظام العسكري الانقلابي. ونحن وإن كنا لا نسيئ الظن بهم إلى هذا الحد إلا أننا ننبهم إلى أن وجودهم في هذا الموضع يجعل منهم موضع أمل يستثمره العدو! وهو أمر كفيل بأن يتيقظ له كل من ظنَّ يوما أن هذه الأنظمة تسقط بمجرد السلمية.
إن التقرير لا يجد شيئا يعدهم به إلا أن يداعب خيالهم بأيام الماضي حين كانوا يأمرون فيُطاعون ويشيرون فيُستجاب لهم بغير نقاش، لأول مرة تصير "الطاعة العمياء" شيئا ممدوحا في تقرير غربي وقد كان من قبل من علامات انغلاق التنظيم ورجعيته!
لا يجد التقرير شيئا يتوقعه إن هم فعلوا ذلك، فلا مكسب سياسي ولا حتى وجود سياسي آمن، فقط أن تعود لهم عروش القيادة السابقة، على أن هذا في الحقيقة لن يكون أبدا لأن الوقت قد مضى فعلا، وإن لم يستجب "العقلانيون" لضرورات المرحلة فأفضل ما سيصل إليه الإخوان هو الانقسام لجناحيْن، الجناح العقلاني ويضم قليلا من الكبار وأقل منهم من الشباب حتى وإن كان يملك الكثير من المال والتاريخ، وجناح شبابي يملك الكثير كما يملك الطاقة والحماس والعزم، وليس أحد ينظر إلى هذه القسمة إلا ويرى أن المستقبل في جانب الشباب.
فعار وأي عار أن يستجيب من كانوا يوما نجوما في العمل الإسلامي لتوصيات تقرير أمني غربي عدو لهم؟!!
نشر في الخليج أون لاين
Published on November 02, 2015 22:49
October 29, 2015
قوة الإنجاز الإسلامي بعيون المؤرخين الغربيين
كيف بنى الإسلام هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف يمكن أن نعيد بعث هذه الأمة مرة أخرى؟ ومن المسئول عن القيام بهذا التغيير؟
سعيا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسئول عن التغيير؟
ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، فوجدناه يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسئولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.
1. فالأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته في الحياة: مهمة الاستخلاف في الأرض، التي تعني عمرانها ومقاومة الإفساد فيها.
2. والمسئولية الفردية تكشف لنا كيف بنى الإسلام شخصية المسلم ليقوم بمهمته، فألزمه أن يكون مسئولا، مستقل الشخصية ليس بإمَّعة، ذا أخلاق رفيعة، مستوعبا ومستدركا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.
3. والنظام العام هو الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، كما يحدد طبيعة المجتمع وأبرزها تماسكه وتكتله بروابط: الدين والرحم والجوار، ثم ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع.
4. ونظام حماية المجتمعهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة، وقد رسمنا خريطته في الشرع، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه، ورأينا آثار تركه على المجتمع.
وهكذا انتظم بناء المجتمع الإسلامي فصار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وقد بقي في حديثنا هذا أن نثبت بالواقع وعبر التاريخ أن هذا البناء لم يكن نظريًّا فحسب، ولم يكن –كغيره من الأفكار والفلسفات ونظريات المدن الفاضلة- أحلامًا تفرزها العقول وتداعب الخيال، بل لقد كان بناء حقيقيًّا، أُنشئ وقام ورسخ، وظل يعطي ويفيض من خيره قرونًا على أهله ومن عداهم؛ بل ومن عاداه، وبهذا لم يتميز على غيره بحسن الصنعة فحسب؛ بل تميز عليه بالواقعية وإمكانية التطبيق.
ولذا فنحن هنا لن نتجول في النصوص والأقوال؛ بل سنُقَلِّب صفحات التاريخ ونتجوَّل في الأفعال والمواقف، فنرصد "الإنجاز" من بعد ما رصدنا "المنهج"، فالله المستعان.
كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد r إلا أنه جعل النبي r على رأس هذه المائة، وقال: "لقد اخترت محمدًا r ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا r هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد r ما يزال قويًّا متجددًا"(ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول: "كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية... وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين... مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار.. هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد r، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به"(كان الإنجاز بمنزلة انقلاب كامل كما يقول المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد: "إن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرَّد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب؛ وإنما كان انقلابًا كاملاً لِمُثُل الحياة التي كانت من قبل"(ويصف مؤرخ الحضارة ول ديورانت ملامح هذا الانقلاب بقوله: "إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدًا r كان من أعظم عظماء التاريخ؛ فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنسانًا غيره حقق ما كان يحلم به، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى؛ بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، وكانت بلاد العرب -لما بدأ الدعوة- صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان قليل عددها، متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم دينًا سهلاً واضحًا قويًّا، وصرحًا خلقيًّا قوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم"(إن أفعل أثر في التطبيق العملي للفكرة المجردة هي أن الإسلام لم يكن مجرد فكرة؛ بل كان دينًا يرى فيه المرء نجاة الآخرة، وإن فاته نصيب الدنيا، وقد صار الإيمان بدين ضرورة مُسَلَّم بها وبأثرها في الحياة حتى لدى فلاسفة المادية النفعية الذين -وإن لم يؤمنوا بدين- يعترفون بنفع وجود الدين في حياة البشر(وقد ظل أثر الدين قائمًا في حياة المسلمين ومجتمعاتهم حتى وهم في أضعف حالاتهم من الأخذ بنصيب الدنيا، يشهد الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبون بأنه "يوجد فرق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يعلم أهمية هذه التعاليم وجب عليه أن يدرس درجة تأثيرها في الحياة، وحدود هذا التأثير هو الذي تهم معرفته الآن... تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا(لكن التأثير الإسلامي لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية، وهو ما سنستعرض بعضا منه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست
([1])مايكل هارت: الخالدون مائة ص13. ([2])السابق ص16 وما بعدها. ([3])توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص61. ([4])ول ديورانت: قصة الحضارة 13/47. ([5])محمد إلهامي: التأمل ص12 وما بعدها. ([6])توفي لوبون (13 من ديسمبر 1931م = 3 من شعبان 1350هـ). ([7])أي: الأوروبيين. ([8])جوستاف لوبون: حضارة العرب ص417.
سعيا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسئول عن التغيير؟
ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، فوجدناه يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسئولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.
1. فالأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته في الحياة: مهمة الاستخلاف في الأرض، التي تعني عمرانها ومقاومة الإفساد فيها.
2. والمسئولية الفردية تكشف لنا كيف بنى الإسلام شخصية المسلم ليقوم بمهمته، فألزمه أن يكون مسئولا، مستقل الشخصية ليس بإمَّعة، ذا أخلاق رفيعة، مستوعبا ومستدركا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.
3. والنظام العام هو الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، كما يحدد طبيعة المجتمع وأبرزها تماسكه وتكتله بروابط: الدين والرحم والجوار، ثم ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع.
4. ونظام حماية المجتمعهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة، وقد رسمنا خريطته في الشرع، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه، ورأينا آثار تركه على المجتمع.
وهكذا انتظم بناء المجتمع الإسلامي فصار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وقد بقي في حديثنا هذا أن نثبت بالواقع وعبر التاريخ أن هذا البناء لم يكن نظريًّا فحسب، ولم يكن –كغيره من الأفكار والفلسفات ونظريات المدن الفاضلة- أحلامًا تفرزها العقول وتداعب الخيال، بل لقد كان بناء حقيقيًّا، أُنشئ وقام ورسخ، وظل يعطي ويفيض من خيره قرونًا على أهله ومن عداهم؛ بل ومن عاداه، وبهذا لم يتميز على غيره بحسن الصنعة فحسب؛ بل تميز عليه بالواقعية وإمكانية التطبيق.
ولذا فنحن هنا لن نتجول في النصوص والأقوال؛ بل سنُقَلِّب صفحات التاريخ ونتجوَّل في الأفعال والمواقف، فنرصد "الإنجاز" من بعد ما رصدنا "المنهج"، فالله المستعان.
كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد r إلا أنه جعل النبي r على رأس هذه المائة، وقال: "لقد اخترت محمدًا r ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا r هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد r ما يزال قويًّا متجددًا"(ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول: "كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية... وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين... مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار.. هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد r، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به"(كان الإنجاز بمنزلة انقلاب كامل كما يقول المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد: "إن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرَّد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب؛ وإنما كان انقلابًا كاملاً لِمُثُل الحياة التي كانت من قبل"(ويصف مؤرخ الحضارة ول ديورانت ملامح هذا الانقلاب بقوله: "إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدًا r كان من أعظم عظماء التاريخ؛ فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنسانًا غيره حقق ما كان يحلم به، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى؛ بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، وكانت بلاد العرب -لما بدأ الدعوة- صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان قليل عددها، متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم دينًا سهلاً واضحًا قويًّا، وصرحًا خلقيًّا قوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم"(إن أفعل أثر في التطبيق العملي للفكرة المجردة هي أن الإسلام لم يكن مجرد فكرة؛ بل كان دينًا يرى فيه المرء نجاة الآخرة، وإن فاته نصيب الدنيا، وقد صار الإيمان بدين ضرورة مُسَلَّم بها وبأثرها في الحياة حتى لدى فلاسفة المادية النفعية الذين -وإن لم يؤمنوا بدين- يعترفون بنفع وجود الدين في حياة البشر(وقد ظل أثر الدين قائمًا في حياة المسلمين ومجتمعاتهم حتى وهم في أضعف حالاتهم من الأخذ بنصيب الدنيا، يشهد الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبون بأنه "يوجد فرق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يعلم أهمية هذه التعاليم وجب عليه أن يدرس درجة تأثيرها في الحياة، وحدود هذا التأثير هو الذي تهم معرفته الآن... تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا(لكن التأثير الإسلامي لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية، وهو ما سنستعرض بعضا منه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست
([1])مايكل هارت: الخالدون مائة ص13. ([2])السابق ص16 وما بعدها. ([3])توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص61. ([4])ول ديورانت: قصة الحضارة 13/47. ([5])محمد إلهامي: التأمل ص12 وما بعدها. ([6])توفي لوبون (13 من ديسمبر 1931م = 3 من شعبان 1350هـ). ([7])أي: الأوروبيين. ([8])جوستاف لوبون: حضارة العرب ص417.
Published on October 29, 2015 14:06
October 27, 2015
قراءة في كتاب الفلسفة السياسية لأحمد داود أوغلو (3)
§ اسم الكتاب: الفلسفة السياسية § المؤلف: د. أحمد داود أوغلو§ المترجم: د. إبراهيم البيومي غانم§ تقديم: د. محمد عمارة§ دار النشر: مكتبة الشروق الدولية§ سنة النشر: الطبعة الثانية، 2006م.§ عدد الصفحات: 77.§ نشر الأصل الإنجليزي لهذا الكتاب في عام 1993م، بعنوان (Alternative Paradigms: The Impact of Islamic and Western Weltanschauungs on Political Theory) ومعناه "النموذج البديل: أثر التصورات الوجودية الإسلامية والغربية على النظرية السياسية".
ذكرنا في مقال سابق طبيعة الكتاب ونظريته العامة، وقلنا بأن الكتاب ينقسم إلى بابيْن؛ الأول: يتحدث عن التناقض الأصيل بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية، والثاني: يتحدث عن أثر هذا التناقض على مجال النظام السياسي تحديدا وإن كان يلامس –بطبيعة الحال- مسائل الاقتصاد والاجتماع والثقافة. والثاني يرصد فيه المؤلف خمسة آثار من تناقض الرؤية الإسلامية مع الرؤية الغربية في المجال السياسي هي: مبرر وجود النظام السياسي، وشرعية النظام السياسي، وقد تكلمنا عنهما في المقال السابق وبقي أن نستعرض الآثار الثلاثة الباقية.وقد طال عرض الكتاب رغم حجمه الصغير لما يحتويه من معانٍ فارقة ومهمة في هذا الموضوع الخطير الذي تحتاجه كل الحركات الإسلامية لفهم واقعها ووضع برنامجها للدولة الإسلامية.
3. تعدد مراكز القوة
انعكس التناقض بين الرؤيتيْن الإسلامية والغربية في مجال النظام السياسي على مفهوم تعدد مراكز القوى فيه، مثلما يقول سبينوزا "نظام الأفكار هو نفس نظام الأشياء".
لقد اختلف الفلاسفة الغربيون اختلافا واسعا في تحليل مفهوم القوة، فبعضهم ربطها بالأخلاق والغاية النبيلة مثل أفلاطون والرواقيون، وبعضهم لم يبال بذلك وقد آل أمر هؤلاء إلى مفهوم "القوة السياسية" التي استعملت منذ الامبراطورية الرومانية والتي يمثل ميكيافيللي نقطة فارقة في تطورها. ثم اختلفوا من جهة أخرى في ما إذا كانت القوة هي "امتلاك قوة" أم هي القدرة على التأثير من خلال العلاقات. ولكن على الرغم من كافة الخلافات النظرية سارت تلك النظريات نحو دعم وجود مراكز متعددة للقوة في النظام السياسي، لأن النظام السياسي الغربي نفسه قائم على الفصل الصارم الاجتماعي والسياسي والديني، فهناك عائلة مالكة وطبقة نبلاء ورجال كنيسة، فالملوك يحتكرون المجال السياسي والنبلاء يحتكرون المجال الاقتصادي بالإقطاع ورجال الكنيسة يحتكرون المجال الديني. ثم أضيفت لهم طبقة جديدة مع التطور الصناعي الذي غير من خريطة القوى الاقتصادية فأصعد طبقة جديدة من التجار وأصحاب المصانع والماليين. وفي ظل هذا الفصل الصارم بين المجالات والطبقات كانت الضمانة الوحيدة لبقاء نظام سياسي أحد أمرين نطق بكل منهما عدد من الفلاسفة، فبعضهم أراد توحيد مراكز القوى في مركز واحد (وهؤلاء اختلفوا: أيهما أحق: الدولة أم الكنيسة) وبعضهم سعى للتسليم بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي ورأى هذا التعدد ضمانة لبقاء النظام متوازنا. إلا أن خلافهم هذا على الحقيقة كان خلافا حول المؤسسات والمنهج لا خلافا حول مفهوم القوة، فالحقيقة أن مفهوم القوة في ظل هذا النزاع بين مراكز القوة قد انفصل عن الغاية والأخلاق وتحكمت فيه رغبات الأطراف في توسيع نفوذها، ثم جاءت الحقبة العلمانية فرفضت ارتباط مفهوم القوة بالأخلاق كلية، وجاءت فلسفاتها تدعم استعمال القوة لتحقيق المنافع والأهداف بغض النظر عن أخلاقيتها وعدالتها.
بينما في النظام الإسلامي الذي يتمركز حول الإله الواحد العلي المهيمن على الحياة والذي سيحاسب الجميع في الآخرة، لم يمكن أن يظهر مثل هذا التعدد في مراكز القوة داخل النظام السياسي، إذ الناس جميعا سواء وسواسية ولا يحتكر أحد أو طبقة مجالا بعينه، فبإمكان الجميع أن يكون من الأثرياء وبإمكان الجميع أن يكون من العلماء، وبإمكان الجميع أن يكون حاكما، وثمة أمر نبوي واضح "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي". ولذلك لم يكن في المجتمع الإسلامي إقطاع على نحو ما كان في التاريخ الغربي، كما لم تكن فيه مؤسسة دينية كهنوتية تتمع بصلاحيات واسعة كما هو الحال في الغرب، ثم لم يكن فيه أيضا قداسة لعائلة مالكة تستمد سلطتها من إرادة الرب كما كان لملوك أوروبا. لقد تركز نظر الرؤية الإسلامية حول فاعلية هذا النظام السياسي في القيام بالواجبات المنوطة به، وهي الواجبات الدينية التي صدرت عن الله، باعتباره القوة الوحيدة المطلقة والقوة الوحيدة التي تستحق أن تُطاع وتستحق أن تُرْهَب! ولذلك فإن التجاوب مع النظام السياسي إنما يكون فرعا عن تجاوب هذا النظام مع الإسلام نفسه (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). ولهذا فإن النظام السياسي الإسلامي واحد غير متعدد مراكز القوى.
ولهذا الاختلاف بين الرؤيتيْن آثار بعيدة من أهمها أن المجتمع الإسلامي يرفض ما يهدد "العدالة" ولو كان يحقق تطورا ماديا ضخما، كما أن صيغة التكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي مرتبطة أصلا بكونهم سواسية وممسوكة بقيم دينية كالزكاة التي هي حق للفقراء في أموال الأغنياء، وتمثل "الحسبة" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ضمير المجتمع المسلم وأداته ضد أي تهديد ينال من قيمه واستقراره.
4. خطر تغول المركز
وهنا يأتي السؤال: إذا كان النظام الإسلامي لا يسمح بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي، فكيف يفعل إزاء خطر تغول هذا المركز؟
إن الحل الإسلامي هنا هو إبقاء القِيَم قوية وحاضرة وفاعلة في المجتمع، مع حماية سيادة القانون والحرص على استقلال القضاء. وهذا كله بعد تشديدهم في الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإمام بحيث يكون أفضل وأكمل الأمة.
إن قيام النظام السياسي وشرعيته إنما تُسْتَمَدُّ من تطبيقه للإسلام، وهذا هو الأصل الكبير العام، والذي يُسْقِط شرعية النظام ومبرر وجوده إن هو خالفه، ولذلك ينزع العلماء حق الطاعة والخضوع لهذا النظام بانتهاكه لهذا الأصل. ومن آثار هذا أن جميع علماء المسلمين متفقون على استقلال القضاء عن النظام السياسي، لأنه الذي يحول دون تغول هذا النظام، فالقضاة وإن كان يعينهم الخليفة إلا أنهم مستقلون عنه بل هم نواب الأمة لا نواب الإمام، وليس للإمام أن يعزلهم دون سبب وجيه لأن الإمام نفسه لا حصانة له ضد أحكام القضاء.
ثم إن الوحدة في النظام السياسي لا تعني أي احتكار للقوة الاجتماعية والدينية، بل إن مسار التاريخ الإسلامي يشهد بأن التعددية الدينية والثقافية والاجتماعية كانت مزدهرة في ظل هذا "النظام السياسي الموحد"، والسرُّ الأهم في هذا أن القيم المُؤسِّسَة للنظام الإسلامي أوصت بالحفاظ وحسن التعامل مع أهل الذمة، وذلك على العكس من الوضع الغربي الذي لم يشهد تسامحا وتعددية إلا في الحقبة الحديثة. ففي حين احتاج العالم الغربي إلى وحدة تفرض النظام وتمنع الفوضى لم يكن العالم الإسلامي محتاجا لهذا لأنه لم يكن يفصل بين الناس في طبقات وفوارق صارمة، ويمكن تشبيه الدولة الإسلامية بأنها "اتحاد يضم عدة ملل" في ظل مركز سياسي يمثل موطن القوة.
إن الفارق الأساسي بين النظامين الغربي والإسلامي كامنٌ في أن النظام الغربي نزَّاع إلى فرض رؤيته على الجميع، وتقسيم مكونات المجتمع إلى طبقات وفوارق فاصلة، بينما يسمح النظام الإسلامي بالتعدد الثقافي والديني والاجتماعي والقانوني، إذ تستطيع كل ملة أن تعيش كما تريد وأن تطبق قوانينها على نفسها، ولذلك تتهدد هذه التعددية في ظل النظام الغربي بينما تزدهر في ظل النظام الإسلامي. ثم إن النظام الإسلامي باعتماده على رؤية دينية وتركز قوته في مؤسسة سياسية منبثقة من قيم إلهية كبرى لا يسمح بتحول الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للأقليات إلى تهديد عام، وهو الأمر الذي تتخوف منه الرؤية الغربية فتنزع إلى فرض رؤيتها الموحدة على جميع من تحكمهم. (فمثلا: الاقتصاد الإسلامي مؤسس على قيمة دينية مستقاة من الوحي هي: ينبغي أن يُنتَج كل ما يحتاج الناس إليه.. ومن هنا يتحرك الاقتصاد دائما إلى جهة تحقيق مصالح الناس. بينما يتأسس الاقتصاد الغربي على قاعدة وضعية تقول: كل ما يُنْتَج ينبغي أن يُسْتَهلك.. ومن هنا يتحرك الاقتصاد دائما إلى جهة تحقيق مصالح المُنْتِجين، ويلزم لمقاومة تهديد المجتمع أن تتدخل الدولة بفرض رؤيتها الاقتصادية القانونية على الجميع منعا لنشوء هذا التهديد من جماعات المصالح. وفيما يستحيل أن تتحول الدولة الإسلامية إلى كيان رأسمالي لطبيعتها القيمية فإنه من السهل أن تتحول الدولة الغربية إلى كيان رأسمالي).
إن مجرد وجود القِيَم والمعايير الدينية في النظام الإسلامي يقيده من كافة الآثار العلمانية الوضعية التي تجعل مركز القوة في النظام متغولا ومتضخما ولا يُمكن مقاومته.
5. الثنائية والتعددية في هيكل النظام الدولي
تمخضت الفلسفات الغربية عن مفهوم سياسي أساسي هو مفهوم "الدولة القومية" والذي كان صلح وستفاليا إعلان عنه، بينما امتدت جذور هذا الفكر السياسي المحدد للهوية إلى مدن اليونان القديمة وإلى الإمبراطورية الرومانية (التي كانت دولة لا أمة عالمية)، وليس يُسْتَغْرَب في ظل فلسفة علمانية أرضية أن تنقسم كل "أمة" إلى "دولة قومية"، يكون لكل منها معاييرها وسياستها وبنيتها المستقلة. وفي هذه الحالة تتحدد الهوية لكل فرد من خلال الأصل العرقي أو مكان الميلاد. فمن وُلِد من أصل كذا أو في نطاق دولة كذا مُنِحَت له جنسيتها، واكتسب حق المواطنة فيها.
بينما يتناقض هذا مع المفهوم الإسلامي الذي يجعل الهوية (الإسلام) شيئا مُكْتَسَبًا، يمكن لكل إنسان أن يكتسب هذه الهوية بدخوله في الإسلام، ويكون انتماؤه للمجتمع الإسلامي هو انتماء طوعي، يختار فيه المرء نمط حياته وثقافته وسلوكه والتزامه بذلك. ولذلك فإن الأمة الإسلامية هي أمة انتماء ديني قِيَميّ أكبر بكثير من كونها انتماءا جغرافيا أو عرقيا أو لغويا. ثم يقبل أهل الذمة فيها ما تقدمه لهم من الهيمنة السياسية (وهي حماية لهم وليست اضطهادا) تحقيقا للقوة السياسية للأمة متمتعين بالاستقلال الديني والثقافي والقانوني في شؤونهم.
ولهذا يعرف الفقه الإسلامي مصطلح "دار الإسلام" و"دار الحرب"، ولا يعني هذا إعلان حالة حرب دائمة (فأكثر الفقهاء يرون أن الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها هو السلام لا الحرب)، وإنما هو تقسيم طبيعي ومنسجم مع الرؤية الإسلامية التي تحدد جغرافيا أين يستطيع المسلم أن يحيا في دولة تمثل رؤيته الإسلامية وأين تغيب هذه الرؤية. ومن الطبيعي كذلك ألا ينشأ هذا التقسيم في الرؤية الغربية لأنها لا تحفل أصلا بالتصور الكلي الكوني للوجود.
نشر في تركيا بوست
ذكرنا في مقال سابق طبيعة الكتاب ونظريته العامة، وقلنا بأن الكتاب ينقسم إلى بابيْن؛ الأول: يتحدث عن التناقض الأصيل بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية، والثاني: يتحدث عن أثر هذا التناقض على مجال النظام السياسي تحديدا وإن كان يلامس –بطبيعة الحال- مسائل الاقتصاد والاجتماع والثقافة. والثاني يرصد فيه المؤلف خمسة آثار من تناقض الرؤية الإسلامية مع الرؤية الغربية في المجال السياسي هي: مبرر وجود النظام السياسي، وشرعية النظام السياسي، وقد تكلمنا عنهما في المقال السابق وبقي أن نستعرض الآثار الثلاثة الباقية.وقد طال عرض الكتاب رغم حجمه الصغير لما يحتويه من معانٍ فارقة ومهمة في هذا الموضوع الخطير الذي تحتاجه كل الحركات الإسلامية لفهم واقعها ووضع برنامجها للدولة الإسلامية.
3. تعدد مراكز القوة
انعكس التناقض بين الرؤيتيْن الإسلامية والغربية في مجال النظام السياسي على مفهوم تعدد مراكز القوى فيه، مثلما يقول سبينوزا "نظام الأفكار هو نفس نظام الأشياء".
لقد اختلف الفلاسفة الغربيون اختلافا واسعا في تحليل مفهوم القوة، فبعضهم ربطها بالأخلاق والغاية النبيلة مثل أفلاطون والرواقيون، وبعضهم لم يبال بذلك وقد آل أمر هؤلاء إلى مفهوم "القوة السياسية" التي استعملت منذ الامبراطورية الرومانية والتي يمثل ميكيافيللي نقطة فارقة في تطورها. ثم اختلفوا من جهة أخرى في ما إذا كانت القوة هي "امتلاك قوة" أم هي القدرة على التأثير من خلال العلاقات. ولكن على الرغم من كافة الخلافات النظرية سارت تلك النظريات نحو دعم وجود مراكز متعددة للقوة في النظام السياسي، لأن النظام السياسي الغربي نفسه قائم على الفصل الصارم الاجتماعي والسياسي والديني، فهناك عائلة مالكة وطبقة نبلاء ورجال كنيسة، فالملوك يحتكرون المجال السياسي والنبلاء يحتكرون المجال الاقتصادي بالإقطاع ورجال الكنيسة يحتكرون المجال الديني. ثم أضيفت لهم طبقة جديدة مع التطور الصناعي الذي غير من خريطة القوى الاقتصادية فأصعد طبقة جديدة من التجار وأصحاب المصانع والماليين. وفي ظل هذا الفصل الصارم بين المجالات والطبقات كانت الضمانة الوحيدة لبقاء نظام سياسي أحد أمرين نطق بكل منهما عدد من الفلاسفة، فبعضهم أراد توحيد مراكز القوى في مركز واحد (وهؤلاء اختلفوا: أيهما أحق: الدولة أم الكنيسة) وبعضهم سعى للتسليم بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي ورأى هذا التعدد ضمانة لبقاء النظام متوازنا. إلا أن خلافهم هذا على الحقيقة كان خلافا حول المؤسسات والمنهج لا خلافا حول مفهوم القوة، فالحقيقة أن مفهوم القوة في ظل هذا النزاع بين مراكز القوة قد انفصل عن الغاية والأخلاق وتحكمت فيه رغبات الأطراف في توسيع نفوذها، ثم جاءت الحقبة العلمانية فرفضت ارتباط مفهوم القوة بالأخلاق كلية، وجاءت فلسفاتها تدعم استعمال القوة لتحقيق المنافع والأهداف بغض النظر عن أخلاقيتها وعدالتها.
بينما في النظام الإسلامي الذي يتمركز حول الإله الواحد العلي المهيمن على الحياة والذي سيحاسب الجميع في الآخرة، لم يمكن أن يظهر مثل هذا التعدد في مراكز القوة داخل النظام السياسي، إذ الناس جميعا سواء وسواسية ولا يحتكر أحد أو طبقة مجالا بعينه، فبإمكان الجميع أن يكون من الأثرياء وبإمكان الجميع أن يكون من العلماء، وبإمكان الجميع أن يكون حاكما، وثمة أمر نبوي واضح "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي". ولذلك لم يكن في المجتمع الإسلامي إقطاع على نحو ما كان في التاريخ الغربي، كما لم تكن فيه مؤسسة دينية كهنوتية تتمع بصلاحيات واسعة كما هو الحال في الغرب، ثم لم يكن فيه أيضا قداسة لعائلة مالكة تستمد سلطتها من إرادة الرب كما كان لملوك أوروبا. لقد تركز نظر الرؤية الإسلامية حول فاعلية هذا النظام السياسي في القيام بالواجبات المنوطة به، وهي الواجبات الدينية التي صدرت عن الله، باعتباره القوة الوحيدة المطلقة والقوة الوحيدة التي تستحق أن تُطاع وتستحق أن تُرْهَب! ولذلك فإن التجاوب مع النظام السياسي إنما يكون فرعا عن تجاوب هذا النظام مع الإسلام نفسه (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). ولهذا فإن النظام السياسي الإسلامي واحد غير متعدد مراكز القوى.
ولهذا الاختلاف بين الرؤيتيْن آثار بعيدة من أهمها أن المجتمع الإسلامي يرفض ما يهدد "العدالة" ولو كان يحقق تطورا ماديا ضخما، كما أن صيغة التكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي مرتبطة أصلا بكونهم سواسية وممسوكة بقيم دينية كالزكاة التي هي حق للفقراء في أموال الأغنياء، وتمثل "الحسبة" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ضمير المجتمع المسلم وأداته ضد أي تهديد ينال من قيمه واستقراره.
4. خطر تغول المركز
وهنا يأتي السؤال: إذا كان النظام الإسلامي لا يسمح بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي، فكيف يفعل إزاء خطر تغول هذا المركز؟
إن الحل الإسلامي هنا هو إبقاء القِيَم قوية وحاضرة وفاعلة في المجتمع، مع حماية سيادة القانون والحرص على استقلال القضاء. وهذا كله بعد تشديدهم في الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإمام بحيث يكون أفضل وأكمل الأمة.
إن قيام النظام السياسي وشرعيته إنما تُسْتَمَدُّ من تطبيقه للإسلام، وهذا هو الأصل الكبير العام، والذي يُسْقِط شرعية النظام ومبرر وجوده إن هو خالفه، ولذلك ينزع العلماء حق الطاعة والخضوع لهذا النظام بانتهاكه لهذا الأصل. ومن آثار هذا أن جميع علماء المسلمين متفقون على استقلال القضاء عن النظام السياسي، لأنه الذي يحول دون تغول هذا النظام، فالقضاة وإن كان يعينهم الخليفة إلا أنهم مستقلون عنه بل هم نواب الأمة لا نواب الإمام، وليس للإمام أن يعزلهم دون سبب وجيه لأن الإمام نفسه لا حصانة له ضد أحكام القضاء.
ثم إن الوحدة في النظام السياسي لا تعني أي احتكار للقوة الاجتماعية والدينية، بل إن مسار التاريخ الإسلامي يشهد بأن التعددية الدينية والثقافية والاجتماعية كانت مزدهرة في ظل هذا "النظام السياسي الموحد"، والسرُّ الأهم في هذا أن القيم المُؤسِّسَة للنظام الإسلامي أوصت بالحفاظ وحسن التعامل مع أهل الذمة، وذلك على العكس من الوضع الغربي الذي لم يشهد تسامحا وتعددية إلا في الحقبة الحديثة. ففي حين احتاج العالم الغربي إلى وحدة تفرض النظام وتمنع الفوضى لم يكن العالم الإسلامي محتاجا لهذا لأنه لم يكن يفصل بين الناس في طبقات وفوارق صارمة، ويمكن تشبيه الدولة الإسلامية بأنها "اتحاد يضم عدة ملل" في ظل مركز سياسي يمثل موطن القوة.
إن الفارق الأساسي بين النظامين الغربي والإسلامي كامنٌ في أن النظام الغربي نزَّاع إلى فرض رؤيته على الجميع، وتقسيم مكونات المجتمع إلى طبقات وفوارق فاصلة، بينما يسمح النظام الإسلامي بالتعدد الثقافي والديني والاجتماعي والقانوني، إذ تستطيع كل ملة أن تعيش كما تريد وأن تطبق قوانينها على نفسها، ولذلك تتهدد هذه التعددية في ظل النظام الغربي بينما تزدهر في ظل النظام الإسلامي. ثم إن النظام الإسلامي باعتماده على رؤية دينية وتركز قوته في مؤسسة سياسية منبثقة من قيم إلهية كبرى لا يسمح بتحول الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للأقليات إلى تهديد عام، وهو الأمر الذي تتخوف منه الرؤية الغربية فتنزع إلى فرض رؤيتها الموحدة على جميع من تحكمهم. (فمثلا: الاقتصاد الإسلامي مؤسس على قيمة دينية مستقاة من الوحي هي: ينبغي أن يُنتَج كل ما يحتاج الناس إليه.. ومن هنا يتحرك الاقتصاد دائما إلى جهة تحقيق مصالح الناس. بينما يتأسس الاقتصاد الغربي على قاعدة وضعية تقول: كل ما يُنْتَج ينبغي أن يُسْتَهلك.. ومن هنا يتحرك الاقتصاد دائما إلى جهة تحقيق مصالح المُنْتِجين، ويلزم لمقاومة تهديد المجتمع أن تتدخل الدولة بفرض رؤيتها الاقتصادية القانونية على الجميع منعا لنشوء هذا التهديد من جماعات المصالح. وفيما يستحيل أن تتحول الدولة الإسلامية إلى كيان رأسمالي لطبيعتها القيمية فإنه من السهل أن تتحول الدولة الغربية إلى كيان رأسمالي).
إن مجرد وجود القِيَم والمعايير الدينية في النظام الإسلامي يقيده من كافة الآثار العلمانية الوضعية التي تجعل مركز القوة في النظام متغولا ومتضخما ولا يُمكن مقاومته.
5. الثنائية والتعددية في هيكل النظام الدولي
تمخضت الفلسفات الغربية عن مفهوم سياسي أساسي هو مفهوم "الدولة القومية" والذي كان صلح وستفاليا إعلان عنه، بينما امتدت جذور هذا الفكر السياسي المحدد للهوية إلى مدن اليونان القديمة وإلى الإمبراطورية الرومانية (التي كانت دولة لا أمة عالمية)، وليس يُسْتَغْرَب في ظل فلسفة علمانية أرضية أن تنقسم كل "أمة" إلى "دولة قومية"، يكون لكل منها معاييرها وسياستها وبنيتها المستقلة. وفي هذه الحالة تتحدد الهوية لكل فرد من خلال الأصل العرقي أو مكان الميلاد. فمن وُلِد من أصل كذا أو في نطاق دولة كذا مُنِحَت له جنسيتها، واكتسب حق المواطنة فيها.
بينما يتناقض هذا مع المفهوم الإسلامي الذي يجعل الهوية (الإسلام) شيئا مُكْتَسَبًا، يمكن لكل إنسان أن يكتسب هذه الهوية بدخوله في الإسلام، ويكون انتماؤه للمجتمع الإسلامي هو انتماء طوعي، يختار فيه المرء نمط حياته وثقافته وسلوكه والتزامه بذلك. ولذلك فإن الأمة الإسلامية هي أمة انتماء ديني قِيَميّ أكبر بكثير من كونها انتماءا جغرافيا أو عرقيا أو لغويا. ثم يقبل أهل الذمة فيها ما تقدمه لهم من الهيمنة السياسية (وهي حماية لهم وليست اضطهادا) تحقيقا للقوة السياسية للأمة متمتعين بالاستقلال الديني والثقافي والقانوني في شؤونهم.
ولهذا يعرف الفقه الإسلامي مصطلح "دار الإسلام" و"دار الحرب"، ولا يعني هذا إعلان حالة حرب دائمة (فأكثر الفقهاء يرون أن الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها هو السلام لا الحرب)، وإنما هو تقسيم طبيعي ومنسجم مع الرؤية الإسلامية التي تحدد جغرافيا أين يستطيع المسلم أن يحيا في دولة تمثل رؤيته الإسلامية وأين تغيب هذه الرؤية. ومن الطبيعي كذلك ألا ينشأ هذا التقسيم في الرؤية الغربية لأنها لا تحفل أصلا بالتصور الكلي الكوني للوجود.
نشر في تركيا بوست
Published on October 27, 2015 12:02
October 25, 2015
عشر عبر من عاشوراء
كان يوما واحدا، ولكنه يوم فارق في تاريخ الإنسانية، ذلك يوم عاشوراء.. يوم هلاك الطاغية الذي ضربه الله مثلا لكل الطغاة، ونجاة المظلومين المقهورين الذين ما كان يتوقع أحد أن يأتي لهم فرج أبدا!
وكم في قصة هذا اليوم من الدروس والعبر، قد التقطنا منها عشرة، فالله المستعان!
1. طبيعة الطاغية: الذي جاءته الآيات تترى فلم تؤثر فيه ولم يحفل بها، تسع آيات بينات لا يستطيع لها ردًّا ولا دفعا، ولكنه مع هذا لا يؤمن، حتى جاءته الآية الهائلة الهادرة الضخمة، المعجزة الكونية الكبرى؛ لقد انشق البحر أمامه فتحول إلى طريق عبر عليه القوم، قد كان أحرى به أن يتوقف، فلئن لم يتوقف ليؤمن فليتوقف ليفكر ويعيد النظر في هذا التغير الكوني الرهيب.. لكن الطاغية إذا بلغ حدَّ الفجور انغلق على عقله وخُتِم على قلبه، فسارع إلى حتفه.. ثم لا يعود له شيء من العقل إلا بعد فوات الأوان {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]
2. طبيعة العسكر: وهم جنود الطاغية الذين كانوا ينفذون أوامره بلا نقاش ولا حتى تفكير، فيقتلون ويعذبون ويضربون، هؤلاء كذلك ينغلق على فكرهم ويُخْتَم على قلوبهم، فيلحقون بسيدهم دون أن يتوقفوا أمام الدروس والعبر، ولو كانت هذه الدروس معجزة كونية هائلة تحول فيها البحر إلى طريق يابس!!
ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خدمة الظالمين وقال في الحديث الحسن: "ليأتين على الناس زمان يكون عليكم أمراء سفهاء، يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم ويؤخرون الصلاة عن مواقتيها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا".. لأن الظلم المؤسسي يطبع على قلوب أصحابه وينشئهم نشأة أخرى تجعلهم يحسبون الأوامر دينا فلا يخالفونها بل ولا يفكرون فيها.
وهذا درس لجميع الناس أن يخافوا على أنفسهم هذا المصير مهما كانت إغراءات ومزايا هذا الصنف في الدنيا، وهو درس للمصلحين كذلك.. ليعلموا أن أبعد الناس عن صلاح الحال من كان عريقا في جوار الظالمين، وهذا درس لو فقهوه لتغير كثير من طرق تفكيرهم ووسائل دعوتهم ومناهج جهادهم.
3. طبيعة الاستبداد: وكيف يصنع بالشعوب، فأولئك القوم من بني إسرائيل الذين عاشوا تحت ظل فرعون لم يستطيعوا التخلص من آثار الاستبداد في نفوسهم، لقد سحقهم الاستبداد وقهرهم، حتى أنهم لم يرحبوا بالمنقذ المخلص ولو كان نبيا وقالوا له {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، وهم برغم ما رأوه من المعجزة الهائلة الكبرى أتعبوا نبيهم غاية التعب، حتى أنهم بعدما عبروا رأوا قوما يعبدون الأصنام فقالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، ولما غاب عنهم عبدوا العجل، ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] وبلغوا أن قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] وهم الذين لم يجرؤوا على التفكير في أن يروا فرعون جهرة قبل أن يخضعوا لجنوده!! ورفضوا الجهاد مع الوعد بالنصر بل فجروا فقالوا {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، حتى قال موسى عليه السلام آخر الأمر {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25].
وذلك درس كبير: إن الشعوب التي طحنها الاستبداد لا تنطاع لمنقذ ولو كان نبيا، ولا تؤمن ولو شهدت المعجزات.. ولهذا فيجب على الدعاة أن يجعلوا كل مجهودهم منصبا على أن لا يكون استبداد، فإن الاستبداد يجعل كل عملهم هباءًا منثورا، وربما جعلهم هم أنفسهم على هذه الشاكلة.
4. طبيعة الشعوب: فقد تُعَظِّم الناس الأيام وتنسى دلالتها، كذلك فعلت قريش فقد كانت تعظم عاشوراء لكنها لا تستوعب دروسه، وكذلك فعل اليهود فكانوا يصومونه، ولكنهم لم يؤمنوا لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من جاء بأخلاق الفراعين من جديد وكانت سيرته مع المصلحين كسيرة فرعون مع موسى وهارون.
6. طبيعة المصلحين: فهم يعاملون نسيان الشعوب بالتذكير والتكرار، ويأخذون بأيديهم بالصبر والرفق والحلم والأناة، يستخرجونهم من تحت سلطان الباطل وإن لم يكونوا طوعا لهم، ويصبرون على هدايتهم للحق وإن عاندوهم وخالفوهم، ويواجهون في سبيل استنقاذهم جبروت الطغاة الظالمين، ثم هم لا يرجون بعد ذلك أجرا ولا شكورا.
7. طبيعة الأمة الإسلامية: فهي تأخذ الحكمة من حيث وجدتها، وتحتفي بالحق من أي طريق جاء، ولو كان من طريق عدوها، وبهذا تحتفظ الأمة بالنظر المستقل والنفس المطمئنة التي لا تتخوف من فحص ومطالعة ما عند غيرها، بل تتعامل معه تعامل الواثق بنفسه وبربه، وترى نفسها أحق بكل حق وأولى بكل خير، بل هي الأمة التي تصر على التفوق، وذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم "نحن أولى بموسى منهم"، ولقد كانت هذه الولاية ولاية عملية بمزيد صيام واحتفاء لا بمجرد الشعارات والهتافات، فندب النبي صيام تاسوعاء مع عاشوراء زيادة على ما يفعل اليهود. ذلك أن الأمة الإسلامية قد ورثت وحملت الرسالة من بعد ما ضيعتها بنو إسرائيل.
8. قد ينزل نصر على من لا يستحق: كما نزل نصر الله على بني إسرائيل وأنجاهم من فرعون وهم لا يستحقون نصرا. ولكن تظل منظومة الباطل إن لم يكن ثمة أهل حق؛ فإن الحق لا يسود إلا إن نهض له من كان أهلا لحمل الرسالة، فعندئذ يزول الباطل ليأتي الحق، وإلا فإن الباطل الذي يهلك يعقبه باطل آخر يبدأ دورة أخرى. فهكذا نجا بنو إسرائيل لكنهم لم يكونوا أهلا لتأسيس دولة حق، وهلك فرعون لكن خلفه في مصر فرعون آخر يقيم على مسيرة الباطل.
وهنا ينبغي أن ينتبه المصلحون ويتبصروا، فإن نزول النصر على قوم لا يعني أنهم استحقوه، بل لئن جاء نصر بغير استحقاق فعليهم أن ينتبهوا لما في صفوف هؤلاء من الأتباع فلا يعتمدون عليهم ولا يطمئنون إليهم، بل ليعلموا أن هذا فرج من الله على هيئة اختبار كما قال تعالى {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] فيكون همُّهم أن يستكملوا مهمة الدعوة والإصلاح والتربية والإعداد والتكوين بعد أن منَّ الله عليهم بهلاك طاغية وزوال بطشه.
9. تظل العبرة ولكن تحجبها الغفلة: فهذه جثة فرعون ملقاة في المتحف المصري، ولكن كما قال تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]، وقد فحصها الطبيب والمستشرق الفرنسي موريس بوكاي، وكانت من أسباب إيمانه، وسجل هذا كله في كتابه "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم"، ولكن كم من الناس من يهتم بها أو يهتم بالنظر إليها وأخذ العظة منها؟!.. وكم في هذه الدنيا من دروس وعبر تفيض من مشاهد الكون أو آثار السابقين أو تاريخ اللاحقين أو واقع المعاصرين، ولكن تحجبها الغفلة! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
هذه جثة فرعون.. ولكن كم في الأرض من فراعين!
10. ختام المعجزات وافتتاح الجهاد: فإن يوم عاشوراء كان آخر يوم لتدخل السماء في إهلاك الأقوام المكذبين، لقد انتقلت هذه المهمة إلى الأمة التي حملت الرسالة، كانت بنو إسرائيل أول الأمر، ثم صارت الرسالة والمهمة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو سعيد الخدري: "إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يُهْلِك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين".
وهكذا ينبغي أن تكون الأمة لكل مظلوم عاشوراء، وعلى كل ظالم عاشوراء.
نشر في الخليج أون لاين
وكم في قصة هذا اليوم من الدروس والعبر، قد التقطنا منها عشرة، فالله المستعان!
1. طبيعة الطاغية: الذي جاءته الآيات تترى فلم تؤثر فيه ولم يحفل بها، تسع آيات بينات لا يستطيع لها ردًّا ولا دفعا، ولكنه مع هذا لا يؤمن، حتى جاءته الآية الهائلة الهادرة الضخمة، المعجزة الكونية الكبرى؛ لقد انشق البحر أمامه فتحول إلى طريق عبر عليه القوم، قد كان أحرى به أن يتوقف، فلئن لم يتوقف ليؤمن فليتوقف ليفكر ويعيد النظر في هذا التغير الكوني الرهيب.. لكن الطاغية إذا بلغ حدَّ الفجور انغلق على عقله وخُتِم على قلبه، فسارع إلى حتفه.. ثم لا يعود له شيء من العقل إلا بعد فوات الأوان {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]
2. طبيعة العسكر: وهم جنود الطاغية الذين كانوا ينفذون أوامره بلا نقاش ولا حتى تفكير، فيقتلون ويعذبون ويضربون، هؤلاء كذلك ينغلق على فكرهم ويُخْتَم على قلوبهم، فيلحقون بسيدهم دون أن يتوقفوا أمام الدروس والعبر، ولو كانت هذه الدروس معجزة كونية هائلة تحول فيها البحر إلى طريق يابس!!
ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خدمة الظالمين وقال في الحديث الحسن: "ليأتين على الناس زمان يكون عليكم أمراء سفهاء، يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم ويؤخرون الصلاة عن مواقتيها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا".. لأن الظلم المؤسسي يطبع على قلوب أصحابه وينشئهم نشأة أخرى تجعلهم يحسبون الأوامر دينا فلا يخالفونها بل ولا يفكرون فيها.
وهذا درس لجميع الناس أن يخافوا على أنفسهم هذا المصير مهما كانت إغراءات ومزايا هذا الصنف في الدنيا، وهو درس للمصلحين كذلك.. ليعلموا أن أبعد الناس عن صلاح الحال من كان عريقا في جوار الظالمين، وهذا درس لو فقهوه لتغير كثير من طرق تفكيرهم ووسائل دعوتهم ومناهج جهادهم.
3. طبيعة الاستبداد: وكيف يصنع بالشعوب، فأولئك القوم من بني إسرائيل الذين عاشوا تحت ظل فرعون لم يستطيعوا التخلص من آثار الاستبداد في نفوسهم، لقد سحقهم الاستبداد وقهرهم، حتى أنهم لم يرحبوا بالمنقذ المخلص ولو كان نبيا وقالوا له {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، وهم برغم ما رأوه من المعجزة الهائلة الكبرى أتعبوا نبيهم غاية التعب، حتى أنهم بعدما عبروا رأوا قوما يعبدون الأصنام فقالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، ولما غاب عنهم عبدوا العجل، ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] وبلغوا أن قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] وهم الذين لم يجرؤوا على التفكير في أن يروا فرعون جهرة قبل أن يخضعوا لجنوده!! ورفضوا الجهاد مع الوعد بالنصر بل فجروا فقالوا {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، حتى قال موسى عليه السلام آخر الأمر {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25].
وذلك درس كبير: إن الشعوب التي طحنها الاستبداد لا تنطاع لمنقذ ولو كان نبيا، ولا تؤمن ولو شهدت المعجزات.. ولهذا فيجب على الدعاة أن يجعلوا كل مجهودهم منصبا على أن لا يكون استبداد، فإن الاستبداد يجعل كل عملهم هباءًا منثورا، وربما جعلهم هم أنفسهم على هذه الشاكلة.
4. طبيعة الشعوب: فقد تُعَظِّم الناس الأيام وتنسى دلالتها، كذلك فعلت قريش فقد كانت تعظم عاشوراء لكنها لا تستوعب دروسه، وكذلك فعل اليهود فكانوا يصومونه، ولكنهم لم يؤمنوا لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من جاء بأخلاق الفراعين من جديد وكانت سيرته مع المصلحين كسيرة فرعون مع موسى وهارون.
6. طبيعة المصلحين: فهم يعاملون نسيان الشعوب بالتذكير والتكرار، ويأخذون بأيديهم بالصبر والرفق والحلم والأناة، يستخرجونهم من تحت سلطان الباطل وإن لم يكونوا طوعا لهم، ويصبرون على هدايتهم للحق وإن عاندوهم وخالفوهم، ويواجهون في سبيل استنقاذهم جبروت الطغاة الظالمين، ثم هم لا يرجون بعد ذلك أجرا ولا شكورا.
7. طبيعة الأمة الإسلامية: فهي تأخذ الحكمة من حيث وجدتها، وتحتفي بالحق من أي طريق جاء، ولو كان من طريق عدوها، وبهذا تحتفظ الأمة بالنظر المستقل والنفس المطمئنة التي لا تتخوف من فحص ومطالعة ما عند غيرها، بل تتعامل معه تعامل الواثق بنفسه وبربه، وترى نفسها أحق بكل حق وأولى بكل خير، بل هي الأمة التي تصر على التفوق، وذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم "نحن أولى بموسى منهم"، ولقد كانت هذه الولاية ولاية عملية بمزيد صيام واحتفاء لا بمجرد الشعارات والهتافات، فندب النبي صيام تاسوعاء مع عاشوراء زيادة على ما يفعل اليهود. ذلك أن الأمة الإسلامية قد ورثت وحملت الرسالة من بعد ما ضيعتها بنو إسرائيل.
8. قد ينزل نصر على من لا يستحق: كما نزل نصر الله على بني إسرائيل وأنجاهم من فرعون وهم لا يستحقون نصرا. ولكن تظل منظومة الباطل إن لم يكن ثمة أهل حق؛ فإن الحق لا يسود إلا إن نهض له من كان أهلا لحمل الرسالة، فعندئذ يزول الباطل ليأتي الحق، وإلا فإن الباطل الذي يهلك يعقبه باطل آخر يبدأ دورة أخرى. فهكذا نجا بنو إسرائيل لكنهم لم يكونوا أهلا لتأسيس دولة حق، وهلك فرعون لكن خلفه في مصر فرعون آخر يقيم على مسيرة الباطل.
وهنا ينبغي أن ينتبه المصلحون ويتبصروا، فإن نزول النصر على قوم لا يعني أنهم استحقوه، بل لئن جاء نصر بغير استحقاق فعليهم أن ينتبهوا لما في صفوف هؤلاء من الأتباع فلا يعتمدون عليهم ولا يطمئنون إليهم، بل ليعلموا أن هذا فرج من الله على هيئة اختبار كما قال تعالى {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] فيكون همُّهم أن يستكملوا مهمة الدعوة والإصلاح والتربية والإعداد والتكوين بعد أن منَّ الله عليهم بهلاك طاغية وزوال بطشه.
9. تظل العبرة ولكن تحجبها الغفلة: فهذه جثة فرعون ملقاة في المتحف المصري، ولكن كما قال تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]، وقد فحصها الطبيب والمستشرق الفرنسي موريس بوكاي، وكانت من أسباب إيمانه، وسجل هذا كله في كتابه "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم"، ولكن كم من الناس من يهتم بها أو يهتم بالنظر إليها وأخذ العظة منها؟!.. وكم في هذه الدنيا من دروس وعبر تفيض من مشاهد الكون أو آثار السابقين أو تاريخ اللاحقين أو واقع المعاصرين، ولكن تحجبها الغفلة! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
هذه جثة فرعون.. ولكن كم في الأرض من فراعين!
10. ختام المعجزات وافتتاح الجهاد: فإن يوم عاشوراء كان آخر يوم لتدخل السماء في إهلاك الأقوام المكذبين، لقد انتقلت هذه المهمة إلى الأمة التي حملت الرسالة، كانت بنو إسرائيل أول الأمر، ثم صارت الرسالة والمهمة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو سعيد الخدري: "إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يُهْلِك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين".
وهكذا ينبغي أن تكون الأمة لكل مظلوم عاشوراء، وعلى كل ظالم عاشوراء.
نشر في الخليج أون لاين
Published on October 25, 2015 02:53
October 24, 2015
عاشوراء ختام المعجزات وافتتاح الجهاد
من الدروس المنسية التي لا يحفل لها كثير من الناس في ذكرى عاشوراء أنها كانت ختام المعجزات وبداية الجهاد..
لقد كان إغراق الله تعالى لفرعون وجيشه آخر المعجزات التي تتدخل فيها السماء لنصرة المؤمنين وإهلاك المكذبين، فلقد كانت سنة الله الماضية أن يبعث رسولا يدعو الناس إلى ربهم فمن آمنوا واستجابوا وصبروا على ما أصابهم أنجاهم الله من عذاب يبعثه على هذه الأمة فيهلكهم، قال تعالى {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40].
ثم قضى ربنا تبارك وتعالى أن يكون هلاك فرعون هو آخر هذه المعجزات الكبرى، وأن تكون الرسالة مسؤولية أمة من البشر، يجاهدون في سبيلها ويأخذون بالأسباب ويستعملون السنن، فإن فعلوا ذلك انتصروا وأسسوا دولة الرسالة، وإن قصروا في ذلك جرت عليهم سنن الحياة فسلط الله عليهم من يغلبهم على ما في أيديهم ويذلهم حتى يعودوا إلى الله ويرجعوا ويأخذوا بالأسباب.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يُهْلِك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين.
لذلك لم تنته رسالة موسى عليه السلام بالنجاة من فرعون، بل بدأ قسمها الثاني والأهم، وهو قيادة جهاد هذه الأمة: أمة بني إسرائيل نحو تأسيس دولة الرسالة، إلا أنهم نكصوا على أعقابهم ورفضوا أن يجاهدوا وقالوا {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فكان أن عاقبهم الله بالتيه في صحراء سيناء والشام أربعين سنة، فكان عقابا لهم من جهة أنهم تاهوا وفقدوا الاستقرار وحُرِموا من الدولة والعزة والسلطان فعاشوا مشردين، وكان منحة لهم من جهة أخرى: إذ نشأ الجيل الثاني منهم خاليا من آثار الاستبداد والضعف والفساد التي أصابت آباءهم تحت حكم الفرعون، فنشأوا على الفطرة، نشأوا وليس عليهم سلطة قاهرة تذهب قوة نفوسهم، فقاد هذا الجيل نبي الله يوشع بن نون وجاهد بهم حتى غلب بهم وفتح الله عليه ودخل الأرض المقدسة وأزال حكم الجبارين وأسس أول مملكة لبني إسرائيل.
وهنا نلحظ فارقا مهما بين معجزتي موسى ويوشع عليهما السلام، وذلك أن يوشع حين قاد بني إسرائيل إلى الجهاد كاد أن يفتح البلدة فطالت المعركة فأوشك الليل أن يدخل، فنظر إلى الشمس وقال لها: أنا مأمور وأنتِ مأمورة، فسأل الله أن يحبسها (أي يطيل اليوم فلا تغرب الشمس) فحبسها الله عليه حتى أتم الفتح. فالفارق بين المعجزتين أن معجزة موسى بغرق فرعون جاءتهم وهم يخرجون هاربين، بينما جاءت المعجزة الأخرى لهم وهم يجاهدون. وهذا هو المعنى الذي نؤكد عليه: أن يوم عاشوراء كان ختاما للمعجزة التي تهلك الظالمين بغير جهاد من المؤمنين، وكانت فاتحة لجهاد المؤمنين الذي يأخذون فيه بالأسباب ثم تأتيهم المعجزات إعانة وتثبيتا وبشرى!
لقد كانت بنو إسرائيل أول أمة تحمل رسالة الله فتجاهد في سبيله، فكانوا إذا أطاعوا انتصروا وغلبوا، ثم كانوا إذا فرطوا وقصروا هُزِموا وغُلِبوا وانتُزِعَتْ منهم مقدساتهم كما قصَّ الله علينا في القرآن قصة الجيل التالي الذين أُخْرِجوا من ديارهم وأبنائهم حتى قادهم طالوت فانتصر بهم على جالوت وقومه، وبدأ به تأسيس العصر الذهبي لبني إسرائيل في عهديْ داود وسليمان عليهما السلام.
إلا أن بني إسرائيل في العموم كانوا أمة سيئة، فلم تحمل الكتاب ولم تأخذه بحقه، وصاروا {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، وكم عصوا الله جحودا وكبرا حتى أزال الله عنهم هذه النعمة ونزع منهم شرف حمل الرسالة وعاقبهم بهذا في التوراة والإنجيل والقرآن، ففي سفر الاستثناء 32/11: "هم أغاروني بما ليس بإله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا -أيضا- أغيرهم بما ليس شعبا، وبشعب جاهل أغضبهم"، أي لما أجرموا في حق الله عاقبهم الله بانتقال الرسالة إلى أمة أمية، وهي أمة المسلمين التي وصفها الله بقوله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
وانتقلت الرسالة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كثرة معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فإن أحدا منها لم يكن معجزة نصر أو عقاب للمجرمين بغير أن يجاهدوا، بل نزل على المؤمنين التثبيت والإعانة وهم يجاهدون في بدر، وبعد أن صبروا في الخندق، وكانت حياة النبي جهادا دائما مستمرا، يأخذ بالأسباب فيدير أمر دولته وشؤون أصحابه وعلاقاته الدولية ويخطط للجيوش ويدبر للحروب ويبرم المعاهدات، حتى تأسست الدولة الإسلامية التي أشرقت على العالمين وأطلقت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
ولذلك، فإننا حين نحتفل بذكرى عاشوراء، ذكرى إهلاك الظالمين ونجاة المظلومين، ينبغي أن نتذكر هذا الأمر، وأنها كانت نهاية المعجزات الخارقة وبداية الجهاد الرباني، الجهاد الذي اشترى الله فيه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111].. وإنها لمهمة جليلة شريفة كما أنها مهمة طويلة عنيفة، فإن أكثر أهل الأرض مظلومين، وأكثر المظلومين من نشأوا في الظلم حتى أنهم لا يشعرون به، وإن أولى المظلومين المسلمون، فالأمر كما قال الشاعر:
أني نظرت إلى الإسلام في أرض .. وجدته كالطير مقصوصا جناحاه
ولذلك فإن مهمتنا قائمة ما دام في الأرض ظلم، ولذلك أخبرنا نبينا بأن "الجهاد ماض إلى يوم القيامة"!
إن الاستلهام الصحيح لعاشوراء أن نكون نحن عاشوراء.. عاشوراء لكل مظلوم، وعاشوراء على كل ظالم.
نشر في مصري 24
لقد كان إغراق الله تعالى لفرعون وجيشه آخر المعجزات التي تتدخل فيها السماء لنصرة المؤمنين وإهلاك المكذبين، فلقد كانت سنة الله الماضية أن يبعث رسولا يدعو الناس إلى ربهم فمن آمنوا واستجابوا وصبروا على ما أصابهم أنجاهم الله من عذاب يبعثه على هذه الأمة فيهلكهم، قال تعالى {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40].
ثم قضى ربنا تبارك وتعالى أن يكون هلاك فرعون هو آخر هذه المعجزات الكبرى، وأن تكون الرسالة مسؤولية أمة من البشر، يجاهدون في سبيلها ويأخذون بالأسباب ويستعملون السنن، فإن فعلوا ذلك انتصروا وأسسوا دولة الرسالة، وإن قصروا في ذلك جرت عليهم سنن الحياة فسلط الله عليهم من يغلبهم على ما في أيديهم ويذلهم حتى يعودوا إلى الله ويرجعوا ويأخذوا بالأسباب.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يُهْلِك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين.
لذلك لم تنته رسالة موسى عليه السلام بالنجاة من فرعون، بل بدأ قسمها الثاني والأهم، وهو قيادة جهاد هذه الأمة: أمة بني إسرائيل نحو تأسيس دولة الرسالة، إلا أنهم نكصوا على أعقابهم ورفضوا أن يجاهدوا وقالوا {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فكان أن عاقبهم الله بالتيه في صحراء سيناء والشام أربعين سنة، فكان عقابا لهم من جهة أنهم تاهوا وفقدوا الاستقرار وحُرِموا من الدولة والعزة والسلطان فعاشوا مشردين، وكان منحة لهم من جهة أخرى: إذ نشأ الجيل الثاني منهم خاليا من آثار الاستبداد والضعف والفساد التي أصابت آباءهم تحت حكم الفرعون، فنشأوا على الفطرة، نشأوا وليس عليهم سلطة قاهرة تذهب قوة نفوسهم، فقاد هذا الجيل نبي الله يوشع بن نون وجاهد بهم حتى غلب بهم وفتح الله عليه ودخل الأرض المقدسة وأزال حكم الجبارين وأسس أول مملكة لبني إسرائيل.
وهنا نلحظ فارقا مهما بين معجزتي موسى ويوشع عليهما السلام، وذلك أن يوشع حين قاد بني إسرائيل إلى الجهاد كاد أن يفتح البلدة فطالت المعركة فأوشك الليل أن يدخل، فنظر إلى الشمس وقال لها: أنا مأمور وأنتِ مأمورة، فسأل الله أن يحبسها (أي يطيل اليوم فلا تغرب الشمس) فحبسها الله عليه حتى أتم الفتح. فالفارق بين المعجزتين أن معجزة موسى بغرق فرعون جاءتهم وهم يخرجون هاربين، بينما جاءت المعجزة الأخرى لهم وهم يجاهدون. وهذا هو المعنى الذي نؤكد عليه: أن يوم عاشوراء كان ختاما للمعجزة التي تهلك الظالمين بغير جهاد من المؤمنين، وكانت فاتحة لجهاد المؤمنين الذي يأخذون فيه بالأسباب ثم تأتيهم المعجزات إعانة وتثبيتا وبشرى!
لقد كانت بنو إسرائيل أول أمة تحمل رسالة الله فتجاهد في سبيله، فكانوا إذا أطاعوا انتصروا وغلبوا، ثم كانوا إذا فرطوا وقصروا هُزِموا وغُلِبوا وانتُزِعَتْ منهم مقدساتهم كما قصَّ الله علينا في القرآن قصة الجيل التالي الذين أُخْرِجوا من ديارهم وأبنائهم حتى قادهم طالوت فانتصر بهم على جالوت وقومه، وبدأ به تأسيس العصر الذهبي لبني إسرائيل في عهديْ داود وسليمان عليهما السلام.
إلا أن بني إسرائيل في العموم كانوا أمة سيئة، فلم تحمل الكتاب ولم تأخذه بحقه، وصاروا {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، وكم عصوا الله جحودا وكبرا حتى أزال الله عنهم هذه النعمة ونزع منهم شرف حمل الرسالة وعاقبهم بهذا في التوراة والإنجيل والقرآن، ففي سفر الاستثناء 32/11: "هم أغاروني بما ليس بإله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا -أيضا- أغيرهم بما ليس شعبا، وبشعب جاهل أغضبهم"، أي لما أجرموا في حق الله عاقبهم الله بانتقال الرسالة إلى أمة أمية، وهي أمة المسلمين التي وصفها الله بقوله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
وانتقلت الرسالة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كثرة معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فإن أحدا منها لم يكن معجزة نصر أو عقاب للمجرمين بغير أن يجاهدوا، بل نزل على المؤمنين التثبيت والإعانة وهم يجاهدون في بدر، وبعد أن صبروا في الخندق، وكانت حياة النبي جهادا دائما مستمرا، يأخذ بالأسباب فيدير أمر دولته وشؤون أصحابه وعلاقاته الدولية ويخطط للجيوش ويدبر للحروب ويبرم المعاهدات، حتى تأسست الدولة الإسلامية التي أشرقت على العالمين وأطلقت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
ولذلك، فإننا حين نحتفل بذكرى عاشوراء، ذكرى إهلاك الظالمين ونجاة المظلومين، ينبغي أن نتذكر هذا الأمر، وأنها كانت نهاية المعجزات الخارقة وبداية الجهاد الرباني، الجهاد الذي اشترى الله فيه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111].. وإنها لمهمة جليلة شريفة كما أنها مهمة طويلة عنيفة، فإن أكثر أهل الأرض مظلومين، وأكثر المظلومين من نشأوا في الظلم حتى أنهم لا يشعرون به، وإن أولى المظلومين المسلمون، فالأمر كما قال الشاعر:
أني نظرت إلى الإسلام في أرض .. وجدته كالطير مقصوصا جناحاه
ولذلك فإن مهمتنا قائمة ما دام في الأرض ظلم، ولذلك أخبرنا نبينا بأن "الجهاد ماض إلى يوم القيامة"!
إن الاستلهام الصحيح لعاشوراء أن نكون نحن عاشوراء.. عاشوراء لكل مظلوم، وعاشوراء على كل ظالم.
نشر في مصري 24
Published on October 24, 2015 11:48
October 22, 2015
ماذا لو تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قد ذكرنا كيف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو موضع تميز هذه الأمة وصلب خيريتها ونظام الحماية المنبث فيها، ورسمنا خريطة الشرع في القيام بهذا الأمر والنهي، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه.. والآن نختم الحديث في هذا الموضوع بهذا السؤال: ماذا لو تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
يجيب حجة الإسلام الغزالي عن هذا السؤال فيقول: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِيَ بساطه وأُهْمِل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد"(فالنتيجة إذن ليست مجرد الخراب والفساد فحسب؛ بل هو انعدام شعور الناس بالخراب والفساد، ثم الاستيقاظ بعد وقوع الكارثة وفوات زمان استدراكها.
وقد نعجب حين نجد هذا الفهم قد قال به قبل ذلك نملة، نملة وقفت ناصحةً قومها، فكان خطابها درسًا في الفصاحة والإنصاف: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، ويوحي قول الله تعالى "نملة" بالتنكير على أنها كانت من العامَّة لا من القادة، ويظهر في كلامها الحرص على نجاة المجموع لا النجاة بالنفس، كما يظهر العدل في الوصف في قولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ فليس ذلك عن تعدٍّ منهم أو ظلم.
ومثل النملة هدهد رأى الباطل وعلم أن القوم لا يدرون أنهم هلكى، فقصَّ ما رأى على هذا النحو: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 23، 24].
ومن هنا نعلم أن بقاء المجتمعات مرتبط بمن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن وجود الصالحين في أنفسهم ليس عاصمًا من الهلكة؛ بل لا بد من وجود المُصلحين: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117].
ولذلك كانت مهمة الأنبياء نصح أقوامهم وإلا حلَّ بهم العذاب والفناء، حتى كانت عاقبة المكذبين كما وصفها رب العالمين: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
وحين شاءت إرادة الله ألا يهلك المكذبين بكارثة كونية من بعد إهلاك فرعون؛ فإنه بعث أمة تقوم بالحق وتجاهد في سبيله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ ذلك هم بنو إسرائيل(وحين انتهى زمان الرسل كلَّف الله هذه الأمة بالقيام بهذا الواجب، وبسط أمامهم قصص الأنبياء من قبل، وكذلك قصة بني إسرائيل الأمة الفاشلة، التي لم تحمل رسالة الله، ولم تقم بواجبها، صارت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس لقيامها بهذا الواجب: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وفي هذا يقول القرطبي: "قوله تعالى: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببًا لهلاكهم"(ولقد جاءت أحاديث النبي r تحذر من عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أشهرها حديث السفينة، وفيه قال رسول الله r: "مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَل قوم اسْتَهَموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نُؤْذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيدهم نَجَوْا، ونجوا جميعا"(وقد حرص أبو بكر الصديق على تصحيح المفاهيم، فقال t: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله r يقول: "إن الناس إذا رَأَوْا ظالمًا، فلم يأخذوا على يديْه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (لكل هذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يُتَحمَّل فيه الأذى، وقد يتعرض فيه الإنسان إلى المخاطر؛ فهو فداء بالنفس إنقاذًا للأمة كلها من الهلاك، ووردت روايات تفيد أن قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، نزل فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قيُقْتَل(وقد أخبر النبي r أن سيد الشهداء: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"(وقد "جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان محفوفًا بالمكاره والمخاوف، وكم قُتِل في سبيل ذلك منهم من نبي وصديق!"(إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوي ما يمكن أن نسميه: "مناعة المجتمع"؛ ولهذا فإن القيام بالأمر والنهي حَسَّاس لحال المجتمع أكثر من حساسيته لحال الفرد، لا سيما إن كان المرء يتخفى بالمعصية، وفي مثل هذا قيل لابن مسعود t -وقد أُتِي له برجل-: "هذا فلان تقطر لحيته خمرًا. فقال عبد الله: إنا قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"(قال أبو يعلى: ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذرًا من الاستسرار بها(وبهذا يُحفظ المجتمع، وإلا انتشر الفساد؛ وذلك أن أغلب أحوال الفساد تكون بالاجتماع والمجاهرة لا بالاختفاء؛ وكما يقول ابن تيمية فإن كثيرا "من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم... إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق.. ونحو ذلك، وإما لتلذذهم بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلاً؛ فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم، لكراهيتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدًا له على ذلك، أو لئلاَّ يعلو عليهم بذلك ويحمده الناس دونهم، أو لئلاَّ يكون له عليهم حجة، أو لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، أو لئلاَّ يكونوا تحت مِنَّتِه وخطره، ونحو ذلك من الأسباب"(وإن العزل المجتمعي لأهل المنكرات كفيل بردهم عنه، ولقد عانى الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله من أثر مقاطعة المسلمين لهم؛ حتى صاروا كما وصفهم الله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]، فصاروا يلتمسون توبة الله عليهم، وكان أسعد ما جاءهم من الأخبار هو خبر هذه التوبة(بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا فرق بين مجتمع البشر وقطيع الحيوان، يقول الشيخ محمد عبده: "إن ما نحن فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى في زمن طويل بعدما عظم التساهل في ترك التناصح، وبطل ردُّ ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله -أي إلى كتاب الله وسنة رسوله- وخَوَتْ القلوب من احترام الدين؛ حتى لم يعد له سلطان على الإرادة، بل صار كل شخص أسير هواه. ومتى أمسى الناس هكذا -لا دين ولا مروءة ولا أدب- فأي فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر؟"(نشر في ساسة بوست
([1])الغزالي: إحياء علوم الدين 2/306. ([2])قال أبو سعيد الخدري: إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. الطبري: جامع البيان 19/584، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/239. ([3])القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/173. ([4])البخاري (2361). ([5])البخاري (3168)، ومسلم (2880). ([6])أحمد (1)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، والترمذي (3057)، وابن ماجه (4005)، وصححه الألباني. ([7])الطبري: جامع البيان 4/250، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 3/21. ([8])الحاكم (4884) وقال: صحيح الإسناد. وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 374). ([9])البخاري (6774). ([10])محمد رشيد رضا: تفسير المنار 4/27. ([11])ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/207. ([12])أبو داود (4890)، وصحح إسناده الألباني. ([13])أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية ص295. ([14])الخلال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص39. ([15])ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص45. ([16])البخاري (4156)، ومسلم (2769). ([17])محمد رشيد رضا: تفسير المنار 4/25.
يجيب حجة الإسلام الغزالي عن هذا السؤال فيقول: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِيَ بساطه وأُهْمِل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد"(فالنتيجة إذن ليست مجرد الخراب والفساد فحسب؛ بل هو انعدام شعور الناس بالخراب والفساد، ثم الاستيقاظ بعد وقوع الكارثة وفوات زمان استدراكها.
وقد نعجب حين نجد هذا الفهم قد قال به قبل ذلك نملة، نملة وقفت ناصحةً قومها، فكان خطابها درسًا في الفصاحة والإنصاف: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، ويوحي قول الله تعالى "نملة" بالتنكير على أنها كانت من العامَّة لا من القادة، ويظهر في كلامها الحرص على نجاة المجموع لا النجاة بالنفس، كما يظهر العدل في الوصف في قولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ فليس ذلك عن تعدٍّ منهم أو ظلم.
ومثل النملة هدهد رأى الباطل وعلم أن القوم لا يدرون أنهم هلكى، فقصَّ ما رأى على هذا النحو: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 23، 24].
ومن هنا نعلم أن بقاء المجتمعات مرتبط بمن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن وجود الصالحين في أنفسهم ليس عاصمًا من الهلكة؛ بل لا بد من وجود المُصلحين: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117].
ولذلك كانت مهمة الأنبياء نصح أقوامهم وإلا حلَّ بهم العذاب والفناء، حتى كانت عاقبة المكذبين كما وصفها رب العالمين: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
وحين شاءت إرادة الله ألا يهلك المكذبين بكارثة كونية من بعد إهلاك فرعون؛ فإنه بعث أمة تقوم بالحق وتجاهد في سبيله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ ذلك هم بنو إسرائيل(وحين انتهى زمان الرسل كلَّف الله هذه الأمة بالقيام بهذا الواجب، وبسط أمامهم قصص الأنبياء من قبل، وكذلك قصة بني إسرائيل الأمة الفاشلة، التي لم تحمل رسالة الله، ولم تقم بواجبها، صارت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس لقيامها بهذا الواجب: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وفي هذا يقول القرطبي: "قوله تعالى: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببًا لهلاكهم"(ولقد جاءت أحاديث النبي r تحذر من عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أشهرها حديث السفينة، وفيه قال رسول الله r: "مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَل قوم اسْتَهَموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نُؤْذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيدهم نَجَوْا، ونجوا جميعا"(وقد حرص أبو بكر الصديق على تصحيح المفاهيم، فقال t: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله r يقول: "إن الناس إذا رَأَوْا ظالمًا، فلم يأخذوا على يديْه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (لكل هذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يُتَحمَّل فيه الأذى، وقد يتعرض فيه الإنسان إلى المخاطر؛ فهو فداء بالنفس إنقاذًا للأمة كلها من الهلاك، ووردت روايات تفيد أن قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، نزل فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قيُقْتَل(وقد أخبر النبي r أن سيد الشهداء: "رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"(وقد "جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان محفوفًا بالمكاره والمخاوف، وكم قُتِل في سبيل ذلك منهم من نبي وصديق!"(إن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوي ما يمكن أن نسميه: "مناعة المجتمع"؛ ولهذا فإن القيام بالأمر والنهي حَسَّاس لحال المجتمع أكثر من حساسيته لحال الفرد، لا سيما إن كان المرء يتخفى بالمعصية، وفي مثل هذا قيل لابن مسعود t -وقد أُتِي له برجل-: "هذا فلان تقطر لحيته خمرًا. فقال عبد الله: إنا قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"(قال أبو يعلى: ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذرًا من الاستسرار بها(وبهذا يُحفظ المجتمع، وإلا انتشر الفساد؛ وذلك أن أغلب أحوال الفساد تكون بالاجتماع والمجاهرة لا بالاختفاء؛ وكما يقول ابن تيمية فإن كثيرا "من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم... إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق.. ونحو ذلك، وإما لتلذذهم بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلاً؛ فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم، لكراهيتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدًا له على ذلك، أو لئلاَّ يعلو عليهم بذلك ويحمده الناس دونهم، أو لئلاَّ يكون له عليهم حجة، أو لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، أو لئلاَّ يكونوا تحت مِنَّتِه وخطره، ونحو ذلك من الأسباب"(وإن العزل المجتمعي لأهل المنكرات كفيل بردهم عنه، ولقد عانى الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله من أثر مقاطعة المسلمين لهم؛ حتى صاروا كما وصفهم الله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]، فصاروا يلتمسون توبة الله عليهم، وكان أسعد ما جاءهم من الأخبار هو خبر هذه التوبة(بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا فرق بين مجتمع البشر وقطيع الحيوان، يقول الشيخ محمد عبده: "إن ما نحن فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى في زمن طويل بعدما عظم التساهل في ترك التناصح، وبطل ردُّ ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله -أي إلى كتاب الله وسنة رسوله- وخَوَتْ القلوب من احترام الدين؛ حتى لم يعد له سلطان على الإرادة، بل صار كل شخص أسير هواه. ومتى أمسى الناس هكذا -لا دين ولا مروءة ولا أدب- فأي فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر؟"(نشر في ساسة بوست
([1])الغزالي: إحياء علوم الدين 2/306. ([2])قال أبو سعيد الخدري: إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. الطبري: جامع البيان 19/584، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/239. ([3])القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/173. ([4])البخاري (2361). ([5])البخاري (3168)، ومسلم (2880). ([6])أحمد (1)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، والترمذي (3057)، وابن ماجه (4005)، وصححه الألباني. ([7])الطبري: جامع البيان 4/250، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 3/21. ([8])الحاكم (4884) وقال: صحيح الإسناد. وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 374). ([9])البخاري (6774). ([10])محمد رشيد رضا: تفسير المنار 4/27. ([11])ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/207. ([12])أبو داود (4890)، وصحح إسناده الألباني. ([13])أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية ص295. ([14])الخلال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص39. ([15])ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص45. ([16])البخاري (4156)، ومسلم (2769). ([17])محمد رشيد رضا: تفسير المنار 4/25.
Published on October 22, 2015 10:52
October 20, 2015
قراءة في كتاب الفلسفة السياسية لأحمد داود أوغلو (2)
§ اسم الكتاب: الفلسفة السياسية § المؤلف: د. أحمد داود أوغلو§ المترجم: د. إبراهيم البيومي غانم§ تقديم: د. محمد عمارة§ دار النشر: مكتبة الشروق الدولية، القاهرة§ سنة النشر: الطبعة الثانية، 2006م.§ عدد الصفحات: 77.§ نشر الأصل الإنجليزي لهذا الكتاب في عام 1993م، بعنوان (Alternative Paradigms: The Impact of Islamic and Western Weltanschauungs on Political Theory) ومعناه "النموذج البديل: أثر التصورات الوجودية الإسلامية والغربية على النظرية السياسية".
ذكرنا في المقال السابق طبيعة الكتاب ونظريته العامة، وقلنا بأن الكتاب ينقسم إلى بابيْن؛ الأول: يتحدث عن التناقض الأصيل بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية، والثاني: يتحدث عن أثر هذا التناقض على مجال النظام السياسي تحديدا وإن كان يلامس –بطبيعة الحال- مسائل الاقتصاد والاجتماع والثقافة. وقد عرضنا في المقال السابق للباب الأول فيُرجى الرجوع إليه أولا، ثم ندلف الآن لنعرض الباب الثاني.
وأعيد التنبيه إلى أني أستهدف التبسيط في هذا العرض للكتاب ذي اللغة الفلسفية الصعبة، ولهذا لا ألتزم بلفظ المؤلف سعيا لتقريب معناه.
يرصد المؤلف خمسة آثار من تناقض الرؤية الإسلامية مع الرؤية الغربية في المجال السياسي هي:
1. مبرر وجود النظام السياسي
حيث أن الفلسفة الغربية لا تملك رؤية إلهية للوجود وإنما تعتمد على الاستقراء ومحاولة تأمل وفهم الواقع، فإن نظرتها إلى الدولة انقسمت إلى اتجاهيْن: اتجاه يحاول فهم "أصل الدولة" وينطلق منه، واتجاه يحاول تحديد "هدف الدولة" ليصل إليه.
فالاتجاه الذي يحاول فهم "أصل الدولة" يضعها ضمن تصوره الكلي الوجودي عن الطبيعة وقوانينها ونظامها، فكل تصور قائم على أن الطبيعة تستطيع تنظيم نفسها وتكييف نفسها وضع تصوره حول "أفضل وضع للدولة يمكن تطبيقه"، وهنا لا يبقى مكان للقيم والوضع المثالي، إذ غاية الممكن هو فهم قوانين الطبيعة وإنشاء نظام سياسي منسجم معها، حتى لو كان مخالفا أو مناقضا للقيم والأخلاق. وضرب المؤلف مثالا على هذا بأرسطو (إذ تقوم فلسفته على أن الإله صنع الكون ووضع فيه قوانينه ثم تركه كصانع الساعة) ويتفق معه هيوم وكانط (فالإله عندهما فكرة مجردة) ولذلك تتحد نتائج هذه الفلسفات مع نتائج الفلسفات الإلحادية كما عند هولباخ وديدرو. وكل فكرة تقوم على وجود قوانين طبيعية منفصلة عن الإله تسوق إلى منهج سياسي لفهم هذه القوانين وتطبيقها كما هي لا لتوجيهها نحو قيم وأخلاق ومُثُل.
وأما الاتجاه الذي يحاول فهم "هدف الدولة" فقد بدأ بالبحث عن القيم التي ينبغي للدولة أن تحققها في الفلسفة الرواقية والأبيقورية الجديدة والمسيحية، لكن حيث كانت هذه الفلسفات وضعية وأرضية واصطبغت بنماذج امبراطورية كالامبراطورية الرومانية وممالك العصور الوسطى ثم الحقبة الحديثة، فإن "الإنسان" هو الذي كان متحكما بوضع وصياغة هذه القِيَم والمثل، ولذلك نشأت علمنة المعرفة وأنسنة المعرفة، وصار مفهوم "السعادة الدنيوية" هو الهدف المحرك للنظام السياسي. ولذلك ظهرت فلسفات الفردية والليبرالية والبرجماتية والنفعية واللذة وغيرها.
بينما النظام السياسي الإسلامي منطلق من رؤية تعتنق أن الله تعالى إله خالق عليم مهيمن مدبر لأمر هذا الكون، ويقوم كل النظام السياسي على هدف إرضاء الله وتطبيق ما أمر به، فالنظرية السياسية الإسلامية تعتمد على القيام بالأمانة التي عهد الله بها للإنسان، والخضوع للنظام السياسي مرتبط بكون هذا النظام السياسي قائما على تنفيذ أوامر الله، والتي سيكون الحساب عليها في الآخرة، فالآخرة فارق ضخم بين الرؤيتين الغربية والإسلامية، إذ لا تحفل الرؤية الغربية بالآخرة ولا تضع لها أي اهتمام، بينما الآخرة أمر حاضر دائما في النظرية والتطبيق السياسي الإسلامي، ولذا لا يمكن الفصل بين الدين والدنيا ولا بين الأخلاق والسياسة ولا بين الحياة المادية والحياة الروحية. ولهذا فإن من مهمات النظام السياسي الإسلامي تهيئة الأجواء للارتقاء بالأخلاق وتقوية الإيمان والروحانيات.
والمجتمع في النظام الإسلامي هم المسلمون الذين كلفهم الله بالمسؤولية عن هذا الدين دون أي تفرقة بينهم، ولذلك لا يكون فيهم سلطة لرجال الدين على نحو الكهنوتية المسيحية، بل ويقاومون هذه السلطة كما يقاومون تسلط طبقة الطبقة الرأسمالية أو الاشتراكية أو التسلط والاستبداد باسم "سيادة الدولة" أو "سيادة القومية".
وهدف الدولة في النظام الإسلامي هو "تحقيق العدل"، والعدل مفهوم مركزي في الرؤية الإسلامية حتى ليقول ابن تيمية بأن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويتفق في هذا سائر الاتجاهات الإسلامية وفلاسفتها كالفارابي والماوردي والغزالي وابن باجه وابن طفيل. كما ويفترق النظام الإسلامي عن الغربي في ميله إلى الجماعية في مقابل الفردية الغربية، والتأسيس لكون المسلم جزءا لا ينفصل ولا ينبغي له أن ينفصل عن المجتمع، ولا أن تتحقق أهدافه بمعزل عنه.
ومن أظهر الفوارق بين الرؤيتيْن أن النظام الإسلامي يطمح إلى نموذج مثالي قد تحقق بالفعل في دولة النبي والخلفاء الراشدين، بينما النظام الغربي يطمح إلى نموذج مثالي لم يتحقق أبدا، فقد ظلت نظريات المدن الفاضلة أحلاما كما انهارت كل نظريات نهاية التاريخ، وهذا فضلا عن أنه ليس ثمة نموذج مثالي يحظى باتفاق الفلسفات كما هو الحال في النظام الإسلامي المتفق على أن خير نموذج هو دولة النبي والخلافة الراشدة.
2. شرعية السلطة السياسية
إن التشابه بين نظام الشورى في الإسلام والبرلمان في الرؤية الغربية تشابه خادع، إذ ليس للأمرين نفس المهمة، وذلك من أسباب الفشل في تغريب المجتمعات الإسلامية، فالمسلمون لا يرفضون الديمقراطية من جهة كونها سبيلا لمشاركة الشعب في الحكم وإنما يرفضونها من جهة علمانيتها التي ترفض أو لا تبالي بالعقائد الدينية. ولذلك فإن شرعية السلطة السياسية في النظام الإسلامي تُسْتَمَدّ من كونها إسلامية أولا وقبل كل شيء. بينما الشرعية للسلطة السياسية في النظام الغربي تستند إلى مجرد الاختيار الشعبي الممثل في مؤسسة البرلمان.
إن شرعية النظام السياسي عند أرسطو معتمد على منهجه في تصور الدولة في أفضل وضع ممكن ثم قياس مدى قرب وبعد النظام السياسي عن هذه الصورة، بينما كانت الفلسفة المسيحية تعطي الشرعية للنظام السياسي طالما احتفظ الكهنوت بسلطته الدينية وذلك لأن المسيحية تفصل بين الحياة الدينية والحياة الدنيوية، وبهذا التقسيم مهدت المسيحية الطريق للعلمانية، وانقلبت السلطة السياسية على السلطة الروحية للكنيسة وبدأ عصر العلمانية الذي أعطى الشرعية لأي نظام سياسي من خلال الفلسفات الأرضية التي وضعت بنفسها نظرياتها في المثل والقيم والأخلاق، وهي فلسفات اعتمدت على الإنسان أو العقل وأنتجت مفاهيم "النفعية، البرجماتية، الحفاظ على النفس، الحقوق الطبيعية للفرد، العقلانية".. وتولد عن هذه الفلسفات مفاهيم المشاركة السياسية ومهمة البرلمان والدستور وغيرها من مفردات الحياة السياسية في الغرب.
على العكس من هذا فإن النظام الإسلامي منطلق من إيمان بوجود وحضور فاعل للإله في الحياة، وعلى وحي يحدد القيم والأخلاق والمنطلقات، وعلى شريعة جاءت مفصلة في أمور كثيرة، وكل هذا يمثل ثوابت راسخة للنظام الإسلامي، ثم إن كل هذا يعتنقه جمهور الناس الواسع، يعتنقه كل مسلم، وكل مسلم متحمل للمسؤولية (الأمانة)، والمجتمع الإسلامي مجتمع مفتوح أمام كل من يعتنق الإسلام، فهو مجتمع قائم على الانتماء للفكرة لا محدود بالانتماء العرقي أو القومي، ويخضع المسلمون لهذا النظام بقدر ما فيه من الطاعة لله ورسوله والقيام بأوامره، ويتعاونون معه فقط في المعروف، ويرون أنه لا يُطاع ولا يُخضع له إذا انحرف عن إسلاميته.
إن مبدأ الشورى شرط إجرائي أساسي لشرعية السلطة السياسية في النظام الإسلامي، ولهذا فهو ليس مجرد ضمان لمشاركة الناس في السياسة، بل هو أداة لمنع الطغيان في الحياة السياسية الاجتماعية لارتباطه بالدين، ولهذا فهو خلاف فكرة البرلمان في النظام الغربي. ومن هنا تفشل كل محاولات النخب المتغربة في فرض نظام سياسي على النمط الغربي في المجتمعات الإسلامية.
ونواصل بإذن الله تعالى بقية استعراض آثار التناقض بين الرؤيتين الغربية والإسلامية على النظام السياسي لكل منهما في المقال القادم.
ذكرنا في المقال السابق طبيعة الكتاب ونظريته العامة، وقلنا بأن الكتاب ينقسم إلى بابيْن؛ الأول: يتحدث عن التناقض الأصيل بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية، والثاني: يتحدث عن أثر هذا التناقض على مجال النظام السياسي تحديدا وإن كان يلامس –بطبيعة الحال- مسائل الاقتصاد والاجتماع والثقافة. وقد عرضنا في المقال السابق للباب الأول فيُرجى الرجوع إليه أولا، ثم ندلف الآن لنعرض الباب الثاني.
وأعيد التنبيه إلى أني أستهدف التبسيط في هذا العرض للكتاب ذي اللغة الفلسفية الصعبة، ولهذا لا ألتزم بلفظ المؤلف سعيا لتقريب معناه.
يرصد المؤلف خمسة آثار من تناقض الرؤية الإسلامية مع الرؤية الغربية في المجال السياسي هي:
1. مبرر وجود النظام السياسي
حيث أن الفلسفة الغربية لا تملك رؤية إلهية للوجود وإنما تعتمد على الاستقراء ومحاولة تأمل وفهم الواقع، فإن نظرتها إلى الدولة انقسمت إلى اتجاهيْن: اتجاه يحاول فهم "أصل الدولة" وينطلق منه، واتجاه يحاول تحديد "هدف الدولة" ليصل إليه.
فالاتجاه الذي يحاول فهم "أصل الدولة" يضعها ضمن تصوره الكلي الوجودي عن الطبيعة وقوانينها ونظامها، فكل تصور قائم على أن الطبيعة تستطيع تنظيم نفسها وتكييف نفسها وضع تصوره حول "أفضل وضع للدولة يمكن تطبيقه"، وهنا لا يبقى مكان للقيم والوضع المثالي، إذ غاية الممكن هو فهم قوانين الطبيعة وإنشاء نظام سياسي منسجم معها، حتى لو كان مخالفا أو مناقضا للقيم والأخلاق. وضرب المؤلف مثالا على هذا بأرسطو (إذ تقوم فلسفته على أن الإله صنع الكون ووضع فيه قوانينه ثم تركه كصانع الساعة) ويتفق معه هيوم وكانط (فالإله عندهما فكرة مجردة) ولذلك تتحد نتائج هذه الفلسفات مع نتائج الفلسفات الإلحادية كما عند هولباخ وديدرو. وكل فكرة تقوم على وجود قوانين طبيعية منفصلة عن الإله تسوق إلى منهج سياسي لفهم هذه القوانين وتطبيقها كما هي لا لتوجيهها نحو قيم وأخلاق ومُثُل.
وأما الاتجاه الذي يحاول فهم "هدف الدولة" فقد بدأ بالبحث عن القيم التي ينبغي للدولة أن تحققها في الفلسفة الرواقية والأبيقورية الجديدة والمسيحية، لكن حيث كانت هذه الفلسفات وضعية وأرضية واصطبغت بنماذج امبراطورية كالامبراطورية الرومانية وممالك العصور الوسطى ثم الحقبة الحديثة، فإن "الإنسان" هو الذي كان متحكما بوضع وصياغة هذه القِيَم والمثل، ولذلك نشأت علمنة المعرفة وأنسنة المعرفة، وصار مفهوم "السعادة الدنيوية" هو الهدف المحرك للنظام السياسي. ولذلك ظهرت فلسفات الفردية والليبرالية والبرجماتية والنفعية واللذة وغيرها.
بينما النظام السياسي الإسلامي منطلق من رؤية تعتنق أن الله تعالى إله خالق عليم مهيمن مدبر لأمر هذا الكون، ويقوم كل النظام السياسي على هدف إرضاء الله وتطبيق ما أمر به، فالنظرية السياسية الإسلامية تعتمد على القيام بالأمانة التي عهد الله بها للإنسان، والخضوع للنظام السياسي مرتبط بكون هذا النظام السياسي قائما على تنفيذ أوامر الله، والتي سيكون الحساب عليها في الآخرة، فالآخرة فارق ضخم بين الرؤيتين الغربية والإسلامية، إذ لا تحفل الرؤية الغربية بالآخرة ولا تضع لها أي اهتمام، بينما الآخرة أمر حاضر دائما في النظرية والتطبيق السياسي الإسلامي، ولذا لا يمكن الفصل بين الدين والدنيا ولا بين الأخلاق والسياسة ولا بين الحياة المادية والحياة الروحية. ولهذا فإن من مهمات النظام السياسي الإسلامي تهيئة الأجواء للارتقاء بالأخلاق وتقوية الإيمان والروحانيات.
والمجتمع في النظام الإسلامي هم المسلمون الذين كلفهم الله بالمسؤولية عن هذا الدين دون أي تفرقة بينهم، ولذلك لا يكون فيهم سلطة لرجال الدين على نحو الكهنوتية المسيحية، بل ويقاومون هذه السلطة كما يقاومون تسلط طبقة الطبقة الرأسمالية أو الاشتراكية أو التسلط والاستبداد باسم "سيادة الدولة" أو "سيادة القومية".
وهدف الدولة في النظام الإسلامي هو "تحقيق العدل"، والعدل مفهوم مركزي في الرؤية الإسلامية حتى ليقول ابن تيمية بأن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويتفق في هذا سائر الاتجاهات الإسلامية وفلاسفتها كالفارابي والماوردي والغزالي وابن باجه وابن طفيل. كما ويفترق النظام الإسلامي عن الغربي في ميله إلى الجماعية في مقابل الفردية الغربية، والتأسيس لكون المسلم جزءا لا ينفصل ولا ينبغي له أن ينفصل عن المجتمع، ولا أن تتحقق أهدافه بمعزل عنه.
ومن أظهر الفوارق بين الرؤيتيْن أن النظام الإسلامي يطمح إلى نموذج مثالي قد تحقق بالفعل في دولة النبي والخلفاء الراشدين، بينما النظام الغربي يطمح إلى نموذج مثالي لم يتحقق أبدا، فقد ظلت نظريات المدن الفاضلة أحلاما كما انهارت كل نظريات نهاية التاريخ، وهذا فضلا عن أنه ليس ثمة نموذج مثالي يحظى باتفاق الفلسفات كما هو الحال في النظام الإسلامي المتفق على أن خير نموذج هو دولة النبي والخلافة الراشدة.
2. شرعية السلطة السياسية
إن التشابه بين نظام الشورى في الإسلام والبرلمان في الرؤية الغربية تشابه خادع، إذ ليس للأمرين نفس المهمة، وذلك من أسباب الفشل في تغريب المجتمعات الإسلامية، فالمسلمون لا يرفضون الديمقراطية من جهة كونها سبيلا لمشاركة الشعب في الحكم وإنما يرفضونها من جهة علمانيتها التي ترفض أو لا تبالي بالعقائد الدينية. ولذلك فإن شرعية السلطة السياسية في النظام الإسلامي تُسْتَمَدّ من كونها إسلامية أولا وقبل كل شيء. بينما الشرعية للسلطة السياسية في النظام الغربي تستند إلى مجرد الاختيار الشعبي الممثل في مؤسسة البرلمان.
إن شرعية النظام السياسي عند أرسطو معتمد على منهجه في تصور الدولة في أفضل وضع ممكن ثم قياس مدى قرب وبعد النظام السياسي عن هذه الصورة، بينما كانت الفلسفة المسيحية تعطي الشرعية للنظام السياسي طالما احتفظ الكهنوت بسلطته الدينية وذلك لأن المسيحية تفصل بين الحياة الدينية والحياة الدنيوية، وبهذا التقسيم مهدت المسيحية الطريق للعلمانية، وانقلبت السلطة السياسية على السلطة الروحية للكنيسة وبدأ عصر العلمانية الذي أعطى الشرعية لأي نظام سياسي من خلال الفلسفات الأرضية التي وضعت بنفسها نظرياتها في المثل والقيم والأخلاق، وهي فلسفات اعتمدت على الإنسان أو العقل وأنتجت مفاهيم "النفعية، البرجماتية، الحفاظ على النفس، الحقوق الطبيعية للفرد، العقلانية".. وتولد عن هذه الفلسفات مفاهيم المشاركة السياسية ومهمة البرلمان والدستور وغيرها من مفردات الحياة السياسية في الغرب.
على العكس من هذا فإن النظام الإسلامي منطلق من إيمان بوجود وحضور فاعل للإله في الحياة، وعلى وحي يحدد القيم والأخلاق والمنطلقات، وعلى شريعة جاءت مفصلة في أمور كثيرة، وكل هذا يمثل ثوابت راسخة للنظام الإسلامي، ثم إن كل هذا يعتنقه جمهور الناس الواسع، يعتنقه كل مسلم، وكل مسلم متحمل للمسؤولية (الأمانة)، والمجتمع الإسلامي مجتمع مفتوح أمام كل من يعتنق الإسلام، فهو مجتمع قائم على الانتماء للفكرة لا محدود بالانتماء العرقي أو القومي، ويخضع المسلمون لهذا النظام بقدر ما فيه من الطاعة لله ورسوله والقيام بأوامره، ويتعاونون معه فقط في المعروف، ويرون أنه لا يُطاع ولا يُخضع له إذا انحرف عن إسلاميته.
إن مبدأ الشورى شرط إجرائي أساسي لشرعية السلطة السياسية في النظام الإسلامي، ولهذا فهو ليس مجرد ضمان لمشاركة الناس في السياسة، بل هو أداة لمنع الطغيان في الحياة السياسية الاجتماعية لارتباطه بالدين، ولهذا فهو خلاف فكرة البرلمان في النظام الغربي. ومن هنا تفشل كل محاولات النخب المتغربة في فرض نظام سياسي على النمط الغربي في المجتمعات الإسلامية.
ونواصل بإذن الله تعالى بقية استعراض آثار التناقض بين الرؤيتين الغربية والإسلامية على النظام السياسي لكل منهما في المقال القادم.
Published on October 20, 2015 13:50
October 18, 2015
المصائب المستترة في وثيقة العشرة
وصلت لي نسخة من "وثيقة العشرة" التي أعدتها بعض الأطراف تصورا منها أنها حلٌّ للأزمة القائمة في مصر، وسنتجنب هنا كل ملاحظاتنا عمن أعدوها وشخصياتهم ومؤهلاتهم لهذا وأهدافهم من ورائها، فننظر فيها وكأنها صادرة عن منتهى حسن النية وغاية الإخلاص.
1. فلسفة الوثيقة والروح المهيمنة عليها بعيدة تماما عن أي نهج ثوري، فثمة تجنب تام لوصف النظام الحالي بأنه انقلاب أو أنه نظام عسكري، هي إذن أقرب للمعارضة منها للثورة، لا سيما وهي تتعامل مع مؤسسات الفساد والاستبداد باعتبارها "مؤسسات الدولة، ملك الشعب... إلخ".
ولغة الوثيقة غارقة في العموميات والألفاظ الفضفاضة وشعارات أقرب للعاطفية والشاعرية منها إلى الواقع، ولذلك فهي تتناقض أحيانا كقولهم في البند السادس "نبذل كل جهد لتحقيق مصالحة عامة بين كل أطياف الشعب المصري وفئاته ومؤسساته دون استثناء مع التزامنا بإنه لا تصالح مع نظام القمع والفساد"، فلو سلَّمنا بأن التصالح لا يشمل نظام القمع والفساد فكيف يصحُّ القول "مع كل فئاته ومؤسساته دون استثناء"؟!.. وهل أوردنا المهالك إلا هذه الفئات التي ترى نفسها فوق البشر وهذه المؤسسات التي شرعنت بحور الدماء: إعلاميا وقانونيا وإعلاميا؟! هذا فضلا عن مؤسسات القتل نفسها!
2. لا يزعم أحد من أصحاب الوثيقة أو واضعيها بأنه يملك ضمانة من أحد أن يتغير المشهد السياسي حال تم التوافق عليها، لا أطرافا داخلية أو إقليمية أو خارجية، وإنما غاية ما يُقال –مع استبعاد كل مداخل سوء الظن- أن واضعيها يتوهمون أن توافقا جديدا يمكن أن يعيد لحظة يناير من جديد، فإذا تجاوزنا الآن عن كون هذا التصور وَهْمٌ وخيالٌ بعيد، فإن المشكلة الواقعية أنه ينقل المعركة من كونها بين الثورة والعسكر إلى داخل معسكر الثورة نفسه بين مؤيد للوثيقة ومعترض عليها ومتحفظ على بعض ما فيها.. فيبدأ الأمر من اختلاف الرأي حول ما جاء في الوثيقة وينتهي بالتراشق المتبادل ثم بإلقاء كل طرف مسؤولية فشله على طرف آخر.
بينما أصل الفشل على الحقيقة هو في مبدأ ومنطلق هذه الوثيقة، فلئن كان البعض ينتظر وثيقة كهذه لكي ينضم إلى الثورة فإن الثورة غنية عنه لأنه انتهازي بلا مبدأ لم يحركه بحر الدم وظل ينتظر وثيقة تضمن له مكاسب مستقبلية. ولئن كان ثمة ضمانات خارجية أو داخلية بتغيير المشهد فإنهم إنما سيفعلون هذا لمصالح تتحقق لهم ولا يكون التوافق على هذه الوثيقة –في أحسن أحواله- إلا مشهدا يشرعن الجريمة الجديدة (تماما كمشهد انقلاب 3 يوليو في جمع المجرمين والأغبياء لتجميل انقلاب عسكري).
أي أن غاية ما تبلغه الوثيقة حال نجاحها أن توفر مشهدا يشرعن جريمة جديدة في حق الشعب، وأقل ما تبلغه حال فشلها أن تثير الارتباك في صفوف معسكر معارضي الانقلاب فوق ما فيه أصلا من مشكلات.
3. تقوم الوثيقة على أساس أن الثورة المصرية لم يكن لها هدف سوى "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، وليس هذا بصحيح، بل إن إلصاق هذا الهدف بالثورة المصرية هو من آثار وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون (الليبراليون واليساريون معا)، في حين أن الثورة امتلأت بالهتافات والشعارات، لكن جرى التركيز على هذا الشعار بُغية علمنة الثورة وتجريدا لها من هويتها الإسلامية! صحيح أن الثورة لم يشارك فيها الإسلاميون وحدهم لكن الصحيح أيضا أن الإسلاميون كانوا عمادها وصلبها، والصحيح الأهم من ذلك كله أن إرادة الشعب الثائر اختارت الإسلاميين في كل محطاتها: الاستفتاء، مجلس الشعب، مجلس الشورى، الرئاسة، الدستور.. وكفى بهذه الاستحقاقات دليلا على أن الشعب أراد أن تسير ثورته إلى الإسلام.
ومن هنا، فمن أراد الدفاع عن الثورة حقا فإنما يجب عليه أن يدافع عن اختيارات الشعب وإرادته وإن خالفت توجهه وهواه، وإلا فهو يمثل وجها آخر للعسكر الذين يصادرون إرادة الشعب لحساب مصالحهم ورؤاهم، إلا أن أولئك يملكون السلاح والمذابح، وأولئك لا يملكون مثلها.
4. وُضِعت كلمة، لا أرى لها وصفا إلا أنها "خبيثة" (وهذا غاية ما استطعت من تهذب في اختيار اللفظ) في البند الثامن، الذي جاء فيه: "لا يملك أحد الحق في إهدار ما نتج عن الإرادة الشعبية في انتخابات نزيهة، مع التسليم بحقيقة إن الشعب هو صاحبُ إرادةٍ متجددةٍ".. فالقول بأن للشعب إرادة متجددة هو محاولة نسف وتضييع ما نتج عن الإرادة الشعبية سابقا، كأنه يقول: نعم كانت لكم شرعية لكن لا أحد يدري ماذا يريد هذا الشعب الآن، فكما تعرفون الشعب متقلب المزاج وإرادته متجددة ولعله يريد الآن شيئا جديدا!
وصف "الإرادة المتجددة" هذا وصف في غاية الخبث، على أنه –وكما ألزمت نفسي بالتعامل بغاية حسن النية مع النصوص- لو صحَّ هذا، فليكن النضال في إعادة الشرعية السابقة أولا، إعادتها كاملة غير منقوصة، ثم بعد ذلك يقرر الشعب ما إذا كان مزاجه قد انقلب أو لم ينقلب بعد من خلال انتخابات أخرى نزيهة!.. هذا جواب المنطق السليم.
أما جواب الواقع فهو أن المسألة قد تجاوزت هذا المنطق بكثير ولم يعد ثمة من يفكر في صلاحية الانتخابات كوسيلة لتحديد اختيار الشعوب والحفاظ عليها في ظل تحالف عسكري اقتصادي داخلي وخارجي يتآمر فيه الجميع على إرادة الشعوب، ليحتفظ بها عبيدا وأسرى، فإن أبَوْا العبودية فلتبدأ آلة القتل في الدوران بلا رحمة.
5. وخروجا من "مأزق الشرعية" تقترح الوثيقة مجلسا رئاسيا يدير حكما متعدد الأطراف يبدأ باستفتاء على خطوات حكمه لفترة كافية، وتفترض الوثيقة أن الشعب سيوافق، لتبدأ مرحلة حكم تشاركي توافقي يديره كل الأطراف يحقق أحلام الجميع في: إقامة عدالة انتقالية ناجزة، وإصلاح الاقتصاد، وإصلاح مؤسسات الدولة بجعلها محايدة ومحترفة، وتقديم الشباب لمواقع القيادة، وإنهاء الاستقطاب بين فئات المجتمع، ووضع أسس العدالة الاجتماعية، ومراجعة القوانين، وحماية الحقوق والحريات.. باختصار: تفترض الوثيقة أن فترة الحكم التشاركي هذه ستحقق كل الأحلام والأمنيات.
وبعد هذه الفترة من "الديمقراطية التشاركية" تأتي فترة يمارس فيها الشعب الوسائل الديمقراطية لكن بشرط ألا يأتي للحكم أغلبية تصنع القرار بل لا بد أن تكون النتيجة ديمقراطية تشاركية أيضا (لا أدري هل سيخترعون نظاما يجعل الشعب يختار رغما عنه تركيبة متوازنة؟ أم سيجبرون الجميع من قبل الانتخابات على القسم والتوقيع على وثيقة تفيد تنازله إن حاز الأغلبية لشركائه؟).. المهم أن هذه الفترة هي "فترة تدريبية" للشعب لكي يستعمل فيها الوسائل الديمقراطية لكن بغير ديمقراطية حقيقية.
ثم بعد هاتين الفترتيْن: الديمقراطية التشاركية، والديمقراطية "الشكلية" (وهذا الوصف من عندي) تأتي مرحلة الديمقراطية التنافسية التي يجوز فيها للشعب أن يختار من يمثله، ويجوز فيها للفائز أن ينفذ برنامجه!
والحق أني أجد صعوبة كبيرة في التعليق على هذا البند الذي هو خلاصة الوثيقة وصلبها:
- فهو أولا مثالي خيالي يفترض قدرة "شركاء متشاكسون" على تحقيق كل الأحلام، ولا تتعرض الوثيقة إطلاقا لسبل التعامل مع تحديات الداخل والخارج، ففي الداخل أطراف موتورون لا يحبون الديمقراطية من فئات ومؤسسات لا سيما وهذه المؤسسات تمتلك السلاح والمال وتقعد على عرش الحكم وتحتكر أضابيره ودهاليزه منذ ستين سنة. وفي الإقليم مستبدون وملوك لا يحبون الديمقراطية ولا انتشار عدواها ومستعدون لدفع كل ميزانيات دولهم لئلا تقوم للديمقراطية في مصر قائمة. ومن ورائهم وضع دولي لا يحب للديمقراطية إلا أن تأتي بأناس على هواه وله في بلادنا مصالح ومنافع تتعارض مع أصول التحرر الوطني والاستقلال السياسي والاقتصادي.. فكيف سيدير "شركاء متشاكسون لم ينجحوا في التوافق من قبل ونعجز حتى الآن عن جمعهم على وثيقة مكتوبة" دولة في مثل هذه الحال؟ فضلا عن قدرتهم على تحقيق كل هذه الأحلام السعيدة التي لو تحققت أساسا لم يكن ثمة مبرر للثورة ولا للديمقراطية ولا لأي مرحلة بعدها.. فطالما نستطيع صناعة كل هذا من خلال شركاء متوافقون فما حاجتنا للديمقراطية؟!
- وهو ثانيا ديكتاتوري استبدادي يستبعد الشعب من كل مراحله ويجعله دائما في موقع المفعول به أو الخادم الذي يتلقى الأوامر وعليه أن يسمع ويطيع لا أنه مصدر السلطات الذي يختار ويقرر.. حتى لو صبغنا كل هذا بألفاظ ناعمة وصيغ توافقية.. وهذا المنهج يذكرني بفلاسفة المدينة الفاضلة، كل منهم يتصور صيغة بعينها للمدينة الفاضلة التي يعيش الناس فيها سعداء، ثم هو يسعى لتطبيق رؤيته هذه –ولو من خلال القهر إن استطاع- دون أن يسأل أحدا: ما رأيه في هذا التصور؟ وهل هذا التصور سيجعلهم سعداء حقا أم لهم فيه رأي آخر؟.. حتى لقد قالت ماريا لويزا برنيري –بعد بحثها المستفيض في تصورات المدينة الفاضلة- بأنها في الحقيقة مدن ديكتاتورية احتكر الفلاسفة صناعتها وحاول من استطاع منهم إجبار الشعب على القبول بها، ولقد دعا هذا فيلسوفا كبيرا مثل علي عزت بيجوفيتش ليقول بأن أفضل المدن الفاضلة ستكون معسكرات الجيش حيث يتمثل فيها الانضباط الكبير واختفاء الرغبات الفردية والميول الشخصية!!
هذه الوثيقة تمثل هذه الصورة الفلسفية، ولذا ستجد بعض أفرادها في مجالسهم الخاصة يحتقرون ويتكلمون بالسوء عمن لا يوافق على هذه الوثيقة من شركاء الثورة الذين لم يتخلوا عنها يوما، فيصفونهم بالمزايدة والسطحية والهمجية والحمق والرعونة والاندفاع... إلخ!
هذا فضلا عن الغموض الكبير والمصطلحات الفضفاضة الغائمة وانعدام أي تصور عن الوسائل.. إنها تشبه موضوع تعبير يكتبه طفل صغير يتمنى فيه أن يسود السلام في مصر! ليس فيها فوق ما يستطيعه الطفل الصغير من تصورات حالمة!
وهذه –ولمرة أخرى- قراءة تفترض في الوثيقة وواضعيها وداعميها منتهى الإخلاص وحسن النية وسلامة الغرض.
نشر في الخليج أون لاين
1. فلسفة الوثيقة والروح المهيمنة عليها بعيدة تماما عن أي نهج ثوري، فثمة تجنب تام لوصف النظام الحالي بأنه انقلاب أو أنه نظام عسكري، هي إذن أقرب للمعارضة منها للثورة، لا سيما وهي تتعامل مع مؤسسات الفساد والاستبداد باعتبارها "مؤسسات الدولة، ملك الشعب... إلخ".
ولغة الوثيقة غارقة في العموميات والألفاظ الفضفاضة وشعارات أقرب للعاطفية والشاعرية منها إلى الواقع، ولذلك فهي تتناقض أحيانا كقولهم في البند السادس "نبذل كل جهد لتحقيق مصالحة عامة بين كل أطياف الشعب المصري وفئاته ومؤسساته دون استثناء مع التزامنا بإنه لا تصالح مع نظام القمع والفساد"، فلو سلَّمنا بأن التصالح لا يشمل نظام القمع والفساد فكيف يصحُّ القول "مع كل فئاته ومؤسساته دون استثناء"؟!.. وهل أوردنا المهالك إلا هذه الفئات التي ترى نفسها فوق البشر وهذه المؤسسات التي شرعنت بحور الدماء: إعلاميا وقانونيا وإعلاميا؟! هذا فضلا عن مؤسسات القتل نفسها!
2. لا يزعم أحد من أصحاب الوثيقة أو واضعيها بأنه يملك ضمانة من أحد أن يتغير المشهد السياسي حال تم التوافق عليها، لا أطرافا داخلية أو إقليمية أو خارجية، وإنما غاية ما يُقال –مع استبعاد كل مداخل سوء الظن- أن واضعيها يتوهمون أن توافقا جديدا يمكن أن يعيد لحظة يناير من جديد، فإذا تجاوزنا الآن عن كون هذا التصور وَهْمٌ وخيالٌ بعيد، فإن المشكلة الواقعية أنه ينقل المعركة من كونها بين الثورة والعسكر إلى داخل معسكر الثورة نفسه بين مؤيد للوثيقة ومعترض عليها ومتحفظ على بعض ما فيها.. فيبدأ الأمر من اختلاف الرأي حول ما جاء في الوثيقة وينتهي بالتراشق المتبادل ثم بإلقاء كل طرف مسؤولية فشله على طرف آخر.
بينما أصل الفشل على الحقيقة هو في مبدأ ومنطلق هذه الوثيقة، فلئن كان البعض ينتظر وثيقة كهذه لكي ينضم إلى الثورة فإن الثورة غنية عنه لأنه انتهازي بلا مبدأ لم يحركه بحر الدم وظل ينتظر وثيقة تضمن له مكاسب مستقبلية. ولئن كان ثمة ضمانات خارجية أو داخلية بتغيير المشهد فإنهم إنما سيفعلون هذا لمصالح تتحقق لهم ولا يكون التوافق على هذه الوثيقة –في أحسن أحواله- إلا مشهدا يشرعن الجريمة الجديدة (تماما كمشهد انقلاب 3 يوليو في جمع المجرمين والأغبياء لتجميل انقلاب عسكري).
أي أن غاية ما تبلغه الوثيقة حال نجاحها أن توفر مشهدا يشرعن جريمة جديدة في حق الشعب، وأقل ما تبلغه حال فشلها أن تثير الارتباك في صفوف معسكر معارضي الانقلاب فوق ما فيه أصلا من مشكلات.
3. تقوم الوثيقة على أساس أن الثورة المصرية لم يكن لها هدف سوى "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، وليس هذا بصحيح، بل إن إلصاق هذا الهدف بالثورة المصرية هو من آثار وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون (الليبراليون واليساريون معا)، في حين أن الثورة امتلأت بالهتافات والشعارات، لكن جرى التركيز على هذا الشعار بُغية علمنة الثورة وتجريدا لها من هويتها الإسلامية! صحيح أن الثورة لم يشارك فيها الإسلاميون وحدهم لكن الصحيح أيضا أن الإسلاميون كانوا عمادها وصلبها، والصحيح الأهم من ذلك كله أن إرادة الشعب الثائر اختارت الإسلاميين في كل محطاتها: الاستفتاء، مجلس الشعب، مجلس الشورى، الرئاسة، الدستور.. وكفى بهذه الاستحقاقات دليلا على أن الشعب أراد أن تسير ثورته إلى الإسلام.
ومن هنا، فمن أراد الدفاع عن الثورة حقا فإنما يجب عليه أن يدافع عن اختيارات الشعب وإرادته وإن خالفت توجهه وهواه، وإلا فهو يمثل وجها آخر للعسكر الذين يصادرون إرادة الشعب لحساب مصالحهم ورؤاهم، إلا أن أولئك يملكون السلاح والمذابح، وأولئك لا يملكون مثلها.
4. وُضِعت كلمة، لا أرى لها وصفا إلا أنها "خبيثة" (وهذا غاية ما استطعت من تهذب في اختيار اللفظ) في البند الثامن، الذي جاء فيه: "لا يملك أحد الحق في إهدار ما نتج عن الإرادة الشعبية في انتخابات نزيهة، مع التسليم بحقيقة إن الشعب هو صاحبُ إرادةٍ متجددةٍ".. فالقول بأن للشعب إرادة متجددة هو محاولة نسف وتضييع ما نتج عن الإرادة الشعبية سابقا، كأنه يقول: نعم كانت لكم شرعية لكن لا أحد يدري ماذا يريد هذا الشعب الآن، فكما تعرفون الشعب متقلب المزاج وإرادته متجددة ولعله يريد الآن شيئا جديدا!
وصف "الإرادة المتجددة" هذا وصف في غاية الخبث، على أنه –وكما ألزمت نفسي بالتعامل بغاية حسن النية مع النصوص- لو صحَّ هذا، فليكن النضال في إعادة الشرعية السابقة أولا، إعادتها كاملة غير منقوصة، ثم بعد ذلك يقرر الشعب ما إذا كان مزاجه قد انقلب أو لم ينقلب بعد من خلال انتخابات أخرى نزيهة!.. هذا جواب المنطق السليم.
أما جواب الواقع فهو أن المسألة قد تجاوزت هذا المنطق بكثير ولم يعد ثمة من يفكر في صلاحية الانتخابات كوسيلة لتحديد اختيار الشعوب والحفاظ عليها في ظل تحالف عسكري اقتصادي داخلي وخارجي يتآمر فيه الجميع على إرادة الشعوب، ليحتفظ بها عبيدا وأسرى، فإن أبَوْا العبودية فلتبدأ آلة القتل في الدوران بلا رحمة.
5. وخروجا من "مأزق الشرعية" تقترح الوثيقة مجلسا رئاسيا يدير حكما متعدد الأطراف يبدأ باستفتاء على خطوات حكمه لفترة كافية، وتفترض الوثيقة أن الشعب سيوافق، لتبدأ مرحلة حكم تشاركي توافقي يديره كل الأطراف يحقق أحلام الجميع في: إقامة عدالة انتقالية ناجزة، وإصلاح الاقتصاد، وإصلاح مؤسسات الدولة بجعلها محايدة ومحترفة، وتقديم الشباب لمواقع القيادة، وإنهاء الاستقطاب بين فئات المجتمع، ووضع أسس العدالة الاجتماعية، ومراجعة القوانين، وحماية الحقوق والحريات.. باختصار: تفترض الوثيقة أن فترة الحكم التشاركي هذه ستحقق كل الأحلام والأمنيات.
وبعد هذه الفترة من "الديمقراطية التشاركية" تأتي فترة يمارس فيها الشعب الوسائل الديمقراطية لكن بشرط ألا يأتي للحكم أغلبية تصنع القرار بل لا بد أن تكون النتيجة ديمقراطية تشاركية أيضا (لا أدري هل سيخترعون نظاما يجعل الشعب يختار رغما عنه تركيبة متوازنة؟ أم سيجبرون الجميع من قبل الانتخابات على القسم والتوقيع على وثيقة تفيد تنازله إن حاز الأغلبية لشركائه؟).. المهم أن هذه الفترة هي "فترة تدريبية" للشعب لكي يستعمل فيها الوسائل الديمقراطية لكن بغير ديمقراطية حقيقية.
ثم بعد هاتين الفترتيْن: الديمقراطية التشاركية، والديمقراطية "الشكلية" (وهذا الوصف من عندي) تأتي مرحلة الديمقراطية التنافسية التي يجوز فيها للشعب أن يختار من يمثله، ويجوز فيها للفائز أن ينفذ برنامجه!
والحق أني أجد صعوبة كبيرة في التعليق على هذا البند الذي هو خلاصة الوثيقة وصلبها:
- فهو أولا مثالي خيالي يفترض قدرة "شركاء متشاكسون" على تحقيق كل الأحلام، ولا تتعرض الوثيقة إطلاقا لسبل التعامل مع تحديات الداخل والخارج، ففي الداخل أطراف موتورون لا يحبون الديمقراطية من فئات ومؤسسات لا سيما وهذه المؤسسات تمتلك السلاح والمال وتقعد على عرش الحكم وتحتكر أضابيره ودهاليزه منذ ستين سنة. وفي الإقليم مستبدون وملوك لا يحبون الديمقراطية ولا انتشار عدواها ومستعدون لدفع كل ميزانيات دولهم لئلا تقوم للديمقراطية في مصر قائمة. ومن ورائهم وضع دولي لا يحب للديمقراطية إلا أن تأتي بأناس على هواه وله في بلادنا مصالح ومنافع تتعارض مع أصول التحرر الوطني والاستقلال السياسي والاقتصادي.. فكيف سيدير "شركاء متشاكسون لم ينجحوا في التوافق من قبل ونعجز حتى الآن عن جمعهم على وثيقة مكتوبة" دولة في مثل هذه الحال؟ فضلا عن قدرتهم على تحقيق كل هذه الأحلام السعيدة التي لو تحققت أساسا لم يكن ثمة مبرر للثورة ولا للديمقراطية ولا لأي مرحلة بعدها.. فطالما نستطيع صناعة كل هذا من خلال شركاء متوافقون فما حاجتنا للديمقراطية؟!
- وهو ثانيا ديكتاتوري استبدادي يستبعد الشعب من كل مراحله ويجعله دائما في موقع المفعول به أو الخادم الذي يتلقى الأوامر وعليه أن يسمع ويطيع لا أنه مصدر السلطات الذي يختار ويقرر.. حتى لو صبغنا كل هذا بألفاظ ناعمة وصيغ توافقية.. وهذا المنهج يذكرني بفلاسفة المدينة الفاضلة، كل منهم يتصور صيغة بعينها للمدينة الفاضلة التي يعيش الناس فيها سعداء، ثم هو يسعى لتطبيق رؤيته هذه –ولو من خلال القهر إن استطاع- دون أن يسأل أحدا: ما رأيه في هذا التصور؟ وهل هذا التصور سيجعلهم سعداء حقا أم لهم فيه رأي آخر؟.. حتى لقد قالت ماريا لويزا برنيري –بعد بحثها المستفيض في تصورات المدينة الفاضلة- بأنها في الحقيقة مدن ديكتاتورية احتكر الفلاسفة صناعتها وحاول من استطاع منهم إجبار الشعب على القبول بها، ولقد دعا هذا فيلسوفا كبيرا مثل علي عزت بيجوفيتش ليقول بأن أفضل المدن الفاضلة ستكون معسكرات الجيش حيث يتمثل فيها الانضباط الكبير واختفاء الرغبات الفردية والميول الشخصية!!
هذه الوثيقة تمثل هذه الصورة الفلسفية، ولذا ستجد بعض أفرادها في مجالسهم الخاصة يحتقرون ويتكلمون بالسوء عمن لا يوافق على هذه الوثيقة من شركاء الثورة الذين لم يتخلوا عنها يوما، فيصفونهم بالمزايدة والسطحية والهمجية والحمق والرعونة والاندفاع... إلخ!
هذا فضلا عن الغموض الكبير والمصطلحات الفضفاضة الغائمة وانعدام أي تصور عن الوسائل.. إنها تشبه موضوع تعبير يكتبه طفل صغير يتمنى فيه أن يسود السلام في مصر! ليس فيها فوق ما يستطيعه الطفل الصغير من تصورات حالمة!
وهذه –ولمرة أخرى- قراءة تفترض في الوثيقة وواضعيها وداعميها منتهى الإخلاص وحسن النية وسلامة الغرض.
نشر في الخليج أون لاين
Published on October 18, 2015 01:16