محمد إلهامي's Blog, page 54

October 17, 2015

في ذكرى ميلاد البنا.. الكلمات لا تموت

تمر بنا هذه الأيام ذكرى ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا، رجل الإسلام الكبير، ومجدد الإسلام في زمنه، ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين التي حملت راية الإسلام في أرض العرب وغير قليل من أرض العجم وأثمرت عددا هائلا من العلماء والفقهاء والمجاهدين والعاملين للدين في كل مجال. ومهما كان الرأي الآن في مسيرة الجماعة وهي في زمن الكهولة فلا ريب أنها في شبابها ورجولتها كانت دفقة هائلة للمد الإسلامي وقامت على حراسة الشريعة والنفاح عنها، ثم مهما كان الرأي في الجماعة كلها فإن حسن البنا نفسه ممن حاز على اتفاق رجال الإسلام العاملين حتى لا يكاد يقع فيه إلا مشهور بالجهل أو مغموز عليه بالعمالة للمحتلين أو السلاطين!
ولئن مات حسن البنا بعد ثلاثة وأربعين عاما من مولده فإن كلماته لم تمت، بل كان موته لكلماته حياة كما وصفه الشهيد القرآني سيد قطب، وفيه قال سيد قطب كلمته الأشهر: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة".
وآثرت في ذكراه أن أنقل من تراثه الزكي قطعة من مقال له بعنوان "الجهاد عزُّنا"، وهو –كعادة كتابات الرجل- فكرٌ يهتم بالعمل وينحو نحوه ويمهد الطريق له، لا فكر لمجرد المتعة العقلية، ولذا تراه بعد أن يصف قيمة الجهاد وأثره يدفع نحو إعداد المجاهدين حتى من لم يصل إلى ساحة جهاد بعد.
قال رحمه الله:
"إن كل يوم يمضي لا تعمل فيه الأمة عملاً للنهوض من كبوتها يؤخرها أمداً طويلاً، وإن في دعوة الإخوان لو فقهها الناس لمنقذاً، وإن في منهاجهم لو اتبعته الأمة لنجاحاً، وإن في جهودهم لو أُعِينوا عليها لأملاً، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
وبعد؛ فقد ورد في الصحيح ما معناه أن معاذاً كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر وذروة السنام منه، إن رأس هذا الأمر لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قوام هذا الأمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله عز وجل، والذي نفس محمد بيده ما شحب وجْهٌ ولا أغبرت قدم في عمل تبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله، ولا أثقل ميزان عبد كدابّة تنفق (أي تموت) في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله".
ذلك تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام وهو أعرف الناس بالإسلام وإن الإخوان المسلمين لا يحملون الناس علي غير الإسلام ومبادئ الإسلام، ولا ينهجون إلا مناهج الإسلام وشعاب الإسلام، وقد حدثتك عنهم في الصلاة والزكاة وما يريدون من أنفسهم ومن الناس حيالها، وهي قوام الأمر ودعامته، فلأتحدث إليك الآن عن الإخوان المسلمين المجاهدين، وماذا يريدون من أنفسهم ومن الناس حيال الجهاد في سبيل الله وهو من الإسلام ذروة السنام.
من الجهاد في الإسلام أيها الحبيب: عاطفة حيه قويه تفيض حناناً إلى عز الإسلام ومجده، وتهفو شوقاً إلى سلطانه وقوته، وتبكي حزناً علي ما وصل إليه المسلمون من ضعف وما وقعوا فيه من مهانة، وتشتعل ألماً علي هذا الحال الذي لا يرضي الله ولا يرضي محمداً عليه الصلاة والسلام ولا يرضي نفساً مسلمة وقلباً مؤمناً، و"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" كما ورد في الحديث الصحيح.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد .. إن كان في القلب إسلام وإيمان
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن يحملك هذا الهمُّ الدائم والجَوَى اللاحق علي التفكير الجدي في طريق النجاح وتلمس سبيل الخلاص وقضاء وقت طويل في فكرة عميقة تمحص بها سبل العمل وتتلمس فيها أوجه الحيل لعلك تجد لأمتك منفذا أو تصادف منقذاً، ونية المرء خير من عمله والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تنزل عن بعض وقتك وبعض مالك وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام وبني المسلمين، فإن كنت قائداً ففي مطالب القيادة تنفق، وإن كنت تابعاً ففي مساعدة الداعين تفعل، وفي كل خير، وكلا وعد الله الحسني، والله تبارك وتعالى يقول {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ،وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120-121].
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تأمر بالمعروف وأن تنهي عن المنكر، وأن تنصح لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم،وأن تدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنه وما ترك قوم التناصح إلا ذلُّوا وما أهملوا التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر إلا خُذِلوا {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ،كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79]
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تتنكر لمن تنكر لدينه وأن تقاطع من عادي الله ورسوله فلا يكون بينك وبينه صلة ولا معاملة ولا مؤاكلة ولا مشاربة وفي الحديث: "إن أول ما دخل النقص علي بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فانه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو علي حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلو ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض".
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تكون جندياً لله تقف له نفسك ومالك لا تبقي علي ذلك من شيء، فإذا هُدِّد مجد الإسلام ودِيسَتْ كرامة الإسلام ودوي نفير النهضة لاستعادة مجد الإسلام كنت أول مجيب للنداء وأول متقدم للجهاد {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، وفي الحديث: "من مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث به نفسه مات علي شعبة من النفاق)" رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وبذلك يتحقق ما يريد الله من نشر الإسلام حتى يعم الأرض جميعاً.
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تعمل علي إقامة ميزان العدل وإصلاح شئون الخلق وانصاف المظلوم والضرب علي يد الظالم مهما كان مركزه وسلطانه، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر" رواه أبو داود والبخاري بمعناه، وعن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" رواه ابن ماجه باسناد صحيح.
ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى إن لم تُوَفَّقْ إلى شيء من ذلك كله: أن تحب المجاهدين من كل قلبك وتنصح لهم بمحض رأيك وقد كتب الله لك بذلك الأجر وأخلاك من التبعة، ولا تكن غير ذلك فيطبع علي قلبك ويؤاخذك أشد المؤاخذة: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ،وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ،إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:91-93]

انتهى كلامه رحمه الله.
نشر في مصري 24
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 17, 2015 10:06

October 15, 2015

أمور منسية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ذكرنا سابقا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مما امتازت به هذه الأمة بين المناهج الوضعية والفلسفات جميعا، وأن مكانه في البناء الإسلامي للمجتمع كمكان جهاز الإنذار المنتشر في البناء المادي، يهرع المسلمون لمعالجة الخطأ كما يهرع المسعفون لمعالجة الخطـر. ثم ذكرنا خريطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما وضعها الغزالي، وذكرنا قول العلماء التي تجعل كل تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مذموما.. فيُرجى الرجوع إليهما.
وموعدنا في هذه السطور مع أمور منسية يغفل عنها الكثيرون إذ يتعرضون لهذه العبادة:
(1)
ينسى الكثيرون أن الفريضة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ وليس نهيًا فقط، فجانب التعاون على الخير مُقَدَّم على النهي عن الشر والإثم، ولشيخ الإسلام كلام لطيف ينقد فيه قومًا اهتموا بالنهي عن المنكر، ولم يقوموا بالأمر بالمعروف، يقول: "كثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة. بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه؛ إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العلم السيئ، أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نهيت عنه حفظًا للعمل الصالح"((2)
وينسى الكثيرون أيضا أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضوابط وآداب وأصول، موجزها وجماعها ثلاثة أمور ينبغي أن يتحلى بها المتصدي للأمر والنهي، هي: العلم، والرفق، والصبر
1. فأما العلم فلكي يكون الأمر والنهي في محله، فلا يأمر بمنكر -وهو يظنه معروفًا- أو ينهى عن معروف -وهو يظنه منكرًا- أو ينهى عن منكر فيؤدي إلى منكر أشد منه، أو تزدحم أمامه المصالح فلا يقدر أيها أولى، وقد قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك. فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة؛ وذلك لأنهم إن لم ينفقوا على المصاحف فسينفقونها في كتاب من كتب الفجور: مثل كتب الأسمار أو الأشعار أو الفلسفة(ولهذا فتقدير المصالح والمفاسد ينبغي أن يكون حاضرا في ذهن المفتي والمتصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ المسألة ليست حفظ نصوص فحسب، ولا هي حماسة اندفاعية لا تتدبر عواقب الأمور.
وصحيحٌ أن الناس يختلفون في العلم وفي تقدير المصالح والمفاسد، ولهذا فحسب كل امرئ أن يأمر بما يتيقن أنه معروف وينهى عما يتيقن أنه منكر، ويُقدم حين يغلب على ظنه الإتيان بالمصلحة والابتعاد عن المفسدة.
2. وأما الرفق فلكي يحصل المقصود من الأمر والنهي، فلا يكون بين القائم به والمنصوح به نفرة وجفوة وابتعاد، بل هو حبٌّ يدعو إلى حرصٍ ويُبذل في ظلال الشفقة، ولقد قيل للنبي r وهو أكمل البشر: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقيل لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]، فالدعوة مع الرفق أبلغ في حصول المأمول كما قال النبي r: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه"(وفي زماننا هذا، حيث المسلمون في حال استضعاف في عمومهم، ينبغي أن يكون حال دعاتهم من الشفقة والرحمة واللين مع الناس والتواضع لهم أعظم حظا من سائر الأزمان، وذلك لأمريْن: أولهما: أن الأحوال المفسدة تحيط بالناس حتى ليحتاج انتزاعهم منها والصبر على ما أصابهم من فسادها كثيرا من الرحمة والشفقة، تماما كالشفقة المطلوبة لمريض في بيئة موبوءة. وثانيهما: أن الدعاة ليسوا في حصن أحد ولا حماية أحد ولا يسعهم إن أرادوا وصول دعوتهم ونصائحهم للناس إلا أن يبذلوها من موقع الطبيب الصبور الذي يعلم أنه حين يستكثر من التائبين والصالحين فإنه إنما يستكثر لنفسه ولأهله ولولده، فهو يدافع عن نفسه وأهله بكسب المزيد من الصالحين في محيطه.
3. وأما الصبر فأصله في قول الله تعالى على لسان لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، والوصية بالصبر موجهة لكل ذي رسالة، ولقد كان من أوائل ما نزل على النبي r: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]، وأفضل الأنبياء هم أكثرهم صبرًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، ولا يزال كل داعية مأمورًا بالصبر حتى يرى موعود الله إما في الدنيا أو في الآخرة، فلا غنى للإنسان عن الصبر.
فعلى المسلم أن يتخلق بهذه الصفات في قيامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يتدرب على التخلق بها إذ يقوم بهذه الفريضة.
(3)
ولكن: ماذا يفعل من لم يتخلق بهذه الآداب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل له أن يترك هذا؟
يجيب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "وليُعلم أن اشتراط هذه الخصال (العلم، الرفق، الصبر) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب الصعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه؛ وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر من دون هذه الخصال أو أقل، وفعل ما نهى الله عنه في الأمر معصية. فالمنتقل من معصية إلى معصية كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل قد يكون الثاني شرًّا من الأول، وقد يكون دينه، وقد يكونان سواء، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي، والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكون ذنب ذاك أعظم، وقد يكونان سواء"(نشر في ساسة بوست


([1])ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 2/126. ([2])السابق 2/126، 127. ([3])مسلم (2594). ([4])مسلم (2592). ([5])ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص31.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 15, 2015 13:54

October 13, 2015

قراءة في كتاب الفلسفة السياسية لأحمد داود أوغلو (1)

§         اسم الكتاب: الفلسفة السياسية §         المؤلف: د. أحمد داود أوغلو§         المترجم: د. إبراهيم البيومي غانم§         تقديم: د. محمد عمارة§         دار النشر: مكتبة الشروق الدولية§         سنة النشر: الطبعة الثانية، 2006م.§         عدد الصفحات: 77.§         نشر الأصل الإنجليزي لهذا الكتاب في عام 1993م، بعنوان (Alternative Paradigms: The Impact of Islamic and Western Weltanschauungs on Political Theory) ومعناه "النموذج البديل: أثر التصورات الوجودية الإسلامية والغربية على النظرية السياسية".
بدون أي انتقاص من عقلية أحمد داود أوغلو المثيرة للإعجاب في هذا الكتاب، إلا أنه وبعد قراءة هذا الكتاب يزداد اليقين في أن العلمانية التركية الأتاتوركية كانت أقل شرا بكثير من العلمانية العسكرية التي هيمنت على الحياة العربية.
لقد سمحت العلمانية التركية للإسلاميين بالوجود السياسي وتأسيس الأحزاب ودخول البرلمانات والفوز بالبلديات وتولي رئاستها والمشاركة في الحكومة بل والوصول إلى سدة الحكم (رئاسة الوزراء) ثم كان العسكر ينقلبون عليهم عند هذه النقطة. بينما كانت العلمانية العربية وحشا عنيفا دمويا لا يعرف الرحمة ولا يعترف لغيره بحق الوجود أصلا وكان مجرد الاجتماع في حلقات تلاوة القرآن أو لصلاة قيام الليل تهديدا أمنيا خطيرا، وغاية ما حازه الإسلاميون في بيئة العلمانية العربية أن كانوا أقلية برلمانية بلا تأثير أو وزراء في حكومة بلا صلاحيات!!
إن ممارسة الإسلاميون الأتراك للديمقراطية مكنتهم من أشياء كثيرة منها نقد الديمقراطية وفهم فلسفتها، بينما ظلت ممارسة الديمقراطية حلما لدى الإسلاميين العرب مما جعل كثيرا من قضاياها محلَّ إرباك وارتباك فكري، خصوصا في أجواء محاكم التفتيش الأمنية والإعلامية التي تحاول قهر الإسلاميين على القبول والتسليم بنموذج الديمقراطية الغربية جملة وتفصيلا.
لقد تحدثنا سابقا عن فهم أردوغانللديمقراطية، لكننا اليوم مع وجبة فكرية دسمة من العقل السياسي لحزب العدالة والتنمية، المفكر وأستاذ العلوم السياسية أحمد داود أوغلو، والذي خلف أردوغان في رئاسة الحزب، وسيظهر بعد عرض الكتاب مدى الفارق الضخم والأساسي بين نموذج أردوغان ونموذج الغنوشي، ففي حين انهار الغنوشي تماما أمام النظرية الغربية وطفق يستعمل كل طاقته في جعل الدين موافقا لها نجد داود أوغلو يفكك النظرية الغربية بثقة واطمئنان مثبتا تفوق النموذج الإسلامي على النموذج الغربي بل وعدم إمكانية التقاء النموذجين أصلا، ولست أبالغ إن قلت إن كتاب داود أوغلو هذا هو في عمقه ينطق بما نطق به سيد قطب، الذي هو من زعماء "الأصولية، الراديكالية" الإسلامية كما يحب الكثيرون أن يصفونه.. مما يجعل أي تشابه بين الغنوشي وأردوغان –إن وافقنا جدلا وتنزلا على أن ثمة تشابه- إنما هو مجرد التقاء في الظواهر والقشور.
الكتاب صغير، ولكنه ثقيل، ولغته فلسفية صعبة، ومؤلفه ذو حظ واسع من الفلسفة الغربية، مع القدرة الواضحة على رد الفروع إلى الأصول، وتجاوز أوجه التشابه والاختلاف بين الاتجاهات الفلسفية حتى يصل إلى الأصل الذي يجمعها وتنطلق منه.
وحيث كانت لغة الكتاب صعبة، فإني في عرضه هنا سأسعى ما وسعني إلى تبسيطه، ولذا فلن ألتزم في هذا العرض بألفاظ المؤلف، وإنما سأعمد إلى تقريب المعاني من عموم القراء، مع الاعتراف بأن هذا لن يرضي شريحة القراء المهتمين بالفلسفة، إلا أن هؤلاء على كل حال يفترض ألا يكفيهم عرض مختصر مبسط، فليكن التبسيط تشويقا لهم لقراءة الكتاب.
ينقسم الكتاب إلى بابيْن؛ الأول: باب النظرية، والثاني: باب التطبيق. الباب الأول يشرح التناقض القائم بين الرؤية (العقيدة) الإسلامية والرؤية الغربية للعالم، والباب الثاني يرصد آثار هذا التناقض في مجال السياسة وما يتعلق بها من نظريات اقتصادية واجتماعية وثقافية.
يؤكد المؤلف على أن أساس التناقض بين الرؤيتيْن: الإسلامية والغربية نابع من أن الرؤية الإسلامية تنطلق من تصور عام للوجود جاء به الوحي، وبهذا كان الوحي هو المُحدِّد لنظرية المعرفة الإسلامية. بينما ظلت الرؤية الغربية تتأمل الوجود وتغير تصورها عنه وتستخرج منه تصورا جديدا مع كل تطور علمي أو فلسفي، ولهذا في تستخرج من الوجود نفسه تصورها عنه، أي أن نظرية المعرفة هي من نتائج التأمل والتفكير في الوجود.. وباختصار: فالرؤية الإسلامية تعتمد على الوحي، والرؤية الغربية علمانية تعتمد على العقل.
تقوم الرؤية الإسلامية على أن الله تعالى هو الإله الوحيد، خالق الكون، والمهيمن عليه ومدبر أمره، وهو العليّ على خلقه والمتنزه عن كل نقص. ومن ثمرات هذه الرؤية أن المسلم يرى نفسه عبدا لله، ومتحملا للأمانة (المسؤولية) التي عهد الله بها إليه على هذه الأرض، ولهذا فإن علاقته بالطبيعة وسيادته عليها هي سيادة نسبية محكومة بضوابط وأهداف عقيدته، فهو "مستخلف" وليس "مالكا" للأرض وما عليها.
ومن أهم ثمرات هذه الرؤية هذا الفصل الجازم الواضح بين الله وخلقه، فلا مجال أبدا لأن يكون الإنسان أو غيره من المخلوقات إلها، ولا مجال لأن يكون الإله إنسانا أو مخلوقا آخر، فحتى الرسل –وهم أكمل البشر- لا يخرجون عن كونهم عبادا وبشرا ولا يكونون أبدا آلهة أو شبه آلهة. ويترتب على هذا أن يكون الله هو العليم الحكيم، بينما الإنسان معرض للجهل والنقص والخطأ، ولهذا يظهر الفارق واضحا وكبيرا بين التعامل مع القرآن (كلام الله الحق المطلق) والتعامل مع تفاسيره (التي كتبها بشر فهي معرضة للأخذ والرد)، أو بين نصوص الوحي (القرآن والسنة) وبين استنباطات الفقهاء واجتهاداتهم فيها. ومن ثمرات هذا أيضا أن المسلمين يرفضون تماما أن يكون ثمة تعارض بين الوحي والعقل، ويرون أن العلاقة بينهما علاقة تكامل، فالوحي هو الحقيقة المطلقة والعقل هو الذي يجتهد في فهمه وتفسيره.
ومن هنا يُخطئ من يبالغ في تأثير الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية، ذلك أن سائر مدارس الفكر الإسلامي تقوم على هذه الرؤية: لا إله إلا الله، والله هو الخالق المهيمن الحق العليم. ولكن الخلاف بين هذه المدارس هو في طريقة كل منها ووسائله لإثبات هذه الرؤية. فحتى المعتزلة –الذين هم أول تفاعل إسلامي مع الفلسفة اليونانية، والذين نادوا باستقلال العقل البشري- لم يكونوا أبدا علمانيين، إذ لم يفكروا في أن يُوَجِّهوا هذه الفكرة نحو إثبات تناقض العقل مع الوحي، ولم يحاولوا أبدا أن يرفعوا مقام العقل ليكون في مقام الله، مثلما فعلت العلمانية الغربية.
إن الرؤية الإسلامية الملخصة في كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تثمر آثارا فارقة على كافة المستويات، فهي تحدد معايير الحق والباطل بناء على ما جاء في الوحي، ومن ثَمَّ فإن سائر المجالات ترتبط بالقيم والتصورات الإسلامية، فمثلا: رغم الخلاف المشهور بين الغزالي وابن رشد في التعامل مع الفلسفة إلا أنهما يتفقان تماما في سمو الشريعة وعظمتها وأنها تتفوق على كل القوانين الوضعية لكونها صادرة عن الإله العليِّ العليم الحكيم الذي لا يلحق به بشر!بينما الأساس في الرؤية الغربية متناقض تماما مع هذا التصور، ذلك أن كافة الأحقاب الغربية -منذ الفلسفة اليونانية والعصر الروماني والعصر المسيحي وعصر النهضة- أزالت الفوارق بين الإله والإنسان، فهذا هو الأساس المشترك بينها جميعا وإن اختلفوا في التصورات.
ففي العصور القديمة كانت العقيدة تجعل من الآلهة بشرا (كما في الأساطير اليونانية) وفي العصور الرومانية كان يمكن للأبطال والأباطرة أن يكونوا آلهة أو شبه آلهة، وفي المسيحية تجسد الرب في صورة بشر كما كان الإنسان ابنا للرب، وذلك من أظهر الأدلة على تأثر المسيحية بالتراث اليوناني والرومانيلما جاء كوبرنيكس باكتشافه أن الشمس –لا الأرض- هي مركز الطبيعة، انعكس هذا على وضع الفلسفة التي وضعت الطبيعة –لا الإله- في مركزهاوهكذا نجد أن الخيط الأساسي المتصل في كل الفكر الغربي هو إزالة الفارق بين الإله والإنسان، فإما أن الإله يتجسد بشرا أو في شيء من المخلوقات، أو أن الإنسان يكون إلها أو شبه إله أو إرادة إلهية، أو أن يزيح الإنسان الإله من موقع المركز ليضع نفسه إلها يستخلص من الوجود التصورات العامة والفلسفات المنبثقة عنه، ثم ما ينبثق عن هذه الفسلفات من نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة ومؤسسات وقوانين وتشريعات.
إلى هنا انتهى الباب الأول، وفي المقال القادم بإذن الله تعالى نضع قراءة الباب الثاني الذي هو رصد لآثار هذا التناقض في التصور على مجال السياسة بين الإسلام والفلسفة الغربية.
نشر في تركيا بوست

للقاضي عبد الجبار المعتزلي كلمة حكيمة في هذا المعنى إذ لما وصف دخول الروم في النصرانية قال: "النصارى ترومت ولم تتنصر الروم". تثبيت دلائل النبوة ص173. هذه النقطة يشرحها بإمتاع ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة، وكيف أن اكتشاف كوبرنيكس لم يكن مجرد اكتشاف علمي بل كان صدمة للعقائد المسيحية، إذ أن تحول الأرض من كونها مركز الكون التي أنزل الإله عليها ابنه ليُصلب إلى كونها مجرد كوكب عادي بين كواكب أخرى تدور حول الشمس، هذا التحول جعل كل شعر المسيحية –كما يقول جوته- يتصاعد دخانا، ولهذا اتخذت الكنيسة منه هذا الموقف العنيف. انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة 27/138، 139.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 13, 2015 10:10

October 11, 2015

لا بديل للثورات عن الهوية الإسلامية

خلق الله تعالى الناس "شعوبا وقبائل"، ثم أخبرهم بأن روابط الدنيا والعصبيات والقبليات لن تنفعهم، وإنما سينفعهم التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وأخبرهم أن كل إنسان سيُحاسب فردا (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، وأخبرهم أن كل رابطة بخلاف رابطة الدين لن تنفع يوم القيامة (فإذا نُفِخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)، وحذرهم أن تكون روابط الدنيا مقدمة عندهم على رابطة الدين (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضوها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).
فما معنى هذا؟!
معناه أن الدنيا تقوم على الروابط والعُصَب، على قوانين القبيلة والعشيرة والعائلة.. بينما الآخرة تتعامل مع المرء فردا، وحده، خاليا من كل رابطة، حينئذ ينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه!
ولذلك كانت الأمم عبر التاريخ تحكمها أقوى البيوت فيها، أقوى العشائر، وقد أفاض ابن خلدون في بيان هذا، ولم يوجد في التاريخ حكم خارج هذا النمط إلا في المدن اليونانية المستقلة الصغيرة، فأما الإمبراطوريات الكبرى فلم يوجد فيها حكمٌ خارج هذا النمط سوى الخلافة الراشدة. وما سوى هذا فالأمة تحكمها أقوى العائلات فيها ويتوارثون حكمها حتى تجري عليها السنن فتضعف عصبيتها فترثها عائلة أخرى (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
حتى في عصرنا هذا الموصوف بالديمقراطية ثمة خلاف كبير بين فلاسفته حول ما إذا كانت هذه الديمقراطية حقيقية أم مزيفة، بمعنى: هل هي فعلا حقبة جديدة تتجاوز وتطوي صفحة الحكم الملكي العائلي أم أنها قناع جديد تتنكر به الملكية بينما العائلات التي تسيطر على العالم أو تسيطر على الشعوب هي عائلات مالكة على الحقيقة ولكنها تحكم من وراء ستار ديمقراطي؟!
فلو تأمَّلْنا في عُصَب النظام العالمي والنظم الإقليمية حقيقة فسنجدها ذات روابط عائلية أيضا أو ما في حُكْمها، فعمالقة المال في العالم عائلات مثل عائلة روتشيلد وروكفلر، وتتكرر هذه الصورة في كل بلد على حدة، فثمة عائلات تسيطر على الاقتصاد أو على جوانب منه أو تحتكر تجارة بعينها أو مجالا اقتصاديا بعينه.
ونحن هنا لا نتحدث عن النظم الملكية أو الطائفية، فهذه أمرها واضح، وإنما نتحدث عن البلدان التي يحكمها نظام "ديمقراطي" ويبدو فيها أن الناس هم من يختارون حاكمهم وهم من يتحكمون في سياسات بلادهم.. وقد أفاضت الدراسات التي تنتقد "الديمقراطية" أو "الرأسمالية" في بيان أن الناس لا يختارون شيئا على الحقيقة، وإنما يدفعهم تحالف الساسة مع رجال المال إلى المشاركة في عملية خداع واسعة تجعل الخيارات أمامهم اختيارا واحدا على الحقيقة، ثم هم يختارون من يدعمه رجال المال الذين يملكون الإعلام الذي يستطيع التحكم والتلاعب بعقول الناس ومشاعرهم. ولذلك فإن كل المرشحين يعملون على كسب رجال المال إلى جانبهم لترويجهم وتمويل حملاتهم ويعدهم في المقابل أنه سيحفظ مصالحهم (على حساب الناس طبعا، إذ الناس مجرد ممثل مخدوع في هذه المسرحية) ولئن لم يفعل فإنهم قادرون على اتخاذ إجراءات تفشله وتثير له الأزمات!
لهذا يختلف الفلاسفة المحدثون حول ما إذا كانت الديمقراطية صورة جديدة من صور الملكية، وأن الملكية لم تزل النظام المستمر.
ونضيف أنه حتى لو كان النظام في أصله لا يقوم على رابطة العائلة، فإنه سرعان ما يتحول إلى نظام عائلي، فالنظام العسكري مثلا (وهو يبدأ عادة بانقلاب عسكري) سرعان ما يتحول إلى نظام عائلي من خلال المصاهرات التي تنشأ بينه وبين رجال المال، فلا يلبث الأمر بضع سنين حتى ترى شبكة ضخمة من العلاقات العائلية قد نشأت بين الرؤساء والوزراء والقضاة ورجال الأموال وأحيانا بعض الإعلاميين، ثم ليست إلا بضع سنين أخرى حتى تقتصر وظائف بعينها على العائلات وأبنائها فترى عائلات تكاد تسيطر على مؤسسة الجيش، وعائلات تكاد تسيطر على جهاز الأمن، وعائلات على جهاز القضاء.. ثم تُبنى لهم مساكن خاصة وتصير لهم نواد خاصة وتقام لهم مصايف خاصة وتبذل لهم مكافآت وبدلات خاصة، فتكون المحصلة النهائية سلطة عائلات، لا ينشأ الولاء فيما بينهم لكونهم من السلطة فحسب، بل لكونهم أيضا عائلة واحدة.. وتلك هي صورة العائلة المالكة الجديدة في عصر "الديمقراطية"!وهنا يصير الأمر عسيرا، وأكثر تعقدا وخطورة، وكلما رسخت علاقات العائلات وطال عُمْر النظام كلما كان خلعه والثورة عليه أشد كلفة وأفدح ثمنا! وتصير الشعوب بين الخياريْن الأمرَّيْن: تحمل فاتورة الفساد والتحالف السلطوي العائلي أو تحمل فاتورة الثورة!
وهنا نربط أول المقال بآخره..
إنه ليس أقوى من رابطة العائلة والنسب إلا رابطة الفكرة.. وليس من فكرة أقوى من العقيدة! وليس من عقيدة أقوى من تلك التي تربط الناس بالآخرة وتجعل أحلامهم متعلقة بالآخرة.. ففي الآخرة تزول الأنساب والروابط ولا ينفع الإنسان إلا عمله، عمله الذي يجعله خالدا في الجنة أو خالدا في النار!
وهكذا انتصر الإسلام حين جاء به قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حين رسخ الدين في نفوس الصحابة فكان عندهم أقوى وأعلى من كل رابطة، فانتصر على رابطة العصبية القبلية الجاهلية، العصبية التي تناصر نفسها في الحق وفي الباطل، وتتحالف على البطش بالضعفاء وانتهابهم واغتصاب حقوقهم.
ثم إن بلادنا العربية والإسلامية لا تستطيع أن تجد لنفسها هوية غير الإسلام، وقد فشلت محاولات اصطناع واستزراع هويات جديدة إقليمية وعرقية، فلست تجد نداء يثير هذه الجماهير أقوى وأعمق وأوسع تأثيرا من نداء الإسلام!
فهو النداء الذي يحرك الجماهير ويُخرج منها أفضل وأنضر وأنفس وأثمن ما فيها فيحملها على بذل كل غالٍ في سبيل دينها!
وهو النداء الذي يُخْرج لنا من بين تحالف السلطة والمال هذا من يريد الآخرة، كما يخرج الصالح من صلب الطالح، وكما يُخرج الله من أصلاب المكذبين من يقول لا إله إلا الله!
وهو النداء الذي يستطيع كل حاكم عربي أو مسلم أن يحفظ نفسه ويقوي سلطانه إذا اعتنقه حقا، فساعتها سيجد نفسه محمولا على أعناق الجماهير، بل سيجد نفسه متربعا في قلوبهم، يفدونه بأرواحهم ويبذلون له دماءهم!
إن معركة الأمة كلها لا تنجح إلا إذا حملت هوية الإسلام ورفعت رابطة الإسلام فوق كل رابطة.. وكل مستويات المقاومة لن تجد لها رصيدا إلا في الإسلام!
فالحاكم إذا أراد الآخرة لم يجد سوى الإسلام.. بل وإذا أراد الدنيا والمجد وذِكْر التاريخ وحفظ عرشه فلن يجد السبيل لذلك في هذه الأمة إلا إن رفع راية الإسلام، وما سوى ذلك فهو مذموم لا في الآخرة فحسب، بل في الدنيا وإن حافظ على عرشه بتنازلات يقدمها ذليلا!
وسليل الطوائف الحاكمة لن يجذبه من صف الفساد إلى صف الصلاح والإصلاح إلا الإسلام، فهو المحفز الوحيد لترك الدنيا لأن الآخرة لا أنساب فيها ولا روابط ولا وسائط.. وإنما سيأتي فردا ويُحاسب فردا، ولو أنه أساء فسيودُّ (لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه)
والمصلح الجماهيري لن يجد رصيدا يحرك هذه الأمة إلا الإسلام.
والفرد الذائب في تيار الجمهور، الغائب بين أفواج الشعب، المجهول المغمور.. لن يدفعه إلى التضحية في سبيل أمته أقوى من عقيدة تغرس فيه نعيم الجنة وثواب الشهادة.

إن أمتنا في هذه اللحظة، وكل لحظة، تحتاج إلى الإسلام.. 
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 11, 2015 09:40

October 10, 2015

في ذكرى ميلاد سيد قطب.. معركة الهوية

في مثل هذا اليوم قبل مائة وستة أعوام (9 أكتوبر 1906) وُلِد في عالمنا رجل سيكون له أبلغ الأثر في تاريخ أمته إلى ما شاء الله.. ذلك هو الشهيد سيد قطب، صاحب التفسير المشهور "في ظلال القرآن" والذي يكفي أن يُقال "الظلال" فيعرف، كما يكفي أن يقال عن سيد "صاحب الظلال".
ولقد كان الشيخ الشهيد سيد قطب من علامات الفكر الإسلامي على مستوى تقديم رؤية جديدة لمفهوم "الحاكمية" وطبيعة التصور الإسلامي وخصائصه، ليست جديدة بمعنى استحداث فكرة من المجهول بل من حيث كونها إجابة شافية لمشكلات الواقع الإسلامي. وكذلك كان الشهيد سيد قطب من علامات الحركة الإسلامية كواحد منها، عاش منذ دخلها معركة مع الاستبداد والطغيان حتى دفع روحه ثمنا لها، وتقدم إلى حبل المشنقة وهو يرفض أن يكتب اعتذارا للطاغية!
وحيث نعيش الآن ذكرى ميلاده، فقد آثرت أن أقتبس هذا المقال من كلامه، فلقد حلَّل الشهيد كون المعركة الوجودية معركة عقيدة، وكيف أن اتخاذ سبيل غير العقيدة لن يؤدي إلى الإصلاح ولا التغيير المنشود، وكتب يتخيل ويتصور: ماذا لو أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى إلى التغيير من غير طريق العقيدة ليتجنب التكاليف المهولة لهذا الطريق، فجاءت مقالته في هذا سهما صائبا وقاعدة راسخة، ما أحوجنا إليها اليوم في ظل محاولات العدو إخفاء الهوية الإسلامية وطمسها في هذا الصراع الدائر على أرضنا والذي وقوده دماؤنا، وكيف –للأسف الشديد- استجاب لذلك كثير منا حتى صار أمر إعلان الهوية والمصارحة بها ووضوح الخطاب فيها مما ينفرون منه ويعارضونه ويحسبونه شرا لهم!
قال الشهيد سيد قطب:
"لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس.. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين الذي حَكَّمَه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا.. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة..
ولو دعا يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة- على الأرجح- بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه.. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن الله- سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ أن الله- سبحانه- لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه.. إنما هو- سبحانه- يعلم أن ليس هذا هو الطريق.. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى يد طاغوت عربي..
فالطاغوت كله طاغوت!.. إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلّا أن ترتفع عليها راية: «لا إله إلا الله».. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاغوت! إن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية: «لا إله إلا الله».. «لا إله إلا الله» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله.. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وهذا هو الطريق..
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة.. قلة قليلة تملك المال والتجارة وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا! وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة، لا نقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه: «لا إله إلا الله» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها.. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن الله- سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه..
لقد كان الله- سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله لله ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير: «لا إله إلا الله»..
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستوي الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك! وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا المجتمع.. كالذي روته عائشة رضي الله عنها أن من النكاح أن يرسل الرجل امرأته لتحمل من رجل آخر، أو يجتمع الرهط على المرأة كلهم يصيبها ثم تنسب الولد لمن أحبت منهم، ثم البغايا صاحبات الرايات الحمر يصيبها الرجال ثم ينسب الولد لأقربهم له شبها.
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين.. وكان واجدا وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوسا طيبة، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير..
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها.. بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن الله- سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الطريق..
لقد كان الله- سبحانه- يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء! فلما تقررت العقيدة- بعد الجهد الشاق- وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب: «لا إله إلا الله».. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون..
تطهرت الأرض من الرومان والفرس.. لا ليتقرر فيها سلطان العرب.. ولكن ليتقرر فيها سلطان الله..
لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء..
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده؟ ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها: «لا إله إلا الله»! وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى الله وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات..
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام"انتهى كلامه رحمه الله.
نشر في مصري 24

في ظلال القرآن (سورة الأنعام) 2/1005 وما بعدها، باختصار يسير.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 10, 2015 20:17

October 8, 2015

خريطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ذكرنا في المقال السابق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو نظام انفرد به الإسلام عن سائر المناهج الفلسفية الأخرى، وأنه هو نظام حماية المجتمع الإسلامي الذي يقيه من شيوع عوامل التفسخ والانهيار، فهو يشبه جرس الإنذار الذي ينطلق في المبنى حال حدوث الخطأ، وهو يكفل تماسك الأمة واهتمام أعضائها بأمر أنفسهم وأمر غيرهم. ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب خيرية الأمة وشرطها.
وقد فاضت أقوال العلماء في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ابن حزم: "الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر فرضٌ على كُلِّ مُسلِم إن قَدِرَ بيده فبيده، وإن لم يقدر بيده فبلسانه، وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولا بُدَّ، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له"(ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى على من اختار العزلة عن الناس؛ ما دام قادرًا على الأمر والنهي، على أن الاختلاط بالناس -لا الانعزال عنهم- هو سبيل النبي r وصحابته والتابعين، وقد قَسَّم عبد الرحمن بن أبي بكر الحنبلي تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى سبع طبقات ذَمَّهم جميعًا؛ هم:
1.    من تركه إيثارًا للدنيا على الدين، واستجابة لوسوسة الشياطين، بالخشية من وقوع الشر أو انقطاع البر؛ إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.2.    من تركه خوفًا على ماله وذهاب جاهه وزوال حاله، فلا يتكلم رهبة من سقوط جاهه.3.    من تركه لما للمنصوح من أيادٍ وفضائل عليه.4.    من تركه ليحوز محبة الناس إذا رأى أن محبتهم له بسكوته أكثر.5.    من تركه ليحوز مدح الناس وثنائهم؛ مما يرى أنه قد يذهب بالأمر والنهي.6.    من تركه تكبرًا وعجبًا.7.    من تركه زهدًا وانعزالاً عن الناس.
ثم قال "فهذه الطبقات كلها مذمومة، وبعضها شر من بعض"(كما لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قلبيًّا أبدًا، بل تغيير المنكر بالقلب -وهي كراهته ورجاء زواله- هي أضعف الإيمان، وإنما يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال العجز، أو في زمان الفتنة الشديدة، أو حين يأتي آخر الزمان فتكثر الفتن(وقد ثار خلاف طويل حول مدى الخوف المعتبر الذي يُسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما معياره، وهو خلاف يسعى لضبط حدود الأمر؛ فلا يتوسع الناس في ترك الأمر والنهي بذريعة الخوف، ولا يتوسعون في الجرأة؛ حتى يؤدي بهم الأمر إلى فتنة أو فوضى أو هلكة بغير انتفاع، ومن أجمع ما اطلعنا عليه في هذا الموضوع ما كتبه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، وهذا خلاصته وضعناها في نقاط:
أولاً: حالة اليقين
1.    إذا كان إنكار المنكر لا ينفع ويجلب ضررًا فلا يجب عليه الإنكار؛ بل ربما يحرم أحيانًا.2.    إذا كان إنكار المنكر يزيله ولا يجلب ضررًا فيجب عليه الإنكار.3.    إذا كان إنكار المنكر لا يزيله؛ ولكنه لا يخاف مكروهًا، فيستحب الإنكار لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين.4.    إذا كان إنكار المنكر يزيله؛ ولكنه يعود بالضرر عليه فهو مستحب، لما له من تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين.
ثانيًا: حالة الظن
إذا غلب عليه الظن أن يصيبه مكروه، أو أنه لا تفيد حسبته؛ فالظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم:
1.    إن كان غالب ظنه أنه لا يفيد (في إزالة المنكر)؛ ولكن يحتمل أن يفيد، وهو مع ذلك لا يتوقع مكروهًا فالأظهر أنه واجب؛ إذ عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال، ونحن إنما نستثني عنه بطريق التخصيص.2.    وإن كان غالب ظنه أنه يصاب بمكروه لم يجب (عليه إزالة المنكر)، وإن غلب (على ظنه) أنه لا يصاب وَجَبَ (إنكار المنكر). 3.    ومجرد التجويز لا يُسْقِط الوجوب، فالأصل (في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعًا.
ثالثًا: معايير قياس الضرر
1.    فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة. قلنا: التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج، وعلى الجبان والجريء دفع الجبن والتهور عنهما بالعلم وبالاجتهاد في اكتساب الشجاعة والاتزان.2.    فإن قيل: فالمكروه المتوقع ما حده؟! فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة وقد يكره، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى. قلنا: مطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: العلم والصحة والمال والجاه، ويكره في هذه الأربعة أمران: زوال ما هو حاصل موجود، وامتناع ما هو منتظر مفقود.-       فأما امتناع ما هو منتظر مفقود، وهذا ينبغي ألا يكون مُرَخِّصًا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.-       وأما زوال ما هو حاصل موجود: فالعلم لا سبيل إلى سلبه وهذا من شرف العلم، وأما الصحة (التي تذهب بالضرب المؤلم أو القطع أو القتل)، والثروة (التي تذهب بنهب البيت أو هلاك المال الكثير)، والجاه (الذي يذهب بالإهانة والتعيير الشديد)، فلا يجب الإنكار في هذه الأحوال؛ وإن كان يُستحب له ذلك؛ إذ لا بأس أن يفدي دينه بدنياه.
ولو تُرِكَت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمة وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفك الحسبة عنه، وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة، وعظم الخطر في السكوت عنها، فلا يقابله إلا ما عظم في الدين خطره والمال والنفس والمروءة قد ظهر في الشرع خطرها، فأما مزايا الجاه والحشمة ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له(ولم يكن الغرض من هذا النقل ضبط المسألة، وإنما إثبات معنى المسئولية الشاملة التي يقوم بها المسلم، ولا تسقط عنه إلا في حالات قاهرة نادرة، تجاه المنكرات، ومتى يمكن أن يُعذر إن لم يقم بها، وقد رأينا عمومها وشموليتها بما لا يُعرف في فلسفة أخرى على الإطلاق، وبما يجعل المسلم متحملا لمسؤولية عظمى جديرة أن تغير نظرته إلى نفسه وحياته ومهمته وغاياته.
نشر في ساسة بوست

([1])ابن حزم: المحلى 8/423. ([2])القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/48. ([3])ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص15. ([4])ابن تيمية: جامع المسائل 5/237. ([5])ابن عابدين: حاشية ابن عابدين على الحصفكي (رد المحتار على الدر المختار) 5/106. ([6])ابن داود الحنبلي: الكنز الأكبر ص282، 283. ([7])ومما يلاحظ هنا أنه قد وُجِد في كل زمان من رأى زمانه آخرَ الزمان، ورأى فيه اشتداد الفتن وأفتى لنفسه أو لغيره بالاعتزال وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم جاءت أزمنة بعده بما هو أشد بكثير مما كان في زمانه، فوجدت أقوامًا آخرين يرونها أزمان الفتن.. وهكذا، ونحسب أن هذا مما ينبغي ألا يؤخذ فيه بقول الفرد، وإنما يفتي به جماعة من العلماء في المجامع الفقهية أو نحو ذلك، فكم جرَّ هذا التصور على الأمة من البلاء؛ إذ الفساد ينتشر وبعض الصالحين يفتون أنفسهم بالعزلة والانعزال. ([8])خالد السبت: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص108 وما بعدها. ([9])الغزالي: إحياء علوم الدين 2/319 وما بعدها باختصار.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 08, 2015 04:22

October 6, 2015

الخطأ التاريخي للدولة العثمانية

من كان عربيا ولبث في تركيا شيئا من الزمن عرف إلى أي مدى كان ترك الدولة العثمانية للسان العربي خطأ تاريخيا فادحا، وقد ترتبت عليه آثار بعيدة ليس يمكن تلافيها في المدى القريب ولا المتوسط، بل ولعل من الآثار ما لا يمكن تلافيه بحال!
إن للأتراك عاطفة حارة، مع صلابة وبأس واستمساك شديد، وتكاد الحسرة تأكل القلوب حين تجد حاجز اللغة الرهيب هذا يفصل بينهم وبين العرب، فقليل من الترك من يفهمون العربية وأقل منهم من العرب من يفهم التركية، وهكذا يعيش الشعبان في فهم بعضهما والتعامل على الترجمات والمترجمين، وهو أمر يشبه حاجزا ضخما بين بحرين كبيرين لكنها لا يلتقيان إلا عبر قنوات معدودة وضيقة، فاجتماع القوتين ممتنع!
وحاجز اللغة هذا ليس مجرد حاجز تواصل، بل هو على الحقيقة حاجز حضاري ضخم يمنع كلا الشعبين من الاستفادة من أفكار الآخر وعلومه والاطلاع على تجديداته وآثاره في سائر ميادين الحياة.. ولقد كانت القسمة العربية التركية ركنا ركينا في سقوط الدولة العثمانية.
وقد أثار هذا الأمر انتباه العديد من المصلحين منذ لاحت في الآفاق ضعف الخلافة العثمانية وبوادر انهيارها، فلقد سجل جمال الدين الأفغاني في خاطراته كيف دخل عليه ذات يوم أديب تركي وهو يحمل كتابا فيه مذكرات ضياء باشا يقول فيها:
"توغلنا في الفتوحات حتى توسطنا كبد أوروبا ودخلنا فيينا واضطررنا للتخلي عنها وليس لنا ثمة أدنى أثر أدبي أو مادي، وهكذا بالاستدلال سيكون حالنا في بقية تركية أوروبا مثل بلغاريا والفلاخ والبغدان والصرب والجبل الأسود وغيره من البلدان... أما العرب ففي كل ما فتحوه من البلاد، حربا كان أم صلحا، قد تركوا من الآثار الأدبية والمادية، ما لا يقوى على ملاشاته الأدهار... والأغرب أن التركي والجركسي والأرناؤوطي وغيرهم من العناصر يستعرب متى وجد أو سكن في بلاد العرب بأقرب الأوقات، ويمتزج في المجموع حتى تخال أنه عربي قح، وأما في حكمنا فلم نستطع أن نستترك أدنى فئة ممن حكمناهم من الأمم بكمال العدل الإسلامي والسماح التركي ولين الجانب"
فعَلَّق جمال الدين الأفغاني على هذه الظاهرة بقوله: "إن المرحوم ضياء باشا أشكل عليه الأمر لما اعتقد أن الأتراك قد شابهوا العرب تماما بمعنى أنهم دخلوا في دين الإسلام، وجَرَوْا على سننهم بالفتوحات من حيث العدل ولين الجانب! ولكن قد فاته أن لكل دين لسانا –لغة- ولسان دين الإسلام "العربي". ولكل لسان آداب ومن هذه الآداب تحصل ملكة الأخلاق وعلى حفظها تتكون العصبية. فالأتراك أهملوا أمرا عظيما وحكمة نافعة قالها السلطان محمد الفاتح –رحمة الله عليه- وأحبَّ أن يعمل بها السلطان سليم وهي قبول اللسان العربي، لسان الدولة وتعميمه بين من دان بالإسلام من الأعاجم ليفقهوا أحكامه ويمشوا على سنن الارتقاء بعلومه وآدابه ومكارم أخلاقه ومحاسن عوائد أهله. فالعرب ما نجحوا بفتوحاتهم بشكل الدين الظاهري فقط بل بفهم أحكامه والعمل بآدابه وذلك تمَّ ولا يتمّ إلا باللسان وهو أهم الأركان" وطفق الأفغاني يفسر فتوحات العثمانيين الأولى بتقديم السلاطين العثمانيين الأوائل للعلماء العربيجدر التنبيه هنا إلى أن نؤكد أن الأمر ليس عنصريا ولا عرقيا بحال، بل إن العربية –في المفهوم الإسلامية- هي عروبة اللسان، فمن نطق بالعربية فهو عربي، وفي الحديث "إنما العربية اللسان" وهو وإن ضعفه العلماء إلا أن معناه –كما قال ابن تيمية- "ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه"لقد كان طبيعيا إذ لم تتعرب أن يتسارع فيها وتيرة التراجع العلمي، فلقد عمل الحاجز اللغوي على تضييق قنوات الاتصال العلمية بين الأتراك وبين العرب والتراث العربي، ومن ثَمَّ لم يكن سهلا إصلاح الحال إذ امتنع على الأتراك قراءة تراث ضخم بالعربية كما امتنع على العرب وعلماء المسلمين معرفة وفهم الأحوال على وجهها الصحيح لدى الترك، وكان بالإمكان إذا تعربت الدولة وسقط حاجز اللغة أن يكثر المجتهدون عربا وتركا فيتمكنون من إنهاض الحركة العقلية التجديدية في علوم الدين والدنيا، إذ تستطيع كثرتهم أن تستوعب تطورات الحياة وما يدخل إليها من طوفان الجديد في كل يوم.
وهذا المعنى انتبه له وصاغه ببراعة أستاذنا القدير جلال كشك رحمه الله حين قال:
"صحيح أن مدفعية الأتراك قد أبعدت سفن الفرنجة عن الشواطئ العربية.. غير أن الأمم لا تقوم على المدافع وحدها.. ولسوء حظنا كانت النهضة الحديثة لا تقوم على التفوق العسكري من خلال الأسلحة التقليدية وحدها.. بل تقوم على التطور الصناعي والعلمي الذي يضيف كل يوم سلاحا جديدا ومدفعا من عيار أقوى وأبعد مرمى.. والقوة العسكرية ما لم تصاحبها نهضة على جميع مستويات الأمة، سرعان ما تنقلب وبالا على الأمة ذاتها" وبرغم ما أنجزته القوة العسكرية العثمانية من تغييرات تاريخية فارثة إلا أنها "لم تجد حضارة خلفها تسندها وتطورها وتجدد دماءها"، "ولم يكن أمام الأتراك من سبيل للتطور الحضاري إلا تبني الحضارة العربية وتطويرها ولكنهم أضاعوا فرصتهم الوحيدة في التاريخ برفضهم اتخاذ اللسان العربي ومن ثم الفِكْر العربي.. وقد حاول السلطان سليم أن يجعل اللغة العربية لغة رسمية وكان هو مثقفا عربيا ويتقن اللغة العربية ويمارس لونا من الشعر العربي"لقد كانت الدولة العثمانية –كما يقول محمد قطب- "أول خلافة ذات لسان غير عربي، ولم يستعرب. واللسان العربي أمر له أهميته في فهم كتاب الله وفقهه. وقد كان عدم استعراب هذا اللسان مُعَوِّقا عن التفقه في هذا الدين رغم الحماسة الظاهرة له"ولقد ظل محمد رشيد رضا الذي يصحّ أن نسميه آخر المصلحين العظماء في عصر الدولة العثمانية، ظل يناصح الخليفة عبد الحميد –والدولة العثمانية في النزع الأخير- أن ينقذ الانهيار بأن "يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ويجتهد في استعراب الترك أجمعين، ويؤلف منهم ومن عرب العراق ونجد والحجاز قوة عسكرية منتظمة ويقيم الشرع، فإذا هو فعل ذلك يكون له مُلْك عظيم وعز منيع، ويأمن غائلة الخارجين بدعوى الخلافة"وذهب يستفيض عبر مقالات مجلة المنار في الأمر، ويشرح كيف أن التعرب ينقذ الدولة ويصنع لها نفوذا بعيدا ويقطع الطريق على محاولات القوميات وتشوق البعض لقسمة الدولة بالدعوة إلى "خلافة عربية"، فيقول: "إن غوائل اختلاف اللغة في الدولة لا تنكر، وإن فوائد توحيدها ووحدة الأمة بها لا تجهل، وإن رجحان العربية في الدين والعلم والسياسة لَهو أوضح وأظهر، فإنها هي التي تتوفر الدواعي على تعميمها؛ لأن الناطقين بها أكثر من الناطقين بغيرها، وإرجاعُ القليل إلى الكثير أسهل من عكسه؛ ولأن للترك والكرد والألبان باعثًا نفسيًا يبعثهم على تعلمها؛ وهو الحاجة إلى فهم كلام ربهم - عز وجل - وحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وحكم سلفهم الصالح - رضي الله عنهم - وكتب أئمتهم في التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الدين - رحمهم الله - والوقوف على تاريخ دينهم. ومن الجهل أن يقال: إنهم يستغنون عن ذلك كله بالترجمة لما سنبينه في فرصة أخرى، ولأن جعلها اللغة الرسمية هو الذي يزيل خطر تفرق الأجناس، فإذا اتفق عليها المسلمون الذين يشاركون فيها غيرهم من الملل في البلاد العربية، لا يبقى للروم والأرمن سبيل لطلب تعليم لغتهم في مدارس الدولة، ولا يكون لتعليمهم لها في مدارسهم خاصة تأثير في إضعاف الوحدة؛ ولأنها لغة حضارة سابقة وعلوم وفنون؛ ولأنها اللغة المشتركة بين جميع المسلمين ولأنه يمكن أن توسع دائرة نفوذ الدولة بنشرها في الممالك الشرقية التي يكثر فيها المسلمون: (الصين وجاوه والهند) من غير نفقة توازي عشر معشار ما تنفقه الأمم الغربية لنشر لغاتها، وتوسيع دائرة نفوذها وتجارتها في الشرق؛ ولأن الدولة تأمن بذلك من قيام دولة عربية تدعي الخلافة وتنازعها النفوذ في العالم الإسلامي بنفسها وبمساعدة بعض دول أوربا؛ ولأن في ذلك تحقيقًا لمقصد من مقاصد الإسلام العالية وهو محو العصبيات الجنسية وتوسيع دائرة الأخوة الإنسانية"ثم صار يقترح حلولا بديلة لتعايش اللغتين التركية والعربية إن لم يكن تعميم العربية ممكنا، لكن نداءات رشيد رضا ذهبت أدراج الرياح، وتبعته الدولة العثمانية جميعا، وجاءت دولة علمانية شنيعة زادت في المأساة مأساة فمنعت الكتابة بالحرف العربي فأضيف بهذا حاجز ضخم بين الترك وتاريخهم وتراثهم، ومعه أضيف حاجز أضخم وأكبر بين العرب والترك، وهو حاجز لا يزال يزيدهم رهقا!
نشر في تركيا بوست

جمال الدين الأفغاني: الآثار الكاملة (الخاطرات) 6/90. ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/461. جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص177. محمد قطب: كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص181. محمد قطب: واقعنا المعاصر ص141، 142. محمد رشيد رضا: الدولة العلية ومكدونية، ورأي في الإصلاح، مجلة المنار، 6/433. محمد رشيد رضا: الجنسيات العثمانية واللغتين العربية والتركية، مجلة المنار، 21/501 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 06, 2015 06:29

October 4, 2015

دعم المقاومة أو تسليم العروش

كان الغرض من سلسلة "خلايا القرامطة النائمة في الخليج" والتي سردناها على خمسة أجزاء (ج1، ج2، ج3، ج4، ج5) أن نستذكر منها عددا من الدروس لواقعنا المعاصر الذي استيقظت فيه خلايا القرامطة الجدد، وقد صارت لهم دولة فتية ذات مشروع نووي، أحاطت ببلاد الجزيرة شمالا وشرقا وجنوبا ولا تُخفي أنها تستهدف قلبها: الحرمين الشريفين.
(1)درس استنبات الهوية
لقد سلك قرامطة الأمس طريقا إلى إلحادهم وفجورهم من مدخل التشيع، حب آل البيت ونصرتهم والحزن على ما نزل بهم، ومن هذا الباب فتحوا لأنفسهم قلوب الناس الذين يأمرهم دينهم بحب آل البيت، فلما أن استكثروا من الأنصار واستحكمت هيمنتهم على القلوب لم يكن أتباعهم إلا كالعميان المُساقين، وهم هم ذات الأتباع الذين يقتلون آل البيت وينتهكون حرمة نسائهم!
إن التجربة الإيرانية المعاصرة في مقابل التجربة العربية العلمانية المعاصرة تثبت لنا أن هذه الأمة لا مدخل لها سوى الإسلام، وإن محاولة استنبات هوية أخرى هي محاولة فاشلة محكوم عليها بالبوار. وانظر كيف استطاعت إيران أن تثير التشيع وتدخل إلى الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية من باب آل البيت وحبهم والنصرة لهم، ثم لم تبخل في هذا الباب بالأموال ولا بالدعاة حتى صنعت لنفسها نفوذا واسعا وعميقا في البلاد العربية، وصل بها الحال إلى أن تحتوي تحت عباءتها أربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
بينما باءت كل المحاولات العلمانية العربية في سحب الأمة من دينها، رغم أن حجم الأموال المبذولة والآلة الإعلامية الجبارة وطول الزمن أضخم بكثير –وبما لا يُقارن- بعمر التجربة الإيرانية وإمكانياتها، ولذلك لم يصنع واحد من حكام العرب برغم طول أعمارهم في الحكم من صناعة نفوذ له يمكن أن يقارن بنفوذ الخميني أو الخامنئي.
إن محاربة هوية الأمة والاصطدام بها إنما هي محاولة فاشلة، وغاية ما صنعته أن انفصلت النخبة في البلاد العربية عن الشعوب وما إن تلوح في الأفق انتخابات شبه نزيهة أو ثورة شعبية أو حركة تغيير إلا وتختار الشعوبُ الإسلاميين: ممثلي هويتها.
بينما يمكن النفوذ إلى هذه الشعوب إذا أُحسن الدخول لها من مدخل إسلامي، وإن لم تكن الأغراض إلا أغراض الاحتلال والهيمنة والنفوذ.
وهنا تطل الحسرة برأسها مع السؤال القديم المقيم: وماذا على الحكام العرب لو التصقوا بأمتهم وهويتها، فدافعوا عنها وحافظوا عليها، فارتفعوا بها واحتموا بها، وكان لهم من البطولة في الدنيا ومن المجد في صحائف التاريخ ومن الثواب في الآخرة (إن أخلصوا) ما لا يحوزون شيئا منه إذ التصقوا بعدو الأمة وكانوا ذراعا له في مصادمة هوية الأمة وإخراجها من دينها؟!!
إن أصحاب الأقلية المذهبية، الذين منذ نشأت دولتهم وهي في حرب أو حصار، قد استطاعوا صناعة مجال من النفوذ والهيمنة حتى صاروا قوة إقليمية مثيرة للمخاوف وقادرة على التأثير في موازين المنطقة.. فكيف لو بذل حكام أهل السنة مثل ما بذلوا، وهم ذوي الأموال الغزيرة –بما أنعم الله عليهم- والنفوذ الروحي الواسع –لا سيما بلاد الحرمين- شيئا في هذا السبيل؟!
(2)اليمن.. الثمرة الناضجة منذ زمن
إن المأساة الجلية أن إيران لم تجد نبتة متشيعة إلا ودعمتها بالأموال، حتى إن كثيرا من تجار الأموال اتخذوا التشيع حرفة في عدد من المناطق جذبا للمال الإيراني وقد نجحوا.. بينما لم يجد حكام العرب نبتة سنية إلا وصبوا عليها جام غضبهم واستعملوا كل ما في نفوذهم لخلعها واستئصالها ودفنها!! بل كلما ازدادت هذه النبتة قوة وبدا أنها عصية على الاستئصال كلما ازدادوا في حربهم عليها وإنفاق الأموال والنفوذ لإنهائها، ويمكن ضرب المثل بحركة حماس كمثال شديد الوضوح في هذا الباب.
وأوضح منه نموذج الثورة المصرية التي جاءت بمحمد مرسي رئيسا، وما كان مثله محتاجا إلى العون ثم ما كان مثله ليدافع عن مصالح العرب والمسلمين انطلاقا من الدين واعتمادا على إمكانيات مصر الكبيرة، إلا أن سوء النظر والتدبير دفع إلى إسقاط مرسي والإتيان بالسيسي الذي لم يساوم فقط على الأموال، بل يساوم بالعلاقة مع إيران أيضا!
واليمن.. الثمرة الناضجة منذ زمن! فقد انتظرت أمدا طويلا حتى قطفها الإيرانيون! إذ لم يكن خيرٌ لحكام العرب –لا سيما الخليج- من دعم ثورة اليمن وقطع الطريق على النفوذ الإيراني الذي تسلل إليها منذ عقدين فصنع فيها الحالة الحوثية، لكن سوء النظر والتدبير دفع إلى إنشاب الحرب على ثورة اليمن حتى إخضاعها وإفشالها على طريقة المبادرة الخليجية، وإسباغ الحماية على مخلوع اليمن ونظامه الذي تسللت إيران في عقر داره، بل بلغ الأمر إلى أن تدعم دول الخليج الحوثيين بعدما ساقهم سوء النظر والتدبير إلى أن الإخوان المسلمين أخطر منهم!!! ثم التف مخلوع اليمن عليهم وتحالف مع الحوثيين حتى جاءهم بإيران من الجنوب من بعد ما سيطرت إيران على الشمال وتكاد أن تهيمن على الشرق أيضا.
ليس اليمن كغيره من البلاد، إن موقعه الجغرافي شديد الخطورة، بتحكمه في مضيق باب المندب، وفي تواصله مع القرن الإفريقي وهو مساحة نفوذ مفتوحة وحرجة وثمرة أخرى تنتظر من يسبق إليها ويبسط هيمنته عليها، وأهل اليمن وحدهم يساوون تعداد الخليجيين معا، ثم طبيعته الجبلية الوعرة، كذلك طبيعته القبلية العريقة، واحتياجه ليد العون ماليا وعلميا وسياسيا.. لقد كان اليمن ثمرة تنتظر من يسبق إليها، وما كان أقرب إليه من دول الخليج.
لكن الذي حصل أن إيران نفذت إليهم من خلال دول الخليج، واجتذبت من أطرافه البعيدة من تَبَنَّتْه ودعمته وغيَّرت به مشهد اليمن ونفوذها فيه، ثم انقلبت مزايا اليمن تحديات تواجه دول الخليج ومن ورائهم باقي بلاد العرب.
وهكذا خسر العرب في سنتين فحسب مصر واليمن، ويا لها من خسارة لا تقدر بثمن!!
(3)
فهل فات الوقت؟
الحق أنه قد فات الكثير منه، ذلك أن خسارة لبنان –لصالح حزب الله- والعراق واليمن ومصر لهو من أشدَّ ما يمكن أن ينزل بالمصلحة العربية والإسلامية من كوارث.. إلا أنه قد بقي من الفرصة آخرها!
فإن لم يكن من قرار بدعم المقاومة في سائر هذه الأنحاء، فهو على الحقيقة قرار بتسليم العروش!
إن المقاومة هي خطوط الدفاع الأولى عن هذه العروش العربية، والخليجية تحديدا، ولن يبقى في العروش أحد بعد انهيار المقاومة إلا من يرضى بالخيانة الكاملة والعمالة التامة لمصالح عدوه، ثم هو بعد هذا رهين الرغبات: إن شاء العدو القوي أبقاه وإن شاء خلعه فقتله أو نفاه. أو هو رهين ميزان المصالح والتحالفات، فإن اختلفوا مدَّ ذلك في عمره وإن اتفقوا انتهى أجله.. وهو في كل الأحوال مرهون بما يستطيع تقديمه من خدمات وأثمان لقاء بقائه في عرشه، فإن وصل به ضعفه إلى أن صار لا يملك أن يدفع أكثر أو ظهر من منافسيه من يعرض أن يفعل أحسن منه وأكثر فقد انتهى أمره أيضا!

لقد فات الاختيار الذي تعرض له المعتمد بن عباد "رعي الإبل خير من رعي الخنازير"، فلقد كان هذا أيام الربيع العربي.. لم يعد الآن اختيارا، بل صار رجاءًا!!
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 04, 2015 12:00

October 3, 2015

معركة لم نطلبها ولم نخترها

يشبه الأمر كثيرا غزوة بدر من هذه الجهة، خرج المسلمون يريدون العير فأفلت العير منهم، ليس هذا فحسب، بل وجدوا أنفسهم أمام الجيش.. وبعد أن انتهت المعركة أنزل الله عليهم قرآنا يخبرهم أن الخير كان في ملاقاة الجيش لا في أخذ العير، فبذلك كان إحقاق الحق وإبطال الباطل.. وأخبرهم الله تعالى بأنه لو كان لهم الاختيار لما اختاروا المواجهة، ولكن الله أعلم بما ينفعهم ويُصلحهم فاختار لهم ما هو خير لهم.
إذا راجعنا تاريخ الثورة وجدنا أن الإسلاميين فعلوا كل ما بوسعهم لكي يحصلوا منها على مجرد حرية الوجود، لم يتمنوا سلطة ولم يفكروا في المنافسة عليها، وظلموا أنفسهم فوافقوا على أن هذه الثورة ليست إسلامية (بينما لم ينجح اعتصام التحرير ولم يفشل اقتحامه إلا بالإسلاميين، ومن كانوا يبيتون في الميدان وحدهم يعلمون أن الإسلاميين لو انسحبوا من الميادين لانتهى الأمر) وأنهم مجرد جزء منها كغيره من المكونات، ثم تركوا العلمانيين يتحدثون باسم الثورة كي لا يظهر حقيقتها الإسلامية، وأعلنوا من قبل سقوط مبارك أنهم لن ينافسوا على أغلبية البرلمان ولن يترشحوا للرئاسة.
إلا أن فجور العلمانيين وفجور النظام العسكري دفعهم دفعا للمواجهة، لقد أصرَّ العلمانيون على أن يكون الانتخاب بنظام القوائم بغرض تحجيم الإسلاميين، فاضطر الإسلاميون للنزول في قوائم تملأ المجلس ففازوا بالأغلبية الساحقة، وكان أكثر المنتفعين من نظام القوائم: السلفيون لا العلمانيون (وهذا برغم أن الإخوان حاولوا صياغة قوائم مع العلمانيين نجح فيها العلمانيون المتحالفون معهم). ثم أصرَّ العسكر ألا يكون للبرلمان أي صلاحيات لا في تشكيل الحكومة ولا حتى في سحب الثقة منها وصارحوهم بأن الوزارات السيادية العشرة سيشكلها العسكر وبإمكانهم أن "يلعبوا" في باقي الوزارات، ودفعوا برجالهم: عمر سليمان وأحمد شفيق وعمرو موسى لانتخابات الرئاسة، مما جعل الخيار الحقيقي أمام الإخوان: القصر أو القبر، فاختاروا القصر وترشحوا للرئاسة، وآلت الأمور إلى فوز مرسي.
في الخارج اختار البيت الأبيض والخارجية الأمريكية (خلافا لوزراة الدفاع وتيار الكونجرس) أن يسمحوا بفوز الإسلاميين بغرض تدجينهم أو إفشالهم، وانتصر رأيهم، وسُمِح بفوز مرسين فلم يحدث الانقلاب على النمط الجزائري، ثم بدا للجميع أن استمرار مرسي يعني تغيرا في المشهد الإقليمي، ثم لم يستطيعوا الضغط على مرسي الذي اتضح أنه ليس كالغنوشي فكان الحل في انقلاب عسكري واضح وصريح.
وكان من آثار عملية الخداع الكبير التي تعرض لها قادة الإخوان من قبل السيسي أن أنزلوا شبابهم وجمهورهم إلى الشوارع قبل موعد الانقلاب بأكثر من عشرة أيام، في اعتصام رابعة، وبهذا الاعتصام الجماهيري أفلت قرار الانسحاب من يد القيادات لأن الجماهير الغاضبة لم تكن لتقبل ذلك. صحيح أن وجود القيادات المخدوعة شلَّ حركة الجماهير عن تغيير المعادلة لكن وجود الجماهير أيضا شلَّ قدرة القيادات على اتخاذ قرار الاستسلام.
وهكذا، وصل الإسلاميون في مصر إلى الرئاسة وإلى الحكومة ثم إلى مقاومة الانقلاب وهم مُجْبَرون مدفوعون بغير رغبتهم، صاروا أغلبية البرلمان من بعد أن أرادوا مجرد وجود آمن، وصاروا في الرئاسة من بعد ما فلسفوا للرئيس التوافقي وانتفاء إمكانية الرئيس الإسلامي، ثم صاروا في مواجهة الانقلاب العسكري بعد أن أغلق الانقلاب عليهم كل سبيل ورفض كل حل وسط وأسرف في الدماء والتعذيب والقتل فَسَدَّ على الجميع طرق الرجوع، فلم يعد من خيار إلا: الاستسلام التام أو الموت الزؤام!
إن الناظر من بعيد يرى أن الانقسام الحاصل في جماعة الإخوان لم يحدث بشكل حقيقي إلا بعد أن ظهرت أنياب المجموعات الثورية في 25 يناير 2015، وهي الأنياب التي لو كانت قد ظهرت في يوم الانقلاب لسقط بعد أيام، وهي الأنياب التي أعادت الملف المصري إلى حديث الساسة في الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وانتبهوا حينها إلى "طرفيْن" يطالبونهما بضبط النفس، وهدَّد محمد إبراهيم –وزير الداخلية حينها- بتصفية المعتقلين في السجون إن لم تنتهِ هذه الموجة، وغير ذلك كثير تناقلته أروقة الساسة واتصالاتهم.
ساعتئذ خرجت قيادات من كهوفها التي دخلتها منذ يوم فض الاعتصام لتثير الإرباك في الصف من جديد، ويبدو أن الارتباك أحدث ثمراته فمرَّت ذكرى الانقلاب وذكرى الفض بغير شيء يُذْكَر، مع تعامل أمني عنيف استهدف تصفية كل من توصل إلى علاقة له بعمليات المقاومة.
المعضلة التي تثير الأزمة أن قيادات السلمية لا يستطيعون الحصول على شيء، أفضل وألين لهجات معسكر الانقلاب هي الاستسلام التام أولا ثم النظر في ملف المعتقلين والأحكام الصادرة عليهم مع نسيان العودة إلى الحياة السياسية.. وإذا كان هذا هو أحسن ما يُخاطَبون به فلك أن تتصور كيف هي لهجة باقي الرسائل! هذا وكل ما يصل من رسائل يأتي من مستويات دنيا ووسيطة لا تُلزم صانعي السياسة بأي شيء!
وهكذا صارت الثورة –عمليا- إسلامية خالصة، بعدما فشلت كل محاولات إلباس إسلامية الثورة قناعات التوافق وهوية اللاهوية، فجوهر الثورة منذ البداية إسلامي، وكل إفرازاتها الشعبية إسلامية (برلمان، رئيس) ثم لم يبق يدافع عنها في الشوارع إلا إسلاميون.. ولم يكن فيها من مؤدلجين بغير الإسلامية إلا عدد ضئيل لا يؤثر في شيء مهما تضخم تليفزيونيا!
والآن لم يترك النظام العسكري للإسلاميين من خيار إلا المقاومة، وصارت الحركة الإسلامية في مصر، ربما لأول مرة في تاريخها، مفروضٌ عليها معركة لا تملك إزاءها إلا إعلان الاستسلام والفشل أو اختيار المواجهة في بيئة شديدة الصعوبة محليا وإقليميا ودوليا.
تتمثل الصعوبات في الضربة الأمنية القاسية التي تلقتها الحركة الإسلامية وفصيلها الأكبر "الإخوان المسلمون" الذين كانوا يتعاملون طوال عصر مبارك على أنهم حزب علني لا جماعة سرية، فكانوا على الحقيقة جماعة مكشوفة للجهاز الأمني مما سهل عليه تنفيذ هذه الضربة الواسعة الكبيرة. ثم ميزان القوى المنهار لصالح النظام، ثم هذا النظام مدعوم إقليميا ودوليا، وجهازه الأمني يتحرك بإشراف ومساعدة إقليمية ودولية. ثم عشرات الآلاف من المعتقلين الذين هم أسرى بيد النظام وورقة دائمة يلوح بتصفيتهم في كل حين. ثم شبح التجارب السابقة الفاشلة في مواجهة الأنظمة، وأبرزها تجارب مصر والجزائر وسوريا. ثم الصعوبة والتركيبة النفسية لجماعة عاشت أمدا طويلا على الحركة الدعوية السلمية الملتزمة بخطوط النظام والمتجنبة للمواجهة، وحتى من تخلصوا من هذا العبء النفسي سيبدأون من الصفر بخبرات وإمكانيات محدودة في مواجهة نظام متغول عريق في التعامل مع الإسلاميين فضلا عما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي.
لكن هذه البيئة تحفل كذلك بالفرص، فالساحة الإقليمية مشتعلة ومتأزمة في أكثر من منطقة: فلسطين وليبيا وسوريا والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان، وبوادر تتحرك في الجزائر، ويلقي هذا كله بتأثيراته على السعودية والخليج والمغرب وتركيا وإيران وإسرائيل وباكستان.. ومثل هذه البيئة السائلة المتعددة الأطراف والاتجاهات والمتضاربة المصالح والمتشابكة الأهداف هي بيئة مثالية للطرف المغلوب المقهور ليكون فيها رقما في المعادلة.. فالاستسلام هو حكم على النفس بالفناء، بينما المقاومة هي ثمن الوجود بل وهي الضمانة الوحيدة للبقاء، فكيف والطرف المقهور يعاني أصلا لمجرد البقاء؟! إنه لا طريق آخر ولا خيار على الحقيقة.
ثم إن شبح التجارب الفاشلة يظل شبحا لمن لا يريد أن يعمل، فليس من عملٍ في الدنيا إلا وهو مظنَّة النجاح أو الفشل، وقد قال الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال .. يعش أبد الدهر بين الحُفَر
وقد بذلت الحركة الإسلامية كافة الطرق لكي تتجنب المواجهة ففشلت أيضا، وهي الآن في معركة بقاء، لذا فإن التجارب الفاشلة يمكن أن تكون شبحا ويمكن أيضا أن تكون رصيدا وخبرة متراكمة، فهي تحتاج إلى دراسة تستفيد من مواطن الخلل. ثم لا ننسى معها التجارب الناجحة التي تحتاج كذلك إلى دراسة تستفيد من عوامل النجاح.
كذلك فإن تواصل المسلمين عبر الانترنت وانتقال المعلومات بينهم بلا حواجز هو فرصة كانت مفقودة في كل التجارب السابقة، وهي فرصة ثمينة يمكنها أن تغير كل المعادلة، لا يتصور المرء مدى ما يفعله التقاء مهندسين أو كيميائيين أو عسكريين سابقين أو غير ذلك من المواهب فيستطيعون إنتاج أفكار ووسائل إبداعية في المقاومة لم يكن ممكنا أن يحدث مثلها في التجارب السابقة.
ثم إن الزمن في هذه اللحظة هو في صالح الضعفاء، إن الأمة اليوم تعيش واحدة من أمجد لحظاتها في مدافعة الاستبداد (الذي هو قناع الاحتلال)، وإن تفويت هذه اللحظة لا يعني سوى مزيد من رسوخ هذه الأنظمة ورسوخ الاحتلال ثم هو يعني مزيدا من كلفة التحرر منها في اللحظة القادمة التي لن تأتي قبل أربعين سنة على الأقل، فالجيل الواحد لا يقوم بثورتين، وزمن الجيل هو أربعون سنة كما قرر القرآن الكريم في حديثه عن بني إسرائيل.. مع ما في هذه الأربعين من رسوخ الكفر والإلحاد والإباحية والانحلال والفساد بفعل سطوة ثقافة الغالب وعلو رموز الباطل.. وسيسقط فيها من الأرواح أضعاف أضعاف ما يسقط في لحظة الثورة بل وفي لحظة الحروب.
إن لحركات المقاومة والتحرر رصيد كبير من الكتابات والتجارب التي تحتاج النظر فيها ودراستها بعناية للتأسيس لمقاومة حقيقية ضد الهيمنة الغربية، فلسنا نبدأ من الصفر، ولنا في تاريخنا من دروس الثورات ما يثبت لنا أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة لإفشالهم، وواهمٌ من يحسب أن التحرر يكون سهلا ميسورا.
وينبغي أن نعلم أن تكاليف الصراعات الحضارية كبيرة، وانظر كم فقد الغرب من أرواح ليحقق نهضته، ثم كم فقد من أرواح ليحتل بلادنا ويسيطر عليها، حتى اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة بذلوا الدماء الغزيرة في كل الساحات والأموال الغزيرة على كل الموائد لتقوم دولتهم على جثثنا.
ولئن قامت الحركة الإسلامية بدراسة إمكانياتها والتجارب السابقة ثم انتهت إلى العجز عن المواجهة في هذه اللحظة فلا بأس بذلك، لا بأس أن يعلن الإخوان حل جماعتهم في مصر، ويعلن باقي الإسلاميين هدنة طويلة.. إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، شريطة أن تكون هذه اللحظة هي لحظة "الإعداد"، فكما قال الفقهاء: لئن سقط واجب الجهاد فليس يسقط واجب الإعداد. (وللإعداد سنن أيضا) وحينئذ فلتوجه هذه الطاقات التي لا تستطيع شيئا في مصر لتكون في ساحة أخرى من ساحات الأمة. إنما البأس كل البأس في تزييف الوعي وخداع النفس.
لكن ينبغي أن يُعلم حينئذ أن الاستسلام لن يُخرج المعتقلين ولن يمنع الإعدامات ولن يغير من الحرب على الإسلام في مصر، فالحرب قائمة لا لإخراج الإسلاميين من ساحة السياسة بل لإخراج المسلمين من دينهم (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. وإنما ساعتها سنراهن على "تفكير العدو وأخلاقه" ونتمنى أن يكون معنا أحسن عقلا وأرفق سياسة وأفضل أخلاقا فيعفو عن الإعدامات ويفرج عن المساجين ويسمح لنا بالحياة.
نشر في مصري 24

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 03, 2015 12:32

October 1, 2015

نظام حماية المجتمع المسلم


كيف بنى الإسلام هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف يمكن أن نعيد بعث هذه الأمة مرة أخرى؟ ومن المسؤول عن القيام بهذا التغيير؟
سعيا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسؤول عن التغيير؟
ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، فوجدناه يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسؤولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.
1.    فالأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته في الحياة: مهمة الاستخلاف في الأرض، التي تعني عمرانها ومقاومة الإفساد فيها.
2.    والمسؤولية الفردية تكشف لنا كيف بنى الإسلام شخصية المسلم ليقوم بمهمته، فألزمه أن يكون مسؤولا، مستقل الشخصية ليس بإمَّعة، ذا أخلاق رفيعة، مستوعبا ومستدركا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.
3.    والنظام العام هو الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، كما يحدد طبيعة المجتمع وأبرزها تماسكه وتكتله بروابط: الدين والرحم والجوار، ثم ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع.
وبقي أن نتحدث هذا العنصر الرابع، وهو أشبه ما يكون بجهاز الرقابة والحماية العامة، أي جهاز الإنذار، فبعد أن صحَّ الفرد في ذاته، وصحَّ البناء في "نظامه العام"، لم يبق إلا أن يوضع نظام حماية ينتشر في كافة أرجائه، فما إن يحدث خطأ أو خلل أو خطر في ناحية منه إلا وانبعث صداه، ليأتيه المدد والغوث والتصحيح والتقويم.. فذلك هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ففيه يقوم المسلم بواجب التصحيح لكل خطأ في كل مكونات ذلك البناء؛ سواء ارتبط معه برابطة مباشرة أم لا، وسواء كان قريبًا منه أم بعيدًا، وسواء كان الخلل في فرد آخر أم في جماعة أخرى.. ذلك هو التطبيق العملي للمسئولية الشاملة التي يستشعرها كل أحد تجاه كل أحد.
ولقد تميزت الأمة الإسلامية بنظام الحماية العامة هذا(قال الأصفهاني: "المعروف: اسم لكل فعل يُعْرَف بالعقل أو الشرع حَسَّنَه، والمنكر: ما يُنْكَر بهما"(ولذا يشيع في الآيات والأحاديث أن كل مؤمن قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71]، وفي السورة ذاتها -أيضًا- وصف الله المؤمنين بأنهم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112].
ومن التاريخ قصَّ الله علينا قصة رجل عامي يسكن أقصى المدينة –وأقصى المدينة حينئذٍ هو مسكن عوام الناس وفقرائهم- فجاء ناصحًا: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]، فقتلوه فحاز منزلاً رفيعًا، هذا في زمن الاضطهاد، وأما في زمان التمكين –وهو في المستقبل- فقد قال الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، وأما في الحاضر فلقد جاء أمر الله صريحًا مباشرًا للمؤمنين بعمومهم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
وفي كل ما سبق من آيات عموم يكون تخصيصه بنصوص أخرى شديد التكلف؛ ولذلك طال الخلاف بين العلماء في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]؛ فلقد توقفوا عند لفظ: "منكم". وهل هي "تبعيضية"؛ تعني انفراد مجموعة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم هي "بيانية" أي لجميع المؤمنين، فبعضهم قال: هي لجميع المؤمنين؛ "أي لتكونوا كلكم أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر"(وخلاصة هذه المسألة وما جرى فيها من أقوال العلماء: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مساحة واسعة متفاوتة؛ فمنه ما يكون عامًّا يقوم به كل المؤمنين تجاه من يستطيعون، وبقدر ما تسمح به طاقتهم من العلم والموهبة والقدرة، ومنه ما يحتاج إلى تعمق في العلم أو بلاغة وفصاحة في العرض أو في موهبة في الدعوة والدخول إلى القلوب، أو يحتاج إلى منصب تقوم به القدرة على الإلزام بالمعروف وتغيير المنكر؛ فهذا مما يكون واجبًا على الكفاية لا واجبًا عينيًّا(وبهذا رسخ في الأمة نظام الحماية الشامل هذا، فالنصيحة مبذولة لكل أحد كما قال رسول الله r: "الدين النصيحة". قلنا لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم"(وغير مقبول أن يجهل المسلم المعروف من المنكر، وقد سئل ابن مسعود t: "من ميت الأحياء؟ فقال: من لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا"(فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو علامة الخيرية وشرطها.
نشر في ساسة بوست                                        

([1]) وقد نقلنا من قبل كلمة المستشرق الأمريكي مايكل كوك التي يعترف فيها بأن الثقافة الغربية لم تعرف اسمًا لمسئولية الإنسان تجاه الآخرين. وهذا النقل من باب "وشهد شاهد من أهلها" أما نحن فيكفينا قول ربنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. ([2]) ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص12. ([3]) الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن ص561. ([4]) وقد اقتصر بعض العلماء في تعريفه على مقياس "الشرع" فحسب ويُرى في كلامهم –أحيانًا- خشية أن يكون دخول "العقل" فيه فتحًا لباب الحكم بالهوى؛ سواء بالتشديد أو التفريط (مثلاً: البهوتي: كشف القناع 3/35، الشوكاني: إرشاد الفحول 1/206)، فيما قال البعض الآخر: إن العقل غير الهوى وأنه محمول على العقل السوي والفطرة السليمة. ويُلمح في أقوالهم –أحيانًا- خشيةً من أن يؤول ذلك إلى قصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العلماء فحسب، (مثلاً: القاسمي: محاسن التأويل 9/537، محمد رشيد رضا: تفسير المنار 4/23). وقد كثر التفصيل في الأمر للخلاف الشهير بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة العقل وأصولهم الخمسة، التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انظر: الماوردي: أدب الدنيا والدين ص95 وما بعدها، وشرحه: خان زاده: منهاج اليقين ص158 وما بعدها. ([5]) الزجاج: معاني القرآن وإعرابه 1/452، وانظر أيضًا: أبو حيان: البحر المحيط 3/290، الواحدي: الوجيز ص226، البغوي: معالم التنزيل 1/486، محمد رشيد رضا: تفسير المنار 4/23، الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 4/38. ([6]) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن ص249، الطبري: جامع البيان 7/90، الجصاص: أحكام القرآن 2/315، النيسابوري: إيجاز البيان 1/200، 201، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/165، الشوكاني: فتح القدير 1/423، السعدي: تيسير الكريم الرحمن ص142. ([7]) ابن عطية: المحرر الوجيز 1/486، الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 4/39. ([8]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/91. ([9]) مسلم (55). ([10]) مسلم (49). ([11]) مسلم (50). ([12]) ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص18. ([13]) رِعَة سيئة: سوء أدب. ([14]) الطبري: جامع البيان 7/102.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 01, 2015 01:45