محمد إلهامي's Blog, page 52

December 1, 2015

قراءة في كتاب "نجم الدين أربكان"


§       اسم الكتاب: نجم الدين أربكان ودوره في الحياة السياسية التركية 1969 – 1997م§       المؤلف: منال الصالح§       تقديم: د. عماد الدين خليل§       دار النشر: الدار العربية للعلوم ناشرون§       سنة النشر: 2012§       عدد الصفحات: 342
ليس ثمة شخصية فيما أعلم وأرى تحظى بتقدير وإعجاب بين الإسلاميين في تركيا كشخصية نجم الدين أربكان، ولا يكاد يكون مجلس أو مؤتمر أو محاضرة فيتحدث فيها واحد من الإسلاميين الأتراك إلا ويذكر كلمة سمعها من أردوغان أو موقفا أثَّر فيه معه، حتى لا يكاد الواحد منهم يقول: "معلمي" أو "أستاذي" إلا ويتوقع السامع أنه سيقول بعدها: نجم الدين أربكان.
وبرغم هذا، فإنه لم يكتب كتاب عن أهم شخصية إسلامية تركية باللغة العربية إلا هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي صدر بعد وفاة أربكان رحمه الله، وسائر ما كتب بالعربية –فيما أعلم- كان يتناول أمر أربكان في سياق البحث دون إفراد له بالبحث والتفسير.
ومما يثير الأسى أن وفاة أربكان جاءت في وقت انشغل فيه العالم العربي بشأنه، فقد انتقل إلى رحمة الله يوم 27 فبراير 2011، أي بعد شهر من خلع زيد العابدين بن علي وبعد أسبوعين من خلع مبارك وفي أول أيام ثورات اليمن وليبيا وسوريا، فغاض خبر وفاته في خضم الأمواج التي انهالت على عالم العرب، ولئن ارتجت اسطنبول بموته وعاينت يوما مشهودا مهيبا في جنازته فإن العرب لم يفرغوا من شأن أنفسهم ليبلغ فيهم الخبر قدره الذي يستحق.
رفعت المؤلفة منال الصالح، وهي عراقية والمعلومات المتاحة عنها شحيحة، عن العرب إثم خلو مكتبتهم من سيرة زعيم تركيا الإسلامي في حقبتها العلمانية، وخطت هذا الكتاب المحترم الممتاز عن شخصية وسيرة نجم الدين أربكان، وقد بذلت فيه مجهودا متميزا وعزيزا، إذ رجعت إلى نحو مائتين وخمسين مرجعا بين كتب عربية وإنجليزية وتركية، منشورة وغير منشورة، وبعض الوثائق الأرشيفية، ثم بالمقابلات الشخصية التي أجرتها مع نجم الدين أربكان نفسه وعدد من الشخصيات الإسلامية التركية.
ولقد جاء الكتاب ثريا نافعا كالغيث إن شاء الله لا يصيب قارئا إلا انتفع به وأخذ منه بخير، ولست أبالغ إن قلت إن قراءة هذا الكتاب بعين بصيرة وتأمل غير متسرع يجعل قارئه على علم جيد بالتاريخ التركي المعاصر وطبيعة الدولة العلمانية في تركيا بعسكرها وقضائها وأحزابها -وصراعاتهم واتجاهاتهم- وإعلامها وطبقاتها الاقتصادية وتوزيع الأعراق والميول والتوجهات فيها، كما يجعله على علم بأزمة الحركة الإسلامية في تركيا وكيف التمست طريقها لمنازلة هذا النظام العلماني العسكري العتيد الذي اجتمعت فيه شر العلمانية وشر العسكر، وكيف كان موقع تركيا من الساحة العالمية فاعلا حاضرا ومؤثرا طول الوقت على سياستها الداخلية، وكيف استفادت الحركة الإسلامية من هذه البيئة السياسية التي كم اجتمع فيها من التناقضات.
جاء الكتاب في خمسة فصول؛ الفصل الأول خلفية تاريخية عن السياسة التركية وموقفها من الإسلام من بداية الحقبة العلمانية وإلى ما قبل ظهور نجم الدين أربكان، وهذا تاريخ نصف قرن منذ عهد أتاتورك وحتى نهاية عقد الستينات، وموقف هذه الحكومات من "المسألة الدينية" كما تعبر المؤلفة عن "الحالة الإسلامية"، وكيف تفككت القبضة العلمانية الأتاتوركية لتصل إلى فصل جديد تماما في عهد عدنان مندريس.
وتحدث الفصل الثاني عن شخصية نجم الدين نفسه: نسبه ونشأته ودراسته وقيمته العلمية كمهندس مبتكر أراد أن يستثمر علمه في نهضة بلاده ثم مساره كرجل اقتصاد ورئيس لاتحاد الغرف الصناعية والتجارية حيث صُدِم في موقعه هذا بأن السياسة لا تسمح بالنهضة العلمية بل تحاربها، وكيف أسفر هذا عن يقينه في التحول والدخول إلى ساحة السياسة، فأسس أول أحزابه (حزب النظام الوطني)، استعرضت نشوء الحزب وبرنامجه وشعاره وقاعدته الشعبية ولماذا سمحت السلطة بوجود حزب إسلامي، ثم دخول أربكان انتخابات البرلمان مستقلا عن مدينة قونية،  ثم إغلاق الحزب مع انقلاب العام (1971م).
وسرد الفصل الثالث عقد السبعينات وفيها كان أربكان يقود الحالة الإسلامية عبر حزب السلامة الوطني، واستطاع أن يحقق نجاحات ملموسة جعلته شريكا حاضرا لا يمكن تشكيل حكومة بدونه، فإما أن يتحالف معه اليسار أو اليمين لتشكيل الحكومة أو تجرى الانتخابات مرة أخرى فتسفر عن ذات النتيجة، حتى خُتِمت هذه المرحلة بانقلاب كنعان إيفرن (1980م)، واستعرضت المؤلفة باقتدار مسيرة حزب السلامة وظروف تشكل الحكومات الائتلافية وناقشت السياسة الخارجية التركية وكيف أثر فيها –أو لم ينجح في التأثير- وجود حزب السلامة الوطني الإسلامي.
ثم جاء الفصل الرابع ليعرض تاريخ أربكان منذ (1980 – 1995م) حيث عاد إلى الساحة السياسية بحزب الرفاه، وشهدت تلك الفترة تطورا حافلا بالتفاصيل مع وجود شخصية تورجت أوزال العجيبة والتي استطاعت أن تكون نقطة وسط مثيرة للتأمل بين كل أطراف الساحة السياسية، وفي هذه الفترة تأثر حزب الرفاه وحقق نتائج أقل لكنه في نهايتها ضرب بقوة حيث لم يعد فقط شريكا في ائتلاف الحكم بل سيطر رجاله على البلديات بما فيها أهم محافظتين: أنقرة واسطنبول، وصار يبشر بنمو غير مسبوق للحالة الإسلامية في تركيا.
وختمت المؤلفة كتابها بالفصل الخامس الذي يركز بتفصيل على ثمرة هذه الرحلة الطويلة؛ إذ وصل نجم الدين أربكان إلى أن يكون رئيس الوزراء لمدة أقل من عام واحد (29 يونيو 1996 – 18 يونيو 1997م) وجرى عليه الانقلاب الناعم –الذي يحلو للباحثين أن يسمونه: انقلاب ما بعد حداثي- في (فبراير 1997م)، فاستعرضت الائتلافات الحكومية ثم الحكومة الائتلافية برئاسة أربكان وسياساته الداخلية والخارجية والترصد الداخلي والخارجي لتجربته من خلال الأحزاب والصحافة العلمانية وفوقهم العسكر وكذلك الاتحاد الأوروبي والأمريكان. ولذلك كان هذا الفصل هو أطول فصول الكتاب وأحفلها بالتفاصيل.
لقد أخذت المؤلفة بمنهج العرض والوصف دون أن يكون لها رأي تحليلي ووجهة نظر أو خلاصة جامعة تفسيرية لشخصية نجم الدين، ولكم وددت لو فعلت، إلا أن ذلك ليس بعيب، فإنما هو اختيار للباحث كما أنها طريقة يحبها طائفة من القراء: أن يُعرض الأمر دون ظهور آراء وشخصية المؤلف. صحيح أنها لا تخفي إعجابها وانحيازها لأربكان –وهذا حق صميم لكل باحث- إلا أنها عرضت كثيرا مما يُنْتَقَد به فكان ذلك موضوعية تُحمد عليها.
ووددت كذلك أن تكمل المؤلفة مسيرة الكتاب منذ ما بعد 1997 حتى وفاة أربكان فإن فيها الكثير مما يحتاج إلى كشف ومناقشة وتحليل، لا سيما وهو يفتح باب النقاش الطويل عن الفارق بين أربكان وتلاميذه، إلا أن هذا أيضا ليس بعيب يؤخذ على الكتاب، فإنه لا يقع في مجاله الزمني الذي حُدِّد له.
ما يؤخذ على الكتاب هو تسويته بين المصادر، فالكاتبة لكثرة مصادرها –وهذا أمر جيد- كانت تحشد في الموقف الواحد وجهات النظر المتعددة المختلفة، وقد لا ترجح بينها أو قد تفسر ما حدث بأنه مجموع ما سبق، بينما كان يستلزم الأمر في أكثر الأحيان أن تقدم رواية شاهد العيان على غيره، ورواية الخبير بالشأن التركي عن الصحفي، ورواية ذي البحث والدراسة عن صاحب المقال أو الكتاب التجاري، فيكون لكل رواية ثقلها ووزنها في التفسير وفي الترجيح كذلك.
أسوأ ما يُمكن أن يُعامل به الكتاب أن يُقرأ كسيرة بطل ينبغي النظر إليه بإعجاب، رغم أن نجم الدين بطل يستحق الإعجاب لا شك، وإنما ينبغي أن يُقرأ كسيرة تجربة إسلامية في ظروف بالغة القسوة تحت نظام عسكري علماني بدأ في غاية الشراسة والتوحش ثم اضطر لظروف عالمية أن يتجمل بصورة نظام ديمقراطي ويستوعب وجود تيار إسلامي محصور في ثوابت علمانية حمراء يُجبر على الاعتراف بها والتزام حدودها. ساعتها تكون التجربة مفيدة وملهمة، وساعتها يتبدى أكثر عظمة وصلابة نجم الدين أربكان ودوره في الحالة الإسلامية في القرن العشرين. يتبدى كصورة مسلم مخلص مكافح يبحث عن حل فيدركه أو لا يدركه أو يدرك بعضه ويفلت منه بعضه، لا كصورة معيار يُقاس إليه ويُحاكَم عليه فإن هذا يضرّ مقامه ومكانته قبل أن يضر من يحاول الانتفاع والاسترشاد بتجربته.
نشر في تركيا بوست

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 01, 2015 16:09

November 29, 2015

في فهم روح الغرب (1)

حين بدأ الجغرافي العلامة د. جمال حمدان موسوعته عن "شخصية مصر"، عقد فصلا في أولها ليتحدث عن علم الجغرافيا وعلاقته بالشخصية الإقليمية، قال: "ليس هدفنا أن نشرح المكان لنقدم عن أعضائه وأجزائه موسوعة كتالوجية وصفية، إن تكن ضافية وافية إلا أنها خاملة راكدة. ولكن الهدف أن نعتصر "روح المكان" ثم نستقطره حتى يُستقطب في أدق مقولة علمية مقبولة ويتركز في أكثف كبسولة لفظية ممكنة. ولمثل هذا فنحن بحاجة إلى جغرافية تركيبية في المقام الأول، جغرافية علوية رفيعة، قل "سوبر جغرافيا"، لا تقف عند حدود وصف المكان بل تتعداه إلى فلسفة المكان"هذا الذي قيل هو ما نحتاجه من كل ذي تخصص في تخصصه، أن يبذل المجهود في وَصْلِنا بالروح ما استطاع، فتكون المعلومات بمثابة الغذاء المهضوم والرحيق المختوم، لا قِطَعًا جامدة يعسر هضمها ويتطاير شذاها فلا يُفاد منها.
إن حقيقة العلم وثمرته لا تكمن في حشد التفاصيل بل في استخلاص الخلاصات منها، وقد أطال علماؤنا في شرح هذا المعنى، فقال مالك: "إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب"ينبغي على الدارس أن يذهب وراء التفاصيل ويبحث في الأعماق، وعليه أن يجتهد فهي عملية شاقة، حتى تصير له هذه الملكة، فيلتقط من التفاصيل المغزى المكنون، أو يضعها في نظام يفضي إلى نموذج تفسيري منضبط.
وكلما تعمق الباحث في دراسة تاريخ المنطقة أو الموضوع محل البحث، كلما كان أحسن إدراكا لثوابته ومتغيراته، فما تكرر في التاريخ والواقع أدعى أن يكون من الثوابت والأصول، وما تغير في الواقع عما كان في التاريخ أدعى إلى أن يكون من المتغيرات والفروع.
ولا ريب أن من عرفوا الغرب وعاشوا فيه طويلا أو اهتموا بتراثه هم المقدمون في هذا الجانب، وكلمتهم فيه هي المقدرة، ومثلهم -وربما أهم منهم- من نشأوا في الغرب ثم اعتنقوا الإسلام، بل ولا نرى بأسا في أن نستفيد بالتحليلات الغربية للروح الغربية في هذا الباب، فالقوم في النهاية أقدر على تعريف أنفسهم بدقة من غيرهم على تعريفهم وإن افتقدوا نظرتنا للأمور وقواعدنا في الحكم على الأشياء، فكم في الكتب الغربية من تفسيرات قوية قادرة على حل الإشكاليات البحثية المطروحة وتقديم نماذج تفسيرية ممتازة ومتميزة.
ولنضرب بعض الأمثلة على ما نريد قوله من البحث وراء التفاصيل أو جمعها في تفسير واضح، ولا يعنينا الآن أكانت مدحا أم ذما:
1. من الجغرافيا إلى الوطنية إلى العنصرية: "الوطنية من لوازم الطبيعة الأوربية، بينما تخف في آسيا، وذلك من آثار الطبيعة الجغرافية، فآسيا تتمتع بجغرافيا متسعة وخصب وفير، أما في أوربا فالتنازع على البقاء شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر، لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار الأجناس الأوربية في نطاق طبعي دائم، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة، لذلك كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالا تاما، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض اليونان حيث وُجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة، فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها، وكانت الفكرة العالمية التي نادى بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصارا في يونان، فكان نظام أرسطو مبنيا على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، ولم يكتفِ أرسطو بحب وطنه فحسب بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب كالبهائم. وراجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية حتى لم يقبل اليونانيون قول فيلسوف منهم يعلن أن بِرَّه سيكون لجميع اليونانيين وليس لأهل وطنه فحسب، فتعجبوا ونظروا إليه شزرا"2. الداروينية في الفن: "لنضرب مثلا بالكارتون المسمى توم وجيري، الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل، وليلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الاثنين لا ينتهي، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهي بنهايته، فالعالم حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيري"3. سمات التراث الغربي: "هناك سمات عامة مشتركة تتخلل كل هذا النتاج التراثي (الغربي) بالرغم من تعدده، لا فرق في ذلك بين تراث الغرب الرأسمالي وتراث الغرب الاشتراكي، فكلاهما تراث سيطرة وهيمنة، بين تراث الطبقة المسيطِرة والطبقة الـمُسَيْطَر عليها، فكلاهما تراث عنصري. وهي السمات المشتركة التي توجد في أعماق اللاوعي الأوروبي الحضاري بل وفي وحدة شعور الأوروبي"4. أول حضارة ملحدة: "وحينما سئل فاكيلاف هافل (رئيس جمهورية التشيك) عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب قائلا: هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري، فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئا أعلى مرتبة منهم، شيئا مفعما بالأسرار، وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز، هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس وأُفقا لهم؛ ولكنها فُقدت الآن، وتكمن المفارقة في أننا بفقداننا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير من دون تحكم من جانبنا، فحينما أعلنت الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني"


د. جمال حمدان: شخصية مصر 1/12. الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي 2/174. ابن تيمية: مجموع الفتاوى 10/665. ابن رجب الحنبلي: بيان فضل علم السلف ص63. قيعان: جمع قاع، وهي الأرض الملساء. البخاري (79)، ومسلم (2282). الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص144، 145. باختصار وتصرف. د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص22. د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص102. د. عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية ص219.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2015 11:13

November 26, 2015

موجز قصة النكبة الإسلامية

هي قصة النكبة، أو بالأحرى قصتان..
قصة احتلال البلاد واستنزاف ثرواتها ومواردها، وقصة احتلال الأفكار والعقول..
في القصة الأولى نرى البنادق والقنابل والجيوش، وفي القصة الأخرى نرى الكتب والنشرات، والإذاعات، وإنشاء المؤسسات التعليمية والثقافية، وهيكلة الإدارات الحاكمة.
تستدعي القصة الأولى أن نرصد حركة النهوض الغربي وانقضاضه على العالم الإسلامي،  وتستدعي القصة الثانية أن نرصد أهم الفوارق المؤثرة بين الشرق والغرب؛ لنفهم كيف أراد الغرب أن يعيد صياغة العالم الإسلامي على مثاله، فزرع قِيَمه وأفكاره وأنظمته، كما استفاد مما وجده فيها ليُعيد زراعته عنده.
في هذه السطور نوجز القصة الأولى، وفي المقال القادم إن شاء الله نوجز القصة الثانية..
في ذات لحظة من عمر هذا الزمان اجتمعت أربعة عوامل لتصوغ تاريخ القرون القادمة، كان ذلك منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، على هذا النحو:
1. الضعف الإسلامي:
شمل الضعفُ عالم المسلمين فسقطت غرناطة آخر معاقل الأندلس (1492م)، وانساح الإسبان والبرتغال ليُحْكِموا سيطرتهم لا على الأندلس فحسب؛ بل هاجموا سواحل المغرب والجزائر، واحتلوا عددًا من أراضيها، وكانت الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا وشرقها قد أصابها الضعف والتفكك ذاته، وكذلك كان الحال في اليمن وعُمان وسواحل الهند وما وراءها من السواحل الجنوبية لآسيا.
2. النهضة الأوروبية
وفي ذلك الوقت وُلِدت النهضة الأوروبية التي بدأت من إيطاليا، وعلى الرغم من أن جذور تلك النهضة قد تمتد إلى نحو قرنين قبل ذلك الوقت، فإن إيطاليا حينئذٍ أخرجت بدائع جديدة في الأدب والعلم والفن والعمارة وغيرها، وظهر رواد النهضة الأوروبية؛ مثل: ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو، وميكافيللي، وأصبحت بعض المدن تمثل مراكز حضارية؛ مثل: فلورنسا، وسيينا، والبندقية، ثم فاضت تلك النهضة على أوروبا بشكل عام.
3. الرحلات.. وتطور علم الخرائط
كان من آثار الضعف الإسلامي واستيلاء البرتغال والإسبان على الأندلس أن انطلقوا يكتشفون البحار دون عوائق، البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، فاستطاع الرحالة أن يصلوا إلى العالم الجديد "الأمريكتين"، كما استطاعوا الدوران حول إفريقيا، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي وصلوا عبره إلى الهند والسواحل الجنوبية والشرقية لآسيا.
وكان من آثار النهضة الأوروبية ومن آثار هذه الرحلات أن تطوَّر علم الخرائط، وابتدأ رسم خرائط أكثر دقة لهذه الأرض، قاراتها وبحارها، فكل تطور علمي وكل رحلة كشفية تضيف جديدًا في علم الخرائط.
4. بُعْد مركز الخلافة الإسلامية
لم يعد في العالم الإسلامي مملكة قوية، إلا أولئك العثمانيون في عاصمتهم البعيدة القسطنطينية، تلك المدينة المنيعة الراقدة شمالاً عند مضيق البوسفور، والتي تقوم بدورها الجهادي في شرق أوروبا وفي روسيا، وتقاوم الصفويين في العراق وإيران، فما كان بإمكانها في ظل هذا الوضع الجغرافي أن تعتني بأمر الأندلس الذي يسقط وينهار، وتتبعه سواحل الشمال الغربي لإفريقيا، ثم سواحل الغرب والشرق الإفريقية، والسواحل الجنوبية الآسيوية.
ولقد حاولت الدولة جهدها الدفاع عن مسلمي الأندلس وعن سواحل اليمن، وخاض الأسطول العثماني معارك ضارية مع الأساطيل البرتغالية والإسبانية، واستطاع تحقيق إنجازات مهمة؛ منع بها الأعداء من دخول البحر الأحمر -حيث أرادوا مهاجمة مكة وإنهاء أمر الإسلام- كما حفظوا بها ما استطاعوا من سواحل الشمال الإفريقي، وأنقذوا ما أمكنهم من مسلمي الأندلس ويهودها، الذين كانت تفترسهم محاكم التفتيش الكاثوليكية.
كان اجتماع هذه العوامل معًا في الفترة الزمنية ذاتها قادرًا على رسم صورة جديدة للعالم وموازين القوة فيه، خلاصة هذه الصورة أن الأيام قد دالت على المسلمين، وأن الأعداء قد التهموا -تقريبًا- أطراف العالم الإسلامي على السواحل الإفريقية والآسيوية، بل وتنافسوا عليها؛ فلقد لحق بالإسبان والبرتغال الهولنديون والإنجليز والفرنسيون وغيرهم، ولم تكن المقاومة المحلية في تلك البلدان –على الرغم من بسالتها وصلابتها- بقادرة على تغيير ميزان القوة هذا.
وبعد قرنين من الزمان أخذت الأزمة منحى جديدًا؛ إذ استطاع الفرنسيون احتلال مصر والشام، فلم يكن هذا مجرد احتلال لأطراف العالم الإسلامي بل لقلبه، ولم تكن بينه وبين الخلافة مسافات بعيدة؛ بل ليس بينهما إلا البحر المتوسط، فكانت صدمة بالغة هائلة الأثر للمسلمين، حتى قال الجبرتي: إنه "اختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع"("سؤال النهضة" هذا لم يُترك لتُجيب عنه الشعوب، بل قام به الحكام المستبدون الذين هم سبب أصيل في نكبة المسلمين، لقد اتجه الأقوياء منهم إلى تعلُّم ما عند الغرب، أو الإتيان بخبراء الغرب؛ لنقل خبراتهم إلى بلاد المسلمين، ولم يكن في هذا من بأس لو أن الناقل كان واعيًا حريصًا على أخذ ما لديهم من علوم مادية، دون استلهام رؤاهم الفكرية والفلسفية؛ لكن الذي حدث كان على العكس من هذا، ولعل المشهد المصري يكون خير نموذج على هذا التطور باعتباره الأسبق زمنًا والأغزر مادة.
لقد تولى الحكم في مصر محمد علي باشا، فكان –على الرغم من إصلاحاته المادية الكثيرة الهائلة- أحد أهم النكبات في تاريخ المسلمين، فهو الذي اعتمد سبيل بناء دولة قوية يكون الحاكم فيها الرجل الأوحد، فأخذ في تدمير النظام الاجتماعي؛ ليملك وحده مقاليد البلاد، فضرب العائلات الكبرى، ومنع على الأهالي تملك السلاح، وضم الأوقاف إلى الدولة، وأسس جيشًا على النظام الأوروبي؛ يكون ولاء الجندي فيه للأمر العسكري مهما خالف الدين أو العرف أو الخُلُق، وعلى الرغم من أن محمد علي أتى إلى الحكم باختيار جماعة العلماء؛ فإنه لم يلبث أن تخلص منهم، ولم يعد يسمح بوجود أحد إلا علماء السلطان.
فما إن ذهب عصر محمد علي حتى كانت "الدولة" قد زُرِعت، والناس قد صاروا عبيدًا للدولة لا أصحابًا لها، ولما لم يكن خلفاؤه على قدر همته في العمران؛ فقد فسد العمران، وانهارت آثار محمد علي، ثم جاء الاحتلال الاقتصادي الأجنبي الذي تبعه النفوذ الأجنبي، ثم تبعهما الاحتلال الأجنبي البريطاني، فوجد أمامه شعبًا أعزل، ودولة منهارة، وبذورًا علمانية مغروسة، فظل في البلاد سبعين سنة يُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، ويصنع منها نخبة على مثاله وبصبغته.
مَثَلُ الذي حَدَثَ في مصر حَدَثَ في غيرها من البلدان بالقدر ذاته تقريبًا؛ فقد وقعت ديار الإسلام إلا قليلاً منها تحت احتلال أجنبي، ثم سقطت الدولة العثمانية، التي كانت تمثِّل خلافة المسلمين، فصار المسلمون كالغنم المتفرقة لا راعي لها، وامتلكت أزمَّتها تلك النخبة التي صنعها الاحتلال على عينه، وسلم لها أمر البلاد، وما نستطيع أن نبرئ الحركات الإصلاحية في ذلك الوقت، والتي تكررت منها السذاجة في أقطار المسلمين؛ حتى سُرِقت الثورات وحركات المقاومة جميعًا؛ لتسقط كل ثمارها في يد أتباع الاحتلال.
حين خرج الاحتلال حَكَم أتباعه، فبدأ عصر الاستبداد العلماني العسكري، الذي كان على المسلمين أشد وأقسى وأكثر نكالاً من الاحتلال؛ إذ صارت العلمانية نظاما حقيقيًّا حاكمًا مقدسًا، وصارت حدود المحتل مقدسة، وترسَّخ نظام الدولة المركزية القومية الحديثة باعتباره شكل الحكم المقدس أيضًا، وقبل كل هذا وبعده صارت الخلافة من الأوهام والخرافات، وصار العمل للإسلام والدعوة للوحدة الإسلامية من الجرائم، وذاق المسلمون ويلات النظم العلمانية والعسكرية، واستمر تساقط العواصم الإسلامية على أيدي اليهود والصليبيين والهندوس والملاحدة.وها هو الأمل يتجدد بثورات الربيع العربي أن تنهي هذا المسلسل من السقوط والتراجع، وأن تعيد تمكين الأمة من حكم نفسها بشريعتها وقِيَمها، وأن تكتب الفصل الأول في رحلة التحرر من الاحتلال الأجنبي العسكري والاقتصادي والثقافي.
نشر في ساسة بوست


([1])الجبرتي: عجائب الآثار 2/179.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2015 12:41

معركة الهوية التركية

كنت مهتما في الأيام الماضية بمطالعة المصادر الغربية ورصدها للتجربة التركية، وقد قرأت أو طالعت حوالي عشرين دراسة أجنبية ما بين كتب أو تقارير مراكز بحثية وعدد لا أتذكره من المقالات، منها ما هو مترجم ومنها ما قرأته بالإنجليزية ومنها ما اهتممت أن أقرأه في الإنجليزية بعد قراءته مترجما لمزيد فهم ودقة. وقد كنت غنيا عن هذه الكلمات لولا أني أتخذها سببا ومدخلا لموضوع السطور القادمة الذي أرى أنه أهم موضوع تحتاجه الساحة الإسلامية!
على ما بين هذه الدراسات –وعامتها قد كُتِب قبل 2011، أي قبل اشتعال الثورات العربية- من خلافات في زاوية النظر والتوصيف والتوقعات المستقبلية، فإنها تتفق بشكل غريب على مسألة واحدة تطرحها دائما كسؤال ملح وحاضر، هو: هل تخلى حزب العدالة والتنمية عن أصوله وأفكاره الإسلامية؟ أم ما يزال يخفي هويته تحت غطاء سياسي نفعي (براجماتي) ويسعى بصبر لأسلمة تركيا أو إعادة الخلافة العثمانية؟!
القليل النادر من هذه الدراسات من اطمأن إلى أن سياسة العدالة والتنمية لا تمثل خطرا كبيرا، لكن أغلبها ظل على مكانه في الشك والترقب ومحاولة التفتيش في الخبايا والنوايا.
ورغم النقلة الهائلة التي أحدثها حزب العدالة والتنمية في تركيا لا تكاد الدراسات الغربية تركز إلى على إجراءات بعينها، هي الإجراءات المتعلقة بالهوية الإسلامية، ولا تكاد تخلو واحدة من تحليل أغراض الحزب حين سعى لتمرير قوانين تضيق على شرب الخمور أو تسمح بارتداء الحجاب أو تسوِّي بين خريجي مدارس الأئمة والخطباء مع خريجي التعليم العادي، لقد حظيت هذه القوانين الثلاثة –من بين آلاف مشروعات القوانين التي طرحها الحزب عبر 8 سنوات في الحكم- باهتمام خاص.
كذلك لا تخلو دراسة من المقارنة بين خطاب ولهجة أردوغان وجول وداود أوغلو مع لهجة أربكان السابقة، والدراسات الأكثر تفصيلا تهتم أيضا برصد تدرج أربكان في إخفاء هويته الإسلامية وتدرجه في قبول العلمانية من لحظة (حزب النظام الوطني – 1970، وهي الأشد وضوحا وقوة) حتى لحظة (حزب السعادة – 2001، وهي الأخف وضوحا والأهدأ لهجة)، ورصد ما إن كان أردوغان هو امتداد لأربكان بشكل أكثر خفاء أم هو بالفعل قد تغير واعتنق القيم الغربية أم هو نمط جديد يسعى لدولة على المقاييس الغربية ولكن بهوية ثقافية عثمانية؟
وترصد الدراسات بشكل خاص تطور مسألة الهوية لدى الشعب التركي من خلال الإحصائيات التي تسأل: هل ترى نفسك تركيا أم مسلما بالدرجة الأولى؟ كيف ترى الآخرين: غير أتراك أم غير مسلمين؟ كيف تصنف الناس في البيئة المحيطة بك: إخوة في الدين أم إخوة في الوطن؟ هل تريد دولة تطبق الشريعة الإسلامية؟ ما معنى الدولة الإسلامية من وجهة نظرك؟ هل ترى أن حزب العدالة والتنمية يسير بالبلاد إلى أن تكون دولة إسلامية؟ إذا أعلن حزب العدالة والتنمية أنه إسلامي ويسعى لتطبيق الشريعة فما موقفك منه؟ لماذا تؤيد حزب العدالة والتنمية: لأنه متدين أم لأنه ساهم في ارتفاع مستوى المعيشة؟.. وهكذا!
وهم حريصون على محاولة فهم "ماذا يعني الإسلام في حياة المواطن التركي: وهل هو مجرد اختيارات شخصية كالحفاظ على الصلاة والامتناع عن شرب الخمر وارتداء الحجاب؟ أم أن للإسلام تأثير على سياسة الدولة ونظامها وعلاقاتها الداخلية والخارجية؟"، ومن أطرف ما حرصت هذه الإحصائيات على رصده استطلاع موقف غير المسلمين الأتراك، وهم لا يمثلون سوى 1% من الشعب، وانتهت الإحصائية إلى أنهم ورغم كون العسكر لم يفرقوا في الاضطهاد بين أصحاب الأديان ورغم كونهم حظوا بفرص غير مسبوقة تحت ظل العدالة والتنمية إلا أنهم في النهاية يرون أن معيشتهم في ظل دولة علمانية أفضل منها في ظل دولة إسلامية.
وتعد مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مهمة في رصد الفارق بين سياسة أردوغان ونظريات أربكان، إذ كان الأخير يرفض الانضمام للاتحاد الأوروبي ويراه ناديا مسيحيا، بينما أردوغان رغم كل ما تبديه تركيا من تعنت يظل حريصا على الانضمام. لكنهم يتفقون كذلك على أن هذا ربما يكون طريقته التي يستعمل فيها الغرب ليتمم إصلاحات ديمقراطية في تركيا يحجم بها نفوذ وسلطة العسكر، فيكون قد ضرب عصفورين بحجر: قضى على خصومه بيد الغرب وشروطهم الديمقراطية، ثم فضح الاتحاد الأوروبي وتعنته في ضم دولة مسلمة إلى ناديه.
وعامة تلك الدراسات تنظر بحياد أو لا مبالاة إلى الانقلابات العسكرية المتتالية في تركيا، ولا تصفها بأنها جريمة أو تأخذ منها موقفا أخلاقيا، فإن لم تبرر لها لم تهاجمها، كأن الانقلاب العسكري إجراء سياسي طبيعي من حق الجيش أن يتخذه ضد النظام المنتخب.
والنادر جدا من اعترض عليها ورأى أنها مخاوف مبالغ فيها وأن الانقلاب على أربكان إنما كان لدوافع أيديولوجية إذ لم يكن بوسع أربكان أن يهدد النظام العلماني بعد شهور ولا بوسع الفتاة المحجبة أن تهدد النظام العلماني إذا دخلت الجامعة بحجابها.
يحظى بالتركيز أيضا مسألة الأقليات، لا سيما الأقلية الكردية والأقلية العلوية، وهنا تظهر الضمائر والأخلاق فجأة فيتحدثون بلسان أخلاقي مبين عن جرائم الدولة وعن اضطهاد الأقليات وعن حقوقهم المهدورة. كذلك ثمة اهتمام خاص بالظهير الاقتصادي والاجتماعي للتيار الإسلامي، وعلام يعتمدون في الأموال وما هي المناطق التي تصوت لهم، وكيف بدأ نمو هذه الشركات الإسلامية "المال الأخضر" وأين تتركز وأنشطتها؟ وكذلك كيف ظهرت هذه الطبقات والفئات الاجتماعية التي لم تنفذ العلمانية الكمالية إلى قلوبها وعقولها وظلت تصوت للإسلاميين، وكيف انتقلت من القرى لتظهر في العواصم والمدن الصناعية.
ومنذ ظهر في الأفق داود أوغلو كوزير للخارجية حتى لقي كتابه "العمق الاستراتيجي" موضع اهتمام خاص، فكتاب أوغلو صريح في أن موقع تركيا الجغرافي وثقلها التاريخي يفرضان عليها أن تكون دولة عظمى، وأنها فقدت هذه العظمة يوم أن تخلت عن هويتها وتاريخها وأريد فرض ثقافة مخالفة عليها، وأنه لا بد من أن تعيد تركيا نشر مظلتها على ما انحسرت عنه من أراضي الدولة العثمانية وإن بشكل سياسي ثقافي اقتصادي اجتماعي، إذ إما أن تكون تركيا قوة عظمى وإما أن تكون جسرا يتلاعب بها وعليها الأقوياء.
والخلاصة النهائية أن الهوية هي المعركة الحاضرة الظاهرة، المعركة القائمة الدائمة، المعركة التي تدور حولها التحليلات والدراسات.. وأن العلمانية وأصحابها كذابون منافقون إذا حاولوا تصوير الأمر على أنه خلاف مادي حول برامج النهوض الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والعلاقات الخارجية، فكل هذه فروع عن أصل هو الهوية والرؤية الشاملة، فإذا اختلفت الرؤية والهوية اختلف كل هذا. والعلمانيون أنفسهم في مصر وتركيا يفضلون النظام العلماني الفاسد الذي يقهر البلاد والعباد على نجاح نظام إسلامي وإن نهضت به البلاد وارتاح معه العباد. بل والغرب الذي يدعي العلمانية هو نفسه الذي يفتش في كل تجربة عن مضمونها الكامن خلفها، ويسعى للبحث عن الإسلام الكامن خلفها، حتى وإن كان لسانه وظاهره لا يدل على هذا.
ما كان أغنانا عن هذا كله إلا لأن كثيرا ممن فينا تركوا كتاب الله والتمسوا كتاب الغرب يقرأون منه، ولو أنهم قرأوا كتاب الله لعلموا أن كل الصراع الدائر في هذه الدنيا والذي يهيمن على الأرض هو صراع الحق والباطل، صراع الإنسان عبد الله مع الشيطان ومن أضلهم وأغواهم، صراع لا يقوم فيه شئ مقام العقيدة (الهوية)، لو قرأنا كتاب الله لعلمنا أن البشر ينقسمون بناء على عقائدهم، فهناك أولياء الرحمن وهناك أولياء الشيطان، الذين آمنوا والذين كفروا، وعلى هذه القسمة سيكون مصيرهم: فريق في الجنة وفريق في السعير.

ولعلنا إن لم نفقه هذا من كتاب ربنا أن نفقهه من كتاب الغرب الذي لم يقنع من تجربة تركيا بنهوض اقتصادي ولا بعلمانية ظاهرة بل أخذ يسلط الأضواء والمجاهر ليستبين: هل خلف هذا إسلام مستتر يسعى بصبر للعودة من جديد، أم قد استطعنا بالفعل هزيمة الإسلاميين في تركيا وصاروا مثلنا قلبا وقالبا؟!!
نشر في تركيا بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2015 11:00

November 20, 2015

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر (2)

لم يزل الحديث موصولا في إلقاء الضوء حول طبيعة المجتمع الإسلامي، وكيف صنع الإسلام من العرب البدو الرعاة خير أمة أخرجت للناس.
وقد بدأنا الحديث –في المقالات السابقة- عن منهج الإسلام في بناء الأمة، ثم أتبعناه بأن هذا المنهج لم يكن مجرد فلسفة ونظريات بل تحول إلى واقع عملي وإلى بشر يطبقونه في حياتهم.
ومن أهم خصائص هذا المنهج في تكوين الفرد وبناء النظام العام أنه يجعل الفرد -في نفسه- مستشعرًا للمسئولية ومنبعثًا لحركة الإصلاح، ويجعل النظام العام مهيَّأً وقابلاً للإصلاح والتغيير. وقد ذكرنا في المقال السابق كيف كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشبه بالطبيعة في المجتمع الإسلامي يقوم بها الأفراد والمجموعات من تلقاء أنفسهم، والتقطنا عشرة مواقف للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: خمسة منها فردية ذكرناها في المقال السابق، وتركنا لهذا المقال الخمسة مواقف الجماعية.
(1)
أول ما نعرف من مجموعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجموعة كَوَّنها الصحابي هشام بن حكيم بن حزام t؛ إذ جمع حوله نفرًا من أهل الشام، وكانوا يسيحون في الأرض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ ليس لأحد عليهم إمارة، وقد تفرغ هشام t لهذه المهمة؛ حتى لم يتخذ زوجة ولا ولدًا، وكان مهتمًّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ عرف الإسلام -أسلم يوم فتح مكة- حتى صار معروفًا ومشهورًا بهذا في زمن عمر بن الخطاب t، الذي كان إذا بلغه منكر قال: أما مَا بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك. وكأن عمر بن الخطاب t قد أطلق يده؛ إذ كان هشام بن حكيم يهدد الوالي في مدن الشام إذا أراد فعل شيء من المنكر أنه سيكتب إلى عمر بهذا فيمتنع، وقد رأى يومًا عياض بن غنم -وكان والي حمص- أوقف ناسًا من أهل الذمة في الشمس؛ لأنهم لم يدفعوا الجزية، فواجهه بحديث النبي r: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"((2)
وقد كانت قوة القبائل والعشائر تقف أمام الحكام عبر التاريخ الإسلامي، وقد قلنا فيما سبق: إن الإسلام جاء بتقوية الروابط بين الناس حتى يصير المجتمع جسدًا واحدًا؛ فيمتنعوا بهذا من ظلم الحكام؛ بل وتنفذ إرادتهم في بعض الأمور وعلى رغم أنف الحاكم أحيانًا، وبهذا يوضع جهد كل قبيلة قوية -كانت قوتها سببًا في إقرار الأمور وتوازن القوى بينها وبين السلطة- في هذا الباب، فمن ذلك مواجهات الأحنف بن قيس التميمي لمعاوية بن أبي سفيان t، ومنها قول معاوية له: "والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة. فقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تَدْنُ (أي: تقترب) من الحرب فترًا نَدْنُ منها شبرًا، وإن تَمْشِ إليها نُهَرْوِلْ إليها. ثم قام وخرج، وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال: هذا الذي إذا غَضِبَ غَضِبَ لِغَضَبِهِ مائة ألف من بني تميم لا يدرون فيم غضب؟"((3)
كانت بغداد في ختام القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث الهجري مسرحًا للاضطرابات والانفلات الأمني، فلقد قُتِل الأمين لكن المأمون ظل في مرو، ولم يقدم إلى بغداد، وشاع في أهل بغداد أن الفضل بن سهل –الوزير الفارسي- هو المسيطر على المأمون وهو المتحكم على الحقيقة، فرفض أهل بغداد أن يظل الخليفة خارج بغداد وتحت سيطرة فارسي غير عربي، ثم رفضوا الحسن بن سهل -أخا الوزير الفارسي- واليًّا عليهم، وشاع التمرد على المأمون من الناس ومن فرق الجيش كذلك، فعاشت بغداد أجواء الانفلات الأمني والسرقات وقطع الطرق واختطاف النساء والأطفال وفرض الإتاوات على الناس. كانت العصابات تأتي الرجل فيسألونه مالاً، فإذا رفض أخذوا جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل القرية فيستاقون من الأنعام والمواشي ويأخذون ما شاءوا من الغلمان والنسوان، ونهبوا أهل قطربل ولم يدعوا لهم شيئًا أصلاً.
فانبعث رجلان؛ وهما: خالد الدريوش، وسهل بن سلامة الأنصاري؛ فكَوَّنا "لجانًا شعبية" لحماية الناس، وانضم إليهم متطوعون، فكانوا يقبضون على اللصوص وقطاع الطريق فيعاقبونهم أو يحبسونهم ثم يسلمونهم للسلطان، وقد استطاعت هذه "اللجان الشعبية" إنهاء حالة الفوضى بعد استمرارها نحو العام (شعبان، رمضان 200 هـ - شعبان، رمضان 201هـ)((4)
في واحدة من لحظات انهيار الأندلس –بعد سقوط دولة الموحدين- في الربع الأول من القرن السابع الهجري، كان المشهد على هذا النحو:
اقتتال أمراء البيت الموحدي وثورة بعضهم على بعض، يتحالف بعضهم مع النصارى ضد إخوانه في النسب والدين ليحفظ الملك لنفسه، ثم يثور على هؤلاء مغامرون آخرون، والنصارى يأكلون الأندلس قطعة قطعة ويأخذون –عبر شروط التحالف- ما لا يمكنهم أن يأخذوه بكل السيوف، وكان المستولي على شرق الأندلس يُدعى أبو جميل زيان الذي ما كاد يخرج من صراعاته مع زعماء التمرد حتى دهمه خايمة الأول (ملك أرجون، الذي لجأ إليه أمير بلنسية السابق أبو زيد عبد الرحمن الموحدي، وبلغ من خيانة هذا الأمير أن تنازل للصليبي عن ما كان يملكه من أرض الأندلس، بل لقد تنصر هو نفسه وصار منهم)، ولكن أبا جميل بدل أن يقاتل سار في مسار التسليم، فنهض أهل بلنسية بأنفسهم وبقيادة علمائهم وعلى رأسهم الإمام سليمان الكلاعي –شيخ المحدثين في ذلك الوقت- فأنشبوا معركة هائلة بإمكانياتهم المحدودة وتسليحهم الخفيف ضد النصارى، وحمل الكلاعي راية المسلمين، وظلوا يجاهدون، لكن ميزان المعركة أسفر عن التفوق الكبير للنصارى، فثبت الكلاعي في قلة ممن معه، وصار ينادي في الناس: "أعن الجنة تفرون؟!" فما زال كذلك حتى نال الشهادة (الخميس 20 من ذي الحجة 634هـ) بعد أن أعذر هو ومن معه إلى ربهم((5)
أراد الظاهر بيبرس البندقداري الاستيلاء على أموال وأملاك الأوقاف؛ ليغطي بها تكاليف الحرب مع المغول، فقرَّر أن يسأل صاحب الوقف عن مستنده؛ فإن وجده تركه وإلا استولى عليه، فوقف أمامه في هذا جمع العلماء يتقدمهم الإمام النووي، الذي كان صلبًا راسخًا في وجهه، واشتدت بينهم المراسلات والمكاتبات؛ حتى بلغ الأمر في المواجهة الأخيرة أن قال له النووي: "أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال، ثم مَنَّ الله عليك وجعلك ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، وكل مملوك له حياصة( فتلك عشرة مواقف، خمسة فردية وخمسة جماعية، تعطي لمحات عن تحمل المسئولية لدى أفراد الناس وجماعاتهم، تجاه من يعرفون ومن لا يعرفون؛ سواء أكانوا من العامة أم من الحكام والمتسلطين، وهي من المواقف التي تحدث اتفاقًا بدافع الظروف وتطور الحدث لا تحتاج ترتيبًا أو تهيئة طويلة، فأما ما كان يحتاج هذه التهيئة وهذا الترتيب فنجعله إن شاء الله في المقال القادم.
نشر في ساسة بوست


([1])ابن عبد البر: الاستيعاب 4/1538، 1539، المزي: تهذيب الكمال 30/197، والحديث عند مسلم (2613). ([2])ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/500. ([3])الطبري: تاريخ الطبري 5/ 136، وانظر: محمد إلهامي: رحلة الخلافة العباسية 1/509. ([4])النباهي: تاريخ قضاة الأندلس 1/119، ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة 4/103، د. حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس ص118 وما بعدها. ([5])حياصة: ثياب موشاة بالذهب. ([6])السيوطي: حسن المحاضرة 2/105.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 20, 2015 13:24

November 17, 2015

قراءة في كتاب "الأمة الغاضبة"


§         الكتاب: تركيا.. الأمة الغاضبة (Angry Nation; Turkey since 1989)§         المؤلف: كِرِم أوكْتِم  (Kerem Oktem)§         المترجم: مصطفى مجدي الجمال§         تقديم: د. عاصم الدسوقي§         الناشر: دار سطور، القاهرة§         الطبعة: الأولى§         عدد الصفحات: 286§         سنة النشر: 2012م
كان من حسن حظ المؤلف أن دفع بكتابه هذا إلى المطبعة قبيل اندلاع الثورات العربية، أو لعل هذا من سوء حظه، إذ ما من مؤلف إلا ويودُّ لو صدقت توقعاته وتحليلاته وبقيت على مرّ الزمان، ولذا لا يحب المؤلفون أن تتغير ساحة بحثهم بما يأتي فيها بجديد لتظل مؤلفاتهم صالحة لتحليل وتفسير الظاهرة أطول فترة ممكنة. فمن هنا كان من سوء حظ المؤلف أن تغيرت ساحة بحثه بعد شهور من صدور الكتاب. أما حسن حظه فمن جهة أخرى، ذلك أنه لو أمسك شهورا لما كان الكتاب قد صدر بحال! فالمؤلف الذي بدا حريصا ومتحرجا وهو يكتب تاريخ سنوات (2007 – 2010) باعتبارها مضطربة ولم يزل غبارها بعد، كيف به حين تجتاح المنطقة عاصفة الربيع العربي ثم عاصفة انقلاباته وحروبه الأهلية فيتغير كل المجال الحيوي المحيط بتركيا وهي موضع بحثه؟!
على أية حال فإن إنتاج المؤلف بعد هذا الكتاب اقتصر على الشأن التركي وصار متخصصا فيه، فقد شارك في كتب "معركة تركيا مع الحداثة" (2010)، و"إمبراطورية أخرى.. عقد من سياسة تركيا الخارجية تحت حزب العدالة والتنمية" (2012)، و"تركيا ما بعد القومية" (2013). وهو زميل باحث في مركز الدراسات الأوروبية، كلية سان أنتوني، حاصل على الدكتوراه بكلية الجغرافيا جامعة أكسفورد (2006)، يهتم بمسائل القومية والعرقية وحقوق الأقليات، وهو الآن أستاذ دراسات جنوب شرق أوروبا، والشأن التركي.
صدر الكتاب في نسخته الإنجليزية ضمن سلسة (Zed) للتاريخ المعاصر، وهي سلسلة ترصد التاريخ منذ عام انهيار الاتحاد السوفيتي (1989م)، إلا أن المؤلف أصرَّ على أن يبدأ من الانقلاب العسكري عام (1980م) مفسرا هذا بأن هذا الانقلاب هو تحول تركي مبكر نحو اعتناق الليبرالية والتخلي تماما عن آثار الاشتراكية واليسار، ثم إنه قضى نحو ثلث الكتاب في مقدمة تاريخية منذ إسقاط الخلافة وتأسيس الجمهورية العلمانية وحتى الوصول إلى لحظة انقلاب (1980م).
أول ما يطالع المرء من الكتاب مقدمة للمؤرخ المصري د. عاصم دسوقي، ولكنها مقدمة متغربة حتى النخاع، متغربة أكثر بكثير من الكتاب نفسه! ولم يكن الكتاب بحاجة إليها إذ لم تضف إليه جديدا ولم تلق ضوءا عليه، بل يوحي خروجها عن موضوع الكتاب وقضاياه أن صاحب التقديم لم يقرأه أصلا.
يقسم الكتاب التاريخ التركي إلى عقود، وهي قسمة تكاد تكون مستقرة، ذلك أن تركيا قد عرفت الانقلابات العسكرية كل عقد، حتى وصفها راينر هيرمان في كتابه "تركيا بين الدولة الدينية والمدنية" بأنها بلد الانقلاب كل عشر سنوات، وكعادة الانقلابات فإنها تقطع الطريق على مسار طبيعي لتعيد العجلة إلى الخلف. مع التركيز بقدر أوفر على فترة الدراسة (1980 – 2010م) حيث يسير بتمهل منذ عهد تورجت أوزال ويرصد التغييرات الواسعة التي أنجزها بين فوزه برئاسة الوزراء ثم انتخابه رئيسا حتى وفاته المفاجئة (1983 – 1993م)، ثم يعتبر عقد التسعينيات "العقد الضائع" الذي ارتدت فيه تركيا تحت هيمنة "الدولة الحارسة" عن إصلاحات أوزال، ثم يبدأ بعدئذ عقد العدالة والتنمية.
يمثل الكتاب وجهة نظر غربية للوضع التركي، فهو موجز للتاريخ التركي من زاوية غربية، ومقدمة للقارئ الغربي، وحيث كان المؤلف متخصصا في مسائل القومية والعرقية فإن الكتاب جاء يركز بشكل أكبر على "قهر" الجمهورية التركية العلمانية للأقليات، وخصوصا: الأكراد والعلوييين والأرمن وبقايا اليونانيين واليهود ومن على شاكلتهم. فطفق الكتاب يهتم بهذه المسائل ويتتبع تفاصيلها بشكل كوَّن صورة واضحة عما عانته هذه الأقليات طوال عهد الجمهورية التركية العلمانية.
كذلك اهتم الكتاب بمسألة العلاقة بين كل من تركيا والاتحاد الأوروبي من جهة، وتركيا واليونان من جهة أخرى، وقد تداخل الملفان أحيانا حين كانت عقبة قبرص تمثل أزمة أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وهنا أيضا قدَّم الكتاب صورة جيدة عن تطور العلاقة التركية الأوروبية، وكان مهتما دائما بتأثير السياسة التركية الداخلية والخارجية على العلاقة مع أوروبا.
عالج الكاتب كثيرا من القضايا بحيادية، وكان مستوعبا وذا رؤية لكثير من التفاصيل، وكان طرحه في العموم موضوعيا، ولم يبد إعجابه بأحد إلا تورجت أوزال صاحب الإصلاحات الاقتصادية الواسعة، وبأحمد داود أوغلو الذي اعتبر أنه استطاع تطبيق نظريته السياسية الجديدة "العمق الاستراتيجي" أثناء توليه وزارة الخارجية وأنه استطاع فتح آفاق واسعة أمام تركيا بانفتاحها على العرب والبلقان والشرق الآسيوي إلى الحد الذي جعل التركي يستطيع الانسياح والاندماج والتأثير في فضاء واسع مما يرسم خريطة سياسية جديدة تنكمش فيها مساحة نفوذ أوروبا وأمريكا.
ويختم الكتاب بقراءة في سيناريوهات المستقبل هو أقرب إلى النصائح والتوصيات منه إلى الرصد والتوقع، وهو يرجو أن يتمكن حزب الشعب الجمهوري العلماني الكمالي من تطوير نفسه ليكون منافسا قويا وحقيقيا لحزب العدالة والتنمية فيتحقق بذلك شرط الديمقراطية التي تشترط وجود حزبين مختلفين معبريْن عن جماعات وطوائف اجتماعية مختلقة. كما أنه لا يستبعد عودة العسكر مرة أخرى ولكن في هذه المرة لن تبقى تركيا موحدة بل سينفصل عنها الجزء الكردي، إلا أنه يرجح استمرار سيناريو الليبرالية مع ما سماه "الوصاية الإسلامية" ويعني بها التوجه الإسلامي لحزب العدالة والتنمية.
يتميز الكتاب بأنه مجهود بحثي محترم ويقدم صورة واضحة لملفات تغيب عادة في الكتابات العربية عن الشأن التركي كملف الأكراد والأرمن والعلويين.
ويؤخذ على الكتاب بعض أمور أهمها:
1. أنه لم يعط "الدولة العميقة" حقها من الاهتمام والتتبع، فلقد كان حجم استعراضه لقوتها وتأثيرها وشبكاتها أقل بكثير مما ينبغي للفاعل الرئيسي في التاريخ التركي المعاصر.
2. كما بدا من المؤلف انحيازات فجة إلى العلمانية والموقف الغربي في عدد من القضايا، منها لهجته لدى الحديث عن الإسلاميين؛ فهم مثيرون للمخاوف ومرتكبون للجرائم بخلاف لهجته الأرفق كثيرا باليساريين رغم إثباته لعدد من الجرائم التي ارتكبوها إلا أنه يغلفها بالثورية وبالمناخ المناهض للإمبريالية. ومنها: تفهمه للموقف الأوروبي المنافق والمتلاعب بتركيا في مسألة انضمامها للاتحاد الأوروبي وكيف كانت تختلق الحجج والمعاذير وتبتكر السوابق التاريخية لمنع تركيا من دخول الاتحاد الأوربي، فهو وإن أثبت هذه المواقف إلا أنه يعتذر بالمخاوف الأوروبية الناتجة عن أحداث 11 سبتمبر ونحوها. بل إنه تفهم حكم المحكمة الأوروبية ضد طالبة كلية الطب التركية ليلى شاهين والتي منعت من دخول امتحان السنة الخامسة لارتدائها الحجاب فقررت رفع القضية للمحكمة الأوروبية إلا أن المحكمة انحازت لعلمانية الدولة ضد حريتها الشخصية واختياراتها الدينية وأيدت حكم المحكمة التركية بحرمانها من الامتحان.. هنا يبدو الرجل المتسامح الذي حوَّل كتابه أحيانا إلى منشور مدافع عن الأقليات وحقوقهم إلى "متفهم لقرار المحكمة" النابع من الإسلاموفوبيا!!
3. إن الكتاب وإن كان مجهودا بحثيا رصينا إلا أنه يكاد يخلو تماما من المصادر، إذ لم يثبت المؤلف سوي مصدرين أو ثلاثة، بالإضافة إلى لقاءاته المباشرة مع بعض الشخصيات، وليس من بينها شخصيات ثقيلة كذلك. وهذه مخالفة لشرط أساسي من شروط البحث العلمي قُصِد بها –ضمن ما قُصِد- محاكمة الكاتب إلى مصادره في الدقة والأمانة وصحة المعلومة.

وفي كل الأحوال يظل الكتاب كتابا مفيدا جديرا بالقراءة.
نشر في تركيا بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 17, 2015 08:36

November 15, 2015

خلاف الحضارتين الإسلامية والغربية بين الربانية والبشرية

ذكرنا في المقال الماضي أن الخلاف بين الإسلام والغرب يعود في جذوره إلى "قصة الدين" وموقعه في حضارة كلا الطرفين، وخلاصته أن الفارق بين المسيحية بالنسبة للغرب وبين الإسلام بالنسبة للمسلمين ليس مجرد فارق بين دينين، ولا بين نظامين، بل هو فارق تأسيسي خطير؛ فالمسيحية جزء من الروح الغربية والإسلام هو كل الروح الإسلامية، والمسيحية تركز على عالم الملكوت وكل تغيير يتم في هذا العالم يُعدّ خصما من رصيد الآخرة، بينما الإسلام يرى أن النجاح في الآخرة مبني على النجاح في الدنيا ومرتبط به، وأن بذل المجهود في إقامة مملكة الله في الدنيا هي الطريق لنيل ملكوت الله في الآخرة.
وقد ترتب على هذا كثير من الخلافات الجذرية الأخرى، منها ما نتناوله في هذه السطور القادمة، وهو خلاف الربانية والبشرية.
إن الثلاثية التي بُنِي عليها الغرب بشرية: الفلسفة اليونانية، الحضارة الرومانية، المسيحية. فحتى المسيحية انحرفت مبكرا عما أتى به المسيح، وصار البابا في مرحلة لاحقة يملك تحريم ما كان حلالا أو تحليل ما كان حراما، ويملك أن يغفر الذنوب وأن يحرم من الصلاة وأن يتاجر في أرض الجنة.
بينما الأمة الإسلامية وحضارتها بُنِيَت على أمر واحد: الإسلام، وهو رباني، وقام على تطبيقه رسول معصوم حتى اكتملت مهمته، ولم يعد للعلماء من دور إلا التبيين والشرح والتفسير والتوجيه وكل ما من شأنه إقامة الدين دون صلاحية في تحليل أو تحريم أو تبديل للدين، وهم طائفة لا تملك السيطرة على نفوس الناس، كما ليس لهم كهنوت ولا أسرار ولا مؤسسة مقدسة، وظل علماؤنا لأجيال طويلة يجمعون بين علوم الدين والدنيا حتى قال إرنست بلوك: "كاد كل عالم أن يكون طبيبا أيضا"وقد أثمر هذا عددا من الفوارق المؤثرة بين السيرة الغربية والسيرة الإسلامية، أبرزها كما نرى:
أولا: أن حضارتنا حضارة مركزية بينما حضارة الغرب طرديةثانيا: وهذا يستلزم أن لحظة الذروة عندنا قد حدثت ونحاول دائما الاقتراب منها والعودة إليها وتكرارها، فعصر النبوة والخلافة الراشدة هو أفضل العصور في تمثل الإسلام، وأهله هم "خير القرون". بينما لحظة الذروة في الحضارة الغربية ما تزال لم تتحقق، وهي تتحقق بمزيد على السيطرة والتحكم المادي في كل الإنسان حتى أخلاقه وسلوكه ورغباته ومشاعره، هي عند الماديين اللحظة التي يكون فيها الإنسان –أو على الأدق: الإنسان الغربي وحده- إلها يعرف كل شيء عن هذا العالم ويتحكم فيه.
والفارق الحقيقي بين النظرتين وما يتولد عنهما من طموحيْن، هو الفارق بين أرحم الناس وأحلمهم وأزهدهم وأرفقهم بالناس، كما كان حال الصحابة، وبين أقسى الناس وأشرسهم وأعنفهم وأشدهم تدميرا وطغيانا، كما يتمنى نيتشه في فلسفته عن السوبر إنسان الذي لا يعرف الرحمة ولا الشفقةحتى تصوراتهم وأحلامهم بشعة!!
ثالثا: إن الفارق بين الربانية والبشرية، ووجود المركز (النص الإلهي المعصوم) الذي يمثل المعيار والمرجع الذي يُرجع إليه ويُقاس عليه يثمر فوارق نظرية وعملية في غاية الخطورة؛ منها هذا الفارق بين "الشريعة" و"القانون"؛ إذ إن "مهمة القانون الوضعي صياغةُ ما تعارف عليه الناس من أوضاع ومعاملات وتقاليد في صورة مواد تشريعية، مهما يكن في هذه الأوضاع والأعراف من فساد وانحراف، ومهما يكن وراءها من إضرار بالجماعة وبالأمة وبالإنسانية. فالقانون مرآة تعكس صورة الأمة صلاحا وفسادا ورقيا وهبوطا واستقامة وانحرافا، أما الشريعة فمهمتها أن ترقى بالأمة وتأخذ بيدها وتعينها على التحرر من ضغط الأنانية والشهوات وأسر التقاليد الفاسدة والأعراف الضارة. بينما مهمة الشريعة أن تُقَوِّم عوج الأمة وتصلح ما فسد منها لا أن تبرر ضعفها وانحرافها، وتضفي عليه صبغة شرعية أو قانونية، إنما تقر الصالح والنافع فقط مما تواضعت عليه الأمة. وفي هذا نجد بونا شاسعا بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، فالشريعة جاءت بـ "تقنين الأخلاق" أي جعل الأوامر والأحكام الأخلاقية قوانين ملزمة، أما القانون الروماني فقام على أساس "تقنين العادات" أي صياغة ما تعارف عليه الناس من أوضاع وتقاليد في صورة قوانين، وما أعظم الفرق بين الأمرين"ولقد كان نيتشه صادقا تماما وهو يعبر عن القانون في الفكر الغربي بأنه "تعبير عن رغبات الأقوياء"، بينما الشريعة في الإسلام هي دين نزل من عند الله، لا يملك أحد التلاعب بها، ويحرسها المسلمون كجزء من حراستهم لدينهم، كلما هلك في سبيلها قوم نهض آخرون!
رابعا: ومنها هذا الفارق بين "المعيارية" و"الوضعية" في العلوم الاجتماعية، إذ انقلب الفلاسفة في العصر الحديث على كل معيار ومرجع، وأرادوا دراسة الإنسان كما يدرسون المادة، يقول أوجست كونت مؤسس المذهب الوضعي: "ما دمنا نفكر بشكل وضعي في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة السياسة أو الدين، فالمنهج الوضعي الذي نجح في علوم الطبيعة يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير"ومن أجمل ما قرأت في وصف هذا الفارق ما قاله المفكر المجاهد علي عزت بيجوفيتش: "إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقًا لله، فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة (مادية)، إن وجودها قائم باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية، وفي مقابل ذلك إذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية فالناس غير متساوين... فطالما حذفنا المدخل الديني من حسابنا سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللا مساواة: عرقيًّا وقوميًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا. إن السمو الإنساني لم يكن من المستطاع اكتشافه بواسطة علم الأحياء أو علم النفس أو بأي علم آخر"ويشهد جوستاف لوبون بأن "العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقًا لنُظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا -قولاً لا فعلاً- راسخٌ في طبائع الشرع (الإسلامي) رسوخًا تامًّا، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدَّى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي"والخلاصة باختصار: أن الربانية تحسم الإجابات عن أسئلة ربما تنقضي فيها القرون وتهلك فيها العقول قبل التوصل إلى إجابات حاسمة فيها، سواء على مستوى تعريف القيم الكبرى كالتقدم والسعادة والأخلاق، أو على مستوى تعريف وضبط الغايات والعلاقات والسلوكيات تجاه الكون والإنسان والكائنات، أو على مستوى القرارات الصغيرة كالاتحاد والتفرق، فوحدة الأمة ليست مجرد قرار تحركه المصلحة كما فعل الغرب في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، ولا تفرقها إلى قوميات هو قرار كما في معاهدة وستفاليا، بل الاتحاد فرض ديني والتفرق حرام.. وعلى هذا فقِس الفوارق الكبرى بين الربانية والبشرية.
لقد عملت "الربانية" على بقاء عالم الإسلام ثابتا على أصوله الكبرى متمسكا بها وإن ضعف طامحا إلى استعادة مجده القديم وإن طال عليه الأمد، بينما كان أثر "البشرية" واسعا، فلقد "انتقلت أوروبا من دين بلا حضارة إلى حضارة بلا دين! ومن دين بلا علم إلى علم بلا دين! ومن دين يقتل حيوية الناس بالرهبانية السلبية وإهمال عمارة الأرض إلى حيوية عارمة تقتل الدين! ومن فكر يعتقد الثبات في كل شيء ويرفض إحداث أي تغيير في جانب من الحياة لأنه يخالف سنة الثبات، إلى فكر يعتقد التطور في كل شيء ولا يقر الثبات في شيء على الإطلاق"نشر في الخليج أون لاين




 Ernst Bloch‏: Natural Law and Human Dignity, p. 58 د. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص17، 20 (الحاشية). نيتشه: هكذا تكلم زرادشت ص74 وما بعدها. فوكوياما: نهاية التاريخ ص273 وما بعدها. فوكوياما: نهاية التاريخ ص243، 244. د. يوسف القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص97. محمد محمد أمزيان: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ص40. د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفلسفة ص205. د. مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص15. د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفلسفة ص210، وما بعدها. د. مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص17، 18. علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب ص100. جوستاف لوبون: حضارة العرب ص391. محمد قطب: كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص255.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2015 02:30

November 12, 2015

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر

يقدم لنا التاريخ الإسلامي مادة ثرية في التطبيق العملي للمنهج الإسلامي، وبوسع الباحثين في مجال التاريخ والحضارة الإسلامية أن يكتبوا الكثير والكثير عن قوة المجتمع الإسلامي وترابطه وتحمل أبنائه للمسئولية تجاه أنفسهم وأمتهم والعالمين.
وعلى الرغم من دخول الخلل على المسلمين -لا سيما بعد عصر الخلافة الراشدة- فإن آثار هذا الخلل لم تؤدِ لما هو متوقع في الظروف المماثلة من انهيار سريع للدولة والحضارة، بل ظل العالم الإسلامي يتألق حضاريًّا وعلميًّا وفكريًّا طوال ألف سنة بلا منافس تقريبًا، وهو ما زال –حتى هذه اللحظة- يقدم النموذج الأرقى في العلاقات الإنسانية والاجتماعية التراحمية، وخاصة في المناطق التي لم تتأثر كثيرًا بآثار الاحتلال والعلمنة.
وقد قدَّمنا في المقالات السابقة أن منهج الإسلام في تكوين الفرد وبناء النظام العام يجعل الفرد -في نفسه- مستشعرًا للمسئولية ومنبعثًا لحركة الإصلاح، ويجعل النظام العام مهيَّأً وقابلاً للإصلاح والتغيير.
ولقد استوعب الضمير الجمعي المسلم مركزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قضايا الدين، حتى لم يكن أحد من الفرق والطوائف الإسلامية إلا معتمدًا لها، ومنهم من غلا فيها كالخوارج والشيعة، ومنهم من جعلها أصلاً من أصول الطائفة كالمعتزلة، وكثيرًا ما يطالع قارئ كتب الطبقات والتراجم عبارة: "كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر". وذلك لكثرة المتطوعين للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى إن كثيرًا منهم لم نعرف أسماءهم، وكانت مواجهة السلطان -وهي ذروة المخاطرة- أكثر ما ينتشر من أخبار هؤلاء، وقد لاحظ مايكل كوك -بعد استقصاء واسع- أن مؤرخي التراجم يهتمون بإيراد وقائع مواجهة السلطان أكثر من اهتمامهم بتفصيل واقعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي بدأت بها هذه المواجهة(وعلى ضوء هذا سنجعل كلامنا في ذكر هذه الحوادث التاريخية منقسمًا إلى((1)
حجَّ هشام بن عبد الملك -وكان ذلك قبل أن يتولَّى الخلافة- فلم يتمكن من استلام الحجر الأسود لكثرة الزحام؛ فنُصِب له منبر، ووقف أهل الشام حوله حتى استطاع استلام الحجر، ثم إذا بالناس يوسعون لعلي بن الحسين من تلقاء أنفسهم، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا؟ فخشي هشام أن يتعلق به أهل الشام فقال: لا أعرفه. فقام الشاعر الفرزدق وقال: ولكني أعرفه. ثم أنشد:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ
وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ هَذَا ابْنُ خيرٍ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ


هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلِمُ وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه
العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ إِذَا رَأَتْهُ قريشٌ قَالَ قَائِلُهَا


إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ مُشْتَقّةٌ مِنْ رَسُولِ الله نَبْعَتُهُ
طَابَتْ مَغارِسُهُ والخِيمُ وَالشّيَمُ
وأبيات أخرى رائقة في مدحه والتعريض بالأمويين وتفضيله عليهم((2)
وكان عبد الله بن عبد العزيز العمري قوالاً بالحق أمَّارًا بالمعروف، وكان ذا هيبة وجلالة، وكان يقول: "إن من غفلتك عن نفسك، إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى، خوفًا من المخلوق، من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين، نزعت منه الهيبة، فلو أمر ولده لاستخف به". وكان هارون الرشيد إذا ذهب مكة أو المدينة زاره فطلب منه الموعظة أو فاجأه عبد الله فوعظه، فيتأثر الرشيد ويبكي، ولا يستطيع الرشيد -مهما اشتد عليه بالكلام- إلا أن يرفق ويتلطف في الردِّ عليه، وشاء عبد الله مرة أن يذهب إلى بغداد فتهيب الرشيد مجيئه؛ كأنما نزل به مائة ألف من جيش العدو، وجمع العُمَريين وقال لهم: ما لي ولابن عمكم، احتملته بالحجاز، فأتى إلى دار ملكي، يريد أن يفسد علي أوليائي، ردوه عني! فقالوا: لا يقبل منا. فأرسل الرشيد إلى أمير الكوفة موسى بن عيسى أن يتلطف به حتى يرده فلا يصل إلى بغداد، وقد كان((3)
اتخذ الإمام أبو إسحاق الفزاري لنفسه مهمة تربية وتعليم أهل الثغور حيث المجاهدين، فذهب إلى المصيصة وأقام بها، وكانت في ذلك الوقت من أهم مدن الثغور، ومع إمامته ومكانته صار يُذكر له هذا الفضل: "هو الذي أدب أهل الثغر، وعلمهم السنة، وكان يأمرهم وينهاهم، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه". كما يُذكر له تعرضه لسلطان –لعله والي المصيصة أو غيره- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضُرب مائة سوط أو أكثر، وأغلب الظن أن أبا حاتم الرازي كان يقصد ما فعل في الثغور حين قال: كان عظيم الغناء في الإسلام((4)
وفي عهد المعتضد بالله العباسي سَكِر أمير تركي؛ فلما مرَّت به امرأة حسناء راودها عن نفسها، واستغاثت المرأة بالناس الذين حاولوا إنقاذها؛ ولكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا أمام حراسة الأمير، الذين ضربوهم لا سيما رجل خياط تزعم محاولة إنقاذ المرأة، فرجع الخياط إلى بيته جريحًا، ثم ألهمه الله أن يؤذن في منتصف الليل كأنه أذان الفجر، فجاءته فرقة من الشرطة من عند الخليفة المعتضد فقبضوا عليه، وذهبوا به إلى المعتضد الذي هَدَّأ من روعه، وسأله: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه، فتَغِرُّ بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم؟! فحكى له الرجل قصة الأمير التركي، فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار الأمير والمرأة، ثم أوصل المرأة إلى زوجها في حراسة ثقات منه، وأمرهم أن يقصوا للزوج قصتها وأنها معذورة ليعفو عنها، ثم أمر بضرب الأمير التركي، كما ضرب من أمروه بالمعروف ونهوه عن المنكر، ثم أُلْقِي به في نهر دجلة، وأمر الخياط أنه إذا رأى شيئًا فليدخل عليه في أي وقت؛ فإن منعه أحد من الحرس فليؤذن في أي وقت، فصار هذا الخياط واسطة كل مظلوم له حق عند أي رجل من رجال الدولة، الذين كانوا يهابونه ويخافون من أذانه((5)
وثمة موقف ينبغي إيراده ويحتاج لبعض التفصيل:
لقد كان الخلفاء الأوائل من بني العباس يفسحون للعلماء ويسمعون منهم، هكذا كان المنصور والمهدي، ثم بلغ الأمر غايته مع هارون الرشيد، الذي كان يكثر القدوم على العلماء وطلب الموعظة منهم والتأثر بها، وبعد الرشيد وقعت الاضطرابات بين الأمين والمأمون، وقد خَفَّف من حدة هذه الاضطرابات ما قام به الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، حتى جاء عهد المأمون فكثر في الناس من يتصدى للأمر والنهي حتى قام به الجهلاء المجترئون، وحتى صار الشيوخ -لأنهم في زمن الفتنة وافتقاد الإمام- يحبسون ويعاقبون، فمنع المأمون -بعد استقرار الأمور- أحدًا أن يقوم بالحسبة إلا بإذن، فمن وثق في علمه أطلق له الإذن بهذا.
فمن الجهلاء المجترئين هذا الذي خرج على المأمون متحنطًا متكفنًا، وكان هذا في إحدى الغزوات، فاتهمه بترك الخمر يُباع في المعسكر، وبارتكاب الحرام، وبتحريمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلما ناظره المأمون تبين له أنه لا يعرف الخمر، ولا يُقَدِّر التدبير في الحرب فيظنه منكرًا ينهى عنه، ثم سأله المأمون:
رأيتك لو أنك أصبت فتاة مع فتى في هذا الفج، قد خضعا على حديث لهما، ما كنت صانعًا لهما؟ قال: كنت أسألهما: من أنتما؟ قال: كنت تسأل الرجل، فيقول: امرأتي. وتسأل المرأة: فتقول زوجي. ما كنت صانعًا بهما؟ قال: كنت أحول بينهما وأحبسهما. قال: حتى يكون ماذا؟ قال: حتى أسأل عنهما. قال: ومن تسأل؟ قال: كنت أسألهما من أين أنتما؟ قال: أحسنت، سألت الرجل من أين أنت؟ قال: من أسبيجاب. وسألت المرأة، قالت: من أسبيجاب؛ ابن عمي تزوجنا وجئنا. أكنت حابسًا الرجل والمرأة بسوء ظنك الرديء وتوهمك الكاذب، إلى أن يرجع الرسول من أسبيجاب، مات الرسول، أو ماتا إلى أن يعود رسولك؟ قال: كنت أسأل في عسكرك؟ قال: فلعلك لا تصادف في عسكري من أهل أسبيجاب إلا رجلاً أو رجلين، فيقولان لك: لا نعرف.
على هذا لبست الكفن يا صاحب الكفن؟! ما أحسبك إلا أحد رجال: إما رجل مديون، وإما رجل مظلوم، وإما رجل تأولت في حديث أبي سعيد الخدري (وسرد الحديث حتى بلغ) إلى قوله: "أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". فجعلتني جائرًا وأنت الجائر، وجعلت نفسك تقوم مقام الآمر بالمعروف وقد ركبت من المنكر ما هو أعظم عليك، لا والله لا ضربتك سوطًا، ولا زدت على تخريق كفنك، ونُفِيتُ من آبائي الراشدين المهديين لئن قام أحد مقامك، لا يقوم فيه بالحجة، لا نقصته من ألف سوط، وأمرت بصلبه في الموضع الذي يقوم فيه"(فأما إن كان عالمًا بالمعروف والمنكر فلم يمنعه المأمون؛ فهذا أبو نعيم الفضل بن دكين رأى جنديًّا يلمس امرأة في بغداد فصاح به وزجره، فأخذه الجندي إلى الشرطة، ورفعت الشرطة أمره إلى المأمون، فلما دخل على المأمون سلَّم عليه فردَّ المأمون السلام ردًّا ضعيفًا –وهي علامة غضب- ثم جيء له بماء ليتوضأ فتوضأ على بصر المأمون، ثم صلى ركعتين أمامه، ثم سأله المأمون أسئلة في الميراث، فأجاب عنها أبو نعيم، فقال المأمون: "يا هذا من نهى مثلك أن يأمر بالمعروف؟! إنما نهينا أقوامًا يجعلون المعروف منكرًا. قال: فقلت: فليكن في ندائك لا يأمر بالمعروف إلا من أحسن أن يأمر به"(وما يهمنا من سرد هذه الأخبار هو القول بأن كل هذه المواقف وغيرها، وباختلاف الأحوال وردود الأفعال -حتى التي وصل فيها الأمر إلى قتل السلطان لمن ينصحه- فلا ريب أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد آتى ثماره، إن لم يكن بالاستجابة المباشرة الفورية؛ فبما يلقيه من التردد والحذر في نفس السلطان، فينعكس هذا على عامة أعماله فيما بعد.
نشر في ساسة بوست


([1]) مايكل كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص137. ([2]) ونحن نعترف بأن هذا التقسيم مجحف، ولا يعبر عن سمو المنهج الإسلامي؛ ولكننا لم نجد أفضل منه في ظل المساحة المتاحة، وإذا ضربنا مثلاً فنقول: إن نصيحة فرد للحاكم قد جعلناها ضمن المواقف الفردية، على الرغم من أنه ما كان لهذا الفرد أن يفعل ذلك لولا أن النظام العام يسمح بمثل هذا؛ (في الفلسفات والمناهج السلطوية لم يكن الفرد العامي يجرؤ على مناقشة الإمبراطور، ولم يكن الإمبراطور يتخيل أن شيئًا من هذا يجوز في حقه)، وكذلك جعلنا عجز الحاكم عن إنفاذ أمره لتماسك المجتمع ضمن المواقف الجماعية، في حين أنه يمكن –في كثير من الأحيان- إرجاع الفضل لا لقوة المجموع فحسب؛ بل للتكوين الأخلاقي والنفسي لهذا الحاكم، الذي نزل عن إنفاذ أمره ولم يفكر في استعمال طرائق غير شرعية. ([3]) المزي: تهذيب الكمال 20/401، الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/398، ابن كثير: البداية والنهاية 9/126. ([4]) الذهبي: سير أعلام النبلاء 8/373 وما بعدها، وابن حجر: تهذيب التهذيب 5/302، 303. ([5]) العجلي: تاريخ الثقات ص54، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 1/281 وما بعدها، ابن عساكر: تاريخ دمشق 7/126. ([6]) ابن كثير: البداية والنهاية 11/ 102، 103. ([7]) الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات ص8 وما بعدها. ([8]) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 12/350.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 12, 2015 09:55

November 10, 2015

فوارق رئيسية بين التجربتين التركية والعربية (2)

يحتاج العرب إلى التأمل طويلا في التجربة التركية، لا على سبيل الاقتداء بها، بل على سبيل الاستفادة منها، ومن الاستفادة أن تُعْرَف مواطن الاتفاق ومواطن الافتراق، وأحسب أن التجربة التركية ضائعة بين من يتجاهل نجاحها وبين من لا يرى غيرها.
ولهذا بدأنا في المقال الماضي إلقاء النظر على فوارق رئيسية بين التجربتيْن، وهي فوارق تمنع من تكرار هذه التجربة أو الاقتداء بها في المحيط العربي، فيبقى أن نستفيد منها.
على أنه ينبغي هنا أن نكرر على معنى قديم لمن يحب الاقتداء بالتجربة التركية، وهو أن العدو يقرأ التاريخ أيضا، إذ يحسب الكثيرون أنه إن نجحت خدعة مرة أو طريقة مرة أنها قد تصلح في كل مرة، يحسبون العدو غافلا عن قراءة التجارب ويكرر ذات أخطائه!!
ونعود إلى ذكر الفوارق الرئيسية بين التجربتيْن:
(5)صراع الهوية
قال عمر بن الخطاب: العرب مادة الإسلام، فإذا عزَّ العرب عزَّ الإسلام، وإن ذل العرب ذل الإسلام.
إن إحدى أهم الحقائق التاريخية الكبرى أن العرب لا يملكون شيئا غير الإسلام، به كان مبتدأ أمرهم وبه بلغوا عزهم وصنعوا حضارتهم، وهم حين يأملون في بعث نهضتهم فليسوا يجدون غير الإسلام راية وشعارا وسبيلا، بل هم لا يعرفون غيره في باب الحضارة، بخلاف الحضارة الغربية –مثلا- التي تمتد جذورها "الحضارية" إلى ما قبل المسيحية: فلسفة اليونان وحضارة الرومان! (اقرأ هذا)
وما يهمنا -في سياقنا هذا- أن آثار حقبة الاحتلال الأجنبي للدولة العثمانية اختلفت بين العرب والترك، فمن الصحيح أن الاحتلال غذّى ودعم القومية العربية عند العرب والطورانية عند الأتراك، لكن العرب لم يجدوا في النهاية سوى الإسلام قومية لهم وفشلت فكرة القومية العربية المعادية للدين وتحولت إلى استبداد سلطوي بلا جذور فكرية ولا شرعية اجتماعية.
بينما كان النجاح أعلى من هذا في التجربة التركية، فقد عمل أتاتورك على إنشاء هوية جديدة خُلِق لها تاريخ جديد ولغة جديدة، فقد تولت ابنة أتاتورك بالتبني كتابة تاريخ جديد لتركيا، وكانت هي نفسها تلميذة في جنيف للمؤرخ الأنثروبولوجي يوجين بيتارد صاحب نظرية أن التاريخ هو صراع الأجناس العليا مع الأجناس الدنيا، فصَدَرَ عنها تاريخ عنصري يرى الترك جنسا أعلى، موجودا منذ قديم الزمان في منطقة الأناضول، وله لغة عليا قديمة أخذت منها سائر اللغات، وصارت المهمة تنقية اللغة مما دخلها من العربية والفارسية.. ونشأ جيل يظن نفسه أصل البشر وأعلاهم جنسا وأشرفهم لغة، ولا يرى للإسلام فضلا عليه.
لم يحدث هذا في التجربة العربية، فالقليل من حكام العرب –مع كل فجورهم- من استعلن بالكفر في مواقف محددة وقليلة، وظل خطابهم العام هو احترام الإسلام أو حتى الدفاع عنه شكليا وعلنيا.
كانت الحركة الإسلامية في تركيا تصد عن نفسها تهمة الخروج عن العلمانية، بينما كان الحكام العرب يصدون عن أنفسهم تهمة الخروج عن الإسلام.
ولا يُعقل أن تبدأ التجربة العربية المنتصرة في مسألة الهوية، من حيث بدأت التجربة التركية المهزومة في مسألة الهوية.
(6)بنية السلطة
كان من آثار "المشهد الديمقراطي" الموجود في التجربة التركية والغائب عن التجربة العربية أن اختلفت بنية السلطة في كليهما:
في العالم العربي يبدو واضحا أن الرئيس هو الإله بالنسبة للدولة، يقضي ما يشاء ويفعل ما يريد، والدولة كلها مجندة لتنفيذ رغباته مهما كانت غير طبيعية.. لذلك يتخيل العرب أن الوصول إلى موقع السلطة في دولة كتركيا يساوي أن الرئيس قد تمكن منها وصار يستطيع أن يفعل ما يريد، فكيف إذا قضى في السلطة أكثر من 12 عاما؟!!
الحقيقة بخلاف هذا، فالنموذج التركي منذ الخمسينات يسمح بديمقراطية شكلية قد تصل إلى تغير منصب رئيس الحكومة وأن يصعد إليه إسلاميون، وفي لحظة حرجة يأتي الانقلاب العسكري.. حتى النظام العلماني في تركيا لا يحكم تركيا بمجرد وجوده في السلطة بل من خلال تنظيم سري له العديد من الأذرع، لذلك أطلق وصف "الدولة العميقة" على الوضع التركي.
الديمقراطية التركية أقرب إلى التنافس على "جزء من السلطة" بينما الأجهزة النافذة التي لا تخضع لانتخابات وأهمها: الجيش والشرطة والقضاء والجهاز الإداري تمثل الثقل الرئيسي في جسم السلطة.. وهذا الثقل الرئيسي قادر دائما على الانقلاب على نتائج الديمقراطية التركية.
هذا بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام (ووسائل الإعلام في أي نظام رأسمالي تكون جزءا قويا من السلطة ولكنها لا تخضع للشعب ولا تعبر عنه بل تعبر عن مموليها.. وفي عصرنا هذا فالممولون يؤولون في النهاية للغرب والأمريكان).
فالخلاصة أن السلطة في تركيا لا تشبه السلطة في العالم العربي من حيث شموليتها.. ومع هذا فإن تركيا بلد التنظيمات السرية، ويجري تحت سقف الأحداث المعلنة معارك عديدة بين هذه التنظيمات.
بينما يبدو وضع العالم العربي وكأن السلطة فيه احتكرت الوجود وصادرت ما سواها، أو لنقل: إن هذا الجانب ما يزال مظلما مغلقا لا يُعرف عنه الكثير في العالم العربي، ولا يمكن أن ُيُعرف بدقة ما إذا كانت السلطة هي التنظيم الأوحد، أم هي الجزء المعلن من تنظيمات سرية حاكمة وخفية.
ولئن كان النظام الديمقراطي التركي سمح باشتباك بين الإسلاميين وهذه السراديب السرية، فإن غياب هذه الديمقراطية في العالم العربي يجعل الأمر مختلفا وأكثر صعوبة.
 (7)التغيير من داخل النظام
ذكرنا في المقال الماضي أن من آثار المشهد الديمقراطي في النظام التركي: احتواء الحركة الإسلامية، إذ ظل السبيل الديمقراطي مفتوحا أمامها حتى لم تفكر في مواجهة النظام من خلال حركة جهادية أو ثورة، ويكاد يختفي من التاريخ التركي الحديث قصة تجربة جهادية (مع وجود أفكار جهادية ولها انتشار ليس بالقليل بين الإسلاميين الأتراك). بينما انسداد السبل في العالم العربي لم يجعل من وسيلة للتغيير سوى الخروج على النظام ومصادمته.
صحيح أن الحركة الإسلامية التركية نجحت في لحظة ما –بعد محاولات عديدة- بالإمساك بزمام السلطة، إلا أن التغيير لم يزل بطيئا، وهو تغيير من لم يتمكن من مفاصل الدولة الرئيسية بعد، ربما يبدو الآن عصيا على الانقلاب عليه لكنها أيضا عصية عليه، ومن يعش في تركيا يعلم أن جهاز الدولة ليس مستجيبا للتوجه السياسي حتى الآن، بل هو معرقل له في كثير من الأحيان.
وتبدو المقارنة واضحة مع إيران، تلك التي جاء فيها التغيير جذريا وحاسما وبعد ثورة كبرى، إذ لم يمض وقت طويل حتى خلصت إيران ومفاصلها للملالي، فلذلك كان نمو القوة الإيرانية –رغم ما واجهته من حروب استغرقت نحو عقد من الزمن- أسرع وأفضل من غيره، فالتوسع الإيراني السياسي والثقافي (القوة الناعمة) هائل إذا قيس بكل العالم السني ومعهم تركيا أيضا. فلا تزال يد النظام التركي مغلولة عن أن تفعل عشر ما يفعله الإيرانيون من دعم المد الشيعي في أنحاء العالم.

وهكذا لكل شيء تكاليفه: فالتغيير من داخل النظام أقل كلفة بشرية ومادية ولكنه أبطأ كثيرا وحافل بالعثرات ويشترط نظاما يسمح بهامش من التغيير. بينما التغيير الثوري الجذري أعنف وأقسى وهائل التكاليف لكنه نتائجه أرسخ وأسرع وأقوى وهو الحل الوحيد في ظل نظام لا يسمح بأي هامش للتغيير ولا لديه أي مساحة للاحتواء.
نشر في تركيا بوست
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 10, 2015 11:23

November 8, 2015

جذور الخلاف الحضاري بين الإسلام والغرب

إن كل محاولة للتهوين من الخلاف بين الإسلام والغرب هي، فضلا عن تكلفها وتعنتها، غارقة في السذاجة، ذلك أنها تريد أن تتجاوز التاريخ الطويل الممتد بينهما، ليس فقط تاريخ الصراع السياسي والعسكري، بل حتى تاريخ الصراع الفكري والفلسفي.. ووراء كل ذلك وفي عمقه تلك الأصول الراسخة في الأفكار والمعتقدات.
تلك الأصول الراسخة منها ما لا يمكن حذفه ولا حذف آثاره، مثل: قصة الدين!
ذلك أن قصة الإسلام في الشرق تختلف وبشكل جوهري عن قصة المسيحية في الغرب، ولهذا الخلاف نتائج مؤثرة على كلا الحضارتين، على هذا النحو:
(1)حضارة قبل الدين، وحضارة صنعها الدين
ثمة إجماع بين المؤرخين على أن الحضارة الغربية لها ثلاثة جذور: الفلسفة اليونانية، الأنظمة الرومانية، الديانة المسيحيةوثمة إجماع آخر بين المؤرخين على أن العرب لم يكونوا ذوي حضارة قبل الإسلاموإذن، فقد حمل الفصل الأول من هذه القصة هذا الفارق الذي أدى بدوره إلى بعض النتائج:
أ. أن المسيحية "جزء" من التكوين الغربي، وقد ساعد خلو المسيحية من النظم والشرائع على بقاء واستمرار النظم الرومانية المستفادة والمنبثقة عن الفلسفة اليونانية. بينما الإسلام هو المكون الأساسي والوحيد للمسلمين، فالعرب لا يعرفون سوى الإسلام دينا وفلسفة ونظاما وشرائع، وغير العرب إنما يلزمهم بحكم إسلامهم أن يتخلوا ويتبرأوا بل وأن يكرهوا ما يناقض الإسلام من ميراثهم الحضاري، فظل الإسلام دائما حاكما لا محكوما، وهاضما لما قبله من النظم والشرائع لا متأثرا بها كما هو الحال في المسيحية التي تأثرت كثيرا بالتراث اليوناني والروماني.
ب. لقد تأثرت المسيحية بالتراث اليوناني والروماني تأثرا كبيرا، حتى إن ثمة أفكارا دينية رئيسية تسللت إلى المسيحية، واضطر الدعاة المسيحيون منذ بولس أن يصيغوا المعاني المسيحية في عبارات وصياغات يونانيةجـ. وإذا أخذنا المسألة القومية كمثال على ما سبق، نرى كيف "احتوى الإسلام الباكر على عناصر من القومية العربية، لكن محمدًا (r) وأتباعه رفضوا النهج اليهودي للانعزال القومي وابتكروا بدلا من ذلك مجتمعا دوليا جديدا، وتبنت البلاطات الملكية ثقافة راقية متعددة القوميات، وكان الدين في أيدي جماعة من العلماء متعددي القوميات على نحو واعٍ ذاتيا، وكانت بعض الدول الإسلامية تحكمها سلالة تتكون من مجموعة أقلية عرقية (مثل البويهيين والسلاجقة)، وكانت الإمبراطورية العثمانية مأهولة بمزيج من المجموعات العرقية، وهكذا تجاوزت وحدة الأمة (الإسلامية) الاختلافات العرقية أكثر بكثير مما فعلت الكنيسة؛ سواء في العالم المسيحي الشرقي أو الغربي، قبل الإصلاح أو بعده، ولم تكن توجد دولة قومية في العالم الإسلامي حتى القرن العشرين"(2)تحقيق الحضارة على الأرض
ثم يأتي الفصل الثاني من القصة فنرى المسيح عليه السلام، كما هو في التصور الغربي، يُصلب ويُقتل، دون أن يحقق نصرا لا على المستوى الديني ولا على المستوى الدنيوي، ثم يكون أبرز تلاميذه وناشري دعوته ممن مات عنهم وهم كافرون به، وظل أتباعه يزيدون ببطء وينزل بهم كل صنوف العذاب، حتى يتولى قسطنطين عرش الإمبراطورية الرومانية، ويدخل في المسيحية، فتأخذ المسيحية في الانتشار الواسع.
بينما نرى محمدا r يموت وقد أسس دولة شملت الجزيرة العربية، ودخل حربين مع الروم، وأرسل رسائله إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ونشر الدين ووحد العرب، واكتمل نزول الكتاب عليه، وظل صحابته الذين عايشوه طويلا يحكمون بعده بأنفسهم لستين سنة، وظل صحابته ينشرون الدين بأنفسهم بعده لقرن من الزمان.
وهذا الفارق في الفصل الثاني من القصة كانت له نتائج مؤثرة منها:
أ. أن الإسلام –كما يقول هاملتون جِب- "ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"ب. أن الغرب يملك -ولو نظريا، أو مرحليا- التخلي عن المسيحية، إذ له في التراث اليوناني والروماني ما يقيم صلبه، أو على الأقل يؤمن الغربي بقدرته على النهوض بمعزل عن المسيحية كما نهض بدونها أول مرة. بينما لا يملك المسلمون التخلي عن الإسلام -ولو أرادوا- لأنه يمثل كل تراثهم، وليس لهم سواه من تراث، فهو سرهم وجوهرهم وسبب تميزهم كأمة ومبرر وجودهم كأصحاب رسالة، وهذا تفكير منطقي وضعي حتى ولو لم يتفق مع قول الإمام مالك "لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"ولذلك نرى التراث الفلسفي الغربي على ثلاث شعب: فلسفة سبقت المسيحية كفلسفة اليونان، وفلسفة حاولت التوفيق بينها وبين العلم كأوائل فلاسفة العصور الوُسطى وأبرزهم توما الإكويني، وفلسفة هاجمت المسيحية ابتغاء تصحيحها أو إقصائها كفلاسفة ما قبل وبعد الثورة الفرنسية ومنظري الإلحاد والمادية والعلمانية. بينما "الفلسفة الإسلامية" كانت دائما تقدم نفسها باعتبارها "الفهم الصحيح للإسلام" ولم تزعم فرقة من الفرق التي نشأت في التاريخ الإسلامي -على اختلافها- أنَّ مذهبها "خارج عن الإسلام".
جـ. أن النصرانية –كما يقول ولفرد كانتول سميث- "أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم"د. ومن ثَمَّ كانت عصور ازدهار المسيحية عصورَ تخلف وركود، وكان الخروج إلى تغيير العالم مرتبطا بالانحراف عن المسيحية أو بالانقلاب عليها وعزلها عن الحياة، وكانت معركة العلم معركة ضد الدين في ذات اللحظة. بينما الحال في الإسلام على النقيض من هذا، فعصور ازدهار الإسلام هي عصور الازدهار العلمي والحضاري، وعصور التخلي عن الإسلام هي عصور الضعف والانحطاط.
وبينما يتقبل الغربيُّ ببساطة كون عصور ازدهار المسيحية هي "العصور المظلمة" ترى عقلية المسلم تستغرب من ازدهار الحضارة في وجود الكُفْر، وهذا ما عبَّر عنه رفاعة الطهطاوي -حين زار باريس شابا- في بيتْن من الشعر يقول فيهما:
أيوجد مثل باريس ديار؟! .. شموس العلم فيها لا تغيبوليل الكفر ليس له صباح .. أما هذا –وحقكمُ- عجيب!!.
فخلاصة القصة أن الفارق بين المسيحية بالنسبة للغرب وبين الإسلام بالنسبة للمسلمين ليس مجرد فارق بين دينين، ولا بين نظامين، بل هو فارق تأسيسي خطير؛ فالمسيحية جزء من الروح الغربية والإسلام هو كل الروح الإسلامية، والمسيحية تركز على عالم الملكوت وكل تغيير يتم في هذا العالم يُعدّ خصما من رصيد الآخرة، بينما الإسلام يرى أن النجاح في الآخرة مبني على النجاح في الدنيا ومرتبط به، وأن بذل المجهود في إقامة مملكة الله في الدنيا هو الطريق لنيل ملكوت الله في الآخرة.
نشر في الخليج أون لاين



Gustave E. Grunebaum: Modern Islam; The Search for Cultural Identity, p. 147.وانظر: برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 1/16، 17. ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص55 وما بعدها، باتريك بوكانان: موت الغرب ص339 وما بعدها. هذا إذا غضضنا الطرف عن محاولات بعض المؤرخين القوميين في الحقبة القومية لاختلاق حضارة للعرب قبل الإسلام، وهي محاولة أيديولجية أكثر منها علمية، وليس هنا مقام الرد عليها، ولكن نقول بإيجاز: الحضارات العربية التي يتحدثون عنها شهدت انقطاعا طويلا حتى لم يعد لها أثر في المجتمع الذي أرسل فيه النبي، وهو مجتمع لم تتحقق فيه أي مظهر من مظاهر الحضارة، والعرب أنفسهم بعد أن جاءهم الإسلام رأوا أنفسهم في حقبة جديدة تماما وليست امتدادا ولا تجديدا ولا بعثا لحضارات قديمة.  رواه الحاكم في المستدرك (207) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة (33847، 34444). ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص10، 71. القاضي عبد الجبار المعتزلي: تثبيت دلائل النبوة ص173. أنتوتي بلاك: الغرب والإسلام ص122. (باختصار) جب: وجهة العالم الإسلامي ص9. القاضي عياض: الشفا 2/205. ولفرد كانتول سميث: الإسلام في التاريخ الحديث ص9، نقلا عن: محمد قطب: كيف نكتب التاريخ الإسلامي ص102.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 08, 2015 04:11