محمد إلهامي's Blog, page 40
November 11, 2016
ترامب.. بطل الحضارتيْن وأمل الأمتيْن
في مقاله الذي اشتهر وانتشر، وضع مايكل مور ضمن أسباب توقعه لفوز ترامب بالرئاسة: أنه وفريقه وأتباعه أكثر حماسة وتمكسا وتعصبا لأفكارهم من جمهور هيلاري كلينتون، ومن ثَمَّ فهم الأقدر على بذل المجهود في الدعاية والحشد والإقناع، وهم الأكثر نشاطا في النزول من البيوت والوقوف في الطوابير وانتظار التصويت، وعليه فهم الأوفر حظا في حصاد الأصوات والفوز بالرئاسة.
هذه النزعة في التحليل تظهر كثيرا في المؤلفات الغربية التي تحاول تحليل المخاطر المتوقعة على الحضارة الغربية، إذ تسود قناعة مفادها أن الحضارة الغربية توفر للمواطن رفاهة مادية بينما لا توفر له رسالة قيمية تداعب خياله وتفجر طاقاته في ساحات البطولة، لا سيما منذ سادت النزعة التي تستبعد الدين أو تشكك فيه أو تعتبره شيئا هامشيا للغاية وشخصيا للغاية. وفي هذا الإطار ننقل عن إيان بوروما وأفيشاي مرجليت - وهذا الثاني إسرائيلي وأستاذ فلسفة بالجامعة العبرية في القدس وحاصل على جائزة إسرائيل في الفلسفة- قولهما:
"الطبيعة البورجوازية، المادية، غير البطولية، وغير الطوباوية، التي تتسم بها الحضارة الليبرالية يمكن أن تجعل من الدفاع عن هذه الحضارة أمرا عسيرا. وحين تسود السوق الحرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، يشعر المثقفون أنهم هامشيون، وأنهم لا يُقَدَّرون حق قدرهم، وينزعون إلى الانشداد نحو السياسة أو نحو السياسات التي تطلق أكبر المزاعم، وإذ يأخذون حرياتهم على أنها من المسلمات، يقعون بسهولة فريسة لأعداء الغربوهكذا يبدو أن كلينتون لم تجد إلا قلة قليلة فحسب كانت مستعدة للبذل من أجلها مقارنة بترامب، ولو مددنا الخط على استقامته لوصلنا إلى أن كلينتون تمثل نموذج الحضارة المادية الليبرالية البرجوازية غير البطولية، نموذج الإحصائيات الباردة والابتسامات الدبلوماسية والحفاظ على التوازنات وعلى الخطاب المائع المغازل للجميع، في مقابل ترامب المتحمس المتعصب الصادم الطموح الذي لا يجامل ولا يداري ولا يبالي، نموذج الفكرة الواضحة الصريحة مهما كانت حادة ومتطرفة ومزعجة، الفكرة التي تثير الأنصار وتلهبهم كما تصنع الخصوم وتفزعهم، وهكذا صنع ترامب أنصاره، وبحماستهم تلك فاز!!
بهذا المنظور يمكن القول بأن الذين انتخبوا ترامب إنما نظروا إليه كبطل يمكنه إنقاذ أمريكا التي تتدهور وتسير في الطريق الخاطئ لنموذج حضاري صار يجلب الغرائب –كما يقول مايكل مور- كالرئيس الأسود، وامرأة، ويُتوقع أن يأتي بعدهما بمثلي أو بمتحول الجنس ثم بحيوان بعد أن يسبغ عليه "حقوق الإنسان"!!
ولئن كان هذا مفهوما في ذلك السياق، فالمثير للتأمل حقا هو ما كان يجري عندنا..
لم تتعامل عموم البيئة العربية والإسلامية، كما تبدى من خلال التعليقات الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، مع فوز ترامب بالفزع الواجب المتوقع، فقط تلك الشرائح النخبوية المنسوبة إلى الواقعية والعقلانية والسياسة والمحافظة والتوازن... إلخ هي التي تلقت نبأ فوز ترامب كصعقة كهربائية حادة، خصوصا وقد خانتهم استطلاعات الرأي والإحصاءات، بل نقولها بوضوح أشد: خانتهم أفكارهم عن الديمقراطية وعن الشعب الأمريكي والتي لم يكن متوقعا بحال أن تهديهم إلى مثل هذه النتيجة: لقد أنتجت "آليات الديمقراطية" ما يناقض "فلسفة وقيم الديمقراطية"، وانقلبت "الوسيلة" على "الغاية"، وصارت أمامهم مهمة عسيرة في تفسير ما حصل.
لقد أسفرت تعليقات عموم الجماهير عن حالة من اللا مبالاة، وكثرت تعليقاتهم التي تجري على هذا المذهب: "لا تنتخبوا ترامب، سيدمر العالم بجنون، انتخبوا كلينتون، ستدمر العالم بعقلانية"، "الفارق بين ترامب وكلينتون أن الأول سيقطعنا بالساطور بينما الثانية ستقطعنا بالشوكة والسكين"، "فاز أبو لهب على حمالة الحطب".. وهكذا! ولم يُخْفِ كثير منهم أن فوز ترامب أفضل لأنه يمثل حالة من الوضوح تغني الجميع عن الزخارف التي تتجمل بها السياسة الوحشية. زملاؤنا في المعهد المصري رأوا في فوز ترامب راحة لهم من البحث والتحليل لفرط صراحته وبساطة أفكاره، على عكس كلينتون ذات الثقل الفكري والسياسي المغلف بدبلوماسية، ومدير المعهد قال: "فوز ترامب سيختصر على العالم فصول القصة لنصل سريعا إلى النهاية".
بخلاف تلك النخبة "الواقعية العقلانية... إلخ"، يبدو العالم وقد سيطرت عليه نزعة غضب وروح متفجرة، إن لم تكن مرحبة بمن يبدو أنه سيهدم المعبد فهي على الأقل لا تبالي به. بعضهم الذي أدركه الغرق وافترسته المصائب يردد مع أبي الطيب المتنبي: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟! وبعضهم لم يدركه الغرق بعدُ، لكنه يعلم أن الخير لن يدركه كذلك، وحيث صارت الأحلام بعيدة المنال فهو يردد مع أبي فراس الحمداني: إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القطر!
تمنى بعضهم الهجرة إلى خارج الكوكب! فنصحهم آخرون بأنه لم يعد في العالم مكان آمن للهجرة، لقد صار المكان الآمن هو خط القتال الأول، ففيه نصر أو فيه موت سريع بلا إذلال! لقد صار ترامب –مثل بوش الابن وشارون من قبله- شخصا يعقد عليه الثوريون والجهاديون آمالهم وهم أعدى أعدائه، ينتظرون أن تثير سياسته طاقة الأمة وتحفزها وتنشطها، وتقطع على عملائه وأذنابه طرقهم الالتوائية في تجميل أنفسهم ومداراة عمالتهم، ثم هي توفر عليهم عناء الاشتباك مع التوافقيين والمسالمين ومن يحبون دائما البحث عن حلول وسط، لسان حالهم: جاءكم من لا يفهم هذه اللغة، فرددوا مع المتنبي:إذا لم يكن من الموت بُدٌّ .. فمن العجز أن تموت جباناولو أن الحياة تبقى لحيٍّ .. لعَدَدْنا أضلَّنا الشجعانا
"ترامب يليق بهذا العالم"..
قالها الكثيرون تشفيا وانتقاما، وضعوا صوره مع السيسي وبشار وغلام كوريا الشمالية وأمثالهم، ولكن: قد قالها الكثيرون أيضا على سبيل التفسير، إن قرونا من زراعة الشر والدمار لا بد لها من ثمار، والزينة لا تثبت على الوجه أبد الدهر، ولا بد أن يكشف الشيطان وجهه القبيح يوما.. ويبدو أن الجميع سئم الملالة، ويريد أن يرى الوجه الحقيقي للشيطان!
يتوقع المرء الكثير من الدراما في سنوات ترامب، إذ كيف برجل يرى فيه شعبه وأعداؤه بطلا منقذا لحضارتهم؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هنا يقصد بأعداء الغرب من يرون أنفسهم حملة رسالة وفكرة، ولهذا يتحركون بدوافع بطولية ويبذلون التضحيات، مثل الفاشية والنازية والشيوعية والإسلامية.. فهذه التوجهات تستهوي المثقفين لما فيها من بطولة وكفاح وشعور بتحقيق الذات أكثر مما تستهويهم الليبرالية الدنيوية الخالية من كل هذا، فيقعون حينئذ في حبال تلك التوجهات المعادية للغرب، ويمارسون الهجوم على الحضارة الغربية من خلال الحرية التي أتاحتها لهم هذه الحضارة نفسها، فيرسخون لكراهيتها والنفور منها، وبالتالي يعمقون من عيوبها ويوسعون ثغراتها، ما يجعل أبناء هذه الحضارة أنفسهم ينفرون منها فيكونون أبعد عن التفكير في التضحية من أجلها والدفاع عنها.. وبالتالي يكون هؤلاء المثقفون أنفسهم من أسباب انهيار الحضارة الغربية. إيان بوروما وأفيشاي مرجليت، الاستغراب: موجز تاريخ النزعة العدائية للغرب، ترجمة: ثائر ديب، (نسخة إلكترونية من موقع مكتبة نون، بدون بيانات نشر)، ص86.
هذه النزعة في التحليل تظهر كثيرا في المؤلفات الغربية التي تحاول تحليل المخاطر المتوقعة على الحضارة الغربية، إذ تسود قناعة مفادها أن الحضارة الغربية توفر للمواطن رفاهة مادية بينما لا توفر له رسالة قيمية تداعب خياله وتفجر طاقاته في ساحات البطولة، لا سيما منذ سادت النزعة التي تستبعد الدين أو تشكك فيه أو تعتبره شيئا هامشيا للغاية وشخصيا للغاية. وفي هذا الإطار ننقل عن إيان بوروما وأفيشاي مرجليت - وهذا الثاني إسرائيلي وأستاذ فلسفة بالجامعة العبرية في القدس وحاصل على جائزة إسرائيل في الفلسفة- قولهما:
"الطبيعة البورجوازية، المادية، غير البطولية، وغير الطوباوية، التي تتسم بها الحضارة الليبرالية يمكن أن تجعل من الدفاع عن هذه الحضارة أمرا عسيرا. وحين تسود السوق الحرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، يشعر المثقفون أنهم هامشيون، وأنهم لا يُقَدَّرون حق قدرهم، وينزعون إلى الانشداد نحو السياسة أو نحو السياسات التي تطلق أكبر المزاعم، وإذ يأخذون حرياتهم على أنها من المسلمات، يقعون بسهولة فريسة لأعداء الغربوهكذا يبدو أن كلينتون لم تجد إلا قلة قليلة فحسب كانت مستعدة للبذل من أجلها مقارنة بترامب، ولو مددنا الخط على استقامته لوصلنا إلى أن كلينتون تمثل نموذج الحضارة المادية الليبرالية البرجوازية غير البطولية، نموذج الإحصائيات الباردة والابتسامات الدبلوماسية والحفاظ على التوازنات وعلى الخطاب المائع المغازل للجميع، في مقابل ترامب المتحمس المتعصب الصادم الطموح الذي لا يجامل ولا يداري ولا يبالي، نموذج الفكرة الواضحة الصريحة مهما كانت حادة ومتطرفة ومزعجة، الفكرة التي تثير الأنصار وتلهبهم كما تصنع الخصوم وتفزعهم، وهكذا صنع ترامب أنصاره، وبحماستهم تلك فاز!!
بهذا المنظور يمكن القول بأن الذين انتخبوا ترامب إنما نظروا إليه كبطل يمكنه إنقاذ أمريكا التي تتدهور وتسير في الطريق الخاطئ لنموذج حضاري صار يجلب الغرائب –كما يقول مايكل مور- كالرئيس الأسود، وامرأة، ويُتوقع أن يأتي بعدهما بمثلي أو بمتحول الجنس ثم بحيوان بعد أن يسبغ عليه "حقوق الإنسان"!!
ولئن كان هذا مفهوما في ذلك السياق، فالمثير للتأمل حقا هو ما كان يجري عندنا..
لم تتعامل عموم البيئة العربية والإسلامية، كما تبدى من خلال التعليقات الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، مع فوز ترامب بالفزع الواجب المتوقع، فقط تلك الشرائح النخبوية المنسوبة إلى الواقعية والعقلانية والسياسة والمحافظة والتوازن... إلخ هي التي تلقت نبأ فوز ترامب كصعقة كهربائية حادة، خصوصا وقد خانتهم استطلاعات الرأي والإحصاءات، بل نقولها بوضوح أشد: خانتهم أفكارهم عن الديمقراطية وعن الشعب الأمريكي والتي لم يكن متوقعا بحال أن تهديهم إلى مثل هذه النتيجة: لقد أنتجت "آليات الديمقراطية" ما يناقض "فلسفة وقيم الديمقراطية"، وانقلبت "الوسيلة" على "الغاية"، وصارت أمامهم مهمة عسيرة في تفسير ما حصل.
لقد أسفرت تعليقات عموم الجماهير عن حالة من اللا مبالاة، وكثرت تعليقاتهم التي تجري على هذا المذهب: "لا تنتخبوا ترامب، سيدمر العالم بجنون، انتخبوا كلينتون، ستدمر العالم بعقلانية"، "الفارق بين ترامب وكلينتون أن الأول سيقطعنا بالساطور بينما الثانية ستقطعنا بالشوكة والسكين"، "فاز أبو لهب على حمالة الحطب".. وهكذا! ولم يُخْفِ كثير منهم أن فوز ترامب أفضل لأنه يمثل حالة من الوضوح تغني الجميع عن الزخارف التي تتجمل بها السياسة الوحشية. زملاؤنا في المعهد المصري رأوا في فوز ترامب راحة لهم من البحث والتحليل لفرط صراحته وبساطة أفكاره، على عكس كلينتون ذات الثقل الفكري والسياسي المغلف بدبلوماسية، ومدير المعهد قال: "فوز ترامب سيختصر على العالم فصول القصة لنصل سريعا إلى النهاية".
بخلاف تلك النخبة "الواقعية العقلانية... إلخ"، يبدو العالم وقد سيطرت عليه نزعة غضب وروح متفجرة، إن لم تكن مرحبة بمن يبدو أنه سيهدم المعبد فهي على الأقل لا تبالي به. بعضهم الذي أدركه الغرق وافترسته المصائب يردد مع أبي الطيب المتنبي: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟! وبعضهم لم يدركه الغرق بعدُ، لكنه يعلم أن الخير لن يدركه كذلك، وحيث صارت الأحلام بعيدة المنال فهو يردد مع أبي فراس الحمداني: إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القطر!
تمنى بعضهم الهجرة إلى خارج الكوكب! فنصحهم آخرون بأنه لم يعد في العالم مكان آمن للهجرة، لقد صار المكان الآمن هو خط القتال الأول، ففيه نصر أو فيه موت سريع بلا إذلال! لقد صار ترامب –مثل بوش الابن وشارون من قبله- شخصا يعقد عليه الثوريون والجهاديون آمالهم وهم أعدى أعدائه، ينتظرون أن تثير سياسته طاقة الأمة وتحفزها وتنشطها، وتقطع على عملائه وأذنابه طرقهم الالتوائية في تجميل أنفسهم ومداراة عمالتهم، ثم هي توفر عليهم عناء الاشتباك مع التوافقيين والمسالمين ومن يحبون دائما البحث عن حلول وسط، لسان حالهم: جاءكم من لا يفهم هذه اللغة، فرددوا مع المتنبي:إذا لم يكن من الموت بُدٌّ .. فمن العجز أن تموت جباناولو أن الحياة تبقى لحيٍّ .. لعَدَدْنا أضلَّنا الشجعانا
"ترامب يليق بهذا العالم"..
قالها الكثيرون تشفيا وانتقاما، وضعوا صوره مع السيسي وبشار وغلام كوريا الشمالية وأمثالهم، ولكن: قد قالها الكثيرون أيضا على سبيل التفسير، إن قرونا من زراعة الشر والدمار لا بد لها من ثمار، والزينة لا تثبت على الوجه أبد الدهر، ولا بد أن يكشف الشيطان وجهه القبيح يوما.. ويبدو أن الجميع سئم الملالة، ويريد أن يرى الوجه الحقيقي للشيطان!
يتوقع المرء الكثير من الدراما في سنوات ترامب، إذ كيف برجل يرى فيه شعبه وأعداؤه بطلا منقذا لحضارتهم؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هنا يقصد بأعداء الغرب من يرون أنفسهم حملة رسالة وفكرة، ولهذا يتحركون بدوافع بطولية ويبذلون التضحيات، مثل الفاشية والنازية والشيوعية والإسلامية.. فهذه التوجهات تستهوي المثقفين لما فيها من بطولة وكفاح وشعور بتحقيق الذات أكثر مما تستهويهم الليبرالية الدنيوية الخالية من كل هذا، فيقعون حينئذ في حبال تلك التوجهات المعادية للغرب، ويمارسون الهجوم على الحضارة الغربية من خلال الحرية التي أتاحتها لهم هذه الحضارة نفسها، فيرسخون لكراهيتها والنفور منها، وبالتالي يعمقون من عيوبها ويوسعون ثغراتها، ما يجعل أبناء هذه الحضارة أنفسهم ينفرون منها فيكونون أبعد عن التفكير في التضحية من أجلها والدفاع عنها.. وبالتالي يكون هؤلاء المثقفون أنفسهم من أسباب انهيار الحضارة الغربية. إيان بوروما وأفيشاي مرجليت، الاستغراب: موجز تاريخ النزعة العدائية للغرب، ترجمة: ثائر ديب، (نسخة إلكترونية من موقع مكتبة نون، بدون بيانات نشر)، ص86.
Published on November 11, 2016 22:37
November 10, 2016
عوائق في طريق الثورة
لا تزال قصة الثورة العباسية تمدنا بالدروس والعبر، وقد تناولنا في المقالات السابقة دروسها في: اختيار مكان الثورة، وتأسيس الخلايا السرية، ومقاومة الاختراقات، ورسمنا صورة مختصرة عن التنظيم السري الذي خطط ومهد للثورة العباسية.
ولدينا في السطور القادمة درسان في عوائق تعترض الثورة؛ الأول: حين تعرض فرصة ثورية غير ناضجة، هل ينبغي أن ننتهز الفرصة ونسرع العمل ونلحق بالراية التي رفعت عن غير قصد أو انتظار أم نحجم عن كل هذا ونبتعد عن هذه الفرصة لاحتمالات فشلها؟.. ومن عجيب توافقات القدر أني أكتب هذه الأسطر قبل يومين من موجة (11/11) التي يتلقاها الصف الثوري الإسلامي وهو يشهد نفس ذات الانقسام عليها. والثاني: حين يموت الزعيم المؤسس.
فرصة ثورية غير ناضجة
بعد إعادة الهيكلة وتأسيس المعاني والآداب للتنظيم مضت الدعوة في طريقها السرِّيِّ مضيًّا حثيثًا، لكنها لم تكمل ثلاث سنوات أخرى حتى فاجأتها ثورة علوية أخرى في الكوفة، يقودها زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب (120هـ).
كان زيد بن علي في المدينة المنورة، ثم قدم إلى الكوفة في دعوى نزاع على مال قيل: إنه أخذه من خالد بن عبد الله القسري. فلما قُضي الأمر وأراد الخروج من الكوفة، تبعه كثير من أهلها يُبايعونه على الخروج على بني أمية ويحرضونه على ذلك، وبايعه على هذا أربعون ألفًا منهم، ثم انتكس أمره حين سأله بعض الشيعةوما يهمنا الآن في سياق التأريخ للعباسيين أن ثورة زيد في الكوفة فاجأت دعاة العباسيين بظهور رجل من آل البيت يتزعَّم ثورة على بني أمية، وهو الهدف نفسه الذي يدعون إليه؛ فلا شكَّ أنه ساهم في انفضاض بعض أتباعهم انحيازًا إلى ثورة زيد بن علي، كذلك كان الدعاة العباسيون أنفسهم على شكٍّ من أمرهم: هل يتبعون زيدًا باعتبار أنه ثائر من آل البيت وينحازون بثقلهم إليه؟ أم لا يتبعونه ولا يمنعون منِ اتباعه؟ أم يُخَذِّلون الناس عنه؟ ثم حسم الأمر بما جاءهم من الإمام محمد بن علي باجتناب هذه الثورة التي توقَّع لها الفشل، بل زادت بعض روايات أنهم مارسوا التخذيل عنه -أيضًا- مما تسبب في ازدياد انفضاض الناس عن زيد بن علي، وأهمُّ من هذا وذاك أن الدعوة دخلت في طور الكمون والهدوء مرة أخرى؛ حتى انتهت هذه الثورةومن المتوقَّع أن أثر هذه الثورة عاد على أهل الدعوة العباسية بالخير على مستوى الثقة بالقيادة، وبالمنهج التنظيمي الهادئ المتدرِّج، ولكنه عاد بأثر سلبي على بيئة الدعوة؛ التي تعرَّضت لإحباط جديد بعد هذا الفشل الجديد، فلو نظرنا بعين المحب لآل البيت والثائر معهم لرأينا فشل الثورة ومقتل زيد، وكأنه حلقة جديدة في مسلسل لا يُريد أن ينتهي؛ بل ولا تبدو له نهاية .. وما كان أحد منهم يدري ولا من غيرهم أن عشر سنوات فحسب تفصلهم عن نهاية الدولة الأموية القوية، وكذا الناس في كل عصر؛ ولا يعلم الغيب إلَّا الله!
لكن ها هنا سؤال: هل يصدق هذا على مثل حال الصف الثوري الإسلامي إزاء موجة (11/11)؟ ومن ثَمَّ ينبغي ألا يندفع إليها ولا يساهم فيها أو حتى يمارس التخذيل عنها؟
والإجابة: لا يصح القياس بين الموقفين، فتنظيم الدعوة العباسية كان تنظيما متماسكا لديه رؤية وخطة وأنصار وأرض وخلايا سرية عاملة وقيادة تحوز الشرعية والثقة، وكل هذا معدوم في المشهد الإسلامي الحالي المعارض للانقلاب، ولهذا يمكن النظر إلى حكمة العباسيين في تجنب التورط في فرصة ثورية غير ناضجة، فيما لا يمكن القطع بهذا في الواقع الحالي. وهذا مجرد استطراد وأما الرأي في موجة 11/11 وما ينبغي فيها فندعه لمقام آخر.
وفاة الإمام محمد بن علي العباسي
وفى سنة (125هـ) تُوُفِّيَ محمد بن علي العباسي وعمره ستون سنة أو أكثر قليلًا (2)، في السنة نفسها التي مات فيها خليفة الأمويين هشام بن عبد الملك، لكنَّ محمد بن علي ورثه مَنْ كان على المستوى المطلوب فأكمل ما بدأه، على خلاف مَنْ ورثوا هشام بن عبد الملك .. ذلك هو ولده إبراهيم بن محمد، وكان الإمام محمد قد أوصى النقباء في الاجتماع الأخير بهم بابنه إبراهيم، وتوقَّع أنه قد لا يعيش إلى العام القادموحمل أبو مسلم خادم الإمام محمد خبر وفاته، وتولِّي ابنه إبراهيم الإمامة من بعده إلى أتباعه وأنصاره في العراق وخراسانكان الإنجاز الكبير لمحمد بن علي العباسي تأسيسه للتنظيم؛ فمن هنا تحوَّلت الفكرة الهائجة في العقل والقلب إلى عمل في الواقع، فلهذا وككل المؤسسين فلا بد أن محمدًا قد ملأ نفوس أصحابه بالحب والإجلال والتعظيم، وقد ساعده في ذلك أنه سليل آل البيت، لكن شخصيته -أيضًا- كانت على القدر المطلوب من الكفاءة والدين والعلم والأخلاق، فهي الشخصية التي بهرت أستاذه أبا هاشم عبد الله؛ فجعلته يُوصي طلابه بالأخذ منه، ثم جعلته أخيرًا يُوصي إليه بأمر الدعوة، وكانت الأيام تزيدها حنكة وتجربة وتوهجًا؛ حتى استطاع أن يُدير تنظيمًا رأسه في الشام (معقل الأمويين) وطرفه في خراسان، في زمن تنتقل فيه الأخبار والتعليمات على ظهور الجياد.
إن اللحظة المفصلية في تاريخ محمد بن علي، وهي لحظة مفصلية في تاريخ الإسلام، بل وتاريخ الدنيا حين وضعت بين يديه وصية لدعوة جنينية ما زالت في طور التكوُّن؛ فالتقط الفرصة بسرعة بديهة عجيبة، واستوعب الأمر، ثم استوعب شخصيات الدعاة، وحلَّ في نفوسهم محلَّ شيخهم أبي هاشم، وأنشأ معهم علاقة وثيقة تقوم على الأخوة والتعاون؛ كان يخاطب سلمة بن بجير: «أنت أخي دون الإخوة، ولست أقطع أمرًا دونك، ولا أعمل إلَّا برأيك، وهذا الأمر لا تنال حقيقته إلَّا بالتعاون عليه». و «لك سبقك في هذا الأمر، ولك فيه فضلك بنفسك وبما مضى عليه أبوك رحمه الله، ولكل رجل خاصة، وخاصتي من أهل مصركم أنت وقبيلك». كما يقول عن بكير بن ماهان: «قد وَجَّهْتُ إليكم شُقَّة مني»واستطاع محمد بن علي أن يحافظ على استمرار الدعوة وسريتها بإخفاء اسم الإمام، الذي لم يكن يعرفه إلَّا كبير الدعاة في الكوفة، وكبير الدعاة في خراسان، وعدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد يسير بالرسائل منه وإليه، وعلى الرغم مما أثارته مجهولية اسم الإمام هذه من مشكلات للدعاة؛ فإنها حافظت على رأس الدعوة حتى اللحظة الأخيرة .. وسنرى أنه في اللحظة التي اكتُشف فيها إمام الدعوة كان الوقت قد فات، والدولة قد قامت، وما عادت معرفة الإمام شيئًا مؤثِّرًا في مجرى الأحداث.
ما كنا سندري شيئًا من أحوال محمد لولا أن دولته التي غرسها قامت .. فكم من مؤسسي الحركات تجاوزهم التاريخ؛ لأن حركاتهم فشلت! فبقدر نجاح الحركات يُذكر رجالها.
نشر في ساسة بوست
مفهوم «الشيعة» تعرَّض إلى تطور تاريخي؛ ففي حين كان معناها في عصر علي بن أبي طالب هو المعنى اللغوي نفسه «الأنصار والأتباع وما إلى ذلك»، صار اسم الشيعة ينصرف إلى مذهب فكري يرى أحقية آل البيت بالخلافة، وهنا في تلك اللحظة سيظهر بوضوح مذهب آخر في الشيعة يسب أبا بكر وعمر، ولا يترضى عليهما، ويراهما اغتصبا حق علي - رضي الله عنه - في الخلافة، وسيُطلق على هؤلاء لفظ «الرافضة» أو «الروافض»؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي حين لم يوافقهم على سب الشيخين .. كما سيُعرف مَنْ وافقوه بـ «الزيدية»، وهم أقرب طوائف الشيعة إلى أهل السنة. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص230. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 118. الدينوري: الأخبار الطوال ص339. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص190، 192، 213.
ولدينا في السطور القادمة درسان في عوائق تعترض الثورة؛ الأول: حين تعرض فرصة ثورية غير ناضجة، هل ينبغي أن ننتهز الفرصة ونسرع العمل ونلحق بالراية التي رفعت عن غير قصد أو انتظار أم نحجم عن كل هذا ونبتعد عن هذه الفرصة لاحتمالات فشلها؟.. ومن عجيب توافقات القدر أني أكتب هذه الأسطر قبل يومين من موجة (11/11) التي يتلقاها الصف الثوري الإسلامي وهو يشهد نفس ذات الانقسام عليها. والثاني: حين يموت الزعيم المؤسس.
فرصة ثورية غير ناضجة
بعد إعادة الهيكلة وتأسيس المعاني والآداب للتنظيم مضت الدعوة في طريقها السرِّيِّ مضيًّا حثيثًا، لكنها لم تكمل ثلاث سنوات أخرى حتى فاجأتها ثورة علوية أخرى في الكوفة، يقودها زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب (120هـ).
كان زيد بن علي في المدينة المنورة، ثم قدم إلى الكوفة في دعوى نزاع على مال قيل: إنه أخذه من خالد بن عبد الله القسري. فلما قُضي الأمر وأراد الخروج من الكوفة، تبعه كثير من أهلها يُبايعونه على الخروج على بني أمية ويحرضونه على ذلك، وبايعه على هذا أربعون ألفًا منهم، ثم انتكس أمره حين سأله بعض الشيعةوما يهمنا الآن في سياق التأريخ للعباسيين أن ثورة زيد في الكوفة فاجأت دعاة العباسيين بظهور رجل من آل البيت يتزعَّم ثورة على بني أمية، وهو الهدف نفسه الذي يدعون إليه؛ فلا شكَّ أنه ساهم في انفضاض بعض أتباعهم انحيازًا إلى ثورة زيد بن علي، كذلك كان الدعاة العباسيون أنفسهم على شكٍّ من أمرهم: هل يتبعون زيدًا باعتبار أنه ثائر من آل البيت وينحازون بثقلهم إليه؟ أم لا يتبعونه ولا يمنعون منِ اتباعه؟ أم يُخَذِّلون الناس عنه؟ ثم حسم الأمر بما جاءهم من الإمام محمد بن علي باجتناب هذه الثورة التي توقَّع لها الفشل، بل زادت بعض روايات أنهم مارسوا التخذيل عنه -أيضًا- مما تسبب في ازدياد انفضاض الناس عن زيد بن علي، وأهمُّ من هذا وذاك أن الدعوة دخلت في طور الكمون والهدوء مرة أخرى؛ حتى انتهت هذه الثورةومن المتوقَّع أن أثر هذه الثورة عاد على أهل الدعوة العباسية بالخير على مستوى الثقة بالقيادة، وبالمنهج التنظيمي الهادئ المتدرِّج، ولكنه عاد بأثر سلبي على بيئة الدعوة؛ التي تعرَّضت لإحباط جديد بعد هذا الفشل الجديد، فلو نظرنا بعين المحب لآل البيت والثائر معهم لرأينا فشل الثورة ومقتل زيد، وكأنه حلقة جديدة في مسلسل لا يُريد أن ينتهي؛ بل ولا تبدو له نهاية .. وما كان أحد منهم يدري ولا من غيرهم أن عشر سنوات فحسب تفصلهم عن نهاية الدولة الأموية القوية، وكذا الناس في كل عصر؛ ولا يعلم الغيب إلَّا الله!
لكن ها هنا سؤال: هل يصدق هذا على مثل حال الصف الثوري الإسلامي إزاء موجة (11/11)؟ ومن ثَمَّ ينبغي ألا يندفع إليها ولا يساهم فيها أو حتى يمارس التخذيل عنها؟
والإجابة: لا يصح القياس بين الموقفين، فتنظيم الدعوة العباسية كان تنظيما متماسكا لديه رؤية وخطة وأنصار وأرض وخلايا سرية عاملة وقيادة تحوز الشرعية والثقة، وكل هذا معدوم في المشهد الإسلامي الحالي المعارض للانقلاب، ولهذا يمكن النظر إلى حكمة العباسيين في تجنب التورط في فرصة ثورية غير ناضجة، فيما لا يمكن القطع بهذا في الواقع الحالي. وهذا مجرد استطراد وأما الرأي في موجة 11/11 وما ينبغي فيها فندعه لمقام آخر.
وفاة الإمام محمد بن علي العباسي
وفى سنة (125هـ) تُوُفِّيَ محمد بن علي العباسي وعمره ستون سنة أو أكثر قليلًا (2)، في السنة نفسها التي مات فيها خليفة الأمويين هشام بن عبد الملك، لكنَّ محمد بن علي ورثه مَنْ كان على المستوى المطلوب فأكمل ما بدأه، على خلاف مَنْ ورثوا هشام بن عبد الملك .. ذلك هو ولده إبراهيم بن محمد، وكان الإمام محمد قد أوصى النقباء في الاجتماع الأخير بهم بابنه إبراهيم، وتوقَّع أنه قد لا يعيش إلى العام القادموحمل أبو مسلم خادم الإمام محمد خبر وفاته، وتولِّي ابنه إبراهيم الإمامة من بعده إلى أتباعه وأنصاره في العراق وخراسانكان الإنجاز الكبير لمحمد بن علي العباسي تأسيسه للتنظيم؛ فمن هنا تحوَّلت الفكرة الهائجة في العقل والقلب إلى عمل في الواقع، فلهذا وككل المؤسسين فلا بد أن محمدًا قد ملأ نفوس أصحابه بالحب والإجلال والتعظيم، وقد ساعده في ذلك أنه سليل آل البيت، لكن شخصيته -أيضًا- كانت على القدر المطلوب من الكفاءة والدين والعلم والأخلاق، فهي الشخصية التي بهرت أستاذه أبا هاشم عبد الله؛ فجعلته يُوصي طلابه بالأخذ منه، ثم جعلته أخيرًا يُوصي إليه بأمر الدعوة، وكانت الأيام تزيدها حنكة وتجربة وتوهجًا؛ حتى استطاع أن يُدير تنظيمًا رأسه في الشام (معقل الأمويين) وطرفه في خراسان، في زمن تنتقل فيه الأخبار والتعليمات على ظهور الجياد.
إن اللحظة المفصلية في تاريخ محمد بن علي، وهي لحظة مفصلية في تاريخ الإسلام، بل وتاريخ الدنيا حين وضعت بين يديه وصية لدعوة جنينية ما زالت في طور التكوُّن؛ فالتقط الفرصة بسرعة بديهة عجيبة، واستوعب الأمر، ثم استوعب شخصيات الدعاة، وحلَّ في نفوسهم محلَّ شيخهم أبي هاشم، وأنشأ معهم علاقة وثيقة تقوم على الأخوة والتعاون؛ كان يخاطب سلمة بن بجير: «أنت أخي دون الإخوة، ولست أقطع أمرًا دونك، ولا أعمل إلَّا برأيك، وهذا الأمر لا تنال حقيقته إلَّا بالتعاون عليه». و «لك سبقك في هذا الأمر، ولك فيه فضلك بنفسك وبما مضى عليه أبوك رحمه الله، ولكل رجل خاصة، وخاصتي من أهل مصركم أنت وقبيلك». كما يقول عن بكير بن ماهان: «قد وَجَّهْتُ إليكم شُقَّة مني»واستطاع محمد بن علي أن يحافظ على استمرار الدعوة وسريتها بإخفاء اسم الإمام، الذي لم يكن يعرفه إلَّا كبير الدعاة في الكوفة، وكبير الدعاة في خراسان، وعدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد يسير بالرسائل منه وإليه، وعلى الرغم مما أثارته مجهولية اسم الإمام هذه من مشكلات للدعاة؛ فإنها حافظت على رأس الدعوة حتى اللحظة الأخيرة .. وسنرى أنه في اللحظة التي اكتُشف فيها إمام الدعوة كان الوقت قد فات، والدولة قد قامت، وما عادت معرفة الإمام شيئًا مؤثِّرًا في مجرى الأحداث.
ما كنا سندري شيئًا من أحوال محمد لولا أن دولته التي غرسها قامت .. فكم من مؤسسي الحركات تجاوزهم التاريخ؛ لأن حركاتهم فشلت! فبقدر نجاح الحركات يُذكر رجالها.
نشر في ساسة بوست
مفهوم «الشيعة» تعرَّض إلى تطور تاريخي؛ ففي حين كان معناها في عصر علي بن أبي طالب هو المعنى اللغوي نفسه «الأنصار والأتباع وما إلى ذلك»، صار اسم الشيعة ينصرف إلى مذهب فكري يرى أحقية آل البيت بالخلافة، وهنا في تلك اللحظة سيظهر بوضوح مذهب آخر في الشيعة يسب أبا بكر وعمر، ولا يترضى عليهما، ويراهما اغتصبا حق علي - رضي الله عنه - في الخلافة، وسيُطلق على هؤلاء لفظ «الرافضة» أو «الروافض»؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي حين لم يوافقهم على سب الشيخين .. كما سيُعرف مَنْ وافقوه بـ «الزيدية»، وهم أقرب طوائف الشيعة إلى أهل السنة. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص230. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 118. الدينوري: الأخبار الطوال ص339. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص190، 192، 213.
Published on November 10, 2016 22:30
November 9, 2016
مراعاة البيئة في بناء المدينة في الحضارة الإسلامية (2/2)
اقرأ أولا: مراعاة البيئة في بناء المدينة في الحضارة الإسلامية (1/2)
2. التطبيق
لقد ورد عن الأمراء والقادة اهتمامهم بأمر البيئة عند اختيار موضع إنشاء المدن الجديدة؛ فمن ذلك أن المسلمين حين فتحوا العراق نزلوا مواطن ثم أصابهم فيها الذباب والبعوض، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بذلك فكتب له عمر: "إن العرب بمنزلة الإبل لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل فارتد لهم موضعا عدنا ولا تجعل بيني وبينهم بحرا". فبينما هو يبحث إذ جاءه من يعرض عليه النصيحة وقال: "أدلك عَلَى أرض انحدرت عن الفلاةومن ذلك أن الحجاج لما عزم على بناء مدينة كلف عددا من الأطباء أن يختاروا موضع مدينة فبحثوا حتى عثروا له على موقع المدينة التي سمِّيت بـ "واسط"، ووصفوا له الموقع بأنه "أوفق من موضعك هذا (الكوفة) في خفوف الريح وأنف البرية"، وكان من وصية الحجاج أن يكون اختيار المكان على ضفة نهر، ولما وجد فريق العمل المكان المناسب أبلغوا رئيسهم بهذا فذهب إلى هناك فبات في هذه البقعة "واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها" ثم رفع تقريره إلى الحجاج فبُنيت واسطولما بنى حسان بن النعمان الغساني –والي إفريقية- مدينة تونس تخير موضعها في موقع هواؤه "من أصح بلاد إفريقية هواء"، على مقربة من ماء وأرض خصبة تحولت فيما بعد إلى "مزارع متصلة" وحدائق ناضرةوحين عزم المنصور على بناء بغداد استدعى عدة ممن يسكن الأنحاء "فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام فأخبره كل منهم بما عنده"ثم لما اضطر حفيد ابنه المعتصم بالله أن يبني سامراء تخير لها موضعها كذلك، لكنها لم تستمر كعاصمة إلا فترة قليلة، غير أن من نشأ في سامراء كان يزري ببغداد، كما جاء ذلك في رسالة كتبها الأمير العباسي عبد الله بن المعتز السامرائي المنشأ، إلى صديقه البغدادي قوله: "على أنها (سامراء) وإن جُفِيَت معشوقة السكنى، وحبيبة المَثْوَى، كوكبها يقظان، وجَوُّها عريانولما أراد إدريس الثاني في المغرب بناء مدينة له "بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد له موضعا يبني فيه المدينة التي أراد، فاخترق تلك النواحي وجال في تلك الجهات يختبر الأرضين والمياه حتى وصل إلى فحص يابس، فوجد فسحة الأرض واعتدالها وكثرة المياه فأعجبه ما رآه من ذلك"ولما اختار صلاح الدين موقع إنشاء قلعته في مصر، كان الظرف البيئي –إلى جوار الظرف العسكري والأمني- من عوامل الاختيار، فقد أورد المقريزي أنه "علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك"3. البحوث المعاصرة تكشف دقائق وأسرار المدن الإسلامية
كان من سمات المدينة الإسلامية في المناطق الحارة والصحراوية "اتباع الحل المُتَضامِّ"، أي تقارب مباني المدينة بحيث تتكتل وتتراص وتتلاصق "لمنع تعرض واجهاتها بلا داع للعوامل الجوية مثل أشعة الشمس المباشرة ورياح الخماسين المحملة بالرمال التي تؤدي إلى رفع درجة الحرارة داخل المباني"كذلك "كان توجيه الشوارع من المحاولات البارزة في التخطيط لمقاومة العوامل الجوية، فمن المدن ما وُجِّهت شوارعها الرئيسية الكبيرة من الشمال إلى الجنوب حتى تكون عمودية مع حركة الشمس الظاهرية، وهذا ما يجعل الشوارع تكتسب ظلالا طوال النهار، بالإضافة إلى اكتسابها الرياح الشمالية التي تساعد على استمرار برودتها أطول فترة ممكنة لوجود نسبة التظليل العالية في هذه الشوارع، وقد تجلت هذه الظاهرة في أروع أمثلتها في القاهرة، وسارت على هذا التخطيط مدن صعيد مصر وكذلك مدن المناطق الحارة من العالم الإسلامية، ولعل اتجاهات شوارع مدينة الدرعية الباقية تؤكد هذه الحقيقة؛ فمعظمها ولا سيما الشوارع الرئيسية يتجه نحو الشمال. وفي المناطق الباردة تأخذ الشوارع شكلا عكسيا، فيغلب على الاتجاهات الاتجاهُ الشرقي الغربي لاكتساب أكبر قدر من الشمس طوال النهار، ولتجنب الرياح الشمالية والشمالية الغربية التي تهب عليها طوال العام"وإضافة إلى ذلك فلقد "كانت الشوارع والحارات تُخَطَّط متعرجة ضيقة لأن المساكن والقصور والمباني العامة تضم أفنية وحدائق تستقبل الشمس والهواء من ساحاتها الداخلية التي لا تجعلها في حاجة إلى الشارع الفسيح، فاقتصر اتساعه على ما يفي بمطالب المرور وغدو الباعة الجائلين ورواحهم. كما كان بتعرجه وضيقه يوفر مساحات ظليلة، ويتيح اختزان الهواء الرطب ليلا حتى يشيعه أثناء ساعات القيظ ملطفا من حرارة الجو على العكس من الشارع المستقيم الواسع كالبولفار الأوروبي المعاصر الذي تستبيحه الريح صباحا ومساء"إن تميز المدينة الإسلامية بالشوارع الضيقة المتعرجة وبالبيوت ذات الأفنية الداخلية سمح بانتقال الهواء من خلال فتحات ومداخل المباني من الشوارع الضيقة الأكثر تظليلا (ضغط عالٍ) إلى الأفنية الداخلية المشمسة (ضغط منخفض)، خاصة أثناء فترات الظهيرة وتعرضها لأشعة الشمس. وقد أوضحت القياسات التي أجريت داخل فناء بيت السحيمي بالقاهرة الإسلامية أنه في فترة الصباح تكون حركة الهواء الغالبة آتية من مدخل المنزل الجنوبي بالدور الأرضي والذي يفتح على حارة الدرب الأصفر، وينتقل هذا الهواء عبر المدخل إلى الفناء الداخلي ومنه إلى التختبوش ثم الحديثة الخلفية بالجهة البحرية، وحركة الهواء هذه تنشأ بفعل التباين في درجات الحرارة وتصل سرعة الرياح أقصاها في التختبوش خلال ساعات النهار. وفي قياسات أخرى تمت في بيت السناري بحي السيدة زينب بالقاهرة، اتضح أن سرعة الرياح بفعل فارق ضغط الهواء والحرارة تتضاعف عبر ممر المدخل الضيق الطويل، والذي يفتح على حارة "مونج" بالجهة البحرية ويؤدي إلى الفناء الداخلي من الجهة الجنوبيةنشر في إسلام أون لاين
الفلاة: الصحراء، والمعنى: أنها أرض سهلة منخفضة وليست وعرة. المَبَاقّ: أرض يكثر فيها البَقَّ (البعوض). دوزي: تكملة المعاجم العربية 1/389. البلاذري: فتوح البلدان ص271 (ط دار الهلال). ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/348. ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/60، 61. ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/166. اليعقوبي: البلدان ص11. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/ 119. جوّها عريان: أي نقي. أي أنها شديدة الحرارة حتى إن شهري أكتوبر ونوفمبر (تشرين الأول، تشرين الثاني) كأنهما شهر يوليو (تموز). ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/ 464، 465. ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص38. (ط دار المنصور، الرباط، 1972) المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/355. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص95، وهو ينقل عن: عمرو خير الدين: المعالجات البيئية في تخطيط المدن الإسلامية وتصميم مبانيها، سجل بحوث مؤتمر أنتربيلد، القاهرة، 1997م، ص855 – 877. د. محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص170. وهو ينقل عن: حمدي إبراهيم الديب: مدينة قنا، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة – قسم الجغرافيا، 1980، ص235. د. ثروت عكاشة: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية ص64، 65. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص98، وهو ينقل عن: عبد الرحيم غالب: موسوعة العمارة الإسلامية ص367. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص99، وهو ينقل عن: آمال عبد الحليم الدبركي: التهوية الطبيعية كمدخل تصميمي في العمارة السالبة، رسالة ماجستير، كلية الهندسة، قسم العمارة، جامعة عين شمس (1999 م)، ص128.
2. التطبيق
لقد ورد عن الأمراء والقادة اهتمامهم بأمر البيئة عند اختيار موضع إنشاء المدن الجديدة؛ فمن ذلك أن المسلمين حين فتحوا العراق نزلوا مواطن ثم أصابهم فيها الذباب والبعوض، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بذلك فكتب له عمر: "إن العرب بمنزلة الإبل لا يصلحها إلا ما يصلح الإبل فارتد لهم موضعا عدنا ولا تجعل بيني وبينهم بحرا". فبينما هو يبحث إذ جاءه من يعرض عليه النصيحة وقال: "أدلك عَلَى أرض انحدرت عن الفلاةومن ذلك أن الحجاج لما عزم على بناء مدينة كلف عددا من الأطباء أن يختاروا موضع مدينة فبحثوا حتى عثروا له على موقع المدينة التي سمِّيت بـ "واسط"، ووصفوا له الموقع بأنه "أوفق من موضعك هذا (الكوفة) في خفوف الريح وأنف البرية"، وكان من وصية الحجاج أن يكون اختيار المكان على ضفة نهر، ولما وجد فريق العمل المكان المناسب أبلغوا رئيسهم بهذا فذهب إلى هناك فبات في هذه البقعة "واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها" ثم رفع تقريره إلى الحجاج فبُنيت واسطولما بنى حسان بن النعمان الغساني –والي إفريقية- مدينة تونس تخير موضعها في موقع هواؤه "من أصح بلاد إفريقية هواء"، على مقربة من ماء وأرض خصبة تحولت فيما بعد إلى "مزارع متصلة" وحدائق ناضرةوحين عزم المنصور على بناء بغداد استدعى عدة ممن يسكن الأنحاء "فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام فأخبره كل منهم بما عنده"ثم لما اضطر حفيد ابنه المعتصم بالله أن يبني سامراء تخير لها موضعها كذلك، لكنها لم تستمر كعاصمة إلا فترة قليلة، غير أن من نشأ في سامراء كان يزري ببغداد، كما جاء ذلك في رسالة كتبها الأمير العباسي عبد الله بن المعتز السامرائي المنشأ، إلى صديقه البغدادي قوله: "على أنها (سامراء) وإن جُفِيَت معشوقة السكنى، وحبيبة المَثْوَى، كوكبها يقظان، وجَوُّها عريانولما أراد إدريس الثاني في المغرب بناء مدينة له "بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد له موضعا يبني فيه المدينة التي أراد، فاخترق تلك النواحي وجال في تلك الجهات يختبر الأرضين والمياه حتى وصل إلى فحص يابس، فوجد فسحة الأرض واعتدالها وكثرة المياه فأعجبه ما رآه من ذلك"ولما اختار صلاح الدين موقع إنشاء قلعته في مصر، كان الظرف البيئي –إلى جوار الظرف العسكري والأمني- من عوامل الاختيار، فقد أورد المقريزي أنه "علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك"3. البحوث المعاصرة تكشف دقائق وأسرار المدن الإسلامية
كان من سمات المدينة الإسلامية في المناطق الحارة والصحراوية "اتباع الحل المُتَضامِّ"، أي تقارب مباني المدينة بحيث تتكتل وتتراص وتتلاصق "لمنع تعرض واجهاتها بلا داع للعوامل الجوية مثل أشعة الشمس المباشرة ورياح الخماسين المحملة بالرمال التي تؤدي إلى رفع درجة الحرارة داخل المباني"كذلك "كان توجيه الشوارع من المحاولات البارزة في التخطيط لمقاومة العوامل الجوية، فمن المدن ما وُجِّهت شوارعها الرئيسية الكبيرة من الشمال إلى الجنوب حتى تكون عمودية مع حركة الشمس الظاهرية، وهذا ما يجعل الشوارع تكتسب ظلالا طوال النهار، بالإضافة إلى اكتسابها الرياح الشمالية التي تساعد على استمرار برودتها أطول فترة ممكنة لوجود نسبة التظليل العالية في هذه الشوارع، وقد تجلت هذه الظاهرة في أروع أمثلتها في القاهرة، وسارت على هذا التخطيط مدن صعيد مصر وكذلك مدن المناطق الحارة من العالم الإسلامية، ولعل اتجاهات شوارع مدينة الدرعية الباقية تؤكد هذه الحقيقة؛ فمعظمها ولا سيما الشوارع الرئيسية يتجه نحو الشمال. وفي المناطق الباردة تأخذ الشوارع شكلا عكسيا، فيغلب على الاتجاهات الاتجاهُ الشرقي الغربي لاكتساب أكبر قدر من الشمس طوال النهار، ولتجنب الرياح الشمالية والشمالية الغربية التي تهب عليها طوال العام"وإضافة إلى ذلك فلقد "كانت الشوارع والحارات تُخَطَّط متعرجة ضيقة لأن المساكن والقصور والمباني العامة تضم أفنية وحدائق تستقبل الشمس والهواء من ساحاتها الداخلية التي لا تجعلها في حاجة إلى الشارع الفسيح، فاقتصر اتساعه على ما يفي بمطالب المرور وغدو الباعة الجائلين ورواحهم. كما كان بتعرجه وضيقه يوفر مساحات ظليلة، ويتيح اختزان الهواء الرطب ليلا حتى يشيعه أثناء ساعات القيظ ملطفا من حرارة الجو على العكس من الشارع المستقيم الواسع كالبولفار الأوروبي المعاصر الذي تستبيحه الريح صباحا ومساء"إن تميز المدينة الإسلامية بالشوارع الضيقة المتعرجة وبالبيوت ذات الأفنية الداخلية سمح بانتقال الهواء من خلال فتحات ومداخل المباني من الشوارع الضيقة الأكثر تظليلا (ضغط عالٍ) إلى الأفنية الداخلية المشمسة (ضغط منخفض)، خاصة أثناء فترات الظهيرة وتعرضها لأشعة الشمس. وقد أوضحت القياسات التي أجريت داخل فناء بيت السحيمي بالقاهرة الإسلامية أنه في فترة الصباح تكون حركة الهواء الغالبة آتية من مدخل المنزل الجنوبي بالدور الأرضي والذي يفتح على حارة الدرب الأصفر، وينتقل هذا الهواء عبر المدخل إلى الفناء الداخلي ومنه إلى التختبوش ثم الحديثة الخلفية بالجهة البحرية، وحركة الهواء هذه تنشأ بفعل التباين في درجات الحرارة وتصل سرعة الرياح أقصاها في التختبوش خلال ساعات النهار. وفي قياسات أخرى تمت في بيت السناري بحي السيدة زينب بالقاهرة، اتضح أن سرعة الرياح بفعل فارق ضغط الهواء والحرارة تتضاعف عبر ممر المدخل الضيق الطويل، والذي يفتح على حارة "مونج" بالجهة البحرية ويؤدي إلى الفناء الداخلي من الجهة الجنوبيةنشر في إسلام أون لاين
الفلاة: الصحراء، والمعنى: أنها أرض سهلة منخفضة وليست وعرة. المَبَاقّ: أرض يكثر فيها البَقَّ (البعوض). دوزي: تكملة المعاجم العربية 1/389. البلاذري: فتوح البلدان ص271 (ط دار الهلال). ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/348. ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/60، 61. ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/166. اليعقوبي: البلدان ص11. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/ 119. جوّها عريان: أي نقي. أي أنها شديدة الحرارة حتى إن شهري أكتوبر ونوفمبر (تشرين الأول، تشرين الثاني) كأنهما شهر يوليو (تموز). ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/ 464، 465. ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص38. (ط دار المنصور، الرباط، 1972) المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/355. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص95، وهو ينقل عن: عمرو خير الدين: المعالجات البيئية في تخطيط المدن الإسلامية وتصميم مبانيها، سجل بحوث مؤتمر أنتربيلد، القاهرة، 1997م، ص855 – 877. د. محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص170. وهو ينقل عن: حمدي إبراهيم الديب: مدينة قنا، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة – قسم الجغرافيا، 1980، ص235. د. ثروت عكاشة: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية ص64، 65. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص98، وهو ينقل عن: عبد الرحيم غالب: موسوعة العمارة الإسلامية ص367. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص99، وهو ينقل عن: آمال عبد الحليم الدبركي: التهوية الطبيعية كمدخل تصميمي في العمارة السالبة، رسالة ماجستير، كلية الهندسة، قسم العمارة، جامعة عين شمس (1999 م)، ص128.
Published on November 09, 2016 12:07
November 4, 2016
في ذكرى الشهيد كمال السنانيري
لكم ضاعت من الذاكرة أسماء شهداء عظام لكثرة ما في موسوعة شهدائنا من أسماء، يحفظ الناس اسم جلعاد شاليط، وهو جندي صغير مغمور، ولا يحفظون أسماء عشرات الآلاف من الأسرى وفيهم من دوَّخ العدو وصنع ما يشبه الأساطير. ومع هذا تبقى مهمة صاحب القلم في عصر الكفاح أن يعيد بعث الذكرى بسير العظماء.
في مثل هذه الأيام قبل خمس وثلاثين سنة (8 نوفمبر 1981)، أنهى التعذيب الرهيب في سجون مبارك، الذي تولى السلطة منذ شهر واحد، حياة محمد كمال الدين السنانيري، فختم بذلك قصة عظيمة من روائع قصص الشهداء.
كان الشهيد مثلا في حياته وجهاده وزهده وزواجه واستشهاده كذلك، فقد وُلِد لأسرة ميسورة الحال وبالرغم من هذا فقد اعتنق فكرة أن الداعية لا بد له من الزهد والصبر والاحتمال ليتجنب بهذا الفتنة وينزع من يد أعدائه أي وسيلة لإغرائه أو الضغط عليه، وهكذا تبدل حال الرجل من النعيم إلى التقشف.
كاد أن يسافر إلى أمريكا لدراسة الصيدلية لولا أن شيخا نصحه بالبقاء وحذره من الحياة هناك، فتحول إلى البقاء والدعوة، ثم دخل الإخوان في أوائل الأربعينات، وظهرت همته وعمله حتى صار من كبار رجال النظام الخاص ومسؤولا عن واحدة من وحداته، ولهذا كان من أوائل من استهدفهم عبد الناصر في 1954، فصدر عليه حكم المؤبد، ولم يخرج إلا بعد عشرين سنة 1974.
حدثني من سُجِن مع الشهيد لأيام عنه فيقول: "لا لا لا، هذا لم يكن رجلا عاديا، هذا رجل نزل إلينا من جيل الصحابة والتابعين، كان مدهشا وفوق التصور، ألا يستريح يوما من الصيام؟! ألا يتعب ليلة من القيام؟! لقد عايشته أياما في زنزانة واحدة كأن الله أراد أن يطلعني أن الدنيا بقي فيها أنواع من هؤلاء البشر!".
نزل به من التعذيب ما استحال معه أن تتعرف عليه أمه حين رأته في أول جلسة من المحاكمة لما صار إليه من النحول والهزال وعلامات التعذيب حيث فقد السمع بإحدى أذنيه وكُسِر فكُّه فصار لا يحسن الكلام، بل إن شقيق زوجته أصابه الذهول لما نزل به من العذاب حتى فقد أعصابه ودخل مستشفى الأمراض العصبية.
وكان قد دخل السجن وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ولديه طفلة صغيرة، وعندما صدر عليه حكم المؤبد لم تتحمل زوجته هذا البلاء الطويل، فطلقت منه، ويُقال بل أجبرها أهلها على فراقه، ويقال كذلك: بل ضغطت المباحث والسلطة عليها إلى أن ألجأتها لطلب الطلاق، ثم لم تلبث أن توفيت ابنته الصغرى منها في أول سجنه. فكأن البلاء قد استحكم عليه من كل الجهات!
عُرف بالزهد والعبادة حتى طار صيته في ذلك، كان وفيا لقناعته بضرورة أن يتعود الداعية على المشاق لئلا يتأثر بالفتن، فكان وهو في سجنه الناصري الرهيب لا يلبس ولا يأكل إلا ما يخصصه له السجن، ولا يستعين بمأكل أو ملبس مما قد تأتيه به أسرته من الخارج، يريد ألا يُعطي السجان وسيلة لكسر نفسه أو الضغط عليه، وظل إلى آخر سجنه لم يكتب شيئا في تأييد عبد الناصر أو الاعتذار له رغم جحيم السجن!
وقد بقي في السجن إلى أن لحق بهم سيد قطب فكان رفيقا له في الزنزانة، وفي إحدى الزيارات رأته أمينة قطب شقيقة سيد، فيُقال أنه طلبها للزواج من أخيها، بل ويقال: أعجبها فطلبته هي للزواج من أخيها، وأبدت استعدادها لتنتظره بقية سجنه، فلما خرج منه بعد سبع سنوات من هذا اللقاء بنى بها وهو في الخامسة والخمسين من عمره.. فكانت قصة زواجه من قصص الحب الخالدة في كتاب الحركة الإسلاميةولما خرج وجد تيارا إسلاميا تكون في الجامعات، فسعى إليه سعى الطالب المشتاق، والداعية اليقظ النشيط الذي لم تكسره سنوات السجن وأعوام العذاب، فكان أول من اتصل بممثلي هؤلاء الطلاب فطلب لقاءه، وتحدد الموعد في محل لبيع الأحذية، يملك واحد من الإخوان، فدار الكلام وكلاهما يصطنعان أنهما يقيسان الأحذية!
يقول عبد المنعم أبو الفتوح:
"حين أتذكر لقاءنا الأول لا أتمالك نفسي من البكاء... فقد كان لقاءا مؤثرا وعاطفيا إلى أبعد الحدود، وكان كلامه وروحه وكل ما فيه جديدا بالنسبة لي... كنت أمام رجل قضى من عمره عشرين عاما في السجون ثم خرج وهو ما زال مشغولا بقضية الإسلام والدعوة إلى الله! وكان يتفجر حماسا في شرح فكرته والتأكيد على الاستمرار فيها واستكمال ما بدأته الجماعة... كان لكلامه وقع السحر... وكان بالنسبة لي قدوة عثرت عليها بعدما كدت أفتقدها... كان حضوره في وعيي كحضور هؤلاء الذين كنا نقرأ عنهم في السيرة النبوية، الذين عُذِّبوا وأُوذوا وصبروا على البلاء في سبيل تبليغ دعوة الله"ولولا أن اللقاء الأول كان على هذا الحال، ما كان للمجموعة الصغيرة الباقية من جماعة الإخوان أن تحتوي التيار الشبابي الهادر، فتعيد به تجديد اسمها ومكانها وتجعله مدد بقائها واستمرارها. وبهذا اللقاء تمهدت اللقاءات الأخرى مع التلمساني وعباس السيسي وغيرهم وهو ما انتهى إلى دخول القسم الأكبر من شباب "الجماعة الإسلامية" في الجامعات المصرية تحت اسم وقيادة الإخوان المسلمين.
وما إن تمت هذه المهمة في مصر حتى استأنف مهمة أخرى عالمية، وهي الجهاد في أفغانستان، ولم أجد في المصادر التي تحدثت عنه تفصيل أعماله هناك، إلا أنه فيما يبدو قام بدور مهم وخطير، ذلك أنه وبمجرد عودته إلى مصر ألقي في السجن وصُبَّ عليه العذاب الشديد حتى مات على إثره.
وقد رثته زوجته الأديبة، أخت الشهيد وزوجة الشهيد، بمراثي في غاية الرقة والعذوبة، وكانت لها عادة أن تكتب فيه قصيدة في ذكرى وفاته من كل عام، وبعض تلك القصائد اشتهر وسار في وجدان الصحوة الإسلامية كما يسري الروح في الجسد، فحفظوا منها:
هل ترانا نلتقي أم أنها .. كانت اللقيا على أرض السرابثم ولَّت وتلاشى ظلها .. واستحالت ذكريات للعذابهكذا يسأل قلبي كلما .. طالت الأيام من بعد الغيابفإذا طيفك يرنو باسما .. وكأني في استماع للجواب
ومنها:
ما عدت أنتظر الرجوع ولا مواعيد المساءما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواءفأخاف أن يلقاك مهتاجا يزمجر في غباءما عدت أنتظر المجيئ أو الحديث ولا اللقاءفلسوف ألقاكم هناك وتختفي دار الشقاءونُثاب أياما قضيناها دموعا وابتلاءوسنحتمي بالخلد لا نخشى فراقا أو فناء
لا يختلف أحد ممن أرخوا للشهيد أن قاتله هو فؤاد علام الذي كان مسؤولا عن تعذيبه، وقد أتيح لأحمد رائف أن يسجل حوارا دار بينه وبين فؤاد علام بُعيْد استشهاده، أسوقه هنا مختصرا:
"وفؤاد علام شخصية غريبة فريدة ذات طابع خاص، يندر أن تجد له نظيرا أو مثيلا؛ فهو يقتل والبسمة على شفتيه، ويحرق بالنار من خلال نظرة شاردة حالمة، وله في القتل والتشفي والتعذيب متعة وروعة لا تخفى على أحد ممن وقع تحت يديه.
أذكر مرة في أثناء هذه الزيارات التي كنت أتردد عليه فيها ليرفع عني الحظر من السفر أنه أخبرني أن الشهيد كمال السنانيري قد انتحر.
تعجبت وسألته: وكيف تم الانتحار؟ونظر نظرة صفراوية وقال: أنت لا تصدق إذن أنه انتحر؟وقلت: أنا أسأل كيف تم هذا؟
وانتفخ فوق كرسيه، ووضع ساقا على ساق، ومدَّ يده إلى مسبحة أمامه على المكتب وصار يلعب بحياتها، وانطلق صوته كفحيح الأفعى: ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة وصار يجذب نفسه حتى مات... ثم حدق في عيني بتحد ظاهر.
قلت له :ولماذا انتحر؟ابتسم ابتسامة شيطانية وقال :عندما تقابله في الجنة عليك أن تسأله.قلت له :المنتحرون في العادة لا يذهبون إلى الجنة.وقال ساخرا :يا سيدي هذا مجاهد قديم، وأمضي عمره في السجون والمعتقلات، وهو من أهل بدر، وما يدريك "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
ولم أستطع أن أجاريه، وخيَّم عليّ صمت حزين على الشهيد فقد كانت هذه هي المرة الأولي التي أسمع فيها خبر استشهاده، وكنت أعرف أنه يُعَذَّب أشد العذاب أملا في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فهكذا كانت الشائعات تملأ كل مكان...
قلت له: بطبيعة الحال لا أصدق أنه انتحر، ولا أظن أن هناك من يمكنه تصديق هذا الكلام، وأنت لا تنسي أنني خبير بالأساليب، وقد تم التحقيق معي بمعرفة سيادتكم، وأيامها كانوا (الشهداء تحت التعذيب) يهربون ولا ينتحرون.وتنهد فؤاد علام حزينا: وماذا نفعل لموضة الديمقراطية والحرية التي ملأت مصر؟!
قلت له ضاحكا: تقصد الحرية والديمقراطية التي ملأت الصحف وحفلت بها الخطب.استمر مستاء حزينا :نعم.. هذه اللهجة أصبحت لا تسمع لنا بأداء واجبنا على الوجه الأكمل، صرنا نعمل حسابا لصحف المعارضة ولتلك الأحزاب الورقية التي أمرنا بإنشائها السادات، وصار لزاما علينا أن نطور في الأساليب.
وقلت بعفوية :ولكن ما السبب الحقيقي لقتل كمال السنانيري؟ونظر إلى نظرة مستنكرة غاضبة فقلت: أقصد السبب الحقيقي وراء انتحاره.
وملأت الابتسامة وجهه من جديد وقال: كان يعرف الكثير ولا يريد البوح به فآثر الموت حفاظا على إخوانه.
قلت له باسما والمرارة تملأ حلقي: كان يسر كمال السنانيري أن يسمع هذه الشهادة منك.- هو يسمعها.. أليس الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون؟"نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
محمد خير رمضان يوسف، تتمة الأعلام، ط2 (بيروت: دار ابن حزم، 2002م)، 2/211، 212. حسام تمام، عبد المنعم أبو الفتوح: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2012م)، ص75. أحمد رائف، سراديب الشيطان: صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين، ط2 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1990)، ص154 وما بعدها.
في مثل هذه الأيام قبل خمس وثلاثين سنة (8 نوفمبر 1981)، أنهى التعذيب الرهيب في سجون مبارك، الذي تولى السلطة منذ شهر واحد، حياة محمد كمال الدين السنانيري، فختم بذلك قصة عظيمة من روائع قصص الشهداء.
كان الشهيد مثلا في حياته وجهاده وزهده وزواجه واستشهاده كذلك، فقد وُلِد لأسرة ميسورة الحال وبالرغم من هذا فقد اعتنق فكرة أن الداعية لا بد له من الزهد والصبر والاحتمال ليتجنب بهذا الفتنة وينزع من يد أعدائه أي وسيلة لإغرائه أو الضغط عليه، وهكذا تبدل حال الرجل من النعيم إلى التقشف.
كاد أن يسافر إلى أمريكا لدراسة الصيدلية لولا أن شيخا نصحه بالبقاء وحذره من الحياة هناك، فتحول إلى البقاء والدعوة، ثم دخل الإخوان في أوائل الأربعينات، وظهرت همته وعمله حتى صار من كبار رجال النظام الخاص ومسؤولا عن واحدة من وحداته، ولهذا كان من أوائل من استهدفهم عبد الناصر في 1954، فصدر عليه حكم المؤبد، ولم يخرج إلا بعد عشرين سنة 1974.
حدثني من سُجِن مع الشهيد لأيام عنه فيقول: "لا لا لا، هذا لم يكن رجلا عاديا، هذا رجل نزل إلينا من جيل الصحابة والتابعين، كان مدهشا وفوق التصور، ألا يستريح يوما من الصيام؟! ألا يتعب ليلة من القيام؟! لقد عايشته أياما في زنزانة واحدة كأن الله أراد أن يطلعني أن الدنيا بقي فيها أنواع من هؤلاء البشر!".
نزل به من التعذيب ما استحال معه أن تتعرف عليه أمه حين رأته في أول جلسة من المحاكمة لما صار إليه من النحول والهزال وعلامات التعذيب حيث فقد السمع بإحدى أذنيه وكُسِر فكُّه فصار لا يحسن الكلام، بل إن شقيق زوجته أصابه الذهول لما نزل به من العذاب حتى فقد أعصابه ودخل مستشفى الأمراض العصبية.
وكان قد دخل السجن وهو في السادسة والثلاثين من عمره، ولديه طفلة صغيرة، وعندما صدر عليه حكم المؤبد لم تتحمل زوجته هذا البلاء الطويل، فطلقت منه، ويُقال بل أجبرها أهلها على فراقه، ويقال كذلك: بل ضغطت المباحث والسلطة عليها إلى أن ألجأتها لطلب الطلاق، ثم لم تلبث أن توفيت ابنته الصغرى منها في أول سجنه. فكأن البلاء قد استحكم عليه من كل الجهات!
عُرف بالزهد والعبادة حتى طار صيته في ذلك، كان وفيا لقناعته بضرورة أن يتعود الداعية على المشاق لئلا يتأثر بالفتن، فكان وهو في سجنه الناصري الرهيب لا يلبس ولا يأكل إلا ما يخصصه له السجن، ولا يستعين بمأكل أو ملبس مما قد تأتيه به أسرته من الخارج، يريد ألا يُعطي السجان وسيلة لكسر نفسه أو الضغط عليه، وظل إلى آخر سجنه لم يكتب شيئا في تأييد عبد الناصر أو الاعتذار له رغم جحيم السجن!
وقد بقي في السجن إلى أن لحق بهم سيد قطب فكان رفيقا له في الزنزانة، وفي إحدى الزيارات رأته أمينة قطب شقيقة سيد، فيُقال أنه طلبها للزواج من أخيها، بل ويقال: أعجبها فطلبته هي للزواج من أخيها، وأبدت استعدادها لتنتظره بقية سجنه، فلما خرج منه بعد سبع سنوات من هذا اللقاء بنى بها وهو في الخامسة والخمسين من عمره.. فكانت قصة زواجه من قصص الحب الخالدة في كتاب الحركة الإسلاميةولما خرج وجد تيارا إسلاميا تكون في الجامعات، فسعى إليه سعى الطالب المشتاق، والداعية اليقظ النشيط الذي لم تكسره سنوات السجن وأعوام العذاب، فكان أول من اتصل بممثلي هؤلاء الطلاب فطلب لقاءه، وتحدد الموعد في محل لبيع الأحذية، يملك واحد من الإخوان، فدار الكلام وكلاهما يصطنعان أنهما يقيسان الأحذية!
يقول عبد المنعم أبو الفتوح:
"حين أتذكر لقاءنا الأول لا أتمالك نفسي من البكاء... فقد كان لقاءا مؤثرا وعاطفيا إلى أبعد الحدود، وكان كلامه وروحه وكل ما فيه جديدا بالنسبة لي... كنت أمام رجل قضى من عمره عشرين عاما في السجون ثم خرج وهو ما زال مشغولا بقضية الإسلام والدعوة إلى الله! وكان يتفجر حماسا في شرح فكرته والتأكيد على الاستمرار فيها واستكمال ما بدأته الجماعة... كان لكلامه وقع السحر... وكان بالنسبة لي قدوة عثرت عليها بعدما كدت أفتقدها... كان حضوره في وعيي كحضور هؤلاء الذين كنا نقرأ عنهم في السيرة النبوية، الذين عُذِّبوا وأُوذوا وصبروا على البلاء في سبيل تبليغ دعوة الله"ولولا أن اللقاء الأول كان على هذا الحال، ما كان للمجموعة الصغيرة الباقية من جماعة الإخوان أن تحتوي التيار الشبابي الهادر، فتعيد به تجديد اسمها ومكانها وتجعله مدد بقائها واستمرارها. وبهذا اللقاء تمهدت اللقاءات الأخرى مع التلمساني وعباس السيسي وغيرهم وهو ما انتهى إلى دخول القسم الأكبر من شباب "الجماعة الإسلامية" في الجامعات المصرية تحت اسم وقيادة الإخوان المسلمين.
وما إن تمت هذه المهمة في مصر حتى استأنف مهمة أخرى عالمية، وهي الجهاد في أفغانستان، ولم أجد في المصادر التي تحدثت عنه تفصيل أعماله هناك، إلا أنه فيما يبدو قام بدور مهم وخطير، ذلك أنه وبمجرد عودته إلى مصر ألقي في السجن وصُبَّ عليه العذاب الشديد حتى مات على إثره.
وقد رثته زوجته الأديبة، أخت الشهيد وزوجة الشهيد، بمراثي في غاية الرقة والعذوبة، وكانت لها عادة أن تكتب فيه قصيدة في ذكرى وفاته من كل عام، وبعض تلك القصائد اشتهر وسار في وجدان الصحوة الإسلامية كما يسري الروح في الجسد، فحفظوا منها:
هل ترانا نلتقي أم أنها .. كانت اللقيا على أرض السرابثم ولَّت وتلاشى ظلها .. واستحالت ذكريات للعذابهكذا يسأل قلبي كلما .. طالت الأيام من بعد الغيابفإذا طيفك يرنو باسما .. وكأني في استماع للجواب
ومنها:
ما عدت أنتظر الرجوع ولا مواعيد المساءما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواءفأخاف أن يلقاك مهتاجا يزمجر في غباءما عدت أنتظر المجيئ أو الحديث ولا اللقاءفلسوف ألقاكم هناك وتختفي دار الشقاءونُثاب أياما قضيناها دموعا وابتلاءوسنحتمي بالخلد لا نخشى فراقا أو فناء
لا يختلف أحد ممن أرخوا للشهيد أن قاتله هو فؤاد علام الذي كان مسؤولا عن تعذيبه، وقد أتيح لأحمد رائف أن يسجل حوارا دار بينه وبين فؤاد علام بُعيْد استشهاده، أسوقه هنا مختصرا:
"وفؤاد علام شخصية غريبة فريدة ذات طابع خاص، يندر أن تجد له نظيرا أو مثيلا؛ فهو يقتل والبسمة على شفتيه، ويحرق بالنار من خلال نظرة شاردة حالمة، وله في القتل والتشفي والتعذيب متعة وروعة لا تخفى على أحد ممن وقع تحت يديه.
أذكر مرة في أثناء هذه الزيارات التي كنت أتردد عليه فيها ليرفع عني الحظر من السفر أنه أخبرني أن الشهيد كمال السنانيري قد انتحر.
تعجبت وسألته: وكيف تم الانتحار؟ونظر نظرة صفراوية وقال: أنت لا تصدق إذن أنه انتحر؟وقلت: أنا أسأل كيف تم هذا؟
وانتفخ فوق كرسيه، ووضع ساقا على ساق، ومدَّ يده إلى مسبحة أمامه على المكتب وصار يلعب بحياتها، وانطلق صوته كفحيح الأفعى: ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة وصار يجذب نفسه حتى مات... ثم حدق في عيني بتحد ظاهر.
قلت له :ولماذا انتحر؟ابتسم ابتسامة شيطانية وقال :عندما تقابله في الجنة عليك أن تسأله.قلت له :المنتحرون في العادة لا يذهبون إلى الجنة.وقال ساخرا :يا سيدي هذا مجاهد قديم، وأمضي عمره في السجون والمعتقلات، وهو من أهل بدر، وما يدريك "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
ولم أستطع أن أجاريه، وخيَّم عليّ صمت حزين على الشهيد فقد كانت هذه هي المرة الأولي التي أسمع فيها خبر استشهاده، وكنت أعرف أنه يُعَذَّب أشد العذاب أملا في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فهكذا كانت الشائعات تملأ كل مكان...
قلت له: بطبيعة الحال لا أصدق أنه انتحر، ولا أظن أن هناك من يمكنه تصديق هذا الكلام، وأنت لا تنسي أنني خبير بالأساليب، وقد تم التحقيق معي بمعرفة سيادتكم، وأيامها كانوا (الشهداء تحت التعذيب) يهربون ولا ينتحرون.وتنهد فؤاد علام حزينا: وماذا نفعل لموضة الديمقراطية والحرية التي ملأت مصر؟!
قلت له ضاحكا: تقصد الحرية والديمقراطية التي ملأت الصحف وحفلت بها الخطب.استمر مستاء حزينا :نعم.. هذه اللهجة أصبحت لا تسمع لنا بأداء واجبنا على الوجه الأكمل، صرنا نعمل حسابا لصحف المعارضة ولتلك الأحزاب الورقية التي أمرنا بإنشائها السادات، وصار لزاما علينا أن نطور في الأساليب.
وقلت بعفوية :ولكن ما السبب الحقيقي لقتل كمال السنانيري؟ونظر إلى نظرة مستنكرة غاضبة فقلت: أقصد السبب الحقيقي وراء انتحاره.
وملأت الابتسامة وجهه من جديد وقال: كان يعرف الكثير ولا يريد البوح به فآثر الموت حفاظا على إخوانه.
قلت له باسما والمرارة تملأ حلقي: كان يسر كمال السنانيري أن يسمع هذه الشهادة منك.- هو يسمعها.. أليس الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون؟"نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
محمد خير رمضان يوسف، تتمة الأعلام، ط2 (بيروت: دار ابن حزم، 2002م)، 2/211، 212. حسام تمام، عبد المنعم أبو الفتوح: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2012م)، ص75. أحمد رائف، سراديب الشيطان: صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين، ط2 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1990)، ص154 وما بعدها.
Published on November 04, 2016 13:24
November 3, 2016
صورة مختصرة عن تنظيم الدعوة العباسية
إذا حاولنا تخيل كيف كانت صورة تنظيم سري يحمل دعوة قبل ألف سنة فستكون الصورة في أذهاننا صورة بسيطة، لكن الحقيقة أن التنظيم العباسي، ورغم قلة المعلومات المتوفرة عنه بطبيعة الحال لكونه سريا أولا ثم لطول الزمن ولكونه قبل عصر التدوين، يبدو لنا كتنظيم محكم دقيق من خلال الشذرات التي وصلت إلينا من كتب التاريخ.وكنا قد ذكرنا في مقالات ماضية كيف اختارت الدعوة العباسية مكان التنظيم وحاضنته الشعبية، ثم كيف كانت طريقتهم في تأسيس الخلايا السرية، ثم كيف استطاعوا السيطرة على اختراق ناجح في صفوفهم وأعادوا هيكلة التنظيم من جديد بصورة منعت اختراقه مرة أخرى.
لقد شاع عن الثورة العباسية أنها كانت ثورة الفرس أو الموالي على العرب، وهذا ما ثبت أنه غير صحيح وتأكد مع اكتشاف مخطوطة "أخبار الدولة العباسية" التي حققها ونشرها د. عبد العزيز الدوري، بل ثبت أن النقباء الاثنى عشر كانوا من قبائل عربية، وهذا ثبت بهم وبقبائلهم:
أبو محمد سليمان بن كثير (شيخ النقباء) [خزاعة]أبو منصور طلحة بن زريق [خزاعة]أبو نصر مالك بن الهيثم [خزاعة]أبو عيينة موسى بن كعب [تميم]أبو جعفر لاهز بن قريظ [تميم] (وهو زوج ابنة شيخ النقباء سليمان بن كثير)هؤلاء هم المتفق عليهم بين المؤرِّخين، وثمة أسماء أخرى أثبتها بعضهم باعتبارهم من النقباء الاثني عشر، وأثبت غيرهم أسماء أخرى بدلًا منهم، وهذه الأسماء هي:
أبو علي شبل بن طهمان الهروي [مولى بني حنيفة]زياد بن صالح [مولى خزاعة]أبو النجم عمران بن إسماعيل [مولى آل أبي معيط]عيسى بن كعب [تميم]أبو الحكم عيسى بن أعين [مولى خزاعة]أسلم بن أبي سلام [بجلة]أبو حمزة عمرو بن أعين [مولى خزاعة]وثمة وظائف أخرى تنظيمية تولاها ما يمكن أن نسميهم المعاونين للنقباء، أو الصف الثاني من أهل الدعوة، مثل:أبو صالح كامل بن المظفر يتولَّى كتابة الرسائل، وجمع الأموال والغنائم وتقسيمها، ورواتب الجُنْد، وهو أمين السرِّ للجُنْد.
أبو إسحاق خالد بن عثمان تولَّى قيادة الحرس.نصر بن مالك بن الهيثم تولَّى حراسة أبي مسلم الخراساني.أسلم بن صبيح تولَّى أمر المراسلات والبريدداود بن كرَّاز تولَّى إدارة العبيد الذين انحازوا إلى الدعوةوكان ثمة دعاة متخصِّصون أشبه -في أيامنا المعاصرة- بأسلوب القطاعات نعرف منهم مصعب بن قيس (وفي رواية الطبري: موسى بن كعب)؛ الذي كان مسئولًا عن دعوة العبيد والموالي فقطوعلى هذا فالشكل العام كان يُفصح عن نقباء، تتبعهم طبقات أقلَّ في مراتب الدعوة؛ وهي طبقة العمال، وكان لكلِّ نقيب سبعون عاملًا يُديرون الجهاز السرِّي ويساعدون النقباء، ثم يمضي التشكيل في عمقه إلى أن ينتهي بالخلايا السرية التي كانت تندس بين الناسوأمَّا التمويل فكان أتباع الدعوة يدفعون الخمس إلى الإمام العباسي، وكان موسم الحج فرصة يجتمع فيها النقباء بالإمام العباسي؛ فيُطلعونه على أحوال الدعوة ويتدارسون أمرها، ويسلمونه الخمس والهداياومن حيث الاجتماعات والتشاور؛ فقد كان التخفي وراء التجارة هو الأسلوب الأمثل للدعاة في الحركة والدعوة في العراق وخراسان، وكذلك في رفع التقارير وتلقِّي التوجيهات من الحميمة (مركز القيادة العامة) في الشامومما يُذكر لأساليب هذه الدعوة أنها سبقت عصرها في الإخفاء والتمويه؛ حتى إنهم استعملوا الإشارة والرموزبعد انتهاء مهمَّة إعادة تنظيم الدعوة في خراسان عاد بكير بن ماهان إلى الكوفة، وظلَّ هناك ممارسًا عمله ككبير الدعاة، وهو الرجل الثاني في التنظيم بعد الإمام، وظلَّ يُؤَدِّي مهامَّه من هناك في التخطيط والتهيئة لإعلان الدعوة، واستعان بصهره حفص بن سليمان الملقب بأبي سلمة الخلالأفكار وأدبيات التنظيم العباسي
مما وصل إلينا من رسائل ووصايا ومواعظ للإمام محمد بن علي وكبير دعاته بكير بن ماهان نستطيع أن نستخلص أهمَّ الأفكار التي حركت هذا التنظيم، وأهمَّ الآداب التي كان مطلوبًا على الأعضاء أن يتمسكوا بها: وأهمُّ ما كان يشغل أفكار محمد بن علي هو:
1. السرية والتخفي: فاتخذ منزلًا بعيدًا، واتخذ وسيطًا في الرسائل، وجعل اللقاءات التنظيمية في موسم الحج، وبلغ حرصه على السرية إلى الحدِّ الذي منع فيه ضم ذوي الصفات المميزة إلى صفوف الدعوة.
2. السلمية: فقد شدَّد في كل وصاياه على ألا يتمَّ سلُّ السيوف بأي حال من الأحوال؛ حتى يأتي الإذن منه بذلك.
3. الانضباط: والتزام الأفراد السمع والطاعة لأمرائهم في التنظيم.
4. البعد عن أهل الشام: وعدم محاولة ضمهم إلى الدعوة؛ لما شاع فيهم من حب بني أمية، حتى صار ذلك الولاء عميقًا، وصار أمر أهل الشام غير مأمون.
5. البعد عن أهل الكوفة: فهم الذين يكثرون في أول الثورات؛ حتى يظن القائم بأمرهم أنهم ميتون دونه، فإذا جدَّ الجدُّ لم يجدهم حوله، ووجد نفسه قتيلًا أو أسيرًا .. كما أن أهل الكوفة شاع بينهم الولاء للعلويين؛ فولاؤهم للعباسيين غير مأمون أيضًا.
6. الميل إلى أهل خراسان: للأسباب التي تميزَّت بها خراسان من قلَّة المذاهب والأفكار التي تَوَزَّعَتْ الناس وفرقتهم في العراق، وكثرة الرجال المجاهدين الأقوياء، ولما لخراسان من بُعد عن السلطة الأموية؛ وهو البعد الذي جعل بعض أحوالها أكثر سوءًا؛ فجعل أهلها أكثر نقمة على الأمويين، كذلك فإن الثقافة الفارسية ما زالت تُشَكِّل عقول مَنْ أسلموا؛ فهم يتقبَّلُون أمر وراثة الملك في أهل بيت واحد، كما كان الحال في عهودهم السابقة مع الأسر الملكية، كما أن نسل الحسين بن علي وهو من بيت النبوة قد انحصر في ولده علي زين العابدين، وعليٌّ هذا إنما كان ابن سلامة أو سلافة ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك الفرس7. الاهتمام بدعوة العرب: لا سيما زعماؤهم وشيوخهم من كل القبائل مع التركيز على اليمانية، وإلى حدٍّ ما الربعية.
8. الاستكثار من الأعاجم: وهذه كانت إحدى أكبر دلائل عبقرية محمد بن علي العباسي، وفيها قرأ تجربة بني أمية واستفاد منها؛ فلقد كانت إحدى أكبر المشاكل التي ساهمت في سقوط الدولة الأموية هو عامل العصبية القبلية، التي ازدادت في الفترات الأخيرة من حكمهم، فالعرب -لا سيما في تلك الأيام- على جانب عظيم من الأنفة إلى الحدِّ الذي ينبغي فيه على الخليفة أن يكون مستعليًا على القبلية، ومحافظًا على التوازن فيما بينها، وما إن يميل الخليفة إلى جانب حتى يضطرب أمر الملك، وتبدأ الصراعات والنزاعات، فكان الاستكثار من الأعاجم -الذين مثَّلوا فيما بعدُ جسم الدولة الرئيسي- من العوامل التي حفظت بقاء العباسيين في الخلافة، حتى في فترات ضعف الخليفة، فما كان الأعجمي يجرؤ على المناداة بنفسه خليفة، أو يحاول عزل الخليفة الشريف النسب؛ بل مهما بلغت الخلافة من الضعف كان يأخذ جانب الوزير أو الملك أو السلطان مع الاحتفاظ بتقديره للخليفة، وإن كان تقديرًا شكليًّا. لقد أفاد العباسيون من هذه السياسة فيما بعد إفادة كبيرة.
هذه أهمُّ الأفكار التي انتشرت في رسائل محمد بن علي العباسي، وحدَّدت رؤية التنظيم للحركة والدعوة.
وأمَّا موعظة بكير بن ماهان حين تولَّى أمر تنظيم الدعوة في خراسان؛ فقد جاءت بينة وكاشفة عن الآداب والمبادئ التي تُنَظّم عمل الدعوة، وتُنَظِّم العلاقات بين أفرادها، قال بكير:
"يا معشر الشيعةوليس للنقيب أن يَدَّعِيَ الفضل على غيره بالنقابة، وإنما الفاضل بالعمل، وقد بلغنا أن سعد بن معاذ لم يشهد بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا كان في العدة التي حضرته ليلة العقبة، ثم قدَّمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه النقباء وغير النقباء، وبلغنا أنه أقبل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في ملأ من أصحابه، فلما نظر إليه قال لمَنْ عنده: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ. فقال عمر بن الخطاب: الله سيدنا ورسوله. فقال رسول الله: وَسَعْدٌ سَيِّدُكَ يَا عُمَرُهذا لتعلموا أن الفضل إنما هو بالعمل لا بغيره، وكم من متأخِّر سيُقَدِّمه عمله، وكم من متقدِّم سيؤخِّره تقصيره، وقد أمرني إمامكم بالنظر في ذلك بما فيه عزّ دعوتكم، وقوَّة شيعته؛ فإن وافقتموني على رأيي أمضيت رأيي فيه، وإن كرهتموه وفيه وهنكم تركناه"وفي هذه الموعظة نرى الآداب والمبادئ الأساسية التي قامت عليها الدعوة، وأكَّد عليها بكير بن ماهان؛ وأهمُّها:
1. الأخوة: فقد تحدَّث بكير بن ماهان بلسان الأخ لأخيه وصاحبه، لا بلسان الأمير أو الرئيس، وتحدَّث بوضوح عن أن الارتباط بهذه الدعوة يصنع أخوة أقوى من أخوة النسب، كما أن النقيب ليس له تميز على غيره من أهل الدعوة، والأمر لا يعدو أن يكون إجراءً إداريًّا تنظيميًّا.
2. اصطفاء الله: وهو أن الله قد اختار هذه المجموعة وأنعم عليها بمعرفة هذه الدعوة والارتباط بها، وهي نعمة لم ينلها كثيرون غيرهم؛ فمن ثَمَّ كان الواجب عليهم أن يكونوا أهلًا لهذا الاصطفاء، بالبذل والعمل والإخلاص؛ فالأمر بهذا واجب ديني يكون المُقَصِّر فيه مُقَصِّرًا في حقِّ الله ورسوله، فليس الأمر أمر دنيا، أو غنيمة، أو شيء مما يصلح التنافس عليه.
3. الشورى والتناصح: وقد اتضحا في أسلوب بكير بن ماهان؛ حيث وضع نفسه تحت قرارهم في القبول به أميرًا عليهم، بل سار أبعد من هذا فوضع قرار الدعوة نفسه في أيديهم: هل يسيرون في هذا الطريق أم لا؟
4. الالتزام بالكتاب والسنة: حتى في اختيار العدد اثني عشر نقيبًا، استدلَّ عليه بقول الله تعالى عن موسى - عليه السلام -: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، وباختيار النبي اثنى عشر نقيبًا من الأنصار ليلة العقبة، كذلك في عدد السبعين باختيار موسى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155]، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافاه سبعون رجلًا من الأنصار في بيعة العقبة الثانية. وفي هذا تأكيد وتشديد على استقامة هذه الدعوة على سبيل الإسلام، والتزامها بالكتاب والسنة، وابتعادها عن الانحرافات الفكرية والشرعية.
5. لا فضل لأحد على أحد إلَّا بالعمل: وهذا مبدأ إسلامي أصيل، والدعوات في أمسِّ الحاجة إليه؛ ذلك أن الإخلاص وحده هو المفجر للطاقات الإنسانية، وهو نفسه الذي يُزَهِّد النفس في التطلع إلى المكاسب والغنائم والمناصب، بل الكل يعمل في سبيل الدعوة ناسيًا حظ نفسه ومكاسبها ومغانمها، راجيًا الثواب عند الله، غير متطلع لمرتبة أو منصب في الدعوة، يستوي في هذا رجال كل المراتب الإدارية؛ إذ يرى صاحب المرتبة نفسه في موضع الأمانة والمسئولية، التي يتمنَّى لو حملها عنه غيره، كما يرى غير صاحب المرتبة أنه عُوفي من مسئولية وأمانة ثقيلة.
ولا ريب في أن رجال الدعوة العباسية في هذه المرحلة كانوا الصفوة من الناس؛ إيمانًا وعلمًا وزكاة نفس، فهم يُقْدِمون على عمل محفوف بالمخاطر، هو -بتعبير العصر- قلب نظام الحكم، لا يقدمون عليه إلَّا لأنهم يرونه واجبًا دينيًّا وجهادًا، لا يسعهم التخلِّيَ عنه؛ لرفع المظالم التي أحدثها بنو أمية، ولردِّ الحقِّ إلى نصابه، والحقُّ أنهم احتملوا كثيرًا من التضييق والعنت، وتعرَّضوا للخوف والجزع، بل للقبض والتعذيب والمطاردة، ولا شكَّ في أن كثيرًا منهم تعرّضوا لخسائر في الأموال والأنفس أثناء مراحل الدعوة مع الأمويين، ولا شكَّ -أيضًا- أنهم كانوا على مستوى المرحلة، وأنهم قدَّموا نماذج فريدة في الثبات والاستعداد والتضحية بالغالي والنفيس .. فمنهم قوم عُرفوا باسم «الكفية»؛ وذلك لأنهم عاهدوا الدعوة على ألا يأخذوا أي أموال أو مغانم إن انتصرت؛ بينما لن يُقَصِّروا في دفع أموالهم وما احتاجت إليه الدعوة منهم، ولقد كانوا يتبرعون بأقلِّ ما يملكون، فيعطون حتى قدر الكف من الحبوبوسنسمع لأحد رجال الدعوة يقول بعد سنين هذه العبارة المؤثِّرة: "صُلينا بمكروه هذا الأمر، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر حتى قُطِّعَت فيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حَزًّا بالشفار، وسُمِلَت الأعين، وابْتُلِينا بأنواع المثلات، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا" .
إلا أن كل هذه التفاصيل -تقريبًا- لا علم لنا بها؛ لأنها مما لا يمرُّ عليه كتاب التاريخ، ولا تحفظه إلَّا صحائف الغيب عند علام الغيوب.
نشر في ساسة بوست
السمعاني: الأنساب 8/ 170، 171، وابن عساكر: تاريخ دمشق 22/ 356. البغدادي: المحبر ص465، والبلاذري: أنساب الأشراف 4/ 115، 116، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 320، ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص216، 217. وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 322، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 214، ود. فاروق عمر: الثورة العباسية ص75، 76. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 312، ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص279، 280. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص281، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 313. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص21. د. حسن أحمد محمود: العالم الإسلامي في العصر العباسي ص21. الدينوري: الأخبار الطوال ص343. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص203، والدينوري: الأخبار الطوال ص333، 343. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص19، وهو ينقل عن عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول ص27. لقب بـ «الخلال» إما لأنه كان يصنع خِلَل السيوف، أي أغماد السيوف، أو لأنه كان يتاجر في الخَلِّ (الجهشياري: الوزراء والكتاب ص55)، أو لأنه كان يجالس تجار الخل (ابن الجوزي: المنتظم 7/ 315، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 196، 197). البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 118. ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 266، 267. د. إبراهيم أيوب: التاريخ العباسي السياسي والحضاري ص16. كلمة الشيعة تعني الأتباع والأنصار، وليس المقصود بها هنا «الشيعة» بالمعنى الحديث الذي يُشير إلى المذهب المعروف. لم أجد هذا النص إلا في هذا الكتاب، لا في كتب الحديث ولا في كتب التاريخ. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص213 وما بعدها. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 168.
لقد شاع عن الثورة العباسية أنها كانت ثورة الفرس أو الموالي على العرب، وهذا ما ثبت أنه غير صحيح وتأكد مع اكتشاف مخطوطة "أخبار الدولة العباسية" التي حققها ونشرها د. عبد العزيز الدوري، بل ثبت أن النقباء الاثنى عشر كانوا من قبائل عربية، وهذا ثبت بهم وبقبائلهم:
أبو محمد سليمان بن كثير (شيخ النقباء) [خزاعة]أبو منصور طلحة بن زريق [خزاعة]أبو نصر مالك بن الهيثم [خزاعة]أبو عيينة موسى بن كعب [تميم]أبو جعفر لاهز بن قريظ [تميم] (وهو زوج ابنة شيخ النقباء سليمان بن كثير)هؤلاء هم المتفق عليهم بين المؤرِّخين، وثمة أسماء أخرى أثبتها بعضهم باعتبارهم من النقباء الاثني عشر، وأثبت غيرهم أسماء أخرى بدلًا منهم، وهذه الأسماء هي:
أبو علي شبل بن طهمان الهروي [مولى بني حنيفة]زياد بن صالح [مولى خزاعة]أبو النجم عمران بن إسماعيل [مولى آل أبي معيط]عيسى بن كعب [تميم]أبو الحكم عيسى بن أعين [مولى خزاعة]أسلم بن أبي سلام [بجلة]أبو حمزة عمرو بن أعين [مولى خزاعة]وثمة وظائف أخرى تنظيمية تولاها ما يمكن أن نسميهم المعاونين للنقباء، أو الصف الثاني من أهل الدعوة، مثل:أبو صالح كامل بن المظفر يتولَّى كتابة الرسائل، وجمع الأموال والغنائم وتقسيمها، ورواتب الجُنْد، وهو أمين السرِّ للجُنْد.
أبو إسحاق خالد بن عثمان تولَّى قيادة الحرس.نصر بن مالك بن الهيثم تولَّى حراسة أبي مسلم الخراساني.أسلم بن صبيح تولَّى أمر المراسلات والبريدداود بن كرَّاز تولَّى إدارة العبيد الذين انحازوا إلى الدعوةوكان ثمة دعاة متخصِّصون أشبه -في أيامنا المعاصرة- بأسلوب القطاعات نعرف منهم مصعب بن قيس (وفي رواية الطبري: موسى بن كعب)؛ الذي كان مسئولًا عن دعوة العبيد والموالي فقطوعلى هذا فالشكل العام كان يُفصح عن نقباء، تتبعهم طبقات أقلَّ في مراتب الدعوة؛ وهي طبقة العمال، وكان لكلِّ نقيب سبعون عاملًا يُديرون الجهاز السرِّي ويساعدون النقباء، ثم يمضي التشكيل في عمقه إلى أن ينتهي بالخلايا السرية التي كانت تندس بين الناسوأمَّا التمويل فكان أتباع الدعوة يدفعون الخمس إلى الإمام العباسي، وكان موسم الحج فرصة يجتمع فيها النقباء بالإمام العباسي؛ فيُطلعونه على أحوال الدعوة ويتدارسون أمرها، ويسلمونه الخمس والهداياومن حيث الاجتماعات والتشاور؛ فقد كان التخفي وراء التجارة هو الأسلوب الأمثل للدعاة في الحركة والدعوة في العراق وخراسان، وكذلك في رفع التقارير وتلقِّي التوجيهات من الحميمة (مركز القيادة العامة) في الشامومما يُذكر لأساليب هذه الدعوة أنها سبقت عصرها في الإخفاء والتمويه؛ حتى إنهم استعملوا الإشارة والرموزبعد انتهاء مهمَّة إعادة تنظيم الدعوة في خراسان عاد بكير بن ماهان إلى الكوفة، وظلَّ هناك ممارسًا عمله ككبير الدعاة، وهو الرجل الثاني في التنظيم بعد الإمام، وظلَّ يُؤَدِّي مهامَّه من هناك في التخطيط والتهيئة لإعلان الدعوة، واستعان بصهره حفص بن سليمان الملقب بأبي سلمة الخلالأفكار وأدبيات التنظيم العباسي
مما وصل إلينا من رسائل ووصايا ومواعظ للإمام محمد بن علي وكبير دعاته بكير بن ماهان نستطيع أن نستخلص أهمَّ الأفكار التي حركت هذا التنظيم، وأهمَّ الآداب التي كان مطلوبًا على الأعضاء أن يتمسكوا بها: وأهمُّ ما كان يشغل أفكار محمد بن علي هو:
1. السرية والتخفي: فاتخذ منزلًا بعيدًا، واتخذ وسيطًا في الرسائل، وجعل اللقاءات التنظيمية في موسم الحج، وبلغ حرصه على السرية إلى الحدِّ الذي منع فيه ضم ذوي الصفات المميزة إلى صفوف الدعوة.
2. السلمية: فقد شدَّد في كل وصاياه على ألا يتمَّ سلُّ السيوف بأي حال من الأحوال؛ حتى يأتي الإذن منه بذلك.
3. الانضباط: والتزام الأفراد السمع والطاعة لأمرائهم في التنظيم.
4. البعد عن أهل الشام: وعدم محاولة ضمهم إلى الدعوة؛ لما شاع فيهم من حب بني أمية، حتى صار ذلك الولاء عميقًا، وصار أمر أهل الشام غير مأمون.
5. البعد عن أهل الكوفة: فهم الذين يكثرون في أول الثورات؛ حتى يظن القائم بأمرهم أنهم ميتون دونه، فإذا جدَّ الجدُّ لم يجدهم حوله، ووجد نفسه قتيلًا أو أسيرًا .. كما أن أهل الكوفة شاع بينهم الولاء للعلويين؛ فولاؤهم للعباسيين غير مأمون أيضًا.
6. الميل إلى أهل خراسان: للأسباب التي تميزَّت بها خراسان من قلَّة المذاهب والأفكار التي تَوَزَّعَتْ الناس وفرقتهم في العراق، وكثرة الرجال المجاهدين الأقوياء، ولما لخراسان من بُعد عن السلطة الأموية؛ وهو البعد الذي جعل بعض أحوالها أكثر سوءًا؛ فجعل أهلها أكثر نقمة على الأمويين، كذلك فإن الثقافة الفارسية ما زالت تُشَكِّل عقول مَنْ أسلموا؛ فهم يتقبَّلُون أمر وراثة الملك في أهل بيت واحد، كما كان الحال في عهودهم السابقة مع الأسر الملكية، كما أن نسل الحسين بن علي وهو من بيت النبوة قد انحصر في ولده علي زين العابدين، وعليٌّ هذا إنما كان ابن سلامة أو سلافة ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك الفرس7. الاهتمام بدعوة العرب: لا سيما زعماؤهم وشيوخهم من كل القبائل مع التركيز على اليمانية، وإلى حدٍّ ما الربعية.
8. الاستكثار من الأعاجم: وهذه كانت إحدى أكبر دلائل عبقرية محمد بن علي العباسي، وفيها قرأ تجربة بني أمية واستفاد منها؛ فلقد كانت إحدى أكبر المشاكل التي ساهمت في سقوط الدولة الأموية هو عامل العصبية القبلية، التي ازدادت في الفترات الأخيرة من حكمهم، فالعرب -لا سيما في تلك الأيام- على جانب عظيم من الأنفة إلى الحدِّ الذي ينبغي فيه على الخليفة أن يكون مستعليًا على القبلية، ومحافظًا على التوازن فيما بينها، وما إن يميل الخليفة إلى جانب حتى يضطرب أمر الملك، وتبدأ الصراعات والنزاعات، فكان الاستكثار من الأعاجم -الذين مثَّلوا فيما بعدُ جسم الدولة الرئيسي- من العوامل التي حفظت بقاء العباسيين في الخلافة، حتى في فترات ضعف الخليفة، فما كان الأعجمي يجرؤ على المناداة بنفسه خليفة، أو يحاول عزل الخليفة الشريف النسب؛ بل مهما بلغت الخلافة من الضعف كان يأخذ جانب الوزير أو الملك أو السلطان مع الاحتفاظ بتقديره للخليفة، وإن كان تقديرًا شكليًّا. لقد أفاد العباسيون من هذه السياسة فيما بعد إفادة كبيرة.
هذه أهمُّ الأفكار التي انتشرت في رسائل محمد بن علي العباسي، وحدَّدت رؤية التنظيم للحركة والدعوة.
وأمَّا موعظة بكير بن ماهان حين تولَّى أمر تنظيم الدعوة في خراسان؛ فقد جاءت بينة وكاشفة عن الآداب والمبادئ التي تُنَظّم عمل الدعوة، وتُنَظِّم العلاقات بين أفرادها، قال بكير:
"يا معشر الشيعةوليس للنقيب أن يَدَّعِيَ الفضل على غيره بالنقابة، وإنما الفاضل بالعمل، وقد بلغنا أن سعد بن معاذ لم يشهد بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا كان في العدة التي حضرته ليلة العقبة، ثم قدَّمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه النقباء وغير النقباء، وبلغنا أنه أقبل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في ملأ من أصحابه، فلما نظر إليه قال لمَنْ عنده: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ. فقال عمر بن الخطاب: الله سيدنا ورسوله. فقال رسول الله: وَسَعْدٌ سَيِّدُكَ يَا عُمَرُهذا لتعلموا أن الفضل إنما هو بالعمل لا بغيره، وكم من متأخِّر سيُقَدِّمه عمله، وكم من متقدِّم سيؤخِّره تقصيره، وقد أمرني إمامكم بالنظر في ذلك بما فيه عزّ دعوتكم، وقوَّة شيعته؛ فإن وافقتموني على رأيي أمضيت رأيي فيه، وإن كرهتموه وفيه وهنكم تركناه"وفي هذه الموعظة نرى الآداب والمبادئ الأساسية التي قامت عليها الدعوة، وأكَّد عليها بكير بن ماهان؛ وأهمُّها:
1. الأخوة: فقد تحدَّث بكير بن ماهان بلسان الأخ لأخيه وصاحبه، لا بلسان الأمير أو الرئيس، وتحدَّث بوضوح عن أن الارتباط بهذه الدعوة يصنع أخوة أقوى من أخوة النسب، كما أن النقيب ليس له تميز على غيره من أهل الدعوة، والأمر لا يعدو أن يكون إجراءً إداريًّا تنظيميًّا.
2. اصطفاء الله: وهو أن الله قد اختار هذه المجموعة وأنعم عليها بمعرفة هذه الدعوة والارتباط بها، وهي نعمة لم ينلها كثيرون غيرهم؛ فمن ثَمَّ كان الواجب عليهم أن يكونوا أهلًا لهذا الاصطفاء، بالبذل والعمل والإخلاص؛ فالأمر بهذا واجب ديني يكون المُقَصِّر فيه مُقَصِّرًا في حقِّ الله ورسوله، فليس الأمر أمر دنيا، أو غنيمة، أو شيء مما يصلح التنافس عليه.
3. الشورى والتناصح: وقد اتضحا في أسلوب بكير بن ماهان؛ حيث وضع نفسه تحت قرارهم في القبول به أميرًا عليهم، بل سار أبعد من هذا فوضع قرار الدعوة نفسه في أيديهم: هل يسيرون في هذا الطريق أم لا؟
4. الالتزام بالكتاب والسنة: حتى في اختيار العدد اثني عشر نقيبًا، استدلَّ عليه بقول الله تعالى عن موسى - عليه السلام -: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، وباختيار النبي اثنى عشر نقيبًا من الأنصار ليلة العقبة، كذلك في عدد السبعين باختيار موسى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155]، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافاه سبعون رجلًا من الأنصار في بيعة العقبة الثانية. وفي هذا تأكيد وتشديد على استقامة هذه الدعوة على سبيل الإسلام، والتزامها بالكتاب والسنة، وابتعادها عن الانحرافات الفكرية والشرعية.
5. لا فضل لأحد على أحد إلَّا بالعمل: وهذا مبدأ إسلامي أصيل، والدعوات في أمسِّ الحاجة إليه؛ ذلك أن الإخلاص وحده هو المفجر للطاقات الإنسانية، وهو نفسه الذي يُزَهِّد النفس في التطلع إلى المكاسب والغنائم والمناصب، بل الكل يعمل في سبيل الدعوة ناسيًا حظ نفسه ومكاسبها ومغانمها، راجيًا الثواب عند الله، غير متطلع لمرتبة أو منصب في الدعوة، يستوي في هذا رجال كل المراتب الإدارية؛ إذ يرى صاحب المرتبة نفسه في موضع الأمانة والمسئولية، التي يتمنَّى لو حملها عنه غيره، كما يرى غير صاحب المرتبة أنه عُوفي من مسئولية وأمانة ثقيلة.
ولا ريب في أن رجال الدعوة العباسية في هذه المرحلة كانوا الصفوة من الناس؛ إيمانًا وعلمًا وزكاة نفس، فهم يُقْدِمون على عمل محفوف بالمخاطر، هو -بتعبير العصر- قلب نظام الحكم، لا يقدمون عليه إلَّا لأنهم يرونه واجبًا دينيًّا وجهادًا، لا يسعهم التخلِّيَ عنه؛ لرفع المظالم التي أحدثها بنو أمية، ولردِّ الحقِّ إلى نصابه، والحقُّ أنهم احتملوا كثيرًا من التضييق والعنت، وتعرَّضوا للخوف والجزع، بل للقبض والتعذيب والمطاردة، ولا شكَّ في أن كثيرًا منهم تعرّضوا لخسائر في الأموال والأنفس أثناء مراحل الدعوة مع الأمويين، ولا شكَّ -أيضًا- أنهم كانوا على مستوى المرحلة، وأنهم قدَّموا نماذج فريدة في الثبات والاستعداد والتضحية بالغالي والنفيس .. فمنهم قوم عُرفوا باسم «الكفية»؛ وذلك لأنهم عاهدوا الدعوة على ألا يأخذوا أي أموال أو مغانم إن انتصرت؛ بينما لن يُقَصِّروا في دفع أموالهم وما احتاجت إليه الدعوة منهم، ولقد كانوا يتبرعون بأقلِّ ما يملكون، فيعطون حتى قدر الكف من الحبوبوسنسمع لأحد رجال الدعوة يقول بعد سنين هذه العبارة المؤثِّرة: "صُلينا بمكروه هذا الأمر، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر حتى قُطِّعَت فيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حَزًّا بالشفار، وسُمِلَت الأعين، وابْتُلِينا بأنواع المثلات، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا" .
إلا أن كل هذه التفاصيل -تقريبًا- لا علم لنا بها؛ لأنها مما لا يمرُّ عليه كتاب التاريخ، ولا تحفظه إلَّا صحائف الغيب عند علام الغيوب.
نشر في ساسة بوست
السمعاني: الأنساب 8/ 170، 171، وابن عساكر: تاريخ دمشق 22/ 356. البغدادي: المحبر ص465، والبلاذري: أنساب الأشراف 4/ 115، 116، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 320، ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص216، 217. وابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 322، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 214، ود. فاروق عمر: الثورة العباسية ص75، 76. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 312، ومجهول: أخبار الدولة العباسية ص279، 280. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص281، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 313. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص21. د. حسن أحمد محمود: العالم الإسلامي في العصر العباسي ص21. الدينوري: الأخبار الطوال ص343. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص203، والدينوري: الأخبار الطوال ص333، 343. د. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص19، وهو ينقل عن عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول ص27. لقب بـ «الخلال» إما لأنه كان يصنع خِلَل السيوف، أي أغماد السيوف، أو لأنه كان يتاجر في الخَلِّ (الجهشياري: الوزراء والكتاب ص55)، أو لأنه كان يجالس تجار الخل (ابن الجوزي: المنتظم 7/ 315، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 196، 197). البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 118. ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 266، 267. د. إبراهيم أيوب: التاريخ العباسي السياسي والحضاري ص16. كلمة الشيعة تعني الأتباع والأنصار، وليس المقصود بها هنا «الشيعة» بالمعنى الحديث الذي يُشير إلى المذهب المعروف. لم أجد هذا النص إلا في هذا الكتاب، لا في كتب الحديث ولا في كتب التاريخ. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص213 وما بعدها. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 168.
Published on November 03, 2016 13:21
November 2, 2016
الاختراق الاستخباري للإسلاميين في الجزائر
بدأنا في تكوين "مكتبة الثائر المصري" بكتاب "الشيخ أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة" الذي يروي تجربة ناجحة لتأسيس حركة مقاومة في ظروف مستحيلة، وعرضنا أهم خلاصاته في جزئين: الأول، والثاني، ثم بدأنا بكتاب "مختصر شهادتي على التجربة الجهادية في الجزائر" لمؤرخ الجهاديين الأبرز أبي مصعب السوري وفيه دروس تجربة فاشلة لحركة مقاومة انقلاب عسكري في الجزائر، فعرضنا الجزء الأول منه، ونستكمل الآن بقية خلاصاته.
وكنا قد ذكرنا في المقال السابق أن الاختراق الاستخباري للفصائل المقاتلة بدأ بتسهيل هروب 700 منهم من سجن جزائري ليختلط الجواسيس بهم، ثم عبر سلسلة اغتيالات للقادة يُصَعَّد الجواسيس أو المُخْتَرَقين إلى موقع القيادة، فما لبث أن اغتيل القائد الأول "القاري سعيد"
15. عند مطلع (1993م) تمكنت الفصائل المقاتلة من تحقيق الوحدة بنسبة 95%، وتولى القيادة أبو عبد الله أحمد، لكن ما لبث هذا أن قُتِل في ظروف غامضة أيضا، وتولى القيادة بعده أبو عبد الرحمن أمين.
16. انحرف الخط الجهادي انحرافا كبيرا مع تولي هذا البلاء المبين أبو عبد الرحمن أمين، الذي ما لبث أن جمع ما يُدَرَّس من الكتب للمجاهدين –ومنها كتب سيد قطب وكتبي ومحاضراتي- فأحرقها جميعا، لأنها "فكر" و"الفكر" مخالف للسلفية الصحيحة وتصل عقوبته -عنده- إلى القتل سياسة! وكان هذا الرجل قديما بائع دجاج! وأفكاره تقترب من السلفية الجامية التي تعادي كل الصحوة الإسلامية، وتوليه القيادة هو لغز من الألغاز!
وقد كثرت البيانات الصادرة عنهم والتي توسع دائرة العداء والمواجهة لتجعلها ضد المدنيين المرتبطين بأدنى علاقة بجهاز الدولة، فصارت تتوعد وزارة الإعلام من الوزير إلى بائع الجرائد، ووزارة التعليم حتى الطلاب، ووزارة النفط حتى عمال محطات البنزين! وحصلت جرأة غير مسبوقة على استحلال قتل النساء والأطفال من أسر العاملين في أجهزة الدولة، وارتفاع خطاب التكفير العام، ثم تجرأت هذه القيادة المجرمة فاغتالت الشيخ محمد السعيد والمجاهد عبد الوهاب العمارة وغيرهما بدعوى تحضيرهم للانقلاب عليه، وبدعوى الحفاظ على الهوية السلفية للجماعة، ثم أصدروا كتاب "هداية رب العالمين" كمنهج فكري، وهو حافل بالجهل والتطرف والتكفير واستحلال الدماء، وبهذا اكتمل اليقين في حجم الانحراف الذي صارت عليه تلك القيادة.
17. ثم وجه أبو عبد الرحمن هذا مقاتليه إلى المجازر الجماعية في المدنيين بالقرى بزعم ارتدادهم بالتحاقهم بالميليشيات الحكومية، فاستباح دماءهم وسبي نسائهم. وهنا عملت أجهزة الاستخبارات الجزائرية التي تكشف فيما بعد أنها الساعية إلى صناعة هذه الأجواء والانحرافات بدسِّها عناصرها لاختراق القيادة الجهادية –التي ربما كان أبو عبد الرحمن واحدا منهم- فنفذت سلسلة مروعة من المجازر ضد المدنيين، وصلت إلى قتل المصلين على أبواب المساجد في رمضان بذريعة أنهم ارتدوا بمشاركتهم في الانتخابات، وقد أثبتت الأرقام والإحصائيات –كما عرضتها حلقة بقناة الجزيرة- أن المجازر كانت في حقيقتها مذابح عقابية ضد المناطق التي دعمت الإسلاميين في الانتخابات.
18. توقعت ما سيجري في الجزائر بناء على التجربة التي عشتها من قبل في سوريا، مع خصوصية جزائرية، فالجزائريون لهم بصمة في الشدة، فالجهاديون شرسون في الأداء، والديمقراطيون متعصبون للديمقراطية، والسلفيون متشددون للسلفية، والتكفيريون قساة مجرمون، والسلطة العسكرية جمعت كل الشر بقسوة وفظاعة فاقت بها الشياطين، ومن ورارئها كانت الأنظمة العربية –بأموالها وإعلامها وأجهزة أمنها واستخباراتها- تعطي دعما كاملا ومطلقا للسلطة العسكرية، ومن ورائهم النظام العالمي، لا سيما الاستخبارات الفرنسية التي اتضحت أصابعها العاملة في الجزائر.
19. وهكذا أصر الديمقراطي على ديمقراطيته رغم الانقلاب حتى أفلتت الفرصة التاريخية بالاعتصام الهائل الذي احتشد في العاصمة، والذي كان يحتاج إلى مبادرة على الطريقة الخمينية، كان يجب قيادة الحشود إلى مراكز الدولة للسيطرة عليها، وكل الخسائر المتوقعة هي أقل بكثير جدا مما دفعته الجزائر، وكان على قيادة الإنقاذ أن تتوارى لخوض مواجهة أخرى لكن إصرارهم على الديمقراطية وصل إلى أن رفض عباسي مدني الهرب من ضباط الاعتقال لما معه من "شرعية" فاعتُقِل بلا مقاومة، بل وذهب علي بلحاج إلى مبنى الإذاعة ليناظر "العسكر" في خطأ الانقلاب!! فاعتقلوه، وبغياب القيادة الأساسية انقسمت الجبهة الإسلامية إلى أربعة أقسام: معتقلون في السجون، ولاجئون في الخارج يمارسون نداء الشرعية والديمقراطية من وسائل الإعلام، وخائنون تركوا الجبهة وانحازوا للسلطة، ومقاتلون حملوا السلاح وصعدوا إلى الجبال.
20. وبهذا تم للسلطة الجزائرية ما أرادت، إذ تشرذمت الفصائل الجهادية وتمزقت، وانفض الناس عن المشروع الجهادي وزهدوا فيه، ثم أطلقت فيما بعد برنامجا للاستسلام (الوئام الوطني) بدعوى العفو عمن يلقون سلاحهم، واختلط الحابل بالنابل في كل ساحة الصحوة الإسلامية، وصارت التجربة الجزائرية دليلا لكل من يرفض خيار المقاومة والجهاد، واستطاعت أجهزة الإعلام والمخابرات –الجزائرية والعربية والعالمية- تصدير صورة مروعة لفكرة الجهاد والمقاومة وربطها بالإجرام والتكفير والمجازر والدماء!
19. أما علاقتي الشخصية بالتجربة الجزائرية، فمنذ وصلت إلى لندن وعملت مع الخلية الإعلامية الداعمة للقضية الجزائرية تلقيت صدمة كبيرة لفرط ما هم فيه من الفوضى والعبثية وانعدام الحس الأمني، فضلا عن أن أغلبهم من حديثي الالتزام الذين لا يعرفون عواقب ما يفعلون ولا يقدرون له أهميته، ثم ما لبث أن حلَّ عليهم أبو قتادة الفلسطيني، فزاد الهرج والفوضى، ثم في النهاية كُشفت الخلية الداعمة للداخل لما تمدد عملهم إلى الساحة الإعلامية والدعوية برغم كثرة ما حذرتهم، وخسرت القضية كوادر ممتازة بهذا الانكشاف.
20. أما أبو قتادة الفلسطيني فكان من الأفغان العرب الذين غادروا بعد انتهاء حرب أفغانستان بفعل تطور الأوضاع، فوصل إلى لندن، وسرعان ما حصل على اللجوء السياسي بطريقة أثارت دهشة وتساؤلات، وكان أول أمره من جماعة التبليغ ثم انتقل إلى السلفية العلمية ثم في أفغانستان إلى السلفية الجهادية، فلما صار في لندن اتخذ قضية الجهاد في الجزائر قضية محورية، فلم يلبث أن صار مرجعية علمية وفكرية لهؤلاء الشباب الأغرار، ثم صار أبو قتادة ومقر إقامته وخطابته نقطة نشاط لكل شيء: الصلاة والخطابة وتوزيع المنشورات وجمع التبرعات والتقاء الجهاديين واجتماع المتحمسين، فصار بهذا نقطة رصد ممتازة للإسلاميين والجهاديين بالنسبة للمخابرات البريطانية. لم يكن لأبي قتادة ماض في "العمل" الجهادي لكن سلفيته وحماسته وتعطش الجهاديين لأي طالب علم يدعم منهجهم ويسد حاجتهم بلَّغه هذه المكانة لا سيما والمجموعة الجزائرية كانوا –مثله- من متعصبة السلفية.
21. تعرفت على أبي قتادة عن قرب، كريم مضياف ذكي واسع الاطلاع قوي الذاكرة لديه ملكة الاستنباط الشرعي طموح عالي الهمة، وكان من أتباع الدعوة والتبليغ قبل أن يصير سلفيا، فهو يحب ويجيد جمع الناس حوله وإقامة الولائم، ولذلك فهو لا يصلح للعمل السري الأمني ويسهل اختراقه، ثم إن تعصبه للسلفية جعله معاديا للمذهبية ولسائر مدارس الصحوة الإسلامية، مع شراسة وعدوانية في المناظرة واشتداد على المخالف الذين هم عنده "مبتدعة وأهل ضلال وأهواء"، وجرأة في الفتوى وضيق صدر بالخلاف.
وعند أبي قتادة نتوقف –لانتهاء المساحة المخصصة- ونبدأ في المقال القادم بقصته المروعة ودوره الخطير في تجربة الجزائر.
نشر في مدونات الجزيرة
وكنا قد ذكرنا في المقال السابق أن الاختراق الاستخباري للفصائل المقاتلة بدأ بتسهيل هروب 700 منهم من سجن جزائري ليختلط الجواسيس بهم، ثم عبر سلسلة اغتيالات للقادة يُصَعَّد الجواسيس أو المُخْتَرَقين إلى موقع القيادة، فما لبث أن اغتيل القائد الأول "القاري سعيد"
15. عند مطلع (1993م) تمكنت الفصائل المقاتلة من تحقيق الوحدة بنسبة 95%، وتولى القيادة أبو عبد الله أحمد، لكن ما لبث هذا أن قُتِل في ظروف غامضة أيضا، وتولى القيادة بعده أبو عبد الرحمن أمين.
16. انحرف الخط الجهادي انحرافا كبيرا مع تولي هذا البلاء المبين أبو عبد الرحمن أمين، الذي ما لبث أن جمع ما يُدَرَّس من الكتب للمجاهدين –ومنها كتب سيد قطب وكتبي ومحاضراتي- فأحرقها جميعا، لأنها "فكر" و"الفكر" مخالف للسلفية الصحيحة وتصل عقوبته -عنده- إلى القتل سياسة! وكان هذا الرجل قديما بائع دجاج! وأفكاره تقترب من السلفية الجامية التي تعادي كل الصحوة الإسلامية، وتوليه القيادة هو لغز من الألغاز!
وقد كثرت البيانات الصادرة عنهم والتي توسع دائرة العداء والمواجهة لتجعلها ضد المدنيين المرتبطين بأدنى علاقة بجهاز الدولة، فصارت تتوعد وزارة الإعلام من الوزير إلى بائع الجرائد، ووزارة التعليم حتى الطلاب، ووزارة النفط حتى عمال محطات البنزين! وحصلت جرأة غير مسبوقة على استحلال قتل النساء والأطفال من أسر العاملين في أجهزة الدولة، وارتفاع خطاب التكفير العام، ثم تجرأت هذه القيادة المجرمة فاغتالت الشيخ محمد السعيد والمجاهد عبد الوهاب العمارة وغيرهما بدعوى تحضيرهم للانقلاب عليه، وبدعوى الحفاظ على الهوية السلفية للجماعة، ثم أصدروا كتاب "هداية رب العالمين" كمنهج فكري، وهو حافل بالجهل والتطرف والتكفير واستحلال الدماء، وبهذا اكتمل اليقين في حجم الانحراف الذي صارت عليه تلك القيادة.
17. ثم وجه أبو عبد الرحمن هذا مقاتليه إلى المجازر الجماعية في المدنيين بالقرى بزعم ارتدادهم بالتحاقهم بالميليشيات الحكومية، فاستباح دماءهم وسبي نسائهم. وهنا عملت أجهزة الاستخبارات الجزائرية التي تكشف فيما بعد أنها الساعية إلى صناعة هذه الأجواء والانحرافات بدسِّها عناصرها لاختراق القيادة الجهادية –التي ربما كان أبو عبد الرحمن واحدا منهم- فنفذت سلسلة مروعة من المجازر ضد المدنيين، وصلت إلى قتل المصلين على أبواب المساجد في رمضان بذريعة أنهم ارتدوا بمشاركتهم في الانتخابات، وقد أثبتت الأرقام والإحصائيات –كما عرضتها حلقة بقناة الجزيرة- أن المجازر كانت في حقيقتها مذابح عقابية ضد المناطق التي دعمت الإسلاميين في الانتخابات.
18. توقعت ما سيجري في الجزائر بناء على التجربة التي عشتها من قبل في سوريا، مع خصوصية جزائرية، فالجزائريون لهم بصمة في الشدة، فالجهاديون شرسون في الأداء، والديمقراطيون متعصبون للديمقراطية، والسلفيون متشددون للسلفية، والتكفيريون قساة مجرمون، والسلطة العسكرية جمعت كل الشر بقسوة وفظاعة فاقت بها الشياطين، ومن ورارئها كانت الأنظمة العربية –بأموالها وإعلامها وأجهزة أمنها واستخباراتها- تعطي دعما كاملا ومطلقا للسلطة العسكرية، ومن ورائهم النظام العالمي، لا سيما الاستخبارات الفرنسية التي اتضحت أصابعها العاملة في الجزائر.
19. وهكذا أصر الديمقراطي على ديمقراطيته رغم الانقلاب حتى أفلتت الفرصة التاريخية بالاعتصام الهائل الذي احتشد في العاصمة، والذي كان يحتاج إلى مبادرة على الطريقة الخمينية، كان يجب قيادة الحشود إلى مراكز الدولة للسيطرة عليها، وكل الخسائر المتوقعة هي أقل بكثير جدا مما دفعته الجزائر، وكان على قيادة الإنقاذ أن تتوارى لخوض مواجهة أخرى لكن إصرارهم على الديمقراطية وصل إلى أن رفض عباسي مدني الهرب من ضباط الاعتقال لما معه من "شرعية" فاعتُقِل بلا مقاومة، بل وذهب علي بلحاج إلى مبنى الإذاعة ليناظر "العسكر" في خطأ الانقلاب!! فاعتقلوه، وبغياب القيادة الأساسية انقسمت الجبهة الإسلامية إلى أربعة أقسام: معتقلون في السجون، ولاجئون في الخارج يمارسون نداء الشرعية والديمقراطية من وسائل الإعلام، وخائنون تركوا الجبهة وانحازوا للسلطة، ومقاتلون حملوا السلاح وصعدوا إلى الجبال.
20. وبهذا تم للسلطة الجزائرية ما أرادت، إذ تشرذمت الفصائل الجهادية وتمزقت، وانفض الناس عن المشروع الجهادي وزهدوا فيه، ثم أطلقت فيما بعد برنامجا للاستسلام (الوئام الوطني) بدعوى العفو عمن يلقون سلاحهم، واختلط الحابل بالنابل في كل ساحة الصحوة الإسلامية، وصارت التجربة الجزائرية دليلا لكل من يرفض خيار المقاومة والجهاد، واستطاعت أجهزة الإعلام والمخابرات –الجزائرية والعربية والعالمية- تصدير صورة مروعة لفكرة الجهاد والمقاومة وربطها بالإجرام والتكفير والمجازر والدماء!
19. أما علاقتي الشخصية بالتجربة الجزائرية، فمنذ وصلت إلى لندن وعملت مع الخلية الإعلامية الداعمة للقضية الجزائرية تلقيت صدمة كبيرة لفرط ما هم فيه من الفوضى والعبثية وانعدام الحس الأمني، فضلا عن أن أغلبهم من حديثي الالتزام الذين لا يعرفون عواقب ما يفعلون ولا يقدرون له أهميته، ثم ما لبث أن حلَّ عليهم أبو قتادة الفلسطيني، فزاد الهرج والفوضى، ثم في النهاية كُشفت الخلية الداعمة للداخل لما تمدد عملهم إلى الساحة الإعلامية والدعوية برغم كثرة ما حذرتهم، وخسرت القضية كوادر ممتازة بهذا الانكشاف.
20. أما أبو قتادة الفلسطيني فكان من الأفغان العرب الذين غادروا بعد انتهاء حرب أفغانستان بفعل تطور الأوضاع، فوصل إلى لندن، وسرعان ما حصل على اللجوء السياسي بطريقة أثارت دهشة وتساؤلات، وكان أول أمره من جماعة التبليغ ثم انتقل إلى السلفية العلمية ثم في أفغانستان إلى السلفية الجهادية، فلما صار في لندن اتخذ قضية الجهاد في الجزائر قضية محورية، فلم يلبث أن صار مرجعية علمية وفكرية لهؤلاء الشباب الأغرار، ثم صار أبو قتادة ومقر إقامته وخطابته نقطة نشاط لكل شيء: الصلاة والخطابة وتوزيع المنشورات وجمع التبرعات والتقاء الجهاديين واجتماع المتحمسين، فصار بهذا نقطة رصد ممتازة للإسلاميين والجهاديين بالنسبة للمخابرات البريطانية. لم يكن لأبي قتادة ماض في "العمل" الجهادي لكن سلفيته وحماسته وتعطش الجهاديين لأي طالب علم يدعم منهجهم ويسد حاجتهم بلَّغه هذه المكانة لا سيما والمجموعة الجزائرية كانوا –مثله- من متعصبة السلفية.
21. تعرفت على أبي قتادة عن قرب، كريم مضياف ذكي واسع الاطلاع قوي الذاكرة لديه ملكة الاستنباط الشرعي طموح عالي الهمة، وكان من أتباع الدعوة والتبليغ قبل أن يصير سلفيا، فهو يحب ويجيد جمع الناس حوله وإقامة الولائم، ولذلك فهو لا يصلح للعمل السري الأمني ويسهل اختراقه، ثم إن تعصبه للسلفية جعله معاديا للمذهبية ولسائر مدارس الصحوة الإسلامية، مع شراسة وعدوانية في المناظرة واشتداد على المخالف الذين هم عنده "مبتدعة وأهل ضلال وأهواء"، وجرأة في الفتوى وضيق صدر بالخلاف.
وعند أبي قتادة نتوقف –لانتهاء المساحة المخصصة- ونبدأ في المقال القادم بقصته المروعة ودوره الخطير في تجربة الجزائر.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on November 02, 2016 13:13
October 31, 2016
مراعاة البيئة في بناء المدينة في الحضارة الإسلامية (1/2)
لقد ورد في القرآن الكريم ما يجعل طيب المدينة وكثرة خضرتها من متعة الإنسان {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]، ومما جاء في تفسير الآية أنها "طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها"وقد جعل النبي r موضع سوق المدينة –حين أنشأه- "على أطراف المدينة والمحلات السكنية بحيث لا تؤثر فيها سواء بضوضائها أو بفضلاتها الناتجة عن عملية البيع والشراء"ونستطيع أن نُرجِع إلى هذين الأصلين: النظري –وهو القرآن- والعملي –وهو السيرة- كافةَ ما أنتجه المسلمون –في الجملة، تأصيلا وتطبيقا- في مسألة بناء المدن واختيار مواقعها، وقد ظل التأصيل يمهد للتطبيق ثم يستفيد منه ثم يُطَوِّره عبر العصور الإسلامية المختلفة، حتى حصل هذا الانقطاع المعرفي بيننا وبين تراثنا فلم نفقه كثيرا منه إلا من خلال البحوث المعاصرة.
ولعله يحسن بنا أن ندرج كلامنا عن المدن الإسلامية في ثلاثة أمور:
§ التأصيل: الذي نراه في تراثنا الفكري المكتوب.§ التطبيق: الذي جرى واقعا عمليا ونقلته إلينا كتب التاريخ والآثار العمرانية§ ما فهمناه من البحوث المعاصرة من دقائق وأسرار المدن الإسلامية التي كشفت أمورا جديدة وغير متوقعة في دقة المراعاة الإسلامية لعنصر البيئة عند بناء المدينة.
ونلتقط في كل ذلك شذرات سريعة تكفي في مقام الإشارة وضرب المثال.
1. التأصيل
وضع ابن أبي الربيع –الفقيه البغدادي الذي عاش في القرن الثالث الهجري- في كتابه الذي وضعه للمعتصم العباسي، ستة شروطا لاختيار مواقع المدن هي: سعةكذلك لخَّص ابن الأزرق –وهو فقيه من القرن التاسع الهجري- في كتابه الذي وضعه للملوك، الأمورَ التي ينبغي مراعاتها في مواضع اختيار المدن، فجعل ذلك في أصلين: دفع المضار وجلب المنافع، وكان من جملة ما قال في "دفع المضار" ما أسماه "دفع المضار السماوية"، أي البيئية، وذلك يكون: "باختيار المواضع طيبة الهواء؛ لأن ما خَبَثَ منه بركوده أو تَعَفَّنَ بمجاورته مياهًا فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يُسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة". وجعل في جملة ما قال في "جلب المنافع" عدة أمور: "أحدها: الماء كأن يكون البلد على نهر أو بازائه عيون عذبة ولان وجوده كذلك يسهل الحاجة إليه وهي ضرورية. الثاني: طيب مرعى السائمة وقربه... الثالث: قرب المزارع الطيبة لأن الزرع هو القوت الضروري وكونها كذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله"ولقد تكرر في وصف الجغرافيين والرحالة الثناء على المدينة بطيب هوائها وقلة فساد الثمار والغلال بها، والأمثلة وفيرة غزيرة في كتبهم، ولنضرب أمثلة ببعض ما أورده القزويني ملتقطين مدنا من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ لقد وصف القزويني أصفهان بقوله: "جامعةٌ لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء، وصفاء الجو وصحة الأبدان... يبقى التفاح بها غضاً سنةً، والحنطة لا تتسوس بها، واللحم لا يتغير أياماً"، ووصف تونس بقوله: "قصبة بلاد إفريقية. أصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيراً! وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسناً وطعماً"، ووصف طليطلة بقوله: "من طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة"، ووصف صنعاء بأنها أحسن مدن اليمن "بناءً وأصحِّها هواء وأعذبها ماء، وأطيبها تربة وأقلها أمراضًا... وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ، وإذا اعتلت الإبل وأرعيت في مروجها تصح، واللحم يبقى بها أسبوعاً لا يفسد"ولقد وُجِد في مؤلفات العلماء والأطباء تآليف في بيئة المدن، ومن ذلك ما أشار إليه الطبيب المؤرخ ابن أبي أصيبعة من أن الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك عمل فترة في بيمارستان الرقةولقد حرصت الكتب الموضوعة في هذا الباب -لا سيما المؤلفات المبكرة- على اقتباس أقوال حكماء الأمم السابقة في هذا الموضوع، فنجد المؤلفات الإسلامية تثبت أقوال اليونان والفرس والهند وتفيد منها، وأبرز أولئك كان المسعودي في موسوعته "مروج الذهب".
وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نعرض للتطبيقات العملية لهذه الأصول النظرية، ثم نعرض لما كشفته البحوث المعاصرة من أسرار ودقائق المدن الإسلامية من وجهة النظر البيئية.
نشر في إسلام أون لاين
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/284. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص45. السمهودي: وفاء الوفاء 3/3، 4. السمهودي: وفاء الوفاء 3/12، 13. السمهودي: وفاء الوفاء 2/251 وما بعدها. البخاري (146)، ومسلم (2170). سعة: أي توفرها بما يكفي ويستوعب حاجة أهل المدينة. الميرة: الطعام. الذعار: المجرمون. السواد: الأرض الزراعية التي تحيط بالمدينة. ابن أبي الربيع: سلوك المالك ص106. ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك ص277، 278. القزويني: آثار البلاد ص50، 173، 296، 545. ومن المؤسف أننا لا نعرف عن هذا البيمارستان شيئا، ولولا عبارة ابن أبي أصيبعة هذه لم نكن لنعرفه. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص201. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 4/383.
ولعله يحسن بنا أن ندرج كلامنا عن المدن الإسلامية في ثلاثة أمور:
§ التأصيل: الذي نراه في تراثنا الفكري المكتوب.§ التطبيق: الذي جرى واقعا عمليا ونقلته إلينا كتب التاريخ والآثار العمرانية§ ما فهمناه من البحوث المعاصرة من دقائق وأسرار المدن الإسلامية التي كشفت أمورا جديدة وغير متوقعة في دقة المراعاة الإسلامية لعنصر البيئة عند بناء المدينة.
ونلتقط في كل ذلك شذرات سريعة تكفي في مقام الإشارة وضرب المثال.
1. التأصيل
وضع ابن أبي الربيع –الفقيه البغدادي الذي عاش في القرن الثالث الهجري- في كتابه الذي وضعه للمعتصم العباسي، ستة شروطا لاختيار مواقع المدن هي: سعةكذلك لخَّص ابن الأزرق –وهو فقيه من القرن التاسع الهجري- في كتابه الذي وضعه للملوك، الأمورَ التي ينبغي مراعاتها في مواضع اختيار المدن، فجعل ذلك في أصلين: دفع المضار وجلب المنافع، وكان من جملة ما قال في "دفع المضار" ما أسماه "دفع المضار السماوية"، أي البيئية، وذلك يكون: "باختيار المواضع طيبة الهواء؛ لأن ما خَبَثَ منه بركوده أو تَعَفَّنَ بمجاورته مياهًا فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يُسرع المرض فيه للحيوان الكائن فيه لا محالة". وجعل في جملة ما قال في "جلب المنافع" عدة أمور: "أحدها: الماء كأن يكون البلد على نهر أو بازائه عيون عذبة ولان وجوده كذلك يسهل الحاجة إليه وهي ضرورية. الثاني: طيب مرعى السائمة وقربه... الثالث: قرب المزارع الطيبة لأن الزرع هو القوت الضروري وكونها كذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله"ولقد تكرر في وصف الجغرافيين والرحالة الثناء على المدينة بطيب هوائها وقلة فساد الثمار والغلال بها، والأمثلة وفيرة غزيرة في كتبهم، ولنضرب أمثلة ببعض ما أورده القزويني ملتقطين مدنا من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ لقد وصف القزويني أصفهان بقوله: "جامعةٌ لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء، وصفاء الجو وصحة الأبدان... يبقى التفاح بها غضاً سنةً، والحنطة لا تتسوس بها، واللحم لا يتغير أياماً"، ووصف تونس بقوله: "قصبة بلاد إفريقية. أصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيراً! وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسناً وطعماً"، ووصف طليطلة بقوله: "من طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة"، ووصف صنعاء بأنها أحسن مدن اليمن "بناءً وأصحِّها هواء وأعذبها ماء، وأطيبها تربة وأقلها أمراضًا... وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ، وإذا اعتلت الإبل وأرعيت في مروجها تصح، واللحم يبقى بها أسبوعاً لا يفسد"ولقد وُجِد في مؤلفات العلماء والأطباء تآليف في بيئة المدن، ومن ذلك ما أشار إليه الطبيب المؤرخ ابن أبي أصيبعة من أن الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك عمل فترة في بيمارستان الرقةولقد حرصت الكتب الموضوعة في هذا الباب -لا سيما المؤلفات المبكرة- على اقتباس أقوال حكماء الأمم السابقة في هذا الموضوع، فنجد المؤلفات الإسلامية تثبت أقوال اليونان والفرس والهند وتفيد منها، وأبرز أولئك كان المسعودي في موسوعته "مروج الذهب".
وفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نعرض للتطبيقات العملية لهذه الأصول النظرية، ثم نعرض لما كشفته البحوث المعاصرة من أسرار ودقائق المدن الإسلامية من وجهة النظر البيئية.
نشر في إسلام أون لاين
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/284. د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص45. السمهودي: وفاء الوفاء 3/3، 4. السمهودي: وفاء الوفاء 3/12، 13. السمهودي: وفاء الوفاء 2/251 وما بعدها. البخاري (146)، ومسلم (2170). سعة: أي توفرها بما يكفي ويستوعب حاجة أهل المدينة. الميرة: الطعام. الذعار: المجرمون. السواد: الأرض الزراعية التي تحيط بالمدينة. ابن أبي الربيع: سلوك المالك ص106. ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك ص277، 278. القزويني: آثار البلاد ص50، 173، 296، 545. ومن المؤسف أننا لا نعرف عن هذا البيمارستان شيئا، ولولا عبارة ابن أبي أصيبعة هذه لم نكن لنعرفه. أحمد عيسى: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص201. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 4/383.
Published on October 31, 2016 12:39
تزكية الشيخ عبد السلام البسيوني
تفضل علي الشيخ الكريم والأديب الشاعر والفنان الخطاط وصاحب الخبرة الإعلامية العريقة، الشيخ عبد السلام البسيوني، وهو عضو مؤسس بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وصاحب التأليف الغزير المتنوع.. تفضل علي بهذه التزكية العزيزة الغالية.

Published on October 31, 2016 12:35
تزكية الإمام القرضاوي
وصلتني اليوم أرفع شهادة علمية أحصل عليها، وهي تزكية الإمام الفقيه شيخ العصر، يوسف القرضاوي، ولست أحب أن لي بها شيئا من الأوراق والشهادت الأكاديمية الأخرى.وكان الإخوة في مكتب الشيخ يعدون لكتاب في ذكرى بلوغه التسعين عاما -أطال الله بقاءه في عافية وحسن عمل- فساهمت فيه ببحث عنوانه "إسهام القرضاوي في باب التاريخ"، عرضت فيه لإنتاج الشيخ في هذا الباب في كتبه وتراجمه ومذكراته ومقدماته وما وضعه من أصول لفهم التاريخ وما ردَّ به على غيره من الدعاة.وقبل أسابيع قدر الله لي اللقاء بالشيخ منفردا على هامش مؤتمر "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" المنعقد في اسطنبول، وأتحفني بدعاء خاص سجلته صوتيا. https://goo.gl/hZSxpOثم الحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا، أهل الثناء والمجد..أسأل الله أن يجعلني من المخلصين المقبولين.
نص التزكية
نص التزكية
"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه (وبعد)
فإن ابننا محمد إلهامي من الشباب المسلم المثقف الملتزم، الذين يحملون قضية الإسلام والحرية، ويعملون لأجلها، ويضحون في سبيلها، وهو رجل صاحب قلم، نشر عددا من المقالات لا سيما في علم التاريخ، الذي له اهتمام به: قراءة وكتابة.
وقد اطلعت على بحث له بعنوان (القرضاوي والتاريخ) فأعجبت به، ووجدته بحثا علميا مرتبا، يدل على رؤية كاتبه وقدرته وتمكنه، أحسبه كذلك ولا أزكية على الله.
وأسأل الله له التوفيق والسداد والرشاد
يوسف القرضاويرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"

Published on October 31, 2016 07:41
October 28, 2016
التحالفات المؤقتة بديلا للفرقة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي عزَّ وجلَّ ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها، فسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، فسألت ربي أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها"وبعد وفاة النبي بربع قرن بدأت الفرقة والفتنة، ولقد قال الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان للمتمردين عليه ناصحا ومحذرا: "فوالله لئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون بعدي جميعا أبدا، ولا تقاتلون بعدي عدوا جميعا أبدا"وليس يعني هذا بطبيعة الحال أن نترك الوحدة ونطلب الفرقة، بل هي شر نحاول أن نتوقاه ونعالجه ما استطعنا، فإن عجزنا كان لا بد لنا من نضج ورشد يحملنا على فقه التعامل عند وقوع الفرقة وتعذر الوحدة. ولهذا ذهب الفقهاء إلى عدم جواز تعدد الإمام (الخليفة) للمسلمين في الزمن الواحد، لما في ذلك من الفرقة والتنازع التي نهى الله عنها، ولم يستثن من هذا سوى المالكية –وهو قول عند الشافعية- من جواز ذلك في حال تباعد الأقطار مع تعذر الاستنابة (أي عجز الخليفة عن تعيين نائب عنه في الدار البعيدة).
ثم شهد المسلمون وضعا جديدا بانهيار الخلافة الإسلامية (1924م) وانقسام بلادهم إلى أقطار أغلبها تحت الاحتلال، ثم زاد الوضع سوءا وتفرقا بعجز أكثر التجارب الإسلامية عن تحقيق وحدة أو تحالف دائم بل نشبت بين كثير منهم حروب وفشا في بعضهم الغلو والتكفير، ويبدو أن التجربة التاريخية تسوق نحو حل يتكرر طرحه: التحالفات المؤقتة.
في هذه السطور ثلاثة تجارب لأناس في مواطن مختلفة ومن مشارب مختلفة وفي ظروف مختلفة.
(1) باريس - 1926
عندما بلغ الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري التاسعة عشرة من عمره كان يعاين لحظة إلغاء الخلافة الإسلامية (1924م)، وكان حينها في باريس وقد خرج من مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ ما يقرب من نصف قرن، وفي ظل العجز الإسلامي عن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، كتب السنهوري كتابه الأشهر "الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية"، وهو الكتاب المشتهر بعنوان "فقه الخلافة".
كان شابا في باريس الفاتنة المبهرة لكنه كان يؤلف في حال أمته، ووُجِدت في يومياته أبيات شعر، منها:
أأرضى أن أنام على فراش .. ونوم المسلمين على القتادوأهنأ في النعيم برغد عيش .. وقومي شُتِّتوا في كل وادفلا نَعِمَتْ نفوس في صفاء .. إذا نسيت نفوسا في صفاد
كانت الفكرة المركزية للكتاب، كما وضحها أعرف تلاميذه به ومترجم كتابه وزوج ابنته وعلامة القانون في عصره والشخصية الإسلامية المرموقة د. توفيق الشاوي، هي الدعوة "لتحقيق الوحدة الإسلامية تدريجيا في صورة لا تتعارض مع الدول القطرية واستقلالها الذي أصبح واقعا مفروضا وقائما لا يمكن تجاهله... وهو يبدأ من عقيدة ثابتة بأن مبدأ الوحدة تفرضه علينا عقيدتنا وشريعتنا، فهو مبدأ موجود وقائم طالما بقيت عقيدة التوحيد، بل إن وحدة الأمة الإسلامية حقيقة واقة، ولكن هناك عوامل داخلية وخارجية قد أوهنتها أو أضعفتها"(2) في الشام - 2016
قبل نحو عشرة أيام نشر أبو الفتح الفرغلي، وهو شرعي في حركة "أحرار الشام"، عبر قناته بتطبيق "التليجرام" نداء بعنوان "سبب فشل الاندماج حتى الآن"، ومختصر ما قاله أبو الفتح أن الخلافات بين الفصائل الإسلامية في الشام هامشية وجزئية وفرعية وكلها يمكن التغلب عليها والسير نحو الوحدة، لولا سبب واحد هو "عدم الثقة".
"عدم الثقة" هذا يقف حجر عثرة أمام تحقيق اتحاد الفصائل الشامية رغم النتائج الكارثية الواقعة عليهم وعلى جهاد الشام كله جراء تفرقهم، ذلك أن كل محاولة اندماج تصطدم بشروط تعجيزية يضعها كل طرف لمحاولة ضمان مكتسباته أو لضمان ألا يُؤكل أو يُستخدم لأغراض فصيل آخر، وهكذا يتعطل مشروع الوحدة وتبقى الفرقة.
يرى أبو الفتح أن الرغبة في اندماج كامل وناجح ومستمر يؤدي إلى وضع شروط مستحيلة، وهو ما يؤدي إلى تعطل الوحدة وبقاء الفرقة، وبهذا صارت "ضمانات الوحدة" هي ذاتها "عوائق الوحدة"، فعاد الفرع على أصله بالنقض كما يعبر الأصوليون عن اجتهاد فاسد!
ويقترح أبو الفتح علاجا لهذا الحال ألا يُنظر إلى محاولة الاندماج "كأنه نهاية المطاف، و على غرار عقود النكاح الكاثوليكية ،لا يمكن أن تنقض إلا بالموت"، فلا بأس في الدخول في تحالفات مؤقتة، يُتنازل فيها عن الضمانات التعجيزية، ثم يعطون أنفسهم فرصة ووقتا يقيمون فيه التجربة من جديد، فإن رأى فصيل أن التحالف ينحرف عن غاياته فله أن ينسحب منه. وبهذا يتحقق التحالف الجزئي المؤقت الذي هو خير من بقاء التشرذم والفرقة.
والضمان –كما يراه أبو الفتح- أن أحدا في الشام لا يستطيع الضحك على الآخر ولا جر الساحة الشامية وحده إلى أغراضه، كما أن أي انحراف لفصيل يجد من يقومه وينادي عليه من داخل الفصيل نفسه، وهكذا يقوم اتزان القوى –إجمالا- كضمان عام لهذه التحالفات المؤقتة.
(3) في اسطنبول - 2016
وقبل أيام يشاء الله تعالى أن أُدْعى إلى ورشة عمل حول إنشاء تحالف سياسي إسلامي مصري، ورغم المجهود المضني المبذول من أصحاب المبادرة لضبط النقاش والإدارة بحيث يُؤدي في النهاية إلى ثمرة ملموسة، إلا أن التيار العام –في تقديري- دخل في ذات المشكلات التي تتفجر عند نوايا العمل، فالبعض متحمس أو متفائل والآخر واقعي أو متشائم، البعض يؤسس لأهداف كبرى وغيره يرى أنه يكفي أن نبدأ بأهداف صغيرة، البعض يرى أن النقص في المشروع والآخر يرى أن النقص في الأدوات، والبعض يحسب تأثير هذا العمل على خريطة علاقاته ومصالحه فيُقدم أو يُحجِم، ومع اختلاف التقديرات والاتجاهات والرؤى لم يكن ممكنا الوصول إلى ثمرة عملية مع أن الكل منسوب إلى التيار الإسلامي السياسي المضاد للانقلاب العسكري والمتضرر منه.
تخيلتُ للحظة أن لو كان لكل ممثل جهة على الطاولة أنصار وسلاح، فكانت صورة الساحة الشامية تسيطر على الخيال، فقررت طرح اقتراح أبي الفتح في التحالفات المؤقتة ذات الأهداف القريبة، وفي ذهني أن الضمان له هنا توازن الضعف بين هذه الأطراف لا توازن القوة كما هو في الشام، ولكن الاقتراح وجد معارضة في العموم، إذ كان تقدير الأكثرين أنه بالإمكان تأسيس ما هو أقوى وأدوم.
هذا وما زلنا في جلسة أولى، بينما الجلسات التالية هي التي تُطرح فيها الأسئلة القاتلة لكل تحالف مثل: نصيب التمثيل، لمن القيادة، نمط اتخاذ القرار، إلزامية القرار لمن لم يوافق عليه، صلاحيات ممثل كل فصيل في اتخاذ قرار داخل التحالف... إلخ!
والسؤال هنا: هل تستفيد حركات المقاومة في مصر من هذا، فإما توحدت وإما تحالفت مبكرا في ظل توازن الضعف قبل أن يحول "توازن القوة" بين اتحادها أو تحالفها؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
رواه مسلم. رواه خليفة بن خياط وابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة في المصنف والطبري بإسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ. عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة، تحقيق: د. توفيق الشاوي ود. نادية السنهوري، ط4 (القاهرة: مؤسسة الرسالة، 2000م) ص9، 10. (مقدمة الشاوي) السابق ص28. (مقدمة د. نادية)
ثم شهد المسلمون وضعا جديدا بانهيار الخلافة الإسلامية (1924م) وانقسام بلادهم إلى أقطار أغلبها تحت الاحتلال، ثم زاد الوضع سوءا وتفرقا بعجز أكثر التجارب الإسلامية عن تحقيق وحدة أو تحالف دائم بل نشبت بين كثير منهم حروب وفشا في بعضهم الغلو والتكفير، ويبدو أن التجربة التاريخية تسوق نحو حل يتكرر طرحه: التحالفات المؤقتة.
في هذه السطور ثلاثة تجارب لأناس في مواطن مختلفة ومن مشارب مختلفة وفي ظروف مختلفة.
(1) باريس - 1926
عندما بلغ الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري التاسعة عشرة من عمره كان يعاين لحظة إلغاء الخلافة الإسلامية (1924م)، وكان حينها في باريس وقد خرج من مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي منذ ما يقرب من نصف قرن، وفي ظل العجز الإسلامي عن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، كتب السنهوري كتابه الأشهر "الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية"، وهو الكتاب المشتهر بعنوان "فقه الخلافة".
كان شابا في باريس الفاتنة المبهرة لكنه كان يؤلف في حال أمته، ووُجِدت في يومياته أبيات شعر، منها:
أأرضى أن أنام على فراش .. ونوم المسلمين على القتادوأهنأ في النعيم برغد عيش .. وقومي شُتِّتوا في كل وادفلا نَعِمَتْ نفوس في صفاء .. إذا نسيت نفوسا في صفاد
كانت الفكرة المركزية للكتاب، كما وضحها أعرف تلاميذه به ومترجم كتابه وزوج ابنته وعلامة القانون في عصره والشخصية الإسلامية المرموقة د. توفيق الشاوي، هي الدعوة "لتحقيق الوحدة الإسلامية تدريجيا في صورة لا تتعارض مع الدول القطرية واستقلالها الذي أصبح واقعا مفروضا وقائما لا يمكن تجاهله... وهو يبدأ من عقيدة ثابتة بأن مبدأ الوحدة تفرضه علينا عقيدتنا وشريعتنا، فهو مبدأ موجود وقائم طالما بقيت عقيدة التوحيد، بل إن وحدة الأمة الإسلامية حقيقة واقة، ولكن هناك عوامل داخلية وخارجية قد أوهنتها أو أضعفتها"(2) في الشام - 2016
قبل نحو عشرة أيام نشر أبو الفتح الفرغلي، وهو شرعي في حركة "أحرار الشام"، عبر قناته بتطبيق "التليجرام" نداء بعنوان "سبب فشل الاندماج حتى الآن"، ومختصر ما قاله أبو الفتح أن الخلافات بين الفصائل الإسلامية في الشام هامشية وجزئية وفرعية وكلها يمكن التغلب عليها والسير نحو الوحدة، لولا سبب واحد هو "عدم الثقة".
"عدم الثقة" هذا يقف حجر عثرة أمام تحقيق اتحاد الفصائل الشامية رغم النتائج الكارثية الواقعة عليهم وعلى جهاد الشام كله جراء تفرقهم، ذلك أن كل محاولة اندماج تصطدم بشروط تعجيزية يضعها كل طرف لمحاولة ضمان مكتسباته أو لضمان ألا يُؤكل أو يُستخدم لأغراض فصيل آخر، وهكذا يتعطل مشروع الوحدة وتبقى الفرقة.
يرى أبو الفتح أن الرغبة في اندماج كامل وناجح ومستمر يؤدي إلى وضع شروط مستحيلة، وهو ما يؤدي إلى تعطل الوحدة وبقاء الفرقة، وبهذا صارت "ضمانات الوحدة" هي ذاتها "عوائق الوحدة"، فعاد الفرع على أصله بالنقض كما يعبر الأصوليون عن اجتهاد فاسد!
ويقترح أبو الفتح علاجا لهذا الحال ألا يُنظر إلى محاولة الاندماج "كأنه نهاية المطاف، و على غرار عقود النكاح الكاثوليكية ،لا يمكن أن تنقض إلا بالموت"، فلا بأس في الدخول في تحالفات مؤقتة، يُتنازل فيها عن الضمانات التعجيزية، ثم يعطون أنفسهم فرصة ووقتا يقيمون فيه التجربة من جديد، فإن رأى فصيل أن التحالف ينحرف عن غاياته فله أن ينسحب منه. وبهذا يتحقق التحالف الجزئي المؤقت الذي هو خير من بقاء التشرذم والفرقة.
والضمان –كما يراه أبو الفتح- أن أحدا في الشام لا يستطيع الضحك على الآخر ولا جر الساحة الشامية وحده إلى أغراضه، كما أن أي انحراف لفصيل يجد من يقومه وينادي عليه من داخل الفصيل نفسه، وهكذا يقوم اتزان القوى –إجمالا- كضمان عام لهذه التحالفات المؤقتة.
(3) في اسطنبول - 2016
وقبل أيام يشاء الله تعالى أن أُدْعى إلى ورشة عمل حول إنشاء تحالف سياسي إسلامي مصري، ورغم المجهود المضني المبذول من أصحاب المبادرة لضبط النقاش والإدارة بحيث يُؤدي في النهاية إلى ثمرة ملموسة، إلا أن التيار العام –في تقديري- دخل في ذات المشكلات التي تتفجر عند نوايا العمل، فالبعض متحمس أو متفائل والآخر واقعي أو متشائم، البعض يؤسس لأهداف كبرى وغيره يرى أنه يكفي أن نبدأ بأهداف صغيرة، البعض يرى أن النقص في المشروع والآخر يرى أن النقص في الأدوات، والبعض يحسب تأثير هذا العمل على خريطة علاقاته ومصالحه فيُقدم أو يُحجِم، ومع اختلاف التقديرات والاتجاهات والرؤى لم يكن ممكنا الوصول إلى ثمرة عملية مع أن الكل منسوب إلى التيار الإسلامي السياسي المضاد للانقلاب العسكري والمتضرر منه.
تخيلتُ للحظة أن لو كان لكل ممثل جهة على الطاولة أنصار وسلاح، فكانت صورة الساحة الشامية تسيطر على الخيال، فقررت طرح اقتراح أبي الفتح في التحالفات المؤقتة ذات الأهداف القريبة، وفي ذهني أن الضمان له هنا توازن الضعف بين هذه الأطراف لا توازن القوة كما هو في الشام، ولكن الاقتراح وجد معارضة في العموم، إذ كان تقدير الأكثرين أنه بالإمكان تأسيس ما هو أقوى وأدوم.
هذا وما زلنا في جلسة أولى، بينما الجلسات التالية هي التي تُطرح فيها الأسئلة القاتلة لكل تحالف مثل: نصيب التمثيل، لمن القيادة، نمط اتخاذ القرار، إلزامية القرار لمن لم يوافق عليه، صلاحيات ممثل كل فصيل في اتخاذ قرار داخل التحالف... إلخ!
والسؤال هنا: هل تستفيد حركات المقاومة في مصر من هذا، فإما توحدت وإما تحالفت مبكرا في ظل توازن الضعف قبل أن يحول "توازن القوة" بين اتحادها أو تحالفها؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
رواه مسلم. رواه خليفة بن خياط وابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة في المصنف والطبري بإسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ. عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة، تحقيق: د. توفيق الشاوي ود. نادية السنهوري، ط4 (القاهرة: مؤسسة الرسالة، 2000م) ص9، 10. (مقدمة الشاوي) السابق ص28. (مقدمة د. نادية)
Published on October 28, 2016 11:03