محمد إلهامي's Blog, page 38

December 15, 2016

وعند الثورة يتذكر الحكام الدين

لا زلنا في دروس الثورة العباسية التي استعرضناها في سلسلة المقالات الماضيةببصيرة السياسي الحاذق أدرك نصر بن سيار أن خطر أبي مسلم هو الخطر الأكبر في بلاده، وأنه من الممكن تجميد وتأجيل كل الخلافات والصراعات إلا هذا الخطر المجهول، فالدعوة الهاشمية الغامضة التي كان يلمحها سرا، ولا يستطيع الإمساك بخيوطها قد صارت قوة كبرى، وهي ليست من جنس الحركات التي يمكن التفاهم معها بالأموال أو الولايات؛ بل هي دعوة تطلب أمر الخلافة نفسه، ثم إنه ليس في حالة تسمح له بمحاربتها وحده، وخراسان منقسمة عليه، وجيشه لا يكاد يخرج من نزاع حتى يدخل في آخر، فلا طاقة له بهذه الدعوة الفتية الجديدة، لكل هذا ولغيره بدأ نصر بن سيار منذ تلك اللحظة في إرسال استغاثاته ومناشداته.
فأرسل إلى الخليفة مروان بن محمد قائلا:أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون لها ضرامفإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلامفإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمرة يشيب لها الغلامفقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيامفإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد حان القيامففري عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلامعلى أن مروان، في الواقع، لم يكن غافلا؛ ولكنه كان مشغولا بقمع ثورات العراق والجزيرة والحجاز واليمن ومصر، التي تكالبت عليه من كل جهةفكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة، والي الأمويين على العراق، وهو الذي ترجع إليه أمور خراسان، قائلا:أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت أن لا خير في الكذببأن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجبفراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغبفإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهبفقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة؛ وليس عندي رجل. وكانت العلاقة بين الرجلين سيئة ومضطربة، لذا لم يفكر في إنجاده متعللا باحتياجه إلى من لديه من الجنود لمواجهة ثورات الخوارج في العراقوأرسل نصر استغاثة أخرى إلى مروان بن محمد ولم يكن مصيرها أفضل من سابقاتهاوبالموازاة مع هذه الرسائل اجتهد نصر بن سيار ليمنع تحالفا قد يكون بين الكرماني ومن وراءه من اليمانية وبين أبي مسلم، ثم خاف أكثر من ذلك أن ينضم الربعية إلى هذا الحلف فيكون الأمر قد انتهى تقريبا وصار بلا قوة، ولئن كانت العداوة مشتعلة بينه وبين الكرماني زعيم اليمانية؛ فلقد سارع أولا إلى محاولة تحييد الربعية، فأنشد يقول:أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضبولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا يحرق في حافاتها الحطبما بالكم تلقحون الحرب بينكمو ... كأن أهل الحجا عن فعلكم غيبوتتركون عدوا قد أظلكمو ... مما تأشب لا دين ولا حسبليسوا إلى عرب منا فنعرفهم ... ولا صميم الموالي إن هم نسبواقدما يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرسول ولم تنزل به الكتبفمن يكن سائلا عن أصل دينهم ... فإن دينهمو أن تقتل العربمواجهة نصر بن سيار للدعوة العباسية
بعد الفشل على المستوى السياسي، مستوى الزعماء، توجه نصر بن سيار إلى المستوى الشعبي؛ إذ بعث نصر بن سيار إلى المتفقهين والقراء والنساك، ومن كان معارضا للحروب الداخلية بين نصر والكرماني، وقال: إنكم كرهتم مشاهدتنا في حربنا هذه، وزعمتم أنها فتنة القاتل والمقتول فيها في النار، فلم نردد عليكم رأيكم في ذلك، وهذا حدث قد ظهر بحضرتكم: هذه المسودة وهي تدعو إلى غير ملتنا وقد أظهروا غير سنتنا، وليسوا من أهل قبلتنا يعبدون السنانير (أي: القطط)، ويعبدون الرءوس، علوج وأغتامإنها سيرة المستبدين في كل زمان، ألا يحفلوا بعلماء الدين ولا يلقوا لهم بالا؛ حتى إذا وقعوا في أزمة سارعوا إليهم: أن أنقذوا الأمة والبلاد، ولكم علينا إن انتهت الفتنة أن نحكم بشرع الله. وعلى الجانب الآخر فلا شك أن في المتفقهين والنساك من لا يدرك أمور السياسة؛ لا سيما إن صور له الأمر على أنها فتنة تسيل فيها دماء المسلمين، فهو يسارع إلى إطفاء هذه الفتنة دون أن يعمل جهده في تبين وجه الحق فيها، وقد رأينا في عالمنا المعاصر كيف يستخدم الطغاة المستبدون بعض العلماء في إخماد الثورات الشعبية؛ باعتبارها فتنة تهدد البلاد والعباد، وتسيل فيها الدماء، وكذبوا: فما هدد بلادنا ودمرها وأسال دماء أهلها إلا هم أنفسهم!
أقلقت هذه الدعاية بالتحديد العباسيين، وخشوا من تأثيرها البالغ، ولم ينزل بأبي مسلم غم كما نزل به في هذا الحين؛ إذ الطعن في العقيدة أنفذ في النفوس من غيره، فسارع أبو مسلم لجمع أهل الرأي من النقباء وطرح الأمر عليهم فاقترح أسلم بن أبي سلام أن يجمع أبو مسلم أهل المعسكر جميعا، ثم ينادي فيهم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإقامة الحق والعدل، وأنه يبايع على ذلك هو وجميع أهل الدعوة، وبهذا تنتهي دعاية نصر بن سيار بأنهم على غير ملة الإسلام، واتفقوا على هذا الرأي، فنادى أبو مسلم بأن يجتمع أهل المعسكر جميعا صباح الغد لأمر مهم، وبلغ أمر الدعوة نصر بن سيار فبعث جواسيس إلى معسكر العباسيين لاستطلاع الأمر، ولما جاء الصباح نادى أبو مسلم: «يا معشر المسلمين بلغنا أن نصر بن سيار جمع قوما فخبرهم بأنكم على غير دين الإسلام، وأنكم تستحلون المحارم، ولا تعملون بكتاب الله ولا سنة نبيه، يريد بذلك ليطفئ نوركم، ويؤلب عليكم الناس، وقد كان الإمام أمرنا وتوالت كتبه إلينا بأن ندعو الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بذلك، وإظهار العدل، وإنكار الجور، وأن أبايع الناس على ذلك، وأنا أول من بايع على كتاب الله تعالى وسنة نبي الله والعمل بالحق والعدل ودفع الظلم عن الضعفاء، وأخذ الحق من الأقوياء، خذ بيعتي يا أبا محمد» (سليمان بن كثير). فأخذ بيعته، وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتفين بما أعطيت من نفسك؟ قال: نعم. ثم تتابع أهل الدعوة على البيعة حتى شمل كل من في المعسكر، وقد فوجئ القراء والنساك بهذا؛ فأمسكوا عن الطعن في العباسيين وفي أبي مسلم؛ بل إن منهم من انحاز إليهم، وفشل تدبير نصر بن سيارومع هذا الفشل لجأ نصر بن سيار إلى الحوار، فأرسل رجلين من بني ليث ومن باهلة إلى أبي مسلم لسؤاله عن هذه الدعوة، وقد اندهش الرسولان حين علما بأنهم يقيمون الصلاة وقالا: «والله ما كنا نحسبكم تصلون ... كان يقال لنا: إنكم لا تصلون وإنكم تعبدون السنانير. فلما رأيناك (أبا مسلم) تصلي ورأينا السنور مهينا لديكم؛ علمنا أن ما قيل فيكم باطل». وأحضر أبو مسلم كبار الدعوة وعلى رأسهم سليمان بن كثير لمجلس المناظرة، وبين أنه يدعو لدعوة الحق على كتاب الله وسنة نبيه وعلى المبايعة للرضا من آل محمد، فحاولا معرفة زعيم هذه الدعوة من آل البيت فلم يمكنهما؛ بل قال لهما أبو مسلم: «إن أجبتمانا ووثقتما له وأعطيتمانا ما نطمئن إليه منكما جمعنا بينكما وبينه، فأما أن ندلكما على صاحبنا وأنتما مقيمان على باطلكما فلا». وأظهر لهما الزهد والتواضع وتجرد من الأحساب والأنساب، وأعلن أن نسبه هو الدين وأن حسبه هو نصرة آل البيت لا غير، وبهذا ارتفع بدعوته فوق العصبيات والقبليات، فعاد الرجلان إلى نصر بن سيار يخبرانه بأن عدوه هذه المرة إنما هو داهيةوفي رواية عند الطبري أن العباسيين أسروا جماعة من أتباع الأمويين؛ ومنهم مولى لنصر بن سيار نفسه، فأمر أبو مسلم أن يعالج مولى نصر من جراحه، ويحسن إليه، ثم دعاه إليه فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما، وأعطنا عهد الله ألا تحاربنا وألا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت. فاختار الرجوع إلى مولاه، وقال أبو مسلم: إن هذا سيرد عنكم أهل الورع والصلاح؛ فإنا عندهم على غير الإسلام. فلما قدم على نصر بن سيار قال نصر: لا مرحبا بك، والله ما ظننت استبقاك القوم إلا ليتخذوك حجة علينا. فقال: فهو والله ما ظننت وقد استحلفوني ألا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية رسول الله، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو، ولولا أنك مولاي أعتقتني من الرق ما رجعت إليك، ولأقمت معهم. والحال نفسه تكرر مع أسرى لسرية من جيش نصر بن سيار آذت أهل قرية طوسان، فاستغاثوا بأبي مسلم؛ فأرسل إليهم سرية هزمتهم وأسرت منهم، فداوى جرحاهم ثم أفرج عنهمثم أرسل إليهم رجلا آخر واعظا فصيحا اسمه حية، وكان ممن استجاب لدعوة العباسيين، ثم انفصل عنهم، ولم تكن هذه المرة مثل السابقة تقصد الفهم والتعرف على هذه الدعوة؛ بل كانت هجومية؛ حتى لقد أوصى نصر حية بأن يسائله عن انحياز العبيد إليه، وهل يرضى هروبهم من مواليهم، وعن تجاوزات وقعت من أصحاب الدعوة في مدن نسا وطالقان وآمل، وعن انحيازه لقبائل اليمانية في اتهام له بالحزبية والعصبية والقبلية؛ التي لا تتفق مع دعوة الإسلام، وقد أفاض حية في عرض هذه العيوب بأسلوب فصيح إلا أن أبا مسلم رد عليه بكلام قليل موجز؛ لكنه بليغ كذلك، قال: "أما العبيد فلسنا نكره أحدا منهم، فمن أراد مولاه فشأنه، وإن أنفذتم أحكامنا حكمنا بينهم وبين مواليهم بالحق، وأما أهل نسا وطالقان وآمل، فإن الذي كان منهم لم يكن عن رأينا ولا بأمرنا؛ ولكنهم أمة أريد ظلمهم وسفك دمائهم فامتنعوا؛ فلا حجة عليهم ... ونعم أمرني الإمام أن أنزل في أهل اليمن وأتألف ربيعة، ولا أدع نصيبي من صالحي مضر"وبهذا نفى عن نفسه تهمة العصبية، وذنب تحريض الموالي على الهرب من مواليهم، والمسئولية عما فعل أهل الدعوة من تجاوزات مع التماس العذر لهم وتبرئتهم من الذنب باعتبار أنهم الذين أريد الاعتداء عليهم ولم يبدءوا بالعداوة.ولما شاعت هذه الإجابة السديدة بين الناس؛ زاد هذا في إقبال العبيد عليه؛ حتى بلغوا سبعة آلاف، فكان يكرمهم ويعطي الواحد منهم ثلاثة دراهم يوميا، ثم زادت إلى أربعة، وكذلك زاد إقبال اليمانية إما رغبة في الدعوة، وإما طلبا للثأر من نصر بن سيار، وكذلك إقبال الناس من ربيعة، وإقبال العديد من مضر أيضاوعلى هذا فشل نصر بن سيار في هذا الأسلوب أيضا! وصار استيلاء العباسيين على خراسان مسألة وقت.
نشر في ساسة بوست

راجع: اختيار مكان الثورة، وتأسيس الخلايا السرية، ومقاومة الاختراقات، وصورة مختصرة عن التنظيم السري العباسي ، وعوائق في طريق الثورة، ولحظات ما قبل الثورة العباسية، أبو مسلم الخراساني، درس التمهيد للدولة، قصة ظهور الدعوة العباسية. خليفة بن خياط: تاريخ خليفة ص115، وابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 221، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/ 275. د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص101. الدينوري: الأخبار الطوال ص357. الثؤلول: بثر صغير صلب مستدير بقدر الحمصة أو أصغر منها يشبه الخراريج يظهر في الجسم. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 314، وابن ظافر الأزدي: أخبار الدول المنقطعة 2/ 275.  البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 133. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 133، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 315. الدينوري: الأخبار الطوال ص360.  البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 132، والدينوري: الأخبار الطوال ص361، وابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 221. أغتام: جمع غتمي، وهو الذي لا يفصح شيئا. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص290. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص290 - 293. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص281 - 283. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 309، 313. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص284، 285. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص285، والطبري: تاريخ الطبري 7/ 366.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 15, 2016 15:15

December 14, 2016

بطولات الإخوان في مصر وفلسطين

لا نزال مع كتاب "التنظيم الخاص حقيقته ودوره في دعوة الإخوان المسلمين" لمؤرخه والقيادي فيه محمود الصباغ، ضمن سلسلة "مكتبة الثائر المصري" التي نقدم فيها خلاصات كتب مفيدة من علم الاجتماع السياسي والتجارب الثورية وغيرها، وهذا هو الجزء الرابع بعد الأجزاء: الأول، الثاني، الثالث.
نستكمل خلاصات الكتاب على لسان المؤلف:
35. من أكبر عمليات النظام الخاص: نسف سكة حديد تغذي المعسكر البريطاني في منطقة القرين بالشرقية، إذ استطاع عشرة من شباب الجامعة تنفيذ عملية نسف الخط، ثم تجهيز كمين للمهندسين الإنجليز الذين سيأتون لإصلاحه، وقد فعلوها بنجاح وأوقعوا بهم خسائر كبيرة، ثم استمر ثلاثة منهم في أماكنهم ولم ينسحبوا طبقا للتعليمات لما شعروا به من شهوة النصر فهاجموا القوات البريطانية التي أتت كمدد جديد وأوقعوا بها خسائر كبيرة، فتكاثر مدد الجنود الإنجليز وانضم لشباب الإخوان شباب من القرى، وتعاونت نقطة الشرطة ففتحت الجسر الموصل للبلدة لعرقلة الأمداد البريطانية، وانتهى الأمر بالانسحاب مع كثافة المدد الإنجليزي واستشهد ثلاثة من شباب النظام الخاص في الجامعة وأُسِر آخرون. لكن هذه المعركة كانت حديث الصحافة البريطانية التي صارت تتحدث عن "قوات التحرير المصرية".
36. ومن عمليات النظام الخاص تفجير مخازن البترول التي يسيطر عليها الإنجليز بجبل عتاقة بالسويس، وهي العملية التي نفذها رجل واحد بمفرده واستمرت الانفجارات ليومين لا يستطيع الإنجليز السيطرة عليها، وخرج المنفذ سالما. ومن العمليات: مهاجمة مطار الدفرسوار ومطار كسفريت لتعطيل الطيران الإنجليزي فنجحت الأولى ولم تنجح الثانية، واغتيالات لضباط إنجليز ومحاولات اغتيال قادة كبار، ونسف جسور أنشأها الإنجليز لتأمين خطوط قواتهم، ومهاجمة دوريات إنجليزية وقوافل عسكرية تحمل الجنود بما في ذلك القطار الحربي المحمل بالأسلحة والذخائر، وفي بعض هذه العمليات نشرت صحافة الإنجليز أن مستوى العمليات يؤكد وجود قوات ألمانية ويوغسلافية في صفوف المقاومة المصرية.
37. كانت تقارير النظام الخاص التي ترصد الإنجليز تؤكد أن ما يقومون به من تحصينات يؤكد أنهم لا ينوون الجلاء وأن مفاوضاتهم على الجلاء عبثية، ولولا المقاومة الباسلة لم يخرجوا.
38. المجاهدون "ما إن خرجوا من معركة فلسطين حتى دخلوا سجون إبراهيم عبد الهادي لترسم كرابيج زبانيته على أجسامهم نياشين الصبر والثبات على العقيدة، فخرجوا من سجونهم في أواخر 1951م ليلهبوا ظهور المستعمرين بهذا السيل من عمليات الفداء".
39. أما العمليات التي قام بها النظام الخاص وعُرف فيها الفاعل فمنها: اغتيال النقراشي بعد خيانته العظمى بتمكين الصهاينة في فلسطين وطعن المجاهدين وحلّ الجماعة وشحن السجون بالصالحين. ومنها محاولة اغتيال خلفه وشبيهه في الإجرام والخيانة إبراهيم عبد الهادي.
40. فرَّ أمين الحسيني –مفتي فلسطين- من محاكمات الحلفاء باعتباره كان داعما لهتلر وحضر إلى القاهرة وأعطاه فاروق حق اللجوء إذ كان بينهما تعاون قديم ضد الإنجليز، وسمح له بالعمل لنصرة قضية فلسطين ومنع تسليمها لليهود، فاتصلت العلاقة بينه وبين الإخوان المسلمين لهذا الغرض، وكانت الخطة الأساسية هي تسليح الفلسطينيين ليكونوا قادرين على مواجهة العصابات اليهودية، وليس ثمة حاجة لمتطوعين إلا بحدود بسيطة ولا ينبغي أن تدخل الجيوش العربية لفلسطين بل تظل عند الحدود.
وعلى جهة أخرى أسقط الشعب –والإخوان في طليعته- حكومة إسماعيل صدقي اعتراضا على مشروع صدقي بيفن الذي يُمَكِّن لوضع الاحتلال، وقبلوا بوزارة النقراشي رغم تاريخه السيئ لإعلانه خطة قطع التفاوض مع الإنجليز وعرض القضية على الأمم المتحدة، واستفاد الطرفان من بعضهما، أما الإخوان فقد دعموا الوزارة في مجلس الأمن ضد مناورات الوفد التي حاولت تعطيله، وأما الوزارة فقد سمحت بالعمل في دعم القضية الفلسطينية على كافة المستويات بما فيها جمع وشراء وتخزين ونقل السلاح والتدريب عليه، وأُفرج عن عدد من الإخوان الذين ألقي القبض عليهم أثناء جمع السلاح أو التدرب عليه، وحفظت الحكومة تحقيقات في بعض عمليات النظام الخاص ضد اليهود، وكنتُ مسؤول جمع السلاح الباقي من حرب الحلفاء في الصحراء الغربية وإعادة تهيئته للاستخدام مرة أخرى.
41. نشأت بيني وبين عبد القادر الحسيني –القائد العام للقوات الفلسطينية في 1948- مودة عميقة إثر تعاوننا ولقرب عقلياتنا ومنازلنا، والصورة المشهورة له إنما هي صورة أهدانيها ثم نشرتها بعد استشهاده، وكان حلمه تحرير فلسطين ثم إكمال الجهاد لتحرير بقية البلاد العربية المحتلة.
42. قرر البنا دخول الإخوان لفلسطين، وأبدى عزمه أن يقود المتطوعين من الإخوان بنفسه، لكن القرار كان أن يكون الدخول على دفعات، وأن أكون أنا قائد الدفعة الأولى من المتطوعين الذين بلغوا المائة، وكان فيها الشيخ سيد سابق.
43. كان التعاون قائما بيننا وبين الحكومة وجيشها، لكنني حينما طلبت خرائط فلسطين من قائد المخابرات العسكرية لمنطقة سيناء سلمني نسخة من الخرائط الإنجليزية التي لم تُحدَّث منذ ثلاثين سنة هي عمر الاحتلال الإنجليزي والتي تغير فيها كل شيء تمهيدا لإقامة الدولة اليهودية.
44. نقلت إلى المرشد الوضع، وكان اقتراحي الاقتصار على عمليات فدائية موجعة ضد اليهود طبقا لإمكانياتنا، لكنه كان يأمل في أكثر من هذا، فتقرر أن نضاعف الجهود في جمع السلاح وتحريض الشباب على الجهاد، فاضطررت للعودة إلى القاهرة لهذا العمل وتولى قيادة المتطوعين بدلا مني الشيخ محمد فرغلي.
45. أول معركة خاضها الإخوان كانت ضد مستعمرة دير البلح، ولكنهم لقلة عددهم لم يتمكنوا من احتلالها، وأسفرت عن استشهاد اثنا عشر وجرح خمسة، ولم يستطع اليهود إلا الاستغاثة بالإنجليز الذين حضرت دبابتهم ورفعت الراية البيضاء وأوقفت المعركة، ولكن القائد الإنجليزي لما رأى ما حدث دُهِش وقال: "لقد كنت في فرقة الكوماندوز البريطانية ولم أشهد جرأة كالتي رأيتها الآن، لو كان معي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين"!
وكان من ضمن المتطوعين أب وابنه وابن أخيه، ثلاثة تطوعوا واشتروا سلاحهم على نفقتهم، وجاهدوا. لكم خسرت الأمة بعدم تطبيق الشريعة، إن الناس في ظل القوانين الوضعية يتهربون من التجنيد على الرغم من التكاليف الباهظة التي تنفق على الجيوش، بينما في ظل العقيدة الإسلامية يتدفق الرجال والنساء والأطفال يتسابقون للتطوع والقتال. إن معارك الإخوان لم تشهد فارًّا واحدا ولا متخاذلا واحدا، ولكنه التنافس على المهمات الخطيرة والعمليات الفدائية.
46. لم يقتصر دور الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين على تعطيل الخطة الناجعة بتسليح الفلسطينيين أو بعمليات الفدائيين، بل دخلت وأعلنت الهزيمة وقبلت الهدنة فجعلت من إسرائيل حقيقة واقعة، والأنكى من ذلك أن الجيش المصري كُلِّف باعتقال جميع المجاهدين من الإخوان، وقررت الحكومة حل الجماعة، واغتالت الإمام حسن البنا.
47. رأينا بأنفسنا عددا من المعجزات التي وقعت للمجاهدين، وكيف كان الرصاص يتناثر حولهم لا يصيبهم، بل كيف كان يخترق ملابسهم عند الحواف لكن لا يخترق أجسادهم، هذا فضلا عن الإنجاز المذهل كأن يقوم عشرون رجلا بما عجزت عنه كتيبة كاملة بمساعدة الطيران والمدفعية، وفضلا عن القرارات الاستشهادية التي سحقت قوات العدو.

إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونواصل المقال القادم إن شاء الله.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 14, 2016 10:37

بطولات الإخوان في مصر وفلسطين

لا نزال مع كتاب "التنظيم الخاص حقيقته ودوره في دعوة الإخوان المسلمين" لمؤرخه والقيادي فيه محمود الصباغ، ضمن سلسلة "مكتبة الثائر المصري" التي نقدم فيها خلاصات كتب مفيدة من علم الاجتماع السياسي والتجارب الثورية وغيرها، وهذا هو الجزء الرابع بعد الأجزاء: الأول، الثاني، الثالث.
نستكمل خلاصات الكتاب على لسان المؤلف:
35. من أكبر عمليات النظام الخاص: نسف سكة حديد تغذي المعسكر البريطاني في منطقة القرين بالشرقية، إذ استطاع عشرة من شباب الجامعة تنفيذ عملية نسف الخط، ثم تجهيز كمين للمهندسين الإنجليز الذين سيأتون لإصلاحه، وقد فعلوها بنجاح وأوقعوا بهم خسائر كبيرة، ثم استمر ثلاثة منهم في أماكنهم ولم ينسحبوا طبقا للتعليمات لما شعروا به من شهوة النصر فهاجموا القوات البريطانية التي أتت كمدد جديد وأوقعوا بها خسائر كبيرة، فتكاثر مدد الجنود الإنجليز وانضم لشباب الإخوان شباب من القرى، وتعاونت نقطة الشرطة ففتحت الجسر الموصل للبلدة لعرقلة الأمداد البريطانية، وانتهى الأمر بالانسحاب مع كثافة المدد الإنجليزي واستشهد ثلاثة من شباب النظام الخاص في الجامعة وأُسِر آخرون. لكن هذه المعركة كانت حديث الصحافة البريطانية التي صارت تتحدث عن "قوات التحرير المصرية".
36. ومن عمليات النظام الخاص تفجير مخازن البترول التي يسيطر عليها الإنجليز بجبل عتاقة بالسويس، وهي العملية التي نفذها رجل واحد بمفرده واستمرت الانفجارات ليومين لا يستطيع الإنجليز السيطرة عليها، وخرج المنفذ سالما. ومن العمليات: مهاجمة مطار الدفرسوار ومطار كسفريت لتعطيل الطيران الإنجليزي فنجحت الأولى ولم تنجح الثانية، واغتيالات لضباط إنجليز ومحاولات اغتيال قادة كبار، ونسف جسور أنشأها الإنجليز لتأمين خطوط قواتهم، ومهاجمة دوريات إنجليزية وقوافل عسكرية تحمل الجنود بما في ذلك القطار الحربي المحمل بالأسلحة والذخائر، وفي بعض هذه العمليات نشرت صحافة الإنجليز أن مستوى العمليات يؤكد وجود قوات ألمانية ويوغسلافية في صفوف المقاومة المصرية.
37. كانت تقارير النظام الخاص التي ترصد الإنجليز تؤكد أن ما يقومون به من تحصينات يؤكد أنهم لا ينوون الجلاء وأن مفاوضاتهم على الجلاء عبثية، ولولا المقاومة الباسلة لم يخرجوا.
38. المجاهدون "ما إن خرجوا من معركة فلسطين حتى دخلوا سجون إبراهيم عبد الهادي لترسم كرابيج زبانيته على أجسامهم نياشين الصبر والثبات على العقيدة، فخرجوا من سجونهم في أواخر 1951م ليلهبوا ظهور المستعمرين بهذا السيل من عمليات الفداء".
39. أما العمليات التي قام بها النظام الخاص وعُرف فيها الفاعل فمنها: اغتيال النقراشي بعد خيانته العظمى بتمكين الصهاينة في فلسطين وطعن المجاهدين وحلّ الجماعة وشحن السجون بالصالحين. ومنها محاولة اغتيال خلفه وشبيهه في الإجرام والخيانة إبراهيم عبد الهادي.
40. فرَّ أمين الحسيني –مفتي فلسطين- من محاكمات الحلفاء باعتباره كان داعما لهتلر وحضر إلى القاهرة وأعطاه فاروق حق اللجوء إذ كان بينهما تعاون قديم ضد الإنجليز، وسمح له بالعمل لنصرة قضية فلسطين ومنع تسليمها لليهود، فاتصلت العلاقة بينه وبين الإخوان المسلمين لهذا الغرض، وكانت الخطة الأساسية هي تسليح الفلسطينيين ليكونوا قادرين على مواجهة العصابات اليهودية، وليس ثمة حاجة لمتطوعين إلا بحدود بسيطة ولا ينبغي أن تدخل الجيوش العربية لفلسطين بل تظل عند الحدود.
وعلى جهة أخرى أسقط الشعب –والإخوان في طليعته- حكومة إسماعيل صدقي اعتراضا على مشروع صدقي بيفن الذي يُمَكِّن لوضع الاحتلال، وقبلوا بوزارة النقراشي رغم تاريخه السيئ لإعلانه خطة قطع التفاوض مع الإنجليز وعرض القضية على الأمم المتحدة، واستفاد الطرفان من بعضهما، أما الإخوان فقد دعموا الوزارة في مجلس الأمن ضد مناورات الوفد التي حاولت تعطيله، وأما الوزارة فقد سمحت بالعمل في دعم القضية الفلسطينية على كافة المستويات بما فيها جمع وشراء وتخزين ونقل السلاح والتدريب عليه، وأُفرج عن عدد من الإخوان الذين ألقي القبض عليهم أثناء جمع السلاح أو التدرب عليه، وحفظت الحكومة تحقيقات في بعض عمليات النظام الخاص ضد اليهود، وكنتُ مسؤول جمع السلاح الباقي من حرب الحلفاء في الصحراء الغربية وإعادة تهيئته للاستخدام مرة أخرى.
41. نشأت بيني وبين عبد القادر الحسيني –القائد العام للقوات الفلسطينية في 1948- مودة عميقة إثر تعاوننا ولقرب عقلياتنا ومنازلنا، والصورة المشهورة له إنما هي صورة أهدانيها ثم نشرتها بعد استشهاده، وكان حلمه تحرير فلسطين ثم إكمال الجهاد لتحرير بقية البلاد العربية المحتلة.
42. قرر البنا دخول الإخوان لفلسطين، وأبدى عزمه أن يقود المتطوعين من الإخوان بنفسه، لكن القرار كان أن يكون الدخول على دفعات، وأن أكون أنا قائد الدفعة الأولى من المتطوعين الذين بلغوا المائة، وكان فيها الشيخ سيد سابق.
43. كان التعاون قائما بيننا وبين الحكومة وجيشها، لكنني حينما طلبت خرائط فلسطين من قائد المخابرات العسكرية لمنطقة سيناء سلمني نسخة من الخرائط الإنجليزية التي لم تُحدَّث منذ ثلاثين سنة هي عمر الاحتلال الإنجليزي والتي تغير فيها كل شيء تمهيدا لإقامة الدولة اليهودية.
44. نقلت إلى المرشد الوضع، وكان اقتراحي الاقتصار على عمليات فدائية موجعة ضد اليهود طبقا لإمكانياتنا، لكنه كان يأمل في أكثر من هذا، فتقرر أن نضاعف الجهود في جمع السلاح وتحريض الشباب على الجهاد، فاضطررت للعودة إلى القاهرة لهذا العمل وتولى قيادة المتطوعين بدلا مني الشيخ محمد فرغلي.
45. أول معركة خاضها الإخوان كانت ضد مستعمرة دير البلح، ولكنهم لقلة عددهم لم يتمكنوا من احتلالها، وأسفرت عن استشهاد اثنا عشر وجرح خمسة، ولم يستطع اليهود إلا الاستغاثة بالإنجليز الذين حضرت دبابتهم ورفعت الراية البيضاء وأوقفت المعركة، ولكن القائد الإنجليزي لما رأى ما حدث دُهِش وقال: "لقد كنت في فرقة الكوماندوز البريطانية ولم أشهد جرأة كالتي رأيتها الآن، لو كان معي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين"!
وكان من ضمن المتطوعين أب وابنه وابن أخيه، ثلاثة تطوعوا واشتروا سلاحهم على نفقتهم، وجاهدوا. لكم خسرت الأمة بعدم تطبيق الشريعة، إن الناس في ظل القوانين الوضعية يتهربون من التجنيد على الرغم من التكاليف الباهظة التي تنفق على الجيوش، بينما في ظل العقيدة الإسلامية يتدفق الرجال والنساء والأطفال يتسابقون للتطوع والقتال. إن معارك الإخوان لم تشهد فارًّا واحدا ولا متخاذلا واحدا، ولكنه التنافس على المهمات الخطيرة والعمليات الفدائية.
46. لم يقتصر دور الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين على تعطيل الخطة الناجعة بتسليح الفلسطينيين أو بعمليات الفدائيين، بل دخلت وأعلنت الهزيمة وقبلت الهدنة فجعلت من إسرائيل حقيقة واقعة، والأنكى من ذلك أن الجيش المصري كُلِّف باعتقال جميع المجاهدين من الإخوان، وقررت الحكومة حل الجماعة، واغتالت الإمام حسن البنا.
47. رأينا بأنفسنا عددا من المعجزات التي وقعت للمجاهدين، وكيف كان الرصاص يتناثر حولهم لا يصيبهم، بل كيف كان يخترق ملابسهم عند الحواف لكن لا يخترق أجسادهم، هذا فضلا عن الإنجاز المذهل كأن يقوم عشرون رجلا بما عجزت عنه كتيبة كاملة بمساعدة الطيران والمدفعية، وفضلا عن القرارات الاستشهادية التي سحقت قوات العدو.

إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونواصل المقال القادم إن شاء الله.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 14, 2016 10:37

December 13, 2016

حقوق الحيوان في الإسلام (4) حق الإيواء

اقرأ: حقوق الحيوان في الإسلام (1) حق الحياة حقوق الحيوان في الإسلام (2) حق الرعاية الصحية حقوق الحيوان في الإسلام (3) حق العناية
وهذا من الحقوق العجيبة المثيرة لكوامن الرحمة والشفقة في الناس، وهو مأخوذ من حديث النبي r إذ سأله رجل عن اللُّقَطَةِولهذا فرَّق العلماء بين حالات ثلاث:§       الحيوان الذي يستطيع الاستقلال بنفسه والحفاظ على حياته، لقوته أو سرعته، كالإبل والخيل والظباء والطيور، إذا كانت في الصحراء.§       الحيوان نفسه ولكن إذا كان في المدن والحضر والعمران.§       الحيوان الذي لا يستطيع الاستقلال بنفسه ولا الحفاظ على حياته؛ كالغنم والمعز والدجاج وصغار البقر والإبل والخيل.
وخلاصة أقوال العلماء في هذا الموضوع على الراجح منها، أن الحيوان الذي يستطيع الاستقلال بنفسه إن كان في الصحراء يُحْرَم أخذه وتملُّكه، وأجاز بعضهم لولي الأمر أخذها لكي يحفظها لصاحبها، ويجوز أخذها إن كانت في المدينة والعمران بقصد رعايتها وحفظها لصاحبها، ذلك أن المدينة والعمران تكون فيه الحيوانات أكثر تَعَرُّضًا للأخذ، وأقلَّ في درجة الأمان مع كثرة الناس، فلهذا جاز أخذها وحفظها إنْ كانت في العمران، والذي أخذها مسئول عن حفظها ورعايتها لصاحبها ويضمن ما نقص أو تلف منها.
وأما الحيوانات التي لا تستقل بحياتها ولا تستطيع الحفاظ على نفسها، فيجوز التقاطها من الصحراء أو من العمران، والذي أخذها من الصحراء أمامه ثلاثة حلول: إما أن يحفظها ويرعاها ويُعَرِّف بها المدة المناسبة، فإن لم يظهر صاحبها كان له أن يتملكها، أو أن يبيعها ويُعَرِّف بها ويحتفظ بثمنها مدَّة مناسبة، فإذا ظهر صاحبها أعطى له الثمن، وإلا تملَّك الثمن، والحلُّ الثالث أن يأكله، فإذا ظهر صاحبه دفع له قيمة الحيوان.
فإذا كان أخذها من العمران فليس له أنْ يأكلها، بل يحفظها أو يحفظ ثمنها ويُعَرِّف بها المدَّة المناسبة، فإذا ظهر صاحبها أدَّى له حقَّه، وإلا تملَّكه هووهذه خلاصة نقاش فقهي مطول مبسوط في كتب المذاهب على نحو يبعث العظمة في هذا الفقه الدقيق الذي اتسع ليحفظ حياة الحيوان ويفصِّل في أحكام تحميه من الضياع أو الفقد أو الهلكة.
ومن أعجب ما وجدناه في هذا المبحث ما جاء في حاشية الدسوقي عن وجوب نفقة صاحب الدار على هرَّة أصابها العمى وهي عنده، ولم تقدر لعماها على مغادرة الدار، قال: "ودخل في الدابَّة هرَّة عميت فتجب نفقتها على مَنِ انقطعت عنده؛ حيث لم تقدر على الانصراف، فإن قدرت عليه لم تجب نفقتها"فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.
ومما يتعلق بحق الإيواء ما هو واجب على الدولة، وهو موضوع "الحِمَى":
والحمى يشبه الآن لفظ "المحميات الطبيعية" التي يمنع فيها الرعي والصيد، وقد أنشأتها الدولة الإسلامية لرعاية وإيواء الخيل والإبل المخصصة للجهاد، وماشية الجزية والصدقة والزكاة، وحيوانات ضعفاء وفقراء المسلمين، والحيوانات الضالَّة التي تحفظها الدولة حتى يعثر أصحابها عليهاوأول من أنشأ الحمى هو نبينا r في النقيع –وهي منطقة قريبة من المدينة- لخيل المسلمين ترعى فيهوهذا الأمر موكول إلى الدولة لتحقيق المصلحة العامة، ولا يجوز للأفراد تخصيص مناطق لأنفسهم، ولا حتى للولاة في قول جمهور أهل العلم وذلك لقول النبي r: "لا حِمَى إلا لله ولرسوله"وقد جاء في وصية عمر بن الخطاب لمولاه هُنَيّ الذي استعمله على الحمى قوله: "يا هُني، اضمم جناحك عن المسلمينوهذا دليل على أن الحمى وُضِع للضرورة، ومن أقوال العلماء في شروطه أن يختار بحيث "لا يستضر به من سواه من الناس"نشر في إسلام أون لاين


اللقطة: ما عثر عليه المرء. الوكاء: هو الخيط الذي يُشد فيغلق الإناء أو الوعاء، العفاص: هو الوعاء يكون من جلد أو قماش أو غيره. البخاري (2243)، ومسلم (1722). انظر: في فقه الأحناف السرخسي: المبسوط 11/9 وما بعدها، والكاساني: بدائع الصنائع 6/200، وما بعدها، السيواسي: شرح فتح القدير 6/125، وما بعدها.وفي الفقه المالكي: الاستذكار 7/245، وما بعدها، وابن أبي القاسم: التاج والإكليل 6/78، الذخيرة 9/99، وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل 8/240، وما بعدها، وابن رشد: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل 15/360، وما بعدها.وفي الفقه الشافعي: الشافعي: الأم 2/230، 4/65، 66، والماوردي: الحاوي الكبير 8/4، 8/5، والنووي: المجموع شرح المهذب 15/271، وما بعدها.وفي الفقه الحنبلي: المرداوي: الإنصاف 6/295، وما بعدها، وابن قدامة المقدسي: الشرح الكبير 6/321، وما بعدها، والمغني 6/390، وما بعدها، وابن مفلح: المبدع شرح المقنع 5/203، وما بعدها. الدسوقي: حاشية الدسوقي 2/522. ابن أبي القاسم: التاج والإكليل 6/3، والحطاب الرعيني: مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل 7/604، والنووي: روضة الطالبين 5/292، وابن قدامة المقدسي: المغني 6/185. ابن حبان (4683)، البيهقي (11588)، وصححه شعيب الأرناءوط في التعليق على صحيح ابن حبان. الشرف: موضع من أعمال المدينة، الربذة: قرية بينها وبين المدينة ثلاث مراحل. البخاري (2241). رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، انظر: الصنعاني: سبل السلام 3/83. البخاري (2241). الشافعي: الأم 4/47 وما بعدها. ابن قدامة المقدسي: المغني 6/185. اضمم جناحك عن المسلمين: أي لا تظلمهم، وقيل: هو كناية عن الرحمة والشفقة. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/176. الصُّرَيْمة (ومثلها الغُنَيْمة) تصغير الصِّرْمَةِ: وهي القطيع من الإبل والغنم، من العشرين إلى الثلاثين والأربعين. ابن منظور: لسان العرب 12/334، والمعنى: أدخلهم المرعى. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/176. البخاري (2894). ابن قدامة المقدسي: المغني 6/185.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 13, 2016 11:20

December 8, 2016

السجون وصناعة الجيل المهزوم

ذكرنا في المقال الماضي كيف تحطم الهزيمة الأبطال الكبار، وكيف تتحول الأحلام التي بلغت إسقاط نظام وإقامة نظام لكي تصير مجرد النجاة بالنفس من المطاردة الأمنية أو العودة من المنفى الطويل، ثم كيف قد تنحرف الفكرة لتترك الجهاد والسياسة والسلطان وتعتزل في كهوف التربية والعبادة والكتابة!
(1) آثار عقوبة السجن
المثير في الأمر هنا أن الاحتلال حينما تمكن لم يشرع في معاقبة أصحاب الثورة والمقاومة بالموت الفظيع، بل استبدل بهذا عقوبة السجن والنفي، وهي العقوبات التي أضرَّت بالأبطال وهزمتهم وحرمتهم شرف الموت الأسطوري!
يرفض الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو أن يكون هذا التحول في العقوبة أثرا من آثار الرحمة والإنسانية التي نظَّر لها فلاسفة التنوير، بل هي من وسائل السلطة الحديثة التي تطورت فيها فلسفة العقوبة، وهو يشير إلى أن هذه العقوبات هي على الحقيقة أسوأ من القتل بل ومن القتل بالتعذيب، ذلك أنها تحرم المُعاقَب من البطولة التي ربما تستجلب التعاطف، وتُلْحِقه بالفئات المنحرفة أو المشوهة التي ينبذها المجتمع كالمرضى والمجانين، وهي الفئات التي ينبغي إصلاحها وعلاجها وإعادة تأهيلها لتكون صالحة للحياة. لقد تغيرت فلسفة العقوبة من التسلط على الجسد بالتعذيب الشنيع إلى التسلط على الجسد والنفس والعقل بالتحكم والسيطرةكان فوكو أول من استطاع أن يكتب هذا في وصف متماسك، إلا أن النتائج الفعلية لهذه العقوبة مرصودة من قبل فوكو ومن بعده، وقد كثرت الدراسات التي تناولت آثار السجن على المحكوم عليهم، بل وصدر هذا في روايات وأعمال مسرحية وسينمائية، وهي آثار لا تقارن بآثار القتل، ربما يمكن تلخيصها في عبارة جورج أورويل التي ذكرها في روايته الأشهر (1984) إذ يقول على لسان المحقق:
"إننا لا نكترث للجرائم الحمقاء التي اقترفتها، فالحزب لا يهمه ما تأتيه من أفعال مكشوفة، إنما يهمه أكثر ما يدور في رأسك من أفكار. نحن لا نحطم أعدائنا فحسب، وإنما نغير ما بأنفسهم... محاكم التفتيش فشلت فشلا ذريعا، لقد أنشئت تلك المحاكم لاستئصال شأفة الهرطقة، لكنها على العكس كرست وجودها، ففي مقابل كل هرطوقي يُحرق بعد شدّه على الخازوق كان يظهر الآلاف غيره... محاكم التفتيش كانت تقتل أعداءها جهارا نهارا وتجهز عليهم قبل أن يتوبوا، وفي الواقع لقد كانوا يحرقون لأنهم لم يُظهروا ندامتهم أو يعلنوا توبتهم، ومن ثم كان الناس يُحرقون لأنهم يرفضون التخلي عن معتقداتهم الصحيحة، وبالطبع كان المجد كله يؤول إلى الضحية، بينما يبقى كل الحزي من نصيب المحقق... إننا لا نحطم الضال الذي خرج علينا عندما يقاومنا، بل إننا لا نقدم أبدا على تدميره طالما أنه يقاومنا، وإنما نسعى لأن نغيِّره ونقبض على عقله الباطن فنصوغه في قالب جديد"(2) مشهد في تاريخ الإخوان
عند نهاية الخمسينات كان الفتيان من الإخوان المسلمين قد بلغوا مرحلة الشباب، لم يكن النظام الناصري قد فطن لهم واعتقلهم فيمن اعتقلهم مطلع الخمسينات، والآن صار هؤلاء شبابا يرون ما يحدث في بلدهم، ويريدون إعادة إحياء تنظيم الإخوان المسلمين من جديد.
ينبغي أن نُذَكِّر بأن المحنة الناصرية (1954م) والتي قضت على تنظيم الإخوان الضخم لم يُعدم فيها سوى ستة أشخاص فحسب، بينما نزل بالباقين عذاب السجون، صحيحٌ أن بعضهم مات من التعذيب ولكن هذه الأعداد هي من نوعية الخسائر غير المقصودة الناتجة عن أن التعذيب والمُعذِّبين لم يكونوا محترفين كما ينبغي.
انطلق شباب الإخوان يبحثون عن القيادات القديمة التي خرجت من السجون عام 1956 ليعيدوا تحت قيادتها العمل من جديد، يقول أحمد عبد المجيد وهو واحد من أولئك الشباب "لم يستجب أو يتحمس أحد من المسؤولين القدامى للعمل، بل عدَّ ذلك جنونا أو تهورا لمن يفكر فيه، بل أخذوا في مطاردتنا ومحاربتنا وتحذير الإخوان منا في كل مكان... كنا نرجع دائما بخفيّ حنين، وكنا نأمل دائما أننا سنجد مبتغانا، ولعلنا مع تكرار الزيارات وفتح الموضوعات المختلفة نصل لشيء، وكنا نحاول كما يقول الشاعر: حرِّك لعلك توقظ النواما، وأخيرا: وصلنا إلى طريق مسدود مع الإخوان الكبار والمشاهير"، ووصل الأمر بين الطرفين إلى حد ملتهب حتى خاف أولئك الشباب من وصول أخبارهم إلى أجهزة الأمن في تلك الأجواء الرهيبة، ولم يفصل في هذا الاشتباك سوى المرشد حسن الهضيبي الذي نهى من أحجموا عن الكلام في شأن من أقدموا، ونقل عنه أحمد عبد المجيد قوله لأحدهم: "إنتو خايفين من إيه ، وجماعة إيه اللي انتو خايفين عليها، ما انتو موتوها طول العشر سنين ، هوه انتو فاكرين اللي قدمتموه هو ده كل شيء"وليس هذا بالمشهد الجديد، وقد نقلنا في مقال سابق على صفحات المعهد المصري، فصلا من تأسيس حماس، من مذكرات عدنان مسودي، وما أشبه هذا بذاك. لكن الجديد الآن أن واحدا من أولئك الذين رفضوا هذا العرض قدَّم تفسيره لهذا الرفض، ذلك هو الأستاذ محمود عبد الحليم صاحب أول كتاب واسع في تاريخ الإخوان "أحداث صنعت التاريخ"، وكان كتابه هذا هو المعتمد والرواية شبه الرسمية للجماعة حتى أواسط العقد الأول من الألفية وصدور مجلدات "أوراق من تاريخ الإخوان".
لقد سرد الرجل مبررات رفضه واعتزاله هذا العمل، وكان مما قال لهم: "إن الذي بين حنايا ضلوعكم من ألم ولوعة وحزن هو بعض ما عندي. لأنكم غاضبون وليس في أيديكم قيود ولا في أرجلكم أصفاد؛ بدليل أنكم جئتموني وتتحركون كما تشاءون. أما أنا وأمثالي فنحس ما تحسون، ولكن الأغلال جُعلت في أيدينا وأرجلنا، وإذا كنتم لا ترون السور المضروب من حولنا فإننا نراه محيطا بنا، والسجانون يلاحقوننا في كل مكان وفي كل وقت. وكانوا في السجن الحربي بملبسهم العسكري ظاهرين ولكنهم هنا بالملابس العادية غير معروفين.. إننا أسرى معركة، والأسير غير مُطالب بما يُطالب به الجندي الحرب، وقد أعفاه الله وأعفته القوانين لأن أمره لم يعد بيده بل صار بيد آسريه"وأجدني هنا مضطرا للتكرار والتأكيد على أن الواجب في حق هؤلاء هو أن نعذرهم، كيف ومنهم من هو معدود في أئمة التجديد كالشيخ محمد عبده وبديع الزمان النورسي (كما ذكرنا في المقال الماضي)، لا سيما وكاتب هذه السطور لا يضمن لنفسه شيئا إن تعرض لذرة مما تعرضوا له من العذاب، فإنما نكتب في سعة، وعافية الله أوسع لنا.وإنما نكتب هذا ونذكره لنعيد التكرار والتأكيد على أن الهزيمة تحطم الآمال والأحلام، وتؤثر في نفوس الناس مهما كانت كبارا، وأن السلطة الحديثة قد بلغت من التوحش والإجرام أنها لا تسوق الأبطال إلى القتل بل تريد لهم الهزيمة.
(3) رب يوم بكيت فيه فلما صرتُ في غيره بكيت عليه
كان المرء يقرأ قصص التعذيب حتى الموت فيمتلئ حنقا وغضبا على الظالمين المجرمين، كما يمتلئ إعجابا بالأبطال الباسلين، كان زمانا نبكي فيه على أبطال فازوا بالشهادة فجاءنا زمن يُفتن فيه الأبطال في أنفسهم فنسأل الله لهم أن يثبتوا قبل أن يغيروا ويبدلوا من أثر الفتنة.
وكان المرء ينعي على من اعتزلوا وانعزلوا واستسلموا لحكم القوي القاهر وانصرفوا إلى التربية أو العبادة، يتمنى المرء أن لو واصلوا الجهاد والمقاومة، فجاءنا زمان لم يقنع فيه الجيل المهزوم بالاعتزال والانعزال ولم يتفرغ للتربية أو العبادة بل لا يزال متصدرا يقاتل على المناصب ويمنع الثورة أن تتقدم، يسجنها في سجنه، ويحبسها في حبسه، ويأسرها في أسره، يرفع قميص الشرعية الذي انتهكه في كل وقت. هنا يبدو الجيل المهزوم الذي اعتزل أحسن حالا وأقوم سبيلا من جيل مهزوم يمسك بتلابيب الثورة ويمنعها من المضي قدما في طريقها الطبيعي، فصاروا على الحقيقة أقوى عائق في طريقها وأعضل مشكلة من مشكلاتها.
وهنا لعلنا نفهم أمريْن لم يتسنَّ لنا فهمهما في الزمن القديم:
لماذا ينفق النظام المستبد أموالا طائلة لبناء السجون رغم أن الرصاص أقل تكلفة بكثير؟!
ولماذا يحافظ النظام المستبد على من ألفهم من معارضيه، أولئك الذين خرجوا من السجون ولم تخرج السجون منهم؟!
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة: علي مقلد، (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م)، ص58 وما بعدها. (بداية من هذه الصفحة يبدأ في المقارنة بين نوعي العقوبة). جورج أورويا، 1984، ترجمة: أنور الشامي، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص298 وما بعدها. أحمد عبد المجيد، الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965، نسخة إلكترونية، ص32، 33، 48، 49. محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ، ط3 (الإسكندرية: دار الدعوة، 1994م)، 3/457 وما بعدها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 08, 2016 15:11

قصة ظهور الدعوة العباسية

وصلنا في سلسلة المقالات الماضيةخرج أبو مسلم على رأس طائفة من أهل الدعوة إلى الحج (129هـ)، ولما كان في قرية قومس في طريق الحج وصلته رسالة من الإمام إبراهيم يأمره فيها بإعلان الدعوة هذا العام، وبعث مع الرسالة راية النصر، فعاد أبو مسلم إلى خراسان وأناب عنه في الحج قحطبة بن شبيب؛ ليذهب إلى الإمام بما معه من الأموال ومن أخبار خراسانولا بد هنا من الإشادة بهذه القيادة البعيدة عن مسرح الأحداث في خراسان والعراق -لا سيما في هذا الزمن البعيد؛ حيث لم تكن الأخبار تصل إلا بعد حين- ولكنها مطلعة عليه بدقة يدل عليها اختيار هذا التوقيت لإعلان الثورة:
فإذا نظرنا إلى هذا العام وما وقعت فيه من أحداث سنجد الآتي:
الشام: تعيش على قلق مكتوم؛ فهي لم تخلص بعد من آثار ثورة سليمان بن هشام على مروان بن محمد، وما حدث من مقاتل في البيت الأموي وفي القبائل العربية، التي انحازت لكلِّ طرف، وكانت حمص وفلسطين أكثر المدن اضطرابًا.
العراق: الخليفة الأموي مروان بن محمد يطارد الخوارج، وقد بلغت المعارك بينهما ذروتها، ورماهم فيها بخيرة قادته وجنوده، كعامر بن ضبارة، وحشد لهم جيش الشام وجيش العراق.
فارس: يسيطر عليها عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الثائر على بني أمية.
خراسان: تشتعل بالنزاع بين نصر بن سيار والي الأمويين من جهة، وبين الكرماني والحارث بن سريج من جهة أخرى.
الحجاز: يشتعل بثورة أبي حمزة الخارجي.
اليمن: يحكمه عبد الله بن يحيى الحضرمي الملقب بطالب الحق، وهو من الخوارج.
وأما المغرب والأندلس فعلى ما فيهما من الحروب بين القبائل وبعضها، وبين الأمويين والخوارج فإن أحدًا لم يَعُدْ متفرِّغًا أن ينظر في شأنها؛ وهي البعيدة عن قلب الخلافة.
فلا يكاد يوجد عام في عمرِ بني أمية منذ استقراه لعبد الملك بن مروان كان أكثر اضطرابًا من هذا العام!
وكدليل على وجود القيادة في الحميمة كعنصر فاعل رئيسي؛ نجد بعض الروايات تصرح بأن كل التخطيط كان من لدن الإمام إبراهيم، فيما لم يكن دور أبي مسلم الخراساني إلا التنفيذ والموهبة العسكريةوكان مجلس النقباء قد عقد اجتماعًا لينظروا في أمر المكان الملائم لإعلان الثورة فيه، وكان محضر الجلسة على هذا النحو كما نقله صاحب أخبار الدولة العباسية:-       قال سليمان بن كثير: انظروا في الموضع الذي تبتدئون بإظهار أمركم فيه.-       فقال أبو النجم وعدة وافقوه على رأيه: نرى أن يكون أول ظهور أمرنا بخوارزم، فإنها بلاد منقطعة عن نصر، فإلى أن يرسل إلينا عسكره يكون قد تسامع بنا إخواننا فيأتونا ويكثر جمعنا؛ فنقوى على مَنْ يأتينا.-       قال موسى بن كعب ولاهز بن قريظ: مرو الروذ فإنها متوسطة بين مرو وبلخ. -       وقال مالك بن الهيثم والعلاء بن حريث وطلحة بن زريق: فإن بها خلقًا كثيرًا من إخواننا، وبها السلطان قد وهن أمره، وبمن نقاتله يقوينا عليه ويقوى بنا عليه، ومتى يقو بها أمرنا يقو في غيرها.-        فقال أبو مسلم لسليمان بن كثير: ما تقول يا أبا محمد؟-       قال: ما أرى إلا كما قال، فإن قومنا بها أعظم وعدونا أضعف.-       قال أبو مسلم (متوجهًا بالحديث إلى كامل بن المظفر): ما تقول يا أبا صالح؟-       إذا اجْتُثَّ الأصل فلا بقاء للفرع، إذا ظهرتم بغير مرو تفرغ لكم سلطانكم، وساعده عدوه عليكم.-       فقال أبو مسلم: قلتَ الحق يا أبا صالح والرأي أن نظهر بمرو.فأطبقوا على ذلك ورضوا بهوبدأت الترتيبات اللازمة لإخبار الأتباع في كل هذه المناطق بموعد إعلان الدعوة، فأمر أبو مسلم النقباء بالاجتماع بأهل دعوتهم، والإرسال إليهم ليكونوا مجتمعين جميعًا في مواضعهم إلى دخول (المحرم عام 130هـ).
إعلان الدعوة قبل الموعد
لكن المخابرات الأموية رصدت فيما يبدو هذه التحركات؛ حتى وصل إلى علمها ماذا ينوي القوم أن يفعلوا، وأشار أحد المقربين من نصر بن سيار -وهو سلم بن أحوز- عليه أن يُسارع بالخروج إلى القوم وقتالهم؛ قبل أن يتجمعوا في مكان واحد فيستفيد باجتماع جيشه وتفرق جموعهم، وأخذت هذه الفكرة طريقها إلى التنفيذ.
غير أن الخبر تسرَّب إلى الدعوة العباسية، فوصل إلى سليمان بن كثير وكامل بن المظفر، فأشارا على أبي مسلم بضرورة إعلان الدعوة قبل الموعد المحدد لها وإلا فشلت، فسارع أبو مسلم إلى الإرسال لكلِّ أهل الدعوة بالقدوم إلى قرية شنفير؛ حيث المكان الذي اختاروه لإعلان الدعوة؛ وكان مكانًا حصينًا وتابعًا لسليمان بن كثير، فأقبل الناس إليهم، وجاءته الأرسال تباعًا، وكان أول من وصل رجال خزاعة الأقرب منزلًا من هذا المكان، وأقبل أهل الدعوة من كل وجه من نواحي مرو، وتحدَّث الناس باجتماعهم فكثر سوادهم عند أبي مسلمهذه اليقظة وهذا التنبه، ثم هذه الجاهزية والسرعة في اتخاذ القرار أنقذت الدعوة من مصير مجهول، والحقيقة أن افتقاد الكثير من الحركات والدعوات والثورات إلى هذيْن العامليْن هو الذي وضع نهايتها، فكم من دعوة فوجئت بأن السلطة تهاجمها وتفاجئها؛ لأنها لم تكن تملك معلومات من داخل أروقة السلطة! ومن ثَمَّ لم تتوقع تصرُّفها، ففوجئت بها فانتهت على حين غِرَّة.
وفوق هذه السرعة والجاهزية، كان اختيار أهل الدعوة للمكان الذي يُعسكرون فيه ذكيًّا أيضًا؛ إذ كان في ديار القبائل اليمانية، التي تمثل عصب الدعوة من جهة حيث يكثرون فيها، وهي من جهة أخرى على توتر مع نصر بن سيار، وبمثل هذا القرار كانت الدعوة في موضع القوة، وكان نصر بن سيار في موضع الأزمة.
والحقيقة أن المطالع لهذه الفترة يكاد يرثى لحال نصر بن سيار، الذي تداعت عليه الهموم، وانفتحت عليه الجبهات، وصارت أكبر من طاقته، حتى ولو كان من رجال الدهر حزمًا ورأيًا وسياسة كما وصفه المؤرِّخون، وقد جاءت الأخبار إلى نصر بأن تجمع أهل الدعوة قد تم بالفعل، وقد فشلت خطَّة اصطيادهم فرادى، جاءته هذه الأخبار وهو منشغل بمحاربة علي بن جديع الكرماني، "فجمع ثقاته؛ فشاورهم فيما بلغه عن أهل الدعوة، فأجمع رأيهم على أن يبعث إلى قرى خزاعة ومَنْ لجأ إليها من أهل الدعوة فيُبَيِّتَهمفقال لهم سلم بن أحوز (صاحب اقتراح إدراكهم قبل أن يتجمعوا): كان هذا الرأي يوم أشرت عليكم أقوى، ولم يفتكم بعد.
فلما اتسقوا على ذلك قال لهم عقيل بن معقل: إن فعلتم ذلك خالفتكم أحياء اليمن، ورأوا أنكم تريدون هضمهم وإذلالهم بدخولكم عليهم في منازلهم، ولا آمن أن يدعوهم ذلك إلى أن يدخلوا فيما دخل فيه القوم، ويُسَوِّدوا كما سَوَّدوا (أي ينتمون للدعوة العباسية التي شعارها اللون الأسود)، ولكني أرى أن تناظرهم وتبعث إليهم، فإن سَهَّلوا لكم الإقدام عليهم أقدمتم عليهم، وإن منعوكم عملتم على قدر ذلك، وما أهون شوكة هؤلاء إن كفت عنهم اليمن وربيعة.
فبلغناإن الوضع كان يمثل أزمة بلا شك، لكنَّ انفضاض المجلس دون اتخاذ قرار في هذه المعضلة كان الخطأ الأكبر؛ إذ ساهم هذا في استمرار نصر بن سيار في موضع الضعف وفي موقع ردِّ الفعل، وجعل أبا مسلم في موضع الاطمئنان على وضعه، وانتقاله إلى المبادرة والفعل.
ولم يُضِع العباسيون وقتًا، فسارع أبو مسلم فعسكر مع شيعته في منازل اليمانية، وتتابع الناس إليهم من أهل الدعوة ومن غير أهل الدعوة، فأما الأولون فتداعوا لما كان بينهم من اتفاق على الموعد، وأما الآخرون فتتابعوا حميَّةً وأنفة أن يدخل نصر بن سيار إلى ديارهم محاربًا لمَنْ نزل بينهم واحتمى بهم، وهكذا اجتمع الناس حتى لم يكن ممكنًا تأجيلُ إعلان الدعوة في موعدها المحدد في عيد الفطر لعام 129 هـ. وقبل عيد الفطر بخمسة أيام أعلن أبو مسلم أمر الدعوة، ولبس الثياب السوداء شعار الدعوة العباسية هو وأصحابه، وعقد اللواء الذي سموه: «الظل». وذلك -عندهم- لأن الأرض لا تخلو من ظلٍّ أبدًا، وهي كذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر، ونشر الراية التي سموها: «السحاب». وذلك لأن السحاب يطبق على الأرض مثل دعوة بني العباسومن موقعه هذا بعث أبو مسلم إلى أهل الدعوة في الحواضر الخراسانية الأخرى بأن يُعلنوا الدعوة، وبألا يدخلوا في قتال إلا إن هُوجِموا، وقد جاءت الأنباء بما يسر من ظهور الدعوة وقوة أهلها في نسا والطالقان ومرو الروذ وآمل وغيرها، إضافة إلى أنه وبمجرَّد ظهور أهل الدعوة انحاز إليها كثير من العبيد الذين كان انضمامهم إلى الدعوة يعني تحررهم من العبودية كما أعلن العباسيون، وصاروا قوة كبيرة، وظلَّ الأمر هكذا في ازدياد حتى بلغوا عشرة آلاف بحلول المحرم عام 130 هـوهكذا ظهرت الدعوة العباسية إلى العلن، وهكذا انطلقت شرارة الثورة..
وبهذا، صار العباسيون قوة جديدة تضاف إلى الخريطة السياسية في خراسان، وما تلبث أن تحتويها وتهيمن عليها، وهو ما نراه إن شاء الله في المقال القادم.
نشر في ساسة بوست

راجع: اختيار مكان الثورة، وتأسيس الخلايا السرية، ومقاومة الاختراقات، وصورة مختصرة عن التنظيم السري العباسي ، وعوائق في طريق الثورة، ولحظات ما قبل الثورة العباسية، أبو مسلم الخراساني، درس التمهيد للدولة. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 306، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/ 31، ومحمد طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 4/ 386 (قسم الصحيح). البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 122، 123، وابن عساكر: تاريخ دمشق 7/ 204، ود. فتحي أبو سيف: الدولة العباسية والمشرق الإسلامي ص23. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص273 وما بعدها. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص274، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 306، 307. يُبَيِّتَهم: أي يقتلهم ليلاً، وعلى حين غرة. الكلام على لسان صاحب كتاب أخبار الدولة العباسية. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص275. إلَّا أنَّ هذا التأويل لم يعلن بهذه الصراحة «العباسية» بطبيعة الحال، ففي هذا الوقت كان المعلن والمعروف أنها دعوة «هاشمية» للرضا من آل البيت ولا يعرف الناس أنها عباسية، وإنما هذا هو مدلول هذه الأسماء لدى أصحاب الدعوة العباسية. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص275 - 277، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 307. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص277 - 281، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 307.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 08, 2016 11:27

December 7, 2016

حقوق الحيوان في الإسلام (3) حق العناية

اقرأ: حقوق الحيوان في الإسلام (1) حق الحياة حقوق الحيوان في الإسلام (2) حق الرعاية الصحية
ونعني به حق الحيوان في الطعام والشراب والراحة، وهي أمور أوجبها الإسلام على صاحب الحيوان، وتوعد من لم يفعلها بالعذاب في الآخرة، ووردت في هذا نصوص عديدة؛ منها ما أخبر به النبي r قال: "عُذِّبَت امرأة في هِرَّةٍ حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار، قال: فقال: والله أعلم، لا أنتِ أطعمتِها ولا سقيتِها حين حبستيها، ولا أنت أرسلتِها فأكلت من خشاشواستنبط العلماء من الحديث وجوب نفقة الحيوان على مالكهوالهرة مثال على الحيوان الذي يدخل في حكم الإنسان، ولهذا فهذا الحكم ينسحب على ما كان في معناها من الدوابوهذا التشديد في الحيوانات النافعة المملوكة يبدو واضحا في حديث آخر، إذ مرَّ النبي r ببعير "قد لَحِق ظهره ببطنه" من شدة الهزال، فقال r: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة... فاركبوها صالحة وكلوها صالحة"قال المناوي: "يعني: تعهَّدوها بالعلف؛ لتتهيَّأ لما تُريدونه منها، فإن أردتم ركوبها وهي صالحة للركوب قوية على المشي بالراكب فاركبوها، وإلا فلا تُحَمِّلُوها ما لا تطيقه... وإن أردتم أن تنحروها وتأكلوها فكلوها حال كونها سمينة صالحة للأكل، وخصَّ الركوب والأكل لأنهما من أعظم المقاصد"ودليل ذلك أيضا أن النبي r أوصى في حديث آخر بالإبل حال السفر فقال: "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير، وإذا عرَّسْتُم بالليل فاجتنبوا الطريق فإنها مأوى الهوامّ بالليل"ومعنى الحديث أن المسافر إذا كان في زمن الخصب أو في أرض خصبة فعليه أن يبطئ ويراعي أخذ الإبل حقها من الأكل، وإذا كان في زمن الجدب أو في أرض مجدبة فليسرع السير بها كي يجنب إبله مشقة السفر مع قلة المرعىوبهذا جمع الحديث بين الرفق بالبشر، والرفق بالإبل، والرفق بالكائنات البرية، وهذا من جوامع كلمه r.
فإذا لم ينفق صاحب الحيوان عليه بما يصلح شأنه فالجمهور –ومعهم أبو يوسف ومن وافقه من الأحناف- على أن للقاضي إجباره على النفقةوهكذا أبدع الفقهاء في ابتكار الحلول التي تحفظ حق الحيوان في العناية به، وجعلوها –في حال العجز- مسؤولية الدولة، فإن عجزت فهي مسؤولية عموم المسلمين، فإن "هذه المسألة تجري فيها دعوى الحسبة"ومما نجده داخلا في هذه المسألة أن الإسلام قضى بطهارة سُؤر الحيوان، وهو ما بقي في الإناء بعد شرابه منه، ويشمل ذلك: سائر ما يؤكل لحمه، والهرة والبغال والحمير والسباع والطيور الجارحة، واستثني من هذا: الكلب والخنزير فسؤرهما نجس، ويُغسل ما ولغا فيه بالماء والترابومآل هذا الحكم –وهو موضع الشاهد- ألا يتحرج المسلم من إطعام وسقي أي حيوان مر به ولو لم يكن من أملاكه، كما وقع بين كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنها -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أن أبا قتادة t دخل فسكبت له وَضُوءًا فجاءت هرَّة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله r قال: "إنها ليست بِنَجَسٍ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوَّافات"وهذا التوجيه يفتح مسألة العناية بالحيوان غير المملوك، وقد سأل سراقة بن جعشم t النبيَّ في مثل هذا، قال: سألت رسول الله r عن ضالَّة الإبل تغشى حياضي، قد لُطْتُهَافالحال هنا أن الصحابي أصلح البئر في ملكه لكي يسقي إبله، فجاءت إبل تشرب منه ليس واجبًا عليه سقيها إذ ليس هو مالكها، فوجَّهه النبي r إلى الأجر الكائن في سقيها وسقي كل كائن حيٍّ.
وأخبرنا النبي r أن سقي الحيوان المحتاج يغفر الذنوب ويُدخل الجنة، فهو بهذا من عظائم الأعمال عند المسلم، قال r: "بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خَفَّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يارسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبدٍ رطبة أجر"وبهذه الإضافة الأخيرة يكون الأجر عاما في كل حيوان وفي كل نوع إحسان، "فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه -أيضًا- بإطعامه وغيره؛ سواء كان مملوكًا أو مباحًا، وسواء كان مملوكًا له أو لغيره"نشر في إسلام أون لاين

هوام الأرض وحشراتها، وقيل: نبات الأرض. النووي: شرح مسلم 14/240. البخاري (2236)، ومسلم (2242). البخاري (2235). النووي: شرح مسلم 14/241. لم يخالف الأحناف في وجوب الإنفاق على الحيوان ديانة وأن تاركه آثم، ولكنهم خالفوا في اعتبار الحيوان مؤهلا ليكون طرفا في التقاضي، وقالوا: في الإجبار نوع قضاء والقضاء يعتمد المقضي له ويعتمد أهلية الاستحقاق في المقضي له، وما ليس فليس؛ لكنه يؤمر به ديانة فيما بينه وبين الله تعالى، ويكون آثمًا معاقبًا.السيواسي: شرح فتح القدير 4/427، 428. ابن حجر: فتح الباري 6/358. الشوكاني: نيل الأوطار 7/91. الخطيب الشربيني: الإقناع 2/483. أحمد (17662)، وأبو داود (2548)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط. المناوي: فيض القدير 1/164. مسلم (1926). العظيم آبادي: عون المعبود 7/170، 171. النووي: شرح مسلم 13/69. المناوي: شرح الجامع الصغير 1/205. أبو داود (2570)، وصححه الألباني. العظيم آبادي: عون المعبود 7/171. السيواسي: شرح فتح القدير 4/428. الدسوقي: حاشية الدسوقي 2/522. الخطيب الشربيني: مغني المحتاج 3/463، والإقناع 2/482، وزكريا الأنصاري: أسنى المطالب 3/455. عبد الرحمن العاصمي: حاشية الروض المربع 7/147، والبهوتي: كشاف القناع 5/494، والرحيباني: مطالب أولي النهى 5/662، والحجاوي: الإقناع 2/142. الموسوعة الفقهية الكويتية 5/119، 120. سيد سابق: فقه السنة 1/20 وما بعدها. أحمد (22633)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط. ابن منظور: لسان العرب 9/225. معناه: أصلحت حياضي لشرب إبلي. السيوطي: شرح سنن ابن ماجه ص262. كبد حرى: أي كبد ظمآنة، وقيل: أراد به حياة صاحبها؛ لأنه إنما تكون كبده حرَّى إذا كان فيه حياة. السيوطي: شرح سنن ابن ماجه ص262. أحمد (7075)، وابن ماجه (3686)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط. البخاري: كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء (2234)، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244). النووي: شرح مسلم 14/241.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 07, 2016 11:13

الجهاد والاغتيال لدى النظام الخاص للإخوان المسلمين

نحن الآن في الحلقة الثالثة من الكتاب الثالث في "مكتبة الثائر المصري"، وهو كتاب "حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين"، وهنا تجد الحلقتين: الأولى والثانية.
23. لقد كان قرار حل الإخوان المسلمين أمرا صهيونيا، لا سيما بعد الجهاد الباسل الذي قدمه أبناء النظام الخاص في فلسطين، والذي مثل 90% من حجم المتطوعين، والذي كاد يفسد خطة إنشاء إسرائيل لولا أن السياسة العربية تركت الخطة الأصلية (دعم أهل فلسطين بالمال والسلاح) وقررت الدخول بجيوش ضعيفة العدد والعدة والروح المعنوية، وذلك بهدف الهزيمة أمام العصابات الصهيونية لكي تتحول إسرائيل إلى واقع على الأرض.
24. لم يتصور أحد أن المتطوعين يمكنهم تغيير نتائج المعركة، فلما رأت الحكومات عكس هذا شنوا الحرب على المتطوعين فصادورا مخازن أسلحتهم وأمتعتهم ووضعوا العراقيل أمام حركتهم ووصول الإمدادات إليهم. فالأسلحة التي جمعها الإخوان تكفي الجيوش العربية مجتمعة لعشرين سنة تدريبا وقتالا.
25. قتلت حكومة إبراهيم عبد الهادي أحمد شرف الدين المسؤول عن جمع الأسلحة من الصحراء الغربية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وقتلت حكومة عبد الناصر علي الخولي بالتعذيب في السجن الحربي وكان المسؤول عن الورش التي أنشأها النظام الخاص لإصلاح الأسلحة المجموعة من الصحراء الغربية لتكون صالحة للاستعمال في حرب فلسطين.
26. يمكن تقسيم النشاط الجهادي للنظام الخاص إلى قسمين: الجهاد في فلسطين، والأعمال الفدائية (الاغتيالات). وكان ذلك الزمن معروفا بالاغتيالات السياسية، وكان النشاط الوطني ضد الإنجليز شاملا وفاعلا من قبل أن يوجد الإخوان، والفارق بين عمليات الإخوان وغيرهم أن الأولى دافعها ديني في سبيل الله بينما الآخرون دافعهم وطني، وإن كان القانون لا يفرق بينهما ويعتبرها جميعا من الجرائم لأن الحكم موالٍ للاستعمار. والفارق الآخر أن قضية مثل فلسطين لا تهتم لها الحركات الوطنية بينما يهتم لها الإخوان المسلمون، لأن وطنهم هو الوطن الإسلامي.
27. عملية اغتيال القاضي أحمد الخازندار لم تقع بإذن المرشد ولا بقرار قيادة النظام الخاص، وإنما فهم عبد الرحمن السندي –قائد النظام- من عبارات المرشد الساخطة على هذا القاضي أنه يسمح بقتله فبدأ في الإعداد لذلك، وأصل القصة أن الخازندار كان مثالا للقاضي الذي يفكر أي وطني في اغتياله، وفي ذلك الوقت كانت أمامه ثلاث قضايا: رجل اغتصب سبعة أطفال حتى ماتوا في قضية هزت مصر جميعا وكان المنتظر أن يُعدم فلم يحكم عليه إلا بالسجن سبع سنوات، وامرأة عذبت خادمتها بأن أدخلت سيخا من الحديد المحمي في موضع العفة منها فقتلتها فحكم عليها بالسجن لعام واحد، وشباب أدينوا بإلقاء قنابل على الإنجليز فحكم عليها بالسجن عشر سنوات. لقد عرف الخازندار بموالاته للمحتل وقسوته على الوطنيين، ولما نجحت عملية اغتياله عُقِدت محاكمة داخلية للسندي أقرَّت أنه فهم الأمر على سبيل الخطأ ولم يجر شك في صدقه وإخلاصه، وبقي على رأس عمله في قيادة النظام الخاص.
28. والسندي شاب صعيدي من أسيوط، مريض بالقلب منذ الشباب، ضحَّى بتعليمه العالي وبحياته الميسورة ليتفرغ لأعمال الجهاد في سبيل الله، وقد لمست فيه "الصدق في اللقاء والصبر على العناء والبذل بالمال والوقت دون حدود، مع صفاء في النفس ورقة في الشعور والتزام بأحكام الدين". وقد نفذ العملية الأخ محمود زينهم وكان شابا صادق الإيمان رقيق الحس متواضعا مع كونه بطل مصر في المصارعة الحرة لسنوات، والأخ حسن عبد الحافظ وكان شابا من أولاد الذوات ميسور الحال مرموقا ووجيها.
29. وأما اغتيال أحمد ماهر فلم يقم به الإخوان، وإنما قام به محمود العيسوي من الحزب الوطني، ردًّا على إعلان أحمد ماهر الحرب مع الإنجليز ضد ألمانيا، وهو الأمر الذي غضبت له مصر كلها، إلا أن الإخوان درسوا اغتيال أحمد ماهر لو أنه اشترك في الحرب فعلا، ووضعوا خطة لهذا، لكن اغتياله على يد العيسوي أنهى الأمر برمته.
30. لقد زخرت مصر في هذه الفترة بأعمال الاغتيال السياسي، منها ما يقرُّه منهج الإخوان الملتزمين بالشريعة ومنها ما لا يُقرُّه، فمن ذلك اغتيال أمين عثمان واغتيال سليم زكي الحكمدار وإلقاء قنابل في سينما مترو وإلقاء قنابل على الجنود الإنجليز ومحاولة اغتيال حسين سري عامر ومصطفى النحاس، وهذا بخلاف الاغتيالات التي قامت بها السلطة نفسها.
31. قام النظام الخاص للإخوان المسلمين بعدد من العلميات لم يهتد البوليس إلى فاعلها، ومن ذلك ما فعلوه ضمن مقاومتهم لمشروع إسماعيل صدقي الذي ينظم ويهذب وضع الاحتلال الإنجليزي في مصر، والذي عزم على المضي فيه رغم معارضة الشعب بدعم من حزبي الأحرار الدستوريين والسعديين، فشارك الإخوان في "يوم الحريق" الذي انتفض فيه الشعب ضد هذا المشروع، وكانت مشاركة الإخوان واسعة ولكن ضمن ضوابطهم الشرعية، فمما شاركوا فيه إحراق الكتب الإنجليزية في الشوارع، ولما بدا أن صدقي لا يكترث بهذا نفذ النظام الخاص سلسلة من إلقاء القنابل الحارقة على أقسام الشرطة بعد العاشرة ليلا متوخيا أن تكون قنابل حارقة صوتية تثير الرعب ولا يترتب عليها خسائر في الأرواح، ولم تستطع السلطة القبض على أي فاعل مما أثار مزيدا من الرعب والغيظ في صفوفها، ثم خطط النظام الخاص لإلقاء قنبلتين على سيارتي رئيسي حزبي الأحرار الدستوريين (محمد حسين هيكل) والسعديين (النقراشي) –الداعمين لمشروع صدقي بيفن- ونجحت العملية الأولى وأخفقت الثانية لفقدان أثر سيارة النقراشي، وصدر بيان يحذرهما دون أن تعلن جهة ما تبنيها للعملية.
32. ومن أعمال النظام الخاص إعطاب سفينة يهودية مشحونة بالأسلحة وهي في طريقها لفلسطين بتفجير قنبلة فيها وهي في ميناء بورسعيد، ومن أعماله تنفيذ مهمة سرية لشحن الأسلحة والذخائر لسفينة في عرض البحر أمام بورسعيد إلى المجاهدين في فلسطين.
33. ومن أعمال النظام الخاص نسف شركة الإعلانات الشرقية بسيارة ملغومة، وتفجير في محلات شيكوريل وفي شركة أراضي الدلتا، وهذه أهداف اقتصادية يهودية، وكان ذلك تنفيذا لقرار سري من اللجنة العليا لإنقاذ فلسطين قُصِد به إشعار اليهود بأن إقامة إسرائيل يعني خسارتهم للتوغل الاقتصادي الذي حققوه في جميع البلاد العربية.
34. ومن أعمال النظام الخاص نسف مساكن في حارة اليهود بالقاهرة، ولم يتوسع الإخوان فيها حفاظا على الأرواح، وإنما كان الهدف توصيل ذات الرسالة لليهود. ومن أعماله كذلك إلقاء القنابل على الجنود الإنجليز وهم في حال سكرهم وعربدتهم في ليل الاحتفال بعيد الميلاد، وضرب النادي المصري الإنجليزي، وإلقاء القنابل على القطار الإنجليزي الذي يحمل القوات الإنجليزية إلى القاهرة، وتفجير فندق الملك جورج، ومهاجمة دورية مصفحة جنوبي القنطرة أصيب جميع من فيها، وقذف مئات السيارات الإنجليزية من ناقلات الجنود بالقنابل والزجاجات الحارقة بالإسماعيلية، ونسف مخازن الذخيرة التابعة للإنجليز في منطقة أبو سلطان، وتدمير أنابيب المياه وقطع أسلاك الهاتف التي تزود المعسكرات الإنجليزية ثم اصطياد الأطقم التي تصل لإصلاح الأعطال، ونسف القطار البريطاني الذي ينقل الجنود الإنجليز والذي قتل على إثره كثير من جنودهم، وقد تعددت وتكررت حوادث نسف القطارات في تلك المنطقة.

إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونواصل في المقال القادم إن شاء الله
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 07, 2016 01:58

December 1, 2016

عن الجيل المهزوم

ثمة جيل يمكن أن نطلق عليه "جيل الهزيمة"، وذلك حين يعاين الرجل انكسار فكرته وحلمه وأمله انكسارا لا يبدو معه أمل! فحينئذ يعتزل المرء ما كان فيه أول أمره، فإما اعتزل فسكت وخفت نجمه، وإما اعتزله هاربا منه إلى جبهة أخرى يظن أن فيها الدواء وأنها المسلك الأقوم.. والغالب في الأمر أن يكون المتروك هو السياسة والثورة وأن يكون المهروب إليه هو التعليم والتربية والدعوة ونحوه، وأن يكون الزمن زمن هزيمة لممثلي الحق وانتصار لممثلي الطغيان!
(1) مصائر الأبطال في الثورة العرابية
حين فشلت الثورة العرابية تبددت الأحلام العليا للمجد والشرف ونهضة البلاد والرقي بالعباد، وصار همُّ أصحابها التماس النجاة لأنفسهم، كأي مهزوم مُطارَد، فمن نجا منهم من المطاردة نحا سبيلا آخر في الإصلاح، سبيلا يتجنب فيه السلطة الحاكمة، يُقنع نفسه أنه يستطيع من خلال المتاح أن يصل إلى آماله إما في نهاية العمر أو حتى في الجيل التالي.
هذا مثلا الشيخ محمد عبده، سُجِن ثم نُفِي من مصر، وكتب في التشنيع على عرابي وحركته كلاما كثيرا، وقد كان من بين رجال الثورة أول الأمر، ثم أنشأ "مراجعاته" فكتب لأستاذه الأفغاني يقول: "أرى أن نترك السياسة، ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض لا يعرفنا فيه أحد نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء السليمي الفطرة، فنربيهم على منهجنا ونوجه وجوههم إلى مقصدنا، فإذا أتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين لا تمضي بضع سنين آخرى إلا ولدينا مئة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح". لكن الأفغاني الثائر البعيد النظر الشجاع القلب نهر تلميذه في رسالة لاذعة، فقال له: "إنما أنت مثبط نحن قد شرعنا في العمل ولابد من المضي فيه ما دمنا نرى له منفذاً"فاقترق عبده عن شيخه الأفغاني بل ونزل إلى مصر (التي صار يحكمها الإنجليز باسم الخديوي توفيق) ووصل هناك إلى أرفع المراتب، بل ووجد من كرومر حفاوة ظاهرية وصداقة معلنة.. فماذا فعل؟! لم يفعل شيئا، ومات ولم يستطع الإصلاح من خلال التربية والتعليم، وطبعا لم يستطع أن يرى جهادا ولا مجاهدين!
وأما عبد الله النديم خطيب الثورة ولسانها وشاعرها، فقد ظل مطاردًا تسع سنين، تسع سنين لا يأمل فيها إلا حفظ حياته من بعد ما كان أمله قلب النظام الحاكم وإقامة نظام عادل!! ثم قبض عليه بعد هذه التسعة ونُفي خارج مصر، ثم استقر منفاه في الآستانة، ثم كانت غاية أمله أن يعود إلى مصر، لكنه لم يستطع ولم تتحقق له هذه الغاية، فمات في منفاه!
وأما أحمد عرابي،  الرجل الزعيم الذي قاد أحلام الجماهير وصار معقد رجائهم، لما هُزِم وقُضِي عليه ونُفِي عشرين سنة، عاد بعدها شيخا هرما محطما، وأصدر تصريحات سيئة تتحدث عن صداقة الإنجليز وأيد فيها سياستهم ووجودهم بمصروجرى هذا على سائر رجال الثورة فكان أحسنهم حالا من إذا عاد إلى مصر بعد المنفى ظل في بيته ولم يتكلم بالسياسة كمحمود سامي البارودي (رئيس حكومة الثورة قديما، ورب السيف والقلم)، وقد جرى في المنفى نزاعات بين رجال الثورة تبادلوا فيها إلقاء مسؤولية الفشل على بعضهم وتنافروا من بعد ما كانوا على قلب رجل واحد!
وحتى السلطان عبد الحميد الذي انتعشت آماله بالثورة العرابية وسعى في دعمها سرًّا، ما إن بدا له فشلها حتى انقلب عليها ووصم عرابي بالعاصي، بل وحبس وعطَّل الطاقات الثورية الهادرة التي كان بإمكانها أن تواصل العمل أو تحييه في مكان آخر مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم حتى ماتا في "القفص الذهبي" وهو تعبير عن الإقامة الجبرية التي وضعهما فيه، ظاهرها الحفاوة والتكريم وحقيقتها الحبس والاعتقال، فلا هو استفاد من تلك الطاقة ولا هو تركها تعمل وتفيده.. ثم انتهت دولته هو نفسه بانقلاب عسكري علماني(2) بديع الزمان سعيد النورسي
هو ابن الجيل الذي هزمه أتاتورك، وبعد الهزيمة أطلق على نفسه "سعيد الجديد" مقابل "سعيد القديم"، فأما القديم فهو الذي خطب في دمشق وقاتل في القوقاز وأُسِر ونهض يخاطب السلطان بما فيه إنقاذ الأمة من هذا الشر المستطير، وأما ذلك الجديد فهو الذي ترك السياسة والسلطة وهرب منها إلى التعليم والتربية ونشر الرسائل، ومع ذلك لم تتركه السلطة فظل بين سجن ومحاكمة ونفي، ورفض دعم ثورة الشيخ سعيد بيران الكردي ضد مصطفى كمال أتاتورك.
وقد ترك الشيخ النورسي دفاعا عن نفسه في هذا الشأن يخرج هو ودفاع محمد عبده من مشكاة واحدة، لقد ذهب "الثائر" القديم صاحب همّ الأمة وسلطانها وجاء "الداعية" الجديد الذي لا يريد سوى حرية القول والكتابة أو حرية تركه في كهفه العلمي.
وقد سجل بعض ذلك في قسم المكتوبات من رسائل النور، ومنها أقتبس هذه العبارات:
"بينما كنت منعزلا في مغارة أحد الجبال، وقد طلقت السياسة وتجردت عن الدنيا منشغلا بأمور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلما وعدوانا... وعلى الرغم من أن أهل الدنيا أعطوا للمنفيين جميعا وثائق العودة وأخلو سبيل المجرمين من السجون وعفوا عنهم، فقد منعوا الوثيقة عني ظلما وجورا". "إنني تركت دنياهم تركا نهائيا –تبًّ لها- وفي الوقت الذي أعرضت عن سياستهم كليًّا –وتعسا لها- فإن كل ما يساورهم من شكوك وأوهام لا أصل لها إطلاقا... فلو كان لي أقل رغبة في التدخل بسياستهم الدنيوية –التي طرف حبالها بأيدي الأجانب- لكانت تظهر نفسها في ثماني ساعات وليس في ثماني سنوات. علما أنني لم أرغب في قراءة جريدة واحدة ولم أقرأها طوال ثماني سنوات".
"قلتُ: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة، لكي أحافظ على نور القرآن""لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته أدراج الرياح، إذ رأى أن تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وأن التدخل فيها فضول بالنسبة إلي فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وأن أغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال أن يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون أن يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما أن يكون موافقا لسياسة الدولة أو معارضا لها... وإذا دخلتُ ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلا بد أن أتدخل إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة. فإن كان التدخل فكريا فليس هناك حاجة إليّ ايضا، لأن الأمور واضحة جد، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وإن كان التدخل بالقوة، أي بأن أظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثارم والأوزار، حيث يُبْتلى الكثيرون بجريرة شخص واحد.. لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة"وعلى هذه الحال مات سعيد.. مات في ظل السطوة العلمانية الكاملة لأتاتورك، مات وقد اندرس كثير من الإسلام في تركيا، لا يزال بعضه حتى الآن مُسْتَغربٌ يقال فيه: ما شأن الدين بهذا؟! كما مات محمد عبده في ظل السطوة الكاملة للاحتلال الإنجليزي، مات والعلمانية تفرض هيمنتها وأفكارها وروحها على الطبقة العليا في مصر.
إنه ينبغي فهم مواقف الرجال ضمن سياق زمانهم وظروفهم، لفهمهم وفهمها، دون إجحاف بهم وبقدرهم، ودون تقديس لآرائهم منزوعة عن ظروفها، وهم وإن عذرناهم في هذه الأقوال لمراعاة تلك الظروف، فلا شك أن تلك الأقوال في نفسها خاطئة تماما، ودائما ما أتذكر حسرة أستاذنا جلال كشك التي صاغها في عبارة عبقرية، يقول: لماذا انتصرت إسرائيل وهُزِمنا؟ لأن هرتزل إسرائيل ورثه حاييم وايزمان فأكمل ما بدأ وجمال الدين الأفغاني عندنا ورثه محمد عبده فطلق ساس ويسوس!
إنه لم تنتصر الأفكار إلا لما انتصرت بالسياسة، ولو أن العلمانية طلقت السياسة ما رأينا لها هيمنة في بلادنا، بل إن تراث عبده والنورسي وعبد الله النديم وأمثالهم لم تظهر في هذه الدنيا إلا بجهاد من جاهدوا في عالم السياسة، كحسن البنا وجماعته وتلاميذه ونجم الدين أربكان وأنصاره وتلاميذه، ولو أن هؤلاء اتبعوا مشايخهم لاندرس تراث أولئك على الجملة.
وفي المقال القادم إن شاء الله أسوق وقائع ناصعة من داخل أجيال الإخوان المسلمين، في معنى الجيل المهزوم وخطره على الفكرة.
والغرض من هذا كله بوضوح أن نعرف تماما أن هزيمة ثوراتنا الآن تعني نكبة دينية وفكرية أعظم من النكبة السياسية والأخلاقيةإنها الخلاصة التي صاغها شيخنا الأسير البصير حازم أبو إسماعيل حين قال: "لا تسمعوا لمن عايش الظلم طويلا".
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، (القاهرة: مطبعة المنار، 1906م)، 1/416، 417. اقرأ: في ذكرى وفاة الثائر المهزوم، ذيل على دروس الثورة العرابية اقرأ: محنة الشرعية مع الجواد الخاسر سعيد النورسي، رسائل النور: المكتوبات، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، ط3 (القاهرة: سوزلر للنشر، 2001م) 2/56 وما بعدها. المصدر نفسه ص76، 77. اقرأ: هل يسعنا ترك المقاومة، نخبة عصر الاحتلال
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 01, 2016 23:09

November 30, 2016

أبو مسلم الخراساني ودرس التمهيد للدولة

وقفنا في المقال الماضي من قصة أبي مسلم الخراساني عند لحظة توليته قائما بأمر الدعوة في خراسان، مركز الدعوة العباسية والمؤهلة أن تكون أرض انطلاقة الثورة العباسية، وقد كان هذا القرار خطيرا إذ كان نقباء الدعوة في خراسان يريدون رجلا من آل البيت يكون معهم لحظة إعلان الثورة إن لم يكن الإمام إبراهيم نفسه أمير الدعوة، ولكن الإمام رأى أن يرسل إليهم هذا الشاب الصغير الذي كان مولى وعمل في المهن البسيطة وكان خادما لواحد من أتباع هؤلاء النقباء أنفسهم.. ترى كيف سيكون وقع هذا الخبر عليهم؟ وكيف ستجري فصول الثورة العباسية؟
هذا حديث السطور القادمة..
مع رسالة تعيين أبي مسلم قائمًا بأمر الدعوة في خراسان، أرسل معه كذلك أمرًا بتزويجه من ابنة أبي النجم عمران بن إسماعيل؛ وهو أحد النقباء في خراساننزل أبو مسلم الخراساني على أبي النجم عمران بن إسماعيل، ثم اجتمع النقباء في بيت سليمان بن كثير، فوضع لهم أبو مسلم كتاب الإمام إبراهيم أمامهم، فقال سليمان لطلحة بن زريق الذي كان يتولَّى قراءة رسائل الإمام والردَّ عليها بخطِّه: «افضض الخاتم، واقرأ علينا كتاب إمامنا». فلما قرأ طلحة الكتاب غضب سليمان لما فيه، وصاح: «صُلينا بمكروه هذا الأمر، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر حتى قُطِّعَت فيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حَزًّا بالشفار، وسُمِلَت الأعين، وابْتُلِينا بأنواع المَثُلات، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا، فلمَّا تنسمنا روح الحياة، وانفسحت أبصارنا، وأينعت ثمار غراسنا طرأ علينا هذا المجهول، الذي لا يُدرى أية بيضة تَفَلَّقَتْ عن رأسه، ولا من أي عُشِّ درج؟! والله لقد عرفت الدعوة من قبل أن يخلق هذا في بطن أمه. اكتب يا أبا منصور بما تسمع إلى الإمام.
فقال أبو منصور (معترضًا على سليمان): سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، أنا والله أول من سَلَّم لأمر الإمام وسمع وأطاع.
وتكلَّم أبو داود خالد بن إبراهيم وغيره ممن حضر فقالوا لسليمان: يا أبا محمد! إن كنت مؤتمًا بطاعة إمامك فقلده شرائع الدين، واسمع له وأطع فيما وافقك أو خالف هواك.
ومدَّ أبو مسلم يده إلى كتاب إبراهيم ليأخذه، حذفه (أي: رماه) سليمان بن كثير بالدواة فشَجَّه، فسال الدم على وجهه، وقذفه بشير بن كثير أخو سليمان. فقام أبو مسلم عن المجلس وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من إمامكم؟
وافترق القوم عن مجلسهم مختلفين، فكانت النقباء تحب أن تضع من أبهة (أي: كبرياء) سليمان بن كثير، وكان أن يترأس عليهم أجنبي ليس منهم أروح عليهم وأوفق لهم، فاجتمعت الكلمة من الشيعة على ترئيس أبي مسلم، وخذلوا سليمان بن كثير، وأفردوه. واضطر سليمان إلى اتباع إخوانه وأصحابه؛ فسمع وأطاع لأبي مسلم على الكره منه، واستقامت لأبي مسلم طاعة الشيعة بخراسان وانقادوا له.
ثم إن أبا مسلم راجع سليمان بن كثير وأعلمه بما أتاه، وأقرأه ما كتب به إليه، وكان فيما كتب به إليه: إن قبل سليمان بن كثير القيام بأمر الدعوة ونصب نفسه لذلك فسلِّم له، وإن كره قبول القيام فلا تَعْصِيَنَّ لسليمان أمرًا، وقدِّمه في جميع ما تدبرون.
فلمَّا قرأ سليمان ذلك قال: إني والله ما كرهت القيام ألا أكون أضعف الناس فيه نية، ولكني أخاف اختلاف أصحابي، ونحن نداري ما نداري، وأنا يدك وصاحبك الذي لا يخذلك ولا يغشك ما لم تخالفنا، وتعمل ما يوهن أمرنا. قال أبو مسلم: أحسن بي الظن فَلأَنا أطوع لك من يمينكياله من موقف!
أمَّا الإمام إبراهيم فقد فعل غاية ما ظنه نازعًا للخلاف بعرضه الأمر على سليمان بن كثير أو قحطبة، أو أمثالهم من النقباء فلم يرضوا، فأرسل أبا مسلم أميرًا إذا ظل القوم على رفضهم له. وأمَّا أبو مسلم فلا شكَّ أنه دُهِش لهذا الاستقبال من سليمان بن كثير؛ فقد ناله فيه التحقير والإهانة؛ بل الضرب أيضًا. وأما سليمان بن كثير فيبدو أن له عذرًا -أيضًا- فبينما هو ينتظر قرارًا من الإمام بأن يكون واحد من آل البيت في الطريق إليه ليقود الثورة، أو في أقلِّ الأحوال واحد من كبار الدعاة في الكوفة كأبي سلمة الخلال؛ إذا به يجد حامل الرسالة هو الأمير الجديد .. ذلك الشاب الحدث الصغير الذي لم يكمل الثلاثين من عمره، المولى، الذي كان خادمًا منذ سنين بسيطة عند أحد أتباع الدعوة، ثم اشتراه سليمان نفسه؛ لكي يخدم الإمام!! .. لا نستطيع ألا نلتمس العذر في موقف كهذا لسليمان بن كثير!
وعلى أية حال، وكما يحدث كثيرًا في هذه الدنيا، توترت الأحداث في رأس التنظيم الخراساني جراء موقف لا يتحمل أحد بعينه المسئولية عنه .. لكنَّ شخصيات الدعاة كانت من الإخلاص والتجرُّد، وكذلك شخصية سليمان بن كثير، بحيث تجاوزت هذا الموقف «الدنيوي»، الذي يبدو كالصراع على المنصب لحساب الثقة في الإمام، والعمل معًا لصالح الدعوة .. وبمثل هؤلاء تقوم الدعوات!
سياسة أبي مسلم في خراسان
جرى أبو مسلم في خراسان على سياسة الدعوة العباسية؛ التي استقرَّت قواعدها من قبله، وإن كان بوتيرة أسرع وأقوى بطبيعة الحال؛ ذلك أن شخصية أبى مسلم الموهوب والمدهش قد أعطت دفقًا جديدًا لنشاط الدعوة، وأهمُّ ملامح هذه السياسة كالآتي:
1. مع القبائل العربية
أوصى الإمام إبراهيم أبا مسلم بالعمل على كسب مزيد من تأييد القبائل العربية، يذكر أبو مسلم «أمرني الإمام أن أنزل في أهل اليمن وأتألف ربيعة، ولا أدع نصيبي من صالحي مضر، وأحذر أكثرهم من أتباع بني أمية، وأجمع إليَّ العجم وأَخْتَصُّهُم، وإنما الأعمال بخواتيمها، قال الله - عز وجل -: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، ومن أتانا من مضر ودخل في أمرنا وصحح لنا قبلناه وحملناه على رءوسنا، ومن عاندنا استعنا الله عليه، وكان الله حكمًا بيننا وبينه»فسعى أبو مسلم في مد روابط الصلة بقبائل العرب وشيوخها، معتمدًا على اليمانية بشكل أساسي، ثم على الربعية، وحذرًا إلى حدٍّ ما من المضرية، لا سيما ونصر بن سيار والي خراسان من المضريين، وكان طريقه في الوصول إلى الناس هو دعوة شيوخ القبائل وزعمائها.
وهو أسلوب ناجح لا تكاد تخلو منه دعوة، بل ربما لم تنجح من دونه دعوة؛ وقد كان النبي بدأ بدعوة شيوخ قريش، وحرص على ذلك حتى عوتب على شدَّة حرصه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] ثم عوتب على أن عَبَس في وجه أعمى أتاه حين كان يسعى في دعوتهم، وحين ذهب إلى الطائف كان أول مَنْ قصده فيها هم زعماءها، كذلك دخل أهل المدينة في الإسلام بعد إسلام زعمائهم أسيد بن حضير وسعد بن معاذ.
أدرك الدعاة العباسيون بحذق وذكاء أهمِّيَّة القبائل العربية التي يتزعمها شيوخها -وأهمية زعمائها المتنفذين- وقوتها، فخططوا لكسبهم لمصلحة الدعوة، فهذا يعني كسب أتباعهم وعشائرهم بطبيعة الحال، وتذكر روايات البلاذري وأخبار الدولة العباسية والأزدي والطبري أسماء هؤلاء الشيوخ الذين أُعْطوا رتبة قائد الجيش العباسيويذكر ابن الكلبي أسماء بعض العرب الذين ميزوا أنفسهم بما قاموا به من أعمال في سبيل الدعوة العباسية؛ مثل: خفاف بن هبيرة من أشجع الفرسان، وعقبة بن حرب «قائد في الدعوة»، وعلقمة بن حكيم والعلاء بن سالم، والزبير بن محمد الأزدي، انضموا إلى الثورة مع 1000 شخص، وانضم 100 من بني الحارث مع شيخ لهم، كما استولى خازم التميمي على مرو الروذ باسم العباسيين بمساعدة قبيلته تميم (ذي القعدة 129هـ)ولا ينفي هذا أنهم ساروا في الدعوة العامة بين الناس على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية؛ حتى العبيد والموالي، وإنما ينبغي أن تكون خطَّة الدعوة قائمة على الوصول إلى مفاتيح المجتمعات ومفاصل الشعوب، وهم صفوة الناس ونخبتهم وزعماؤهم.
2. مع أهل الدعوة
كأي زعيم موهوب، تعامل أبو مسلم مع أهل الدعوة كما لو كان واحدًا منهم أو أقلهم، وظهر لأهل الدعوة من تواضعه وأخلاقه -مع قلة كلامه وعظيم همته وحدة ذكائه- ما جعلهم يتعلقون به؛ لقد بهرت شخصية أبي مسلم نفوس أتباعه، وملكهم بمواهبه وقوة شخصيته؛ حتى "صار من أعظم الناس منزلًا عند شيعته؛ حتى كانوا يتحالفون به، فلا يحنثون، ويذكرونه، فلا يملون"ومن براعته الإدارية أنه كان يُسارع بمكافأة مَنْ أحسن العمل، لا سيما إن كان قد قام به مبادرة وليس تنفيذًا لأمر؛ فمن هذا مثلًا أنه حين حشد أهل الدعوة تمهيدًا لإعلانها، كان أول من أتاه يلبس السواد -وهو شعار الدولة العباسية- هو حية بن عبد الله المرئي، وقد قام بذلك بمبادرة منه، فقال له أبو مسلم: أنت أول مَنْ أتانا في السواد فلك أول صافية نستصفيهاومن سياسة أبي مسلم مع أهل الدعوة تعظيم شأن السابقين منهم؛ لا سيما سليمان بن كثير، الذي لم يكن يقطع أمرًا مهمًّا دون الرجوع إليه، وكثيرًا ما كان ينزل عن رأيه لصالح رأي سليمان، وإذا حضرت وفود للمصالحة أو المفاوضة أو غير ذلك لم يبرم معهم أمرًا إلَّا أنَّ يحضر سليمان المجلس، ويكون شاهدًا وفاعلًا؛ وعلى الرغم من أن أبا مسلم هو الأمير على خراسان فإن الذي كان يؤمهم في الصلاة هو سليمان بن كثير، وظلَّت سياسة أبي مسلم تقوم على تقديم وتقدير مقام سليمان بن كثير.
3. مع الدعوات الأخرى
وكان من سياسة أبي مسلم -أيضًا- ألا يسمح لوجود حركة أخرى في خراسان غير حركة الدعوة العباسية؛ حتى لو اتفقت معها في شعاراتها ودعوتها، ويبدو هذا طبيعيًّا ومفهومًا في هذا الإطار؛ إذ من شأن تعدد الدعوات في خراسان أن يفترق الناس فيتوزعون بين هذه الرايات والشعارات، كما أن كل دعوة لا بد وأنها ستأخذ من رصيد الدعوة الأخرى، ثم ستحاول كل دعوة أن تثبت بأنها الأحق والأولى والأقدر والأصوب، مع ما يستلزم ذلك من معارك فكرية متبادلة، وكل ذلك يمثل خصمًا من المجهود ومن الطاقة المبذولة للاستكثار من الأنصارِ ومواجهة الأمويين؛ بل ربما كان الوضع أكثر خطورة لو أن قائمًا بأمر دعوة ما كان علويًّا؛ إذ سيخرج الأمر حينئذٍ من أيدي العباسيين إلى أيدي العلويين. لكلِّ هذه الأمور وغيرها مما يمكن أن يُؤَثِّر على مسار الدعوة كان من سياسة أبي مسلم ألا يسمح بحدوث شيء من ذلك.
وقد تبدت هذه السياسة كأوضح ما يكون في حركة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، (الذي تُنسب إليه طائفة الجناحيةوقد يكون من هدف العباسيين في تأييده إتعاب الجيش الأموي، وإشغاله بالحروب في العراق وفارس؛ ليترك المجال للعباسيين بتجميع قواهم، وضبط حركتهم في خراسان، ثم إن العباسيين شجعوا عبد الله بن معاوية ليروا بصورة عملية إمكانات التأييد والنجاح والفشل لثورة تشبه ثورتهم المرتقبةوفي الوقت الذي حارب فيه أبو مسلم وجود دعوات أخرى في خراسان كان حريصًا على احتواء كل حركة دعوية أو إصلاحية، وإدخالها في سياق الدعوة العباسية، وبهذا استفاد من القوى الضاربة للساخطين والثائرين بتوحيدهم، ثم تجنب التفرق والتمزق الذي توجده الزعامات غير القابلة للانضواء تحت راية الدعوة العباسيةولقد نجح أبو مسلم نجاحًا كبيرًا، وأفضت سياسته وإدارته ومواهبه الشخصية إلى إقبال الناس على الدعوة؛ حتى ليبالغ الدينوري فيذكر أنه قد «أجاب جميع أرض خراسان، سهلها وجبلها، وأقصاها وأدناها، وبلغ في ذلك ما لم يبلغه أصحابه من قبله، واستتب له الأمر على محبته»وهكذا استوى أمر الدعوة العباسية، وبقي لها أن تتحول إلى الثورة.. وهو ما نتناوله إن شاء الله في المقالات القادمة.
نشر في ساسة بوست
الطبري: تاريخ الطبري 4/ 309، وابن عساكر: تاريخ دمشق 35/ 412. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص270 وما بعدها، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 309، 310. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص285. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 126، وابن مسكويه: تجارب الأمم 3/ 37. د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص96. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 369، ومحمد طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري 4/ 386، 387 (قسم الصحيح). الدينوري: الأخبار الطوال ص343. أي أول مغنم كبير. مجهول: أخبار الدولة العباسية ص275. سميت «الجناحية» لانتسابها إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو الصحابي الملقب بذي الجناحين لبشارة النبي بعدما استشهد في غزوة مؤتة. إلَّا أنَّ الجناحية فرقة غالية من فرق الشيعة ترى في الأنبياء والأئمة آلهة، ويكفرون بالبعث والحساب. انظر أفكار الجناحية في: الإسفراييني: التبصير في الدين ص126، وعبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ص235 وما بعدها، والأشعري: مقالات الإسلاميين ص6. أبو نعيم الأصبهاني: أخبار أصبهان 2/ 3، وابن عساكر: تاريخ دمشق 33/ 213، وابن حجر: لسان الميزان 3/ 364. البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 113، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 317. ابن عساكر: تاريخ دمشق 33/ 213، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 55، والذهبي: تاريخ الإسلام 8/ 27، والصفدي: الوافي بالوفيات 17/ 337، وابن حجر: لسان الميزان 3/ 364. د. فاروق عمر: الثورة العباسية ص92. د. حسن أحمد محمود: العالم الإسلامي في العصر العباسي ص54، 55. الدينوري: الأخبار الطوال ص343. الطبري: تاريخ الطبري 4/ 311.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 30, 2016 23:06