محمد إلهامي's Blog, page 32

June 21, 2017

المنشاوي.. صوت السماء الخاشع البَكَّاء

أصعب المقالات قاطبة تلك التي تحاول أن تصف فيها شعورا ما، فالمشاعر لا توصف، ولهذا فلكم دار الشعراء والأدباء حول المعاني ولا يزالون ثم لا تزال المعاني تلهم مَن بعدهم أوصافا جديدا.. لذلك فإن الذي يُقدم على وصف مشاعره يدخل في منافسة هائلة مع أرباب البيان والبلاغة وحظه فيها من الفوز حظ ضئيل.
فكيف إذا أراد المرء أن يكتب عن صوت هز القلوب وحركها في طول عالم المسلمين وعرضه، سمعته الآذان من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، فتأثرت به واهتزت له وخشعت معه، صوت يتبارى في تقليده العرب والعجم، ولا تزال تقبل عليه القلوب والأسماع كأن صاحبه لم يمت منذ نحو نصف القرن، وقد جاء نصف القرن هذا بعدد هائل من مشاهير القراء تدفق علينا عبر الفضائيات والإذاعات وشبكة الانترنت.
محمد صديق المنشاوي..
توفي في مثل هذا اليوم (20 يونيو 1969م)، ولست أدري إن كان ثمة من تذكره أم لا في عالم الفضائيات والإذاعات، لكنه وإن لم يتذكره أحد فلا ريب أنه صوته كان يصدح في البيوت والمساجد والهواتف والمجالس والحلقات!
بغير انتقاص من أي قارئ، يظل الشيخ المنشاوي أوسع القراء قبولا فيما أعلم، إنه يقرأ القرآن كأن له فيه طريقة مختلفة وكأن فيه سرا مجهولا.. القرآن في صوت المنشاوي كأنه غضٌّ طريٌّ نَدِيٌّ، فيه تلك الروح التي تفوح من كل شيء حي، يشعر المرء أحيانا أن القرآن يتنزل عليه فلم تزل فيه رائحة السماء وأنفاس الملائكة!
ولست أدري كيف يمكن تقريب هذا المعنى، إن له في القرآن خشوعا عجيبا، صوته يميل إلى الحزن والبكاء، لكنه ليس حُزْنَ مُتَصَنِّعٍ ولا بكاءَ مُتَكَلِّف، إنه خشوع حزين يغمر القلب كالنهر العذب، فيرى المرء في القرآن جمالا لا يشعر به مع غيره.
وللرجل في تلاوة القرآن إحساس عالٍ في الوقف والابتداء، فهو يقرأ آية سورة غافر {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. فإذا به يواصل القراءة بعد {رب العالمين} ويقف عند قوله {هو الحي}، فيظهر للآية معنى جديد: أن الله الذي أنعم علينا بكل هذه النعم، ورزقنا كل هذا الرزق حي لا يموت.. فتسري في النفس طمأنينة قريرة، لا يملك المرء نفسه إلا وهو يقول: الله الله الله!
وفي أول تلك القراءة من سورة غافر بدأ الشيخ تلاوته من قول الرجل الصالح من قوم فرعون {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ...}، فكانت هذه البداية التي أطال فيها وكررها من خير ما ينزع السامع من حياته الدنيا لينتبه لهذا القرآن الذي سيأتيه بما هو أهم من الدنيا، فيحسن استقباله له، فيسمع بعدها قول الله تعالى:
{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
لست أحسب أن السامع المنصت قد يتلقى هذه المعاني العالية بذات الاستعداد لو كانت البداية بغير هذه المفاجأة (ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع).
ولست أطيل في ذكر الشواهد، فإخواننا من الحفظة والمتقنين يعرفون منها الكثير والكثير.. إنما المقصود هو لفت النظر إلى أن هذا الرجل كان يقرأ بقلبه، فيعرف كيف يصوغ المعاني بصوته، فتأخذ طريقها إلى القلوب، ثم تأخذ الدموع طريقها إلى العيون.
وبقدر ما استطاع كثيرون جدا أن يجتهدوا في تقليد صوته من الأطفال والكبار، من العرب والعجم، كما تشهد مقاطع المسابقات القرآنية، بقدر ما عجز أحد أن يبلغ في الإتقان والأثر مبلغه، إن الأمر ليس مجرد الصوت والنغم وإتقان مخارج الحروف وحركات المدّ، صلب الأمر أعمق من هذا.. إن في تلاوة المنشاوي روحا موصولة بالسماء تجعل الآية حية نابضة!
ساقني اليوتيوب قبل أيام إلى واحدة من تلك المسابقات القرآنية على قناة إيرانية، فكرة المسابقة أن يُختار مقطع لقارئ ثم يجتهد المتسابقون لتقليده، وأحسب أن مثل هذا المقطع خير ما يمكن أن أضرب به المثل على ما أقول.
أول ما انتبهت لصوت المنشاوي حين كنت طفلا، كان يصدح صوته من مئذنة المسجد الكبير في قريتنا التي كنت أزورها صيفا، وكانت عادة القرية أن يسبق المؤذن وقت الصلاة بإذاعة شيء من القرآن، فكنت أنتظر هذه اللحظات وأتشوق إليها وأتمنى لو كان المنشاوي –دون غيره- قبل كل صلاة. ومهما كانت رغبة الطفل في اللعب واللهو كان صوت المنشاوي يغلبها فتتوقف لتسمع وتتأمل وتستمع!
بصوت المنشاوي صرت أتشوق لأعرف كيف كان صوت عبد الله بن مسعود الذي قال فيه النبي (من سرَّه أن يسمع القرآن غضا طريا كما نزل فليسمعه من ابن أم عبد)، وكيف كان صوت أسيد بن حضير الذي نزلت الملائكة لتسمعه حتى هاجت فرسه، وكيف كان صوت أبي موسى الأشعري الذي أحب النبي أن يسمع القرآن منه!
ثم كيف هو صوت رسول الله؟!
كيف كان صوت صاحب القرآن الذي نزل عليه القرآن فكان أول من سمعه من جبريل وأول من تلاه في دنيا الناس؟!.. وكيف كان الصحابة يستمعون إليه منه صلى الله عليه وسلم؟!
ثم كيف سيكون نعيم أهل الجنة الذين ورد في نعيمهم أنهم سيسمعون القرآن من الله تبارك وتعالى بنفسه؟!!
يا الله!!! كيف يُمكن تصور هذا النعيم؟ وكيف يمكن أن يغمر المرء مثل هذا الجمال؟! وأي بحار أنوار وأمواج نِعَم وفيضان متعة ستجتمع في تلك اللحظة؟!

اللهم ارحم عبدك محمد صديق المنشاوي، ولا تحرمنا لذة قراءة كتابك وفهمه والعمل بما فيه، ولا تحرمنا نعيم الجنة وما فيها من متعة سماع كتابك منك يا ودود يا كريم يا رحيم.
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 21, 2017 02:32

June 18, 2017

ملامح الدولة المصرية كما في سورة يوسف

ما يلفت النظر في سورة يوسف هو قِدَم وعراقة نظام الدولة في #مصر.. وقصة يوسف هي أقدم ما يُروى في القرآن عن الأحوال في مصر.
الأمور معقدة ولها نظام وترتيب..
مثلا:
1. وجود السجن نفسه.. المجتمعات البسيطة تتعامل بالقتل مباشرة، بالقطع، بالنفي.. هذه العقوبات التي لا تحتاج مجهودا ولا وقتا ولا بناء ولا حراسة ولا إشراف على إطعام أو سقي المساجين!
وجود السجن نفسه دليل على وجود كل هذا..
وهو دليل على قوة الدولة التي تعاقب بالسجن، لأن العقوبة بالسجن تعني أن الدولة تأمن على نفسها من انتقام المسجون إذا أُطلق، وتأمن من وجود عصبة أو قوة ستسعى إلى تهريبه أو تسعى إلى مهاجمة السجن أو هدمه.. الدولة قادرة على الحكم بالحبس، وعلى إنفاذ الحبس، ومكان الحبس معروف للجميع.. والجميع يعرف ويستسلم، أو يعرف ويعجز.
2. وجود (نظام) قضائي.. وفكرة النظام لا علاقة لها بالعدل أو الظلم.. النظام هو القدرة على إدارة الأمر.
فمثلا هناك فترة بين الاتهام والعقوبة.. فامرأة العزيز اتهمت يوسف، وثبت في دائرة ضيقة أنه بريئ، لكن الخبر تسرب من القصر إلى نساء الأثرياء فتهامسن به، هنا تعرضت سمعة الدولة للخطر، ففتحت قضية في هذا الموضوع.
هناك فترة بين الاتهام وبين العقوبة.. هي الفترة التي جاءت فيها امرأة العزيز بالنساء وأخرجت عليهن يوسف.. وقالت بوضوح (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين).. تفهم من هذه العبارة أنه حر ما زال في بيت سيده، وأن القضية في فترة التحقيق، ولم تصدر العقوبة بعد.. كما تفهم منها طبعا أنها تملك التدخل في نتيجة القضاء.
(قضاء شامخ من زمان :) )
وهذا النظام القضائي يظهر كذلك في قصة يوسف مع صاحبيه في السجن..
فأحدهما مسجون في تهمة بسيطة، وسيخرج بعد فترة، وسيعود للعمل في فريق شرب الخمر لسيده.. والآخر مسجون في تهمة خطيرة وسيصدر الحكم عليه بالصلب والترك في العراء حتى تأكل الطير من جثته.. فهو الآن في فترة حبس احتياطية حتى يصدر الحكم.
فنفهم من هذا أن من المتهمين من كان يُحبس حتى يصدر عليه الحكم، سواء بالبراءة أو بالقتل.
قيمة هذا الكلام أنه موجود منذ آلاف السنين..
وطبعا هذا النظام القضائي مرهون برغبة الملوك.. فكما دخل يوسف السجن في تهمة ظالمة برغبة الكبار.. خرج منها في لحظة برغبة الملك.. (قضاء مستقل وشامخ :) طبعا)
3. وجود (نظام) إداري في مصر
وهذا النظام الإداري يظهر في العديد من المواقف، فمنها مثلا:
أ- أن أصحاب البضائع لا يسلمون بضائعهم فيتسلمون المقابل لها هكذا بتبادل مباشر.. لا، بل يسلمونها في مكان.. ويستلمون مقابلها في مكان آخر، ويتسلمونها مغلقة، ومن قوة نظام الدولة فإن الثقة متوفرة في هذه البضائع المستلمة منها.. والفترة التي بين التسليم والتسلم لا يعرفون فيها شيئا ولا يراقبون فيها شيئا.
ذلك ما حدث مع إخوة يوسف.. جاءوا ببضاعتهم فأخذت منهم، ثم أخذوا مقابلها مغلقة.. ولم يكتشفوا أن بضاعتهم ردت إليهم إلا حين عادوا إلى الشام.. ظلت البضائع التي تسلموها مغلقة مأمونة محفوظة حتى فتحوها في بلادهم.. هناك ثقة بما قد خُتِم بختم الدولة.
كان يوسف يملك أن يقول لفتيانه (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) فيضعها الفتيان دون أن يكون لأحدهم أن يكتشف هذا.
ب. ويظهر كذلك في اقتراح يوسف لحل مشكلة المجاعة.. فالدولة التي تستطيع الحفاظ على تخزين الحبوب والغلال، وعلى إبقاء بعضها إلى سبعة أعوام هي دولة ذات نظام قوي.. وذلك في أزمنة قديمة ليست فيها القدرة الحالية التي تمتلكها الدول من أنظمة وأساليب المراقبة والمتابعة.
جـ. ويظهر في قوله (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).. إن مهمة إدارة الخزانة المصرية مهمة كبرى تحتاج إلى كفاءة وموهبة وعلم (عليم) فوق حاجتها إلى الأمانة (حفيظ).
د. ويظهر أيضا في قول يعقوب (لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة).. فالغرض الواحد (الاستبضاع) عند الوزراة المقصودة (وزارة المالية، أو التموين) يُفتح له أكثر من باب، ويدخل له أقوام من أبواب متفرقة.. ولا يؤثر هذا على النظام، فلا يحدث اضطراب أو ارتباك.. بل يقضي المرء مهمته سواء دخل هو وجماعته من باب واحد معا أو دخل كل واحد منهم من باب غير الآخر.
هناك أمور أخرى خطرت لي أثناء القراءة لكن تاهت مني لما لم أسجلها.. لكن فيما مضى مفهوم وبيان للقصد.
والدرس العملي الذي نستفيده من هذا أن أي إصلاح (خصوصا في مصر) لا يمكن أن يكون دون (السيطرة) على هذه (الدولة).. هذه الدولة العريقة الموغلة في القدم والتي صبغت حياة الناس فيها بحيث لم تعد في البلاد عصبيات يمكنها مواجهة السلطة كما هو الحال في عموم البلاد الأخرى.

نعم، أعرف أني كررت هذا المعنى كثيرا، ولكن لا بأس بتكراره مرة أخرى.. أصلا لا معنى لأي شيء لا يمكن الاستفادة منه عمليا.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 18, 2017 09:36

June 17, 2017

مسألة تيران وصنافير ببساطة


1. إسرائيل لها حق وحرية الملاحة في خليج العقبة منذ 1956.. أي نعم، منذ عهد الرئيس التعيس المهزوم الملعون السفاح جمال عبد الناصر.
2. السبب المباشر لنكبة 67 أن هذا التعيس أغلق مضيق تيران، وطلب مغادرة القوات الدولية التي تحفظ حق الملاحة فيه.. أي أنه هو الذي أعلن الحرب.. وبالرغم من هذا فقد تلقى صفعة تاريخية، وحققت إسرائيل أسرع توسع في التاريخ منذ الفتوحات الإسلامية، وابتلعت أضعاف مساحتها هي (تخيل دولة تبتلع أضعاف مساحتها في ساعات!)
3. بعد قصة السلام مع إسرائيل، صار لإسرائيل حق الملاحة في قناة السويس.. صحيح يتوقع المصريون أن القناة تعمل بإدارة وإشراف مصري، ولكن هذا ليس صحيحا، الواقع أن قناة السويس تعمل كمر دولي ويتولى تأمينها شركات أجنبية بينها شركة إسرائيلية.
(يعني إسرائيل تبحر بمزاجها في خليج العقبة والسويس معا)
إذن.. ما الجديد في نقل تبعية الجزيرتين للسعودية؟!
1. لا جديد بالنسبة لإسرائيل إطلاقا لا في مسألة الملاحة ولا في مسألة الحدود الدولية ولا الممر المائي.. فهي بحكم التاريخ والواقع والنفوذ وحتى القانون الدولي لها (الحق) في الإبحار في الخليج منذ ستين سنة.
2. لا جديد كذلك بالنسبة للسعودية التي لن تفعل شيئا بالجزيرتين، ولو كانت أرادت أن تفعل شيئا لألقت ببعض المال للسيسي وفعلت ما تريد.. والسيسي من جهته لا يمانع، ولدينا طابور طويل من القوانين التي أصدرها لتسمح للأجانب بالتملك في سيناء نفسها.
3. لا جديد أيضا بالنسبة لإسرائيل التي تستطيع بحكم الواقع أن تنشيء ما تشاء من خط تجاري أو قناة مائية بين العقبة وساحل المتوسط.
(لكن بالله عليك اعلموا أن إنشاء إسرائيل لقناة مائية مستحيل.. وأصلا لا توجد دولة تصنع ممرا دوليا في أرضها.. الدول التي فعلت ذلك فعلته وهي تحت النفوذ الأجنبي كما في قناة بنما.. أو فعلته وهي مخدوعة مستباحة كما في قناة السويس وخدعة ديليسبس.. القنوات المائية ضربة في صميم الأمن القومي لأي بلد) (في آخر البوست مقالات عن أخطار وأضرار قناة السويس إذا أحببت أن تتوسع).
4. طبعا مسألة حق السعودية في الجزر هذا تخريف تاريخي أبله، وأحسن تعبير عنه قرأته في بوست على الفيس لا أعرف للأسف صاحبه "رجعت للتاريخ لأسأل عن الجزر هل هي مصرية أم سعودية؟ فلم أجد السعودية!".
وطالما كانت مصر تحكم الحجاز، وتحكم الجانب الشرقي للعقبة حتى عام 1906، حين اشتبك السلطان عبد الحميد الثاني مع الاحتلال الإنجليزي على حدود سيناء في إطار مشروعه لبناء خط السكة الحديد.. وكاد الأمر يتطور إلى حرب حقيقة وتحرك الأسطول الإنجليزي.. حتى تم ترسيم حد سيناء الحالي (الخط الواصل من رفح إلى رأس خليج العقبة)
هذه الحادثة مشهورة باسم أزمة طابة أو أزمة العقبة 1906، وكتب كرومر في مذكراته أنها يمكن أن تكون شرارة ثورة لأن مصطفى كامل وكافة التيار الوطني -عبر صحف اللواء والأمة والظاهر- اتخذوا موقف تسليم سيناء للدولة العثمانية نكاية في الاحتلال الإنجليزي (طبعا ده موقف صادم للذين يظنون أن مصطفى كامل "وطني" بالمعنى العنصري الذي درسناه في المدارس.. لكن يمكنك أن تبحث بنفسك).. مما دفع الإنجليز لإحياء قانون المطبوعات لإغلاق هذه الصحف.
5. وآخر تطور للجزيرتين أن مبارك حولهما إلى محميات طبيعية بحيث لا يسكنهما أحد فيمكن أن يؤذي إسرائيل.. فالجزر عمليا وواقعيا تحت السيادة الإسرائيلية؟
إذن نرجع للسؤال.. ما الجديد؟ لماذا نقل جزيرتين من سيادة اسمية شكلة مصرية إلى سيادة اسمية شكلية سعودية؟لا جديد إلا أن السعودية صارت ضمن فريق حرس الحدود الإسرائيلية، وهذا يساوي دخولها في علاقات مع إسرائيل (وقد تسرب قبل سنة توقيع محمد بن سلمان على الملحق الأمني الخاص بكامب ديفيد في العقبة في زيارة سرية).. وبهذا وحده تفسر حضور إسرائيل في كل المباحثات (لو لم تسمع تسريب مكالمة وزير الخارجية المصري التي يراجع فيها بنود الاتفاقية مع المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية فابحث عنه واسمع).
هذا إذن فتح باب واسع للعلاقات السعودية الإسرائيلية، سيترتب عليها علاقات أمنية وسياسية واقتصادية.. ومن المهم أن نلاحظ أن ظهور القضية كان في لحظة ظهور محمد بن سلمان، والتغير السعودي المفاجئ من جهة السيسي الذي كان مطلع عهد سلمان.
تأمين توريث العرش لابن سلمان هو المتغير الوحيد -فيما أعلم- الذي يفسر السياسة السعودية.. وهو مطلب في جيب الأمريكان، والطريق إلى الأمريكان يمر عبر الإسرائيليين.. وفي الطريق إلى إسرائيل وأمريكا يحدث كل ما نشاهد ونسمع.
-----------مقالات قناة السويس:ماذا تعرف عن أخطار وأضرار قناة السويسhttp://melhamy.blogspot.com/2015/07/b...قناة السويس، وكيف تضحي مصر بنفسها لأجل الأجانبhttp://melhamy.blogspot.com/2015/08/b...ماذا قال المؤرخون الأجانب عن قناة السويسhttp://melhamy.blogspot.com/2015/08/b...فصل من قصتنا مع الشرعية الدوليةhttp://melhamy.blogspot.com/2015/08/b...

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 17, 2017 09:52

June 15, 2017

كيف نعالج الفتور وننشط للعشر الأواخر؟

كيف نعالج الفتور ونجدد النشاط لاغتنام العشر الأواخر؟!
أحسن ما سمعت في هذا الأمر كان كلام شيخنا الكبير الأسير البصير حازم أبو إسماعيل، فقد قال –فك الله أسره ومتعنا به- أن علاج الفتور ليس في مجرد الضغط والمجاهدة، وإنما مفتاح العلاج في رفع درجة الاستعداد القلبي للعبادة، ذلك أن القلب الذي يشعر بالفتور لا يفلح معه كثيرا الضغط عليه بالمزيد من عبادات الجوارح، وإنما يحتاج إلى تدريبات تأهيل.
تدريبات التأهيل هذه تستهدف إيقاظ القلب من مشاغله اليومية المتكررة التي تملك عليه أمره، لا بد أن يأخذ القلب بعض الجرعات التي تنتزعه من حاله هذا إلى حال آخر ليتحول إلى مقبل على العبادة حريص عليها.. كيف ذلك؟
يكون هذا بزيارة المستشفيات، فيها يرى المرء صورة المرضى أصحاب الكرب والألم والمعاناة، فيشهد ما هم فيه من التعب، فيشهد ما هو فيه من النعمة ولذة الصحة والعافية، ويعرف بها حقارة الدنيا ونقصان لذتها، وقرب زوال نعيمها، فالمرض يأتي فجأة، والحوادث تقع فجأة، والحريق يشتعل فجأة.. وما بين لحظة وأخرى تغير حال هؤلاء إلى حال آخر.
ويكون هذا بحضور الجنازات، وحضور لحظة إنزال القبر، ورؤية الأجساد التي كانت تنطلق حية متحركة وقد صارت جثة، يحملونها ويضعونها ويقلبونها فلا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، لا تملك حتى أن تنطق أو تعترض أو تقاوم أو تعبر عن رغبة، قد ذهب عنها كل شيء، وصارت من أهل الآخرة، انقطع بها العمل وهي الآن في أو منازل المساءلة.. بعد لحظات سيبدأ السؤال والحساب، وبعد قليل سيبدأ الجسد الرقيق المنعم المعطر يعانق التراب ويسرح في أرجائه الدود، وما هي إلا أيام وشهور حتى ينتهي كل شيء، وتصير الروح إما في الجنة أو في النار.
ويكون هذا بزيارة اليتامى، والفقراء، والمحتاجين.. المسح على رأس يتيم، وإسعاد محتاج، وتفريج الكربة عن صاحب الضيق.. في سماع شكاوى الناس وحاجاتهم ينبت شعور الحقيقة، الحقيقة بقيمة هذه الدنيا وقلة شأنها، وأنها تقلب من حال إلى حال، ولا يملك المرء إنقاذ نفسه في الدنيا إلا باللجوء إلى الله، ثم لا يملك إنقاذ نفسه في الآخرة إلا إن زهد في الدنيا وعرف قيمتها ومنزلتها، فلم يتعلق بها ولم يحرص عليها، ولم يبع في سبيلها دينه وأخلاقه.
ويكون هذا بالجلوس إلى بعض الصالحين، ففي بيئة الصالحين اختلاف واسع عن بيئة عموم الناس، هناك قوم يحرصون على العبادة ويجتهدون فيها، يسمعون الآية فتسيل دموعهم، يعظمون شأن القرآن وشأن النبي وشأن العمل الصالح، يتسابقون في الخيرات.. في بيئة الصالحين تنافس من نوع آخر، وأساليب حياة أخرى، منهم من فُتِح عليه في باب العلم فهو يتكلم كأن كتاب الله وسنة نبيه محفوظة في صدره تملأ عليه روحه، ومنهم من فُتِح عليه في باب الإنفاق فهو كالريح المرسلة ينفق بغير حساب، ومنهم من فُتِح عليه في باب الصلاة فهو يحب القيام ويطيل الوقوف حتى تحسبه قد انعزل عن الدنيا وخرج منها، ومنهم من فُتِح عليه في قراءة القرآن فهو عاكف عليه كما يعكف الواحد منا على هاتفه المحمول له في قراءته شغف ولهفة ومتعة، وهكذا.. ثم إن الجلوس مع الصالحين مظنة نزول الرحمات والبركات، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن لله تبارك وتعالى ملائكة سَيَّارة (أي: تسير في الأرض) فضلا يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ (أي: أحاط) بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب. قال: فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟! قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا. قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطَّاء إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
والمقصود من إيراد الحديث هو هذه الجملة الأخيرة، أن من جالس الصالحين ولو لحاجة أو غرض شملته الرحمة والمغفرة ببركة جلوسه معهم.
ثم إن كل إنسان يعرف من نفسه ما الذي يؤثر فيه ويحرك نفسه، فمنهم من يؤثر فيه سماع القرآن من شخص بعينه، ومنهم من تحركه خطبة شيخ بعينها، ومنهم من إذا زار أخا له بعينه ذكَّره بالله فيلين قلبه.. وهكذا!
المهم أن الحل الأمثل في إنقاذ القلب وإيقاظه لاغتنام العشر الأواخر لا يكون فحسب بمجرد الضغط بزيادة عبادات الجوارح، بقدر ما يحتاج القلب إلى مثل هذه العبادات التي ترفع من درجة يقظته واستعداده، فيسهل عليه أن يقوه بعبادات الجوارح من صلاة وتلاوة وقرآن وجهاد أيضا!
لا يجب أن يغيب عن البال أبدا أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إنما جاهدوا وفتحو البلاد في العشر الأواخر من رمضان، فلم يكن كل عبادتهم صلاة وصيام وقرآن، بل في هذه العشر الأواخر فُتِحت مكة، وفيها فتحت الأندلس، وفيها تم فتح عمورية، وفيها أوقف زحف المغول في عين جالوت، وفيها فُتِحت بلجراد، وغير ذلك من الفتوحات.

نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 15, 2017 02:11

June 7, 2017

يوم الأحزاب في قطر

قال ابن حزم الأندلسي عن ملوك الطوائف:
"والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه".(رسائل ابن حزم 3/176)
وهذا الذي توقعه ابن حزم حدث بعد موته، ففي زمن انهيار الأندلس نهاية عصر الموحدين، تنصر اثنان من أمرائهم هما أبو عبد الله البياسي أمير إشبيلية، وأخوه أبو زيد عبد الرحمن الموحدي أمير بلنسية، وتحالف ابن عمهما مع أبو العلا إدريس مع فرناندو الثالث ملك قشتالة الذي اشترط عليه أن يبني كنيسة للنصارى في مراكش وأن يتنازل عن عشرة حصون يختارها هو بنفسه وإذا أسلم نصراني يُرَدُّ إلى أهله، وإذا تنصر مسلم فلا سبيل لأحد عليه!
(1) اعترافات ودلائل
لا أدري حين ينشر هذا المقال إلى أي مدى ستكون الأزمة قد بلغت، فإن القوم اجتمعوا اجتماع الأحزاب قديما، يهود في موقع التحريض والتدبير وأعراب في موطن التحشيد والتحزيب، ومنافقون في مقام الشماتة والترقب، حتى قنوات الضرار تقوم بدور الشعراء قديما.
على كل الأحوال، فضَّلت أن أضع في السطور القادمة أمورا لا ينبغي أن ننساها في أي وقت وعند أي مدى ستصل إليه الأزمة.
1. الرئيس الأمريكي ترامب: "في رحلتي الأخيرة للشرق الأوسط أوضحت أنه لا يمكن الاستمرار في تمويل الأيديولوجيات الراديكالية. أشار الزعماء إلى قطر. من الجيد رؤية زيارة السعودية مع الملك وخمسين زعيما آتت بالفعل ثمارها، قالوا إنهم سيتخذون خطا صارما ضد تمويل التطرف، لقد أشاروا جميعا إلى قطر. ربما يكون هذا بداية النهاية لرعب الإرهاب".(حسابه على تويتر، 6 يونيو 2017)
2. وزير الخارجية السعودي عادل الجبير: "طفح الكيل وعلى قطر وقف دعم جماعات مثل حماس والإخوان"(العربية، 6 يونيو 2017)
3. السفير الإسرائيلي السابق في أمريكا مايكل أورين: "خط جديد يُرسم في رمال الشرق الأوسط، لم تعد إسرائيل ضد العرب، وإنما إسرائيل والعرب ضد قطر ممولة الإرهاب". (حسابه على تويتر، 5 يونيو 2017)
4. مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جدة عبد الحميد حكيم: أعتقد أن هناك خطة سياسية تتبناها المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر وخاصة بعد قمة الرياض التي جاءت في أول زيارة لإدارة جديدة في البيت الأبيض إلى المملكة العربية السعودية، لن يكون هناك أي مكان في سياسات هذه الدول للإرهاب أو للجماعات التي تستخدم الدين لتحقيق مصالح سياسية مثل حماس والجهاد. (القناة الثانية الإسرائيلية، 5 يونيو 2017)
(2) مختصر القصة
القصة ببساطة أن محمد بن سلمان يريد تأمين وراثة العرش السعودي وإزاحة محمد بن نايف، فالتقت أغراضه بمحمد بن زايد عدو بن نايف وزعيم الصهاينة العرب، فلم يجد الأخير صعوبة في إقناع الغلام الغر بأن باب الأمريكان المتحكمين في عرش السعودية مغلق من كل الأبواب إلا من جهة إسرائيل!
وإسرائيل لا تفتح الباب مجانا.. فاجتهد الاثنان في دفع الثمن المناسب.
في الطريق إلى إسرائيل جعلت السعودية من نفسها حارسا عربيا جديدا لعرش صهيون ضمن مجموعة الحراس العرب: المصري والأردني والفلسطيني والسوري، فاشترت السعوديتان جزيرتين مصريتين مقابل بعض المال يوضع في جيب السيسي وحاشيته وصارت بهذا من دول الطوق الحارسة لإسرائيل، وذهب محمد بن سلمان سرا إلى الأردن ووقع على الاتفاق الأمني الخاص بكامب ديفيد.
ثم حشدت السعودية الدول العربية في قمة البحر الميت، وكانوا قبلها بسنة واحدة يعجزون عن نصف اجتماع في قمة الرباط، لإعادة تجديد المبادرة العربية للسلام (!) لكن مع تغيير جديد، حيث كانت المبادرة القديمة تشترط على إسرائيل التراجع حتى خط 4 يونيو 1967 مقابل تطبيع عربي كامل، في ذلك الوقت قال شارون أنه يرحب بالتطبيع ولا يرحب بالانسحاب فتعرقل الموضوع وسكت. الآن قبلت المبادرة ما أراده شارون في قبره، تطبيع بلا انسحاب! وعلى هذا ختم المجتمعون في قمة البحر الميت!
في الخلفية كان مشايخ السلطة يعزفون على وتر: "الشيعة أخطر من اليهود"! وما كان ذلك محافظة على السنة –حاشاهم- بل محافظة على إسرائيل التي تتنافس مع إيران على زعامة المنطقة. وبعد قليل سيهتف نفس المشايخ: الإخوان وحماس أخطر من الشيعة واليهود!!
ولكي تكتمل الجهود ويُدفع الثمن اشتعلت في السعودية حرب حقيقية على كافة من يمكن أن يقف أمام هذا التحول، حتى أغلقت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسُجن شيوخ بعضهم غير محسوب على المعارضة (شيوخ المعارضة في السجون والعذاب منذ زمن قديم كما هي عادة الأنظمة العربية)، فضلا عن تمكين وترسيخ الليبراليين من منافذ الإعلام والصحافة والثقافة والتعليم، وفُتِحت البلاد على تغيير ثقافي واجتماعي بقاطرة اقتصادية، تبشر بجنة عرضها من البحر إلى الخليج عام 2030، هذا مع أن الحال يزداد سوءا للمواطنين والعاملين، فلئن قُدِّر جدلا أن تصل السعودية إلى تلك الجنة فستكون قد وصلتها بعد أن انخلعت من الدين على غرار جارتها الإمارات!
ثم جاء القيصر..
لما جاء ترامب، أخذ أموالا طائلة تتعب في حسابها العدادات، واطمأن على مسألة العلاقات مع إسرائيل، وخطب في القادة العرب فلم يذكر تسوية فلسطينية وإنما ذكر حماس كإرهابية، ثم طار إلى إسرائيل يبشرهم بأنه وجد أجواء مختلفة، وأن العرب لا يحملون عداء تجاه إسرائيل وإنما تجاه إيران.. فلو كان ينطق بلسان المتعممين لقال لهم: "تركتهم يقولون: الشيعة أخطر من اليهود"!
(3) قطر كمشكلة
الثمن الذي تريده إسرائيل لا بد يمر على قطر، هناك مكتب حركة حماس، وهناك بعض المشايخ وقادة العمل الإسلامي الذين لا زالوا غير مقتنعين بأن الشيعة أخطر من اليهود، أو هم على الأقل إن اضطروا لمعاداة الشيعة فإنما يفعلونها من واجب الحرص الحقيقي على أهل السنة، وهو حرص لن يدفعهم بحال إلى التطبيع مع إسرائيل أو نسيان الملف الفلسطيني!
ولظروف يعرفها الجميع فإن طبيعة السياسة القطرية تعتمد على القوة الإعلامية وعلى علاقاتها الممتازة مع الإسلاميين، وهؤلاء سيتسببون في صداع حين يأتي وقت تنفيذ الخطة التي لا تزال يمهد لها سرا من سنين، والمتلخصة في طرد الغزاويين إلى سيناء (وهي مهمة السيسي) ومزيد تفريغ الضفة الغربية إلى الأردن (وهي مهمة الأردن التي تنشيء منطقة صناعية على الحدود سيكون أخطر آثارها تفريغ البشر بسحبهم الاقتصادي ثم الاجتماعي).. وفيما يمكن تنفيذ خطة الضفة بهدوء وتمهل، فإن المهمة في غزة تحتاج ضربة قوية واجتياحا واسعا، ومثل هذا لا يتم على الوجه الأمثل في ظل وجود الجزيرة و"المتطرفين الإسلاميين"!
وهنا تظهر قطر كمشكلة.. فإنها إذا فرطت في قوتها الإعلامية وعلاقاتها مع الإسلاميين لم يعد ثمة مبرر لوجودها كدولة فاعلة، فلا بد إذن من أن يوضع هذا في مساومة مع وجودها كدولة.. ولذلك فإن قرارات مقاطعة قطر هي على الحقيقة إعلان حرب إلا خمسة! وربما يتطور هذا إلى إعلان حرب.. أو على الأقل دعم تنفيذ انقلاب في نظام الحكم! وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم بدون ضوء أخضر أمريكي.
لا تزال كل الاحتمالات مفتوحة، وقطر التي لم تتعرض لاختبار بهذا العنف من قبل لا يمكن توقع مدى صمودها ولا مدى ما تستطيع أن تقدمه من تنازلات لفك هذا الحصار، ولا يبدو أمامها باب مفتوح إلا باب إيران وتركيا، إيران بواقع الجغرافيا (وهي قد سارعت بفتح أبوابها منذ اللحظات الأولى) وتركيا بوجود قاعدتها العسكرية ومدى قدرتها على إدارة دور سياسي وعرقلة بعض المخططات.. وهو ما سيؤدي حتما إلى تراجعات قطرية في الملف السوري واليمني. على أنها لو استطاعت الصمود، لكان خروجها من هذه الأزمة رصيدا هائلا يُضاف لقوتها ومكانتها في المنطقة.

باختصار: المعركة ضد قطر الآن هي ذاتها المعركة ضد الإخوان في مصر وضد أردوغان في تركيا وضد حماس في فلسطين. هي إحدى معارك الأمة، بها يتمايز معسكران: أبناء الأمة وأعداؤها، ونتيجة المعركة إما إضافة مهمة وكبرى لرصيد الأمة وإما خسارة فادحة.
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 07, 2017 02:43

May 31, 2017

القرآن يعلمنا كيف ننجز المهمات الكبرى

لعلك لا بد سمعت في الأيام الماضي كثيرا قول الله تعالى (كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات).
قال بعض مشايخنا: وإنما قال الله "أياما معدودات" للتسهيل على عباده، فلعله لو قال "شهرا" لاستصعبها المسلمون، فاختار اللفظ الموحي بالسهولة تيسيرا على عباده وتحفيزا لهم! وعند أهل اللغة أن اختيار جمع المؤنث السالم (معدودات) دليل على القلة. (انتهى)
وإن كنت من أهل قراءة جزء كل يوم فستمرّ بعد أيام على قصة معركة بدر كما رواها القرآن الكريم، وسيذكر القرآن مشهدا لن تراه في كتب السيرة والتاريخ، رغم كونه المشهد الأكثر تأثيرا.. لقد دبَّر الله لالتقاء المسلمين بالمشركين رغم أن المسلمين لم يكونوا يحبون هذا اللقاء، (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، فكيف دبَّر الله هذا؟!
لقد قذف في قلوب الفريقين أن كليهما قادر على النصر، وأن عدوه ليس إلا قلة قليلة، قال ربنا القدير المدبر (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكنَّ الله سلَّم، إن الله عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويُقلِّلكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور). تأمل في أن خيرة المسلمين، أصحاب بدر، لو كانوا قد تصوروا الأمر على حقيقته، وتحققت أعينهم انهيار ميزان القوى لدبَّ فيهم التنازع والاختلاف!
لمثل هذا يقولون: الفلاسفة لا يغيرون التاريخ، لأن أهل القياسات المنطقية الباردة أقرب دائما إلى الإحجام والتردد، إنما يغير التاريخ الأبطال المتحمسون، وأصلا لا يكون البطل بطلا إلا لأنه أقدم في موطن تقول الحسابات المنطقية أن التراجع أولى فيه، فلو أن البطل لا يقدم على الخطر ولا يتقدم إلا وهو يتحقق من النصر لما كان بذلك بطلا!
لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّال
والروح العامة في القرآن الكريم إنما تريد أن تغرس في روح الإنسان أن ما يقوم به في الدنيا هو قليل، وسيجزيه الله عن هذا القليل بالكثير في الآخرة.. (مَثَل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء)، (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل). ثم إن قليل الدنيا زائل على كل حال.. هذه قصة الدنيا كلها في سطر واحد (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح)، وهذه قصة الكافرين في نصف سطر (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).
وقد ذكرنا في مقال سابق أن نفوس البشر تهرب من المشقة، حتى إن الله تعالى لما أنزل الإذن بالجهاد رغبت بعض النفوس أن لو كان الأمر تأجل قليلا، قال تعالى (فلما كُتِب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟ قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا).. فهنا كذلك حفَّز الله عباده المؤمنين وهم في إطار الجهاد الذي سيغيرون به وجه التاريخ بطريق تذكيرهم أن متاع الدنيا هو القليل، وأن الآخرة هي الكثير!
كيف نستفيد من هذا؟
لو أننا نرتوي من كتاب ربنا لتعلمنا منه قبل تعلمنا من كتب التنمية البشرية أن النفس تحتاج إلى المخادعة والمحايلة والمثابرة كي تنجز الأعمال!
تحتاج أن تقنع نفسك ما استطعت بأن المهمة التي أمامها بسيطة وممكنة وليست بالعظيمة المُعجزة، بعض التغيير الطفيف في طريقة العرض تفلح مع النفس، نعم.. النفس تحب أن تُخدع أحيانا! ويحب أصحاب التنمية البشرية أن يستدلوا بما رواه أهل الأدب عن الملك الذي رأى رؤيا فطلب من يُعبِّرها فجاءه فقال له: سيموت أهلك جميعا أمام عينيك، فلم يملك نفسه من الحزن والغضب فقتله! ثم طلب غيره فجاءه فقال له: أبشر يا مولاي، أنت أطول أهلك عمرا، فاستبشر وكافأه.. والمعنى في الحالين واحد!
هكذا: "أياما معدودات"، وليس "شهرا".. والمعنى واحد!
وهكذا: يمكنك أن توصف الواجبات والأعمال التي ينبغي عليك إنجازها بأيسر توصيف وأسهل تعبير، فتنشط النفس لأدائها!
يخبرنا أهل التنمية البشرية كذلك بحيلة الخمس دقائق، يقولون: إذا استصعبت النفس مهمة ما فحايلها بأن تعمل خمس دقائق فقط، فقط خمس دقائق ثم لتفعل ما تشاء. وذلك أن التجربة أثبتت أن النفس إذا بدأت في العمل استمرت فيه، وإنما المشكلة كامنة في "إرادة البدء" هذه!
لو أننا نرتوي من كتاب ربنا وسنة نبينا لتبيَّنَّا مثل هذه الأمور من قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، ومن قوله تعالى في الحديث القدسي "من تقرب إلىَّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، ومن قول نبيه "لا تحقرن من المعروف شيئا"، "فاتقوا النار ولو بشق تمرة"، "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة (كعش عصفور) بنى الله له بيتا في الجنة".
وفي إطار محايلة النفس ومناورتها، جاءت التنمية البشرية بنصائحها: تقسيم المهمة الكبيرة إلى مهمات صغيرة، تقوية الثقة في النفس وإقناعها بالقدرة على الإنجاز، تحفيز النفس ووعدها بالمكافأة إذا أنجزت عملا ما، إقناع النفس بأن تحب ما تعمل... إلخ!
والواقع أيضا أن الشيطان يستدرج الواحد فينا بمثل هذا البطء والتحايل، ولذلك قال ربنا (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان)، فلو قال (لا تتبعوا الشيطان) لكان المعنى واضحا ومفهوما، ولكن لفظ "خطوات" أضاف معنى الخفاء والتسلل والاستدراج!
في رمضان فرصة لمعايشة القرآن.. والقرآن يفتح لك أبوابه بقدر ما اقتربت منه وتدبرت فيه، ولقد استند أجدادنا إلى القرآن فغيروا وجه التاريخ، وأنجزوا المهمات العظمى، ولولا القرآن المغروس في النفوس لما بقي في الأمة من يجاهد، إن مجرد الحسابات المادية وحدها تدفع بالمجاهدين إلى الانتحار، لكن القوم الذين يحملون القرآن في صدورهم، ويرتوون من معانيه يعرفون أنهم على عهد وعلى وعد، وهو عهد ووعد تطيش أمامه كل الحسابات المنطقية الباردة.
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويُقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟! فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم).

(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا).
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 31, 2017 08:21

May 24, 2017

معجزة الفتوحات الإسلامية

يطلق لفظ "الإعجاز التاريخي" في دراسات الإعجاز العلمي فينصرف معناه إلى واحد من هذه المعاني الثلاثة:الأول: أن يأتي في القرآن خبر في التاريخ القديم، ثم تسفر الآثار والنقوش والبحوث العلمية الحديثة عن صحة هذا الخبر الذي كان يستحيل معرفته على بشر مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمثلة عديدة؛ كما في قصص نوح وعاد وثمود وموسى عليهم السلام، لا سيما إن كانت الرواية القرآنية مخالفة لما جاء في التوراة والإنجيل، هذا مع قيام الاستحالة الأصلية لكون محمد [صلى الله عليه وسلم] أخذ علما عنهما.
والثاني: أن يذكر القرآن أمرا لم يقع لحظة نزول الآية مخبرا أنه سيقع، فيكون كما ذكر، فيكون هذا إعجازا تاريخيا بمعنى التنبؤ بالحدث التاريخي، وأشهر الأمثلة في هذا الوعد بعودة الانتصار إلى الروم بعد بضع سنين كما في قوله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]، أو الإخبار باجتماع اليهود قبل يوم القيامة {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] وغير ذلك كثير.
والثالث: أن يقع في تاريخ هذه الأمة من الظواهر والأحداث العظيمة ما لا يكون عادة في تاريخ الأمم، فيثير الدهشة والفخر، وهنا يكون وصف هذه الظاهرة بأنها "إعجاز تاريخي" من قبيل خرقها للعادة التاريخية لا للسنة الكونية الطبيعية.
وموضوع حديثنا في هذه المقالة، والمقالات التي ستليها بإذن الله، ينتمي لهذا المعنى الثالث، وقد اخترنا أن نرصد فيه موضوع "الفتوحات الإسلامية" باعتبارها ظاهرة تاريخية متفردة ومثيرة للدهشة وتخالف عادة الأمم في التوسع والانتشار. وقد اخترنا في هذه الورقة أن نسكت عن الكلام كله، مكتفين بالنقل عن المستشرقين والمؤرخين الغربيين وصفهم لظاهرة الفتوحات الإسلامية، لتكون الدلالة أبلغ، على طريقة (وشهد شاهد من أهلها)، والموضوع التاريخي وإن كان لا يحتاج بذاته النقل عن الغربيين فالحقائق ظاهرة والتاريخ فوق الجميع، إلا أن شهادة غير المسلم في هذا المقام أولى وأحسن أثرا.
الاستثناء التاريخييعد كتاب "دراسة التاريخ" للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبيوقد ابتكر توينبي في هذه الدراسة –ضمن كثير من نظرياته ونظراته العميقة- قاعدة تاريخية تفيد بأن الغزاة يستطيعون تأسيس إمبراطوريات كبرى ويظفرون برضا ومحبة الشعوب المحكومة إن هم كانوا من ذات ثقافتهم أو اعتنقوها دون شوائب دخيلة، فأما إن اعتنقوا ثقافة أخرى أو كانوا ممثلين لحضارة أخرى فإنهم يصيرون مكروهين منبوذين من الشعوب المحكومة مهما طال زمن سيطرتهم ولا بد سيأتي يوم يتدمر سلطانهم على يد هذه الشعوب، يقول: "وفي وسعنا في الواقع أن نقدم على صياغة شيء يماثل قانونا اجتماعيا عاما مداره:
إن الغزاة البرابرة الذين يتبدون أحرارا من شائبة أية ثقافة دخيلة، في وسعهم كفالة مصائرهم. ويختلف الأمر بالنسبة لهؤلاء الذين اصطبغوا خلال مرحلة هجراتهم بصبغة أجنبية أو بنزعة ضالة، فهؤلاء يجب أن يحيدوا عن طريقهم ليطهروا أنفسهم من هذه الصبغة أو تلك النزعة، حتى يقيض لهم اجتناب المصير الآخر: أي الطرد والإبادة"إلا أنه بعدما ضرب الأمثلة على صدق نظريته، سارع ليرصد هذا الاستثناء، فقال: "وثمة استثناء من قاعدتنا يمثله العرب المسلمون الأوائل. إذ كان العرب جماعة من العشائر من خارج المجتمع الهليني، أنجزوا مرتبة سامية من النجاح إبان مرحلة هجراتهم التي صاحبت تحلل ذلك المجتمع. وتمَّ هذا النجاح رغما عن حقيقة قوامها أن العرب قد تشبثوا بمنحاهم الديني الأصيل عِوَضًا عن اعتناقهم المذهب المسيحي المينوفيستي الذي كان يعتنقه رعاياهم في الأقاليم التي انتزعوها من الإمبراطورية الرومانية. بيد أن الدور التاريخي للعرب المسلمين الأوائل، يعتبر دورا استثنائيا تماما... وبالأحرى؛ يعتبر تاريخ الإسلام حالة خاصة، لن تنسخ نتائج بحثنا العامة"يفسر جاك ريسلرأصل الظاهرة
لهذا ينبغي أن ننظر في مسألة الفتوحات باعتبارها فرع من أصل، فالأصل هو الإسلام نفسه، فظاهرة الفتوحات المدهشة هي فرع عن الإنجاز الإسلامي المدهش، وعلى حد ما نعلم فإنه لم يتعرض أحد قط بالبحث في تاريخ الإسلام إلا وأقر بأن ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم كان أمرا مدهشا في مسار التاريخ.
كتب مايكل هارتنفس هذا القول يردده البريطاني رونالد فيكتور بودليويردده كذلك المستشرق الأمريكي –اللبناني الأصل- فيليب حتيوهذا أمر يطول استقصاؤه وهو من حقائق التاريخ التي لا ينكرها أحد كواقع، ولا ينكر عظمتها من له الحد الأدنى من العقل والإنصاف.
فما آثار هذه المعجزة العامة في جانب الفتوحات الإسلامية؟.. ذلك ما نراه بإذن الله في المقال القادم.
نشر في مدونات الجزيرة

أرنولد توينبي (1889 – 1975م)، ولد في لندن، تقلد عدة مناصب منها: أستاذ الدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن، ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية، ويعد رائد مدرسة "التفسير الديني (أو الروحي) للتاريخ"، وصاحب نظرية "التحدي والاستجابة" في تفسير سقوط الأمم ونهوضها، وممن أدانوا فكرة تفوق العنصر الأبيض أو أن الغرب هو أصل الحضارة، وله مواقف مشهودة ضد الصهيونية ودعما للقضية الفلسطينية. أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011). 2/248. السابق 2/248، 249 بتصرف بسيط. جاك ريسلر: باحث فرنسي، عمل أستاذا بمعهد باريس للدراسات الإسلامية، حصل كتابه "الحضارة العربية" على جائزة الأكاديمية الفرنسية بوصفه دراسة أساسية لمعرفة الإسلام. جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط1 (بيروت: منشورات عويدات، 1993م). ص52. مايكل هارت (1932 - ... ) عالم في الفيزياء الفلكية والرياضيات ومؤرخ أمريكي، يعمل في هيئة الفضاء الأمريكية. مايكل هارت، الخالدون مائة أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ترجمة أنيس منصور، ط6 (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1985م)، ص13. ر. ف. بودلي (1890 – 1970م) عسكري بريطاني، وصل إلى رتبة كولونيل، عمل بالعراق والأردن، ثم مستشارا لسلطنة مسقط (1924م)، وكان أول من عبر الربع الخالي، وكشف عن أسراره بين عامي (1930 - 1931م)، ولما ترك الخدمة عاش في صحراء المغرب العربي بين البدو وتأثر بهم وكتب عنهم، ويعد كتابه "الرسول" واحدا من ثمار هذا التأثر. ر. ف. بودلي: الرسول حياة محمد، ترجمة محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ)، ص89. فيليب حِتي (1886 – 1978م): مستشرق أمريكي من أصل لبناني، مؤسس قسم اللغة العربية بجامعة برنستون التي هي عُش الاستشراق وحاضنته الكبرى، وأنشأ مطبعة بالعربية لنشر التراث العربي، وظل رغم تقاعده أستاذا زائرا بهارفارد وبرنستون والأكاديمية الأمريكية للعصور الوسطى. فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص46.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 24, 2017 08:40

May 17, 2017

التشويق إلى القرآن

تفصلنا ساعات عن بدء النفحات الطيبة المباركة، عن أيام رمضان، ذلك الشهر الذي جعله الله انقلابا في نظام المؤمن، فيه ينتبه المرء لحاجات روحه ويجاهد حاجات جسده، فيه يتغير طعم الأيام وتتغير أولويات الحياة، إليه يشتاق المؤمن، ومنه ينفر الذي أصاب قلبه المرض، وهو باب اختبار يرى فيه المرء كم بلغت الدنيا في نفسه، فكلما اشتد وثقل على النفس أمر الصيام والعبادة كلما دقَّ جرس الخطر يخبره أنه قد ابتعد وتاه في أودية الدنيا وأنها تسربت إلى قلبه وتشربتها روحه، وكلما رأى المرء في رمضان منقذا وضرورة واشتاق له وأقبل عليه كلما كان هذا إشارة إلى أن نفسه أقرب إلى الهدى، وأن حاجات الدنيا لم تزل غير مسيطرة على حسه وضميره.
وقد صار رمضان بهذه المكانة لسبب وحيد.. أنه الشهر الذي تشرف بنزول القرآن فيه، فالقرآن هو الذي شرَّف رمضان، فالشرف من القرآن لا من رمضان!
تفكرت في كتابة شيء يثير الأشواق إلى كتاب الله، فكانت هذه اللمحات..
(1) المشهد الحيّ
للقرآن طريقة بديعة في وصف المعاني، تعبيرات القرآن ترسم مشهدا حيا..
وصف الله حال المتجبرين يوم القيامة فقال (ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عِتِيًّا)، ففي ذلك اليوم سيبدأ العذاب بالأعتى فالأعتى، الأظلم فالأظلم، أكثر قومه فجورا وتجبرا.. يأخذه الله فيكون أول قومه عذابا.. لكن هذا الوصف بالنزع، يرسم مشهد المتجبر وقد صار ضعيفا متكوما متكورا ملتصقا بقومه يحاول أن يدفن نفسه فيهم ويتعلق بهم، يجتهد في الهروب من يد العذاب.. ثم تأتي يد العذاب فتصل إليه وهو على هذه الحال الذليلة فتنتزعه انتزاعا، ثم تلقيه في العذاب.
هكذا صار حال الجبار الفاجر المستهزئ، قطعة صغيرة تتخفى وتتدثر وتلتصق وتهرب، ذهب الفجور والتجبر وانقلبت الصورة!!.. أو قل: اعتدلت الصورة!

(2) القرآن كائن حي
كم من حيرة تشغل المرء ليلا أو نهارا حتى إذا فتح كتاب الله كأنما وجد إجابة حيرته في آية! كأنما الآية تكاد تكون تنطق وتتكلم!
قال تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كُتِب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية.وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا)
هل ترى كيف أن بعض الناس يرى أن قرار القتال حتى وإن كان قد نزل من الله فإنه سابق لأوانه، لم تأت اللحظة المناسبة بعد! وكانوا يتمنون لو أنه تأخر قليلا!!
هكذا تتمرد النفس على ما لا تحبه، تُسبغ عليه من المبررات العقلية ما يجعله حكمة العقل لا هروب النفس من التكاليف، حتى إن بعض المسلمين أحبَّ لو تأخر نزول الأمر بالجهاد قليلا! والواقع أن هذا لم يكن إلا تعلقا بالدنيا.. ولهذا قال الله: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا!
كم مرة في حياتنا تهربنا من الواجبات بدعوى الوقت الذي لم يحن بعد، والقرار السابق لأوانه؟!.. أكاد أرى من يُكثر من قول "سابق لأوانه، لم يحن وقته" لا يكون مقداما أبدا!
ومثل هذه الآية في ذات المعنى قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ..)، لقد أمر الله بأخذ الحذر في حال الجهاد لا بأخذ الحذر الذي يؤدي إلى القعود، على المسلم أن يجاهد وهو يحذر، لا أن يحذر فيقعده الحذر عن الجهاد!
اقرأ الآية كاملة: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعا. وإنَّ منكم لَمَن لَيُبَطِئَنَّ، فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا. وإن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما. فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يُقاتل في سبيل الله فيُقْتَل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما).
أليست هذه الآية كائنا حيا يُخاطب كأنما يكاد يتكلم؟!
وهكذا، كلما ازداد المرء ارتباطا بكتاب الله كلما رأى في آياته نورا وهداية ودليلا.
(3) القرآن وأسرار النفس
أمر الله بالإنفاق في سبيله مرات عديدة.. لكن الأرباع الأخيرة في سورة البقرة مما كثر فيها الحديث عن الإنفاق والترغيب فيه.. لكن اللافت للنظر في هذه الآيات هي تلك الخواتيم:
(والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)، (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (والله غني حليم)، (والله بما تعملون بصير)، (واعلموا أن الله غني حميد)، (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم)، (وما يذكر إلا أولوا الألباب)، (فإن الله يعلمه)، (والله بما تعملون خبير)، (وما تنفقوا من خير يُوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون)، (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)، (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
خواتيم الآيات تؤكد تأكيدا متكررا، بطرق متنوعة، وألفاظ متعددة ومتقاربة أحيانا، على حقيقة واحدة: أن الله لن يفلت من علمه شيء مما تنفقون وأنه سيجزي عنه أضعاف مقداره، وأنه غني واسع حميد!
من هذه الخواتيم يعرف المرء قوة البخل في نفسه، بخلٌ تعالجه الآيات بشتى السبل لكي ترتاح النفس وتطيب حين تنفق من المال.. فلولا الأجر الكبير المضاعف من الغني الواسع العليم الخبير لكانت النفس تبخل فلا تنفق في سبيل الله..
حين يتدبر المرء هذه الآيات ويراجعها ويتأملها، يعرف أن في أغوار نفسه البعيدة بخلا عميقا.. بُخْلٌ لا وصف له أدق من وصف الله (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق)! ويا له من تصوير عنيف مزلزل.. به يعرف المرء طبيعة نفسه!
(4) القرآن والكافرون
يخجل المرء من نفسه إذا قرأ لبعض المستشرقين ومن لم يُسلموا شيئا في مدح القرآن والتأثر به، لقد سلكت معاني القرآن إلى نفوسهم رغم حاجز اللغة وشوائب الترجمة.
يتحدث الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي عن سحر القرآن وأثره الهائل فيقول: "لهذا الكتاب سحر خفي، له تأثير عجيب في العرب؛ فقد حوَّل الرعاة والتجار والبدو والبسطاء إلى مقاتلين وبناة إمبراطورية، ومؤسسي مدن كبغداد وقرطبة ودلهي، وإلى علماء وحكماء ورياضيين، وإن هذا الكتاب -ولا شَكَّ- لهو الذي عاون هؤلاء الرجال على أن يغزوا عالمًا أوسع من العالم الذي سيطر عليه الفرس والروم، وقد فعلوا ذلك في عشرات السنين، واستغرق ذلك ممن سبقوهم قرونًا"ويراه هنري دي كاستري سرا مكنونا لا يفتح بابه إلا لمؤمن، يقول: "أتى محمد بالقرآن دليلاً على صدق رسالته، وهو لا يزال إلى يومنا هذا سرًّا من الأسرار التي تعذر فكّ طلاسمها، ولن يسبر غور هذا السرَّ المكنون إلا مَنْ يُصَدِّق بأنه مُنَزَّل من الله"... ويضيف: "لو لم يكن في القرآن غير بهاء معانيه وجمال مبانيه لكفى بذلك أن يستولي على الأفكار ويأخذ بمجامع القلوب"وفي كلمة بديعة يقول القانوني والمستشرق الفرنسي مارسيل دي بوازار: "إن القرآن لم يُقَدَّر قَطُّ لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"والسؤال المحرج هنا: كيف استطاع هؤلاء أن يفهموا من القرآن ما لا يفهمه كثيرون فينا؟!
أليس هذا مشوقا لأن نقرأ كتاب الله بعناية وتأمل؟!
نشر في مدونات الجزيرة

الرسول ص235. الإسلام خواطر وسوانح ص46. إنسانية الإسلام ص109.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 17, 2017 08:15

May 13, 2017

يوسف زيدان وصلاح الدين.. وما تخفي صدورهم أكبر

طال هذا الرد مني رغم أني حاولت اختصاره، ورغم أن اختصاره بهذا الشكل قد لا يؤدي إلى غايته، ولكن عذري أن هذا هو المتاح في عالم القارئ فيه سريع الملل، والإعلام فيه متروك للكذابين.. والعادة أن الشبهة تكون قصيرة حادة سريعة الانتشار بينما يحتاج تفنيدها إلى توضيح وتفصيل.. ولا يصبر على هذا إلا قليل.. فأسأل الله أن يجبر التقصير!لما جاء فيلهيلم الثاني ملك ألمانيا إلى المشرق حرص على زيارة قبر صلاح الدين مظهرا له الاحترام والتبجيل، وساعتها أنشد له شوقي يقول:
عظيم الناس من يبكي العظاما .. ويندبهم ولو كانوا عظاما
وحين جاءت قوات الاحتلال الفرنسي ودخلت دمشق، ذهب غورو إلى قبر صلاح الدين وركله وهو يقول: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"!
ويكاد صلاح الدين أن يكون فارقا بين الأخلاق والوضاعة، فسائر من يقدر القيم والأخلاق ينظر لصلاح الدين نظرة إكبار ولو لم يكن مسلما، والعكس بالعكس.. ولا يُتوقع من كاتب روايات يشجنها بالجنس، أو كتب ينضدها لتذويب الفوارق بين الأديان ووصمها بالدم، وهو من قبل هذا ومن بعده يعمل في خدمة السلطة المستبدة المتعطشة للدم، لا يتوقع من مثل هذا أن يتخذ موقفا طيبا من صلاح الدين!
يحمل يوسف زيدان حقدا خاصا تجاه صلاح الدين الأيوبي، فهو لا يفتأ في كل فترة إلا ويخرج بما يطعن فيه مكررا كلامه، أحيانا بالمقالات وأحيانا في محاضرة وأحيانا في لقاء تلفازي، وتلك الآن ساحات خالية من الشرفاء والأحرار فلا عجب أن يرتع فيها عملاء العسكر ممن رضوا عنه ورضي بهم، والطيور على أشكالها تقع، وليس أقبح من العسكر إلا المثقف الذي بذل لهم عرضه راضيا مرضيا!
وقد خرج زيدان مع عمرو أديب، وهو من هو في الوقاحة والنفاق، فقال في صلاح الدين:
1.    صلاح الدين من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني2.    صلاح الدين لما انقلب على الفاطميين عزل الرجال عن النساء لينقطع نسلهم3.    صلاح الدين أحرق المكتبة الفاطمية التي كانت المكتبة الثانية في العالم بعد بغداد4.    صلاح الدين لم يعالج ريتشارد قلب الأسد، ولم يكن معالجا، بل كان طبيبه الخاص هو اليهودي موسى بن ميمون (وبغير مناسبة: مَدَح موسى بن ميمون اليهودي مدحا ممتازا).5.    صلاح الدين اضطر للحرب في بيت المقدس حين أُسِرت أخته، وتعلمون طبعا ما كان يُفعل بالأسيرات!6.    صلاح الدين لم يفتح القدس وإنما استلمها صُلحا لما هددوه بتخريب الكنائس!7.    الكامل الأيوبي سنة 628 سلَّم القدس للصليبيين.
وقبل أن نبدأ في نقاش هذه النقاط ينبغي أن نشير إلى الأسلوب الملتوي الخبيث الذي ساق به كلامه.. ذلك أن ثلاثة من هذه السبعة ليست طعنا في صلاح الدين بل بعضها في حسناته ومناقبه!
فإن تسليم الكامل الأيوبي للقدس بعد أربع وأربعين سنة من تحريرها، وبعد نحو أربعين سنة من موت صلاح الدين أمر لا علاقة لصلاح الدين به بالمرة، والأمة التي عظَّمت صلاح الدين واحتفت به هي ذاتها التي جرَّمت فعل الكامل ابن أخيه، ولم تر أن ذنب هذا محسوب على هذا، إلا لو رأينا –مثلا- أن ذنب بيع تيران وصنافير في ميزان سعد الدين الشاذلي! لأن الشاذلي والسيسي عسكر واحد!!
ثم إن كون الطبيب الخاص لصلاح الدين يهودي، موسى بن ميمون، إنما هو أمر سجله المؤرخون باعتباره دليلا على التسامح الديني للسلطان الناصر، أن تشمل رعايته فيلسوفا متدينا يهوديا طبيبا، فلا هو يضطهده أو يجبره على الإسلام، هذا مع أن موسى بن ميمون كان شر صاحب وقرين، وأظهر حقدا يهوديا على السلطان الناصر لكن ليس هذا موضع تناوله.. فأين ما يطعن في صلاح الدين ويجعله من أحقر شخصيات التاريخ في هذا؟!!
كذلك فإن إبرامه معاهدة الصلح مع الصليبيين لتسليم بيت المقدس حفاظا على الكنائس التي هددوا بتخريبها.. في أي ميزان يكون هذا؟ في ميزان حسنات السلطان الناصر، أم في ميزان سيئاته؟! أين يستحق أن يوضع الرجل الذي فضَّل أن يحفظ آثار المدينة المقدسة، كنائسها ومساجدها، فضلا عن أرواح أهلها، وهو قادر بالميزان العسكري على أخذها حربا واستباحة أرواح المقاتلين؟!
وهكذا من بين سبعة أمور ساقها زيدان للتدليل على "حقارة" صلاح الدين، نجد اثنين من مناقبه وفضائله، وواحدة لا علاقة له بها ولا تُحسب عليه.
وصدق الشاعر لما قال:إذا حسناتي اللاتي أدل بها .. كن ذنوبا، فقل لي كيف أعتذر؟
هذا أول التدليس.. وبقي أن نرى البقية..
(1) من أحقر الشخصيات في التاريخ!!
دعنا نفترض أن كل ما قاله يوسف زيدان عن صلاح الدين صحيح، وأن صلاح الدين قد اقترف هذه الخطايا.. هل يكون هذا مسوغا ليوصف بهذا الوصف البشع الشنيع: من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني؟!
هذا السلطان الذي حافظ على مصر مرتين من احتلال صليبي، وأعاد وحدة مصر والشام، وأعاد اجتماع الأمة في مصر والشام فضلا عن أنحاء في ليبيا واليمن تحت راية خلافة واحدة، وحصَّن القاهرة وبنى قلعتها ليحفظها من الأطماع الصليبية، وحرر بيت المقدس بعد تسعين سنة، وأقام الدولة الأيوبية التي كانت واحدة من أعظم الفترات التي مرَّت على مصر في اتساع المساحة وقوة السلطان ونفوذ الكلمة بعد أن استلمها من العبيديين الفاطميين ضعيفة تغري باحتلالها وتضرب فيها الفوضى بالمعارك بين وزرائها مع ضعف خليفتهم العبيدي الفاطمي، ووقف بجيشه أمام جيوش أوروبا الرهيبة بقيادة ريتشارد قلب الأسد حتى عجزت أن تعيد احتلال بيت المقدس رغم الفارق الهائل في القوة.. إلى آخر ما نستطيع أن نسرده من إنجازات حفر بها الناصر اسمه في التاريخ!
هذا الرجل الذي فعل كل هذا يوصف بأنه من أحقر الشخصيات في التاريخ إذا أحرق مكتبة أو قسا في استئصال النظام القديم أو اضطر لفتح بيت المقدس سلما أو اتخذ طبيبا يهوديا؟!!
إذن كيف يحكم يوسف زيدان على شارلمان أو بسمارك أو نابليون أو الإسكندر إن كانت حساسيته المرفهة تجعل مثل أخطاء صلاح الدين كافية لإنزال صاحبها من مرتبة الأبطال إلى مرتبة "أحقر شخصيات التاريخ"؟!!
وبالمناسبة: أين يرى يوسف زيدان مكان السيسي بين شخصيات التاريخ؟!
(2) قصة عزل الفاطميين
ذكر يوسف زيدان أن صلاح الدين عزل رجال الفاطميين عن النساء لينقرض نسلهم.. وقد وردت هذه الرواية عند عامة المؤرخين، وفي الأمر تفصيل يجب التنبه إليه:
بداية فإن سيرة الثورات والانقلابات في أعدائهم من النظام القديم هي في العادة سيرة القتل، وذلك لضمان ألا تنقلب الفلول مرة أخرى على الوضع الجديد، إلا أن صلاح الدين لم يتتبعهم بالقتل، وإنما عزل أهل الخليفة العاضد في بيت خارج القصر مع ما يكفيهم من النفقة والطعام والكسوة، ثم عزل بقية الفاطميين في ناحية من القصر.. ثم إنه باع وأعتق العبيد والجواري (كما فعل في بقية كنوز القصر المتكدس بالأموال والكنوز)، ومن أولئك العبيد من كان حرًّا واستُعبِد ظلما.
هذا هو الإجراء الظاهر الواضح الذي تتفق عليه الروايات.. وهو إجراء يشبه السجن في أيامنا هذه، إلا أنه سجن في قصر!!
وأما القول بأن الغرض هو منع نسلهم فلا يمكن قبوله إلا أن يكون صلاح الدين أو أحدا من حاشيته قد صرَّح بهذا الغرض، وإلا فهو استنتاج من المؤرخ، واستنتاج المؤرخ هذا قابل للنقض أو الرفض، ونجد من المستبعد أن يكون هذا هدف صلاح الدين، إذ الأسهل عليه أن يقتلهم وقد كان هذا بإمكانه، وهو كما ذكرنا سيرة النظام الجديد مع أركان النظام القديم، لا سيما وأن غرض قطع النسل هذا يحتاج زمنا طويلا لضمان نجاحه، وهو أمر مرهق على السلطة أن تتحمل تكاليفه وتكاليف متابعته، خصوصا وأنه لا يُنقل في مراحل متعاقبة شيء عن متابعة هؤلاء أو مصيرهم رغم ما حصل من اضطرابات بالدولة الأيوبية. والفكرة نفسها لا تبدو طبيعية أن يُسجن جميع رجال الأسرة الحاكمة في ناحية من نواحي القصر لمدة طويلة!!
أما حيث لم يقتلهم وإنما سجنهم في ناحية من القصر، وأخرج أهل العاضد –الخليفة الأخير الراحل- إلى خارج القصر، فأقرب التفسيرات أن هذا إنما هو إجراء أمني، وقد بدأت بوادر هذه الإجراءات من قبل موت الخليفة العاضد بعدما اكتشف أن جوهر مؤتمن دار الخلافة (رئيس ديوان الرئاسة بمصطلح العصر) راسل الفرنجة لغزو مصر، فعندئذ بدأ صلاح الدين في فرض رقابة على ما يدخل وما يخرج من القصر. وتكررت محاولتان كبريان على الأقل للانقلاب على صلاح الدين من مراكز قوى في العسكر العبيدي، فكان طبيعيا في تلك الأحوال أن تتخذ مثل هذه الإجراءات.
لذلك فعامة المؤرخين المحدثين من المسلمين والغربيين لا ينقلون هذا الغرض "قطع النسل" وإنما ينحازون لكونه إجراءا أمنيا على عادة ما تجري به الثورات والانقلابات في أنظمة الحكم.
والغريب أن بعض المؤرخين يصرح بأن هذه الدولة كان أسهل الدول في الانقضاء والانتهاء بغير مذابح أو دماء كثيرة وبغير فوضى واضطراب واسع، يقول ابن مماتي: "لم تشهد التواريخ بانقضاء دولة كانقضاء دولتهم على حالة سكون وأحمد قضية تكون" (نقلا عن: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري 24/105 ط العلمية)، ويقول ابن الأثير: "فلم يتنطح فيها عنزان" (الكامل 10/34 ط العلمية)، ويقول كارل بروكلمان "ومع أن صلاح الدين لم يصطنع القوة في كبت النفوذ الشيعي فقد خسر الشيعة سنادهم الطبيعي بسقوط الدولة الفاطمية" (تاريخ الشعوب الإسلامية ص352، 353 ط دار العلم للملايين).
ثم نعود فنقول: فلو صدقت هذه الرواية بكل تفاصيلها فإنما يكون صلاح الدين قد حكم على رجالهم بالسجن مدى الحياة (بلغتنا المعاصرة)، فلو كان هذا الحال هو ما دعى يوسف زيدان إلى وصفه بأنه من أحقر شخصيات التاريخ، فما يقول الأديب المرهف المثقف الحساس في رجل قتل الآلاف في الشوارع، وسجن الرجال والنساء في زنازين حقيرة تجذب الأمراض (لا في قصر الخلافة كما فعل صلاح الدين)، وأعطى الإعدامات بالمئات والمؤبدات بمئات السنين، مع حساب مفتوح من التعذيب الرهيب ومن التصفيات الجسدية المستمرة منذ أربع سنوات؟!
ثم هو بعد ذلك من أركان الحكم (الصليبي، الصهيوني) في مصر، لا يفكر في تحرير ولا بقطمير؟! أين نضع هذا في جملة الشخصيات الحقيرة في التاريخ؟
(3) حرق دار الحكمة
وأما قصة حرقه مكتبة دار الحكمة ففيها تفصيل ينبغي أن يُقال:
أولا: ثمة فارق مهم لا ينتبه له الأكثرون في أيامنا لأننا نعيش في ظلال الدولة العلمانية والأفكار العلمانية، الفارق بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية أن الأولى دولة تقوم وتستمد شرعيتها من الدين، ونظام حكمها يقيم الدين، وعلماؤها يعرفون مهمة الخليفة على أنها "حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، ولذلك فالنظام الإسلامي حساس تجاه ما يخدش الدين أو يطعن فيه أو يسيئ إليه، ومسألة حرق الكتب التي فيها كفر أو فُحْش أو زندقة ليست مما يُستنكر في وجدان المسلمين عموما.
أما الدولة العلمانية فهي تقوم على أساس مادي، وتستمد شرعيتها من الإنجاز المادي كالرفاهية والأمن والرخاء والاقتصاد، ولذلك ليست لديها حساسية تجاه عبادات الناس أو أخلاقهم أو أديانهم، الحساسية كلها تخص ما يمس الدولة.. فلا بأس لديها بشرب الخمر طالما أنها تُشرب في غير أوقات العمل أو طالما لم تُشرب في لحظة قيادة السيارة (لا للحفاظ على صحة النفس بل خشية من الحوادث) ولا بأس بفتح دور ممارسة الزنا طالما ستلتزم بأداء الضرائب.. أما مسألة كحيازة السلاح أو تشكيل تنظيم أو تكوين جماعة أو الدعوة إلى ما يخالف نظامها (كالدعوة إلى الملكية في بلد نظامها جمهوري أو العكس) أو إهانة العلم أو الدستور، فهنا تعمل الحاسة الأمنية وتتحرك القوات لإجهاض هذا.
فبداية يجب أن نفهم أن كتابة ما فيه كفر وفحش وزندقة في النظام الإسلامي يُشبه تكوين ميليشيا مسلحة في النظام العلماني.. الأمور الجوهرية التي ينبني عليها نظام الدولة لا تسمح السلطة فيها بالحرية! هذا من حيث المبدأ، وأما من حيث التطبيق فتاريخ التسامح الإسلامي مع الأفكار المخالفة أوسع بكثير ولا يُقارن بتاريخ التسامح الأوروبي العلماني مع التنظيمات المخالفة!
وهكذا، فمن حيث المبدأ، لن تجد كثير اعتراض لدى المسلمين في مسألة حرق الكتب الفاسدة أو الفاحشة.
ثانيا: أما القصة نفسها فقد كذب يوسف زيدان في نقلها، أو لعله نقلها من مصدر شيعي فلم يراجع كذبته فاعتنقها كما هي.
تقول الرواية الزيدانية بأن صلاح الدين جاء إلى المكتبة التي تحوي نفائس المؤلفات فأحرقها وجعلها رمادا، خوفا مما فيها من أفكار الشيعة، وهكذا خسرت مصر علوما وتراثا هائلا.
بينما الرواية التي نقلتها كتب التاريخ على نحو آخر:
فالمكتبة كانت فعلا من عجائب الزمان، وتحتوي على مئات آلاف الكتب، لكن هذه الكتب لم تكن شيعية بل كانت تلك مكتبة جامعة، ولا يملأ التراث الشيعي لا سيما في هذا الوقت المبكر مئات الآلاف من المجلدات، بل تذكر الروايات أن فيها نسخا عديدة من تاريخ الطبري ومن غيره.
ثم إن صلاح الدين لم يحرقها، وإنما أنهى عمل المكتبة التي تمثل صرحا ثقافيا وروحيا من تراث النظام القديم، أما الكتب التي فيها، فقد وُزِّعت فحمل بعضها إلى الشام (وكانت مصر والشام وقتها دولة واحدة، يعني كأننا نقلنا محتويات من مكتبة الإسكندرية إلى أسوان.. لن يكون هذا إهدارا لثروة ولا تراث، بل إعادة توزيع) ووزع بعضها على العلماء والقضاة، فأخذ منها القاضي الفاضل كثيرا من الكتب فكانت نواة مكتبة المدرسة الفاضلية، واشترى منها الوزير أبو الفرج المغربي (خطط المقريزي 2/290 وما بعدها ط العلمية) والعماد الأصفهاني (الروضتين 2/212 ت: الزيبق ط الرسالة) وبيعت بقية الكتب.
فلم يكن الأمر إحراقا، ولو جرى حرق لكان أولى المؤرخين بذكره ابن أبي طيئ الشيعي أو حتى المقريزي، وهما ممن تؤخذ عنهم الروايات المناهضة لصلاح الدين.. إنما كان الأمر كما ذكرنا هدما لصرح روحي ثقافي فكري للنظام القديم.. تماما كما أزيل اسم سوزان مبارك وصورتها وكلامها عن إصدارات مكتبة الأسرة بعد ثورة يناير، أو أزيل اسم مبارك عن المكتبة المسماة باسمه.. لم يكن الأمر متعلقا بالكتب، وإنما بالنظام السياسي القائم ومحاربته لرموز وصروح النظام القديم.
وأما الذي ذُكِر من الحرق الذي ناله بعض الكتب فقد نقله المقريزي عن عبيد جهلة وصلت إليهم الكتب ولم يعرفوا إلا أنها خرجت من قصر السلطان، فما أتلفوه أو أحرقوه منها إنما كان ظنا منهم بأنها كتب زندقة وكفر.
والمثير أن كلام يوسف زيدان يوحي بأن المكتبة كانت مكتبة عامة مفتوحة للجميع، بينما الواقع أنها –كما في وصف المقريزي- كانت مكتبة خاصة في قصر الخلافة، أي لم يكن الذي فيها من الكتب إلا كمثل المتحف الذي يجمع النوادر من المقتنيات، بينما لم ينتفع بها الناس.. بل ما فعله صلاح الدين من بيعها وتوزيعها وتأسيس مكتبات بأجزاء منها إنما هو الذي خدم العلم ونشره.. وقد فعل ذلك في بقية كنوز قصر الخلافة التي جُمِعت بأموال الناس وكُدِّست وكُوِّمت، فلما استولى عليها صار يهدي منها ويبيع، كما كان سيفعل أي نظام حكم مخلص في تفريق أموال وكنوز النظام البائد على ما ينفع الناس ويخدم البلد.
على أن يوسف زيدان وغيره من المتعاطفين مع الدولة العبيدية (الفاطمية) لا يذكرون أبدا لا على سبيل الذكر ولا على سبيل الإنكار أن الفاطميين أتلفوا كتبا لأهل السنة، ومن ذلك سبعة قناطير كتب ألفها أبي محمد بن أبي هاشم التجيبي، وتشير عبارة الرواية على أنها كانت عادة لسلاطينهم (انظر: رياض النفوس 2/423، ت: البكوش والعروسي ط دار الغرب)، وحرموا الإفتاء على مذهب مالك وعاقبوا من يفعل، هذا فضلا عن منعهم تدريس مذهب السنة في المساجد، حتى صارت كتبهم لا تُقرأ إلا في البيوت، وغير ذلك مما هو مشهور ولا يتسع له المقام.
فهل وصف زيدان أحدا من الفاطميين بأنه من أحقر شخصيات التاريخ؟!!
إلا أن حسرة زيدان، وأمثاله من العلمانيين على الكتب، تجعلنا نسأل في المقابل: لماذا لا نرى العلمانيين يعارضون منع الحكام الآن نشر أفكار وكتب المناهضين لحكوماتهم؟ هل تتسع الحرية الفكرية التي يبكي عليها يوسف زيدان لأن يُسمح في مصر بطباعة كتب داعش أو تنظيم القاعدة؟! هل ضُبِط يوسف زيدان أو أي علماني آخر بالدعوة لحرية نشر كتب الظواهري أو أبي مصعب السوري أو سيد إمام أو غيرهم؟!!
الواقع أن السلطات المصرية أحرقت بالفعل، وأمام الشاشات، وفي ساحات المدارس، كتب المنتسبين إلى الاعتدال كالغزالي والقرضاوي فضلا عن سيد قطب وبقية مشايخ الإخوان، بل إن الحملة العلمانية الآن تطالب بحرق كتب التراث الفقهية التي تمثل مصدرا معرفيا تاريخيا وقانونيا فضلا عن قيمتها الدينية.. ومع هذا فالعلمانيون يعتبرون هذا من إجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف!
(4) اضطراره لتحرير بيت المقدس لأن أخته أُسِرت
يحاول زيدان أن يطعن في صلاح الدين بأن يجعل تحريره لبيت المقدس إنما كان لغضب شخصي لا لأنها مهمة دينية مقدسة، فجاء بما يضحك، وكم في مصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا.
فلو أن صلاح الدين حرر القدس إنقاذا لأخته فلنعم الأخت هي على الأمة وعلى المسلمين، قد كانت طريقا لتحرير المدينة المقدسة، ولا يُلام الرجل إن غضب لعرضه فشنَّ حربا، فكذلك يفعل الأحرار ذووا المروءة والنجدة لا المخانيث الذين يحكموننا الآن فيهتكون أعراض نساء البلاد بأنفسهم، ولا تهز فيهم انتهاكات أعراض المسلمات شعرة!
لكن الواقع أن المسألة لو كانت مسألة أخته، فما أسهل أن يهدد صلاح الدين بحرب فيطلقونها له تجنبا لحرب لا يطيقونها، لا سيما والوقت كان حينئذ وقت هدنة قبل أن يخرقها إرناط، وأغلب الظن أن يوسف زيدان أخذ هذه القصة من فيلم "مملكة الجنة"، حيث ورد فيه هذه القصة.
والحقيقة أن ست الشام (أخت صلاح الدين) لم تؤسر، ولو أُسِرت لكان الخبر مشهورا ذائعا في كتب التاريخ، إلا أن ذلك لم يكن، وإنما الذي ورد أن قافلة كانت فيها ست الشام خرج لها جيش لحمايتها من غارة متوقعة لإرناط، وقد تم الأمر ومضت القافلة بسلام!
إن مجرد سوق هذا السبب في تفسير تحرير صلاح الدين لبيت المقدس إنما يدل على حقد عميق في نفس صاحبه، إذ إن سيرة صلاح الدين منذ أولها إلى آخرها هي سيرة مجاهد يضع القدس صوب عينيه، عاش لهذا المشروع أبوه من قبله حين كان قائدا لعماد الدين زنكي ثم لنور الدين، وفي الجهاد ضد الصليبيين مات أخوه، وكانت أسرته عماد الدولة الزنكية وعصبتها العسكرية، ولهذا جاءوا إلى مصر، ولهذا انطلقوا إلى بيت المقدس، ولهذا واجهوا الحملة الثالثة وأعجزوها عن إعادة احتلال القدس!
ألا صدق المتنبي:وإذا أتتك مذمتي من ناقص .. فهي الشهادة لي بأني كامل
(5) تفسير ما يناقض ذلك
لو أن الأمر مجرد بحث علمي نزيه لوجد يوسف زيدان نفسه مضطرا قبل أن يُصدر هذا الوصف القبيح أن يُفَسِّر ما يناقض هذا الوصف مما اشتهر به صلاح الدين.
لقد اشتهر صلاح الدين شهرة واسعة بالأخلاق والنبل والفروسية، وقبل أشهر كنت أقدم ورقة علمية عن "مدح المستشرقين والمؤرخين الغربيين للسلطان الناصر صلاح الدين" في مؤتمر علمي عن صلاح الدين عقدته جامعة سييرت التركية، فاستطعت أن أجمع من أقوالهم بغير مجهود كبير ما لو قيل بعض بعضه من قِبَل مسلمين لاتُّهم بالتعصب والتطرف!
(راجع هذه المقالات الأربعة ففيها خلاصة الورقة: الأول، الثاني، الثالث، الرابع)
لقد بلغت شهرة صلاح الدين في التاريخ مبلغا عظيما لأن الآراء قد أجمعت على أنه أنبل من اشترك في الحروب الصليبية كما قال ول ديورانت، وهو الذي كانت أخلاقه قد سحرت الكثير من الفرسان الصليبيين فأسلموا وتركوا دينهم كما قال توماس أرنولد، إلا أنه عند مثقفي نكبتنا وخيبتنا "من أحقر شخصيات التاريخ"!!
لو كان الأمر علما حقا لاجتهد أن يفسر يوسف زيدان كيف ظهرت من كل صلاح الدين هذه الأخلاق، وهو الحقير الموغل في الحقارة، وكيف شملت أخلاقه الأقليات غير المسلمة تحت حكمه بل وشملت أعداءه الصليبيين، وكيف شملت رعايته –إن كان يكره العلم ويحرق الكتب- العلماء ورفعه لمقامهم واستعانته بهم والجلوس إليهم.
ثم لا بد أن يخرج بتفسير يمكنه الصمود أمام الرسوخ التاريخي لحقيقة ومكانة صلاح الدين والتي هي موضع اتفاق بين المؤرخين، حتى إن بعض الغربيين اصطنع له نسبا في المسيحية، فادعى أن أمه مسيحية أو أنه اعتنق المسيحية عند موته، ووضعه دانتي مع فضلا الكفار في جحيم الكوميديا الإلهية.. فهل يستطيع زيدان أن يفعل؟!
لو استطاع المهرج أن يلمس الشمس لاستطاع مثل زيدان الخروج بتفسير يدعم حكمه الساقط هذا!
ولا أجد ختاما خيرا من وصف القاضي ابن شداد وهو يتحدث عن يوم وفاة صلاح الدين، فيقول: "كان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وتالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فِدَاء من يعزُّ عليهم بنفوسهم، فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم، فإني علمت من نفسى ومن غيري أنّه لو قُبِلَ الفداء لفُدِىَ بالنفس" (النوادر ص364 ت: الشيال ط الخانجي).
ترى هل يرضى يوسف زيدان أن يفدي السيسي بنفسه؟!!

اقرأ: معركة قديمة مع يوسف زيدان (هنا ثم هنا)
نشر في هافنتغتون بوست
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 13, 2017 08:31

May 10, 2017

موسوعة الخرافات والتخريفات

كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله يعلم أصحابه وتلاميذه مهارة "تحليل النُكَت"، ذلك أن النكتة تشير إلى معنى أعمق من مجرد إثارة الفكاهة، لا سيما النكتة السياسية، إلا أنه توفي قبل أن يشهد زمن الثورة، فلقد فجَّرت الثورة كثيرا من المواهب والطاقات، ذلك أن كثيرا من الناس انتبهوا لشأن السياسة وصاروا يتابعونها عن كثب من بعد ما كانت مجالا مغلقا، وتزامن هذا مع انفجار استعمال مواقع التواصل الاجتماعي، مما جعل هذه المواقع تضخ إنتاجا غزيرا من النكات، وكنتُ –وما زلتُ- أرجو أن يتعرض أحد من تلاميذ المسيري لجمع النكات من تويتر وفيس بوك وتحليلها، فإنه سيقدم بهذا تاريخا سياسيا اجتماعيا صادقا وحقيقيا للثورة، وهو أمر إن لم يتصدَّ له أحد الآن فلا أحسب يصلح له من يأتي من بعد، لأن قيمة النكتة ومغزاها لا يفهمها إلا من يعاصر الحقيقة ويستوعبها، فهو الأقدر على تحليلها.
إذا تركنا النِّكات وأردنا أمرا جادًّا، فالواقع أننا بحاجة إلى إصدار موسوعة أخرى، موسوعة الخرافات والتخريفات، ذلك أن عامة الذين تصدروا في هذه الثورة أظهروا جهلا مريعا وفاضحا بكل شيء، بداية من الشاب الذي ظنَّ أنه أشعل الثورة من خلال صفحة الفيس بوك أو هاشتاج على تويتر، وحتى جماعة كنا نظنها عريقة وخبيرة وصاحبة تجربة مريرة لا شك ستسوعب درسها.
سألت أحد كبار الإخوان يوما بعد الانقلاب في أرض مهجر: كيف حصل هذا؟ قال: لم نكن نتخيل أن الجيش فاسد إلى هذا الحد! قلتُ وكلي ذهول: كيف ذلك وأنا الذي عرفتُ أنه فاسد من كتبك أنت ومذكراتك؟!
الواقع أن المرء ينسى، ويطول عليه الأمد، كذلك الكيانات والجماعات والأحزاب، ولئن طال زمن النسيان فإنه يتحول إلى فقدان الذاكرة، ويمكن لفاقد الذاكرة أن يقع في الفخ نفسه عشرات المرات، وليس هذا بالمؤمن، فالمؤمن لا يُلدغ من جحر واحد مرتين.
لكن المريع حقا أن أناسا من بيننا يريدون تزييف ذاكرتنا بكامل إرادتهم ووعيهم، بعض أولئك كان ثائرا جسورا أيام مرسي، كان مسكينا يتصور أنه يستطيع هدَّ الأنظمة العتيقة المدججة بالسلاح حين ينزل ويهتف أو حتى حين يجلس في فضائية فُتِحت له ليهتف، كان أغبى وأتفه من أن يكتشف أنه أداة يلعبون بها. وبعض أولئك كانوا جرعة تخدير وجهاز تبرير أيام مرسي يؤمنون بإخوانهم "اللي فوق" ويجادلون عنهم بكل وجه فلما وقع الانقلاب وجاء عصر المذابح والتشريد تحول هو نفسه إلى التحليل والفلسفة وشرح أبعاد المؤامرة كي يثبت لك من جديد أنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان!
أكره والله، وأجد حرجا، أن أقول بأني اكتشفتُ هؤلاء مبكرا ونصحت سرا وجهرا (انظر كمثال: هنا وهنا وهنا وهنا.. ولاحظ تاريخ الكتابة)، ولكن القوم كانت لديهم ثقة عجيبة في أنفسهم، كأنهم اطلعوا الغيب أو اتخذوا عند الرحمن عهدا!!
نحتاج أن نصدر موسوعة نجمع بها الخرافات والتخريفات التي ضيَّعتنا وسفكت دماءنا، لعلها تنفع آخرين في بلاد أخرى تتمخض بثورة، أو أجيالا أخرى في رحم الغيب إن لم ننجح في إحياء ثورتنا من جديد.
أتوقع أن أهم العناوين ستكون على هذا النحو:1.    ميدان التحرير موجود2.    الجيش مؤسسة وطنية3.    القضاء المصري شامخ4.    لا بد من محاكمة مبارك محاكمة عادلة.. لا للمحاكم الثورية5.    الجيش شيئ والمجلس العسكري شيء آخر6.    رئيس توافقي.. دستور توافقي.. [وأي شيء توافقي بغرض تجاوز وإهدار اختيار الشعب]7.    وثيقة مبادئ فوق دستورية8.    الإخوان ركبوا الثورة.. الإخوان نزلوا يوم 28 بعدما الثورة نجحت!!9.    التطهير ممكن يظلم شرفاء في الجيش والشرطة والقضاء.. المؤسسات تطهر نفسها بنفسها10.           الديمقراطية مش صندوق11.           المجلس العسكري لازم يفضل 3 سنين علشان احنا لسه مش جاهزين12.           الشعب المصري بعد 25 يناير لن يعود أبدا كما كان قبل 25 يناير13.           الإخوان باعونا في محمد محمود14.           البرادعي ضمير الثورة15.           نعصر على نفسنا لمونة!16.           الإخوان.. حكم ديني فاشي متطرف!!17.           أخونة الدولة18.           إسقاط الحكم العسكري أسهل من إسقاط الحكم الديني19.           شباب الثورة الطاهر الجميل20.           انتخابات رئاسية مبكرة21.           الفلول لم يعد لهم مكان في مستقبل مصر22.           الجيش معانا.. (ومن جديد) الجيش والشعب إيد واحدة23.           الشرطة رجعت النهارده للشعب.. الشرطة اتغيرت24.           أسقطنا 3 أنظمة: مبارك، العسكر، الإخوان25.           الجيش نزل يحمي شرعية الشعب مش شرعية الحاكم
وفي سياق آخر:26.           الجيش غير طامع في السلطة27.           سيبك من الإعلام.. ركز في الشغل28.           إخوانا اللي فوق عارفين وعاملين حسابهم29.           انتهى عصر الانقلابات.. العالم الحر الآن لا يقبل الانقلابات العسكرية30.           حازم متهور لا يعبأ بالدماء31.           الانقلاب هاجس في صدر حازم أبو إسماعيل فقط32.           الجيش فيه رجالة زي الدهب33.           حافظوا على الجيش.. الجيش ده بتاعتنا34.           سلميتنا أقوى من الرصاص35.           يريدون استفزازنا وجرنا إلى العنف36.           السيسي مات37.           الخليج انقلب على السيسي38.           ندين ونستنكر كل أشكال العنف39.           الحفاظ على المؤسسات40.           دعوتنا لا تموت.. دعوة الخالدين
ويجب أن تحتوي الموسوعة بابا خاصا برجل الوعي في تلك المرحلة، الشيخ الكبير الأسير البصير حازم صلاح أبو إسماعيل، الرجل الذي عارض منذ اللحظة الأولى ترك ميدان التحرير بعد بيان عمر سليمان، ثم كان السياسي الوحيد طوال نحو السنة الذي يهاجم المجلس العسكري ويتهمه بسرقة الثورة (في تلك السنة كان السياسيون بين من يؤيد العسكر لأنهم يُظهرون له صلاحا ووطنية أو من يهاجمهم لأنهم عقدوا صفقة مع الإخوان!!.. كانت حالة سياسية مثيرة للاشمئزاز)، وقد احتفظت له القلوب والعقول بعباراته الصادقة:
1.    هؤلاء ذئاب وثعالب، يريدون استنعاج شعب وأمة2.    التاريخ بيني وبينك.. المجلس العسكري سينقلب على الثورة3.    عاهدوني، سواء انتخبتموني أم لا، عاهدوني ألا نرجع غنما نُساق بالعصا4.    يجب أن يتولى الشعب أمره بنفسه.. العسكر ليسوا مؤتمنين على إدارة البلد5.    عبد الفتاح السيسي يقوم بدور ممثل عاطفي، ولا بد أن يجد رادعا لهذه العربدة

نشر في مدونات الجزيرة
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 10, 2017 08:34