محمد إلهامي's Blog, page 30

October 15, 2017

الدستور الإسلامي: أزمة تصور لا أزمة تجربتنا الحضارية

قبل البدء في المقال لا بد من إعلان التضامن مع د. مختار الشنقيطي فيما يعانيه من الجنرال الانقلابي في موريتانيا، والذي يرفض تجديد جوازات السفر له ولأبنائه، مما يجعلهم في حرج بالغ، وهو من جراء النكد الحضاري في تلك الحضارة المعاصرة التي تجعل الإنسان أوراقا تملك السلطة إصدارها وتجديدها، فإن فقدها كان في حكم الميت حقيقة! فالحضارة المعاصرة هي على الحقيقة حضارة السلطان والطغيان لا حضارة الإنسان.
***حضرت للصديق د. محمد المختار الشنقيطي محاضرته عن "الدستور الإسلامي في زمن الثورات"، فاستفدت منها جملة أشياء نافعة، وكانت لي عليها ملاحظات أساسية أحببت أن أسجلها كتابة بعدما ذكرتها مشافهة إذ لم يُتح لنا الوقت حوارا كافيا حول المسألة، كما كان ضيق الوقت وإرهاقي وقتها مانعا من حسن طرح التعقيب. ومن المهم هنا أن نذكر أن المحاضرة ألقيت في جمع من المفكرين والأكاديميين وكانت لديهم تعقيبات ثرية لكنها للأسف لم تُصَوَّر على شاشة القنوات، وربما أخرجت أكاديمية العلاقات الدولية التي نظمت المحاضرة نسختها التي احتوت تصويرا للتعقيبات والتعقيب النهائي للمحاضر. لكن أشير هنا إلى ثلاثة تعقيبات أساسية اتفقتُ معها في أغلبها، ومن الطريف أنها كانت من ثلاثة من الأكاديميين الإيرانيين، وهنا ينبغي أن نذكر أن التجربة السياسية الإيرانية التي بلغ عمرها الآن نحو الأربعين عاما قد أنضجت بيئة الفكر السياسي الإسلامي في إيران فخَرَّجَتْ عددا من المفكرين والأفكار في باب الفقه السياسي. 
يقر الشنقيطي أن حكمه على تاريخنا السياسي حكم سلبي، ويؤسفه أن تجربتنا الحضارية فقيرة في الإجراءات السياسية رغم ثرائها في باب القيم، ومن مظاهر فقرها أنه لم يكن لحضارتنا دستور طوال الفترة الممتدة من "وثيقة المدينة" وحتى صدور الوثيقة في تونس (1861)، وهكذا كانت فترة الظلام طويلة بين لحظتين مضيئتين شهدتا دسترة القيم السياسية في إجراءات.
ثمة ملاحظات جوهرية على هذا المنطلق الذي بُنِيَت عليه المحاضرة، والذي يمثل أساس فكرتها:
1. المشكلة الرئيسية هي اعتبار أن وجود نص مكتوب على صيغة مواد وبنود، وهو شكل الدساتير المعروف، يكون معيارا حاكما على التجربة الحضارية بالتقدم أو التخلف، فمجرد وجود أي نص على أي صيغة لا ينبغي أن يعبر عن شيء في نفسه، إلا لو أن معيارنا هو مجرد معيار شكلي ظاهري. فالمدن اليونانية والإمبراطورية الرومانية والدول المستبدة في عالمنا المعاصر تتخذ لنفسها دساتير مكتوبة على صيغة المواد والبنود، فلم يمنع هذا الوجود من دسترة الاستعباد والعنصرية في مدن اليونان ولا تسويغ الاستعمار للرومان، ولم تُغْنِ كثرة المواثيق التي يحفل بها عالمنا المعاصر من كثرة المذابح!
2. فإن قيل ليس المقصود مجرد وجود نص مكتوب على هيئة بنود، وإنما المقصود وجود نصٍّ حاكم يتمتع بالرسوخ والتقدير وله هيمنة على النظام، فهنا لن نجد نصا لا في القديم ولا الحديث أرسخ وجودا ولا ثبوتا ولا هيمنة على النظام من القرآن الكريم، وهو نصٌ كُتبت حوله آلاف الشروحات والتفاسير واستنبطت منه ما لا يحصى من المواد القانونية واشتغلت عليه ما لا يُحصى من العقول في استنباط الفتوى لظروفها الزمانية والمكانية.. فلو أن هذا كان مقصود الشنقيطي للفت نظره نص القرآن الكريم ونصوص السنة الصحيحة، إلا أن اختياره لحظة وثيقة المدينة ولحظة وثيقة تونس تدل على أن نموذجه المنشود هو الوثقية ذات النصوص المصاغة على هيئة بنود ومواد.
3. تعلمنا قديما أن الحديث إن كان عن الحلال والحرام فلا بد من الاستناد إلى النصوص الصحيحة، بل بعض العلماء لا يجيز رواية الضعيف ولا في فضائل الأعمال، فنحن حين نتكلم عن أصول حضارتنا الإسلامية ومنطلقاتها وما يُؤثر في صعودها وهبوطها سلبا وإيجابا نكون بحاجة أقوى إلى الاعتماد على الصحيح وحده، فالمسألة هنا ليست مسألة حكم فرعي في عبادة أو معاملة، وإنما هي حديث في أصول الدين ومنهجه ونظامه. وهو الأمر الذي يقره الشنقيطي وقد أكد في تعقيبه على ملاحظتي أنه لا يعتمد على سوى الصحيح. الغريب هنا أن وثيقة المدينة نفسها إنما صح بعض منها بمجموع الطرق، فهي ليست صحيحة على منهج المحدثين، ومن قالوا بصحتها فغاية ما قالوه أنه تصحيح بمجموع الطرق لبعض بنودها4. على أن الوثيقة نفسها إن صحت حديثيا وصارت نصا يصلح للاستدلال به فإن هذا أيضا لا يجعلها حجة على ما أراده لها الشنقيطي، فغاية ما يُقال أن الوثيقة كانت حاكمة على العلاقات داخل المدينة في السنوات الأولى لها، حتى نزلت آيات القرآن الكريم التي تحدد المعاملات وعلاقة الدولة الإسلامية بسائر الأطياف، وتستدرك على ما أقيم من العقود والمعاهدات.. أي أنها في أحسن أحوالها كانت وثيقة مرحلة انتقالية لا واجبا ثابتا يفرض كتابته في النظام السياسي للدولة الإسلامية. ولهذا لم يجد الفقهاء عبر ذلك التاريخ الطويل ما يدعوهم لأن يعتبروا عدم وجود وثيقة على هيئة بنود من جملة المعاصي والمخالفات، ولو أن الأمر كذلك لما تعذر على حاكم ظالم أو عادل وضع وثيقة يخرج بها من جملة المخالفة والمعصية ولو لم يكن لها أثر حقيقي كما تفعل البلاد المستبدة صاحبة الدساتير. ومنذ أبي بكر وعمر –وهما ذروة الخلافة الراشدة- لم يجد الخلفاء أنهم ملزمون بوضع دستور بتلك الصيغة. لهذا فغاية ما يكون أمر الدستور أن يكون من المباح لا من الواجبات ولا الضرورات.
فالحديث عن حضارتنا التي تعاني من "فقر الإجراءات" يمتد ليشمل بالتهمة عصر الخلافة الراشدة على الجملة، فكيف يجوز هذا والخلفاء الراشدون هم القدوة الذين نص النبي على الاقتداء بسنتهم؟!
5. تُساق مسألة كتابة الدستور على أنها مسألة توافقية، يجري فيها التنازلات والتفاهمات، وتصل إلى المشترك المتفق عليه بين الجميع. لم يكن هذا قائما في وثيقة المدينة، إنما كانت الوثيقة صريحة في جعل السلطة والحكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يسع النبي في هذا الأمر إلى توافق، إنما دخل المدينة وهي تكاد تجتمع على ملك هو عبد الله بن أبي بن سلول فأقام النبي نظاما سياسيا جديدا، فلم يفكر في إبقاء إجراءات تنصيب ابن سلول، ولا حتى فكر في مشاركته الحكم، وإنما جاء النظام السياسي النبوي الجديد لينهي كل ما فات، ونصت الوثيقة على هذا الأمر صراحة، فقد ورد فيها "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم". والوثيقة من أولها لآخرها تجعل (المؤمنين) كتلة وغيرهم كتلة أخرى، وهو ما يناقض مفهوم المواطنة الحديث الذي بُنيت عليه الدساتير في الدولة القومية؟
6. مشكلة عصر الاستضعاف الكبرى أن البحث في حلها يتجه إلى اتجاهين كبيرين: إما أن نوفق الإسلام مع الواقع، أو أن نوفق الواقع مع الإسلام. حين ننطلق من تثبيت أهمية الدستور ولزوم وجوده فإننا على الحقيقة نحاول دسترة الإسلام لا أسلمة الدساتير، وهو نوع من حمل الإسلام على التوافق مع ما صار واقعا وتقليدا سياسيا معاصرا، هنا نجعل الواقع حاكما على الإسلام ونلتمس من الإسلام أن يستجيب لما يمليه الواقع من ضغوط! فإن كانت سيرة الدساتير في التاريخ السياسي إنما نشأت في أنظمة لا علاقة لها بالدين (بداية من الوثنيين اليونان، وحتى النظام العلماني المعاصر) فنحن نحاول استنبات زرع لم ينبت لا في تربتنا ولا في تربة شبيهة. إن الدستور هو محاولة وضع نص مقدس في بيئة لا ينطق فيها الإله بشيء، فالإله إما وثن في حضارة اليونان والرومان لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا، والإله محذوف تماما في الحضارة العلمانية ولا يُسمح بوجود مرجعية متجاوز للبشر أصلا.
وقد اصطبغت الدساتير بتجربتها بطبيعة الحال، فالدساتير الحالية هي نص مقدس وُضِع لصيغة الدولة القومية، وهو النموذج الذي انتهت إليه تجربة غربية مريرة ومختلفة في زمانها وطبيعتها، ولا يزال نموذج الدولة القومية في أحسن الأحوال يطرح تناقضات حقيقية مع النظام الإسلامي، بينما يرى آخرون –وهو ما أعتقده- أن النظامين متناقضين لدرجة يستحيل معها التقاؤهم، فإما أن يتنازل الإسلام عن جملة وجمهرة من أحكامه، وفيها المجمع عليه، وإما أن يتغير نظام الدولة القومية فيتخلى عن جملة من ثوابته. وحقيقة الصراع الحالي في العالم هو وجود التناقض الحضاري، فلا يزال الغرب يريد أن يحمانا ويضعنا في نظامه، ولا زالت الأمة تقاوم ولا تقبل به.
7. ثم ها هنا أمر آخر في غاية الأهمية، وقد جعلته في النهاية ليكون خاتمة الحديث كله، ألا وهو: كيف تستمر حضارة مع فقر الإجراءات في أهم أبوابها وهو باب النظام السياسي؟.. إن مجرد بقاء الحضارة الإسلامية ألف سنة وتحكم على الأقل ثلث العالم المعروف لهو دليل على قدرتها وتمكنها من إدارة شؤون الحياة وإمداد الإنسانية بقيم وإسهامات وافرة في سائر المجالات.. فأَنْ يُقال "حضارتنا الإسلامية عانت من وقت مبكر فقرا في الإجراءات" لهو دليل على أن مقياس الفقر والغنى في الإجراءات هو نفسه مقياس يحتاج إلى تعديل وتصحيح لاستيعاب حالة حضارة ظلت ألف سنة في الصدارة! إنها على الحقيقة أزمة تصور لا أزمة الحضارة الإسلامية.
هل معنى هذا أني ضد كتابة دستور على الجملة؟
بالطبع لا، ولكني لا أجعل وجود دستور من عدمه علامة على أي شيء ولا معيارا لأي شيء، ولا أرى وجوده ضرورة ملزمة لأي نظام سياسي.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

ينظر في تفصيل الأمر كتب السيرة الصحيحة مثل: السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري، وصحيح السيرة النبوية لإبراهيم العلي.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 15, 2017 05:09

October 11, 2017

عمَّمهم الله بالبلاء!

ما العلاقة بين السلطة وبين رعاية الأخلاق في المجتمع الإسلامي.. وكيف يمثل هذا افتراقا وتناقضا بين النظام الإسلامي والنظام العلماني.
 كيف تؤثر عقيدة النظام على الأخلاق؟
مهمة السلطة في أي نظام هي الحفاظ على القيم التي يمثلها هذا النظام ويقوم عليها، ففي النظام العلماني مثلا تكون مهمة السلطة هي الحفاظ على الدولة، الدولة تحافظ على نفسها، لأن الغاية النهائية هي الوصول إلى دولة قوية راسخة آمنة مرفهة... إلى آخره!
لهذا يُصمم القانون والتعليم والاقتصاد والثقافة وأجهزة الأمن والجيش بحيث تحافظ على الدولة، ولا تهتم بأي شيء لا يكون له تأثير على الدولة.. فمثلا: فلان يصلي أو لا يصلي، يصوم أو لا يصوم، يزني أو لا يزني، يشرب الخمر أو لا يشرب الخمر.. كل هذا لا يهم، طالما أنه لا يؤثر على النظام وعلى الدولة.
نعم، يمكن للقانون أن يمنع شرب الخمر للسائقين بهدف التقليل من حوادث السير، أما شرب الخمر نفسه فلا ضرر منه على الدولة فلا حاجة للسلطة أن تهتم بتأثير الخمر على صحة الإنسان أو عقله أو أخلاقه.. كذلك الزنا، يمكن للسلطة أن تهتم به من جهة كونه نشاطا اقتصاديا يُدخل أموالا إلى خزينة الدولة، ومن شاء أن يفتح بيتا لممارسة الزنا أن يفعل طالما أنه يلتزم بدفع الضرائب!
بنفس المنطق يسمح القانون للمواطن في النظام العلماني أن يكون مسلما اليوم ومسيحيا غدا وبلا دين بعد غد، وأن يعود متى شاء إلى الدين الذي يشاء لأن هذا لا يؤثر على الدولة نفعا أو ضرا.. بينما يعاقب القانون بشدة من يهين علم الدولة أو دستورها لأن هذه الإهانة تمس مكانة الدولة وهيبتها وقداستها، ويكون الاستهانة بها مؤشرا على التمرد أو الاستخفاف.
ومن يعرفون تاريخ القانون في أوروبا يعرفون أن غرض تطبيق القانون بعدالة إنما كان بغرض جذب الأموال والتجارة والحفاظ على استمرار النشاط الاقتصادي، ولذلك كانت المدن التجارية كجنوة والبندقية وفلورنسا هي أوائل المدن التي طبقت فيها القوانين بنزاهة.. فيما لم تحاول تلك البلاد تطبيق أي قانون عادل في مستعمراتها، بل سمحت لنفسها بنهب الدول المستعمرة وبقتل الناس واستعبادهم، دون أن تشعر بتأنيب ضمير أو تناقض.
النظام الأخلاقي الإسلامي
يصف ابن خلدون السياسة –غير الإسلامية- بأنها على نوعين؛ الأول: نظام مستبد يخدم الطبقة الحاكمة، ويسميه الملك الطبيعي، ويعرفه بأنه "حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة". والثاني: نظام يتمتع بنوع عدالة ورشد وهو "حمل الكافة علي مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار". وأما النظام الإسلامي الذي هو الخلافة فهو:
"حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الاخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"
وهكذا يهتم النظام الإسلامي برعاية الأخلاق بين الناس، بما فيها تلك الأخلاق التي لا تؤثر على نظام الدولة، فالسلطة الإسلامية تعمل على حراسة المجتمع نظيفا من الفساد والانحلال الأخلاقي. ليس لكون هذا يؤثر على نظام السلطة بل لكونه يفسد المجتمع، وهو مستجلب لغضب الله وبلائه.
في خطبته الأولى قال أبو بكر: ولم تظهر الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء.
فكان هذا منه تحديدا لواجبات الإمام في محاربة الفاحشة، حفاظا على المجتمع من الفساد الذي يأتي بالبلاء.. وكان نهج الراشدين أنه طالما كانت الذنوب مستترة لا تصل إلى السلطة ولا تظهر في المجتمع فليس من صلاحيات السلطة التجسس على الناس ولا هتك سترهم، ولكن المحظور المحرم أن يكون للفاحشة ظهور بين الناس.
وحرص الخلفاء الراشدون على أخلاق المجتمع، فمن ذلك أن عليا أنكر على من لا يتحرزون أن تخرج نساؤهم إلى الأسواق فيزاحمن الكفار الذين لا يرعين أخلاق التعامل مع النساء، قال: ألا تستحيون أو تغارون؟ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج.
ونادى علىّ ذات يوم على المنبر فقال: سلوني، فقال رجل: أتؤتى النساء في أدبارهن؟ فقال: سفلت سفل الله بك، ألم تر أن الله تعالى يقول: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ}.
إقامة الحدود
وقد أقام الخلفاء الراشدون العقوبة على من زنا أو شرب الخمر أو تهتك وتخنث..
1. فقد سجن عمر من يقعون في أعراض الناس ويهجونهم كما فعل مع الحطيئة الشاعر الهجَّاء، ولم يطلقه من سجنه إلا لما اشترط عليه ألا يهجو مسلما وأعطاه مالا كي لا يُضطَّر أن يهجو أحدا ابتغاء المال، فاشترى منه بهذا المال أعراض المسلمين.
2. وأمر عمر بحلق شعر نصر بن الحجاج ونفيه من المدينة لتخنثه وغزله بالنساء، وقُضِي على رجل اتخذ حانوتا لبيع الخمر بإغراق الحانوت.
3. ولما أتي علي بالشاعر الحارثي النجاشي وقد شرب الخمر في رمضان، ضربه ثمانين جلدة ثم حبسه، فأخرجه الغد فضربه عشرين جلدة ثم قال له: إنما جلدتك هذه العشرين بجرأتك على الله تعالى، وإفطارك في رمضان.
4. وأُتِيَ أبو بكر بمن زنا واعترف على نفسه ولم يكن متزوجا فجُلِد ونفي، ولم يجلد الجارية لأنها كانت مُستكرهة.
5. وأما من كان متزوجا أو كانت متزوجة ووقع في الزنا فإنه يُرجم، وقد وضح علي رضي الله عنه كيف يكون الرجم، وهو أن يُصَّف الناس كوقوفهم في الصلاة، فإن كان الزاني قد اعترف بدأ الإمام برجمه ثم يمضي فيأتي الصف الأول فيرجم ثم يمضي ثم الصف الثاني.. وهكذا، وأما إن كان الزنا قد ثبت بشهادة أربعة فإنهم يكونون أول من يرجم ثم الإمام ثم باقي الناس.
6. ولا يوقع الحد على المرأة إن كانت مستكرهة أو كانت مضطرة كأن ألجأها الجوع والعطش إلى الزنا، وقد حدث مثل هذا في عهد عمر حين نفد الماء من امرأة وهي ترعي في الصحراء فلجأت إلى من يعطيها شربة ماء فمنعها حتى تمكنه من نفسها، فأبت، فلما شعرت بالهلاك مكنته من نفسها، فكان هذا عذرها الذي رفع عنها إيقاع الحد.
7. وكان يؤجل الحد على المرأة الزانية حتى تضع حملها، وأحيانا حتى يشب ولدها ويستغني عن الرضاعة منها.
8. وفي عهد علي وقع أن زنى مسلم بنصرانية، فأقام على المسلم الحد، وسلَّم النصرانية لأهلها يحاكمونها على مقتضى شريعتهم.
9. ولا يوقع الحد إلا بعد التأكد من وقوع الزنا بمعناه الكامل، فيُسأل الرجل وتُسأل المرأة بدقة عما وقعا فيه، ثم يجري التأكد من أنه كان فعلا اختياريا بغير اضطرار ولا إكراه.
10. ومن العجائب المثيرة للإعجاب في شخصية الفاروق هو توقعه ما قد حصل بالفعل في زماننا هذا، أن قوما يستشنعون عقوبة الرجم، فقام يوما خطيبا فقال:
"إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف"
حفظ أعراض من أخطأوا
لم تكن الدولة الإسلامية تقيم الحدود بغرض العقوبة والانتقام، بل بغرض التطهير والتكفير، وأصل هذا ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين أقام الحد على ماعز والغامدية، فمنع أن يسبهما أحد، وقال عن الغامدية "لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لوسعتهم".
وتكرر الموقف في عهد الراشدين، ويروي شاهد عيان في عهد علي فيقول: "كنت مع علىّ حين رجم شراحة فقلت: لقد ماتت هذه على شر حالها، فضربني بقضيب، أو بسوط كان في يده حتى أوجعني فقلت: لقد أوجعتني، قال: وإن أوجعتك، قال: فقال: إنها لن تسأل عن ذنبها هذا أبدًا كالدَيْن".
ومع أنه لا تهاون في إقامة حد من حدود الله، إلا أن الدولة الإسلامية لا تشتهي فضح الناس أو هتك سترهم، بل لا تُنزل العقوبة إلا بمن ظهرت منه الفاحشة.
1. وفي عهد عمر خطب أمير اسمه شرحبيل بن السمط الكندي، وكان يتولى مسلحة (أي: منطقة حراسة حدودية عند الثغور مع فارس) في جنوده فقال: "أيها الناس، إنكم في أرضٍ الشرابُ فيها فاشٍ (يعني الخمر فيها منتشر)، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حداً فليأتنا فلنُقم عليه الحد، فإنه طهوره". فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: "لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم".
2. وجاء رجل من اليمن إلى عمر فأَسَرَّ إليه أن ابنة أخيه قد وقعت في الفاحشة، فقال له عمر: "لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه"، وقال عمر لرجل آخر في حالة مماثلة: "أنكحها نكاح العفيفة المسلمة".
3. وقد قيل لابن مسعود وكان يتولى القضاء على الكوفة في عهد عمر، "هذا فلان تقطر لحيته خمرا". فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به".
وأما في حالات الاغتصاب فقد كان القضاء في عهد الراشدين يبرئ المرأة التي قتلت من اغتصبها أو حاول اغتصابها، فقد تنكر شاب يوما في ثياب فتاة واستطاع التسلل إلى امرأة فاغتصبها وهي نائمة، فقتلته، فبرأها القضاء، وبرأ أخرى قتلت رجلا دفاعا عن عرضها.
أثر الاحتلال في نشر الفاحشة
المجتمع العفيف مجتمع سوي متماسك، الفاحشة فيه نادرة ومنبوذة، وكان هذا مما انتبه له المحتلون حين نزلوا بلادنا، لذلك كان من خططهم الأساسية نشر الفاحشة في بلادنا، وهذا مصداق قول الله تعالى:
(والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم، وخُلِق الإنسان ضعيفا)
وحصل تركيز كبير على موضوع المرأة في بلادنا المحتلة، لأن إفسادها يُسهِّل إفساد المجتمع وإنشاء جيل مرتبط بشهواته، والإنسان الذي هو أسير شهوته يكون على الحقيقة أسيرا لمن يملك تحقيقها له حتى لو كان المحتل الذي هو عدوه وعدو دينه وأمته.
أول احتلال حصل في قلب العالم الإسلامي كان الحملة الفرنسية على مصر، وأخرج الفرنسيون نسائهم متكشفات متهاونات يداعبن الرجال ويضاحكنهن، ثم كانوا إذا أسروا المصريات بعد معارك المقاومة يأخذونهن، وبالذات الصغيرات، فيجعلونهن كالفرنسيات.. وسهَّلوا سبل الاختلاط والاحتفالات،  وعملوا على التزوج من بنات الإعيان بعد إشهار إسلامهم صوريا، ووجدوا من مرضى القلوب والنفوس من اعتقد أن الأمر استتب للفرنسيين فأراد بتزويجهم أن يحظى ببعض السلطان والجاه.
وأما الاحتلال الإنجليزي فقد كانت له آثار عميقة في تدمير الحياة الاجتماعية، حتى إن المؤرخ الإنجليزي تيموثي ميتشل وهو يتحدث عن استعمار مصر يرصد أنه خلال عشر سنوات تضاعف عدد المقاهي والبارات وصالات القمار أكثر من ثلاثة أضعاف، وانتشرت في مصر ظواهر اجتماعية جديدة مثل "إدمان الكحول، وإدمان المخدرات، والزنا والمرض، والجنون"، وحتى الكتب المنتشرة أخذت تغزوها القصص البذيئة التي حرصوا على طباعتها ونشرها، وتأثرت الحياة العائلية حيث شرع الرجال في قضاء نهارهم أو كل أمسياتهم في أكثر المقاهي سيئة السمعة، حيث تسليهم النساء ويحكي الرجال حكايات عن "دون جوان"!
وظلت هذه عادة الاحتلال في بلادنا حتى آخر فصوله، كما في أفغانستان والعراق حيث تنطلق حملات تحرير المرأة وتوفير الفعاليات والمؤسسات المهتمة بصناعات الترفيه والفنون والإباحيات.
ولذلك لا تزال القرى والبوادي، وهي المناطق التي كانت أضعف في تأثرها بالاحتلال، أفضل من المدن في الأمن وفي الأخلاق عموما، وفي تقرير اليونسيف الصادر عام 2012 تتحدث الإحصائيات عن أن انتشار مرض الإيدز في المناطق الحضرية أعلى منه في المناطق الريفية، وكان السبب الرئيسي هو ارتكاب الفاحشة، حتى بلغ عدد المصابين به أكثر من مليونين من الشباب بين العاشرة والتاسعة عشر عاما.
لا يزال الاحتلال يسير على الوصايا القديمة لكبار المنصرين، ومنذ 85 عاما قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين المنعقد عام 1935م:
"إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً ، إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله ، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق... مطابقاً لما أراده له الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة، والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى أصبحت الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات .. إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات".
خلاصة
أليس من العجيب أن 90 بالمائة من الإنتاج الإعلامي في بلادنا يناقش مسائل الحب والعشق؟
أليس من الملفت للنظر أن 99% من الأغاني في بلادنا تتحدث عن نفس هذا الموضوع؟
أول ما يُطرح من أسئلة أمام الإسلاميين في الانتخابات: ماذا ستفعلون في الخمر والسياحة العارية والحجاب والملابس القصيرة رغم أن بلادنا مثقلة بالمشكلات الكبرى العميقة، كأن بلادنا ستنهار إن توقف فيها بيع الخمر أو فقدت السائحات العاريات؟
الواقع أن الحضارة الغربية خربت الأخلاق، حتى إن موضوع الأخلاق نفسه صار أمرا مشكوكا فيه، حتى القرن التاسع عشر الميلادي كان علم الأخلاق يبحث في المبادئ وترتيبها واستنباطها وأهميتها للحياة بما يعني التطلع إلى مثل أعلى ومثل عليا للسلوك تعين على فعل الخير والابتعاد عن الشر، وبهذا كان علم الأخلاق من العلوم المعيارية؛ بمعنى أنه لا يدرس ما هو كائن، بل ما ينبغي أن يكون، ثم ظهرت في فرنسا مدرسة من علماء الاجتماع نظرت إلى علم الأخلاق باعتباره تفسير ما هو كائن، لا معيارا لما ينبغي أن يكون، وبهذا تحولت الأخلاق لديهم إلى "القواعد السلوكية التي تسلم بها جماعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ"، فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام أي نزعوا عنها القداسة والاحترام.. تحول الأمر كما يقول شوبنهاور إلى أن يكون علم الأخلاق هو مجرد وصف: "علم الأخلاق يصف أخلاق الناس مثلما يصف التاريخ الطبيعي خصائص الحيوانات"
وظهر في الفلسفات الغربية من يحتقر الأخلاق ويقدس القوة، ويرى أن أعظم عيوب الإنسان هي الرحمة، وأنه يجب إفناء الضعفاء والمرضى والمشوهين لأنهم لن يفيدوا المجتمع، وأن هؤلاء ينبغي عليهم أن يساعدوا المجتمع على إبادتهم وإفنائهم.. ومن الطبيعي أن تصل أي فلسفة مادية علمانية لا تؤمن بالله إلى هذه النتيجة التي قالها فيلسوف العدمية ألبير كامي: "كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت".
ونختم بقول الباحث والروائي الإنجليزي المتخصص في الإسلام، والذي ترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية، مرماديوك باكتول:
"إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول، لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم"

نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 11, 2017 04:36

October 4, 2017

ضربهم الله بالذل!

هل تعلم أن كل هزيمة نكابدها الآن هي أثر من آثار توقف الجهاد قبل أكثر من قرنين من الزمان على الأقل؟! وكلما توقفنا كلما زادت الفجوة العلمية والعسكرية والسياسية بيننا وبين عدونا، وكلما زادت كلما كانت عملية تضييقها أصعب وأصعب وأصعب، وكلما كان الثمن المدفوع فيها أفدح وأعلى وأكبر؟!
أمتنا الآن تدفع الثمن.. وستظل تدفعه حتى يعتدل بالجهاد ميزان القوة، فحينها تُعصم دماء أبنائها وتحفظ مدنها وقراها ومواردها!
نحن لا ندفع الثمن لأننا أخطأنا في حق النظام الدولي، أبدا.. نحن ندفع الثمن لأننا ضعفاء فحسب! العراقيون لم يستفزوا الأمريكان حتى احتلوهم، الإخوان في مصر اجتهدوا في سحب كل ذريعة لئلا يحدث انقلاب، حماس لم تسمع منها رغم كل الحصار كلمة سيئة في حق مصر أو السعودية أو الأردن (وهم رأس الحربة في حصارها وتجويعها وقتلها)، ولم تتبن الجهاد العالمي بل التزمت بالحدود ولم تتدخل في شأن دولة أخرى لكي لا تهيج على نفسها عداء جديدا.. المسلمون في بورما لم ينفذوا تفجيرات في البوذيين، المسلمون في إفريقيا الوسطى لم يهددوا نظام الدولة، المسلمون في تركستان الشرقية ممنوعون حتى من التعليم والعبادة ويُجبرون على تزويج المسلمة من الصيني.
وسيظل كل ضعيف يدفع الثمن من ضعفه ودمه حتى يقوى فتتغير المعادلة.  
في الخطبة الأولى للخليفة الأول أبي بكر الصديق، والتي كانت أصول النظام السياسي في الإسلام، قال أبو بكر: "لم يدع قوم الجهاد في سبيل الله، إلا ضربهم الله بالذلّ"
أبو بكر شاهد عيان
كان أبو بكر شاهد عيان على تاريخ الإسلام منذ يومه الأول، عاش تكوين المجموعة المسلمة الأولى، ثم رأى وعاين فترة التعذيب والإيذاء والحصار، وأوذي في نفسه، وبذل ماله لتحرير المسلمين وإنقاذهم من التعذيب، ثم هاجر مع النبي ورأى نزول الوحي بالبشرى الكبيرة: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد}، وسمع النبي وهو يبشر سراقة بن مالك بأغرب بشارة: "كيف بك يا سراقة وقد لبست سواري كسرى؟!"
وبعد الهجرة نزل الإذن بالقتال، فكان أبو بكر ممن سمع هذه الآية: {أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور}
وتنفيذا لهذه الآية بدأت حركة الجهاد في الدولة المسلمة، وشهد أبو بكر المشاهد –أي: المعارك- كلها مع رسول الله، فشهد تطور حال جماعة المسلمين من الاستضعاف إلى التحرر، ومن التحرر إلى العزة والتمكن وفتح الأنحاء، حتى ختمت حياة رسول الله وقد جاءته الوفود تعلن البيعة والطاعة لقائد الدولة المسلمة، ومات رسول الله وهو يوصي بإنفاذ جيش أسامة الذي سيخرج لمقاتلة الروم: القوة العظمى في العالم آنذاك.
وهكذا منذ الآية الأولى التي نزلت للإذن بالقتال حتى اللحظة الأخيرة من حياة رسول الله كان الجهاد أصلا أصيلا من مهمات الأمة الإسلامية، تقوم به السلطة الشرعية وتنظم شؤونه، ولا يردُّها عنه ما تلقاه من الأذى فيه، تُقِيمه لتحرير الناس وإنقاذهم من سطوة وسلطة الباطل، ولحماية الدولة الإسلامية التي تقيم الدين وتحفظ الشريعة. وبالجهاد تحول المسلمون من مستضعفين في مكة لا يملكون دفع الأذى عن أنفسهم إلى الدولة القوية المهابة التي تأتيها القبائل طائعة مبايعة.
هذا ما استوعبه أبو بكر والخلفاء الراشدون، وهذا ما سارت عليه سياستهم!
2. هل مجرد وجود الحق يكفي للهداية؟
لو أن الناس يهتدون بمجرد بيان الحق لما احتاج النبي أن يحمل السيف، بل ولما احتاج أحد من المصلحين أن يجاهد ويعاني، بل ولاختفى من التاريخ الإنساني كافة مظاهر العشيرة والعصبية والعائلة والقبيلة، ولما ظهر في الدنيا شيء اسمه "دولة" أو "امبراطورية" أو "نظام عالمي". لو أن الناس يهتدون بمجرد بيان الحق لما احتاجت الدول إلى أجهزة أمن واستخبارات وجيوش، ولا كان في الدنيا سلاح وقتال وعساكر ومعدات حربية وأسلحة فتاكة. كانت أي مشكلة ستُحل بمجرد بيان الحق فيها!
لكن كل هذا ظهر، لأن الحقيقة أن مجرد بيان الحق للناس لا يعني اهتداؤهم إليه، الحقيقة ببساطة تقول أن مجرد "وجود" الحق وحده لا يكفي! والإنسان يعلم من نفسه وذاته أنه لا يلتزم بكل ما يعرف أنه الحق، بل ربما ارتكب الذنب والخطيئة والجريمة وهو يعلم أنه ذنب وخطيئة وجريمة. إن الذين لا يستسلمون لرغباتهم ويكبحون جماح أنفسهم وشهواتهم وطغيان نفسهم إنما هم القلة الفاضلة، بينما الكثرة الغالبة لا يردعها عن الخطيئة والجريمة إلا العجز والخوف من العاقبة والعقوبة.
الإنسان مسرح لمهمة الشيطان الذي قال {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، والمفاجأة أن غالب البشر ينجح معهم الشيطان {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
فإذا كان ذلك في الإنسان نفسه، فهو في حالة الدول أشد وأخطر، إذ هي مظنة اجتماع الشهوات والرغبات والمطامح والمطامع، وشهوة المُلك والسلطة أقوى من شهوات الفرد بنفسه، وفي سبيل الملك يقتل الرجل ابنه أو أباه أو أخاه فضلا عن أبناء عمومته وأهل عشيرته، فأما قرار قتل الناس فهو أسهل ما يأخذه المتسلط تمكينا لحكمه وإرساء لملكه، وإذا كان قرار قتل الأقربين سهلا فكيف بالإغارة على الأباعد؟! وإذا كانت المؤامرة تدبر للتخلص من الأقوياء والأذكياء فكيف إذا كان الخصم ضعيفا مهيض الجناح سهل المأخذ؟! وإذا كانت رابطة الدم والعصبية وسنوات الوداد والوصال وأزمان العشرة والصحبة والفضل القديم، إذا كان كل ذلك لا يقف مانعا أمام رغبة فاسدة، فكيف نتوقع أن يكون الوعظ والبيان والنصح كافيا في تغيير الحال وردع المجرم وكبح جماح الفساد؟!!
3. الجهاد علاج.. وآخر الدواء الكي
قد يبلغ الجرح من الفساد ما لا يكون له دواء إلا الكيّ، وقد يبلغ المرض من التمكن ما لا يكون علاجه إلا البتر، وكذلك الفساد في النفوس والعقول والأمم قد يبلغ حدا لا يصلح له إلا الحسم!
إن ضلال النفس قد يحمل على غرائب مدهشة؛ فإن هؤلاء الذين عبروا البحر بمعجزة كونية هائلة، بجسر تكون فعبروا عليه ثم تلاشى فأغرق عدوهم، هؤلاء لم يلبثوا إلا قليلا حتى قالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ولو لم يكن عندهم نبيهم الذي ردعهم بقوة وحسم لاتخذوا صنما وعبدوه في تلك اللحظة!
بل ذلك ما فعلوه حين غاب عنهم أياما {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}، ولم ينفع معهم حينئذ وجود نبي الله هارون فلقد استضعفوه حتى أوشكوا أن يقتلوه، وما انتهى الباطل إلا حين أتى موسى النبي القوي المُهاب فحرق العجل ونسفه، ثم لم يكن علاجهم إلا بعقاب شديد {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}.
هؤلاء الذين تمنوا عبادة صنم واتخذوا عجلا صنعوه بأيديهم، قالوا لنبيهم {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}، فانظر كيف اعتنقوا ما هو شديد البطلان ثم يمتنعون عن الإيمان بمن أنجاهم بالمعجزات وأنعم عليهم بالخيرات إلا أن يروه جهرة، ولم تكن العقوبة إلا حسما شديدا {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
وكم في ضلالات الناس من غرائب نراها صبحا وعشيا، لا سيما في زمان الإعلام الفاسد الذي يحيل الناس إلى كائنات عجيبة، يحبون من يقتلهم ويستبد بهم، ويبغضون من يكافح عنهم ويعمل لخدمتهم، وتنغلق عقولهم وقلوبهم أمام حقائق الحياة البسطية فلا يعرفون ما ينفعهم مما يضرهم، حتى لتبدو لهم أغلال الطغيان فخرا مجيدا، ويغدو من يحاول الخروج منها متمردا عنيدا!!
تجد المرء يرى قتل الآلاف في يوم واحد عملا جميلا، بينما ردة فعل واهنة قتلت واحدا أو جرحت غير واحد (دفاعاً عن النفس) عملا إرهابيا مجرما.!! تراه لا يهتز لمذابح المسلمين في كل مكان بينما يهتز لعملٍ مُقاوِمٍ فيهتف ضد الإرهاب!! وعلى رغم أن المسلمين هم المُعتدى عليهم في كل مكان، وهم المستباحة دماؤهم فلا يكاد يرى إرهابا إلا هم، وتصل القناعة حدا يصير عقيدة راسخة تذهب دونها كل الحقائق، ومثالها ذلك الجندي الإنجليزي الذي قتل إفريقيا ثم نظر في دهشة إلى زملائه وصاح متعجبا "يا له من همجي؟! تصور أنه عضني وأنا أقتله"!!
فإذا بلغ الضلال في النفوس إلى هذا الحد، فبأي شيء ينفع الوعظ والنصح وبيان الحق؟! {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
4. ضرورة القوة للحق
قد يتبين الحق، لكن النفوس لا تقبله رغم اعترافها بأنه الحق.قد يكون لمجرد الكبر {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.وقد يكون لطغيان الشهوة {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.وقد يكون لطغيان العادة {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.وقد يكون اتباعا للمنافع التي ارتبطت بوجود الباطل والفساد {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}، فانظر كيف اعترفوا أنه "الهدى". وفي كل الأحوال، فما دام الحق ضعيفا فلن يستجيب له إلا أولئك القلة النادرة الفاضلة، فيما يكون الرد التلقائي على نحو قولهم:§         {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. §         {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.§         {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.§         {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}.§         بل قد يبلغ التحدي والكبر مبلغا غريبا {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وانظر إلى بني إسرائيل الذين شهدوا معجزات الله كيف لم ينضبط أمرهم إلا حين كانت تظللهم العقوبة، وذلك حين رفع الله فوقهم جبل الطور حتى كانوا يخشون إذا عصوا أن يقع عليهم، ثم لم يبلغوا شأنا إلا حين كانت أنبياؤهم ملوكهم كداود وسليمان عليهما السلام، وكما في الحديث: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي".
أما حيث كان أنبياؤهم غير ذوي سلطان فلقد كان حالهم {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} وحيث لم يكن عليهم سلطان قاهر فقد بلغوا في الاستهزاء والاستخفاف أن قالوا {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي مغلقة، بل تجرؤوا أن يقولوا لأمر الله {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، وأن يحرفوا في دين الله ويجاهرون بالتحدي {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}.
لكل هذا كان لابد للحق من قوة، وإلا حاربه أقوام وفيهم من يعرفون أنه الحق لمخالفته شهواتهم وعاداتهم ومصالحهم، ولقد كان أهل الكتاب يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، وكان كفار قريش يعرفون في النبي الصدق والأمانة، لكنهم كذبوه وحاربوه وكادوا أن يقتلوه! فلولا أن وقفت للحق سيوف تحملها الألوف لما انتفع أهل الحق بمجرد حمله ولا أثمرت جهودهم في بيانه والدعوة إليه.
5. الجهاد: إجماع الخلفاء الراشدين
لقد رأى الراشدون في حياتهم نماذج الذين يرفضون الحق لأنه يضاد مصالحهم وشهواتهم، حتى أنهم لما جاءهم الحق الواضح من الصادق الأمين لم يتبعوه بل لقد ساوموه على ترك هذا الدين الذي يهدد سلطانهم بأن يعطوه ما شاء من الأموال أو يزوجوه ما شاء من النساء أو يمنحونه ما يشاء من السلطان، فلما أبى صلى الله عليه وسلم انهالوا على أصحابه بالتعذيب الشديد الذي وصل إلى القتل.
وقد علم الراشدون بما قرؤوه من كتاب الله وبما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وذرورة السنام هي أعلى شيء فيه!
وقد تقرر الجهاد لحماية المؤمنين، فالضعفاء الذين لا قوة لهم يأكلهم المبطلون والمفسدون، يستعبدونهم ويضطهدونهم ويُخضعونهم لباطلهم وفسادهم، كما قال الله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا"
فالجهاد حماية للمسلمين، ولنقلهم من الاستضعاف والاستعباد إلى القوة والمكانة والسيادة، فالمسلمون بغير قوة لا مكان لهم في هذا العالم، فمن لا يستطيع الدفاع عن نفسه لا يستطيع أن يقرر شيئا لنفسه، والذي يختار الضعف يختار أن يكون فريسة للأقوياء من حوله.
والجهاد أيضا حماية لكل الضعفاء والمظلومين من البشر، ولهذا فهو عدو لكل الطغاة والمستبدين، وهذا ما كان يستوعبه سفراء الجهاد في تاريخنا، حيث قال ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس قبيل المعركة الفاصلة في القادسية، هذه العبارات القوية الواضحة الفصيحة: "لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
ولهذا فالمسلمون أعداء لكل طاغية ومستبد، وأنصار لكل مظلوم ومضطهد، وهم مشروع تحرر لأنفسهم وتحرير للبشر أجمعين. وقد فهم المحتلون هذا في ديننا فعملوا بكل جهودهم حين نزلوا إلى بلادنا على حذف الجهاد من عقول المسلمين، فلقد ادعى نابليون أنه مسلم وأنه صديق للسلطان العثماني لكي يتجنب إعلان المسلمين الجهاد عليه في مصر، وادعى الإنجليز أنهم لم ينزلوا محتلين وإنما كأصدقاء وأنهم يسلِّمون بحق السلطان العثماني في مصر، بل إن الإنجليز في الهند جعلوا بعض عملائهم قيادات لجماعات ومذاهب دينية تنبذ الجهاد وتتحدث عن السمع والطاعة لولي الأمر حتى لو كان الحاكم هو الاحتلال الأجنبي نفسه، أو كان واحدا من عملائه يحارب الإسلام صراحة. ولا تزال مناهج التعليم ووسائل الإعلام في العالم الإسلامي –الذي ما يزال فعليا تحت هيمنة الاحتلال الأجنبي- تحذف الجهاد والمجاهدين وتطمس سيرتهم وتشوههم، وتتحدث عن هذه القيم كأنها "تطرف" و"إرهاب" و"تشدد" و"أصولية".. إلى آخر هذه المصطلحات التي يُقصد بها نزع روح الجهاد من هذه الأمة.
وإذا نظرنا في صدر تاريخنا الإسلامي فسنجد أن النبي وصحابته الكرام جاهدوا لثلاثة أهداف على ثلاثة مراحل:
1. جاهدوا لإنشاء الدولة المسلمة وتأمينها وحمايتها، كما هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم منذ الهجرة إلى المدينة وحتى وفاته.. أحد عشر عاما من الجهاد المتواصل، لا تكاد تمضي سنة بغير غزوة كبرى أو غزوتين كبريين فضلا عن السرايا الصغيرة.
2. ثم جاهدوا على وحدتها وضد تقسيمها، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه ضد المرتدين ومانعي الزكاة، ثم كما جاهد علي رضي الله عنه وهو الإمام الشرعي ضد من امتنع عن بيعته –ولو متأولا- كي تظل الدولة المسلمة دولة واحدة.
3. ثم جاهدوا لإنقاذ البشر من الطغيان والمظالم الواسعة المنتشرة في فارس والروم، ففتحوا البلاد الواسعة، وأنقذوا العبيد والمستضعفين من استبداد الملوك والقياصرة والأباطرة، وأقاموا لهم العدل، وهذا ما كان في عصر أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
لقد كان عصر الراشدين عصر الوحدة والفتوح، وكانت فتوحاتهم أعجب الفتوحات في التاريخ الإنساني كله، وهي الفتوح التي انبهر لها المؤرخون من غير المسلمين (للتفصيل: انظر المقالات الخمسة: الأول والثاني والثالث والرابع والخامس)، وبغير هذا الجهاد ما كان ليكون للإسلام دولة، وكنا نحن الآن نعبد الأصنام أو نعبد الخرافات والأوهام، أو نعبد الملوك والحكام. إن الجهاد روح هذه الأمة، وهو حامل رسالتها إلى البشر أجمعين.
فالجهاد من إجماعات الخلفاء الراشدين، فهي من سنتهم بل من أقوى سننهم إذ كلهم قام بها وقام عليها، ونحن الآن أحوج لهذا الجهاد من أي وقت آخر، فنحن تحت الاحتلال الأجنبي المباشر أو الاستبداد الأجنبي عبر طبقة الحكام التابعين للاحتلال.

نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 04, 2017 04:04

October 3, 2017

أخطاء أمنية قاتلة!

لعل أكثر الأسئلة التي خطرت ببال أي مسلم هو: لماذا لم ننجح؟! وهو السؤال الذي يبحث عنه كل صاحب تخصص في تخصصه، ومن يطالع قصة وتجارب الحركات الإسلامية سيجد أن واحدا من أهم تلك الإجابات المتكررة في قصة هو: الأخطاء الأمنية!
(1)
بعد نهاية الجهاد الأفغاني وسقوط الاتحاد السوفيتي أعلن الأمريكان أن سياستهم الجديدة هي ملاحقة الإرهاب، تحول الشباب المجاهد في أفغانستان إلى إرهابيين ملاحقين في سائر دول العالم، وأعلنت سياسة إنهاء "الملاذات الآمنة" التي استهدفت تفعيل سائر أجهزة الأمن المحلية للقيام بدورها في تعقب الزعامات الجهادية عبر العالم. وعند إعلان أسامة بن لادن قيام تنظيم "قاعدة الجهاد" تحالفت معه جماعات أخرى كتنظيم الجهاد المصري والجماعة الإسلامية المصرية، فشمل المجهود الأمني العالمي تعقب سائر قيادات هؤلاء بلا هوادة، وألقي القبض على قياداتهم حول العالم من إفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية والغربية معا.
استقر بعض قادة الجماعة الإسلامية المصرية في إيران، حيث وفرت لهم الدولة إقامة محترمة وحراسة شخصية ومعاملة لائقة وكان لهم خط مفتوح مع صناع القرار، ومن بين هؤلاء الشيخ رفاعي طه رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وآخر من بقي حرا من الصف الأول للقيادات. وعلى الرغم من إعلان الجماعة الإسلامية بمصر وقف القتال من جانب واحد وبدء مسار المراجعات والمبادرات، إلا أن هذا لم يُفَعَّل لبقاء رفاعي طه حرا وهو ممن يرفض المراجعات.
تحرك رفاعي طه من إيران إلى السودان في مهمة تنظيمية، بجواز سفر لا يحمل اسمه بطبيعة الحال، وصل من إيران إلى سوريا، أعفى حارسه الشخصي الإيراني من مهمة حراسته (فهو حارس، وفي الوقت نفسه رقيب)، واستعمل جوازا آخر سافر به إلى السودان، ثم عاد به من السودان إلى سوريا، ونزل في مبنى للسكن المفروش المؤقت. كانت لديه مشكلة بسيطة: زمن تأشيرته على الجواز الذي يستعمله في الخروج والدخول إلى إيران انتهى ويحتاج تجديده، فاتصل بأسرته في طهران وأخبرهم بأن يتواصلوا مع الأخ (فلان) ليُنجز المطلوب، فإن أنجزه فليتصل به على رقم الغرفة في المبنى الذي ينزل به.
ما إن وضع سماعة الهاتف حتى انزعج وعاتب نفسه: لا بد أن هاتف بيته في طهران مراقب، وهو هكذا كشف عن مكان إقامته في سوريا بالتحديد. نزل به همٌّ شديد ولم يدر ماذا يفعل؟ فقرر ألا يبيت في مكانه، فذهب إلى صديق له بمخيم فلسطيني ليقضي عنده تلك الليلة ويستشيره فيما يفعل. عرض عليه صديقه أن يبيت عنده ولا يعود إلى السكن وهو سيرسل من عنده شابا يحزم الأمتعة ويعيدها إليه دون أن يتعرض هو للمخاطر. وبعد ليلة جيدة ذهب عنه الروع فيها، عنَّ للشيخ رفاعي أن يذهب بنفسه إلى السكن ليحزم بنفسه أمتعته، فمنها ما لا يحب أن يحزمها غيره، أصر عليه صديقه ليبقى تجنبا للخطر، وأصر هو على الذهاب بعدما زال الخوف عنه.
بعد دخوله الغرفة بدقائق فوجئ بطرقات على الباب، رجلان يقولان أنهما من الشرطة السورية وأن هذا البيت صدر قرار بعدم تأجيره لمخالفات قانونية ارتكبها صاحبه، وحيث أن الضحية ضيف على البلد فإنهما سيصححان غلط المواطن السوري وسيصطحبان الضيف الزائر إلى مكان بديل. لم يقع شك في نفسه أنه قد وقع في المحظور وأنه في حكم المعتقل. ألح من جهته أن الأمر لا يستحق، وألحا من جهتهما أنه لا بد من تصحيحهما الخطأ، تركوه لدقائق يحزم أمتعته ثم ساقوه إلى سيارة أنزلته في جهاز الأمن بالعاصمة دمشق.
عند بداية دخوله على المحقق وجد أن هويته قد انكشفت، خاطبه مباشرة باسمه: رفاعي أحمد طه، وبصفته: رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وحيث كان قرار القبض أمريكيا فلم تُجْدِ شيئا العلاقة الطيبة بينه وبين إيران. ومن جهاز الأمن إلى رحلة تحقيق وتعذيب لم تستمر طويلا، ثم خمسة عشر يوما في الحبس مع وعد بالإفراج القريب.
بعد مناورات أمنية هدفت إلى إقناعه بأنهم سيُفرجون عنه، خرج من السجن معصوب العينين إلى سفينة مصرية عليها ضباط المخابرات المصرية، موهمين إياه أنه على سفينة أجنبية ستقله إلى دولة أوروبية، وأنه حين يخرج من المياه الإقليمية سيرفعون العصابة عن عينه والقيد عن يديه، ثم جرت تمثيلية أمنية هدف إلى إيهامه أن مجموعة مصرية اعترضت السفينة في البحر واختطفته منها، وأعيد إلى مصر (إبريل 2001م)، وقضى في السجن أحد عشر عاما، حتى خرج في (سبتمبر 2012م) في عهد الرئيس مرسيخطأ أمني كلف أحد عشر عاما من السجن! فضلا عن الآثار غير المحصورة لوقوع شخصية قيادية في الأسر وغيابها عن الواقع!
(2)
لعل أشهر وأخطر خطأ أمني في تاريخ الحركات الإسلامية هو ما عُرف بقضية السيارة الجيب، وبها سقط النظام الخاص للإخوان المسلمين، وهو الجهاز الذي استطاع الحفاظ على سريته وكفاءته مدة طويلة في ظروف عمل حرجة للغاية.
تلك الضربة الكبيرة التي أسقطت أقوى حركة إسلامية في وقتها كانت نتيجة عدد من الأخطاء الصغيرة التي لا يُنتبه لها.. والقصة بدأت من أن طالبا في كلية الطب قد خصص غرفة من منزلة لتجميع أوراق ووثائق النظام الخاص (أسماء وتدريبات وتقارير ورصد أهداف... إلخ)، ثم اضطرته ظروف الدراسة إلى الانتقال من القاهرة إلى الإسكندرية فأفضى إلى مسؤوله بضرورة أخذ "العهدة":
1. كان الخطأ الأول هو التسويف في نقل العهدة، فقد ظل طالب الطب يُلح على أخذها وينبه لاقتراب الوقت، والمسؤول يسوف ويؤجل حتى لم يعد على سفره إلا يوم واحد. فأصدر المسؤول أمرا لأحمد عادل كمال أن ينقل تلك المحتويات اليوم بأي وسيلة من مكانها إلى مكان آخر آمن.
2. وجد أحمد عادل نفسه فجأة مسؤولا عن عمل خطير بلا أي أدوات، ولا تعليمات واضحة.. وبينما هو في حيرته "صادف" أحد إخوان النظام الخاص وقد اشترى سيارة جيب من مخلفات الجيش الإنجليزي، فعرض عليه نقل المحتويات بها فوافق.. إلا أن موتور السيارة كان ضعيفا ويتوقف أحيانا، كما أن الحمولة المراد نقلها كانت فوق طاقتها.. لكن لم يكن ثمة بديل.
3. لتضارب الترتيبات وفجائيتها تضاربت مواعيد اللقاء بين أحمد عادل كمال مسؤول عملية النقل وبين إبراهيم محمود صاحب المنزل الذي ستُنقل إليه الأوراق والوثائق، كانت المفاجأة التي لم يعرفها مسؤول عملية النقل أن إبراهيم يسكن في شقة مستأجرة بمنزل رجل يريد أن يُخرجه منها ليزوج ابنته فيها.. الزوج المنتظر هو مخبر في البوليس السياسي! فبينما هم يفرعون الحمولة في شقة إبراهيم رآهم المخبر وارتاب في محتويات الحمولة المنقولة، وهرع من فوره للإبلاغ عنها.
4. انتبه الناقلون إلى اختفائه المفاجئ، ومع العداوة القائمة بينه وبين صاحب الشقة كان سهلا أن يتوقعوا منه الشر، فأعادوا بسرعة نقل الأوراق والوثائق إلى السيارة الجيب من جديد ليبتعدوا بها.. إلا أن السيارة ذات الموتور الضعيف والتي كانت الحمولة فوق طاقتها لم تستجب للتشغيل ولم تَدُرْ وظلت راقدة في مكانها وهي تحمل أخطر وثائق لأخطر حركة في مصر كلها!
5. حضر المخبر فاكتشف أنهم يحاولون العودة، فصرخ عليهم وصرخ في الناس، فلم يجد أولئك بديلا إلا الهرب في الموقف الحرج.. فتركوا ما في السيارة وانطلقوا هاربين، إلا أن الناس أمسكت بهم، وأمسك المخبر بالسيارة الجيب ذات الكنز الهائل من الوثائق. ووقع في يد السلطة الملكية المصرية أسرار خطيرة ما كان لها أن تحصل عليها في يوم واحد!
وهكذا انكشف النظام الخاص للإخوان المسلمين، والذي هو أنضج تجربة أمنية عسكرية لحركة إسلامية في مصر حتى وقتنا الحالي فيما نعلم.
هاتان واقعتان فحسب يرصدهما من يقلب كتب التاريخ، لا في كتب الأمنيين ووثائقهم، ففي تلك الكتب مادة غزيرة لا شك، وتلك المواد لا بد لكل كيان ثوري وحركة تغييرية أن تدرسها بعمق وأن توظف خبرتها في تجربتها الخاصة.
نشر في مجلة كلمة حق

سمعت الحكاية من الشيخ رفاعي طه بنفسه، وقد التقيته في اسطنبول، 2015م.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 03, 2017 12:49

September 27, 2017

ما لا نحب أن نقوله في استشهاد عاكف

قد ادخرت لنفسي الحديث المزعج بعدما سبقني الأكثرون بالحديث الجميل، وأسأل الله أن يجعلني من المخلصين الناصحين لا ممن يحب الظهور والتميز، فمن شاء أن يقرأ كلاما لا يعجبه فعلى العين والرأس والرحب والسعة، ومن شاء غير ذلك فأسأل الله أن يرزقه خيرا من كلامي كتبه من هو أحسن مني وأرفق.
قد قتل العسكر فضيلة الأستاذ المجاهد الباسل الكبير محمد مهدي عاكف، إلا أن لتدبير الله ألطافا، فقد ظهر يوما في محاكمته مستندا إلى عكازه متلفعا ثوبا فكان أشبه شيئ بصورة عمر المختار المتلفع قبل شنقه بثوبه والمقيد إلى أغلاله، ثم إن العسكر بعد قتله سلَّموا لأهله نظارته ومصحفه فأكملوا له شَبَهَ عمر المختار وأكملوا لأنفسهم شَبَه سيرة الاحتلال! وأنتم تعرفون، فنحن في زمن القتل فيه بالقانون وبالنظام، إنما نسلب الأرواح ونعيد المتعلقات الشخصية.. فهل رأيت مثلنا قاتلا أمينا؟!
(1) لم يتغير النظام
هو سجين كل العصور، فما معنى هذا؟
ليس إلا معنى واحدا من اثنين، إما أن كل العصور كانت خيرا وكان هو الشر الذي اتفقوا على سجنه، أو أنها كانت كلها شرا وكان هو الخير الذي اتفقوا على سجنه.. فأي شيء كان عاكف؟ وأي شيء كان فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي؟!
للأمة إجابتها، وللمنافقون إجاباتهم.. وقد رضينا بضمير الأمة وإجابته.
إلا أن الذي ينبغي أن نؤكد عليه أن كل تلك العصور برغم ما بدا من كونها انقلابات على بعضها، لم تكن في الحقيقة إلا تنويعات على عصر واحد، عصر الاحتلال والاستبداد، عصر قهر الأمة وإذلالها وتحطيم قوتها ومطاردة رجالها وتشويههم، عصر الولاء للغرب والحفاظ على العلمانية وحراسة إسرائيل. ما الذي يجمع بين فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي إلا هذا؟! إن وجدتَ شيئا يجمع بينهم إلا هذا فالتمس سببا لعدائهم جميعا لمهدي عاكف.
ومن هنا، فعلى كل من شاء "إسقاط النظام" أن يعرف حدود النظام وأعماقه وامتداده في الزمان كي يُحسن الإسقاط، ويُحسن البناء.. فإن قِصَر النظر وتَوَهُّمَ أن تكون المشكلة في مبارك قد أوردنا المهلكة، وستظل مهالكنا تترى إن حسبنا المشكلة في السيسي.
(2) ألا وهي القلب
رفض عاكف أن يكتب طلبا للسيسي ليُفرج عنه إفراجا صحيا، ولا يفعلها إلا رجل قوي القلب.. إنه ربما انكسر في مثل المحنة الشاب القوي الجلد، ولست ألوم أحدا ضَعُف بل ولا أدري ما أفعل إن ابْتُلِيت بمحنة كهذه. لكن صمود الرجل وهو عند التسعين من عمره شيء يلهب الخيال ويثير الآمال.
ما كان له أن يصمد لولا قوة قلبٍ، فالقلب سر المرء وخلاصته، وما الجوارح إلا مظاهر ومشاهد وخدم، كما أخبر نبينا "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
والدرس المستفاد أن معركة الأمة لا يقوم لها إلا صاحب قلب قوي، وقد نزل على نبينا في أول رسالته فرض قيام الليل لأن (ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا)، وحفظنا عن سلفنا الصالح الاهتمام بعبادة السر لتربية القلب وإخلاصه لله، ومتابعة السنن والنوافل وإدامة تلاوة القرآن.. بغير تلك الأمور يسقط الرجل في أول الطريق أو في منتصفه أو حتى عند آخره.
ومن كان يحب أن يتشبه بالشهيد فعليه أن يختبر بين الفينة والأخرى قلبه، يرى هل تسلل إليه حب المال أو الحرص على الدنيا أو تعلق بشهوة أو سعى إلى جاه.. تلك الأمور تحرف الثائر عن غايته، بل ربما كانت هي نقاط ضعفه التي منها يُخترق ومنها يُسْقَط!
(3) سيرة الجماعة في رجل
وُلِد عاكف مع مولد الجماعة (1928م)، وبرأيي أنه توفي أيضا مع وفاتها، وإن سيرته لتَخْتَزِل سيرتها، فقد كان في محنتها ممتحنا، وكان في عافيتها مسؤولا عن أهم مفاصلها: الشباب والتنظيم الدولي والمرشد العام، كان في قلب الجهاد يوم كانت تجاهد، وفي قلب المسؤولية السياسية يوم دخلت البرلمان. رأى معها السجن والإعدام والتعذيب، ورأى النفوذ والجاه والانتشار!
فهل حقق عاكف ما يصبو إليه؟! وهل حققت الجماعة أهدافها؟!
أعرف أن المجاهد لا يلزم أن يرى النصر والتمكين، ولكن، هل هو صحيح في شأن الكيان والجماعة والمجموع؟! من واقع ما أعرفه من التاريخ أن الأمر ليس كذلك، وأن الدعوة تصل إلى السلطة (وكل دعوة غيير أو إصلاح تستهدف السلطة لأن السلطة هي أهم وأقوى وسائل التغيير) في عمر مؤسسها أو في حياة تلاميذه، فإن مضى عليها الجيل الثاني يكون قد فاتها الوقت، وبدأت في الجمود وفي أول طريق الشيخوخة.
هل تقضي الكيانات زمانها وأعمارها في معاناة المحن؟! إن سيرة الحركات الناجحة أنها تُمتحن وهي في طريقها للتمكين، لا أنها على دائرة المحنة ما إن تخرج منها حتى تعود إليها كرة أخرى.. وللتمكين أيضا محنته، لكنها ليست محنة سجون وعذاب بل محنة معاناة القيادة والزعامة وإيجاد الحلول. أما أن يتكرر على نفس الأشخاص انقلاب في شبابهم وانقلاب مثله في شيخوختهم فما تلك بسيرة من يتقدمون.
قد يُهزم المجاهد، قد يُخفق، وليس هذا يضيره هو ما دام قد اجتهد، وحسابه عند الله! وأمتنا بقدر ما أخرجت من مجاهدين لا يُحصون كثرة في القرنين الماضيين بقدر ما هُزِموا فلم يكد ينجح إلا القليل، فلا يُنزل هذا من قدرهم ومقامهم وبطولتهم وتغنينا بها.. لكننا نخون أنفسنا ونخون التاريخ والمستقبل إن لم نبصر أسباب الإخفاق ونعمل على تلافيها، ونحن نأثم ونذنب إن كررنا الأخطاء ولم نتعلم منها، ونحن نرتكب الجريمة الكبرى إن سُقْنا قصص أبطالنا على أنها نصر كبير مؤزر مكتمل.. عندها ندمر معايير البصر والنظر والعقل، ونستمتع بالهزيمة نُخَدِّر أنفسنا أنها نصر.
فمهما جل عندنا قدر الشهيد الكبير فإن أمانة الله ألا نتوقف عند التغني ببطولته، وإنما في التقييم الموضوعي لسيرته ومسيرته. والجماعة التي قدمت للإسلام خدمة عظمى يوم كانت في شبابها وفتوتها ليست –ولا ينبغي أن تُتَّخَذ- صنما يُعبد حتى في وقت غروبها وأفولها.
(4) القيادة الربانية
أول من طعن الشهيد بعد موته كان نائبه في منصب المرشد العام، إنه محمد حبيب.
لقد بدا من الرجل ما لم يكن يتوقعه منه أحد من أعضاء الجماعة ولا من أنصارها ولا حتى من أعدائها، وهو منذ ترك منصبه تحول إلى سهم مسموم، حتى صار حالة غريبة بعد الانقلاب العسكري، ولا تزال تظهر منه الغرائب.
إن السمع والطاعة والثقة للقيادة من أركان أي عمل تنظيمي لا شك، وبغيرها لا يكون للتنظيم ولا للعمل الجماعي معنى، لكن بين تلك الأمور وبين التسليم المطلق للقيادة والثقة فيها مساحة واسعة وشاسعة وواضحة.
إن القيادة التي كان فيها عاكف هي نفسها التي كان فيها محمد حبيب، فهل كان ينبغي أن يبذل لهما نفس السمع والطاعة والثقة؟! فإن لم يكن ممكنا تمييز من سينتهي مثل عاكف ممن سينتهي مثل حبيب حيث سيرة المرء لا تكتمل إلا بالموت، فلا بد من أن تكون الثقة مشروطة والطاعة بصيرة والمحاسبة قائمة. إنه ليس أفضل من أبي بكر وعمر، وكلاهما لم يطلب من الأمة طاعة مطلقة ولا بذلت له الأمة ثقة مطلقة، فقد عورضا واحتُجَّ عليهما واستمعا بل وطالبا بالنصح والتقويم وأعملا الشورى ونزلا عليها.
وإن القيادة التي كان فيها عاكف الزاهد في المنصب والحائز لأول مرة على لقب "مرشد سابق" هي القيادة نفسها التي يستمسك فيها بالمنصب من لم يأتِ باختيار ولا شورى، أحدهم في مخبئه بمصر، والآخر في اسطنبول، والثالث في لندن.. وثلاثتهم لم يخترهم أحد، وثلاثتهم لم يبق في مكانه إلا بحكم المال والعلاقات، وثلاثتهم يتعامل مع معارضيه بالفصل والتجميد!
نفس القيادة التي كان فيها عاكف المحبوب بين الشباب المنفتح عليهم المتسع الصدر لهم فيها من يحتقر الشباب وينفر منهم ولا يثق فيهم، وتحتفظ ذاكرتي بإبراهيم منير على شاشة الجزيرة عام 2008 وهو يقول بالحرف: أما الشباب فطبيعة الشباب أنه متهور ولا يدري أين المصلحة! وكان كلامه في وقت يفور فيه الشباب بالحراك وينتظرون أن تكون الجماعة داعمة لهم فيه.
فهل حقا كانت قيادة الإخوان "قيادة ربانية" كما يحب أنصارها أن يصفونها؟! وهل القيادة الربانية تُلدغ من الجحر الواحد مرات ومرات؟! هل القيادة الربانية تأتي لمن تقودهم بمثل ما نراه ونعانيه من نتائج؟! هل كان ينبغي أن تحصل على ما كان لها من الثقة والسمع والطاعة بغير محاسبة ولا مساءلة ولا مراجعة؟! وهل يجب أن ننتظر النهايات لنرى من هو الرباني الذي يموت موتة عاكف من غيره الذي إن لم نر تحوله كحبيب والهلباوي فربما رأيناه في وثائق ومراسلات أمنية بعد سنين!
تلك أربعة دروس ينبغي أن نستوعبها ونهضمها، وما أسهل أن ينطلق القلم ليرسم ما يداعب أحلام المحبين ويدغدغ مشاعرهم، إلا أنها من صاحب القلم خيانة، وقد سمعت من شيخنا الفقيه محمد عبد المقصود أن الشيخ فوزي السعيد كان يقول في مثل هذا الرجل: "هو كالطبيب الذي خدر المريض دون أن يجري له العملية، يقوم المريض متوهما أنه في طريقه للشفاء، ويأخذ الطبيب الأجر، ويبقى المرض على حاله!"، فأعوذ بالله أن أكون من هؤلاء.
نشر في مدونات الجزيرة

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2017 01:50

September 20, 2017

أطيعوا ولي الأمر.. واكفروا

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
على تلك الآية يعتمد علماء السلطة وعملاء الشرطة في مهمتهم القبيحة: ترقيع دنيا الملوك والسلاطين بدينهم، رغم أنهم يعلمون أنهم يحرفون كلام الله عن مواضعه، ويستعملونه على غير مراد الله منه، فالآية في حقيقتها ضدهم بل وهي حجة عليهم.
تلك السطور هي بيان لحجم الكذب والإفك والتضليل والفجور الذي يمارسه هؤلاء في تفسير الآية:
1. جاءت الآية في سياق أن تكون الأمة المسلمة هي اليد العليا، لأنها صاحبة الرسالة المكلفة بإقامة العدل في الأرض، ففي الآية التي قبلها يقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولا يمكن للأمة القيام بهذه المهمة لو لم تكن في قوة ونظام ووحدة، أي عليها أن تخرج من طبيعتها العربية القبلية الجاهلية النافرة من نظام يجمعها ومُلك يدبر أمرها وزعيم يقودها. فها هنا جاءت طاعة أولي الأمر لتمنع المسلمين من الارتداد إلى الجاهلية والفرقة والنفور من النظام وإعجاب كل قبيلة بصاحبها. قال ابن تيمية: "فأهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، والنبي صلى الله عليه وسلم دائما يأمر بإقامة رأس، حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة، فأمر بالإمارة في أقل عدد وأقصر اجتماع"فالمقصود من وجود أولي الأمر للأمة هو انتقالها من حال الفرقة والعصبية والتمزق إلى حال الوحدة والقوة، والغاية هي إقامة العدل بين الناس.. فأما مهمة عبيد السلاطين اليوم فهي تعبيد الناس لمن فرقوا وحدة الأمة ومزقوها وجعلوها نهبا لكل طامع، وأنزلوا العدو في أرضها وأنفقوا عليه أموالها وحفظوا له مصالحه من شبابها ودمائها وثرواتها.
2. ليس في الآية "ولي الأمر"، بل فيها "أولي الأمر"، وهذه الصيغة الجمعية تدل على أن خليفة الأمة نفسه ليس له أن يستبد بالأمة ولا أن ينفرد بأمرها لنفسه، فليس مطلق اليد والحكم.. وإنما أمر الأمة منصرف إلى "مجموعة" هم "أولي الأمر".. وللعلماء في تفسير تلك اللفظة كلام طويل، وهل هم الأمراء أم هم العلماء أم هم الأمراء والعلماء معا. والمهم المقصود في سياقنا الآن أن المسألة جمعية لا فردية، وهو ما يناقضه علماء السلاطين الكذابين الذين يجعلون أمر الأمة بيد واحد هو "ولي النعم"! فإن زادوا على ذلك وضعوا معه ابنه، وليس أي ابن، بل هو الابن الذي يعده الملك لوراثة الملك من بعده قهرا وقسرا وبعيدا عن رأي الأمة فيه وفي ابنه.
3. أوضحت الآية أن طاعة أولي الأمر ليست مستقلة ولا مطلقة، إنما هي تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله، فهي محددة باتباعهم منهج الله ورسوله، فقالت الآية "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر"، فلم تجعل لأولي الأمر طاعة مستقلة. فطاعة الله وطاعة رسوله فوق طاعة أولي الأمر وسابقة عليهم، بل الطاعة لهم هي بقدر طاعتهم هم لله ورسوله، وهو ما قاله بجلاء الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة سياسية "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".
وقد صرح إمام الحرمين الجويني بأن الأمير "إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم... وذلك أن الإمامة إنما تعني لنقيض هذه الحالة، فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة، فيجب استدراكه لا محالة، وتَرْكُ الناس سُدًى ملتطمين مقتحمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين"أما عبيد السلاطين فإنهم يحثون الناس على طاعة سلاطينهم ولو قام نظامهم كله على مناقضة الدين وعصيان الله ورسوله، بل ولو كانت سياستهم هي الحرب على الدين وحبس العلماء والصالحين والتمكين للمفسدين والمجرمين. حتى لو منعوهم من الحج لبيت الله الحرام كما فعل عبد الله ملك السعودية ومبارك مع أهل قطاع غزة في 2007، وكما فعل سلمان مع أهل قطر والمقيمين فيها. والأمثلة تطول وتتكاثر ولا تُحصى، وإنما نسوق منها ما هو شديد الوضوح قريب العهد.
4. وتحصر الآية "أولي الأمر" بأنهم من المؤمنين، فلفظ (منكم) يعني أن أولي الأمر هم "من الذين آمنوا"، وبهذا يخرج من وصف أولي الأمر من كان مفروضا على الأمة قهرا وقسرا بغير رغبة منها ولا اختيار، كأن يفرضه الاحتلال الأجنبي العسكري، أو يستمر في موقعه بدعم هذا المحتل.
وسنفهم لفظ (منكم) بشكل أدق حين نتذكر قصة نوح عليه السلام، حين دعا ربه فقال (رب إن ابني من أهلي)، فقال الله له (إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح).. ولا تكاد تجد في عالمنا العربي المنكوب من رضي به شعبه وقدموه، إنما حكموا بالقهر وبقوة المحتل، وساروا في نقيض مصالح الأمة وعلى عكس رسالتها ومنهجها، فما أبعد أن يكون هؤلاء "منكم".
وإن عبيد السلاطين قد فجروا إلى الحد الذي أفتى فيه بعضهم بأن (البابا شنودة) إن حكم مصر فهو ولي أمر، وأن بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق هو ولي أمر تجب طاعته!! فما أبعد هؤلاء أن يكونوا داخلين تحت قول الله تعالى (منكم)، إلا أن فجور علماء السلطة لا حد له.5. والآية نفسها تصرح بحق الأمة في مخالفة أولي الأمر، في قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء)، أي أن للأمة أن تنازع "أولي الأمر" الذين هم "منها"، فلم يصنع الإسلام أمة من العبيد والرعاع والغنم، بل ضمن لهم حق المنازعة والاعتراض والاختلاف، وهو الحق الذي يسبقه حق المراقبة والنقد والتقويم.. وفي الخطبة الأولى للخليفة الأول قال: "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".
وقد أجمع علماء السلاطين عند تلاوتهم للآية أن يتوقفوا عند "أولي الأمر"، فلا يُجاوزون الكلام إلى ما يليها مباشرة "فإن تنازعتم في شيء..." وهو شبيه بفعل أحبار اليهود حين يريدون أن يكتموا ما أنزل الله من الكتاب، ولولا أن كتاب الله محفوظ تكفل الله بحفظه، لقام عبيد السلطان هؤلاء بتحريف الكتاب كما قام به أسلافهم واشتروا به ثمنا قليلا.
6. وحين يقع التنازع بين الأمة وبين أولي الأمر فإن جهة الفصل في المنازعة تكون بالعودة إلى المرجعية العليا النهائية: الكتاب والسنة، (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، ومقتضى هذا أن يكون الفصل بين الحكام والأمة للعلماء، حيث هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله.
(لتقريب الصورة: يشبه الأمر في الدول العلمانية المحكمة الدستورية العليا، الجهة التي تقيم وتفصل في الخلاف بين السلطة والشعب طبقا للدستور، إلا أن الفوارق بين النظام الإسلامي والعلماني ضخمة من أهمها: أن العلماء نبت الأمة لا يستندون في مكانتهم على شهادة من السلطة كما لا تجمعهم منظومة كهنوتية ولا نظامية تُسهل التحكم فيهم وفي قرارهم، كما أن الدستور المكتوب ليس نصا وضعته لجنة في ظرف سياسي ففيه كل عوار عمل البشر وضغط الظرف وإنما هو نص مقدس مطلق لم يكتبه بشر وخُدِم بالتفسير عبر قرون وأجيال وعلى اتساع نصف العالم بما يجعل إمكانية التحريف والانحراف عنه مفضوحة مكشوفة مستنكرة. لمزيد إيضاح للفكرة انظر هنا وهنا وهنا وهنا وهنا).
تلك ست كذبات وتحريفات فاجرة يرتكبها عبيد السلاطين في آية واحدة لا تتجاوز السطرين، مكونة من تسع عشرة كلمة فحسب، لا لغرض إلا لترقيع دنيا سلاطينهم من دينهم هم، فبئس ما يفعلون!
نشر في مدونات الجزيرة


ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1 (الرياض: جامعة الإمام، 1986)، 1/557. الجويني، الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، ط1 (جدة: دار المنهاج، 2011م)، ص275، 276.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 20, 2017 04:21

September 15, 2017

اعتقالات السعودية.. ليلة قلم مخنوق

جلست أكتب مقال "مدونات الجزيرة"، يأبى خاطري إلا أن أكتب في عاصفة الظلم التي تجتاح السعودية فترسل بعلمائها ومشايخها إلى الزنازين.. حسنا، فماذا أكتب؟!
اكتُبْ في الذكريات..
ألم تر إلى اليوم الذي رأيت فيه مؤلفات محمد موسى الشريف كأنها تتوالد وتتكاثر؟! لم أشك ذلك اليوم أنه متفرغ تمام التفرغ مع علو همة وبركة في الوقت وقوة في العقل. ثم كان في جولة علمية يوما وافقت البلد الذي كنت فيه، فأمضيت يومي كله أتتبعه من مسجد لمحاضرة لدورة لمجلس، فإذا به يُعطي الدورة في طبقات كتب التاريخ ومؤلفيها على البديهة والسليقة من خاطره دون تحضير ولا مراجعة؟! ثم ظفرت به يوما فسألته على هامش مؤتمر في التاريخ فعرفت أنه ليس متفرغا بل هو طيار في الخطوط السعودية ويمارس عمله ولديه رحلة بعد ساعتين!
ألم تر إلى سلمان العودة؟! أحسبه أفضل من في طبقته في استعمال وسائل وتقنيات الإعلام المعاصر، برنامجه "وسم" حالة فنية متقنة لمحتوى رائق بديع، أتذكر يوم قال في أحدها "العلماء إن لم يسبقوا الناس إلى فتح الباب على وجهه، اقتحمه الناس ثم جرى العلماء يرقعون ما كسروا"! تلك الكلمة على وجازتها خبرة عمر وخلاصة حياة دعوية. كنت أراه يسير في اسطنبول وحيدا منفردا، لم أحاول الاقتراب منه، أشعر كأنه في حالة "وسم" يوشك على تكوين صورة ورسم كلمة، أكتفي بمراقبته حتى يغيب!
علي العمري؟! صاحب واحدة من أنضج التجارب الإعلامية الإسلامية، خصب الذهن سيال الأفكار، رأيته أول مرة صباح يوم السفارة.. ليلة تسلق شاب مصري عمارة السفارة الإسرائيلية فمزق علمها في صيف 2011، سهرت يومها حتى الصباح، وحين كدت أمضي رأيته هناك، لست أدري كان يمر من هنا أم كان يزور المكان الذي شهد واحدة من غرائب الأمور. أتذكر أيضا حين استمعت محاضرة له لأول مرة، كنت وقتها أظنه نموذجا سعوديا للدعاة الجدد مع سمته الشبابي الأنيق، ففوجئت بعلم وخبرة واطلاع واسع، ثم رأيت مؤلفاته أيضا فإذا هي أكثر مما توقعت من رجل ظننت اهتمامه ينحصر في الإعلام!
وليد الهويريني، رأيته أول مرة في مؤتمر "السلفة والوهابية" في قطر، ثم في عدد من المؤتمرات فيما بعد، أمره عجيب.. فيه رقة ودماثة وتهذب وأدب رفيع حتى ليخيل إليك أنه شاب يتلمس طريقه في أول طلب العلم، خفيض النجاح هادئ الصوت رقيق الحاشية، تزور عينك عنه إن لم تكن تعرفه، حتى إن جاء وقت كلامه رأيت تمكنا وسعة واطلاعا. فإن فتحت كتبه كـ "الحراك الفكري السعودي" أو "خارطة الدم" رأيت فوق ما تصورت حين سمعته!
ألم تر إلى ...
يهجم على خاطري: ما حاجة الناس إلى ذكرياتك؟! لا هو أمر ينفعهم ولا يضرهم، ومن تتحدث عنهم أشهر من نار على علم، ولعله لكل قارئ معهم ذكرى لما وُضِع لهم من القبول بين الناس.
أنصرف عن تلك الفكرة وأعود إلى السؤال: فعمَّ أكتب؟!
يخطر لي طيف أن أنشر مقالا في شأن آخر، ومباشرة أجد نفسي تدفع الخاطر وتُنْكره وتنفر منه، تقول: إن لم يكن لديك شعور بالمرحمة بين المؤمنين ودعاتهم، فواجب كلمة الحق، فإن نكصت عن كلمة الحق، فالمروءة.. أناسٌ لقيتهم وكلمتهم واستمعت إليهم ولهم في عنقك حق المودة!!
حسنا.. أستسلم، وأعود فأسأل: -       ففيم أكتب؟!-       اكتب في الإنكار على الظالم، في النهي عن المنكر، في بيان سوء الفعل وسوء المنقلب.. -       لا لا، قد كتبت في هذا ما لا أجد في نفسي مزيدا منه، استنفدت طاقتي ومعجمي ومعرفتي في الحديث عن أولئك الحكام وعما يفعلون وعن سوء المصير الذي يسوقون إليه البلاد والعباد.. ثم إنه أمر تكفل به أو سيتكفل أصحاب الأقلام جميعا.-       حاول-       لا أستطيع.. ولا أجد في نفسي القدرة على هذايأتي السؤال مرة أخرى: ففيم أكتب؟!
لا بأس، لنكتب في شأن من أجرموا وأفسدوا من أهل الصحافة والإعلام السعودي ممن لا زالوا يتمتعون بالأمن والحظوة والوجاهة.. تذكرت على الفور أني رأيت مجلة الفيصل في عددها الأخير قد أعدت ملفا عن الإسلام والعلمانية، كان أول مقالاته لحسن حنفي بعنوان ""العلمانية أسسها في القرآن الكريم"! وبقية عناوين المقالات في نفس السبيل.
ضحكت وقد تذكرت يوما سخر فيه صديق خفيف الظل من دعوات تجديد الإسلام فقال عبارة بديعة: "الإسلام دين وسطي جميل لا يتعارض مع الإلحاد"، فضحكنا وذهبت بيننا مثلا. ها قد تحققت السخرية وصارت واقعا مريرا!!بل تذكرت ما هو أقسى من هذا، كاتب سعودي يريد تجديد عقيدة محمد بن عبد الله! إنه تركي الحمد أطلق  تغريدةنصها: "جاء رسولنا الكريم ليصحح عقيدة إبراهيم الخليل، وجاء زمن نحتاج فيه إلى من يصحح عقيدة محمد بن عبدالله"!!
ثم اندفع من أعماق الذاكرة ما نشرته صحيفة الرياض قبل ثلاثة عشر سنة حين أكتب أحمد الجميعة مقالا جاء فيه "لم يخرج فكر التكفير إلى الوجود بغتة بل إن له جذوراً وسوابق في التاريخ الإسلامي ولعل أول وأهم واقعة تاريخية عبرت عن ميلاد فكرة التكفير في الإسلام هي "حروب الردة" التي خاضها الخليفة أبوبكر الصديق في مطلع عهده" ثم قال بعد ذلك: وبذلك تكون "حروب الردة" أول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير".
عند هذا الحد صار الأمر مثيرا للاشمئزاز، وبدا لي لمرة أخرى أنه أسلوب قديم، فالحرب التي أطلقها بوش على الإرهاب قبل ستة عشر عاما أثمرت في السعودية أمرا هائلا، ليس ثمة من يغفل عنه أو يتعجب منه، قد غُزِي الإسلام في عقر داره، فعاد الإلحاد ومعه من يريد تصحيح عقيدة محمد رسول الله ومن يرى أبا بكر وصحابة النبي تكفيريين.
خطر لي أن أجعل المقال اقتباسات من مؤلفات المشايخ المحبوسين، فقرات من تفسير الطريفي أو تغريداته الذكية الملهمة، أو معنى بديع صاغه العقل الألمعي والقلم المدهش إبراهيم السكران، أو فنا من فنون القول ابتكره سلمان العودة بأسلوبه الرشيق الرقيق المتظرف، أو درسا تاريخيا استخلصه موسى الشريف، أو عبارة من قواعد الحياة الأربعين وشرحها لعلي العمري..
هممت بهذا وشرعت في الاختيار، أمسكت بتفسير الطريفي، وذهبت إلى سورة البقرة، فتذكرت أن أول حكم في كتاب الله هو حكم الخلافة عند قوله (إني جاعل في الأرض خليفة)، فأمسكتُ من فوري.. قد عرفتُ من نفسي أن اختياراتي من أقوالهم قد تكون عليهم لا لهم، فالحسنات في ميزان الأمة سيئات وخطايا في ميزان أجهزة الأمن.. فكففتُ القلم!
حقا.. لم أجد ما أكتبه، واختنق القلم في يدي كاختناق النفس في صدري!
فكتبت قصة القلم المخنوق.. وهو مقال في فن الهروب من المقال! وأسلوبٌ سخرتُ ممن صنعه يوما فقد ابْتُليت به.على أن ها هنا كلمة لا بد من قولها:
إن الفتنة في بلاد الحرمين ليست كغيرها.. الساقطون فيها ليسوا صحفيين تصنعوا الشجاعة ولا ممثلين تصنعوا الرسالة ولا معارضة تصنعت المعارضة. بل شيوخ وقراء وعلماء فتحت لهم العيون والقلوب والأسماع!
فيا لها من فتنة السقوط فيها مريع ومروع، أسيف ومؤسف، هلكة ومهلكة..
قضى الله على عباده بالفتنة ليبلوهم، فلا يدخل الجنة إلا من أثبت أن الله أكبر في قلبه من الدنيا وسلاطينها!

والساكتون اليوم هم ضحايا الغد! فإن الفراعين لا تقبل معها آلهة ولا رأيا، وقد قال من ضربه الله لنا مثلا في الفرعونية (ما علمتُ لكم من إله غيري)، وقال (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 15, 2017 05:21

September 13, 2017

حركة المقاومة الإسلامية المصرية عبر قرن

يلخص شادي حميد، أحد أبرز الوجوه الغربية في مجال بحث الحركات الإسلامية، الأزمة القائمة في العالم الإسلامي بقوله: "المشروع الأساسي للحركات الإسلامية السائدة، إن أمكن تلخيصه في جملة واحدة، هو السعي للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والدولة القومية الحديثة. مهما تعددت الطرق، وفي أغلب الأحيان حصدت "الدولة" النتائج الأفضل في تلك العلاقة. ذلك أن نمط بناء الدولة الحديثة والبيئة الدولية المتمركزة عليه والداعمة له، لهما أثر علماني متأصل في المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وهو ما يضغط على الحركات الإسلامية لتحد من طموحاتها الدينية الدافعة إلى حد لم يكن ليخطر بالبال فيما قبل الدولة الحديثة، مما يقود إلى درجة خطيرة من التوتر بين المجتمعات المسلمة التي لا تزال إلى حد كبير متدينة ومحافظة"كانت أول حركة مقاومة واجهت هذا الوضع الضاغط العنيف هي حركة مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني والتي انتهت عمليا مطلع العقد الثاني من القرن الماضي، ثم جاءت حركة الإخوان المسلمين فعملت على تلك المقاومة حتى انتهت تماما منتصف الستينات ومن بعدها تحولت إلى جماعة إصلاحية لا مُقاوِمة، ثم ظهرت محاولات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد منذ نهاية السبعينات حتى انتهائها بمنتصف التسعينات.
بين كل تلك الحركات خيط ناظم واضح ظاهر، هو من أثر الواقع الضاغط نفسه الذي فرضه وجود مؤسسات سلطوية متحكمة في البشر والموارد تمارس تعبيد الناس للسلطة المحتلة والمستبدة، ذلك الخيط هو أن جميع تلك الحركات تؤول فكرتها الإصلاحية إلى حل واحد: حركة مقاومة تقود انقلابا عسكريا مدعوما بالجماهير العريضة التي عملت على تجهيزها حركة دعوية مدنية!
1. من المشهور ما قام به مصطفى كامل من المجهود المدني والسياسي في الخطابة والصحافة والسياسة ونشر القضية، وأقل منه شهرة عمله الواسع في إنشاء النقابات وتفعيل دور المدارس والتغلغل إلى الاتحادات العمالية وإنشاء المشاريع الاقتصادية، وأما المغمور تماما فهو نشاطه السري العسكري في إنشاء خلايا تقاوم الاحتلال وتمارس الكفاح المسلح والتي وصلت إلى اغتيال رئيس الوزراء الخائن بطرس غالي (جد بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة، المتوفي العام الماضي)، وهو الاغتيال الذي نبه الاحتلال الإنجليزي وكان من آثاره إنشاء جهاز الأمن السياسي (= البوليس السياسي، أمن الدولة، الأمن الوطني)، والذي اكتشف وجود نحو ثمانين تنظيما سريا في مصرلقد كان الحزب الوطني أول حركة مقاومة تنتبه إلى أن الوضع قد تغير، ولم يعد مجرد المقاومة العسكرية يجدي، وإنما لا بد من مقاومة نمط الدولة المفروض بمؤسساتها، فمن ثم لا بد من وجود أجهزة وعي وتوجيه وروابط اقتصادية ونقابية، فضلا عن التنظيمات السرية. ويبدو واضحا أن الخطة النهائية ستفضي إلى مقاومة مسلحة مدعومة بجماهير مدنية فضلا عن الدعم السياسي من الخليفة العثماني (عبد الحميد الثاني) والذي كانت علاقته ممتازة بمصطفى كامل.
من المؤسف أن المجهود الكبير ضاع بضربة أمنية من بعد عام 1910، عملت تلك الضربة الأمنية على إزالة القيادات (بالسجن أو النفي) وتفكيك خلايا المقاومة، مما جعل الطاقة الثورية تتشتت في واحدة من اللحظات الذهبية التي يندر تكرارها. وسنرى أن أسلوب "الضربة الأمنية" هو الأسلوب الذي نجح منذ تلك اللحظة وحتى وقتنا هذا في إنهاء أي حركة مقاومة.
2. أما الإخوان المسلمون بزعامة الشهيد حسن البنا فقد انبعثوا في ثلاثينات القرن العشرين، وما إن جاءت الأربعينات حتى كانت الجماعة قد انقسمت على الحقيقة إلى كيان دعوي علني جماهيري طبقا لقانون الاحتلال، وكيان آخر سري أمني وعسكري هو "النظام الخاص"، وبينما يعمل الكيان العلني الدعوي على تجهيز الجماهير المدنية، يعمل النظام الخاص على جمع المعلومات والتدريب العسكري.
من الطبيعي أن يحيط بعض الغموض بمشروع حسن البنا التغييري، فمرحلة "التنفيذ" لم يفصح عنها، وهو أمر مفهوم، لكن مجمل ما نراه من هذا التركيب التنظيمي يفيد أن البنا كان يسعى إلى انقلاب عسكري عبر النظام الخاص تدعمه الجماهير المدنية المؤمنة بدعوة الإخوان المسلمين، خصوصا وأن البنا لم يكن يرى أن الثورات طريق صحيح للتغيير كما صرح بهذا، وكان يرى أنها تسيل كثيرا من الدماء دون نتائج مكافئة بالضرورة.
لكن المشكلة التي واجهت البنا كان إنشاء إسرائيل، لقد دفعته تلك الضرورة إلى الكشف عن قوته، فأخرج المتطوعين إلى حرب فلسطين، ثم كُشف شأن التنظيم عبر قضية السيارة الجيب، وقبلها كُشف دعمه لثورة اليمن وأنه ضالع فيها، فهنا صار الإخوان مستهدفون إقليميا (من النظم الملكية التي تخشى الثورات) ودوليا (من القوى التي تؤسس وتحمي إسرائيل)، وكانت الضربة الأمنية الكبيرة باغتيال البنا وتعقب تنظيمه، وقد نجحت تلك الضربة في إنهاء النظام الخاص على الحقيقة، وعاشت الجماعة فترة من الزمن في فوضى وتضارب بلا مرشد ولا قيادة، ثم تولى أمرها حسن الهضيبي وجرى ما هو معروف بينه وبين النظام الخاص لينتهي الحال بضربة أمنية أشد وأقسى على يد عبد الناصر الذي مثَّل أقوى اختراق لصفوف الجماعة وسيطر على أعضاء تنظيم الجيش. ولما حاول شباب الإخوان ممن لم يدركوا أزمة 1954 تكرار المحاولة وقعت بعض الاحداث التي أدت لانكشاف المحاولة أمنيا فجاءت ضربة أقوى في 1965، ومن ساعتها لم يفكر الإخوان في الصدام مع النظام في مصر.
3. عند نهاية السبعينات جرت محاولات انقلابية أشبه بالمتسرعة والطائشة كحادث الفنية العسكرية، لكن تنظيمي "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد" المتكونان في تلك الفترة اعتنقوا نفس الفكرة المضطردة: العصبة المسلحة التي تنفذ انقلابا عسكريا مدعوما بجماهير قد تجهزت وتأهلت من خلال الخطاب والحركة الدعوية.. فقد عمل التنظيمان على نفس تلك الخطة، وهو أمر سمعته من شهود عيان تلك المرحلة، إلا أن الجماعة الإسلامية كانت أقوى في باب العمل الدعوي العلني، بينما عمل تنظيم الجهاد بشكل أكبر في اختراق الجيش لتكوين العصبة المسلحة التي ستنفذ الانقلاب العسكري.
مثلما كانت حرب 1948 دخولا مفاجئا على خطة البنا أربكت حساباته واضطرته للتدخل السريع وكشف قوته، كانت اعتقالات السادات 1981 دخولا مفاجئا على خط "الجماعة الإسلامية"، لقد ظن الجميع أن اعتقالات السادات ستكرر تجربة عبد الناصر حيث الإعدامات بالجملة والسجن لمدة ربع القرن، فتسارعت وتيرة اغتيال السادات ومحاولة السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومديريات الأمن، وهو ما لم ينجح منه إلا مسألة الاغتيال وحدها، لتدخل تلك الحالة في صراع مع الدولة قبل أن تتجهز له لا مدنيا ولا عسكريا.
وبضربة أمنية أمكن مطاردة عناصر الجماعة الإسلامية، ولم يكن أمرا صعبا لأنها في المجمل جماعة علنية دعوية، ثم بخطأ أمني أمكن اكتشاف تنظيم الجهاد وتتبع أفراده وإجهاض خططه بداية التسعينات!
ومن تلك الفترة لم تظهر حركة مقاومة في مصر، إلا البذور والبدايات الصغيرة التي ظهرت بعد الانقلاب العسكري (2013)، وهي تجربة لم تكد تبدأ بعد!
المشكلة الواضحة في كل هذا المسار أن أيا من تلك الحركات لم يمتلك جهازا أمنيا قويا يجمع المعلومات ويحللها ليعرف ويفهم تركيبة النظام ومفاصله وشخصياته المؤثرة، حتى "النظام الخاص" للإخوان المسلمين كان خليطا من الجهاز الأمني والجهاز العسكري، وهو الخلط الذي لا يصح بحال، لأن التفكير الأمني مناقض للتفكير العسكري في العديد من النقاط والمستويات. وغاية ما كان لدى تلك الحركات ما يشبه جهاز الاستطلاع الذي يحصل على معلومات بدائية سريعة لتنفيذ عملية صغير.
ولعل تلك النقطة هي أكثر النقاط التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم في مرحلتنا المعاصرة.
كانت كونداليزا رايس المتخصصة في الإدارة واحدة من المسؤولين عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة لتناسب متطلبات الوضع الجديد بعد اختفاء العدو القوي وتغير طبيعة العالم، فضلا عن التغير الهائل الذي حصل في أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية (الأوروبية والأمريكية) بعد نهاية الحرب الباردة لتواجه العدو الجديد كما حددوه (الإرهاب، الجريمة المنظمة)، وقد استدعى هذا التغير تغيرا هائلا في الوسائل والوظائف والمهام، وتخلت فيه الأجهزة عن جيش من الجواسيس لتجند آخرين، بل وتخلت عن قسم عظيم من التجسس البشري لحساب استخدام التقنيات الحديثة كادت المعركة في العالم الآن أن تكون معركة أمنية، وتقنية، ثم بعدها بفارق واضح: معركة عسكرية!

نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Shadi Hamid and Rashid Dar, Islamism, Salafism, and jihadism: A primer, (Brookings, July 15, 2016). يراجع في الكفاح المسلح للحزب الوطني كتاب د. عصام ضياء الدين السيد "الحزب الوطني والنضال السري 1907 – 1915"، وقد صدر عام 1987 عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" ضمن سلسلة "تاريخ المصريين". انظر مثلا كتاب "أسياد الجواسيس الجدد" لستيفن جراي.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 13, 2017 21:13

September 8, 2017

سيد قطب.. كيف لا يزال حيا؟!

ليس من جهة في العالم الآن تتبنى شيئا من إرث سيد قطب رحمه الله، إن سوط "دعم الإرهاب" مرفوع، وهو سوط لا يرحم، وكل جهة أو مؤسسة أو جماعة تود أن تعيش ولا تحب المشاكل!
ومع هذا فعند حلول ذكرى استشهاد سيد قطب تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بإحياء ذكراه ونشر مقولاته، وهو ما يسحب بعضا من وسائل الإعلام لمجاراة العمل الذي بدأه الشباب بلا ترتيب ولا تنظيم، فربما صنعت قناة تقريرا وسمحت أخرى بمداخلة هاتفية ونشرت أخرى اقتباسا، أمرٌ خجول لإبراء الذمة وذر الرماد في العيون! أمرٌ لا يليق بحال برجل من الوزن الفكري الثقيل، رجل اهتز له العالم الإسلامي يوم إعدامه، ورجل طوردت كتبه وأفكاره ولا تزيد مع الأيام إلا تألقا ولمعانا وحضورا!
ليس أقوى من فكرة حان وقتها، هكذا قال فيكتور هوجو!
والفكرة التي رددها الشهيد في كتاباته لا تزال متوهجة قوية لأن المأزق الذي قيلت فيه لا يزال قائما، الواقع أن العالم الإسلامي لا يزال يعاني تلك الأثقال الغربية التي تجعله محكوما مقهورا بأفكار مفروضة عليه، تنفذها سلطات مفروضة عليه أيضا! ولذلك فكل فكرة تؤصل للمقاومة ستظل متألقة متوهجة مثيرة للعواطف ملهبة للمشاعر!
وأعظم الأفكار قاطبة هي الأفكار الخالدة.. وليس ثمة شيء خلد ويخلد وسيخلد كالقرآن الكريم، كتابٌ تعهد الله بحفظه وصيانته، فلم يطرأ عليه تغير في حرف، ولم تستطع محاولة واحدة تثبيت تأويل منحرف لآياته! وهو كتاب انطلقت منه أمة وبُنيت عليه حضارة، وصار محميا بجيوش من العلماء والمفسرين الذين تتبعوا كل كلماته وحروفه بالتفسير والعناية والخدمة، وبعد هذا كله فلا يزال القرآن جديدا غضا طريا يأخذ منه الناس لأزمانهم كأنما نزل فيها!
وتلك قيمة سيد قطب: الرجل القرآني المجاهد!
إن كتاب الظلال ليس مجرد تفسير، ولا هي خواطر مفكر أديب كتبها عند شاطئ البحر أو في كهفه العلمي، إنه دستور المقاومة الكبير.. المقاومة المنطلقة من القرآن، المعتمدة عليه، المهتدية به!
ولذلك كان "الظلال" عدوا للاحتلال والاستبداد، وطاقة نور ولهب للأمة المقاومة المجاهدة.
إن لفظ "الحاكمية" الذي استعمله سيد قطب يعبر عن ذات المعنى الذي تقصده وتدور حوله ألفاظ "السيادة" و"مصدرية المعرفة" و"النطاق المركزي" و"المرجعية النهائية" و"المبدأ الواحد" و"المركز" في كتب الفلسفة والعلوم السياسية، إلا أنه ولكونه "لفظا قرآنيا" يجد طريقه مباشرة إلى قلب وعقل المسلم الذي لا يفهم طنطنات الفلاسفة والمتفلسفين. إن كل من ينادي بتطبيق الشريعة للخروج من "الجاهلية" يمثل مصدر خطر حقيقي على الأنظمة المستبدة وعلى نظام الطغيان العالمي رغم أنه لا يُدرك في أغلب الأحيان المعاني السياسية والحضارية الكبرى الكامنة خلف مطلبه البسيط "تطبيق الشريعة"!
إن المنادي بتطبيق الشريعة يريد الهرب من حالة "الجاهلية"، وهو المصطلح القرآني الآخر الذي أحياه سيد قطب ضمن مشروعه الفكري، ليعبر به عن حجم الانحراف الذي ينبغي على الأمة أن تواجهه وتنجو منه. لم يكن لسيد قطب أن يصل إلى هذا المعنى الواضح الذي يفهمه كل مسلم بسرعة ويسر لو استعمل أي لفظ آخر مما يكثر في كتب الفلسفة والعلوم السياسية. إن مصطلح "الدولة القومية الحديثة" يبدو كمصطلح ظريف لطيف يستتبع آلاف المقالات والكتابات في تحليله ووصفه وتكييفه شرعا.. بينما هو على الحقيقة مظهر من مظاهر "الجاهلية"، فالدولة التي هي مرجعية نفسها نقيض واضح للدولة الإسلامية التي مرجعيتها الإسلام!
لقد كتب مئات المستشرقين والمسلمين في إثبات تناقض نموذجي "الدولة الإسلامية" مع "الدولة القومية الحديثة"، لكن ليس ثمة كتاب منها كان قادرا على توصيل معنى التناقض للمسلم البسيط بيسر وسهولة كما يُستعمل لفظ "الجاهلية" في مقابل "الحاكمية" عند تفسير قوله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون؟! ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). وسيظل الخطاب الإسلامي نخبويا ما ابتعد عن المعجم القرآني، وهذا داء كثير ممن يوصفون بالنخبة الإسلامية.. يقولون كلاما يفهمه أعداؤهم أكثر مما يفهمه أنصارهم لابتعادهم عن ألفاظ القرآن.
ما كان لسيد قطب أن يسطر الظلال على هذه الشاكلة لولا أنه رجل حركة وعمل، رجل يعيش المعركة في واقعه ولا ينظر إليها بمنظار الفلاسفة أو من ثقوب الكهف العلمي، ولذلك ظل كتابه يحمل حرارة الأنفاس وغبار اللقاء ولهيب الاحتدام وصلصلة السيوف وقسوة المعاناة، وهو لهذا كتابٌ يستريح إليه وينهل منه كل مسلم يحمل هم الأمة ويعاني في معركتها. فيم لم تلق تفاسير المشايخ التي طُبعت بأموال الدول ولا عشر معشار ما لقيه "الظلال" من الحفاوة والدوام.
ولقد أثر القرآن في سيد قطب تأثيرا آخر، فالقرآن كتاب الأمة، وهو ليس كتاب مقاومة وجهاد فحسب، إنما هو منهج شامل ومنظومة كبرى، فلو أن سيد قطب عاش المعركة بعيدا عن القرآن واكتفى –مثلا- بكتب فقه الجهاد والتشويق له لما بلغ ما بلغ، لقد أعطاه القرآن اتساع النظرة وشمول الرؤية.. فمفسر القرآن ملزم أن يتأمل في آيات العبادات والمعاملات والمواريث والأخلاق والتاريخ والمخلوقات، وكل هذا فرع عن "التوحيد": أصل الإسلام كله. ومن هنا اتسعت رؤية الشهيد في فهم نظام الإسلام، وإدراج الفروع تحت الأصول، وإدراج الأصول تحت الأصل الأكبر: التوحيد. فكان الظلال مشروعا فكريا حضاريا كبيرا.
وإن عقل الشهيد في فهم القرآن عقل جبار حقا، ولا يوازي عقله إلا أصالة قلمه.. لقد كان واحدا ممن جمع بين الحسنيين: قوة الفكرة وجمال القلم، ونادرا ما يجتمعان! ومن قرأ رائعته المدهشة "التصوير الفني في القرآن" رأى في القرآن جمالا غير مسبوق، وانفتح له من أبواب تذوق الآيات وفهمها ما لم يكن يدريه ولا يخطر له على بال.
قرأت في الظلال زمن المراهقة فكان يبهرني الأدب ولا يبلغ عقلي فهم الفكرة، أو قل: أفهم الفكرة البسيطة الساذجة في ظاهرها، قبل أن تمر السنين فيستطيع المرء أن يفهم الفكرة في سياقها وفي دلالاتها وضمن المشروع الكلي للشهيد.. ولذلك فلو غضضنا الطرف عن أفكار الشهيد في الظلال فسيظل الكتاب بنفسه تفسيرا غير مسبوق ولا مثيل له في بابه.. يستمتع به حتى من لم تعجبه الفكرة!
أما تهمة "تكفير المجتمعات" فتهمة لا أشغل نفسي بالرد عليها، فأحسن أحوالها أن تكون "قراءة فقهية لنص أدبي"، وأسوأ أحوالها أن تكون قراءة علمانية غرضها تشويه سيد قطب لا صيانة الإسلام من الغلو. ثم إن "المدونة الفقهية" التي اعتمدت عليها التيارات الغالية ليس من نتاج سيد قطب بحال، بل من نتاج من لا يُتهمون في العلم والفقه! ولم يكن سيد قطب فقيها ولا كانت ألفاظه ألفاظ الفقهاء، وما ضر صلاح الدين أن يصفه أبو شامة بأنه كان يتكلم في الفقه لكن بغير ألفاظ الفقهاء.
سيد قطب.. احتضنته الأمة وجرَّمتْه الأنظمة! والأمة أبقى من الأنظمة، والحر مُمْتَحَنٌ بأولاد الزنا!

نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 08, 2017 05:01

September 5, 2017

لهذا فشلت الثورة العرابية

كانت الثورة العرابية أخطر تهديد لنظام الدولة الحديثة العلمانية التي أسسها محمد علي باشا، تلك الدولة التي حطمت نظام المجتمع الإسلامي وأنشأت نظاما استبداديا قاهرا على نمط فرعوني جديد تتحول فيه السلطة لغول يستولي ويستعبد كل ما في البلاد من بشر وموارد.
الأدهى والأمر أن نظام محمد علي تأسس على يد نخبة من الأجانب، فلقد كانوا سادة البلاد وأصحاب الأمر والنهي فيها، وقد استكثر محمد علي في بلاطه من اليهود والنصارى كما لم يفعل حاكم في كل التاريخ الإسلامي، وهو الأمر الذي استمر واستقر من بعده بأفحش وأشنع مما كان في وقته، حتى وصل الحال في عصر الخديوي إسماعيل إلى أن كان الأجانب هم سادة كل مؤسسات البلد المهمة من الجيش وحتى البريد، وصار لهم وزارتان في الحكومة المصرية: المالية والعمل (الأشغال)، وكان النظام القانوني في مصر يجعل الأجانب سادة حتى على الخديوي نفسه، وتستطيع محكمة أجنبية أن تقضي بحجز أموال الخديوي ومنعه من التصرف فيها.
كانت مصر كنزا يسيل في جيوب الأجانب، حتى إن الشحاذ في أوروبا كان يلقي بنفسه في المركب (هجرة غير شرعية!) ليصل إلى مصر، فيجد النظم والقوانين والقنصليات والحماية الأجنبية توفر له كل عوامل الغنى والثراء ونهب الموارد المصرية. ولهذا فقد كان النظام في مصر محققا للمصالح الأجنبية كما لم يكن نظام آخر، وهذا بغير تكلفة الاحتلال العسكري المباشر.
كان من نتائج هذا الوضع وجود سخط شعبي عارم جعل حركة تململ محدودة في الجيش تتحول من فورها إلى ثورة شعبية كبيرة، وكان من نتائجه أيضا أن يصير تغيير النظام في مصر مشكلة دولية لا محلية، تتحرك لها البوارج والقوات الأجنبية، وتتفق عليها القوى الاستعمارية رغم اختلافهم الواسع فيما سوى ذلك من المصالح.
حاولت القوى الاستعمارية نزع فتيل الثورة بتغيير رأس النظام (الخديوي إسماعيل) فعُزِل الخديوي الذي التقت على عزله رغبات جميع الأطراف: الشعب والنخب المتذمرة، القوى الأجنبية للحفاظ على النظام واستباق الثورة، السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني) الذي يحاول استعادة سلطانه على مصر ومقاومة التغلغل الأجنبي.
جاء ابنه الخديوي توفيق فسعى في تصفية الثورة ضمن إجراءات التغيير، فنفى أبرز رموز الحراك الثوري: جمال الدين الأفغاني بعملية سرية سريعة بمنتصف الليل، وترأس بنفسه الحكومة ليغل يد البرلمان عن محاسبتها، وجاء بحكومة يقودها القانوني الإصلاحي "محمد شريف باشا" الملقب بـ "أبو الدستور المصري"، وأجرى تعديلات في ألوية الجيش ليبعد بها ألوية عرابي ورفيقيه عن القاهرة، ثم حاول القبض على عرابي ورفاقه لولا أنهم انتبهوا. على مسار آخر سعى محمد شريف باشا إلى تصفية قوة عرابي وإلى غل يد البرلمان، وإلى الاستجابة للضغوط الإنجليزية الفرنسية "لسحب الذرائع وتفويت الفرصة"، مما أشعل مواجهة بين الحكومة الإصلاحية والقوى الثورية اضطرت معها الحكومة إلى الاستقالة وأعقبتها حكومة ثورية بقيادة محمود سامي البارودي وكان عرابي هو وزير الحربية فيها.
هنا بدا أن الأمر سينفلت وأن نظام محمد علي على وشك السقوط، ودعم السلطان العثماني تلك الحركة بكل قوته، وأنعم على عرابي برتبة الباشا، وكانت له معه مراسلات سرية أبدى فيها موافقته على إنهاء نظام أسرة محمد علي، وتلك هي الشرعية الكبرى التي حازتها الثورة العرابية، كذلك فقد ألقى السلطان عبد الحميد بكل ثقله السياسي لمحاولة منع الإنجليز من احتلال مصر في مؤتمر القسطنطينية، إلا أنه لم ينجح، واستطاع الإنجليز بتفاهم مع الحكومات الغربية أن ينزلوا لاحتلال مصر بذريعة أن الأجانب في خطر وأن عرابي مثير للقلاقل والأزمات فوق أنه يمارس إجراءات عدوانية "تحصين ساحل الإسكندرية"!
لسنا هنا بإزاء حكاية الثورة العرابية ولكن لحكاية: كيف فشلت تلك الثورة التي اجتمع لها كثير من عوامل النجاح.الواقع أنه يمكن تلخيص هذا الفشل في سبب رئيسي كبير هو: العقلية العسكرية لأحمد عرابي.
كان عرابي ثمرة من نظام الجندية الذي بدأ في عصر محمد علي، الجيش النظامي الرسمي المتدرب على طاعة الأوامر والمتشرب للتقاليد العسكرية الغربية التي بدأت بالجنرال الفرنسي سيف (سليمان باشا الفرنساوي) واستمرت مع بقية القيادات الفرنسية والأمريكية والإيطالية التي توالت وانتشرت في المراتب العليا للجيش المصري.
لقد كان عرابي متدينا، لكنه لم يتشرب الجندية الإسلامية بل تشرب الجندية الغربية، وقد أدى هذا لثلاث مشكلات عظيمة صنعت بمجموعها فشل الثورة العرابية.
1. الإيمان بالقانون الدولي
كانت الخطة البريطانية لاحتلال مصر هي الهجوم عليها من ناحيتين؛ الأولى: من الإسكندرية عبر البحر المتوسط بضربها بالمدافع المحمولة على السفن البحرية والتي لا تستطيع المدافع المصرية أن تصل إلى مداها، ثم إنزال القوات البرية لتسير إلى القاهرة. والثانية: عبر البحر الأحمر عند السويس حيث تأتي القوات الإنجليزية من الهند والخليج لتدخل البحر الأحمر ثم إلى قناة السويس ثم تنزل برا إلى القاهرة.
فكر عرابي تلقائيا في ردم قناة السويس، وهو التفكير الحربي المنطقي والطبيعي ليمنع رسو السفن الحربية وإنزال القوات الإنجليزية، وهنا تصدى له ديليسبس صاحب شركة القناة، وأحد المجرمين العتاة الكبار في تاريخ مصر، وأقنعه بكل وسائل الإقناع: الرغبة والرهبة أن القناة ممر ملاحي دولي محايد لا يمكن لبريطانيا خرق القانون الدولي واستعماله للأغراض الحربية، وأنه هو –أي ديليسبس- لا يمكن أن يسمح بهذا، ومن ورائه فرنسا.
إيمان عرابي بالقانون الدولي والشرعية الدولية وما إلى ذلك منعه من ردم القناة.. وهو المسار الذي دخلت منه القوات البريطانية، ومنه أوقعت بالجيش المصري هزيمة التل الكبير المشهورة، والتي كانت بداية الاحتلال. أما في الجهة التي حصنها عرابي ووضع فيها القوات المصرية فقد استطاع أن ينزل هزيمة كبيرة بالقوات البريطانية عند كفر الدوار. ولو لم تجد القوات البريطانية ممر قناة السويس لماتوا جوعا وعطشا وما استطاعوا إنزل قواتهم في الصحراء الشرقية والتعرض لمهالكها.
أما ديليسبس فقد أرسل برقية إلى عرابي يتأسف فيها أن بريطانيا خرقت القانون الدولي وأن لعرابي أن يفعل الآن ما يشاء!!
يوما ما حين تنتهي دولة محمد علي العلمانية العسكرية سينصب المصريون تمثالا لديليسبس لرجمه، بل ولجمعوا مئات أو آلاف التريليونات من فرنسا للتعويض عما أجرمه في حق بلادنا بدعم وتواطأ حكومته.
2. الإيمان بمؤسسات الدولة
بين بداية بواكير الثورة وبين وقوع الاحتلال الإنجليزي ست سنوات، وبين بداية تولي وزارة الثورة وبين احتلال القاهرة سبعة أشهر (من فبراير – سبتمبر 1882م)، وطوال الوقت لم يتخذ عرابي وسيلة للاستفادة من قوات المتطوعين القادمين للجهاد معه في سياق الثورة أو في سياق مقاومة الاحتلال الإنجليزي!
لقد اعتمد عرابي على "مؤسسة الجيش" النظامي، وهو ما جعل طاقة ضخمة من الشعب محذوفة من المعركة، لا هي تدري كيف تساعد، ولا القيادة تفكر في الاستعانة بها، وهو ما انعكس بقوة على نتائج المعركة التي انتهت بالاحتلال الإنجليزي.
إن فكرة تسليح الشعب كانت حاضرة بقوة طوال تاريخنا الإسلامي، حيث كانت الشعوب بطبيعتها مسلحة، لكن منذ أن حرم محمد علي على الناس حمل السلاح خرج الشعب من المعركة وصار عبدا للاستبداد ثم للاحتلال، كالأسير الأعزل بين يدي السجان المسلح! وقد كان ممكنا لفكرة مثل تسليح الشعب أن تغير ميزان القوى كله لتجعل طاقة المقاومة أضعاف أضعاف ما يستطيعه الجيش النظامي.
لكن عرابي الذي تربى في جيش الدولة النظامي لم يكن بالذي تخطر برأسه مثل تلك الأفكار المناقضة لطبيعة الدولة الحديثة ومنهجها، فلم يكن في المواجهة إلا الجيش وحده بينما الجماهير لم تملك إلا مقاعد المتفرجين والمشجعين.. وقديما كان الجيش الرسمي إن هزم بدأت المقاومة الشعبية، أما منذ محمد علي وحتى اللحظة فإن هزيمة الجيش الرسمي تعني سقوط البلد كلها في قبضة الاحتلال، وهو ما كان!
3. الإيمان بالتقاليد العسكرية
حين هُزِم جيش عرابي المأخوذ على حين غرة في التل الكبير تصرف أحمد عرابي كعسكري مهزوم لا كقائد ثورة.
والتقاليد العسكرية التي شربها عرابي في جيش محمد علي تدفع بالقائد المهزوم إلى تسليم نفسه للمنتصر، متوقعا من الطرف المنتصر أن يتعامل معه كقائد مهزوم، بينما التقاليد الإسلامية بل ودوافع الفطرة الطبيعية إن لم تتلوث تقضي على القائد المهزوم أن يتحول إلى قائد مقاومة سرية تستحث كل ما من شأنه إشعال الأرض تحت أقدام العدو الغاصب.
ولقد كان بالإمكان إن لم يستسلم عرابي أن تواصل المناطق المنتفضة والتي استعدت للمقاومة نضالها، وهو الأمر الذي تحطم بتسليم عرابي لنفسه، فانتهى حلم المقاومة السرية. ومن جهتهم سعى الإنجليز من لحظة الاحتلال الأولى إلى تسريح الجيش المصري وإبقاء قوة صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي إن استخدمت فإنما ستكون كقوة "مكافحة الإرهاب" لا غير.
هكذا فشلت الثورة العرابية..
فشلت بالقناعات والأفكار قبل أن تفشل لأسباب القوة والحرب، وبدأ عصر الإنجليز.

وهكذا تجرع المصريون جميعا ولسبعين سنة ثمار الإيمان بالقانون الدولي، والإيمان بمؤسسات الدولة، والإيمان بالأعراف والتقاليد العسكرية.. والمؤسف أن من لا يُتَهمون في شرف ووطنية لا زالوا يؤمنون بتلك الثلاثية التي أوردتنا المهالك والمجازر والمذابح، وألقت ببلادنا في يد الإنجليز قديما، وفي يد الصهاينة والأمريكان اليوم!
نشرت في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 05, 2017 21:08