محمد إلهامي's Blog, page 25

May 1, 2018

ماذا تعرف عن العلاقات الإسلامية الصينية



يرى الكثيرون أن المسلمين في أمس الحاجة للتواصل والتعاون مع الصين اليوم للتواصل والتعاون لمصلحة الأمتين كليهما، إذ تجمع بينهما مصالح مشتركة وتواجههما تحديات مشتركة كذلك، ومع أن الصين استطاعت الحفاظ على وحدتها ووجودها كإمبراطورية فإن العالم الإسلامي لم يعد كذلك، وهو الوضع الذي تحافظ عليه المنظومة الدولية والتي تعد الصين واحدة من أبرز أعمدتها.
بينما يرى آخرون أن هذا أمل بعيد، ذلك أن سياسة الصين تجاه المسلمين في تركستان الشرقية (وهي المنطقة التركية التي يسكنها شعب مسلم يتجاوز خمسا وعشرين مليونا، ويعانون اضطهادا دينيا شنيعا وواسعا) وسلوكها تجاه القضايا العربية (وبالذات: الثورة السورية) ودعمها للاستبداد الوحشي لأنظمة عربية وأنظمة شيوعية في آسيا الوسطى.. كل هذا يجعلها في عداد التحديات التي تواجه الأمة المسلمة وجزءا من المنظومة الدولية التي تحارب محاولات النهضة الإسلامية.
في كل الأحوال فإن الحاجة دائمة قائمة لمعرفة جذور العلاقة بين المسلمين والصين، ولعل كثيرين لا يعرفون أن العلاقة قد ابتدأت منذ وقت مبكر في التاريخ الإسلامي، وظلت متصلة حتى عصر الاحتلال الغربي للعالم (المعروف بعصر الكشوف الجغرافية)، فذلك هو أول قطع وانقطاع في مسار العلاقات الإسلامية الصينية، وهو ما ساهمت فيه إرادة العزلة والتقوقع لدى بعض الأسر الحاكمة في الصين.
سنحاول في هذا المقال والمقالات التي تليه –إن شاء الله تعالى- أن نقدم استعراضا موجزا ومكثفا لصورة الصين في التراث العربي الإسلامي، ومتى بدأ الاتصال الإسلامي بالصين، وكيف تكونت صورتها في المخيال الإسلامي، ومنافذ الاتصال التي ساهمت في بناء تلك الصورة.
الفتوحات الإسلامية
مع الانطلاقة القوية للفتوحات الإسلامية وصل المسلمون في عصر مبكر إلى حدود الصين، فقبل نهاية القرن الهجري الأول كان قتيبة بن مسلم الباهلي قد فتح بلاد الترك في وسط آسيا جميعها، ودخل مدينة كاشغر، عاصمة إقليم تركستان الشرقية الذي تحكمه الصين الآن. لم يكن إقليم تركستان من بلاد الصين وإنما هو –كما يعبر اسمه "أرض الترك"- من بلاد الجنس التركي المنتشر حتى تلك الأنحاء!
لم تكن الصين بعيدة عن مجرى الفتوحات الإسلامية، بل إن معركة في فتوح بخارى كانت بقيادة كور مغانون التركي الذي كان في الوقت نفسه ابن أخت ملك الصينالحروب الإسلامية الصينية
خلال تلك القرون المتطاولة نشبت بين الأمتين القليل من الحروب، وغلب على العلاقات بينهما التعاون الحضاري والعلاقات السلمية والتجارية. ولا تمدنا المصادر المتوفر بكثير من المعلومات حول تلك الحروب بتفاصيل ترسم لها صورة واضحة، ما يدل على أنها كانت عابرة مع كونها حاسمة، وظلت حدود الفتح الأول هي الحدود الدائمة بين المسلمين والصين.
بعد فتح كاشغر وقع اضطراب بين قتيبة بن مسلم والخلافة أسفر عن بقاء المشرق على ما انتهى إليه قتيبة، ثم اضطربت أمور الخلافة كلها بثورة العباسيين على الأمويين، فنتج عن هذا حلف تركي صيني ضد المسلمين في بلاد ما وراء النهر، فهاجم الحلف الصيني الفرغاني ملك الشاش حيث لم يكن يواليهم فاستغاث ابنه بالمسلمين فأغاثوه، ووقعت معركة كبرى "موقعة طلخ" انتصر فيها المسلمون، وبها عاد الوضع لما كان عليه، وانتهى الدعم الصيني لقبائل الترك، وغلبت الثقافة الإسلامية على بلاد ما وراء النهرثم يغيب ذكر الصين حتى تظهر مرة أخرى بعد نحو أربعة قرون حين احتل ملكها "كو خان" كاشغر عاصمة تركستان وهزم صاحبها الخان أحمد بن الحسين (522هـ) بمساعدة "الخطا"، وهم الترك الذين ظلوا على الوثنية في الأنحاء ما بين الصين والتركستان، ولما رجع ملك الصين إلى عاصمته كانت بلاد التركستان قد صارت بيد الخطا، وقد واصل الخطا زحفهم إلى بلاد ما وراء النهر فهزموا خان القرخانيين المسلمين حتى انسحب نحو بخارى وسمرقند، فاستغاث بملوك المسلمين في تلك الأنحاء وأكبرهم سنجر السلجوقي، وانتهى الحال إلى معركة ضخمة بين جيش ملك الصين وقبائل الخطا وغيرهم ضد تحالف الجيوش الإسلامية، وأسفرت المعركة (1 صفر 535هـ = 16 سبتمبر 1140م) عن نصر حاسم  لملك الصين وحلفائه، امتد بها نفوذهم ليشمل التركستان وبلاد ما وراء النهر لنحو ربع القرن حتى أجلاهم جقري خان عن بخارى وسمرقند ثم انتهى نفوذهم تماما على يد الخوارزميين بعد نحو سبعين سنةثم تغيب الصين مرة أخرى حتى تأتي العاصفة المغولية التي قادها جنكيز خان والتي اجتاحت كل المشرق بما فيه الصين والعالم الإسلامي، وقد أدت هذه العاصفة إلى هجرات واسعة كان من بينها مسلمون فارون من وجهها إلى الصين، وفيما بعد تقسمت مملكة جنكيز خان بين أبنائه، وأسلمت سائر الأقسام: القبيلة الذهبية ومغول الهند وفارس، وبقي القسم الصيني لم يُسلم ملوكه، على أنه أشيع إسلام ملك الصين –كما نقل القلقشنديالسفارات الإسلامية الصينية
على ضفاف تلك الحروب تكونت العلاقات السياسية بين الأمتين الكبيرتين، وتورد رواية شاذة أن العلاقات السياسية بدأت منذ عصر الخلافة الراشدة بسفارة على رأسها سعد بن أبي وقاص في زمن عثمانومع ضعف سلطة الخلافة ظهرت الدول المستقلة على الأطراف، فكان منها: الدولة السامانية فيما وراء النهر، فكان من أبرز السفارات الإسلامية الصينية سفارة أبو دلف مسعر بن المهلهل الينبوعي إلى الصين والهند بتكليف من نصر بن أحمد الساماني مع بعثة كان أرسلها أمير الصين لخطبة ابنة أمير بخارى، وسجل أبو دلف أخبار سفارته، فكانت من مصادر الرحالة والجغرافيين من بعدهوبالرغم من أن الدولة العباسية في افتتاح أمرها واجهت الصين في معركة طالس إلا أن ملك الصين استغاث –بعدها بزمن قصير- بالدولة العباسية ضد تمرد عليه سيطر على بعض العاصمة، فأرسل إليه المسلمون أربعة آلاف جندي استطاع بهم القضاء على التمرد، وبقي أولئك الجنود في الصينوبالعموم، فقد تكونت صورة مهيبة للمسلمين لدى ملوك الصين، فقد كانوا يرون أن الدنيا لأربعة ملوك أعظمهم ملك العرب الذي يُجمعون أنه "أكثرهم مالا وأبهاهم جمالا وأنه ملك الدين الكبير الذي ليس فوقه شيء"، ثم ملك الصين، ثم ملك الروم، ثم ملك الهند، وبقية ملوك الأرض تبع لهمونستطيع القول بأن ضعف مركز الخلافة الإسلامية في بغداد جعل الاتصال الصيني الإسلامي منحصرا في الدول الحدودية في بلاد ما وراء النهر، ثم جاء الغزو المغولي فقرر وضعا جديدا تماما في الاتصال السياسي بين مركز العالم الإسلامي وأطرافه، حتى ليقرر القلقشندي، الأديب الذي عمل كاتبا في بلاط السلطان الظاهر برقوق، أنه لا مراسلات بين سلطان مصر –عاصمة الخلافة حينئذ- وصاحب الصينفي المقال القادم إن شاء الله تعالى نرى كيف تواصل المسلمون مع الصين، وما المعلومات التي جاءت عبر الرحلات الأولى التي قام بها مسلمون إلى الصين.
نشر في مدونات الجزيرة

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 01, 2018 23:24

April 24, 2018

اختبر نفسك: كيف تتفاعل مع الشائعة؟


قال الجبرتي:
"في يوم الأربعاء رابع عشري الحجة آخر سنة 1147 [أي اليوم التالي لعيد الأضحى من هذه السنة، وهو يوافق 7 مايو 1735م] أشيع في الناس بمصر بأن القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشري الحجة [بعد يومين فقط]، وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والأرياف وودَّع الناس بعضهم بعضا:
1. ويقول الإنسان لرفيقه: بقي من عمرنا يومان، وخرج الكثير من الناس والمخاليع الغيطان والمنتزهات، ويقول بعضهم لبعض: دعونا نعمل حظا ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة.
2. وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا يغتسلون في البحر.
3. ومن الناس من علاه الحزن، وداخله الوهم.
4. ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلي.
5. واعتقدوا ذلك ووقع صدقه في نفوسهم، ومن قال لهم خلاف ذلك أو قال: هذا كذب لا يلتفتون لقوله.
6. ويقولون: هذا صحيح، وقاله فلان اليهودي وفلان القبطي، وهما يعرفان في الجفور والزايرجات ولا يكذبان في شيء يقولانه، وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي خرج في يوم كذا، وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك وقال له: احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني. ونحو ذلك من وساوسهم.
وكثر فيهم الهرج والمرج الى يوم الجمعة المعين المذكور. فلم يقع شيء! ومضى يوم الجمعة وأصبح يوم السبت
7. فانتقلوا يقولون: فلان العالم قال: إن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك وقبل الله شفاعتهم، فيقول الآخر اللهم انفعنا بهم فاننا يا اخي لم نشبع من الدنيا وشارعون نعمل حظا ونحو ذلك من الهديانات".
انتهى كلام الجبرتي.. والذي نقلته بحروفه، ولم أتدخل إلا بالترقيم وبتوضيحين بين معقوفين [..].
في هذا المشهد نرى أن الشائعة استطاعت أن تنتشر انتشارا واسعا في القاهرة والقرى والأرياف رغم أن الزمن كان أسرع ما فيه الحمام الزاجل! حتى لكأن بعض الشائعات لها قدرة انتشار ذاتية تهزم به حواجز الزمن والمسافات! وفيه نرى أيضا أصناف الناس ومذاهبهم في التعامل مع النوازل الكبرى المتوقعة، وقد رصد الجبرتي منهم سبعة أصناف:
1. فمنهم من لا يرى في أي حادثة إلا مصدرا أو فرصة للهو واللعب والضحك والمرح، ولعل أولئك هم القادرون دائما على ابتكار النكات الساخرة التي تخرج في أشد أوقات الأسى والبؤس حتى كأن الذي ابتكرها يعيش في عالم وحده، يراقب المشهد من بعيد بغرض إنتاج نكات جديدة. ففي هذه الواقعة التي بين أيدينا أشيع بين الناس أن يوم القيامة بعد يومين فبادروا إلى قضائهما في اللهو واللذة لأنهما آخر يومين في الحياة! فتشاوروا في اختيار المتنزهات وأماكن اللهو والحقول التي ستشهد آخر نعيمهم!
2. ومن الناس من تفاعل مع الموقف بعقلية جماعية لا تزال تحير علماء الاجتماع في تفسيرها، السلوك الجمعي للبشر واحد من أهم الحقول التي لا تزال تُدرس لفهمها، يُقال بأن الناس تتعامل مع الموقف الجمعي تبعا لأول ردة فعل، وأن أي إنسان يستطيع قيادة أي تجمع حائر لو تصرف كقائد. يضربون لها مثلا باجتماع الناس حول حادث مثلا فإذا أتى رجل من الخلف قائلا "وسَّع يا جدع" وتقدم باعتباره يملك الحل، فإن الناس بتلقائية تفسح له دون سؤال ولا تردد ودون معرفة سابقة، مع أنه قد يكون مجرد متفرج جديد! كذلك من يسارع للتعامل مع المريض أو المصاب كأنه طبيب فإن الناس تستسلم له ويتركونه لفحص المريض وإذا طلب دواء كذا أو كذا هرع بعضهم لتنفيذ أمره!.. في الواقعة التي كانت أيام الجبرتي سارت في أهل الجيزة طبيعة تصرف جماعية وهي أنهم نزلوا يغتسلون في نهر النيل.. لماذا؟ ولأي غرض؟ وبأي دافع؟.. الله أعلم! لعلهم اتبعوا في هذا التصرف رجلا بدأ به وعملت النزعة الجماعية على نشر هذا السلوك.
3. بعض الناس كالعادة أوقفوا حياتهم، ودخلوا بيوتهم، وتلفعوا بأحزانهم.. يمارسون الانتظار! وهو سلوك كثير من الناس إذا شعر أن الموقف أكبر منه وأنه لا يملك حياله أي شيء، وأن كل شيء صار بلا فائدة، ولم يعد من جدوى لأي شيء.. أتصور لو أن هؤلاء في زماننا لكان الواحد منهم أغلق هواتفه وجلس في غرفته بعد أن أغلقها عليه! ولو كان به بعض الإيجابية لقضى وقته في التعليق على كل منشور بمواقع التواصل الاجتماعي بما معناه: "انتوا بتتكلموا في ايه، ده القيامة هتقوم"، فلو رأى منشورا يدعو للتوبة قال: "خلاص، مفيش فايدة.. اللي تاب تاب زمان"، ولو رأى منشورا يدعو للهو قال: "والله انت ما عندك دم.. بعد بكرة ربنا هيحرقك"!
4. ومن الناس من تذكر الله تعالى فصار يتوب ويصلي ويبتهل في محاولة أخيرة لتغيير مصيره في الآخرة.. ولا شك أن هذا أفضل المنازل، وأفضل العمل فيه هو واجب الوقت: إن كانت الصلاة أو الجهاد أو غيرها، وفي الحديث أن النبي جعل أفضل العمل لمن يغرس الفسيلة أن يغرسها. وأتذكر أن قريبا لي –وكان تاجرا في قرية بالصعيد المصري- روى لي أنه في عام 1996 تقريبا، وكانت مصر تشهد كسوفا للشمس –ولم تكن شهدته من قبل لأعوام طويلة- صار يأتيه الناس ويسددون له الديون التي عليهم لأن القيامة ستقوم يوم الأربعاء (يوم الكسوف)، كي يتحللوا منها، حتى صار يضحك قائلا: وماذا سأفعل أنا بالأموال إن كانت القيامة ستقوم أيضا!
لكن مشكلة هذا الصنف هو في تصديقه الوهم والخرافات، مشكلته في تسليمه نفسه للدجالين والكذابين، وأنه يخضع لقولهم دون فحص.. فلئن كانت استجابته أفضل من غيره، إلا أن الخطر يأتيه من هذه الخصلة.
5. من الناس من سيبذل جهده في مواجهة هذه الشائعة، ويقدم العقل على العاطفة، ويقاوم السلوك الجمعي العام السائد، ويجادل بأن هذا كذب.. لكنه سيكون الصوت الأضعف في غمرة الفوران الجمعي المستجيب للشائعة، وأخطر وأكبر من يؤجج هذا الفوران الشعبي في مقابله هو الصنف القادم:
6. أولئك الذين يتبرعون من تلقاء أنفسهم لإثبات الشائعة وتأكيدها واختراع الأدلة لها، هنا يتفاعل خليط من الكذب والهوى وحب الظهور والشهرة ليصنع هذا الصنف من الناس. والمؤسف أن هؤلاء ليسوا بالقليل بل إن وجود أحدهم يشجع ظهور آخرين على نفس المنوال، في الواقعة التي بين أيدينا اخترعت الأدلة والقصص والروايات والمصادر التي تؤكد الشائعة، فهذا فلان اليهودي وفلان القبطي الذين يعرفون الغيوب وعلم المستقبل، ويُخترع لهم تاريخ من النبوءات الصادقة كالمريض الذي شُفي وفلان الذي رزق بالولد وفلانة التي رجع إليها زوجها.. إلخ! والريح التي أخبروا أنها تهب فكانت كما قالوا، واخترع آخرون قصة تزيد التأكيد عن فلان الذي ذهب إلى الأمير الفلاني وقال له: احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني.
ولا شك أن كل واحد فينا يتذكر أشياء من هذه، لا سيما في أوقات الثورة والاضطرابات، والمصادر التي تتحدث عن هروب فلان أو مقتل فلان أو تحذير فلان أو الاتفاق على الأمر الفلاني أو ترتيب الوضع السياسي بالشكل الفلاني، ويتضخم الخبر ويتأكد عبر شبكة من الكذابين الذين لا يتثبَّتون ولا يتبينون، بل لقد تخصصت حسابات على تويتر وفيس بوك في نشر الشائعات وتخصصت حسابات أخرى في تأكيد وترسيخ ما يُنشر! ثم ينفض السامر على الكذب.. لكن الحسابات تواصل مهمتها لأن كافة شرائح الشائعة لا تزال تتعامل معها كأنه لم يحدث شيء من قبل.. وأولئك هم الفئة السابعة.
7. هؤلاء هم الذين لما لم تقم القيامة في اليوم الموعود اخترعوا قصة غيبية تماما، شفاعة انطلق بها الأولياء الصالحون لله تبارك وتعالى، فقبل الله شفاعتهم ومدَّ في عمر الحياة الدنيا!!
إن الشائعة تجد من يخترع لها قصة دارت في الملكوت الأعلى لئلا تكون كاذبة، أي أن المخدوع بالشائعة كان أهون عليه أن يكذب مرة أخرى على الله وعلى أوليائه الصالحين من أن يعترف بأنه أخطأ أو كان من المغفلين!..ولولا أني لا أريد حرف المقال عن فكرته العامة لذكرت بعض أسماء الصحافيين والإعلاميين الذين تخصصوا في نقل ما يحدث في الغرف المغلقة بين الرجل وزوجته أو الوالد وابنه أو ما دار في مكاتب الرؤساء ورؤساء المخابرات وفي الدوائر السياسية الضيقة التي لا يتسرب منها الهواء، فينشرونه على الصفحات ليفسرون به حركة التاريخ وليستروا به عورة كذبهم ودجلهم!!
نفس ما رواه الجبرتي قبل ثلاثة قرون وقع لمجموعة في أمريكا من عام 1955، حيث اعتقدوا بأن نهاية العالم ستكون الساعة الرابعة من يوم 21 ديسمبر، ووقعت قصة لا تختلف في جوهرها عما رواه الجبرتي، خلاصتها أن المؤمنين ستأتيهم أطباق طائرة في فناء منزل سيدة بعينها لتستخلصهم وتنقذهم، وهو ما حدا بالمؤمنين إلى التجمع في منزل السيدة، ثم فشلت نبوءتهم عند الساعة الرابعة! وهي القصة التي استخلص منها عالم النفس الشهير ليون فينجستر نظريته عن التنافر الإدراكي، ونشرها في كتابه "عندما تفشل النبوءة"، محاولا تحليل التفسيرات التي قدمتها المجموعة حين تناقض الواقع مع ما آمنوا بهمثل هذه المواقف تثبت أن الإنسان هو الإنسان، وأنه لا يخضع لمعايير التقدم المتعلقة بالمادة، ولذا لا يصح أن يُقال بأن شعبا ما متقدم أو شعبا ما متخلف لمجرد العرق أو البقعة الجغرافية أو نوع الثقافة.
المطلوب الآن أن تغمض عينيك وتتخيل: كيف تستعمل السلطة هذه الطبائع الإنسانية لتتحكم بالناس وتسيطر عليهم؟ وإذا أتيح لك أن تقدم مقترحاتك لمكافحة هذا، فبم يمكن أن تنصح؟! كلما كنت صاحب تفكر وتأمل أعمق كانت نصائحك ومقترحاتك أصوب وأجود.
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 24, 2018 23:36

April 21, 2018

مذكرات رفاعي طه (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهول


وُلدت في 24 يونيو 1954م، في أجواء أزمة الإخوان المسلمين، وكانت أزمتهم بدأت في مارس، أي أنني وُلدت بعد بداية الأزمة بثلاثة أشهر، وكانت قريتى تُدعى نجع دُنْقُل، وكانت قرية صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهي تابعة لمركز أرمنت محافظة قنا آنذاك، وأصبحت الآن تابعة لمحافظة الأقصر.
كان والدي من قرية تدعى المراعزة، وكذا أعمامي جميعهم، ونحن ننتمي لقبيلة تسمى الفريحات ينتهي نسبها لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما أمي فهي من نجع دنقل من سلالة ينتهي نسبها إلى تنقلا بالسودان، وهي أيضا تنتهي بالنسب إلى قليلة جعفرية، فيلتقي نسب والدي ووالدتي بالجعافرة سواء جعافرة السودان أو جعافرة مصر، ولست أعرف بالتحديد عند أي جدٍّ يلتقي نسبهما، لكني أتصور أن جدتي لأبي ووالدة جدي لأمي أخوات، لكن لا أعرف نسب الرجال في أي جد يلتقون.
ما أذكره من ميلادي هو من رواية أمي، لقد ولدت مريضا بالربو "حساسية الصدر"، وأتذكر أنني في سن الخامسة كانت تنتابني نوبات ربو شديدة جدا، ولم يكن بالقرية شيء من وسائل العلاج أبدا، وقد بلغت مرحلة الموت مرات عديدة، وكانت والدتي –كما روت لي- تعالجني بطريقة خاطئة، كانت أمي امرأة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت تظن أنها إذا جعلت صدري إلى أسفل ورجليّ إلى أعلى أنها تساعدني على التنفس بشكل أفضل، إلا أن هذا كان يزيد من الأزمة لا يعالجها، وهذا الوضع هو مرحلة مميته لمريض الربو لأن الرئتين يزيد عليهما الضغط، ويتطلب الحجاب الصدري الجلوس أو الوقوف.
أول ما أتذكره بنفس دون رواية من أحد كان وأنا في سن الرابعة، في ذلك الوقت دفعتني ابنة عمتي "شربات" فوقعت على الأرض، فدخلت في يدي قطعة زجاج، ولما لم يكن في القرية أية وسيلة من وسائل العلاج، فقد جاءت والدتي فنزعت هذه القطعة فتدفق الدم غزيرا من الجرح الغائر، ثم أحرقت بعضا من الورق وبقايا مصاصات القصب فأحرقتها حتى استحالت رمادا، فأخذت من الرماد وكبست به الجرح ليتوقف تدفق الدم. إن خلو قريتنا من أبسط وسائل العلاج كثيرا ما أفضى إلى الموت، وإني أتذكر وفاة خالتي التي كانت في حال الولادة، وكانت أقرب مستشفى على بعد ثلاثة كيلومترات، فوُضِعت على عربة كارو يجرها حمار، وعندما وصلت كانت قد فارقت الحياة. لقد كانت قرية غارقة في الفقر والجهل.
كان جدي عمدة القرية، ومع هذا لم نكن نعرف الكراسي في بيوتنا، كانت الكراسي معدومة إلا في البيوت الكبيرة، أو في منظرة العمدة، وأما البيوت فالناس يجلسون على الدِكَك، وهي تقارب "الكنبة" المعروفة اليوم، ولكنها من الخشب، فهي قطعة خشبية طولها متران وعرضا سبعين سم، ولها ظهر يُستَنَد إليه كما لها مُتَّكأ على طرفيها يتكئ عليه الجالس.
ولذا فعندما خُتِنْتُ –وهو ثاني حدث أتذكره بنفسي- أجلسوني على "الماجور"، وهو وعاء كبير تصنع فيه المرأة عجينها، فإذا قُلِب كان بوسع الطفل الجلوس عليه، ثم جاء حلاق القرية، والذي هو في نفس الوقت طبيبها ومعالجها ومسعفها، وهو الذي ختنني، ولم يكن ثمة وسيلة من وسائل التخدير، بل يداعبني فإذا غافلني قطع قطعة من هذه الجلدة التي تغطي الحشفة، فأصرخ صراخا شديدا، ثم يهدئني ويغافلني ثم يقطع قطعة أخرى فأصرخ، وهكذا، حتى تم الأمر بين صراخي الشديد من هذا الألم القاسي. فهذان الموقفان هما ما أتذكرهما بنفسي، وكانا عند الرابعة لأن والدتي كانت تقول بأن عمري أربع سنوات، ولا أتذكر قبل هذه السن أي شيء.
عندما كنت في الخامسة أو السادسة بدأت في الذهاب إلى الكُتَّاب، وكان شيخه الشيخ بسطاوي هو من يُحَفِّظنا القرآن، وكان رجلا طيبا وصالحا، ولم يكن لدينا شيء من وسائل الكتابة بل كنا نكتب على الأرض، ثم ظهرت الألواح فيما بعد حين كنت في التاسعة أو العاشرة، كانت من الخشب فكنا نكتب عليها بقلم من البوص أو نحوه يُبَلَّل في الحبر، ثم نمسحها بمادة طينية نسميها "الطَّفْلة"، أما هذه الأقلام فلم تكن معروفة لنا قط، ولعل هذا يُصَوِّر إلى أي حدٍّ كانت الحياة حينذاك شديدة الصعوبة.
في زمن الكتابة على الأرض كان الحفظ يعتمد على السماع فقط، يظل الشيخ يردد الآية حتى تستقر في رأس الطفل، وفي اليوم التالي يقرأ الطفل على الشيخ ما حفظه ثم يسمع الجديد، وهكذا. وفي تلك الفترة حفظت ربع القرآن الأخير منذ نهاية حتى سورة يس.
لم أذهب إلى المدرسة الابتدائية، كانت أقرب مدرسة تبعد عن قريتنا بخمسة كيلومترات، ولم يكن من وسيلة للذهاب إليها، وكان أبي وأمي يخافان عليَّ أن أذهب وحدي، وأظن أن قريتي كلها لم يكن يذهب منها أحد في سني هذا إلى المدرسة. وهكذا فالكُتَّاب هو المدرسة الوحيدة في القرية، ولهذا فإن أهلها لا يعرفون القراءة والكتابة إلا بصورة بسيطة.
كذلك لم تكن القرية متدينة، كان كبار السن يصلُّون، وكان إلى جوار منزلنا مسجد "أبو الحمد"، وكان فيه تابوت الشيخ "أبو الحمد"، ولهذا الشيخ قصة لعلي أرويها لاحقا في وقتها. وهذا البُعد عن الدين كان سببه الأكبر قطعا الحقبة الناصرية، فلقد كانت شديدة في تغييب الدين ليس فقط عن قريتنا بل عن مصر كلها، ولكني لم أدرك تأثير عبد الناصر على المجتمع المصري إلا وأنا في الثانية عشرة من عمري.
كانت نساء القرية لا يعرفن الشارع إلا قليلا، من أولئك القليل التي تذهب إلى السوق، وهي التي لا عائل لها، كان الرجال يقومون بكل شيء، وكان الحمار وسيلة النقل الوحيدة، فمن لديه حمار فهو يذهب ويجيئ به داخل القرية أو خارجها، وكانت المدينة تبعد عنا ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، فكان الرجل إذا أراد أن يتسوق أو يشتري ما ليس يوجد في القرية يمتطي حماره ويقطع تلك المسافة. كذلك فقد كانت مياه الشرب منعدمة في قريتنا، وكانت النساء يذهبن ليملأن مياه الشرب من ترعة بعيدة على مسافة 2 كيلومتر، كنَّ يعتبرنها نقية، فالعادة حينئذ أن تأتي النساء بالماء لغرض العجين والخبيز، فتلك مسؤوليتهن، ولم يكن في ذلك الوقت أفران مثل اليوم، فلقد كان الخبز يصنع في البيوت، فتحمل النساء الجرَّة وتملأها من الترعة، والجرَّة تزن نحو الخمس أو الست كيلو جرامات من المياه. وأما الطبخ والغسل ونحوه فكن يستعملن الطُلُمبَّة، وهي مضخة يدوية تُخرج المياه الجوفية، وكانت النساء ترى أن ماء الترعة أعذب وأصفى من المياه الجوفية، ولقد كان منزل جدي كبيرا، فهو عمدة القرية، وكانت فيه طُلُمْبتان.
ما كانت أمي تلد الأطفال إلا ويموتون، ولما تكرر هذا نصحها بعض أهل القرية أن تذهب إلى السادة الرفاعية، وأولئك هم أتباع طريقة صوفية تعرف بالرفاعية، وظنَّت أمي أنها إن أسمت المولود الجديد رفاعي أو رفاعية فإن هذا ينجيهما من الموت، وهو ما كان فعلا، فلما رُزِقت بأختي الكبرى أسمتها "رفاعية"، ثم لما وُلِدت بعدها أسمتني "رفاعي"، ثم لتختر فيما بعد ما تشاء من الأسماء، وكان لأختي الكبرى اسم آخر هو "عدلية".
عاشت "رفاعية" أو "عدلية" ست سنوات أو سبع، ثم توفيت، وعشت أنا إلى هذا اليوم، وسُمِّيت باسمي هذا "رفاعي"، ثم جاءت بعدي أخت سميت "روحية" إلا أن والدي كان يحب المغنية شادية فأطلق عليها هذا الاسم، فهي في الأوراق الرسمية "روحية" ولكنها في الواقع "شادية"!
في ذلك الوقت كان أبي يعمل تاجر حديد خردة، ويسمى هذا "مقاول حديد خردة"، يجتمع النفر من هؤلاء المقاولين فيشترون الحديد الخردة إما من مخلفات المصانع أو المباني أو ما يجمعه الناس، إذ يمرُّ عليهم صاحب حمار وينادي على من كان لديه حديد يشتريه منه، فكان الناس يبيعونه ما لديهم من مخلفات الحديد كقائم للسرير، فلقد كانت الأسرة في ذلك الزمن تُصنع من الحديد، أو "الناموسية" التي تظلل سرير العروس، وهي من الحديد أيضا، أو الأواني التي تكون من الحديد أو الألومنيوم، ونحو هذا. وكان الغالب في عملية البيع والشراء المقايضة، فلقد كان وجود النقود محدودا جدا آنذاك، فيشترى الرجل قطعة الحديد مقابل ثلاث بيضات أو كمية من الغلال والحبوب، أو ربما أتى بأشياء جديدة مثل "شبشب" أو نحوه، وكان مصنع سكر أرمنت بدأ بالعمل حديثا تلك الأيام، فكانوا يأخذون مخلفاته أيضا، وكان أبي يعتبر من أعيان البلد لأن هذه الأشياء كانت ثمينة في ذلك الوقت. ثم في مرحلة لاحقة بلغه أن مركز إدفو التابع لمحافظة أسوان سينشئ مصنعا جديدا، فعزم على الانتقال إلى هناك، لعلمه أن المصانع في بدايتها تخلف كثيرا من كمايات الحديد، وهو ما كان، وظل يعمل هناك في موقع نشاطه الجديد إلى أن عزم على نقل الأسرة معه إلى هناك. وكان والدي أول رجل من قريتنا يغترب عنها، وهو اغتراب داخلي بسيط، ومع ذلك فأهل القرية اعتبروها غربة كبيرة فاجتمعوا وأخذوا في البكاء، وهذا إنما هو لانعدام وسائل الاتصال في ذلك الوقت.
لم أعرف الراديو إلا في السنة الخامسة الابتدائية، فقد كنا نزور قريتنا كل سنة أو كل ثمانية أشهر إذ نعود إليها من مكان استقرارنا الجديد في مركز إدفو، وفي تلك الزيارة كان جدي قد اشترى واحدا، وكان جهازا ضخما حينئذ، حوالي 70 سم × 50 سم، ولما رأيته يتكلم سألت جدي باستغراب: ما هذا؟ فقال: هذا راديو، وكان بعض الناس يتصورون أن المذيع قابع بداخل الراديو ويستغربون كيف يُحمل معه، لكن أغلب الناس كانوا يسخرون ويتندون من هؤلاء، يقولون: ألم تسمع عن الزمان الذي سيتكلم فيه الحديد؟! ها هو قد جاء وتكلم الحديد!
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 21, 2018 10:49

April 17, 2018

الحرية أولا أم الشريعة


في عقد التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديد شهدت الساحة الفكرية هذا السؤال الذي يُطرح على الإسلاميين: أيهما تريدون أولا، الحرية أم الشريعة؟
طرْح السؤال في البيئة العلمية الفكرية شيء، وطرحه في البيئة السياسية شيء آخر. فالبيئة العلمية الفكرية أقرب إلى المعمل الذي تُجرى فيه التجارب تحت ظروف خاصة ومجهزة بحيث يمكن رصد النتيجة بأعلى قدر من الدقة، فهو بحث موضوعي نظري. أما طرحه في البيئة السياسية فهو محاكمة مُبطَّنة، يجلس فيها القوي المسيطر موقع الخصم والحكم ويجلس فيها الضعيف في موقع المتهم، ويُطرح السؤال على صيغة: هل أنت من المؤيدين لحكمي الرشيد؟ أم أنك لا قدر الله من المعارضين؟! وهنا يتبارى المتهمون المستضعفون في تقديم إجابة توازن بين موقعهم الحقيقي من خريطة القوى وبين ما يؤمنون به من أفكار.
هذا السؤال: الحرية أولا أم الشريعة، هو سؤال الثقافة الغالبة على الثقافة المغلوبة. سؤال ثقافة الليبرالية التي هي إنتاج الحضارة الغربية على المعتنقين للثقافة الإسلامية المغلوبة.
وقد أجاب الإسلاميون على هذا السؤال بطيف واسع من الإجابات، فقال بعضهم: الديمقراطية كفر والشريعة أولا، وقال بعضهم: الديمقراطية هي جوهر الإسلام ومقصوده والحرية أولا.. وبين الإجابتين درجات كثيرة من إجابات تحاول إنتاج توازن بين مناطق التناقض والتعارض بين الحرية –كما تطرحها الليبرالية- والشريعة، ويجري تلوين كثير ومناورات كثيرة، فمنها ما يحاول إعادة تعريف الحرية في صورة تنسجم مع الإسلام، ومنها ما يحاول إعادة تعريف الشريعة في صورة تنسجم مع الليبرالية، وبينهما أطياف كذلك.
المهم المقصود من كلامنا الآن أن فريقا عريضا من الإسلاميين أجاب على السؤال بقوله: الحرية أولا. حتى لو كانت حرية علمانية ليبرالية كالتي نراها في المجتمعات الغربية، فإن الإسلام سينتشر في البيئة التي تتنفس الحرية، ويكفينا أن يتمتع الدعاة بحرية الدعوة وستعمل جاذبية الإسلام بنفسها وبمجهود الدعاة على أن تستثمر مناخ الحرية لنصل في النهاية إلى: الشريعة.
لقد اعتنقتُ لبضعة أعوام هذه الإجابة.. وإليك قصة نبذي لها وتخلصي منها، بل واعتباري إياها خرافة جاءت من خلط وتلبيس سأقصه عليك.
لم يكن السؤال المطروح على الإسلاميين سؤالا فكريا قادما من البيئة العلمية، بل كان سؤالا مطروحا في البيئة السياسية، وهو لم يُطرح أصالة على الفقهاء والمفكرين بل طُرِح على الحركيين، وحتى من تدخلوا فأجابوا من الفقهاء والمفكرين لم تكن إجابتهم حكما شرعيا بل كانت فتوى محكومة بظروف الزمان والمكان والحال.
كان سؤال الحرية والشريعة في وقته وظروفه معناه ببساطة: هل تقبلون يا معشر الإسلاميين بحاكم علماني ليبرالي على النمط الغربي بديلا عن المستبدين الذين يحكمونكم الآن؟ أم أن البديل الوحيد المقبول عندكم هو حاكم إسلامي يطبق الشريعة؟!
وحيث لم يكن للإسلاميين قوة ولا قدرة على نصب حاكم يطبق الشريعة، فقد قبلوا بصورة الحاكم العلماني الليبرالي الذي سيطلق الحريات العامة كمرحلة يثقون أنها ستوفر لهم الفرصة لنشر الدعوة وجذب الجماهير فينتقلون بعدها إلى المرحلة المنشودة: مرحلة الشريعة! الشريعة كثمرة من ثمرات الحرية واختيار الناس الحر النزيه.
فما المشكلة في هذا التصور؟
المشكلة بقدر ما هي بسيطة، بقدر ما هي فارقة وجوهرية وأصيلة.. المشكلة ببساطة هي في تَوَهُّم أن ثمة من قد يمنحك الفرصة للاختيار بين الحرية والشريعة!
سؤال الحرية والشريعة يمكن أن يستفيض الفقهاء والمفكرون في الكتابة عنه وبحثه، على مستوى النظر. أما على مستوى الواقع فإن الذي يملك القدرة على الحكم لا يُعطي خيارات لأحد! فالجهة التي تملك أن تخيرك بين نظامين هي الجهة التي تستطيع أن تفرض أحدهما، ولماذا تُقدم الخيار للضعيف إن كانت قادرة على إنفاذ خيارها المفضل لديها؟!
أي أن الإسلاميين، وأي مستضعف في أي مكان في العالم، لن يستطيع أن يختار لأنه –وبكل بساطة- لن يتمتع بوجود فرصة اختيار، من يملك أن يختار هو من يملك أن يفرض، فالقادر على الحرب هو من يحصل على السلام، ومن يملك القوة على الأرض هو من يملك قراره على مائدة المفاوضات.. بغير وجود القدرة على الاختيار تنعدم فرصة الاختيار نفسها.
ببساطة مخلة: يستطيع الإنسان أن يختار بين الطب والهندسة إن كان مجموعه بالأصل يُمَكِّنه من دخول هذه أو تلك، أما صاحب المجموع الضعيف فلا يملك الاختيار.. وبصورة أكثر واقعية: لا يملك الضعيف أن يختار بين شيئين لا يستطيع فرض أحدهما أو انتزاعه، وإنما يملك صاحب القوة أن يفرض ما يشاء بالقدر الذي تسمح له به قوته وقدرته.
لهذا فمهما تنازل المرء عن أفكاره وراوغ فيها وقدم المراجعات الفكرية فلن يمنحه أحد شيئا لا يستطيع انتزاعه بنفسه، ولعله لا يوجد من قدم تنازلات فكرية حاول بها حشر الإسلام في قالب الحداثة والحضارة الغربية مثلما فعل راشد الغنوشي بإخلاص مثير للشفقة والسخرية، ومع هذا لم يحصل على شيء في واقع السياسة، بل اضطر إلى تسليم الحكم بنفسه إلى النظام القديم الذي قامت ضده ثورة جاءت بالغنوشي نفسه إلى الحكم!
التنازلات الفكرية لم تؤد إلى مكاسب سياسية! لأن التنازلات الفكرية مهما عظمت لا تغير من موازين القوى في الواقع. والعكس صحيح أيضا: فلا السبسي ولا السيسي ولا حفتر ولا بشار قدموا رؤى فكرية عظيمة أو اقتربوا فكريا من الحداثة الغربية فكان ذلك سبب مكاسبهم السياسية، إنما حملتهم إلى مواقعهم خرائط القوى السياسية والعسكرية والمالية.
ولهذا تبدو سخافة الدعوات المتكررة إلى تقديم مراجعات فكرية ورؤى جديدة ونقد التراث وتجديد الأصول وإعادة النظر في مناهج التفكير.. و.. و.. و.. إلخ! فكل ذلك يتغافل عن حقيقة أن الفكرة المجردة لم تحق حقا ولم تبطل باطلا، ولقد كان الأنبياء يُقْتلون ويُذبحون وهم يملكون الحق المطلق وهم خير البشر قاطبة، فيقتلهم ويبقى في الحكم شرار الناس وأراذلهم.
الوعي المطلوب والمراجعات المطلوبة هي التي تحاول فهم سنن الكون والبشر وطبيعة السياسة والاجتماع لنبصر بها أين أخطأنا وكيف نمتلك القوة وكيف نستعملها برشد وحكمة ونحوطها بقوة سياسية واقتصادية وإعلامية، لنغالب بها الذين قهرونا واحتلونا وأكلوا لحومنا وشربوا دماءنا وهرسوا أطفالنا وأذلوا بناتنا.. الوعي المطلوب هو وعي السنن، وليس تقديم التنازلات من ديننا على مذبح الحداثة الغربية لننال منها بعض الرضا ثم نأمل في أن تنعم على بلادنا بحرية كالتي عندهم!
وليت شعري، كيف يتوهم عاقل أن يمنح العدوُّ عدوَّه أداة استقلاله وتحرره؟! كأن الغرب صار يوزع حرية وإنسانية في السوق العالمي للأعمال الخيرية!! والعجيب أن القائل بهذا هو الذي منذ وُلِد لم ير من الغرب في بلادنا إلا كل شر وجريمة!
كنت أظن أن الله أنعم على هذه الأمة بحفظ كتابه من التحريف والتبديل على يد الأمم الأخرى، ولكني أعرف حق المعرفة أن نعمة الله العظمى كانت بأنه حفظ كتابه من التحريف والتبديل الذي سيرتكبه المنهزمون نفسيا من هذه الأمة نفسها، فإن أولئك هم أقرب الناس وأجدرهم بارتكاب هذا.. وأبرز دليل على هذا أن التوراة والإنجيل حرفهما اليهود والنصارى بأنفسهم لا أعداؤهم من الوثنيين أو عباد النار أو عباد البقر! (فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا). [راجع: القرآن المحفوظ دليل المقاومة]
ولأن القرآن محفوظ، والسنة محفوظة، وقد تَكَوَّن حولهما تراث إسلامي ضخم وعريق، فإن محاولات تقديم تنازلات فكرية ترضي الحداثة الغربية وموازين القوى تثير من المشكلات داخل البيئة الإسلامية، فما هو إلا أن يتحول المجدد من سياسي يرى في نفسه الدهاء والمناورة إلى متهم لدى الجميع، فالغربيون يريدون منه مزيدا من الأدلة على أنه معتدل يتخلى عن العنف وله موقف صلب من المتطرفين، والمسلمون من ناحية أخرى يرونه منفلتا ضائعا منحرفا.. فما هو إلا أن يتحول من سياسي يدير معركة سياسية مع النظم المستبدة ومراكز التأثير الغربية إلى مفكر إصلاحي يدير معركته مع المسلمين وشيوخهم وتاريخهم وتراثهم!! فلا انتصر في سياسة ولا بقي له الدين!
الخلاصة: لم يكن الحل أن نختار بين أيهما أولا: الحرية أم الشريعة. الحل أن نملك القدرة على الاختيار أصلا، وحين نملك هذه القدرة سننتزع ما نريد بقوة الإمكانية والقدرة لا لأن أحدا سيُنعم علينا بإعطائنا ما نريد.
سؤال الحرية والشريعة مجرد سؤال نظري، يمكن الثرثرة حوله طويلا.. لكن سؤال الواقع هو: ما الذي يجبرني على الدخول معك في تفاهمات أصلا؟
نشر في مدونات الجزيرة
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 17, 2018 23:54

April 11, 2018

مواقف لا أنساها


في ثنايا المذكرات والسير الذاتية تكمن مواقف كاشفة، لا أحسب أنه يمكن فهمهم بدونها مهما طالت القراءة لهم، وكثيرا ما تتبدى في تلك المواقف تناقضات واختلافات مثيرة.. وكثيرا ما راودتني نفسي أن أجمع هذه المواقف التي أسمعها من بعض الشيوخ والعلماء والرموز، أو التي أقرؤها في مذكراتهم، متوقعا أن جمعها قد يتيح دليلا كاشفا للباحثين في التاريخ والباحثين في تراثهم.. ولعل هذا يكون إن شاء الله!
سأذكر في هذا المقال بعض المواقف التي لا أنساها منذ قرأت مذكرات الشيخ القرضاوي حفظه الله:
(1) الدعاة والتخطيطقال القرضاوي عن التلمساني:
"قيل له يوما: لا بد لنا من خطة استراتيجية تستلهم الماضي وتعايش الحاضر وتستشرف المستقبل.
فقال: لا أرى أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى هذا كله، هل يحتاج قولك للناس: اتقوا الله واعملوا بإسلامكم إلى استراتيجية وخطة مستقبلية... إلخ
فقلت له: يا فضيلة الأستاذ، نحن لسنا مجرد وعاظ نذكر الناس بالله والدار الآخرة، نحن مع ذلك دعاة إصلاح للأمة وتجديد للدين ولنا أهداف كبيرة، نريد الوصول إليها، وهذه الأهداف تحتاج إلى وسائل متنوعة، وإلى مراحل محددة، تسلم كل مرحلة إلى الأخرى، كما علينا أن نحدد المفاهيم التي تلتبس على الناس، ونرد الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، ونضع المفاهيم العلمية والدعوية والتربوية وغيرها اللازمة للنهوض بالأمة، والسير بالجماعة إلى الطريق الأقوم والسبيل الأوضح.
وهنا قال: أدعو الله يا شيخ يوسف أن يوفقكم فيما تصبون إليه"كان الأستاذ التلمساني مثالا في الرقة والرقي وحسن الخلق، هذا مع صلابته الفولاذية، وأتذكر أني حين قرأت مذكراته "ذكريات لا مذكرات" دهشت للغاية منهما معا، من رقته وصلابته!.. كان رقيقا إلى الحد الذي يحتفظ فيه ببقايا ورقة مهترئة لأنها من خط البنا في رسالة إليه، وكان صلبا إلى الحد الذي أنه لما فُتِحت الزيارة في السجون لم يزد على أن صافح زوجته مصافحة باليد بعد السنوات الطويلة لكي لا يبدو منه ولا منها ما قد يُشمت بهما ضباط السجن!
(2) الطغاة والتخطيط
قال القرضاوي عن صدام حسين عند احتلاله الكويت:
"كان صدام قد مهد لذلك بمحاولة كسب الرأي العام العربي إلى صفه، فبدأ يتظاهر بأنه مع الإسلام، وأنه لم يعد متمسكا بأفكار البعث، وأضاف إلى علم العراق كلمة "الله أكبر". ودعا أكثر من مرة إلى مؤتمرات عنده، حشد فيها من علماء الدين من استطاع حشده من بلاد العرب والمسلمين، ليعلن أنه ليس ضد الدين.. بل هو ناصر الدين!
وفي آخر مؤتمر عقده شارك فيه عدد كبير من علماء الأمة منهم شيخنا الشيخ الغزالي، والشيخ عبد الله الأنصاري من قطر، وغيرهما. وقد حرص على أن يجتمع بالشيخ الغزالي قبل سفره اجتماعا خاصا طال لمدة ساعتين، وتأخرت الطائرة التي تقله حتى ينتهي الاجتماع. وقال الشيخ الغزالي: يبدو أن الرجل تغير، وسبحان مقلب القلوب! وعاد الشيخ الأنصاري يتحدث عنه وكأنه أحد أبطال الإسلام!
وكان أخونا الشيخ أحمد البزيع ياسين في الكويت من أكبر الدعاة لصدام، وكنت أختلف معه بشدة حين نلتقي في اجتماعات مجلس إدارة الهيئة الخيرية الإسلامية، وهو أمين الصندوق فيها، وكان يقول لي بثقة واعتزاز: إنه فحل العرب!
أحسب أنه كان -بهذه الأمور كلها- يهيئ النفسية العربية والذهنية العربية لما يريد أن يفعله.
وأحمد الله أني لم أشارك في شيء من هذا، وقد دعيت أكثر من مرة لمؤتمرات صدام، وألحَّ عليّ في الدعوة السفير العراقي في قطر، ولكني اعتذرت وأصررت على الاعتذار، وكانوا يقولون في العراق: هناك عالمان فقط لم يستجيبا لدعوة العراق أو دعوة صدام: أبو الحسن الندوي في الهند، ويوسف القرضاوي في قطر. وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس"(3) الخلاصة
بين هذين الموقفين في مذكرات القرضاوي نحو مائتي صفحة، وبينهما في الواقع نحو عشرة أعوام، ولربما لم يكن القرضاوي وهو يروي الموقف الثاني يربط بينه وبين الموقف الأول، وهما موقفان –بغض النظر الآن عن شخوصهما- يكشفان لماذا ساد الثاني وأمثاله على مثل الأول وأمثاله!
هنا يستسهل الداعية ويحسب الدعوة أمرا بسيطا فطريا لا تحتاج إلى تخطيط وتدبير، وهنا يقسر الطاغية نفسه ويفعل ما هو خلاف طبعه، ويتنزل ويتنازل، ويتودد إلى أمثال من كان يعذبهم بالأمس أصغر ضابط من رجاله، وما ذلك إلا ليبلغ مراده ومقصوده.. ثم هو ينجح! ولسنا على الحقيقة نحتاج أن نتذكر مواقف قديمة، ونحن لدينا أمثال السيسي الذي خطط ودبر لخداع العلماء والدعاة في مصر حتى أنزل نفسه منهم منزلة الخادم الوضيع (والمواقف في هذا كثيرة تروى بالدموع الضاحكة أو الباكية)، حتى نسوا تاريخه ومكانه ووظيفته وقالوا: تغير أو حتى قالوا: مؤمن آل فرعون!
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 11, 2018 03:05

April 7, 2018

اليهود وأمة الإسلام.. الأمس والغد


وصلنا إلى ختام سلسلة "اليهود بين أمة الإسلام والأمم الأخرى"، وقد عرضنا فيها بإيجاز واختصار سريع لأحوال اليهود في ظل الأمة الإسلامية عبر مختلف الأحقاب، وهو الموضوع الذي التزمنا فيه أن ننقل حصرا عن المستشرقين والمؤرخين الغربيين كي تكون الحجة أبلغ والشهادة أقوى. وقد بدأنا في المقال الأول حديثا عاما عن حظ اليهود من الحياة بين المسلمين مقارنة بحظهم منها لدى الأمم الأخرى وعن منهجنا في النقل، ثم تحدثنا في المقال الثاني عن اليهود في ظلال الخلافة الراشدة، وفي الثالث: عن اليهود في ظلال الدولة الأموية والعباسية، وفي الرابع: عن اليهود في الأندلس، وفي الخامس: عن اليهود في الدولة العثمانية.
ليس من أولئك الذين نقلنا عنهم أحد كانت له مصلحة في نفاق المسلمين أو تزوير التاريخ، إذ سائر هذه الكتب كتبت في عصر الاحتلال والهيمنة الغربية على بلادنا، بل هي كتبت كذلك في عصر صعود القوة اليهودية والصهيونية سواء قبل هرتزل وحتى ما بعد تأسيس إسرائيل. وإنما كان الأمر بحثا علميا بحتا، والواقع أن الأمم حين تكون في مواجهة مستعرة ومتكافئة مع عدوها تنحو الحالة الثقافية العامة بما فيها البيئة العلمية نحو التشويه والتخويف والتشنيع فتكون سلاحا في المعركة القائمة، بينما حين يهدأ غبار المعارك ويتحقق النصر الكامل ولا يبقى ثمة تخوف أو تهدد من العدو فإن البيئة العلمية تنحو إلى الدراسة الموضوعية للخصم بينما تُتْرك مهمة التشنيع والتخويف للأداة الإعلامية. والبيئة العلمية نفسها في بحوثها الموضوعية لا تنفك أيضا أن تكون سلاحا في المعركة، ذلك أنه يعتمد الدراسة الموضوعية بغرض الوصول إلى الحقائق التي تمهد له سبل السيطرة والهيمنة واكتشاف الثغرات. وتلك سيرة الاستشراق منذ بدأ، لقد بدأ في عصر التفوق الإسلامي والتهدد الوجودي الأوروبي فكان حالة عامة من الهياج والخوف والتشنيع والتشويه، ثم انتهى في عصر التفوق الغربي ليكون أداة علمية قوية وكاشفة تحاول فعلا سبر أغوار الأمة وفهمها عبر الدراسة العلمية الموضوعية الرصينة.
وخلاصة ما نختم به هذه السلسة أن نعيد التذكير بأن المسألة اليهودية في التاريخ الإسلامي فرع عن مسألة أهل الذمة بشكل عام، وهي المسألة المحاطة بنصوص الوحي وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بشأنها ما لا يمكن أن يوجد في قانون حماية أقليات لا في ذلك العصر ولا حتى في عصرنا هذا، وأهم من مجرد وجود النص أن يكون هذا النص نصا دينيا مقدسا، يطبقه المسلم وهو يتعبد لله به لا لمجرد تنفيذ قانون السلطة الذي لا يتمتع بالقدسية الدينية في ضمير من ينفذه مما يفتح الباب واسعا للتلاعب واستغلال الثغرات، ونحن في عصرنا هذا نرى ما يحدث للمسلمين في بلاد تُسوِّق لنفسها على أنها دولة مؤسسات وقانون راسخ وقضاء مستقل!
من هنا، كان القانون الإسلامي ذا خصوصية، حتى إنه يمكن إجمال تاريخ أهل الذمة كله تحت ظل الإسلام في قول المؤرخ والمستشرق الفرنسي إدوارد بروي:
"قلما عرف التاريخ، والحق يُقال، فتوحات كان لها، في المدى القريب، على الأهلين مثل هذا النزر الصغير من الاضطراب يحدثه الفتح العربي لهذه الأقطار. فمن لم يكن عربيا من الأهلين لم يشعر بأي اضطهاد قط. فاليهود والنصارى الذين هم أيضا من أهل الكتاب، حُقَّ لهم أن يتمتعوا بالتساهل وأن لا يُضاموا، والمطلوب من هؤلاء السكان أن يُظهروا الولاء للإسلام ويعترفوا بسيادته وسلطانه، وأن يؤدوا له الرسوم المترتبة على أهل الذمة تأديتها، والامتناع عن كل دعوة دينية لهم لدى المسلمين. وفي نطاق هذه التحفظات التي لم تكن لتؤثر كثيرا على الحياة العادية، تمتع الذميون بكافة حرياتهم"إلا أن عددا من الباحثين رأى أن اليهود تمتعوا بوضع خاص بين أهل الذمة طوال التاريخ الإسلامي، منهم المؤرخ الأمريكي اليهودي سالو و. بارون، الذي يوصف بأنه "أعظم مؤرخ يهودي في القرن العشرين"، الذي يقول: "في الحقيقة يبدو أن هنالك نوعا من الود لطبيعة اليهود في حضارة الإسلام. وبالرغم من تصنيفهم ضمن فئة الذميين غير المحببة، فواقع الأمر هو أن المراكز الأكثر ازدهارا للمجتمعات اليهودية، منذ نشوء الخلافة حتى إلغاء أحياء اليهود في أوروبا، قد تواجدت في البلاد الإسلامية: في العراق أثناء الحكم العباسي، وفي إسبانيا خلال فترة سيطرة البربر، وبعد ذلك في الإمبراطورية العثمانية"ولما انقلبت أحوال الأمة وأحوال اليهود، انقلب الحال، ورأينا منهم فعل من لم يرع فضلا ولا وفَّى جميلا، ولم نستغرب فقد قال الله تعالى (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)، وكيف نستغرب أن ينقض العهد معنا من نقض العهد مع الله، وكيف نرجو ودادا ممن قتلوا الأنبياء إن جاءوهم بما لا تهوى أنفسهم؟!
ولو عاد بنا الزمان لعدنا إلى سيرتنا الأولى ذاتها ولم نعاملهم بأخلاقهم، فإننا في الأولى وفي القادمة نرعى أمر ربنا ونحفظ وصية نبينا، فلا نندم على ما فعلنا ولا نعزم على تغيير ما قدمنا.. وذلك أيضا فارق بين من كان الإسلام منطلقه وبين من اتخذ له منطلقا آخر من قانون أو سياسة أو انتقام.
بقيت كلمة في شأن المستشرقين الذين تناولوا هذا الموضوع:
لقد أنصف بعض المستشرقين –كجوستاف لوبون وزيجريد هونكه وتوماس أرنولد- إذ عرضوا لتاريخ التعامل الإسلامي مع اليهود، بينما الغالبية استكبرت عن قول الحق واضحا فعرضت للموضوع بعبارات يكثر فيها الاستدراك والاستثناء والالتفاف والمناورة، ومع هذا عجز أغلب هؤلاء عن أن يكتموا حقيقة التاريخ فانتزعنا من كلامهم هذه الفقرات السابقة، ولا ننكر أن بعضا آخرين –كجوستاف جرونيباوم- بلغ من الإنكار والتلاعب بالصياغة ما عجزنا نحن معه على أن نأخذ شيئا واضحا صريحا، فلو أن المقام مقام مناظرة واحتجاج لكانت لنا وقفات تعليق وتعقيب وكشف للتناقض والمناورة والتلاعب، لكنه مقام استشهاد بالصريح من كلامهم، ولهذا أخذنا ممن أنصف وممن حاول الالتفاف والمخادعة، وتركنا الآخرين لمقام آخر إن شاء الله تعالى.
نشر في مجلة المجتمع
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 07, 2018 13:26

April 6, 2018

ثغور فارغة، وجيوش من العاطلين


ليس ثمة سؤال يواجهه كاتب أو متحدث اليوم أكثر من سؤال: ما العمل؟!
سؤال ينسال في التعليقات على كل منشور، يقال بعد كل خطبة، يثار بعد كل محاضرة، يلقي في كل ندوة ومجلس.. جمهرة الناس في حال من التيه والفراغ والحيرة، والكل يسأل: ما العمل؟!
على الجانب الآخر تنظر في كل ثغرة تحتاجها الأمة فتجد فراغا رهيبا، بداية من ثغور الجهاد التي تشكو قلة المال وقلة الرجال، وحتى ثغور العلم الشرعي التي تشكو ندرة الفقهاء المتمرسين.. مرورا بسائر ثغور العلوم الطبيعية والجمعيات الخيرية والمؤسسات الاقتصادية والمبادرات الأخلاقية. في أي موقع رأيت بعض العاملين المخلصين فسألتهم عن أحوالهم وإمكانياتهم بالنسبة إلى المسؤوليات الملقاة على عاتقهم كانت الإجابة كاشفة عن الفارق الواسع بين المتاح والمطلوب فضلا عن المأمول.
وهكذا نحن في مشهد غريب: جيوش من الناس يسألون: ما العمل؟ وثغور فارغة تشكو وتتشوق للعاملين!!
هو أثر طبيعي لغياب الخلافة والخليفة، فالقيادة تستطيع تجنيد الموارد وتوجيه الطاقات وجمع المتفرق، بل مجرد وجودها يجعل من أراد العمل يقصدها بتقديم ما يستطيع، أما غياب القيادة فشرٌّ وبيل، إذ هو تفرق وتشرذم وعداوات تندلع لأتفه سبب ثم هو –وهذا هو الأهم في سياقنا الآن- تيه وفراغ حتى لمن أراد أن يعمل، إذ لا يعرف ماذا يعمل ومن أين يبدأ وإلى أين يتوجه مع كثرة الثغور وكثرة التحديات والحاجات والضرورات. لهذا حرص الإسلام على أن ينتظم شأن المسلمين في أقل أمورهم "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأَمِّروا واحدا"، وكان هذا بداية خروجهم من الجاهلية والفوضى إلى معنى الأمة والنظام والدولة والحضارة.
لكن غياب القيادة العامة للأمة، وانهيار كثير من المشاريع والجماعات التي حاولت أن تكون طلائع بعث الأمة ليس هو نهاية المطاف، ولا هو داعية يأس مع قسوته ومرارته، بل نحن في وضع يجب علينا أن نكافح عن الإسلام في الخطوط الأخيرة، فالهجمة الآن هي على الثوابت الكبرى، من كان يصدق أن يتجادل مسلمان في مسألة: هل يدخل الملحد النار؟! كما وقع عند موت ستيفن هوكينج!
نعود إلى السؤال: ما العمل؟!
لقد وزع الله المواهب كما وزع الأرزاق، وإجابة السؤال يعرفها كل إنسان في نفسه من نفسه. وحيث أن الثغور كلها تشكو الندرة في العاملين فلا يكاد يوجد مسلم إلا ويستطيع أن يفعل شيئا يصب في النهاية لمصلحة الأمة، لكن المهم الآن هو التركيز على "واجب الوقت" إذ الواجبات كثيرة كثيرة حتى حين كانت الأمة في ذروة قوتها.. وواجب الوقت الآن هو معركة تحرير الأمة من الاستبداد والاحتلال، وكلاهما في عصرنا هذا شيء واحد: الاستبداد هو مقدمة الاحتلال، والاحتلال هو العمق الاستراتيجي والسند الأكبر للاستبداد. وأي مجهود يُصرف في غير معركة التحرير هذه فهو أقرب إلى الهباء، بل لعله يكون إثما.
أمور كثيرة تحتاجها معركة التحرير هذه، سأضع منها هنا أمورا في غاية الأهمية رغم أنه يمكن الحصول عليها بسهولة وبلا مخاطر أيضا.
1. المعلومات
ما يعرفه أعداء الحركات الإسلامية عنها أكثر مما يعرفه أفرادها عنها، ولو تصورنا مصارعة بين مصارع قوي لكنه مغمى العينين وآخر ضعيف ولكنه مبصر لكانت الغلبة للضعيف المبصر، فكيف لو كان الحال أن القوي هو المبصر والضعيف هو المغمى العينين؟! ذلك مثل الحركات الإسلامية وحركات المقاومة والحركات الثورية مع أعدائها.. هناك فارق ضخم في المعلومات. وهذا سبب كثير من تجارب الفشل، تخوض الحركة الإسلامية أو الثورية معركة وهي لا تعرف عدوها من صديقها، لا تعرف حتى بعض الاختراقات التي تجري في صفوفها، لا تعرف مفاصل النظام الذي تواجهه، لا تعرف –مثلا- من هم أهم خمسين شخصية فيه؟ أين يقع أهم خمسين مكان يشهد الاجتماعات المؤثرة أو على الأقل ما أهم خمسين موقعا ينبغي السيطرة عليه أو حراسته أو مراقبة من يتردد عليه؟ ما هي خريطة القوى الاقتصادية والسياسية التي تتحكم في صناعة القرار؟ ما خريطة الأجنحة داخل أروقة السلطة وما الخلافات التي بينهم وكيف يديرون معركتهم ... إلخ!
مثلا: ما هي أهم المناطق التي إن اشتعلت أدى هذا إلى ثورة في عموم القطر؟ كيف يمكن إشعال ثورة فيها؟ ما هي احتياطات النظام لمواجهة حركة ثورية مقاومة في لحظات الطوارئ، كيف يمكن فهمها واكتشافها؟ من الذي يمكن أن ينحاز إلى الثورة في لحظة ما بالترغيب أو الترهيب، وكيف يمكن أن يُساوَم أو يُجَنَّد أو يُسقط؟
أمور كثيرة للغاية، وقد تكون كلها معروفة أو مكشوفة لكن كل معلومة منها عن واحد فحسب ولا يحتاج الأمر إلا إلى الجمع والتصنيف. تثور أحيانا فكرة صناعة منصة ثورية على الانترنت ليضع كل من يعرف معلومة يحتمل أنها مهمة معلومته عليها، ثم يتولى فريق التصنيف والتحليل والفلترة لإزالة المعلومات المشوشة والمغلوطة والمبالغ فيها ونحوه.
2. ابتكارات علمية
مع التقدير الكامل لأن حالة البحث العلمي منهارة في بلادنا، وأن أمر إيجاد ابتكار علمي متعثر ومتعسر أيضا، إلا أن أصل أي ابتكار علمي هو كونه "فكرة"، والفكرة يفتح الله بها على من يشاء من عباده، ولعل رجلا في زاوية ما من الأرض يجد ويسعى حتى يرى الله منه الصدق فيفتح عليه بشيء بسيط لكنه يغير الموازين.
إن بين أمتنا وأعدائها فجوة علمية هائلة، وتظهر هذه الفجوة بقوة في مسألة كالطيران والسلاح الكيميائي التي نرى آثارها في سوريا وفي كل منطقة تكاد تخرج فيها الأمة عن هيمنة النظام العالمي، حينئذ لا يملك المقاتلون على الأرض مهما كانت بسالتهم أن يفعلوا شيئا.. تلك النقطة تحتاج سعيا وبذلا هائلا على مستوى التفكير لدى المتخصصين في الطيران والهندسة والاتصالات والكيمياء لا أقول ليهاجموا بل فقط ليعيدوا توازن الردع بين أي حالة مقاومة وثورة وبين الاستبداد المسنود بالاحتلال.
وكلما كان الابتكار العلمي سهل التنفيذ سهل الانتشار كلما كان أقوى وأفضل، لأن كل ما من شأنه أن يكون بسيطا ومنتشرا بين أفراد الأمة كانت الأمة في حاجته أكثر.. لأن دخول الأمة كلها في معركة التحرير هو خطوة لا بد منها في كل حال.. بل إن تاريخ هزيمة الأمة هو تاريخ انفصال طليعتها الثورية المقاومة عن عموم الجماهير، وهذا الانفصال هو الأمر الذي توصي تقارير المراكز البحثية الغربية بتوسيعه وتعزيزه وتأكيده لكي يسهل على العدو سحق الثورة والمقاومة، التي هي بالنسبة للأمة كالسمك بالنسبة للماء.. إن انفصل عنها هلك وصِيد.
3. ترجمات
يقع على المترجمين عبء هائل، ودورهم ضروري لا غنى للأمة عنه. إن الإنتاج الغربي في العلوم الأمنية والعسكرية ومكافحة التمرد (أي: الثورات وحركات مقاومة الاحتلال والاستبداد) إنتاج ضخم، وأقل القليل منه هو ما ترجم إلى العربية، بل إنهم ترجموا بعضه إلى العربية بأنفسهم ليكون مرشدا لضباط الأمن والعسكر العرب.. ولا شك أن بعضه سري غير منشور، لكن المنشور فيه فوائد كثيرة للغاية، وبعضه يدرس في الجامعات الغربية التي هي من مصانع إنتاج الساسة وصناع القرار ومستشاريهم.
ثمة نهر كبير ينتظر الترجمة من التقارير التي تصدرها وكالات الأمن والاستخبارات ومن تقارير باحثين متخصصين في مكافحة الإسلاميين (ربما يندهش البعض إن عرف أن ثمة تخصص في أمريكا اسمه "تدجين الإسلاميين"، رأيت هذا في السيرة الذاتية لأنجيل راباسا الذي كتب تقرير راند 2008م: صعود الإسلام السياسي في تركيا) ومن مذكرات العسكريين والأمنيين والسياسيين الذين أداروا معركتهم في أرضنا وبلادنا التي احتلوها كما في أفغانستان والعراق وغيرها.. هذا فضلا عن وثائق المخابرات التي تنشر بعد رفع السرية عنها بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة بحسب قوانين النشر وأهمية الوثيقة.
ولا يقتصر الأمر على الترجمة من الإنجليزية وحدها.. الفرنسية والألمانية وحتى الروسية والصينية، ففي تلك البلاد تحديات أخرى ومدارس أخرى وأفكار أخرى، وبعضها تتطلع لتكون قوة عظمى ولترسم لنفسها النفوذ والمستقبل والاستراتيجية، وظهر فيها منظرون سياسيون وقيادات عسكرية وأمنية خاضت حروبا ومعارك إما مع المسلمين كما في تركستان الشرقية والشيشان وكشمير أو مع غيرهم في محيطهم الاستراتيجي.
تلال هائلة من الكتب القيمة التي تنتظر الترجمة، والتي يتوقع أن تكون ترجمتها مثيرة لأفكار قوية في النهوض والمقاومة فالحكمة ضالة المؤمن. وكثير من القيادات الثورية والمقاومة ليس لديهم الإمكانية ولا الوقت ولا الطاقة لمتابعة المهم الذي يصدر في لغته الأصلية.
المهم.. المهم.. المهم أن يُختار الكتاب بعناية لتكون أفكاره إضافة حقيقية لمعركة تحرير الأمة.. إنه من المؤسف المثير للمرارة والشفقة والحسرة أن تكون غالبية الترجمات روايات خيالية ومسرحيات وأشعار وأمور هي إن لم تضر فلن تنفع، وإن نفعت فنفعها ترف يوجد ما هو أولى منه ألف ألف مرة! فإن الغريق والحريق والمسحوق لا يبحث في الترف حتى ينجو من محنته أولا.
4. ملخصات وفهرسة
فمن لم يكن من أهل الترجمة، فليكن من أهل التلخيص أو من أهل الفهرسة، وهو أمر يستطيعه كل من يجلس على الفيس بوك وتويتر ويوتيوب بالساعات الطوال لا يفعل شيئا مفيدا.. فكما نحن أمام كم هائل ينتظر الترجمة فإن لدينا كما هائلا من الكتب والمواد المترجمة التي يتعذر الاستفادة منها لتنوعها وتشعبها وربما حجمها الكبير.
نحن إذا كنا نتحدث عن مصر –كمثال- فإن الحركة الثورية في مصر يجب أن يكون لديها إلمام بعدد من الأمور لكي تحسن خوض معركتها منها: العلوم الأمنية والعسكرية لا سيما ما يتعلق بمصر وما كتبه صناع القرار والأمنيون الذين عملوا في مصر منذ نابليون وكرومر ومايلز كوبلاند، طبيعة الشعب المصري وخصائصه، تاريخ حركات المقاومة لا سيما حركات المقاومة في مصر نفسها، العلوم الاجتماعية التي تتعلق بإدارة ثورة كعلم الاجتماع السياسي وعلم نفس الجماهير.
في كل باب من هذه الأبواب توجد الكثير من الكتب والمؤلفات، حتى ما هو موجود باللغة العربية.. ربما يضيق وقت العاملين في الثورة والمقاومة عنه، فيمكن لكثير من الشباب الذين يسألون: ما العمل؟ أن يعكفوا على تلخيص هذه الكتب وإخراج خلاصاتها ليكون فهمها أسهل وأسرع.
كذلك مهمة الفهرسة.. وتلك مهمة تسهل على التنفيذيين الذين لا يحبون إرهاق عقولهم، إن كثيرا من هذه الكتب تحتوي معلومات هامة، لكن عدم وجود فهارس فيها يجعل الاستفادة منها متعذرة.. والفهرسة أمر يعرفه من طالع الكتب الشرعية، حيث يتولى محقق الكتاب صناعة فهرس للآيات والأحاديث والأعلام (الشخصيات) والبلدان والمعارك.. ويتفنن آخرون فيضيفون أنواعا كثيرة من الفهرسة. فإذا كان لدي كتاب من 30 مجلدا –مثلا- وأردت أن أبحث عن اسم معين، فإن فهرس "الأعلام" يخبرني بالصفحات التي ذكر فيها هذا الاسم، وبمراجعتها يتكون عندي بسرعة "رأي المؤلف في فلان هذا، وكم مرة ذكره، وفي أي المسائل استشهد به... وأمور أخرى".. المهم أني لم اضطر لقراءة الثلاثين مجلدا.
وكمثال: لدينا الكثير من مذكرات صناع السياسة الأمريكية، ومترجمة أيضا، لكن الواحد منها لا يقل عن خمسمائة صفحة.. وهي غير مفهرسة، وعلى سبيل المثال: لو أردت أن أفهم كيف تعامل الأمريكان مع شخصية مثل السيستاني بعد احتلال العراق فينبغي علي قراءة مذكرات المسؤولين صفحة صفحة: رامسفيلد وكونداليزا رايس وجورج تينت وديك تشيني وبريمر وغيرهم.. بينما لو وُجد فهرس للأعلام لكل كتاب لكان يسيرا الاطلاع على مواضع الصفحات ثم فهم الموقف.
مهمة الفهرسة هذه مهمة عظيمة لو وُجِد لها الرجال.
الخلاصة: العمل كثير كثير كثير.. والثغور كلها تشكو الحاجة.. وكثير من العمل يمكن أن يؤدى بلا مخاطرة!
نعم، ليس كل من هتف: ما العمل؟ سيعمل حين تأتيه الفرصة.. فإن ميدان القول غير ميدان العمل! وقد قال المتنبي:
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ .. تبيَّن من بكى ممن تباكى
نشر في مجلة كلمة حق 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 06, 2018 13:34

April 4, 2018

الدروس المنسية في فتح دمشق


في مثل هذا اليوم قبل خمسة عشر قرنا وربع القرن (الأحد: 15 رجب 14 هـ = 3 سبتمبر 635م) كانت نقطة فاصلة في تاريخ الأمة الإسلامية، وتاريخ العالم كله: فتح دمشق!
لن يحاول هذا المقال التغني ببطولة الفاتحين، مع أنهم فخر الإنسانية في الفتوح: قوة وجسارة، وعدالة ورحمة. كما لن يحاول اجترار الأمجاد، وما على المرء من بأس إن افتخر بأسلافه.. وإنما سيلقي الضوء على ثلاث دروس مستفادة منه.
1. موجز قصة الفتح
ما إن انتهت حروب المرتدين حتى بدأت الفتوحات، بدأت في جبهة الفرس أولا لأنهم كانوا قد ساعدوا المرتدين في شرق الجزيرة العربية، فبعث أبو بكر جيشان: أحدهما بقيادة خالد بن الوليد والآخر بقيادة عياض بن غنم الفهري، واستطاع خالد بن الوليد أن يكتسح جيوش الفرس بسرعة مدهشة حتى أنه أزال الفرس عن كل مناطق غرب نهر الفرات، وفتح الحيرة –أول عواصم الفرس- بعد أربعين يوما فحسب من انطلاقته. فكانت نتائج فتح فارس أفضل من المتوقع!
بعدها بقليل أخرج أبو بكر خمسة جيوش لفتح الشام، وكانت خطته أن خمسة جيوش ستجعل هرقل يقسم جيشه الكبير إلى خمسة جيوش، ومع أن كل جيش من الخمسة سيكون أعظم بكثير عددا وعدة من الجيش المسلم إلا أن هذا الحال أفضل من توحد الجيوش الخمسة الإسلامية لتقابل جيش هرقل الكبير مرة واحدة، إذ الفارق هنا مهول للغاية. لكن هرقل –وهو من أشهر المحاربين في التاريخ- فهم مراد أبي بكر، فلم يقسم جيشه، وعمل على أن يكون جيشه موحدا وكبيرا ويهاجم الجيوش الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، فكان هذا يجبر الجيوش الإسلامية كلما فتحت بعض المناطق على أن تنسحب منها لأن جيش هرقل يحاول الالتفاف حول كل منهما.. وهكذا تعثر وتباطأ مسار فتح الشام رغم أن فيه خمسة جيوش!
إزاء هذا الوضع قرر أبو بكر أن يقسم جيش الفتح في فارس، وأن يبعث بنصفه مع خالد بن الوليد ليدعم جيوش الشام، وقد كان.. وبسرعة، ومن طريق وعر خفي سار خالد من العراق إلى الشام فوصل إلى دمشق والمسلمون في حصارها.
تكرر هذا المشهد ثلاث مرات: الجيش الإسلامي –الذي صار واحدا تحت قيادة خالد- يريد دمشق، لأنها عاصمة الروم في الشام، لكن دمشق محصنة بأسوار منيعة، فيحاصرها، وقبل أن يفتحها يكون هرقل قد أرسل جيشا يتوغل جنوبا ليحيط بالمسلمين، فيضطر الجيش للانسحاب جنوبا، وخوض معركة كبيرة، ينتصر فيها ثم يعود إلى دمشق، فيحاصرها، وبينما هو كذلك يأتي جيش آخر.. وهكذا!
حتى كانت المرة الثالثة، إذ استطاع الجيش الإسلامي أن يفتح دمشق بعد حصار أربعة أشهر، وبعد معركتين كبيرتين هُزِم فيهما جيش الروم هما: أجنادين، وفحل بيسان.. ثم أرسل هرقل آخر ما في جعبته، فكانت معركة اليرموك الخالدة والتي كانت الهزيمة فيها هي نهاية وجود الروم في الشام إلى الأبد!
2. السلطة والدين: صراع الدنيا والآخرة
لا يعرف الكثيرون أن إمبراطور الروم هرقل الذي دافع عن الشام بكل استماتة كان يعرف من اللحظة الأولى أنه مهزوم وأنه مطرود من الشام!! نعم، كان يؤمن بهذا ورغم ذلك فقد أهلك مئات الآلاف من جيشه، وما لا يُحصى من الأموال والعتاد.. كيف ذلك؟
قصة هذا تعود إلى ما قبل الفتح بثمانية أعوام، حين تلقى رسالة من النبي –صلى الله عليه وسلم- يدعوه فيها إلى الإسلام، كان هرقل سياسيا عظيما وكان صاحب علم كذلك، فما إن رأى الرسالة حتى قبض على أبي سفيان –الذي كان في تجارة بالشام- وسأله أحد عشر سؤالا بالضبط، أسئلة واضحة ومحددة وتدل على علم وفهم وخبرة قوية، أحد عشر سؤالا عن النبي:
كيف نسبه فيكم؟ هل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ هل كان من آبائه من ملك؟ أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ أيزيدون أم ينقصون؟ هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ هل يغدر؟ هل قاتلتموه؟ كيف كان قتالكم إياه؟ ماذا يأمركم؟
وبعد أن سمع الإجابة قال: إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين!!
حاول هرقل أن يجس نبض حاشيته والقساوسة في مسألة الإسلام واتباع النبي، فلقد عرف أنه الرسول الذي بشر به المسيح بن مريم، إلا أنه وجد منهم صدودا وخشي أن ينقلبوا عليه، فاصطنع أنه إنما كان يختبرهم.. ومنذ هذه اللحظة فضَّل هرقل سلطة الدنيا على جنة الآخرة، وقاد نفسه وأمته وهو يدري ويعرف ويقصد إلى الهزيمة في الدنيا وإلى النار في الآخرة!!
نعم.. تلك حقيقة من أصلب حقائق الدنيا، شهوة السلطة قد تحمل المرء على أن يختار النار والهزيمة معا! وهو يخضع لتلك الشهوة ويستجيب لها ولو كان الثمن ملايين الأرواح، ومليارات الأموال، وضياع البلاد، وذنوب تتراكم بلا نهاية في ميزان السيئات. ولقد تظل شهوة الحكم مستعرة ملتهبة مهما بدا أنه إلى ضياع وزوال.. وهذا بشار الأسد ومحمود عباس وغيرهما كأمثلة: هم على استعداد لبيع كل شيء، كل شيء.. وتدمير كل شيء، واستجلاب الأجانب ليحكموا البلاد ويبيدوا العباد، مقابل سلطة صارت شكلية ومقابل لقب فارغ المضمون!
3. العواصم السياسية قبل الدينية
العاصمة ميزان البلد، والمسيطر عليها لا يزال هو المنتصر في معادلة الصراع، يظل الاحتلال محاولة حتى يسيطر على العاصمة فيصير واقعا، وتظل الثورة محاولة حتى تفتح العاصمة فتنتصر، ويدافع الحاكم عن عاصمته حتى النهاية فإن سقطت سقط حكمه وتحول إلى مقاوم أو لاجئ أو سابق! ويمكن للثورة أن تظل محاولة لعشر سنين أو حتى عشرين سنة قبل أن تموت من تلقاء نفسها أو تقضي عليها السلطة المركزية في العاصمة.. العاصمة هي حلم كل حاكم، وكل محتل، وكل ثورة. ولقد كانت مكة عاصمة العرب، بعث فيها النبي ولما هاجر منها بعد جحود زعمائها بشره الله أنه سيعود إليها، وكل السيرة هي رحلة العودة إلى مكة، فلما فُتِحت مكة، فتحت جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا).
هذا الكلام من البديهيات الذي يكون من السفه ترديده لولا أننا في عصر عجيب غريب، يحتاج دائما لتأكيد المؤكد وتثبيت الثوابت وتوضيح الواضح.. وفي قصة فتح الشام نرى أن الصراع دائر حول دمشق، ودمشق هي العاصمة السياسية للإمبراطورية البيزنطية في الشام، ولم يدر الصراع حول بيت المقدس رغم أنها العاصمة الروحية الدينية المقدسة لدى المسلمين والنصارى على السواء، وبقيت مدينة بيت المقدس لم تفتح إلا بعد انكسار القوة العسكرية الرومية تماما، ثم فتحها عمرو بن العاص بعدها بسنتين في عام 16هـ.
كان الصحابة رجال سياسة وحكم، ولم يكونوا دراويش بالمعنى المفهوم للكلمة في عصرنا هذا.. وأكاد أقسم أن الحركات الإسلامية الآن لو خُيِّرت بين فتح دمشق أو فتح القاهرة وبين فتح القدس أولا، لاختارت جميعها فتح القدس.. بعضها لأن يظن أن القاهرة ودمشق لا تحتاج إلى فتح أصلا!! وبعضها ربما إن فتح القدس سلَّمها لشبيه محمود عباس وبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي تحت دعاوى المصالحة الوطنية والتوافق والزهد في الدنيا، لتصير القدس محتلة عبر الوكلاء بعدما تحررت من أسيادهم!
4. المخابرات والفتح
كيف فتحت دمشق؟
مع كل البسالة والبطولة والجسارة، كان العامل الأهم في فتح دمشق لقوة المخابرات الإسلامية.. لقد عملت الأسوار والتحصينات على منع المسلمين من اقتحام دمشق مع بقائهم حولها شهورا، كانت دمشق يحيط بها سور كبير، ومن ورائه خندق يملؤونه بالمياه إن وقع الحصار، فيكون أمام المهاجم مانع مائي ثم مانع حجري، مع وجود فرق الدفاع التي تحمي السور.
مع سائر ما استخدمه المسلمون من وسائل الرمي والمجانيق لم يتحقق الفتح، لكن خالد بن الوليد استطاع أن يصطنع العيون والأتباع الذين ينقلون إليه خبر ما يحدث بالداخل، فنُقِل إليه خبرٌ صغير يقول بأن بطريرك الروم قد وُلِد له مولود، وأنه سيقيم له احتفالا هذه الليلة.
من فوره وضع خالد بن الوليد خطة تقضي باقتحام السور عند منتصف الليل عندما تلعب الخمر بالرؤوس، وجهز فرقة اقتحام تربط الحبال بالخطاطيف لتتعلق بالسور، وتحمل معها السلالم والحبال، وقصد أوسع نقطة للخندق المائي مع فرقة عبور تحمل القِرَب المنفوخة.. وعند لحظة الصفر كان اثنان قد تعلقوا بالأسوار وتسللوا إليها، وألقوا بآلات الصعود إلى المحاربين، وخاضوا معركة مع الحارسين اللذين يحرسان الباب بعد منتصف الليل، ثم كبروا وفتحوا الباب الشرقي.. وهنا انهارت معنويات الروم فسارعوا إلى الصلح والاستسلام.
الحصول على معلومة واحدة قد يعني النصر، لو أنها وقعت في يد من يستفيد منها حق الاستفادة.. إن الحركة الإسلامية تملك من الشباب والطاقات فيضانات من البطولة والشجاعة، ولكنه فيضان أعمى، يضرب في كل اتجاه، ويخبط في كل طريق، يسير بلا هدف.. يحاربه العدو، والعدو يعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه! فلا تخلو قصة هزيمته من عجب واندهاش وحسرة أيضا!
نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 04, 2018 02:57

March 27, 2018

وما أمر فرعون برشيد!


لما طارد فرعونُ وجيشُه موسى عليه السلام وقعت المعجزة الهائلة أمام أعين الجميع، لقد شاهدوا معا هذا المشهد الرهيب غير المسبوق، لقد انشق البحر لموسى وصنع له طريقا يابسًا فعبر عليه مع بني إسرائيل دون أن يمسسهم سوء!
أغرب ما في المشهد فهو أن فرعون قد تبعهم، يريد أن يظفر بالرجل الذي تغيرت له قوانين الكون، يريد أن يقهر الفارين الذين أفلتوا من يده كما لم يخطر بخيال أحد قط!! أما أشد ما في هذا المشهد من الهول والغرابة والعجب أن جنود فرعون اتبعوه! اتبعوه دون أن يتوقفوا أو يترددوا أو حتى يفكروا في هذه المعجزة الكونية الكبرى التي شاهدوها بأعينهم.. فكانوا كما قال تعالى (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون).
هذا المشهد هو أبلغ ما يُقال في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد!
الاستبداد يسوق صاحبه إلى التفرعن حتى يظن أنه إله حقا، فمن استطاع قالها صراحة (ما علمتُ لكم من إله غيري) ومن لم يستطع قالها بأفعاله وسياسته. لكن الأدهى من هذا أن العبيد الذين صنعهم المستبد وأنتجهم قد تحولوا معه أيضا إلى ما يشاء! لقد أنتج المستبد من يعطيه عن قناعة ويقين صفة الإله وقداسته..
قبل بضعة عقود كان الجندي يخرج في مهمة رسمية للتفتيش على المواليد، فإن وجد الرضيع ذكرا فإنه ببساطة وبكفاءة واحترافية مهنية يذبحه بالسكين! إنه يقوم بواجبه الوظيفي! وهو ينفذ القانون! وهذه مهمة وطنية! إذ هو يحافظ على استقرار الدولة الفرعونية! ولئن تحرك في قلبه شيء فإنه يسارع بإسكاته بالقول: إنه عبد المأمور!
وقبل بضعة سنين حصل موقف آخر، لقد استدعي هذا الجندي للقيام بوظيفته في تأمين الاحتفال الجماهيري الكبير الذي يشهد تحديا فريدا، حيث سيتحدى موسى وأخاه نخبة الدولة المصرية العلمية والفكرية، وإذا بالمشهد ينقلب فجأة، لقد انتصر موسى انتصارا مدويا حتى لقد آمن له السحرة جميعا!! وما هي إلا لحظات حتى جاءه الأمر الرسمي بتعذيب السحرة حتى الموت!
هنا تطور المشهد خطوة إلى الأمام، لقد وقعت المعجزة نفسها أمام: السحرة، والجماهير، والجنود.. فآمن السحرة، وسكت الجماهير خوفا ورعبا من انقلاب المشهد، وتولى الجنود تعذيب السحرة! لقد كان القرار الرسمي أقوى في نفوسهم من معجزة شاهدوها بأعينهم.
بعد هذه النقطة سيكمل الجندي مسيرته في خدمة الوطن والدولة حتى يتبع فرعون ليكون معه من الهالكين. لكن اسمه سيسجل في قائمة الشرف، وسيُعطى لقب "شهيد الوطن"، وسيُنحت على المسلات الفرعونية لتخليد ذكراه، وربما صُنِع له تمثال أو أطلق اسمه على منشأة أو طريق.. بينما يعيش هو نفسه حالا آخر يكرر فيه نفس المشهد في يوم القيامة، وتلك هي خلاصة القصة الطويلة:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه، فاتَّبَعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد * يَقْدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، وبئس الوِرْدُ المَوْرُود * وأُتْبِعوا في هذه لعنة، ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود * ذلك من أنباء القرى نقصُّه عليك، منها قائمٌ وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لمَّا جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب * وكذلك أخْذُ ربك إذا أخَذَ القرى وهي ظالمة، إن أَخْذَه أليمٌ شديد).
لو شئت أن أداعب مشاعر ضحايا الفراعين المشردين في البلاد لكان عليَّ أن أتوقف عند هذا الحد.. لكنها ستكون خيانة الأمانة.. فلقد بقي نصف الصورة الآخر الذي لا بد من ذكره.
نصف الصورة الآخر أن بني إسرائيل الذين ذاقوا الذل والقهر وقُتل أبناؤهم كانوا قد استسلموا نفسيا وفكريا للفرعنة والفراعين!! شعروا بالتهديد حين جاءهم النبي المنقذ فقالوا له (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. قال: عسى ربكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).
لقد رأى بنو إسرائيل أيضا المعجزة الكونية الرهيبة، لقد أنقذهم الله من فرعون بما لم يكن يخطر ببال بشر، ورأى القوم غرق الجبار العتيد الذي خضعت له البلاد والعباد حتى ادعى أنه إله، وهلك الجيش الذي طالما أرعبهم وذبحهم.. وصاروا في لحظة واحدة أحرارا.. لا خوف ولا رعب ولا تهديد!
وهنا وقعت المفاجأة: مرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة!
أشعر أنني الآن أكثر فهما لنفسية بني إسرائيل في تلك اللحظة من أي وقت سابق، إنها لحظة الشعور بالخوف من الفراغ، الخوف من التحرر، الخوف من زوال السلطة.. نعم! إنه نفسه الخوف على مؤسسات الدولة، الخوف من الفراغ الدستوري، الخوف من الفوضى.. لم أفهم هذه النفسية كما فهمتها حين وجدت ضحايا الانقلابات العسكرية في بلادنا حتى بعد أن فقدوا أبناءهم وديارهم حريصين على "مؤسسات الدولة"، وعلى الحلول "القانونية" لحالة ذُبِح فيها القانون نفسه بلا رحمة على يد نفس هذه "المؤسسات" الفرعونية.
لم يستوعب بنو إسرائيل أن يكون الإله غير متجسد في كيان مادي ظاهر بارز، يُنظر إليه فيخيف ويرعب، ومن حوله كهنته وأحباره وجنوده يُعبِّدون له الناس.. فطلبوا أن يُنصب لهم صنم ليعبدوه! فزجرهم موسى عليه السلام (إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون). لكنهم ما إن غاب عنهم موسى ليتلقى الوحي عن ربه حتى عبدوا العجل: نفس ظاهرة السلطة المتجسدة في كيان مادي أمامهم، حتى لو لم يفعل العجل شيئا إلا إصدار صوت الخوار كما نحته المهندس الموهوب: السامري!
واستمرت قصة بني إسرائيل على ذات الوتيرة، إنهم لا يستوعبون أن يتحرروا من سلطان البشر والمادة والقوة القاهرة الحاضرة البارزة المتجسدة أمامهم، ولذلك فإنهم حين جاءهم الأمر بالجهاد قالوا (إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون).. هذا مع أنهم موعودون بالنصر، وتحت قيادة نبي، والذي وعدهم بالنصر هو الله الذي أنجاهم قبل قليل من فرعون! إلا أنهم لم يتزحزحوا عن موقفهم، بل قالوا أبلغ كلمة تعبر عن نفس المنهزم (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون).
وهكذا، أولئك الذين سحقهم الذل ومسحت نفوسهم الفرعونية لا يجاهدون ولو كان قائدهم نبي ولو رأوا المعجزة بأنفسهم ولو كانوا موعودين بالنصر!!
وهكذا كُتِب التيه على بني إسرائيل أربعين سنة، أربعون سنة هي المدة التي يتجدد فيها الجيل، ليخرج قومٌ لا يعانون من سلطة الفراعين في مصر ولا العماليق في الشام، فهؤلاء هم من سيدخلون الأرض المقدسة، رغم أنهم لم يشهدوا المعجزة.
هكذا تفعل الفرعونية بجنودها وبضحاياها أيضا.. وكلما طال في الحكم فرعون كلما تشوهت أجيال وأجيال، أجيال من آمنوا بالفرعون وأجيال من عارضوه كذلك!.. وفي بيئة كهذه يكون المؤمن بالله حقا غريب، غريب محاصر يحترق، كما قال النبي "القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر"!
تعبر مشاهد الراقصات أمام لجان الانتخابات عن مدى التشوه الذي بلغته النفوس في عصر الفرعون، ولئن طال به الحكم فسنرى ما هو أفدح وأقبح وأبشع وأشنع.. كما تعبر مشاهد البائسين الحائرين في قطاعات المعارضة عن تشوه من نوع آخر.. فذلك كله من أثر فرعون وأمر فرعون، (وما أمر فرعون برشيد)!
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 27, 2018 23:58

March 20, 2018

رأي الغزالي في رشيد رضا، ونقد الغزالي


هذا ختام سلسلة المقالات التي تتعرض لرأي الغزالي في زعماء التغيير، بدأنا برأيه في محمد بن عبد الوهاب ثم أحمد عرابي ثم جمال الدين الأفغاني، ونختم هنا برشيد رضا.. وكان للغزالي كلام طويل غزير في حسن البنا هو أوسع مما يسمح به المقام.
الشيخ محمد رشيد رضا
غلب الجانب العلمي والفكري في سيرة الشيخ رشيد رضا على كفاحه السياسي، فرغم كونه ظهر في وقت عصيب، هو وقت تمكن الاحتلال من الديار المصرية، حيث تمكن الاحتلال الإنجليزي من مصر ولم يزل رشيد رضا في السابعة عشرة من عمره، فكانت جريدة "العروة الوثقى" التي يصدرها الأفغاني وعبده من أوائل من حرك همه إلى السياسة وشؤون المسلمين، ثم التقى بمحمد عبده وصار رفيقه، ورغم انصراف محمد عبده إلى شأن التربية والتعليم والإصلاح بعد رجوعه إلى مصر دون اشتباك بشأن السياسة إلا أن مجلة المنار –التي صدرت قبل سبع سنوات من وفاة محمد عبده، واستمرت سبعة وثلاثين عاما حتى وفاة رشيد رضا- هي وثيقة تاريخية حافلة بالهم السياسي الواسع لرشيد رضا، والمتابعة الوافرة لشؤون المسلمين عبر العالم.
إلا أن شأنه لم يكن فقط الكتابة، فلقد شارك في المؤتمرين الإسلاميين المنعقدين في مكة (1926م) والقدس (1931م)، ولعب دورا في كفاح سوريا السياسي، فقد كان في حزب اللامركزية قبل 1914، وفي المفاوضات التي جرت أثناء الحرب مع البريطانيين، ورأس المؤتمر السوري (1920م)، وكان عضوا بالوفد السوري الفلسطيني إلى جنيف (1921م)، وفي اللجنة السياسية في القاهرة عند وقوع الثورة السورية عامي 1925و 1926مولقد بلغ تقدير الغزالي لرشيد رضا أن يسبغ عليه وعلى مدرسته هذا الوصف الكبير، يقول: "كان محمد رشيد رضا ترجمان القرآن وشارة السلفية الصحيحة والمفتى العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره"كانت مجلة المنار النموذج الذي يرتضيه الغزالي للقيادة العلمية، ويقر بفضلها عليه، يقول: "أتردد على تفسير المنار بين الحين والحين لأتعلم منه ما لم أكن أعلم وهو فى نظرى موسوعة ثقافية موارة بالأبحاث التى تشمل الدين كله"ويجمل الغزالي وصفه لمنهج رشيد رضا وطريقته في قوله: "بذلت مدرسة المنار جهوداً متصلة لتصحيح المعرفة الدينية، فحاربت التقليد المذهبي الجامد كما حاربت الأحاديث الضعيفة وضبطت داخل الهداية القرآنية الأحاديث الصحاح ، وطاردت قضايا كلامية، وتضليلات سياسية.. واستطاع محمد رشيد رضا أن يسوق توجيهات محمد عبده وسط حشد مِن الآثار المحررة. بَيْدَ أن قوى شريرة من الداخل والخارج اعترضت هذا الخير الدافق"وتكرر في كلام الغزالي إدراجه الشيخ رشيد مع أستاذه محمد عبده وأستاذ أستاذه الأفغاني، وهم عنده "من أعمدة اليقظة الإسلامية فى العصر الحديث"لكن أبرز ما يؤخذ على الشيخ في هذا الباب أنه لم يكن له بحث محرر في تجربة من تلك التجارب، إنه يعترض لها في سياق الفكرة العامة التي يريد توصيلها، ولهذا يُرهق من يحاول أن يجمع وراءه كلامه في الرجل الواحد ويعيد بنائه، لكن الإشكال ليس في إرهاق من يجمع إنما في أنه لم تكن ثمة صورة كلية بناها الغزالي مرة واحدة فيُمكن محاكمتها إلى معايير دراسة التجارب التاريخية وفهمها ونقدها. ولذلك يكثر في أحكامه ما لا يمكن فهم طريقة بنائه له، ولا المعلومات التي توفر عليها ليخرج بهذا الحكم. وهنا بطبيعة الحال لا نطلب من الشيخ أن يتحول إلى مؤرخ محقق لتحرير وقائع تاريخية فليس هذا بابه، وإنما المقصود أن يكون حديثه عن تجارب زعماء التغيير حديثا واضحا مكتمل الصورة علمي العبارة لا أحاديث منتثرة تهيمن عليها اللغة الأدبية العاطفية، فإن الصورة وإن كانت واضحة لدى الشيخ فلا تصل بنفس الوضوح لتلاميذه وقارئيه بتلك الوسيلة.
وقد انبنى على هذا المأخذ الرئيسي ثلاثة مآخذ فرعية:
الأول: أنه لم يُبِن موقفه من إشكالات كبرى في تلك التجارب كالمسوغات الشرعية للتوسعات الوهابية وتعاملها مع القبائل والبلدان التي وقعت في بعض مظاهر الشرك وما ينبني على هذا من التكييف الشرعي لقتالهم واستباحة أموالهم وغنائمهم، وما رأيه في سواغ الخروج على الدولة العثمانية في مناطقها لأنها متخلفة أو متراجعة أو تعتنق بعض مظاهر الشرك في حين تقوم بمواجهات مع جبهات أعداء الإسلام. ومسألة الجانب السياسي من الشيخ محمد عبده وعلاقته بالإنجليز وبالنخبة المتكونة حولهم وما مدى الاضطرار الحاصل في مسألة الإصلاح عبر سلطة غير شرعية فضلا عن أن تكون سلطة احتلال.
الثاني: أنه في غمرة تحمسه لبعض الزعماء قطع بأمور لم تكن صحيحة كمسألة أن العثمانيين كانوا لا يدرون شيئا عن العالم، أو أن سنتهم في الحكم كانت قتل الإخوة حتى الرضع منهم، وهو ما لم يكن صحيحا بحال، ولا ريب أن البحث في أسباب التخلف يحتاج نقاشا أعمق ولا ينفع أن يُكتفى فيه بعبارات موهمة غامضة.
الثالث: أنه لم يحلل أبدا تجربة فشل أولئك الزعماء، وكيف أخفق كل منهم في الوصول إلى ما يصبو، فهو إن تناول الأمر تناوله بعبارات مقتضبة تهيمن عليها أيضا لغة أدبية عاطفية حارة، أو تكتفي بذكر سبب هامشي أو عرضي. نعم، لا ريب أن الاستعمار تآمر وقوى الشر عملت على إجهاض عمل المصلحين لكن الشيخ الغزالي نفسه قد أفاض كثيرا في ضرورة دراسة الأسباب الذاتية في الإخفاق قبل دراسة الأسباب الخارجية، لكنه لم يطبق الأمر على الزعماء الذين احتفى بهم، وكان ينبغي أن يكون له وقفة ودرس في تحليل نتائجهم: لم فشل كل أولئك فيما حاولوا.
قال مرة: "السبب فى فشل جمال الدين وعجزه عن بلوغ غايته أن الاستعمار الفكرى استطاع خلق عدد كبير من أمثال هذا الشرقاوىوغني عن القول أن المآخذ على الكبار لا تنقص من قدرهم، بل إن الحرص على ذكر هذا النوع من الاعتذار ربما دل على مراهقة علمية، فلا زال الآخر يستدرك على الأول وإن لم يقاربه في علم ولا مقام، فلا يُنزل استدراكه من قدر الكبير ولا يرفع بالضرورة من قدر الصغير.


نشر في مدونات الجزيرة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 20, 2018 23:53