محمد إلهامي's Blog, page 22
November 6, 2018
هل كان العهد العثماني احتلالا تركيا لمصر؟
دفعت كثير من العوامل السياسية والتاريخية والعلمية لتشويه فترة الحكم العثماني للبلاد العربية، من أهمها بزوغ فكرة القومية ثم فكرة الوطنية وهيمنتها السياسية على العالم الإسلامي والتي امتدت حتى وقتنا هذا، وفي إطار هذه الهيمنة كان لا بد من إنتاج التاريخ القومي والوطني الذي يُعَرِّف القومية والوطنية بحدود جغرافية ومفاهيم عرقية تمارس تعريفا وتصنيفا جديدا للواقع وللتاريخ كذلك. وكانت الفترة العثمانية هي ضحية هذه الهيمنة إذ نُظِر إليها على أنها احتلال أجنبي، ونُظِر إلى الخروج من نفوذها على أنه لحظة استقلال قومي ووطني تستحق الاحتفاء، ومن ثم كان لا بد من دعم وصناعة الرواية التاريخية التي تشوه فترة الحكم العثماني في إطار تدعيم وترسيخ الحكم القومي والوطني. ولقد كانت لمصر خصوصية أخرى تمثلت في أن دخول الحداثة لم يكن على يد الاحتلال الأجنبي المباشر بل بدأت على يد محمد علي باشا وأسرته، وحيث أن الإنجليز قد احتلوا مصر وروجوا لدعاوى أنهم الذين أدخلوها إلى عصر الحداثة، فإن الرواية الوطنية كانت تستلهم تحديث محمد علي، والذي مثَّل انقلابا على الدولة العثمانية وحاربها، فكل تعزيز لنهضة محمد علي كانت بالضرورة خصما من حقبة الدولة العثمانيةوالواقع أن هذه النظرة مغرقة في الخطأ، ذلك أننا عندما نطالع المدونات التاريخية لفترة الحكم العثماني لمصر لا نجد أثرا للنظر إليهم بمعنى الاحتلال الأجنبي من قبل المصريين، واستخدامنا لفظ "المصريين" هنا إنما هو وصف بمعنى المقيمين في مصر لا بالمعنى القومي الوطني الذي يجعل المصريين عرقا مستقلا أو قومية محددة، فقد عرف العالم الإسلامي –وبالذات في قلبه وحواضره الكبرى ومنها: مصر- التقاءا هائلا للأعراق والأجناس يستحيل معه إنزال المعنى القومي على الشعوب المقيمة في أراضيه. فالمعنى القومي نفسه لم يكن موجودا كمفهوم فضلا عن وجوده كمعيار تصنيفي. وإنما نُظِر إلى الدولة العثمانية كسلطة إسلامية حاكمة لا يُشترط لها "المصرية"، وقد كان حكام مصر قبلهم أتراك وشراكسة وأكراد وعرب.
وقد وُجِد من المؤرخين المصريين من مدحوا الدولة العثمانية ورفعوها فوق سائر الدول السالفة الحاكمة، كالجبرتي الذي قال فيهم: "وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشدّ من ذب عن الدين، وأعظم من جاهد في المشركين. فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعائر الإسلامية، والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم الممالك والمملوك"لقد دخل العثمانيون إلى مصر إثر صراع سياسي مع المماليك، وهو الأمر الذي ينظر إليه كثير من المؤرخين والباحثين باعتباره كان فرصة وضرورة لأن دولة المماليك كانت قد وصلت إلى حالة مزرية من الضعف وتهددت سواحلها في البحرين الأحمر والمتوسط بغارات الأوروبيين، بينما نعمت مصر بالأمن من التهديد الخارجي لثلاثة قرون منذ دخلت في الحكم العثمانيكما أن العثمانيين لم ينشؤوا في مصر تغييرات جوهرية حادة في نمط السياسة والإدارة على نحو ما يفعل الاحتلال الأجنبي، وإنما تعامل مع البلد وأهلها كما تتعامل السلطة الإسلامية مع البلاد الإسلامية ورعاياها، ولقد كانت عادة الدولة العثمانية عامة ألا تغير نظام البلاد المفتوحة إلا بقدر ما يبقيها تحت سيادتهابينما يمكن أن نرى سيرة المحتل واضحة منذ سقوط الأندلس وما حل بالمسلمين فيها من الشنائع والفظائع، وما بعده حتى لحظة كتابة هذه السطور. والواقع أن الحديث عن احتلال تركي في هذه الأيام هو حديث مدفوع بأغراض السياسة أكثر بكثير مما هو مدفوع بحقائق التاريخ.
إذ لا يمكن بحال تصنيف الحكم العثماني تحت عنوان الاحتلال الأجنبي التوسعي الذي غزا البلاد العربية وتعامل معها كمستعمرات يستفيد من مواردها البشرية والاقتصادية لخدمة مشروعاته وأهدافه التسلطية، وهو الاحتلال الذي عرفته الدول العربية في فترات الاستعمار الغربي، ولم تكن العلاقة بين السلطنة العثمانية والولايات العربية علاقة المركز بالأطراف أو الدول المستعمِرة بمستعمراتها، وإنما كانت علاقة سلطة برعيتها، لا سيما وأن المفهوم القومي لم يتولد في التاريخ الإسلامي كما هو بالمعنى المعاصر، ولم يكن اختلاف الأعراق بين الفئة الحاكمة والشعوب التي تحكمها في التاريخ الإسلامي يعني وجود علاقة احتلالية استغلالية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
Published on November 06, 2018 15:00
November 3, 2018
سِحْر الفراعين
لما عاد موسى عليه السلام إلى مصر ونزلت عليه الرسالة تَوَجَّه إلى فرعون، وما إن بدأ الحديث معه في الشأن العظيم: شأن الإله والرسالة حتى ترك فرعون ذلك كله، وتذكر شيئا واحدا: تذكر قتل موسى لرجل بالخطأ في شجارٍ قبل عشر سنوات!! ووصف هذا القتل الخطأ بالجريمة العظمى التي يستعظم أن يذكرها صراحة، قال (وفعَلْتَ فَعْلَتَك التي فعَلْتَ وأنت من الكافرين؟). تأمل في أنه لم يقل "وقتلت نفسا" بل عبَّر عنها تعبير المتهول لذكرها كأنها جريمة خارقة كبرى غير مسبوقة، وتأمل في أنه قال "وأنت من الكافرين" ولم يقل: من الغاوين، من الضالين، من الظالمين.
وهذا الذي يتحدث هو فرعون نفسه، الرجل الذي قتل آلاف النفوس بغير رحمة ولا تردد ولا شعور بالأزمة، الرجل الذي أصدر قرارا بقتل الذكور الرُّضَّع لمجرد إذلال الفئة التي يضطهدها أو لمجرد التخوف الذي رآه يوما في منامه "أن ملكه يزول على يد واحد منهم".. فرعون الذي يمارس القتل يوميا بلا حساب استنكر على موسى قتل رجل واحد بالخطأ وجعلها جريمة عظمى!
ردَّ عليه موسى ببساطة واضحة، قال (فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم)، أي: إنما فعلت ذلك عن غير عمد، ولو كان عندكم عدل لبقيت، ولكنني فررت خائفا من ظلمكم. فأثبت على نفسه الخطأ غير المقصود وأثبت على فرعون الظلم الذي يخاف منه البريء فكيف بالمخطيء غير العامد؟
لكن الذي يهمنا هنا الآن هو ذلك السلوك الفرعوني الذي يستبشع قتل رجل واحد بالخطأ بينما هو يمارس القتل بلا حساب ودون شعور بالأزمة!
***
حين جاء موسى بمعجزته جمع له فرعون آلاف السحرة، لم يجمع له ساحرا واحدا أو حتى عشرة.. ولم يتركهم هكذا حتى نظَّم حملة إعلامية طاغية تأييدا لهم، ونطقت أجهزة الإعلام الفرعونية تحشد الناس تحت هذا الشعار (هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)!
جهاز الإعلام الفرعوني لم يقل للناس: لنجتمع ونرى وننظر من الغالب! لا، بل وجَّه الناس في اتجاه وحيد: تأييد السحرة ضد موسى! وانتظار أن يغلبوه!
ولما جاء الموقف المشهود الموعود، آمن السحرة أنفسهم لكن الناس الذين احتشدوا للمشاهدة لم يؤمنوا، لماذا؟ لأن فرعون اخترع في نفس اللحظة رواية جديدة تبناها الجهاز الإعلامي من فوره، هذه الرواية تقول: هذه مؤامرة على مصر، وعلى فرعون، مؤامرة دبَّر لها موسى الرئيس السري لتنظيم السحرة، ولكن الجهاز الأمني والعسكري للدولة المصرية العريقة سيتصدى لهم بالمرصاد (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى).
وفي التو واللحظة، انقلب السحرة من رموز الوطن المنتظرين في المعركة المنتظرة، إلى رموز المؤامرة على الوطن، ثم إلى مسالخ التعذيب والتقطيع والصلب أمام الناس.
وهكذا وقعت المعجزة نفسها أمام ثلاثة أصناف: السحرة فآمنوا، الناس المحتشدون فخافوا وسكتوا، عناصر الشرطة والجيش فتولَّوْا هم تعذيب السحرة وتقطيعهم!!
لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة!
في كل قصة فرعون الطويلة لم يذكر القرآن أحدا قد آمن من آل فرعون إلا رجلا واحدا، مؤمن آل فرعون، ومعه امرأة واحدة هي زوجة فرعون وبها ضرب الله مثلا للذين آمنوا، ليعلم الناس أن صاحب الإيمان الحق يستطيع أن يحقق الإيمان في أحلك أحلك الظروف، في بيت أكفر الناس وأطغاهم وأظلمهم.
***ما مناسبة كل هذا؟!
مناسبته أننا نعيش الآن قصة فرعون ذاتها لكننا لا نفهم ولا نتعظ!!
قبل نحو أسبوعين أعلن جيش حفتر أنه اعتقل هشام عشماوي، ضابط الصاعقة المصري المنشق عن الجيش المصري، والمتهم بتنفيذ عمليات ضد أفراد هذا الجيش!
حتى القنوات والصفحات المحسوبة على الثورة تعاملت مع هشام عشماوي على أنه إرهابي، فكان أحسنهم حالا من طالب بمحاكمة عادلة، وكان أكثرهم تفاؤلا –أو قل: بلاهة- من تساءل: هل ينهي القبض على عشماوي الإرهاب في مصر أم أن السيسي سيبحث عن ذريعة أخرى ليستمر في قبضته على مصر؟!
لقد تعامل الفراعنة المعاصرون مع هشام نفس تعامل سيدهم القديم مع موسى، خرجوا يستبشعون ويستنكرون الدماء البريئة التي تسبب فيها مع أنهم يقتلون يوميا منذ ظهروا بلا حساب ولا شعور بالذنب، سواء في مصر أو في ليبيا، بل لقد سجلوا هم بأنفسهم أرقاما قياسية في المذابح التاريخ في مصر وفي شرق ليبيا! هذا مع أننا لو حسبنا وصدقنا كل ما اتهموه به لن نجد فيها قتلا لأحد من المدنيين بل كانت عملياته ضد المقاتلين المجرمين عناصر الأجهزة التي مارست المذابح في الناس وقتلت منهم الآلاف!
هشام عشماوي نفسه ضابط صاعقة سابق بالجيش المصري، كان يملك أن يستمر في صفوف العسكر، يتمتع بامتيازاتهم وأموالهم ونفوذهم، ويكون له حق قتل أي مصري كما يشاء وهو آمن من العزل والمحاسبة.. كان يملك أن يكون أحد القتلة الأغنياء الأثرياء أصحاب النفوذ والجاه! لكنه لم يفعل..
كذلك فإنه لم يقعد في بيته ويعتزل الصراع، بل تحمل مسؤولية أن يقاوم إلى جوار المظلومين المقهورين المقتولين الذين كان يملك ببساطة أن يكون واحدا من قاتليهم والقاهرين عليهم..
ماذا ينبغي أن يكون تعامل أي كاره للظلم وللفراعنة مع شخصية كهشام عشماوي؟!
المأساة الحقيقية، وهي مأساة مريرة بقدر ما هي مثيرة للضحك والسخرية، وغريبة بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز.. هي أولئك الذين كم هتفوا ونادوا وصاحوا على (شرفاء الجيش) الذين لا يرضون عما فعله السيسي.. أولئك هم الذين يتوافق خطابهم الآن مع خطاب السيسي على أن هشام عشماوي إرهابي!
إذا لم يكن عشماوي واحدا من شرفاء الجيش الذي ناديتم عليهم.. فأين هم أولئك الشرفاء؟ وماذا تريدون منهم أن يفعلوا؟! هل تريدون شرفاء ساكتين خاملين يسمعون ويطيعون للسيسي؟! أم تريدونهم شرفاء يمتنعون عن القتل ثم يستسلمون للاعتقال والمحاكمات العسكرية بتهمة عصيان الأوامر العسكرية؟! أم تريدونهم شرفاء يعتزلون ويجلسون في بيوتهم ويتحولون إلى متفرجين على مشاهد القتل والذبح والاضطهاد يتمتعون بمعاش ومزايا العسكريين السابقين؟! ماذا يفعل (شرفاء الجيش) هؤلاء لكي يرضوا هذه الخطابات المخنثة التي تزعم أنها ثورية فيما هي في الحقيقة ضد كل فعل ثوري طبيعي فطري.. بل وتسميه إرهابا؟!
****
ألا ترى الآن أنه نفس الجمهور الذي كان يرى في السحرة رموز الوطن حين كانوا تابعين للفرعون، فلما انشقوا عليه وآمنوا بالله صاروا أعداء الوطن الخونة المتآمرين عليه؟!..
لقد قالها السيسي بنفسه، قارن بين أحمد المنسي وهشام عشماوي، وهما ضابطان تزاملا في سلاح الصاعقة، أحدهما وهو المنسي مات وهو في جيش السيسي ينفذ أوامره ويمارس القتل والذبح، والآخر وهو عشماوي انشق عن السيسي وجيشه فطورد وقوتل حتى وقع أسيرا!.. لماذا صار هذا رمزا للوطن وصار هذا عدوا له؟!
ذلك هو خطاب فرعون.. وإعلام فرعون.. والمصيبة كل المصيبة أن نكون نحن أيضا: جمهور فرعون!!
هشام عشماوي.. رجلٌ طاردته سلطة العسكر في مصر، ثم اعتقلته سلطة حفتر في ليبيا.. هذا رجلٌ تشهد ظواهر الأمور على أنه في معركة الحق ضد الباطل، الباطل والشر اللذان يتجسدان في سلطة السيسي وحفتر!
وهذا الخطاب الانهزامي المخنث الذي لا يتعامل مع عشماوي كبطل حقيقي ضحى بكل شيء بانتقاله من معسكر الغالبين الظالمين إلى معسكر المقهورين المقتولين، هذا الخطاب هو أحد أسوأ ما وقع للثورات العربية كلها، فبه اقتربت النخب الثورية من خطاب السلطة وبه ابتعدت وأبعدت الجماهير عن الطريق الوحيد الصحيح الفعال لأي تغيير.. وهذه الهزيمة على مستوى الخطاب والأفكار هي أسوأ الهزائم بحق لأنها تنزع الشرعية عن الثائرين المقاومين.. ثم لا تبقى مقاومة إلا أن نصرخ في الفضائيات صراخا مؤدبا مهذبا محسوبا أو نجري في أروقة المؤسسات الدولية مع إنفاق ملايين الدولارات ثم لا تسمن ولا تغني من جوع!
ما هكذا كانت الثورات يوما..
ولم يسقط نظام بمجرد المجهود الإعلامي المعارض..
ولم تنجح قضية في أروقة محكمة دولية في إسقاط نظام أبدا..
فما هذا الذي نفعله بأنفسنا حين يتحول الخطاب الذي يفترض أنه ثوري ليكون هو نفسه ضد الثورة وضد الثوار؟!! كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله.. وكيف بمن يضحي بكل امتيازات المال والنفوذ والجاه لينتقل من صف الغالبين القاهرين إلى الدفاع عن المغلوبين؟! ماذا صنع الأبطال الثوريون، رموز الكفاح والنضال عبر التاريخ، غير هذا؟!.. ماذا صنع جيفارا -مثلا- غير هذا؟!
****
أكاد أتصور وأتخيل: لو أن هذا الانقلاب لم يقاومه أحد على الإطلاق.. ماذا كان سيُقال عن شعب اغتصبت إرادته ونصبت له المذابح في الشوارع؟! كم كان سيُسَبُّ ويُطعن فيه وفي شرفه ونخوته وكرامته؟! بم كان سيوصف من الجبن والنذالة والذلة والضعف؟!
ثم حين يتخذ الناس رد الفعل الطبيعي الفطري الذي يتخذه أي بشر ذو كرامة، يخرج من يطعن في هؤلاء ويؤكد على وصفهم الذي أطلقته عليهم نفس السلطة المجرمة القاتلة (إرهابيون)!!
هل نحتاج كل هذا الكلام والتطويل للإقناع بما هو بديهي فطري طبيعي.. شعب ذُبِح فخرج منه من يقاوم ويحاول تعديل الميزان.. ولم يتوجه في عمله هذا إلا ضد أدوات السلطة المجرمة التي تنفذ القتل والتعذيب والإجرام؟!
أين أولئك من القرآن الكريم ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل أين أولئك من شعور البشر وفطرتهم واستجابتهم الطبيعية إذا أريد بهم الذل؟! بل أين أولئك من شعور الحيوانات التي تقاتل عن نفسها وعن صغارها وتدفع عن نفسها وعنهم الأذى بما استطاعت؟!
هل حقا لو كنا في عهد نبي الله موسى كنا سنؤمن به رغم أنف فرعون؟ هل كانت ستقنعنا معجزاته أم سيرهبنا سيف الفرعون وإعلامه وعسكره وشرطته لكي نؤمن بفرعون ونكفر بالله، ونصدق رواية فرعون ذي العذاب الحاضر وننصرف عن نبي الله؟!
هذا سؤال مرعب حقا لمن كان يؤمن بالله ويخشى على نفسه!
ولئن كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقا، فلقد كان هذا آخر إهلاك الله لأعدائه، فمن بعدها كلَّف الله عباده الصالحين بالجهاد والمجاهدة للطغاة والمجرمين الظالمين، وكلَّفهم بالعمل لإقامة الدين، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نصرا ينزل من السماء على قوم لم يجاهدوا..
فكَّ الله أسر هشام عشماوي وأمثاله، وثبَّتهم وأيدهم، وصرف عنهم الشر والسوء.. وإنه والله لأولى بالتعاطف من خاشقجي، ولكن عزاؤنا أن موازين السماء غير موازين الأرض، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يُنصب ميزان العدل الحق المبين، وحينها تُكشف الحجب ويظهر المستور، وترى مقامات الناس عند الله غير مقاماتهم في هذه الدنيا.. والله أحكم الحاكمين.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on November 03, 2018 15:57
October 12, 2018
مذكرات الشيخ رفاعي طه (7) قصة ثورة في المدرسة
مذكرات الشيخ رفاعي طه (7)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةقصة ثورة في المدرسة الثانوية
· لهذا كان ضابط الأمن يكثر الجلوس معي، ولكنه لم يكتشف تنظيمنا المصغر· بدأت ثورة المدرسة بقطعة طباشير وانتهت بتكسير أدراج وهدم شُرفتين!سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومالالحلقة السادسة: قصتي مع التصوف
بعد قصة التصوف هذه أعود الآن إلى خط الدراسة.. فقد كانت هذه الزيارة الأخيرة لأمن الدولة قد تركت أثرها عليّ، لقد صار يُنظَر إلي في المدرسة نظرة غير المرغوب فيه من الكثيرين، وقد أضيف إلى هذا أن المباحث العامة في مركز إدفو قد وضعت أعينها عليّ، وذلك أن ضابط المباحث في ذلك الحين كان هو زوج المُدَرِّسة "إكرام" التي ذكرتُ ما وقع بيني وبينها سابقا حين ذكرت في الإذاعة حديث "صنفان من أهل النار لم أرهما" فأُبْلِغ في أمن الدولة أني أُعَرِّض بها، وذلك الضابط في أمن الدولة الذي فهمت منه نصف الحديث الثاني كان هو نفسه قد جاء إلى المدرسة وتحدث معي أكثر من مرة.
لست أتذكر الآن ما إن كان مجيئه هذا قبل أم بعد الاستدعاء الثاني لأمن الدولة، وأغلب الظن أن ذلك كان بعدها، لكنه جلس معي ثلاث مرات أو أربع، كانت واحدة منها بسبب يعود أيضا إلى زوجة ضابط المباحث: إكرام.
كان الطلاب يلجؤون إلي لشهرتي بينهم لتفوقي ولطبيعة شخصيتي القيادية، ويتجاوزون رئيس اتحاد الطلاب نفسه، فإن كان ثمة شيء يطلبونه من المدرسة كنتُ أتولى الكلام فيه مع المدير والناظر، فإن استجابت إدارة المدرسة فبها ونعمت، وإلا حوَّلتُ طاقتي إلى تحريض الطلاب عليهم، وكنت أُحْسِن هذا، وقد وقعت الأزمة لأن هذه المُدَرِّسة كانت شديدة التبرج ومثيرة، وكان معنا في الفصل طالب تكرر رسوبه في الثانوية العامة حتى كان سنه أكبر منا جميعا، فلربما كان في العشرين من عمره، أي أنه قريب من عُمْر المُدَرِّسة نفسها، وكانت عيون المراهقين تنهب هذا التبرج حتى كان ذات يوم ألقى فيه هذا الطالب عليها خلسة قطعة من الطباشير، يمكن أن نعتبر هذا نوعا من التحرش أو نوعا من الإهانة والتحدي والمعاقبة أو كل ذلك معا، وكانت ردة فعلها بطبيعة الحال ساخطة، إذ صاحت فينا: من الذي فعل هذا؟! فلم يرد أحد.. ويمكن أن نعتبر هذا خوفا من الطالب الكبير السن أو شهامة ومروءة كالتي يرى الطلاب أنها من الرجولة تجاه بعضهم ضد المدرسين (الذين يُمَثِّلون السلطة داخل الفصول، بينما الطلاب هم ممثلوا الشعب والجماهير!)، وظلت تصيح بإصرار تريد معرفة الفاعل، وظل الطلاب ساكتين لا ينطقون، فخرجت من الفصل مسرعة إلى ناظر المدرسة الذي جاء هو الآخر مهرولا، وفي هرولته دفاع عن قِيَم المدرسة وانحياز لإدارتها كما فيها قلق مبعثه أن زوجها ضابط المباحث!.. فصاح بدوره يسأل عن الفاعل، فلم يجب أحد.. وظل هذا هو الموقف حتى انتهى اليوم وذهبنا إلى البيوت!
تصورنا أن المشكلة قد انتهت على هذا، إلا أننا فوجئنا في اليوم التالي أننا قد أوقفنا في ساحة المدرسة ولم يُسمح لنا بالصعود إلى الفصل الدراسي، وعاد الناظر يسأل مجددا عن الفاعل الذي أهان مُدَرِّسَتَه، والطلاب من جهتهم يقولون: لا نعرف. فقال: إذن، لا دراسة، ولا صعود إلى الفصول، وعودوا إلى بيوتكم!
غضب الطلاب واعترضوا ولكنهم في النهاية انصرفوا إلى البيوت ولم يبق إلا ثلاثة يتفاوضون مع الناظر على إنهاء هذا الأمر، وكنت من بينهم، وقد حاولنا مع الناظر وجادلناه خصوصا ونحن في السنة الثالثة الثانوية وهي سنة فارقة ومهمة في تحديد مصائرنا الدراسية، وقلت له: لا يمكن أن يُعاقَب الفصل كله بذنب طالب واحد. قال: أنتم تعرفون من فعل هذا ويجب أن تُخبروا به. قلنا: نحن لا نشي ببعضنا حتى ولو كنا نعرفه بالفعل (وكان هذا ضد معنى الرجولة بيننا في ذلك الوقت)، فقال: ومع أني أعرفه لكنني لن أصفح عنكم ولن أرجعكم للدراسة إلا إذا اعترفتم أنتم به، فقلت له: إذن الموضوع متوقف عندك، حيث أنك تعرفه فلتعاقبه ولينته هذا الأمر، وطال بيننا الجدال وفشلنا في الوصول إلى نتيجة، فخرجنا من عنده لا إلى البيوت ولكن إلى فصل دراسي آخر كي لا تفوتنا الدراسة، ولم يعترض هو على ذلك.
جاء الصباح التالي فتكرر نفس الموقف، لم يسمح لنا الناظر بالدخول إلى الفصل، ولكن هذه المرة لم يرجع الطلاب إلى بيوتهم بل بقينا في ساحة المدرسة، ثم عزمنا على أن نقسم أنفسنا ونتوزع على بقية الفصول فلا تفوتنا الدراسة، وبينما نحن ذلك إذ عملنا على تحريض الفصول الأخرى لتقف معنا (بمقتضى معنى الرجولة نفسه الذي منعنا من الاعتراف على زميلنا، والذي يقتضي عليهم التضامن معنا)، وهم من ناحيتهم أبدوا استعدادا لهذا، ووصلنا إلى اتفاق مع بقية الزملاء أن بداية الأسبوع القادم سيكون فاصلا، إما أن يُسْمَح لفصلنا بالدخول أو أن تضرب المدرسة عن الدراسة، ولا مانع من تكسير المدرسة أيضا!
وعند بداية الأسبوع سارعت إلى الناظر قبل بدء الطابور وقلت له: الطلاب اليوم مصرون على دخول الفصل، وكلهم أبناؤك والأفضل أن يدخلوا إلى فصلهم. فقال لي بحزم: لن يدخل أحد الفصل! قلت له: إن ثلاثة أيام من العقاب كافية وكل هؤلاء الطلبة هم أبناؤك حتى ولو أخطؤوا، وأنت بمثابة الأب لهم جميعا. فلم يُجْدِ كل هذا الكلام الحسن شيئا، وأصر على موقفه، فقلت له: إني أعلم أن الطلاب قد عزموا أمرهم وأنهم إن لم يدخلوا إلى الفصل اليوم فلن يدخل بقية الطلاب إلى فصولهم تضامنا معهم أيضا، فأبرق وأرعد وهددنا، فعدت مرة أخرى إلى الكلام اللين وأنه مثل الأب للجميع وأن الأمر لا يحتمل أن يستمر أكثر من ذلك. ولمرة أخرى لم ينفع هذا معه فقلت له في صيغة نصفها ودّ ونصفها تهديد: لقد قمت بما علي وأبلغتك بما يمكن أن يحدث إذا استمر هذا الوضع.
توجس خيفة من هذا الوضع، ولكنه أصر على موقفه، فاتصل بجهاز الأمن.
ومن جانبنا سارعنا بتوزيع أنفسنا على الفصول، فسارعت تلك الفصول للإضراب عن الدراسة ورفضوا أن يدخلوا إلى فصولهم، وفيما بعد اكتشف الصف الأول والثاني الثانوي أننا لم ندخل فعادوا من فصولهم بعد أن وصلوا إليها.. وبدأ التوتر يخيم على الموقف: المُدَرِّسون يحاولون سوق الطلاب إلى الفصول والطلاب يمتنعون، ثم انفجر الموقف حين أراد المُدَرِّس محمد سرور أن يستعمل القوة فصاح في الطلاب بعنف أن يدخلوا فردَّ عليه طالب طويل القامة قوي البنية واسمه عادل قائلا: هذا ليس من شأنك يا أستاذ سرور. وجُنَّ المدرس الذي لم يتعود أن يخاطبه أحد من طلابه هكذا، فصفعه على وجهه، وما كان هذا الصفع يليق أيضا على طالب يرى نفسه قد صار رجلا أمام زملائه، فكانت هذه هي نقطة انفجار الموقف.
انفلت الأمر، وتشتت الطلاب الغاضبون في كل جهة، وصعدوا إلى الفصول التي لم تنتبه بعد لما حصل، وأخرجوا الطلاب، وألقوا بالأدراج من الطوابق العليا، وسرت الفوضى التي لم يكن أحد قادرا على إيقافها مع غضبة الطلاب، بل هدم بعضهم شُرفتين من شُرَف المدرسة، وبدأ آخرون بملاحقة المدرسين ولم ينج منهم إلا من أغلق على نفسه بابًا واختفى من المشهد. كان الأمر أشبه بثورة شعبية مصغرة يطارد الشعب فيها ممثلي السلطة في لحظة قوتهم وضعفها ويُهدمون رمز المؤسسة السلطوية التي تحكمهم، وهي في حالتنا هذه: المدرسة.
كانت مدرستنا بين مدارس أخرى، فما إن سرى خبر "الثورة" في مدرستنا، حتى انتقل منها بغير تدبير إلى المدرسة الثانوية الصناعية المجاورة، وإذا بها وبغير سبب ما يوقفون الدراسة ويُكسرون المدرسة ويطاردون الأساتذة ويهتفون "معكم يا ثانوية عامة"!! وكان هؤلاء الطلاب، لظروفهم المعروفةسيطر الطلاب على المدرسة، ومطلبهم المعلن هو دخول فصلنا إلى صفه وانتظامه دراسيا، وعند هذه اللحظة حضر ضابط الأمن إلى المدرسة يحاول أن يفهم ما حدث، وفوجئ بهذا الوضع الجديد، فسارع إلى تهدئة الوضع وما إن استقر الأمر حتى دخل بنفسه إلى كل فصل وأخذ في سؤال الطلاب عن السبب والأزمة، فإذا به يسمع في كل فصل حادثة الطباشير وعقوبة المنع من الدراسة، ففهم أن الأمر لا يحمل معنى سياسيا وليس وراءه دافع من خارج المدرسة، فاتخذ لنفسه مهمة الوسيط بين الطلاب وبين إدارة المدرسة من أجل إنهاء الموقف.
ساعتئذ كانت إدارة المدرسة قد وقعت في الحرج، لقد انفلت الموقف حتى تمرد الطلاب وكسروا بعض أجزائها وأصابوا المُدَرِّسين وكسروا هيبة الإدارة، فاستغاثوا بجهاز الأمن لتأديب الطلاب وجعل ما حدث عبرة لمن يعتبر فلا يزالون يهابون المدرسة وإدارتها، ولا يترددون في الطاعة ولا يفكرون في العصيان، ثم ها هو جهاز الأمن الذي استغاثوا به يتحول فجأة من موقع العصا والتأديب إلى موقع الذي يتوسط لحل المسألة وتهدئة الأمور!! إن الأمر لو استمر على هذا الحال فلن يبقى للمدرسة ولا ناظرها هيبة ولا طاعة، بل وسيسهل على الطلاب التمرد في كل وقت، طالما التمرد يحصد المكاسب ولا يجلب العقوبة!! لكن المأزق الأهم هنا أن أحدا منهم لا يملك أن يعارض رغبة جهاز الأمن الذي هو فوق كل جهاز، لقد صار الموقف معكوسا فبدلا من أن يكون الطلاب والأمن في المواجهة صارت المواجهة الآن بين إدارة المدرسة التي تريد أن تعاقب وجهاز الأمن الذي يريد حل الموضوع!
أراد الناظر الخروج من الأزمة ببعض حفظ ماء الوجه فاشترط فصل بعض الطلاب، الذين هم الزعماء المحرضون كما قال، فلم يجد إلا الطلاب الذين بقوا وتفاوضوا معه، وكنت من بينهم بطبيعة الحال، إلا أن الأستاذ عيد الرافعي وقف معي وجادل عني وذكر كثيرا أنني لم أكن محرضا وإنما كنت وسيطا وإنما كان الطلاب يثقون بي ويُقَدِّمونني ولهذا كانوا يخبرونني عما ينوون فعله وكان دوري أن أخبر إدارة المدرسة وأحاول إنهاء الأمر لولا تعنت الناظر. وبعد مجهود وجدال استطاع أن يخرجني من بين الطلاب الذين سيقررون فصلهم. لكنهم وجدوا أن طالبا آخر من هؤلاء الخمسة هو ابن عمدة قرية قريبة، وكان الرجل كبيرا في قومه وصاحب نفوذ، ومسألة عقاب ابنه بالفصل من الدراسة قد يترتب عليه مشكلات فأخرجوه أيضا، وبقي طالبان أو ثلاثة لم يكن لهم ظهير فقرروا أن يفصلوهم من الدراسة.
ما إن بلغنا الخبر، ونحن كنا في لحظة انتصار وما بالك بنفسية المنتصر؟ وما بالك بلحظة الرومانسية الثورية التي تعقب النصر؟! فما إن بلغنا الخبر حتى كان موقفنا جازما لا تردد فيه: لن نسمح بفصل أي طالب ولا حتى لساعة، ولو أُخرج طالب من فصله فلن تستقر المدرسة. وبالفعل وبفضل موقف الطلاب المتوحد ألغيت قرارات الفصل، وخرج الطلاب من هذه "الثورة" وقد حققوا كل مكاسبهم، وكانت إدارة المدرسة هي الخاسرة كل الخسارة.
من بعد هذه الحادثة كان ضابط أمن الدولة يكثر الجلوس معي، اعتبرني زعيما للطلاب ومحرضا لهم، وكان يريد أن يفهم كيف أفكر، وممن أستلهم آرائي، وما هي علاقاتي... ومن جهتي كنت أكرر دوما أني من أعضاء الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وأني ابن البلد، ومن جيل الثورة، وأن لهذه الدولة والثورة الفضل علينا.. إلخ! كنت أعرف أنه من الضروري إقناعه أننا شباب صغير وليس بيننا وبين الدولة شيء!
كان يقتنع بما أقول، على الأقل: يُظهر لي هذا الاقتناع، وفي الواقع لم يكن لديه ما قد يشككه فيما أقول، بينما كنتُ بالفعل قد كونتُ جماعة من زملائي بدأت بأحد عشر طالبا، ثم زاد عددها في الصف الثالث الثانوي إلى ثمانية عشر طالبا، كما كنتُ قد ذكرتُ سابقا. ولكن الجديد الذي يجب قوله هنا ونحن في الصف الثالث الثانوي هو ذلك العهد الذي قطعناه على أنفسنا: أن ندخل جميعا الكلية الحربية!
كان هذا العهد فرع عن تصورنا الذي ذكرته من التفكير في انقلاب عسكري لإقامة الدولة الإسلامية، ودخول الكلية الحربية هو الخطوة الأولى منها، وتعاهدنا على ذلك والتزمنا سريته، وقد التزم الجميع بهذا العهد، وعند انتهاء الصف الثالث الثانوي قدموا جميعا أوراقهم إلى الكلية الحربية، لكن حصل ما لم نحسب له حسابا: لم يقبل من هؤلاء جميعا إلا طالب واحد فقط!
ومع ذلك فقد بقيت لنا صلة به، وكان يتابع معنا حتى أصبح ضابطا وحصل على رتبة ملازم أول، وحينها بدأ يتغير ويتخلص من هذا العهد الذي قطعناه معا قديما، كان يتعذر بأننا تأخرنا في الدراسة المدنية، وهذا صحيح وإن لم يكن عذرا، فقد توزعت مجموعتنا بين كليات الطب والهندسة والتجارة والعلوم، دخلتُ كلية التجارة وتأخرت فيها لظروف سأقصها فيما بعد، ومن دخلوا كلية الطب كانوا ينهون دراستهم بعد سبع سنوات، ومن دخلوا كلية الهندسة ينهون دراستهم بعد خمس سنوات، وهذا الذي قُبِل في الكلية الحربية كان يُفترض به أن يدخل كلية العلوم إلى جوار آخر من مجموعتنا، اسمه أحمد سالم، دخل العلوم بعدما لم يُقبل في الكلية الحربية وتدرج فيها حتى صار أستاذا، وأحسب أن هذا الذي دخل الكلية الحربية لا يزال في صفوف القوات المسلحة وإن كانت قد انقطعت علاقته بنا من ذلك الوقت البعيد.
غلب على هذه المجموعة الاتجاه الوطني وليس الإسلامي، وقد حصل لنا تحول آخر حين دخلنا الجامعة، إذ بقي الأغلب ضمن هذا الاتجاه الوطني ولم يتحول إلى الاتجاه الإسلامي سواي وآخرٌ معي.
لكن لهذا حديث آخر.. ويجب أن يكون قبله حديثٌ عن انضمامي لصفوف الطلائع في الاتحاد الاشتراكي.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on October 12, 2018 15:49
October 3, 2018
مصانع الخيانة
روى الدكتور وليد سيف في مذكراتههكذا طوَّرت "الحضارة" الغربية نظاما يمكن فيه للجندي أن يرتكب المذابح بكل وحشية (أو: بكل كفاءة) ثم إذا بلغ سنّ المعاش سمح لنفسه أن يتعاطف مع من ذبحهم بكل إخلاص (أو: بكل إنسانية)!!
***
هذه الصورة على بشاعتها وقبحها قد تبدو مفهومة في ميزان النظرة المادية المتجردة من كل اعتبار أخلاقي، لكن كيف يمكن أن يُقبل في أي ميزان أن يكون صاحب هذه المذابح رجل من أهل البلد نفسها، يعمل في خدمة المحتلين بكل وحشية (أو: بكل كفاءة؟!).. فلئن كان الإنجليزي يسمع ويطيع لحكومة هو انتخبها واختارها وهي تجعله في عافية ورفاهية وتؤمن له مستقبله ومستقبلا لأولاده، فما هي حجة وعذر من يفعلها من أبناء البلد المحتل؟!!
ما هي حجة فلسطيني يفعلها خدمة للإنجليز؟ أو جزائري خدمة للفرنسيين؟ أو مغربي خدمة للإسبان؟!.. وأيضا: ما هي حجة أي إنسان يفعلها خدمة لنظام جاء بالقهر والعنف والدبابة ومن ورائه جاء برغبة النفوذ الأجنبي المهيمن على بلادنا؟.. ثم ما هي حجة أي إنسان يفعلها وهذا النظام لا يُؤَمِّن له ولا لأبنائه طعاما نظيفا ولا تعليما مفيدا ولا طبا صحيحا ولا حياة طبيعية؟!
أحسب أني أعرف الإجابة: لقد فعلها هؤلاء جميعا لأن "الدولة" استطاعت صناعة عقيدة غرستها في النفوس.. لا يخلو الأمر من مكاسب يتمتع بها الخونة على سائر الناس لكن مجرد المكاسب لا تفسر وحدها هذا الإخلاص وتلك الوحشية (أو: الكفاءة) في خدمة النظام المحتل أو النظام المستبد.
لم يعد أولئك الذين يفعلون هذا يرون أنهم يخونون أو يظلمون، بل صاروا يحسبون أنهم يقومون بالواجب الوطني.. ومنهم من تفانى فيه حتى أهلك نفسه، وهو مقبل غير مدبر!!
***
هذه الصورة رواها د. خليل حسن خليل في مذكراته الروائية، وقد سُجِن في عهد عبد الناصر من بعد ما كان يعطي المحاضرات لعناصر الاتحاد الاشتراكي بل ومن بعد ما كان منتدبا للعمل في رئاسة الجمهورية، فسجل حوارا بينه وبين ضابط السجن الذي كان تلميذا له من قبل، سأله:
- هل تشترك في تعذيب المعتقلين؟بهت الضابط عند سماع السؤال. تردد في الإجابة. ثم قال بصوت لا انفعال فيه ولا حسرة:- طبعا!-أنت؟! الإنسان الرقيق. التلميذ النجيب، ابن صديقي الحميم. لقد رباك أبوك تربية مهذبة طيبة.- كل هذا اختفى أثناء تدريبنا في الكلية. ثم تلاشى تماما حينما وضعوا النجمة على كتفي!- هل لا يدمى ضميرك، هذا التعذيب البشع الذي تباشره على الإنسان؟- وهل يتعذب ضمير عشماوي حين يقصف برقاب المحكوم عليهم بالإعدام؟- عشماوي يعدم الذين قضت المحاكم بإعدامهم.- الفرق ليس كبيرا!- ألهذه الدرجة؟- نحن ضباط، نأكل العيش والجاتوه من هذه الوظيفة، ونتيه بها على الخلق. ونؤمر بالتعذيب فنستجيب.- أتنفذون أوامر التعذيب بالضبط، أم تضيفون إليه؟- أنا أنفذ العلاج الذي يضعه القادة بالضبط. أعطي للمريض الجرعة والحقن دون زيادة أو نقصان.-كم أنت عادل!- أنا أؤدي واجبي.- وزملاؤك؟- لا شأن لي بهم.- علمت أن بعضهم ينهش لحم المعتقل، ويمصمص نخاعه، وكأنه وحش يستمتع بالوليمة.- لا أريد أن أتحدث عن غيري. إنما لأنك أستاذي، وكنت تعطيني دروسا خصوصية بالمنزل مجانية، بحكم صداقتك لوالدي، سأقول لك:
التعذيب يثير في الإنسان غريزة غريبة. فبعض المعذبين يتشفى في المعتقل وكأنه عدوه، وكلما ألهب ظهره أو نفخ أحشاءه، كلما تملكته هذه الغريزة الحيوانية، وكلما اقترب من حرفة الجزارة! بفارق واحد، أن الخروف أو العجل يذبح ثم لا يحس بتقطيع أعضائه. وتبلغ الوحشية ذروتها، إذا بدت من المعتقل إشارة أو احتجاج أو تأفف. هناك يعتبر المعذب أنه أهين إهانة شخصية! لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. فيتملكه سعار بربري، يصب أواره على المعتقل، وقد نفق كثير من المعتقلين بهذه الطريقة!- أنت تستخدم كلمة "نفق"؟- في مثل هذه البيئة يستوي الحمار والإنسان***
خطر لي مرة وأنا أقرأ التحقيقات مع الثائر البطل أحمد عرابي أن أفتح ملفا لأحفظ فيه أسماء الخونة الذين حققوا معه، فقد كانوا يبذلون في التحقيق جهدا واضحا في المحاصرة والتضييق وانتزاع الأقوال! فما أكملت لحظة حتى عرفت أن المهمة ثقيلة والأسماء طويلة وكثيرة..
لقد صار الظلم والخيانة مؤسسة وجهازا ودولة، منذ عهد الطاغية الجبار محمد علي، حتى صارت وظائف كالشرطة والعسكر والقضاء والمخابرات والإعلام هي بنفسها معاقل لتفريخ وإنتاج وتصنيع الخيانة والعمالة للاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي.. حتى إن النادر القليل منهم مَنْ لم يتلوث بالمشاركة في هذه الأوحال! وأندر منهم من استقال من تلك المؤسسات فنجا بنفسه، وأندر من كل هؤلاء من فكر في المقاومة والإصلاح..
ذلك أن هذه الدولة وهذه المؤسسات جعلت الخيانة والعمالة والتعذيب والتزوير والبشاعة مدرسة فكرية، وجهة نظر، فلسفة ومنهجا، دينا متبوعا.. لقد أنتجت هذه الدولة ومؤسساتها عقيدتها التي جعلت كل هذا ينتقل من معنى الخيانة والعمالة والظلم إلى معنى الواجب الوطني والنظام والشرف!نعم.. صارت مهمة ثقيلة طويلة أن نتتبع أسماء من قبضوا على الوطنيين ومن حققوا معهم ومن حاكموهم ومن عذبوهم ومن شوهوا صورتهم بالأشعار والأغاني والمقالات.. قائمة لا تكاد تحصى ولا تُحصر ولا تنتهي..
وإن بعض العزاء أن التاريخ يصحح سيرته بعد سنين طويلة، كما قد أبقي اسم عرابي علما على الثورة والجهاد، وأبقى اسم الخديوي توفيق علما على الخيانة والعمالة!
***
لقد أنشأ الاحتلال وما زرعه في بلادنا من أنظمة تابعة له، أنشأ أجيالا تؤدي واجبها في حرب أبناء البلد دون هوادة، وبعض أولئك يقرأ الآن هذه السطور، لا بغرض التأمل في معانيها بل بغرض رصد وتحليل ما تحمله من أغراض ورسائل! ولقد ضرب الله مثلا بكلماته وله المثل الأعلى فأخبرنا أن الآية نفسها يضل بها كثيرا ويهدي بها كثيرا، وأن القرآن ينزل على بعض الناس هداية ويزيد الآخرين كفرا وفجورا. وما ذلك إلا لأن البعض نظر فيها يطلب منها الهداية والآخر نظر فيها يبحث عن مواضع الجدل ويلتمس النقص والعيب وإثارة الشبهات.
في لحظة كتابة هذه السطور تشن حرب محلية على أبسط مظاهر الدين، أغلقت السلطات في موريتانيا جمعية تكوين العلماء التي أنشأها الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وهي جمعية تخرج من يتأصلون علميا بحفظ القرآن والسنة ومتون العلم، وبعدها بساعات صدر قرار من الحكومة الليبية التي لم يستقر لها قرار ولا تملك توفير رواتب للناس بعدم استقبال طلاب الابتدائي لمدراس التعليم الديني، وقبل ذلك عصف محمد بن سلمان بسائر الأنشطة العلمية والدعوية في مساجد بلاد الحرمين.. وأنى نظرت إلى بلد رأيت مثل هذا أو شيئا منه.
هذه الغارات العنيفة يقوم بها من يقولون بأنهم مسلمون، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتطرف، هذا مع أن سائر هذه الأنشطة والمؤسسات تبتعد تماما عن كل ما قد يثير حساسية الأنظمة والحكومات وأوليائهم، بل هي لم تنشأ أصلا إلا بموافقات وتصاريح أمنية ولم تمارس عملها إلا برقابة وتشديدات أمنية أيضا، أي أنها أبعد ما تكون عن هذه التهمة. وعندئذ لا يبقى لنا إلا تفسير من اثنين: إما أن هؤلاء القوم (تذكر دائما أنهم منتسبون للإسلام) يرون القرآن نفسه كتاب تطرف وإرهاب، وأنه مادة يجب مطاردتها وملاحقة تدريسها وتحفيظها. أو أنهم لا يفكرون في هذا أصلا وإنما يقومون بعملهم (بكفاءة) كما أُمِروا به، وطالما أنهم يقومون بوظيفتهم بكفاءة فلا معنى لأن يفكروا في شيء، ومن كان ينوي التفكير فليؤجله إلى لحظة سن المعاش كي يتعاطف مع من سجنهم وضربهم وآذاهم!
قبل أن ينشأ في بلادنا "صنم الدولة"، كان أهل العلم والفقه أصحاب مكانة وهيبة وتوقير، لا يجرؤ عليهم إلا من انخلع عامدا من الدين والأدب، ولا يتجاسر عليهم إلا من عرف من نفسه وعرف الناس منه السقوط والانحطاط.. أما حيث جاء صنم الدولة وانتصب معبودا فوق كل شيء، فلا ريب أن رغباته أوامر، وأن كل فرد في جهاز هذه الدولة إنما هو "عبد المأمور"!
إن أمام المجاهدين عملا طويلا ثقيلا لكسر هذا الصنم، وإعادة المرجعية العليا لتكون لله ورسوله، والعلماء هم أوائل المسؤولين عن إرجاع حجم "الدولة" لتكون خاضعة لله ولرسوله ولشريعته، وعليهم بذل المجهود كله في إفهام الناس أن كل ما خالف الدين هدر لا قيمة له ولا كرامة ولا احترام ولو صدر من الدولة، ولو قرره برلمانها ولو طبل له إعلامها..
إن حقيقة الصراع في كونه صراعا على السيادة، على المرجعية العليا، هل تكون لله أم لغير الله! وسيظل أهل العلم والدين والجهاد يتعرضون لإيذاء هذه الدولة مهما حاولوا الابتعاد عنها، فإنها تعرف أن عملهم في حقيقته هو تعظيم الدين ليكون مرجعية فوقها، ولتكون هي خاضعة له.. وهذا أمر لا يسمح به صاحب الباطل إلا مضطرا!
وهذا هو حقيقة التحرر والتحرير، وحقيقة الإخلاص والتوحيد.. أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وألا يكون أحد من الناس عبدا لنظام أو ملك أو رئيس أو وظيفة، يضطر معها إلى إلغاء عقله وتجميد ضميره لتنفيذ الأوامر بكل كفاءة!! أو يضطر معها للإيمان بأفكار رؤسائه وابتلاع كلامهم كي لا يعيش تعذيب الضمير وإلغاء العقل إذ ينفذ أوامرهم بكل كفاءة!!
حقيقة التوحيد والتحرر ألا يصرف الإنسان طاعته إلا لله.. وإعادة غرس هذا في الناس مهمة عظيمة بعد تضخم أجيال آمنت "بالدولة" حتى حاربت في سبيلها أخلص أبنائها وصفوة عقولها.
***
لئن كان بعض العزاء أن التاريخ سيصحح مسيرته بعد تبدل القوى وتغير الحال، إلا أن العزاء كله، وهذا هو ما يشفي الصدر حقا، أن الحساب الأخير عند الله تعالى، الله الذي لا يغفل ولا ينام ولا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد ولا تغيب عنه هفوة.. فهذا هو العزاء حقا.. وهذا هو شفاء الصدر حقا.. وتلك هي الطمأنينة حقا!
فسبحان الله.. الحق العدل المبين..
سبحان الذي قال:
{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون؟}{ووضع الكتاب، فترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون يا ويلتنا، مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين}{عالم الغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}
ألا إنه لولا الله ولولا الدار الآخرة لكان نعيم هذه الدنيا في الانتحار والخروج منها.. فلله الحمد الذي جعل لعباده آخرة وحسابا وميزانا دقيقا، فلا يفلت منه عقوبته ظالم ولا من عدله ورحمته مظلوم.
نشر في مجلة كلمة حق، العدد الخامس عشر، أكتوبر 2018
Published on October 03, 2018 08:15
September 28, 2018
حماس غزة: أزمة وتطور الفكر السياسي تحت إكراه الواقع المعقد
** قدمت هذه الورقة في المؤتمر العلمي الأول لحركة حماس، والمنعقد بغزة (18، 19سبتمبر 2018)
ليس لحماس إنتاج كثير في باب الفكر السياسي، لهذا فإن أغلب ما يكتب عنها إنما يستمد مادته من الوثائق والبيانات والسلوك السياسي في المواقف المختلفة أو من تصنيفها ضمن مدرسة إسلامية أوسع وهي في حالتنا هذه "الإخوان المسلمين" ليمكن فهم منطلقاتها السياسية، وفي هذا مخاطرة معروفة تؤثر في الدقة البحثية ووضوح التصور، فالاعتماد على تحليل السلوك السياسي لا يؤدي بالضرورة إلى فهم الرؤية الفكرية للحالة، إذ أن السلوك السياسي الواقعي هو نتاج عملية مركبة من ثلاثة عناصر: الفكر السياسي والإكراهات الواقعية الظرفية وكفاءة التنفيذ، وبإمكان العنصرين الأخيرين أن يُشَوِّها كثيرا العنصر الأول المتعلق بالفكر، وهنا موضع المخاطرة.
من هاهنا حاولت هذه الورقة رصد أزمة الفكر وتطور الفكر السياسي لحماس تحت إكراه الواقع المعقد داخليا وإقليميا ودوليا، واضطرت أن تعتمد على الوثائق والبيانات والكتابات المقربة من الحركة لتستخلص معالم هذه الأزمة وهذا التطور عبر السنوات العشر منذ ما بعد الحسم العسكري والانفراد بحكم غزة (2007م) حتى (2017م) عام صدور وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي اعْتُبِرَتْ –بحق- تعديلا على ميثاق حماس الأول (1988م) وهو أيضا عام آخر المحاولات الجادة في الوصول إلى مصالحة تُسَلِّم فيها حماس حكم غزة لسلطة محمود عباس.
وسعيا لبيان ملامح هذه المسيرة قُسِّمت الورقة إلى ثلاث محاور؛ الأول: عن إكراهات الواقع المفروض على حماس في التنظير والتطبيق وهو ما أنتج تجربة تزاوجت فيها الثورية اللائقة بحركة تحرر والمحافظة اللائقة بحركة محاصرة تحت ضغوط كبرى، فكان المحور الثاني عن الجانب المحافظ من تجربة حماس، والمحور الثالث عن الجانب الثوري من تجربة حماس. وهذه القسمة هي برأيي القادرة على بيان مناطق الثبات والتطور في التجربة لتكون كاشفة عن نتائج التدافع بين رغبة التحرر وضغط الواقع.
ومن نافلة القول أن هذه الورقة كُتِبت لا بغرض الثناء على حماس ولا بغرض الهجوم عليها، وكاتبها لا يتردد في الإعلان عن حبه واعتزازه وفخاره بحركة حماس كواحدة من حركات المقاومة والتحرر الإسلامية، ولكونها أنضج الحركات التي جمعت بين السياسة والقتال، ومع هذا فإن ما في هذه الورقة من الثناء لم يفارق الموضوعية المقصودة والمطلوبة من أي ورقة علمية، وليس فيها من الانتقاد إلا ما هو مقصود ومطلوب بغرض الاستفادة والنصح والتقويم، وفيها أيضا من حسن الظن والتماس الأعذار ما هو خليق أن يُقدَّم في شأن المجاهدين.
حماس غزة: صورة مصغرة مكثفة لتحديات إنتاج تجربة إسلامية
على نحوٍ ما، يبدو أن مشكلات الأمة الكبرى العامة تُخْتَصر في واقع الأزمة التي تعرضت لها حماس إثر توليها مسؤولية الحكم (2006م)، فلو حاولنا استعراض مشكلات الأمة الكبرى سنجد أنها خمسة، تلك هي:
1. الاحتلال الأجنبي المهيمن على الأمة والمتحكم في قرارها –رغم الاستقلال الشكلي الزائف- وما يتمتع به من فارق القوة الضخم الذي يجعل شأن مقاومته فادح التكاليف عظيم الخسائر، ومنذ دخلت أمتنا في طور الاستضعاف قبل قرنين من الزمان ولا يزال الزمن يؤول إلى ازدياد فارق القوة بين الأمة وعدوها، وقد وصلنا في الفترات الأخيرة إلى استطاعة قوى الاحتلال القضاء على القوى الخارجة عن هيمنتها بمجرد التفوق الجوي والأمني وأحيانا قبل نزول القوات على الأرض كما وقع في أفغانستان مع حركة طالبان (2001م)، وفي العراق مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (2017م) وفي سوريا مع مناطق الثورة في حلب والغوطة الشرقية وغيرها (2017، 2018م).
وفي حالة غزة تبدو نفس هذه الأزمة على المقياس المصغر، إذ الفارق ضخم بين القوة الإسرائيلية العسكرية وقدراتها الأمنية وبين فصائل المقاومة، وهو ما يتيح لها القدرة على إحداث دمار واسع تضغط به على المقاتل وعلى المُفاوِض أيضا في حال إرادة الوصول لإنهاء الحرب. إلا أن الحالة الغزاوية تشهد بعض المزايا مثل: قدرة حماس على ضرب شبكات أمنية مؤثرة للاحتلال داخل غزة، وعلى إنهاء الوجود الفتحاوي الذي يمثل الإسناد الأرضي المناظر للقوات العراقية الحكومية وقوات التحالف الشمالي الأفغاني وقوات نظام الأسد، مما يجعل المهمة الأرضية موكولة إلى جنود الاحتلال الذي هو شديد الحساسية والحرص على طاقته البشرية.
2. الاستبداد الداخلي والذي تمارسه النظم المحلية الوظيفية المسنودة بالاحتلال الأجنبي، والتي يمثل مجرد وجودها أحد أكبر التحديات لأي حركة مقاومة، ذلك أن مواجهة عدو أجنبي محتل أسهل على سائر المستويات –إلا العسكري- من مواجهة طرف من نفس الشعب ويتمتع بجذور سياسية وحواضن اجتماعية وخبرة محلية، فضلا عما يضفيه عليه الإسناد الخارجي من شرعية قانونية وحضور دولي وإمكانيات مالية ودعم مالي.
وفي الحالة الغزاوية ينتصب نموذج السلطة الفلسطينية كحالة مثالية للسلطة التي ترفع عن المحتل الأجنبي عبء إدارة الشؤون اليومية وتسخر مجهوداتها الأمنية ونفوذها السياسي لصالحه، وهي واحدة من أنجح تجارب التوظيف الاحتلالي لفئة محلية ضد حركات المقاومة.
3. الموقع الجغرافي الخطير، وذلك أن الأمة تتمدد جغرافيا في قلب العالم، حتى ليمكن القول بأنه ما من أمة في هذا العالم تستطيع إنشاء سياسة أو تجارة أو أي نوع علاقة مع أمة أخرى إلا واحتاجت إلى إذن الأمة المسلمة، وهذا الاتصال الجغرافي للأمة والممتد من أقصي الشرق حتى أقصى الغرب بقدر ما هو قوة عظمى للأمة في حال قوتها، بقدر ما هو نفسه أزمة مرهقة وخطيرة في حال ضعفها، وتلك أقدار الله التي تحتم على الأمة دائما أن تسعى للنهوض والقوة، فالموقع الحساس إما أن يكون مصدر القوة أو أن يكون مسرح صراع الأقوياء من حوله ونقطة جذب لأطماعهم، وهذا هو قدر الأمة، وهو بالذات قدر قلبها المصغر الذي يشمل الشام والعراق ومصر وتركيا.
وتبدو هذه الأزمة نفسها في حال قطاع غزة، لا سيما بعد أن حكمته المقاومة، إذ هو بها قطاع صغير متكدس معزول بلا عمق استراتيجي، محشور في كبد الكيان الصهيوني الذي هو القاعدة العسكرية الأمنية المتقدمة للنظام الغربي في قلب العالم الإسلامي، فـ "إسرائيل" هي ابنة الحضارة الغربية وربيبتها التي ولدتها وأنشأتها ورعتها في هذه البقعة، وسواءٌ ذهبنا مع من قالوا بأنهم فعلوا هذا حبا وكرامة وإخلاصا لدينهم وعقائدهم كما يقول من يُغَلِّب المُكوِّن الديني على قرار السياسة الغربية4. سيادة نمط الدولة الحديثة، وهو النمط الذي أنتجته الحضارة الغربية المعاصرة وبَنَتْ عليه نظامها الدولي، وخلاصته أن أحلَّ الدولة محل الإله، فالدولة هي المرجعية وهي صاحبة السيادة وهي المتصرفة في سائر الأنشطة الإنسانية ضمن البقعة الجغرافية التي تهيمن عليها، وسائر أوجه النشاط المجتمعي إنما هو محكوم بما تسمح به السلطة، فالمجتمع على الحقيقة أسير أمام الدولة التي لم تعد مجرد سلطة سياسية ذات قوة عسكرية وأمنية، بل صارت جهازا ضخما يدير ويتحكم في كل التفاصيل. هذه الحداثة لم تغرس في بلادنا إلا بقهر الاحتلال والاستبداد، ذلك أنها تخالف وتناقض النظام الإسلامي الذي شكَّل طبيعة بلادنا وصورة علاقاتها السياسية والاجتماعية عبر خمس عشرة قرنا، ولذلك فكل قصة "تحديث" في بلادنا كانت هي ذاتها قصة الاحتلال والاستبداد. وأسوأ ما في هذا النمط هو تعطيله الفاعلية الذاتية الشعبية بمصادرة مساحات حركة المجتمع، فحتى معلم المدرسة أو خطيب الجامع صار يحتاج تصريحا من الدولة لممارسة هذه المهمة، بل صار محتاجا إلى ورقة رسمية تعترف له بأنه معلم أو خطيب! لكل هذا كانت خلاصة قصة "الحداثة" في بلادنا أنها النظام الذي تمكَّن من شلِّ طاقة الأمة وتعطيل شعوبها، لطبيعته هو نفسه أولا ولكونه مفروضا علينا في زمن الضعف فمن ثَمَّ كان عمله في ترسيخ قوة الغالب الغربي وترسيخ ضعف المغلوب الإسلامي.
تلك هي المحنة الكبرى والنازلة العظمى على المستوى النظري والعملي، أي على مستوى إنتاج الاجتهاد الإسلامي الأصيل الرشيد، وعلى مستوى المقاومة الإسلامية التي صارت كأنها في قضية تحررها ضد نظام العالم كله.
تبدو مشكلة الأمة هذه متمثلة في غزة أيضا، فلقد استطاع نمط الحداثة هذا أن يجعل غزة تحمل مسؤوليات الحكم كأنما هي في دولة تتحمل فيها مسؤولية إدارة سائر التفاصيل، هذا مع أنها مُحاصَرة بنفس نظام الدول الحديثة الذي يمنع اتصالها بطاقة الأمة بل يجعل طاقات الأمة كلها محاصَرة ومعزولة وممنوعة من التواصل والإمداد لطاقة الغزيين، فبقدر ما تحملت المقاومة عبء إدارة دولة حديثة طبقا لمفهوم الدولة الحديثة بقدر ما مُنِعت من وسائل الحياة طبقا لنفس هذا المفهوم، وقد وجدت حماس نفسها أمام المعضلتين معا: معضلة أنها تتولى إدارة قطاع متكدس بالبشر (وهو عبء داخلي) وهو محاصر معزول (وهو عبء خارجي).
لا يمكن مطالبة حماس بإنتاج اجتهاد إسلامي لنازلة الدولة الحديثة، التي هي النازلة العامة التي اضطربت فيه آراء الإسلاميين من أقصى اليمين (هدم الدولة الحديثة ومن ورائها النظام العالمي) إلى أقصى اليسار (الذوبان فيها واعتبارها حتى بوضعها الحالي غاية إسلامية)، والغالب أن همّ مقاومة الاحتلال وتثبيت المكاسب الأمنية والعسكرية لم يتح أصلا فرصة طرح هذا التوجه الفكري على مائدة البحث في أي وقت.
لكن حماس عمليا بين اختياريْن، وإن لم يكن أمامها الوقت ولا الإمكانية لبحث المسألة في صورتها النظرية، وهما: أن تكون سلطة رشيدة ضمن مفهوم الدولة الحديثة أم تكون قيادة مقاومة ضمن مفهوم ما قبل الحداثة أو تصورات ما بعدها. وكل هذا ينعكس بقوة على طبيعة وحدود العلاقة بين السلطة والشعب ووظائف كل منهما.
5. افتقاد التنظير السياسي الإسلامي المعاصر، والانقطاع الكبير في هذا الباب نتيجة لغياب نظام الخلافة من جهة وانحدار شأن العلماء في المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى، وبهذين الأمرين صار أمر الاجتهاد المعاصر محتاجا إلى فقهاء يعرفون علم الشرع وعلم الواقع ولديهم القدرة على الاجتهاد الذي يحلون به معضلة لم تواجه القرون الأربعة العشر الماضيةهذا فضلا عن أن الجهة المؤهلة للاجتهاد، وهم العلماء، إنما كانوا أهم المستهدفين بالإقصاء والعزل عن المجتمعات، مع تدمير مكانتهم الاجتماعية ومحاضنهم العلمية العريقة، حتى لقد جرى إقصاؤهم عن قضايا الأحوال الشخصية التي صار الحكم فيها إلى قانونيين ومحاكم وضعية، مما كان من آثاره أن يكثر فيهم أنفسهم الجاهلون بأبواب السياسة الشرعية وأن ينصرف الكلام في هذه الأبواب إلى غيرهم ممن لا يحسنها فيكثر فيها الاضطرابوهذا في حالة غزة أشد عسرا حيث تجتمع عليها العديد من النوازل في الوقت الواحد.
يتفرع عن تلك المشكلات الخمس الكبرى ويدعمها مشكلات أخرى كثيرة، كالبيئة الدولية المضطربة والمعقدة بما تطرحه من محاولات التوظيف والإنهاء، وبروز تيارات الغلو أحيانا، والتيه في التوفيق بين ما يستحق التشدد وما يستحق المرونة، والعمل في ظل نظام سلطوي ثم نظام عالمي يتحسس ضد أي محاولة تغيير فيه أو مقاومة له، ويكافحها بلا رحمة، لا سيما والقرب الجغرافي من "إسرائيل" يجعل المعركة في قلب الصراع المحتدم بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وهو الصراع العالمي الطويل الممتد لأكثر من ألف سنة.
تمثل كل مشكلة من تلك الخمس الكبرى في حد ذاتها تحديا ضخما أمام الأمة، ولهذا يمكن تصور كيف يتحول اجتماعها معا في منطقة جغرافية صغيرة كغزة إلى محنة عظيمة، كان على حركة حماس أن تتعامل معها، في لحظة لم تتوقعها أو تستعد لها. لا سيما وأن قرار حماس ينتج في الداخل والخارج، وهو محنة أخرى لها تأثيرات داخلية عميقة على الحركة نفسها، إذ مهما قيل في الانسجام بين حماس في غزة والضفة والخارج فلن يغير هذا من حقيقة أن الأوضاع المختلفة تنتج فروقا في الرؤية وأسلوب العمل.
ومع التسليم بكل ما سبق سرده من المشكلات الخمس الكبرى، والتقدير التام لكون عملية الاجتهاد في منازلتها عملية صعبة ودقيقة وهي أشد كلفة على الطرف الأضعف، إلا أن هذه الورقة تمثل وجهة نظر ترى أن عامة سلوك الحركة في تجربة الحكم كان أقرب إلى المحافظة منه إلى الثورية، وأن هذا هو ما فوَّت عليها عددا من الفرص المهمة، مثل الموقف من الانقلاب في مصر والنأي بنفسها عن الدخول فيه حفاظا على "ثوابتها السياسية"، وعلى نحو مثير للنظر يبدو الجناح العسكري أكثر ثورية ومرونة إذ استطاع استنقاذ أسرى له في السجون المصرية في اللحظات الأولى من انهيار الشرطة (28 يناير 2011م) وقبلها كان قرار الحسم العسكري هو ردة فعل عسكرية لا قرارا سياسيا، وبدا فيه أن الجناح العسكري أيضا أكثر ثورية ومرونة في التعامل مع المستجدات، ويرى الباحث أنه لولا وجود السلاح بيد حماس فلربما شابهت مصير الإخوان في مصر، ذلك أن وجود السلاح والجناح العسكري جعل الحسم قرارا نابعا من إكراه واقعي وردة فعل ظرفية، وهو من أهم القرارات المؤثرة في مصير القضية الفلسطينية كلها، وبه صارت غزة قلعة مقاومة منيعة.
طبقا لهذه الرؤية، نستطيع أن نجمل مسار تجربة حماس السياسية في خطَّيْن: خط المقاومة والثبات (الجانب الثوري)، وخط القبول بالواقع (الجانب المحافظ)، فمن أهم معالم خط المقاومة: الموقف من الاحتلال، ومن فتح مفاوضات معه، واستهداف "المدنيين" منهم، والحفاظ على العلاقات مع إيران وتركيا وقطر رغم الضغوط لقطعها. ومن أهم معالم خط القبول بالواقع: الموقف من سلطة فتح ومنظمة التحرير، والقبول بنمط الحداثة في إدارة قطاع غزة وفي التعامل مع الوضع الإقليمي والدولي، والحرص المبدئي على عدم فتح أي نزاع مع الدول العربية والتحمل التام للسياسات المضادة والمعادية من قبلها.
ومن نافلة أن توزيع هذه المواقف ضمن خطي المقاومة أو القبول بالواقع هو باعتبار الغالب على الحال، وإلا فقد يقع في بعض المسائل وبعض الظروف ما يكون فيه نوع رضوخ كما في لهجة وثيقة المبادئ (1 مايو 2017م) فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من الاحتلال من جانب الخط المقاوم إلى خط القبول بالواقع، وقد يقع حسم عسكري ينهي وجود سلطة فتح في غزة فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من سلطة فتح من جانب خط القبول بالواقع إلى خط المقاومة.. وهكذا!
الجانب المحافظ من تجربة حماس
عملت عدد من الأسباب على أن تبدأ حماس تجربتها في الحكم بأسلوب محافظ غير ثوري، ومن أهم هذه الأسباب أربعة:
الأول: أن فرصة الحكم جاءتها على غير توقع فخاضته دون رؤية سياسية مسبقة، وفيما يُعتبر هذا الخوض نفسه عملا ثوريا مفاجئا استجابت له الحركة بمرونة تحمد عليها لكن هذا يجعله من "إكراهات الواقع"الثاني: كذلك فإن حماس باعتبارها من مدرسة الإخوان المسلمينالثالث: كذلك فإن تأسيس حماس حمل في بذوره أنها بديل لحركة فتح وحركات اليسار الفلسطينية، وهي الحركات التي تبنت المواجهة المفتوحة والعالمية مع الاحتلال مما جعل دول العالم بما فيها الدول العربية تتخذ منها موقفا معاديا كلَّف حركة الكفاح الفلسطينية خسائر فادحة، فاعتمدت حركة حماس نمط المواجهة المحدودة المحصورة داخل الأرض المحتلة ومن بين آمالها أن يوفِّر هذا لها دعما عربيا أو في أقل الأحوال ألا يستثير عليها عداءً عربيا.
الرابع: حرص حماس على تقديم صورة مطمئنة للوضع الإقليمي والدولي لتجربتها في الحكم، وهو الحرص الذي رافق كل تجربة الحركات الإسلامية السياسية والناتج عن شدة التشويه والتفزيع من كل تجربة إسلامية.
دفعت هذه الأسباب إلى تجربة حكمٍ محافظةٍ تَتَحَسَّس من التغيير ومواجهة الوضع السائد، وغاية ما ترجو أن تتمكن من إدارة الشأن الفلسطيني بأكبر قدر من التوافق والهدوء مع خصوم الداخل، وبأكبر قدر من التهدئة والطمأنة مع خصوم الخارج:
1. لم تسع حماس إلى إزاحة فتح أو غيرها من رفاق أو خصوم الدخل بل عملت جهدها على تكوين حكومات ائتلافية تتشارك في مهمة الحكم والإدارة منذ اللحظات الأولى2. لم تحاول حماس هدم شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بل كافة ما صدر عنها كان في إطار محاولات الإصلاح للمنظمة وتوسيعها3. قدَّمت حماس خطابا سياسا يبتعد ما استطاع عن الإشكاليات الفكرية4. لم تتزحزح حماس عن موقفها بعدم التدخل في شأن أي دولة ولو كان هذا التدخل يؤثر على مصالحها، وأوضح ما يبدو هذا في أنها فضَّلت أن تعاني أشد المعاناة من إغلاق معبر رفح دون أن تطور موقفا ضد النظام المصري الذي كان أهم الفاعلين في الحصار الخانق المفروض على غزة والمستمر منذ وصول حماس إلى الحكموقد ظلت هذه السياسة تُثْقِل القرار السياسي لحماس حتى في أوقات الفرص الكبرى مثل الثورة المصرية وفترة الاضطراب والارتباك التي سادت ثلاث سنوات على الأقل، منذ مطلع 2011 إلى مطلع 2014، ونزعم أنه كان بالإمكان إذا تحررت حماس من هذه السياسة المحافظة أن تحقق في هذه السنوات الثلاث مكاسب نوعية في الملف الداخلي والخارجي، بل ونزعم أن لحظة الانقلاب العسكري في مصر كانت تساوي بالنسبة لها معركة وجودية تستدعي أن تتدخل فيها بثقلها. وهي اللحظة التي أنتجت فيما بعد سياسات مصرية في غاية الشراسة تجاه حماس ألزمتها بالتراجع في الطموح والموقف حتى وصل الأمر إلى مصالحة تُسَلِّم بها قطاع غزة للسلطة الفلسطينية وهي المصالحة التي فتحت موضوع "سلاح المقاومة"!
ومن الآثار السلبية لهذه السياسة هو تضخم الروح الوطنية القومية لحماس على حساب الروح الأممية والإسلامية، وهذا مما قد يُعَدُّ في الميزان السياسي المعاصر نوعا من الرشد والنضج، إلا أنه وفق تقييم يعتمد ميزان حركة التحرر الإسلامية يعد نوعا من التراجع والتأثر السلبي بمفردات الواقع الضاغطة وإكراهات الحالة السياسيةكذلك فإن من الآثار السلبية لهذه السياسة أنه فيما يتعلق بالأنظمة العربية فقد ظلت حماس تتلقى الهجوم والضربات دون ردّ، وكان التقدير السياسي لحماس أن الدخول في معركة ولو إعلامية مع الأنظمة العربية يسرِّع من قطار التطبيع مع إسرائيل ويوفر الأجواء لهذه الأنظمة في شن الحملات عليها وعلى القضية الفلسطينية، ورأت أن هذه المعركة هي من مسؤولية الحركات السياسية والإسلامية العربية داخل هذه البلدان، وبالرغم من تحملها الضغط الهائل وضبط النفس إزاء ما يمارس ضدها في إعلام هذه القنوات إلا أن قطار التطبيع يمضي سائرا وتُشَنُّ الحملات الإعلامية الضارية ضد حماس بل والفلسطينيين وقضيتهم عموما لتمهد الطريق للتطبيع. ويرى الباحث أن الحركة لو اعتمدت سياسة الهجوم والفضح لهذه الأنظمة على الأقل فيما قبل موجة الثورات المضادة فإنه كان بالإمكان تحقيق نتائج أفضل ضد الأنظمة في تلك الفترة، وأن استفادة الأنظمة من سياسة حماس تجاهها جعلها تقدم على ما تريد باطمئنان، فهي قد استفادت من سكوت حماس وتثمينها لمواقف الأنظمة بأكثر مما استفادت حماس من هذه السياسة تجاه الأنظمة.
ومن الآثار السلبية لهذه السياسة أن استطاع خطاب تيارات الغلو أن يجد له موقعا في نفوس عدد ليس بالقليل من أبناء غزة بل ومن أبناء حماس نفسهاالجانب الثوري من تجربة حماس
والمقصود بالجانب الثوري هو قدرة حماس على مقاومة ما يُفرض عليها من ضغوط تريد تغيير مواقفها المبدئية، أو ضغوط تريد استعمالها كورقة ضغط أو استقطابها كحليف يتبنى المواقف السياسية في ظرف ما، وتُبْدي حماس حتى الآن قدرة متميزة على أن تكون نفسها وألا تسقط في فخ الاستقطابات والمعادلات المتشكلة والمتقلبة في المنطقة العربية الساخنة. ولا يمنع من هذا أن يقع شيء هنا أو هناك مرة أو مرات، فذلك لا يغير من المسار العام.
وأبرز المواقف الثورية لتجربة حماس هو موقفها من الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين، وعليه تركزت معظم الضغوط السياسية التي أرادت استخراج اعتراف من حماس بإسرائيل، أو في أقل الأحوال استخراج تصريح واضح بأنها تسعى لتحرير الأراضي المحتلة عام 1967 مما يعني اعترافها بحق إسرائيل في احتلال الأراضي قبل ذلك العام، وقد تمسكت حماس بهذا الموقف طوال هذه السنوات العشر، حتى أنها حين أصدرت وثيقة المبادئ والسياسات العامة (1 مايو 2017م) حرصت على صياغة هذا الموقف بعبارات قاطعة، ووضعت هدف تحرير الأرض المحتلة عام 1967 في قلب مادة تنص على عدم الاعتراف بإسرائيلومما يترتب على هذا موقف الحركة من "المدنيين الإسرائيليين"، وقد تمكست الحركة بموقفها القائل بأن هؤلاء محتلين وليس فيهم من يصدق عليه وصف "المدنيين"، فهم فوق كونهم قد احتلوا وسكنوا هذه البلاد بعد طرد أهلها والاستيلاء على أراضيهم وبيوتهم فإن التكوين العسكري لجيش دولة الاحتلال يجعل من سائر مواطنيها مجندي احتياط. على أن الحركة وجناحها العسكري عمدت إلى تجنب استهداف أولئك "المدنيين" عمليا ضمن تطور ونضوج عمليات المقاومة والقدرة على تحديد الأهداف العسكرية، وهي سياسة مفيدة على المستوى السياسي والإعلامي، وهذا الالتزام العملي دون الإعلان عنه كمبدأ أو التزامه كموقف يجعل من هؤلاء "المدنيين" ورقة ضغط.
ومن أبرز المواقف الثورية في تجربة حماس عملية الحسم العسكري في قطاع غزة، والذي كان منعطفا تاريخيا في مسار القضية الفلسطينية، ذلك أنه حجر الأساس في تحويل قطاع غزة إلى قلعة منيعة للمقاومة، وما كان بالإمكان أن يتحقق شيء من الإنجاز العسكري الكبير إذا بقيت أجهزة الأمن الفتحاوية التي تمثل شبكات تجسس إسرائيلية متقدمة فضلا عن مجهودها الضخم في إجهاض العمل المقاوم. ولو لم يكن الحسم العسكري على يد حماس فإن حسما عسكريا كان سيكون على يد السلطة الفتحاوية لا ريب في ذلككذلك من أبرز المواقف الثورية في تجربة حماس هو وقوفها إلى جوار الشعب الثوري في ثورته المشهودة، واضطرار مكتبها السياسي لمغادرة دمشق تبعا لهذا الموقف، وهو ما تأثرت به علاقتها مع الحليف الإيراني، وهذا من أثمن المواقف المشرفة لحركة حماس في وقتٍ لم يكن ليُغْتَفَر لها فيه الصمت والحياد فضلا عن مساندة النظام السوري، وهذا بالرغم من التبعات المتوقعة لهذا الموقف، وحاولت حماس اختطاط موقف توازن فيه بين علاقاتها بإيران وحزب الله من جهة، وعلى حاضنتها الشعبية الممتدة والمتعاطفة مع الثورة السورية خصوصا تجاه المذابح البشعة، ثم صار موقفها أكثر حرجا مع تعرض المخيمات الفلسطينية في سوريا لمذابح النظام واتخاذ منظمات فلسطينية (كالجبهة الشعبية – القيادة العامة) جانب النظام السوري، ثم ازداد الموقف حرجا بتحول الثورة السورية إلى الكفاح العسكري الذي برزت فيه الفصائل المتعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وعملت الآلة الإعلامية الدولية على توصيف المشهد باعتباره حربا أهلية أحد أطرافها الجماعات "الإرهابية" التي تنأى حماس عن أن توصف كمتعاطفة معها أو مرتبطة بها. لقد أدى هذا كله في ظرف تراجع موجة الثورات بالانقلاب العسكري في مصر إلى تراجعات متوازية في مواقف حماس، التي صارت أقرب إلى الصمت –إلا من تنديد بمذبحة هنا أو هناك- ثم بدأت تتالى تصريحات مسؤوليها التي تحاول إعادة ترميم العلاقات بينهم وبين النظام السوري، وقد كانت هذه العودة جزءا من عودة محاور ما قبل الثورات في المنطقة العربية التي تستعيد انقسامها إلى محور اعتدال مقابل محور ممانعةومن أهم المواقف الثورية لحماس هو موقفها من إيران، فبالرغم من الضغوط الكثيرة عليها لكي تفصم العلاقة مع إيران إلا أنها لم تفعل، وهذا موقف تُحْمَد عليه أيضا، إذ يجب أن لا ترهن حركة المقاومة نفسها ضمن معادلة إقليمية أو دولية ما تلبث أن تتغير، ولا أن تتخلى عن حليف مهموقد استفادت حماس من هذا الجانب الثوري من سياستها بقاءها في خط المقاومة وصمودها الذي خالفت به تقديرات "الخبراء والمحللين" السياسيينكذلك استفادت حماس من بقاء قرارها غير مرتهن لمحاور إقليمية، وتسليم الحلفاء بأنهم لا يتعاملون مع ورقة يتحكمون فيها ويصنعون سياستها.
وأهم هذه المكاسب قاطبة هي تحول غزة الصغيرة المتكدسة إلى قلعة منيعة للمقاومة، تعجز إسرائيل عن اجتياحها عبر أربعة حروب كلٌّ منها أكبر وأخطر من سابقتها، وهي التي استطاعت اجتياح أربعة دول عربية ذات جيوش نظامية في ساعات وأيام عبر تاريخها منذ نشأت، وبهذا تكون غزة قد حققت في مواجهة إسرائيل ما لم يتحقق في تاريخ المقاومة العربية الصهيونية منذ بدايته، ولم يكن هذا ليتم لولا انفراد حركات المقاومة بالحكم في غزة وبناء أجهزتها وشبكاتها الأمنية وأجنحتها العسكرية وفق العقيدة القتالية الإسلامية.
الخاتمة
تقر أدبيات حماس منذ ميثاقها الأول (1988م) وحتى لحظة كتابة هذه السطور أن حل القضية الفلسطينية هو مسؤولية لا ينفرد الفلسطينيون بحملها وإنما تقع أيضا على عاتق الأمة العربية والإسلاميةكان حريا بهذا المسار أن يدفع حركة حماس إلى التخلي عن سياستها هذه، مهما كان هذا التخلي حذرا وتدريجيا وسريا، لتتمسك بفرصة الثورات العربية فتعمل ما في وسعها لدعم الساحتين المصرية والسورية على وجه التحديد، والمصرية على وجه أخص، وكان يجب ألا يُكتفى بالتعويل على جهود الإخوان فحسب لا سيما بعد أن أظهروا ضعفا وترددا غريبا في السيطرة على مقاليد الأمور، ثم كان يجب ألا يُستسلم تجاه وقوع الانقلاب العسكري في مصر باعتباره شأنا مصريا.
وتعد المطالبة بمراجعة هذه السياسة هي الخلاصة الأساسية لهذه الورقة، إذ مهما أبدى الغزيون من البسالة والصمود فإنهم في هذا الضيق الجغرافي وتحت هذه الضغوط لا يملكون مفاتيح تغيير المشهد الذي يمكن له أن يتغير وينفتح على خيارات أخرى بتحول الأوضاع في القاهرة، مما يفرض على حركة المقاومة المعنية أن تفكر في هذا حتى لو لم تكن متضررة بشكل مباشر من سياسات النظام المصري، فكيف إذا كان الضرر الواقع عليها مباشرا وفادحا بل هو من أهم أولويات ومهمات ووظائف هذا النظام؟!
وبعد هذه الخلاصة الأساسية يمكن تقديم بعض خلاصتين أخريين:
1. ضرورة توسيع المشاركة الشعبية في تحمل أعباء الإدارة والاستفادة من قوى الروابط الاجتماعية: العائلية والجغرافية والتشجيع المستمر للمبادرات الفردية والأفكار المبدعة، فمن شأن هذا كله أن يخفف من أعباء الإدارة عن كاهل الحركة، وهذا التوجه يتأسس على إدراك أن الحداثة ونمط الدولة المركزية ليس مناسبا في عالمنا العربي والإسلامي، على الأقل هو غير مناسب تحت سلطة احتلال أجنبي متفوق وفي وضع مختنق، ومن ثم فينبغي أن تتوجه الجهود الفكرية والعلمية في الجامعة والمحاضن التعليمية والتربوية نحو نشر وتوثيق النمط المجتمعي التكافلي الذي يطلق طاقة المجتمع ويخفف الأحمال عن السلطة.
2. ينبغي لحماس ألا تتمسك بشرعيات مهترئة كما هو الحال في منظمة التحرير أو حتى شرعية السلطة الفلسطينية، فهذا ثقل إضافي يقيدها ويثقلها، بل ينبغي عليها هدم هذه الشرعيات ما استطاعت، مع التأسيس لشرعية شعبية أخرى أو لشرعية تنطلق من قيم الكفاح والجهاد، ويمكن أن تستلهم في هذا السبيل ما فعلته حركة فتح نفسها ضد منظمة التحرير الفلسطينية
وفي الختام نقول: هنيئا لحماس بهذه الأعوام الثلاثين، ونسأل الله تعالى أن تكون الثلاثون عاما القادمة هي أعوام العز والتمكين والنصر الكبير.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on September 28, 2018 11:57
September 17, 2018
في مطلع العام الهجري: تحديات المستقبل أمام الحركة الإسلامية
لا يمكن إحصاء عدد الصفعات التي يتلقاها مظلوم في عموم العالم الإسلامي في اليوم الواحد، إن الصفعة نفسها من أبسط مظاهر الظلم الذي يقع بالمسلم في عالم يهيمن عليه الاستبداد والاحتلال. إلا أن صفعة واحدة من تلك الصفعات مثلت الشرارة التي انطلقت لتغير وجه العالم.. تلك هي التي نزلت على وجه البوعزيزي في تونس فما هي حتى استحالت ثورات عربية ترسم التاريخ والجغرافيا من جديد.
بعد ثماني سنوات من هذه الواقعة لم نعد نتحدث عن صفعة، بل عن مجازر وحشية منصوبة ومستمرة، عن طوفان مجنون من القتل والسجون والتعذيب والتشريد وهدم المدن وعمليات الإبادة. فلو أن الأمر مجرد تغيير لشخص أو تعديل في نظام أو مطالبة بإصلاح سياسي لما كلَّف الحال أن يحصل هذا كله، ولكن الجميع يعلم أن عالمنا الإسلامي -وفي القلب منه العالم العربي، وفي القلب منه: مصر والشام- هو ميدان المعارك الكبرى ومحتدم الصراع العالمي الحضاري الكبير، وأنه القصعة التي يأكل منها كل قوي، فالكل يتقاتل على أرضنا ويتعارك على لحمنا ويتنافس على مواردنا، ونحن الفريسة المأكولة رغم أننا الأمة المليارية التي تهيمن على أهم مواقع العالم وثرواته، وبهذا صدق فينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل. ولينزعنَّ الله المهابة من صدور عدوكم منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"، وفي رواية: "حب الدنيا وكراهية القتال".
صلى الله على من أوتي جوامع الكلم، ففي هذا الحديث وصف دقيق للحال، وفيه كذلك وصف للحل وسبيل الخروج. وهذه السطور القادمة هي مجرد حاشية على هذا الحديث، فقد كنت كلما أعددت كلاما وجدتني أنتهي إلى حيث هذه النتيجة.
نُذُرٌ من المستقبل
ما إن يختار المرء لنفسه هوية وموقعا حتى يكون قد اختار معها طموحه وأهدافه، وما إن يفعل ذلك حتى يكون قد حدد لنفسه أعداءه واستشرف أول مستقبله. والحركة الإسلامية ما إن ترى نفسها "إسلامية" حتى تكون قد رأت في اللحظة نفسها خريطة أهدافها وخريطة أعدائها. فمجرد وجود الإسلام يعني بزوغ الحرب مع الباطل، حربا ضروسا لا هوادة فيها، إذ التعايش بين الحق والباطل ممتنع، فكل منهما يطلب لنفسه الحق في السيادة والهيمنة وحكم الناس وتصريف أحوالهم وإنشاء نظامهم وصياغة أفكارهم. واللحظة التي صدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم "لا إله إلا الله" كانت هي لحظة بزوغ العداوة فقيل له "تبا لك". ولقد ابتدأت المعركة الملتهبة فكانت صراعا صفريا، يصوره قول الله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وهو ما استلزم أن يكون قتال المؤمنين على هذه الصورة (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله).
في واقعنا المعاصر تجد الحركة الإسلامية نفسها في مرمى الاستهداف والمؤامرة، ذلك أنه ما من شعب في هذه الأمة أتيحت له فرصة الاختيار إلا وحمل الإسلاميين على الأكتاف ووضعهم في المقدمة، تسفر عن هذا التجارب السلمية والقتالية على السواء، إن كان الخيار بالانتخابات تصدر الإسلاميون، وإن كان الخيار القتال لم يثبت في الساحات إلا الإسلاميون أيضا.
ولهذا كفَّ مخططو النظام الدولي عن محاولة دمقرطة العالم الإسلامي حين اكتشفوا أن الديمقراطية لن تأتي بالعلمانية المطلوبة، فأجمعوا أمرهم على الحرب والاحتلال، احتلالا صريحا مباشرا مكشوفا، أو احتلالا بالوكالة عبر دعم الأنظمة المحلية العميلة التي تمثل بديلا ممتازا لتغطية وجه الاحتلال بقناع وطني محلي يثير أزمة في الشرعية ويتمتع بقدرة أعلى على مكافحة الأمة والسيطرة على الشعوب.
وبغض النظر عن التفاصيل الصغيرة فإن السياسة المتفق عليها بين الجميع هي استمرار الهيمنة الأجنبية على بلادنا، يتعاون في ذلك الديمقراطيون والجمهوريون في أمريكا، واليمنيون والليبراليون في أوروبا، كما يتفق عليهم مع ذلك كله الروس والصينيون، ويعد مثال الثورة السورية واضحا في أن العالم يقبل تماما بإبادة ملايين الناس وتهجير عشرات الملايين مقابل ألا تخرج البلد من هيمنته.
ولا تبدو ثمة مؤشرات في الأفق على أي تغير من جهة القوى العظمى لهذه السياسة، فالحال إما باقٍ على ما هو عليه، وإما سيزداد ضروراة وشناعة.
الحركة الإسلامية: أثقال الإخفاق!
حين نقول "الحركة الإسلامية" فنحن نقصد جميع الأطياف الإسلامية، فالحركة الإسلامية هي استجابة الأمة المسلمة للتحديات المفروضة عليها، ولذا ستشمل الطيف الجهادي والإخواني والسلفي وسائر ما بينهما، مع استبعاد من خرج عن طيف الحركة الإسلامية ليصير ضدًّا لها، مثل فصيل السلفية الجامية المدخلية التي صنعت من الحكام "أولياءِ الأمورِ" آلهةً ومن رغباتهم دينا وجعلت طاعتهم واجبة وإن كفروا، ومثل فصائل الصوفية التي عزلت نفسها عن الأمة وقضاياها ورضيت بالحكام أولياء أمر وتركت لهم شأن الدنيا ورضيت منهم بالموائد والموالد، ومثل الغلاة من الجهاديين الذين صاروا خوارج يُكفرون حتى الفصائل المجاهدة ويخرجون على الأمة يضربون برها وفاجرها لا يتحاشون مؤمنها. فيما عدا هذه الأصناف الثلاثة التي اختارت بنفسها أن تكون ضد الحركة الإسلامية، فالحركة الإسلامية هي كل عمل ينطلق من الإسلام ويعمل له.
تعاني الحركة الإسلامية الآن بجميع فصائلها موقفا حرجا، إذ أن كل السبل المطروقة لتحقيق التمكين فشلت وتعثرت، بداية من السبل السلمية الديمقراطية الدبلوماسية وحتى المحاولات الجهادية القتالية العنيفة. والتجربة الوحيدة التي مثلت نجاحا جزئيا للمحاولات الجهادية سرعان ما هُدِمت: تجربة طالبان. كذلك فإن التجربة الوحيدة التي مثلت نجاحا للمحاولات السلمية لا تزال تحت التهديد، وأعني هنا: التجربة التركية. هذا مع أن تجربة الحكم مستمرة منذ ستة عشر عاما، ولا تزال كثير من الممارسات لا يبتلعها الضمير الإسلامي إلا بتأويلات العجز والإكراه والضرورات.ثمة مشكلة إضافية ومفصلية في التجربة التركية، وهي أنه لم يعد مسموحا بأن تتكرر، فالعدو الذي يهيمن على السياسة العالمية يقرأ التاريخ كما نقرؤه، فمن ناحيتهم فشلت تجربة السماح لحزب أسسه إسلاميون "سابقون، معتدلون" في إنتاج "الإسلام المعتدل" المتوافق مع الحضارة الغربية. ولم تعد هذه المحاولة ممكنة التكرار، وتعد التجربة المصرية دليلا على هذا، كما تعد محاولات الانقلاب العسكري في تركيا ومحاولات اغتيال أردوغان دليلا آخر على أن التجربة لم تعد مقبولة.
وهكذا يفرض علينا العدو نفسه خطا كفاحيا مُقاوِما، لأن الأمة بمجموعها لن تستسلم، وحتى لو اختار طيف إسلامي ما أن يستسلم ويركن بعد أن أصابه الإنهاك فالواقع أنه لن يسحب الأمة لتركن إلى جواره بل ستتجاوزه الأمة إلى غيره ممن يعبر عن المرحلة الجديدة ويكافح فيها.
وأما بقية التجارب السلمية فلم تحقق إصلاحا لا منشودا ولا بعض منشود، فالنتيجة النهائية أن الأنظمة الحاكمة احتوتها ضمن نظامها السياسي فتحولت لتكون جزءا منه، فربما كان للحركة الإسلامية أعضاء في البرلمان أو في الوزارة بل ربما شكلوا الوزارة في ظروف استثنائية، لكن الصلاحيات الحقيقية لم تكن أبدا بيدها، كذلك فالمسار العام للحكومات كان غير إسلامي بل كان ضد الأمة الإسلامية، هذا فضلا عما اشتعل بين الحركات الإسلامية من معارك داخلية استفادت منها الأنظمة ومن ورائها الاحتلال الأجنبي، إذ وجب على الفصيل الموجود في البرلمان والوزارة أن يبدي أكبر قدر ممكن من الولاء للدولة والإيمان بها وإثبات وطنيته كما يبدي أكبر قدر ممكن من رفض الاتجاهات الإسلامية الأخرى، وربما استعملت الأنظمة هذا الذراع الإسلامي الموجود شكليا في البرلمان والحكومة لحرب بقية الإسلاميين، فكانت معاركٌ هلكت فيها طاقات إسلامية هائلة لتصب في مصلحة أنظمة حاكمة ممثلة ومعبرة عن الهيمنة الأجنبية.
لكن المشكلة هنا في أن التجارب الكفاحية القتالية أيضا لم تنجح، وأن أحدا لا يريد أن يرى في بلاده مصائر أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، فلقد كانت التكلفة هائلة وباهظة دون أن تتحقق النتائج المرجوة، فاختيار الانتقال إلى الكفاح مغامرة في غاية الخطورة غير مضمونة النتائج. فإذا كان هذا الاختيار مطروحا على حركات تَكَوَّنَتْ وتَشكَّلَتْ فكريا ونفسيا وتنظيميا على العمل السلمي السياسي، فإن الأمر يغدو أصعب كثيرا، بل ربما كان مستحيلا إذ هو كتكليف الأشياء ما هو ضد طباعها، وهكذا تعاني الحركة من الاختيار العملي بين الاستسلام والاستبدال! ومهما بُذِل من مجهودات تنظيرية لإثبات أن الاستسلام ليس استسلاما وإنما هو حكمة، وأن البديل ليس الاستبدال بل هو الانتحار! مهما بُذِلَت المجهودات في هذا فلن يغير هذا من حقيقة الواقع، أن الحركة الإسلامية إما أن تعيد تكييف نفسها لتُغَيِّر المهمة في المرحلة التاريخية الراهنة، أو أنها ستتعرض لسنة الاستبدال التي تجعلها صفحة من التاريخ ليأتي بعدها من يرثها.
سؤال القضية المركزية
كيف نحدد القضية المركزية للحركة الإسلامية في المستقبل؟ تلك القضية التي ستمثل الخط العام الاستراتيجي الذي ستعمل كافة القوى والطاقات على خدمته ودعمه؟ ذلك أن تحديد هذه القضية هو الكفيل بتجنب سنة الاستبدال، ففهم المرحلة يعني معرفة ملامحها وضروراتها والواجب فيها "واجب الوقت".
تتميز الحركة الإسلامية بأن مرجعيتها "الإسلامية" توفر لها تصورا شاملا للكون والإنسان، وللصراع، وللرسالة المطلوبة منها، ولعدوها.. وهي إن افتقدت استلهام الإسلام في تصوراتها وسياساتها فقدت بالضرورة طبيعتها الإسلامية. هذه المرجعية تصور أن هذه الأرض ساحة للصراع بين الحق والباطل، وهي كذلك منذ نزل إليها آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو صراع مغالبة لا منافسة ومشاركة، إذ لا يطيق الباطل وجود الحق ولا الحق وجود الباطل، فكل علوٍّ للحق يكون على حساب الباطل والعكس بالعكس.
فإن افترضنا أن ثمة غبش وتشوش ران على العقول والقلوب فعمَّى هذا الوضوح فإنه ينبغي أن تصل الحركة الإسلامية لذات الحقيقة من خلال الواقع الذي يسفر عن وحشية هائلة (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)، بل من خلال كتابات مفكري وصناع قرار العدو، وهي كثيرة للغاية: فالإسلام "هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل هذا مرتين على الأقل"وهكذا فإن الحركة الإسلامية هي طليعة أمة تحمل مشروعا مناقضا للباطل ولحزب الشيطان الذي تمثله الحضارة الغربية في هذه اللحظة من عمر البشرية، وأول لوازم هذه الحقيقة أن تحمل الحركة الإسلامية هذه العقيدة حمل المؤمن بها إيمانا لا يتزلزل ولا يهتز ولا يتردد، إيمان من يعرف أنه يُخْرِج الناس من الظلمات إلى النور، إيمان من يشن حربا شعواء على حزب الشيطان وهو موقن أنه في حزب الله. وليس ذلك إيمان المتعصب الأعمى العاطفي بل هو إيمان من يعرف حق المعرفة ما هو عليه من الحق وما فيه عدوه من الباطل، ويستطيع أن يخوض معركة اللسان والحجة والبيان بنفس القوة والتمكن التي يندفع فيها إلى معركة القوة والسنان.
إن مواجهة الحركة الإسلامية للهيمنة الغربية المادية العلمانية التي تستعبد الناس إنما هي صورة من معركة النبي صلى الله عليه وسلم ضد عبادة الأصنام، وذلك أن النظام العالمي المهيمن على الناس الآن قد نصب أصناما وأوثانا إلا أنه غير أسماءها، بها يستعبد الناس لمنظومته وفكرته وقانونه وشرعته، فثمة أصنام على مستوى الأفكار: الديمقراطية، حقوق الإنسان، الحريات، تحرير المرأة... إلخ! وثمة أصنام على مستوى المؤسسات: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي... إلخ! وثمة أصنام على مستوى الدول: الدولة، الدستور، الأمن القومي... إلخ! وكافة هذه الأصنام إنما هي أدوات ترسيخ أفكار وسياسات النظام العالمي.
إنه من البائس المثير للشفقة أن ترى بعض رموز الحركة الإسلامية وطوائف من علمائها ودعاتها يبذلون غاية جهدهم لتسويق الإسلام على أنه لا يخالف كل هذه الأفكار بل هو يؤيدها وينشرها، هذا هو عين الهزيمة النفسية، وعين الاستلاب الحضاري والذوبان في الغالب. كذلك من البائس المثير للشفقة أن تعمل الحركة الإسلامية تحت سقف الدولة العلمانية الاستبدادية التي نشأت أساسا برعاية الاستعمار والتي تقوم على مصلحة المحتل، فتُكَيِّف نفسها لتكون ملتزمة بالقوانين ومنضبطة بالمساحات التي تتيحها السلطة بل ربما شعرت تجاه من يقاومون السلطة وعاملتهم كأنهم تهديد لها!
لئن كان الأمر إكراهات واقعية ظرفية اضطرارية في مرحلة ما فربما يكون هذا مقبولا بأحكام الاضطرار والإكراه والاستثناء، إنما المأساة أن يصدر هذا عن قناعة بأن النظام العالمي وما يطرحه من أفكار وقيم هو إنجاز بشري وصلت له الإنسانية وينقصه فقط بعض إجراءات ليكون عادلا وشاملا ومتعايشا مع الجميع، أو أن تكون القناعة بأن الأنظمة المحلية أنظمة وطنية صادقة وأن الأزمة هي في سوء فهم بينها وبين الحركة الإسلامية أو في سوء تقدير للمصلحة الوطنية.
ما لم تعتنق الحركة الإسلامية أنها تمثل النقيض للنظام العالمي والنقيض للنظم المحلية الاستبدادية فإنها لن تبلغ أن تفهم –مجرد الفهم- لماذا تتعرض لهذه الوحشية العدائية من قبل الجميع! وستظل تبذل المجهود الضخم في تأويل الإسلام وتكييفه لتُرْضِي ممثلي النظام العالمي والأنظمة الوظيفية حتى تجد نفسها في نهاية المطاف وقد تركت الإسلام على الجملة، ثم ستجد نفسها مهزومة كسيحة قد انصرف الناس من حولها وجرت عليها سنة الاستبدال!
القضية الأساسية المركزية للحركة الإسلامية أن تؤمن أنها الطليعة الممثلة للإسلام الذي يمثل نقيضا لكل نظام أرضي جاهلي ظالم يرفض "لا إله إلا الله"، وأنها تخوض معركتها العالمية لإنقاذ الناس أجمعين وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
سؤال الأداة المركزية
إذا استقر في اليقين أن المعركة في نهاية الأمر معركة عقيدة، معركة هوية، معركة عالمية، ميدانها كل الأرض وموضوعها الإنسان وطرفاها: حزب الله وحزب الشيطان.. إذا استقر هذا في اليقين كان سؤال الأداة المركزية سؤالا بديهيا، كما كانت إجابته إجابة سهلة واضحة: الجهاد.
الجهاد ماض إلى يوم القيامة، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحقيقة التي يجب أن تفهمها الحركة الإسلامية جيدا أن كل حركة لا تمارس الجهاد ستجري عليها سنة الاستبدال!
هذا الكلام يقال في حال الرخاء والعافية وفي حال قوة الأمة وتمكنها، فأما إن كانت الأمة كالفريسة المنهوشة فإن إجابة الجهاد هي الإجابة الوحيدة الصحيحة، وهي إجابة فطرية بديهية تلقائية، يفهمها العامي الأمي البسيط دون مجهود.
ومن محن الحركة الإسلام أنه إذا ذُكِر الجهاد أو ذكرت القوة سارع البعض لتمييع مفهوم الجهاد والقوة ليتسع فيشمل أنواعا أخرى، فيقال: جهاد النفس وجهاد القلم وجهاد البيان، ويقال: القوة الإعلامية، القوة الاقتصادية، القوة السياسية، قوة الإيمان... إلخ! وليست المشكلة في أن نراعي كل هذه الأنواع من الجهاد والقوة، بل المشكلة هي المسارعة بالانحراف عن المعنى الواضح المباشر للجهاد والقوة، المعنى الذي يعني القتال المسلح المباشر.. هذه المسارعة دليل محنة عنيفة، وهي أبلغ معاني قول النبي صلى الله عليه وسلم "حب الدنيا وكراهية القتال"، الذي هو الوهن، الذي هو سبب الغثائية، التي هي سبب تكالب الأمة علينا.
نعم.. سنحتاج في مسار الجهاد إلى كل أنواع القوة بداية من قوة الإيمان ومرورا بقوة التلاحم والأخوة، وسنحتاج إلى القوة الاقتصادية والعلمية والإعلامية والسياسية التي تمهد له وتضبطه وتنضجه وتحسن استعماله وتحصد آثاره.. سنحتاج كل هذا لا شك، لكن سنحتاجه ونحن نجاهد فعلا، وبغير وجود مشروع الجهاد لن نتمكن من بناء أي شيء من تلك الأنواع من القوى، فالأمم الخاملة لم تتقدم في شيء من هذا، بينما الأمم التي تحارب هي التي تخطو الخطوات الواسعة في العلم والسياسة والاقتصاد والنفوذ. ولو كان القتال يُضعف لكانت أضعف البلاد أمريكا، ولو كان السلام يوفر الفرصة للنمو الاقتصادي والعلمي والسياسي لكانت السلطة الفلسطينية أقوى الإمبراطوريات! التاريخ ينطق بالعكس: الأمة التي تجاهد وتقاتل هي التي تتفجر طاقاتها العلمية والاقتصادية والسياسية والفكرية، فتعمل آلتها التشغيلية بكل قواها فإذا بالاقتصاد يقوي الحرب ويقوي العلم، والعلم يقوي الحرب والاقتصاد، والحرب تحرس الاقتصاد والعلم.. وهكذا في دائرة تتضافر وتزداد قوة ونفوذا. بينما الضعف يأتي بالهزائم ويذهب بالمال وتتفلت منه الطاقات العلمية ويأتي بالأعداء الطامعين الذين يحرصون على زيادة الضعف والرهق واستمرار التسلط والتخلف ونهب الموارد الاقتصادية والبشرية على السواء.
خلاصة القول أن الإسلام، كما قال ابن تيمية، كتاب يهدي وسيف ينصر. أو كما قال الشاعر:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا .. إن الحياة عقيدة وجهاد
بعد الوصول إلى هذا اليقين من إجابة سؤال القضية المركزية: العقيدة المناقضة المضادة لواقع وعقيدة النظام العالمي المهيمن، ومن إجابة سؤال الأداة المركزية: الجهاد لمقاومة الاحتلال والاستبداد. عندها ستتضح معالم الخريطة الإسلامية في المرحلة القادمة، وعندها ستتدفق طاقة الحركة الإسلامية في الاتجاه الصحيح.
وبقدر ما اتضحت هذه الخريطة في عقول وقلوب أبناء الحركة الإسلامية بقدر ما كانت سائر مجهوداتهم متكاملة ومتضافرة، سواء منها المجهود العلمي والدعوي والتربوي والعسكري والفكري والاقتصادي والسياسي والأمني. إن انطلاقة الاقتصادي –مثلا- بهذه الروح ستخالف تماما في قوتها وطريقة عملها وطبيعة إنتاجها انطلاقة اقتصادي يتصور أن النظام العالمي هو منتهى ما وصلت إليه البشرية ولا ينقصه إلا تعديلات جزئية هنا أو هناك، ومثلها انطلاقة عالم الشرع فشتان بين من ينطلق موقنا أنه يخرج الناس من الظلمات إلى النور فيتفانى في بيان محاسن الإسلام عن علم ومعرفة ودراية بمساوئ ما يعاني منه الناس من هيمنة النظام المادي العلماني وبين من يتفاني في إثبات أن الإسلام يتوافق مع هذا النظام العالمي فيكون أحسن أحواله أن يفتخر بسبق الإسلام لبعض الجوانب مع مجهود هائل في تأول وتكلف حشر الإسلام في قالب الثقافة الغالبة. وذات الكلام يقال عن سائر المجالات.
ربما قيل: لكن هذا السبيل سيكلفنا تكاليف هائلة، وسيعود على بلادنا بمصائر العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها.
والجواب: في الواقع نعم، هذا ما سيحصل، ولكنه لن يحصل لأننا اخترنا هذا الطريق.. بل هذا الطريق هو الوحيد الكفيل بتقليل الخسائر إلى أقصى مدى ممكن، وأما سائر الطرق غيره فهي التي ستودي بنا إلى هذا المصير. وبيان ذلك شيء بسيط:
1. سائر الأمم التي نهضت مرت بهذه المرحلة من مقاومة الاستبداد أو مقاومة الاحتلال أو حتى الحروب الأهلية بين طالبي الحرية ومناصري الاستبداد أو الاحتلال. إن التحرر مكلف لأن الاستقلال غالٍ، ولأنه أول طريق كل نهضة، وليس من أمة بلغت وسادت إلا وقد عانت هذا المخاض، بما فيها تلك الأمم التي علت في الأرض وهزمتنا وقهرتنا واحتلتنا.
2. مصير أمتنا تحت الاستبداد المصنوع على عين الأجنبي ليس أحسن حالا من مصيرها إن هي قاومت وكافحت، وأولئك الذين يضربون المثل بالعراق وسوريا يغفلون عن أن نفس هذا المثل هو ردٌّ عليهم. فالعراق هو تجربة استبداد أنهك البلد حتى أسلمه إلى الاحتلال فلم يَثُرْ شعب العراق على الطاغية إنما سلَّمهم الطاغية إلى الاحتلال. وأما شعب سوريا الذي ثار فقد جاءه الطاغية بالاحتلال ليحفظ له نظامه بعدما تهدد. فصار المصيران واحدا رغم اختلاف المسلك: الاستبداد سيُسلمنا إلى الاحتلال وسيدمر بلادنا، فإما سبق الاحتلال الثورة أو سبقت الثورة الاحتلال!
3. ما تدفعه الشعوب من ثمن لتحررها هو أقل مما تدفعه كثمن لخضوعها، فحين يترسخ استبداد لخمسين سنة أو ستين سنة فإنه يتسبب في ما لا يحصى من أصناف القتل والإذلال، بداية من الحروب العبثية مرورا بالفساد والإهمال والتخلف التي تسفر عن قتلى بالأمراض وبحوادث الغرق والحرق والسيارات والقطارات وغيرها وحتى الظلم والتعذيب والقتل.. فتكون المحصلة ملايين القتلى لكنهم يذهبون بهدوء وعلى مدى زمني طويل ثم في النهاية إما أن يُسلمهم إلى الاحتلال أو يجلب إليهم الاحتلال فيدفع الشعب ثمن الاستبداد عقودا ثم ثمن الثورة والاحتلال سنين أخرى. فلا تُقارَن نتائجُ الصمود حتى انتصار الثورة بنتائج هزيمة ثورة وتمكن استبداد من بلد ما!
عند هذه النقطة لا يتبقى إلا الكلام عن الاستفادة من التجارب السابقة للثورات والحركات الجهادية لكي تتمكن الحركة الإسلامية من إنتاج مقاومة ناضجة واعية راشدة تتجنب أخطاء ما فات.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on September 17, 2018 08:08
September 16, 2018
مذكرات الشيخ رفاعي طه (6) قصتي مع التصوف
مذكرات الشيخ رفاعي طه (6)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةقصتي مع التصوف· قلت لضابط أمن الدولة: نعم، عبد الناصر صنم.. ألم يكن له خطأ واحد؟!· كنت أتمثل عبد الناصر وأخطط لتنفيذ انقلاب عسكري وحكم مصر
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومال
ولم تنته الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة. هذه المرة لم أكن وحدي، بل كنت مصحوبا بمخبر، ولما دخلت إلى المحقق، سألني:
- ماذا تقصد بأن جمال عبد الناصر كان صنما؟ ومن قال لك هذا التعبير؟ - لم يخبرني أحد، أنا أرى كل الناس تمدح عبد الناصر ولهذا أستشعر أنه صنم، وأنا عضو في منظمة الشباب الاشتراكي، ومسؤول تثقيف مركز ادفو- "يخرب بيتك، يخرب بيتك ما احنا عارفين"- فقط أسمع المديح المديح المديح لعبد الناصر، لا يوجد أي شخص يقول شيئا آخر.. الا يخطيء عبد الناصر أبدا؟ بالتأكيد لقد أخطأ يوما- أخطأ في ماذا مثلا؟- لا أدري.. أنا لا زلت صغيرا ولا أستطيع أن أعرف فيما أخطأ، لكنه أخطأ بالتأكيد!- أنت يا رفاعي شاب متميز، وتفكر، وتسأل، وأنا واثق أنه لم يخبرك أحد شيئا سيئا عن عبد الناصر، ومن الحسن أن تسأل مثل هذا السؤال.- فما تريدون مني الآن؟- لا نريد منك شيئا، فقط نريدك أن تحافظ على نفسك، أنت شاب جيد، ونحن نحب من هم مثلك من الشباب، وأنا قرأت ملفك، وعرفتُ أن زميلي قد أوصى بك، وترك لك رقم هاتفه.. وها هو أيضا رقم هاتفي، كلمني إن احتجت إلى أي شيء، فأنت أخونا الصغير.. إلخ!
كان أهم ما يريدون معرفته هو "ماذا تقصد"؟ و"من قال لك هذا"، ولما تبينوا أنه ليس ثمة أحد يلقنني هذا الكلام استهانوا بالأمر. إلا أن هذه المقابلة أذهبت من نفسي الرهبة منهم، فمن بعد ما كنتُ خائفا ارتحت واطمأننت، لقد تصورت أني سأدخل كهف العذاب الجهنمي من رؤيتي لوجه النظر وفزع الأستاذ عيد، رغم أني لما تحدثت مع المحقق كنت أتحدث بثقة أفضل مما توقعت. إلا أن أهم ما خرجت به من تلك المقابلة أن النظام في مصر صار يتسامح مع مثل ما أقول، أو حتى: يرحب بأن تنتشر هذه المقولات التي تخدم استراتيجية السادات، وقد تبناها فعلا فيما بعد.
أما في البيت فهيمن على أجواءه خوف أشد من خوف المرة الأولى. إن أبي –رحمه الله- رجل أمي بسيط، يقرأ ويكتب بصعوبة، وأمي من جهتها أمية، وهما كما هو حال الشعب المصري تلك الفترة يخافون جدا من التعرض لكل ما هو من شأن السلطة والدولة، كان أبي يقول لي: إن لم تكن تخشى على نفسك فاخش عليَّ، إني أريد أن أُرَبِّي إخوتك كما ربيتُك!
كان كلامه يعكس الخوف الشديد، إلا أنني لم أكن أتأثر بهذا إطلاقا، كان يملك عليّ نفسي أني على الحق وعلى الطريق الصحيح، وحيث أن الأمر كذلك فلا اعتبار لكل ما ألقى في سبيله، سواء في ذلك التهديدات أو الرجاءات!
وأبعد من ذلك أني في هذه المرحلة لم أكن أشرك أحدا في تفكيري إطلاقا، نعم.. أتحدث مع الأستاذ عيد الرافعي، وفي مرحلة لاحقة دخل على الخط أستاذ آخر اسمه سيد وكان يدرسنا اللغة العربية وكان صوفيا، وكذلك أستاذ آخر هو جمعة أبو زلازل.. كل هؤلاء كانوا يجلسون ويتحدثون معي، وكنت أستفيد منهم علميا وشرعيا، إلا أنني لا أطلعهم على أفكاري ولا أحكي لهم مقصد جميعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنت أستشعر أن هذا عمل عظيم وأني أتفرد به، كنت أرى نفسي كمن يطوي جوانجه على السر الكبير الخطير، كأنما أنا زعيم الثورة المرتقب، مثلي مثل جمال عبد الناصر!
لقد سيطرت عليَّ فكرة أنني سأصنع شيئا، بل شعرت أحيانا أني قد أصبحت قريبا جدا من أكون رئيس مصر.. إنها خمر المراهقة التي تقرب الأحلام البعيدة من الأفق البعيد فتجعلها كأنها في متناول اليد وأنه ليس بيننا وبينها إلا هذه الخطوة.. وما تلك الخطوة؟ أني سأدخل الكلية العسكرية، ثم أنفذ انقلابا.. وهكذا أصير رئيس مصر، أرأيت إلى المسألة كيف هي يسيرة؟!
لا أتذكر أحداثا أخرى مهمة في هذه السنة، الصف الثاني الثانوي، لكن هذه السنة شهدت إقبالي على المكتبة وكثرة القراءة فيها، وكان الأستاذ عبده قد دخل إلى عالمي.. وكان صوفيا!
قبل ذلك بعام، كان خط آخر قد بدأ في حياتي.. ذلك هو خط الصوفية..
لقد كان أساتذة المدرسة متصوفة، لكنهم لم يكونوا ينتمون إلى طريقة بعينها، أما أنا ففي الصف الأول الثانوي التحقت بالطريقة الأحمدية النقشبندية.. وقصة ذلك أن لدينا جارا يعمل في مصنع ادفو للسكر، اسمه محمد، وكان يراني شابا متدينا أغدو إلى المسجد وأروح، فدعاني ذات يوم للذهاب معه إلى الزاوية، لم أمانع، ومن ساعتها كثر ترددي إلى هذه الزاوية.
عرفت هناك أن طريقتهم هي الأحمدية النقشبندية، أو لعلها الأحمدية الشاذلية، لقد نسيت وتطاول العهد بهذا، وعلى كل حال دعاني جارنا هذا إلى الانضمام للطريقة على أن أكون "مريدا ثانيا"، لقد كان لديهم مراتب ودرجات، وكان المريد الأكبر عندهم شيخ اسمه الزرقاني.
لم يكن عندهم علم بالشرع، وتصدق فيها الانتقادات التي توجه للصوفية، كنا في تلك الزاوية نحفظ أحاديث بسيطة جدا، وكذلك في حفظ القرآن، ولقد رأيتني أحفظ أكثر منهم، فلربما كانوا يحفظون في جز عم، بينما أنا في الجزء الخامس، وفي تلك الفترة كنت قد وصلت في حفظ القرآن إلى سورة الإسراء إلا أني نسيته لأني لم أكن أداوم على المراجعة، إلا أن هذا لم يخفض قدري بين أقراني أيضا إذ كنت أحسن منهم حفظا وكذلك استحضارا للآيات، فإذا فُتِح باب نقاش أو أردت فتح كلام فإن الآيات المتعلقة به تكون حاضرة في ذهني، والشاهد أنني كنت بين هؤلاء القوم من المنسبين لهذه الطريقة أحسنهم، فكنت أقرأ لهم القرآن، فإن غمض عليهم شيء شرحته وفسرته لهم، وما هو إلا أن بدأت في النقد والنقاش، أو قل: الجدال واللجاجة.. وهذا شيء لا تحبه الصوفية!!
لا أتذكر الآن هل كنا نلتقي في تلك الزاوية كل أسبوع أو مرتين في الأسبوع الواحد، لكن الذي تنبغي الإشارة إليه هنا هو انتشار فكرة الحلول والاتحاد فيما بينهم.. لم يكونوا ينشرون هذه الفكرة من خلال الدروس، وإنما هي منتشرة في حكاياتهم.
أذكرة مرة أنه قد حُكِيت أمامي أن رجلا قد سأل شيخه معترضا على كيفية الخلق، وكيف أن الله (سبحانه وتعالى) يخلق بعض الخلق متشابهين مع كثرتهم وتعددهم، فقال الشيخ: تعال عندي اليوم بعد العصر لنشرب الشاي معا. فحضر المريد في الموعد المضروب، فلما جلس بين يديه طرق الباب، فأمره الشيخ أن يفتح، فذهب ففتح فوجد نفس الشيخ أمامه، فصار يقلب بصره مندهشا بين شيخ جالس في الدار وشبيهه الواقف على الباب، ثم ألجمته الدهشة حتى دخل الذي بالباب، وما إن جلس بين يدي الشيخ حتى طرق الباب مرة أخرى، فأمره أن يفتح، فذهب ففتح فتكررت القصة حتى دخل الدار أربعون رجلا على نفس هيئة الشيخ الجالس في الدار. فهنا قال الشيخ لمريده صاحب السؤال: كنت قد سألتني سؤالا في الحلقة وأنا أريد أن اجيبك عليه. فقال المريد له "لقد أجبت.. لقد أجبت.. لقد أجبت"، وهكذا أعطاه الشيخ درسا عمليا وأدبه تأديبا قويا وعلمه ألا يسأل مثل هذه الأسئلة، فإن كان الشيخ الولي يستطيع أن يخلق أربعين نفسا على صورته فكيف بالله الواحد القهار!!
ما إن سمعت هذه القصة حتى غضبت غضبا شديدا وانطلقت صائحا: هذه القصة لا يمكن أن تكون صحيحة، هي بلا شك كذب!
واندهش الشيخ من جرأتي وصاح بدوره: كيف تقول؟! هل تعني أنني كاذب؟
فقلت له وما زلت في غضبي: لا أدري هل أنت الكاذب أم غيرك، لعلك نقلتها من كتب ليست صحيحة، لكن اليقين أن هذه القصة كذب لا يمكن أن تصح. حتى ولو افترضنا أن هذا الشيخ قد استعمل قوة الجن وسخرهم لنفسه، فلن يمكن للجن أن يفعلوا هذا، تلك القصة في حكم المستحيل!
كانت القصة في حكم المستحيل.. وكانت غضبتي هي الفراق بيني وبينهم! قررت ساعتها –وكنت في الصف الثالث الثانوي- ألا أذهب إليهم مرة أخرى.
ومع هذا لم تنقطع علاقتي كلية بالصوفية، لقد كنت أعود في أسئلتي وفي مثل هذه الأمور إلى أساتذتي في المدرسة، لقد كانوا مع تصوفهم أكثر ثقافة ونضجا من هؤلاء البسطاء، لا سيما الأستاذ عبده، لكم كان مثقفا حقا، وكان شديد التدين مشهور به في مركز إدفو، وكان له شيخ أكبر منه يعمل مفتشا للغة العربية وقد بلغ سن المعاش، وكان هذا الشيخ أكثر تدينا منه وأشهر، ولقد كانت لي قصة معه لعلي أذكرها إن شاء الله.
نشرت في مجلة كلمة حق
Published on September 16, 2018 01:38
September 5, 2018
العوائق الأربعة أمام عقل التحرر والمقاومة
نحن في صراع مع النظام العالمي الذي بناه الغرب، وهذا النظام أنتج أفكاره وقيمه ومعاييره وجعلها ثقافة عالمية غالبة، يرسخ لها بسلاحه ونفوذه السياسي كما يرسخ لها بقوته الإعلامية والفكرية، وبقدر ما تترسخ أفكاره بقدر ما يترسخ نفوذه وسلاحه، وبقدر ما يترسخ نفوذه وسلاحه بقدر ما تنتشر وتهيمن أفكاره.
والمحنة التي يعانيها الفكر الإسلامي منذ مائتي سنة (التي هي عمر التفوق الغربي وهيمنته على بلادنا) هي محنته مع هذه الثقافة الغربية الغالبة، وانقسام المدارس الفكرية الإسلامية هو في الواقع انقسامها في استجابتها لهذا التحدي، فهناك من سعى للتوفيق والمصالحة وهناك من سعى للرفض والمواجهة، وفي كلٍّ درجات ومنازل وأطياف من الثبات ومن الانحراف.
وإن أمر التحرر والمقاومة هو من صميم هذه المحنة العاتية.. فإن أقصى ما تريده الثقافة الغربية الغالبة أن يعتنقها أولئك المهزومون الضعفاء ليكونوا من أبنائها (أو بالأحرى: عبيدها)، ومن ثم فلن يفكروا في المقاومة أصلا بل سيعتبرون لحظة احتلالهم هي لحظة الفتح الغربي لبلادهم! كذلك فإن أقصى ما تريده الثقافة الإسلامية أن تعود الأمة إلى دينها الصافي الأول كما نزل على نبيها دون شوائب ودون تأثر بالمكونات الأجنبية الدخيلة التي جاءت من عصور التخلف والاحتلال..
لهذا كله فإن المقاومة والتحرر والثورة هي في النهاية علامة على مدى نجاح المعركة بين الثقافتين والحضارتين: الغالبة والمغلوبة، فما دامت الأمة تقاوم وتسعى للتحرر فهي لا تزال وفية لنفسها ودينها وتاريخها، أما حيث فقدت روح المقاومة والتحرر فإنها تعبر عن مرحلة احتضار مفزعة.
لكن الأمر ليس دائما بهذا الوضوح، ليس المشهد منقسما بين متغربين يمارسون الدعوة للحضارة الغربية وإسلاميين يمارسون الكفاح والمقاومة والتحرر، لقد وُلِد من رحم المدرسة الفكرية التي سعت للإصلاح وبفعل أزمنة الاستضعاف ظواهر من دعاة ومفكرين ونخبة محسوبة على المدرسة الإسلامية لكنها تعتنق أصول الحضارة الغربية، بل وتمارس ما ترى أنه "تجديد" في الفقه والتراث الإسلامي، وهي في صف الثورات عموما، وفي صف المعارضة للأنظمة الحاكمة، لكن البديل الذي تدعو إليه والمجتمع الذي تنشده هو صورة من البديل والمجتمع والنظام الغربي.
أولئك لا يرون مشكلة أمتنا في الاستضعاف والاحتلال وحكم العملاء بقدر ما يرونها في تراثنا الفقهي ومسيرتنا التاريخية وإنتاجنا الحضاري، وأشد ما يزعجهم ويسيطر على كتابتهم هي المسائل التي تمثل تناقضا بين الحضارتين كقضايا المرأة وأحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة والحدود (وبالذات: حد الردة وحد الرجم)، ويرون أن أصل المشكلات إنما هي ما فعله معاوية، وبعضهم يمدها إلى الحسن بن علي باعتباره أول من تخلى عن الشرعية السياسية تحت وطأة الضرورة (رغم أن النبي مدح فعل الحسن!!)، وبعضهم يمدها إلى سقيفة بني ساعدة، وبعضهم انصب تجديده على الأصول يحاول تفكيك المناهج الإسلامية المستقرة التي اجتمع عليها العلماء في الاستنباط والتعامل مع النصوص، وبعضهم يجدد اللغة لتفكيك معاني ومفاهيم المصطلحات القرآنية والنبوية المستقرة ليُخرجها من دلالاتها التي استقر عليها فهم المسلمين وبُنيت عليها الأحكام، وبعضهم يحاول التفلت برفع راية المقاصد التي لا تستنبط من الأحكام بل تهدر الأحكام وتخرقها، فكأن المقاصد فوق الأحكام وليست ثمرة لها!
النقاش مع هؤلاء يطول في المجال الفكري، لأن لهم آثارا فكرية مريعة ومدمرة، وقد ذكرنا في مقال سابق كيف أن مهمتهم فاشلة، إلا أن الذي يهمنا الآن هو آثارهم المدمرة في باب المقاومة والتحرر والكفاح الذي تخوضه الأمة.أولئك يجمع بينهم القول بأن الأمة ضلت في باب السياسة منذ معاوية أو منذ الحسن أو حتى منذ أبي بكر، وهم بهذا لا تفصلهم عن العلمانيين المتغربين سوى خطوة فكرية واحدة، كما لا تفصلهم عن الشيعة سوى نصف خطوة، فالعلمانيون يقولون ليس في الإسلام نظام سياسي وهؤلاء يقولون فيه نظام سياسي لكن لم يُطبَّق أبدا أو لم يُطبَّق سوى خمس عشرة سنة! والشيعة يقولون: كفر الصحابة وغيروا وبدلوا وأولئك يقولون: لم يكفروا ولكن غيروا وبدلوا وانتصرت عليهم شهوات النفس ومطامع الدنيا.. كذلك يجمع بينهم التعامل مع الديمقراطية والمنتج السياسي الغربي باعتباره أرقى ما توصلت إليه البشرية في تطورها، فهو إن لم يكن الحكمة التي علينا طلبها من أي أحد فهي على الأقل الحكمة التي فاتت صحابتنا وفقهاءنا وتراثنا وفارقت تاريخنا منذ بدأ وحتى الآن!!
وهذه النتيجة أفتك ما يصيب روح أمة وهي في مرحلة التحرر والكفاح والمقاومة، فليس يكافح إلا الذي ينطلق من إيمان جازم بأنه على حق وأنه يملك البديل الأحق لهذا الظلم الذي انطلق يواجهه، وحيث ليس لدينا نظام سياسي فإن غاية ما نفعله حتى لو انتصرنا أن نطبق النظام الغربي ونستورده. أي أن هذه المدرسة (وهي بالمناسبة أكثر المدارس "الإسلامية" تمتعا بالأموال والشهرة الإعلامية الآن) تضرب عقيدة المقاتل وثقته بنفسه ورؤيته لنفسه بأنه من خير أمة، ثم تأخذ به ليتلقى الدروس في مصانع الحكمة الغربية التي يواجهها!
والمشكلة أن بعضا من حركات التحرر والمقاومة تتأثر بإنتاج هذه المدرسة لما ترى من رموزها من المواقف الثورية والمعارضة للواقع الحاضر، وإني أشهد فيما أراه على الانترنت وفيما أراه من الواقع كثيرا من الطاقات التي تعطلت، وبعضهم وصل الحال به إلى أن ارتد أو ألحد أو تشكك، وكان في يوم ما من الطاقات الثائرة الباسلة التي كادت تفقد حياتها في مواطن ثورية. كذلك أشهد خطابات لجهات وكيانات محسوبة على الثورات قد فقدت روحها الإسلامية الثائرة والمعتزة وصارت تميل إلى اللغة السياسية التي تكثر فيها الاستدراكات والاحترازات.
وهذا ما يجعل الأمانة ثقيلة ثقيلة ثقيلة على من وهبهم الله شيئا في باب التفكير والتنظير ونشر الوعي لترشيد المقاومة، وفي محاولة مني لوضع خطة أمام هؤلاء الذين تحملوا هذه الأمانة للقيام بها في باب التحرر والمقاومة وجدت أن الأمر يتلخص في أربعة عوائق رئيسية:
الأولى: معرفة حكم الإسلام في المسألة مع التخلص التام من ضغط الواقع وسطوة الثقافة الغالبة.
الثانية: معرفة موقع هذا الحكم من المنظومة العامة للإسلام، وكيف سار تطبيقه في التاريخ الإسلامي، والمراحل التي مرَّ بها.
الثالثة: معرفة رؤية الحضارة الغربية لهذه المسألة نفسها في كتابات المنظرين والمفكرين والفلاسفة، وموقعها ضمن المنظومة الفكرية الغربية العامة.
الرابعة: معرفة التطبيق الغربي لهذه الفكرة في الواقع العملي، وهل جرى تطبيقها في نفس السياق الذي أراده الفلاسفة والمفكرون حين أنتجوها أم أن الفكرة المبهرة التي صيغت في الكتب لم يكن لها مجال واقعي، وظلت كاللعبة يُشار إليها للفت نظر الصبيان وتغرير المغفلين وإلهائهم؟!
إذا اكتملت في العقل هذه الأمور الأربعة اتضح طريق الهداية والنور لحركة المقاومة والتحرر أولا، ثم لسائر الحركة الفكرية التي تقاوم في ثغور الكتابة والتنظير والتفكير.
سنضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح الصورة، وسنختاره من أشهر الشبهات التي تروج في إنتاج هذه المدرسة، وسنختارها من الشبهات المتعلقة بالجهاد والمقاومة والثورة:
[1]
تُزَيَّن الديمقراطية الغربية باعتبارها النظام الذي منح الشعوب حقوق الاعتراض، ومنع السلطة من الظلم وغلَّ يدها عنه، في مقابل التراث الفقهي والنصوص التي شرعنت الظلم وشلَّت الأمة عن الاعتراض عليه، كما في الحديث "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك".
لتفكيك هذه الفكرة ينبغي تجاوز العوائق الأربعة: فهم حكم الإسلام في هذه الطاعة للأمير الظالم، ثم فهم كيف جرى تطبيق هذا الأمر في تاريخ المسلمين، ثم البحث عن رأي الفكر الغربي في هذه الطاعة، ثم البحث عن التطبيق العملي لهذه الفكرة في التاريخ الغربي الحديث.
1. سنجد أولا أن علماء الحديث مختلفون في صحة هذه الزيادة "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" فبعضهم يقول هي صحيحة، وبعضهم يقول: هي ضعيفة لا يؤخذ بها. سنمضي الآن مع من قالوا إنها صحيحة، فسنجد الفقهاء مختلفين في تنزيلها على قولين؛ الأول: أن الحاكم إذا ضرب ظهرك في عقوبة شرعية كحد الجلد في السرقة أو في الخمر وإذا أخذ مالك شرعا كالزكاة فتلك من حقوقه التي لا يجوز لك أن تخرج عليه بسببها بل تظل على الطاعة والولاء واحترام النظام، والثاني: أن الحاكم إذا ظلمك فضرب ظهرك وأخذ مالك فلا ينبغي أن يثور بك الغضب فلا تقدر عواقب الخروج عليه، بل إن كانت المصلحة في الصبر واحتمال الأذى منه أكبر من المفسدة المترتبة على الثورة والخروج عليه فاحتسب ذلك عند الله واصبر.
وهكذا نجد معنى السمع والطاعة للأمير الظالم في أدنى حالاته يساوي معنى احتمال الأذى الخاص رعاية للمصلحة العامة.
2. فإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي، وكيف فهم المسلمون الأوائل هذا النص وعملوا به، وجدنا أنفسنا أمام طوفان من الثورات والتمردات، لا سيما في الصدر الأول، وهم خير القرون وهم كذلك أفقه الأمة، فلقد سعى الأكثرون في تغيير المنكر بالسيف وإن لم يتيقنوا من قدرتهم على تغييره، وأكثر الصحابة إما قاتل مع علي أو مع معاوية ومن اعتزل فإنما اعتزل لأنه لم يتبين له الحق، وسائر الأئمة الكبار تعرضوا لغضب السلاطين وكثير منهم أنشب ثورة أو شارك فيها أو حرض عليها أو أفتى بما يدعمها، وهذا أمر يطول استقصاؤه، حتى قال الشهرستاني بأن مسألة الإمامة (أي: أمر السياسة) هو أكثر ما سُلَّ فيه السيف في الإسلام. أي أنك أمام أمة ثائرة حتى إنه ليمكن تفسير الفقه المصلحي الداعي إلى السمع والطاعة في القرون المتأخرة بأنه رد فعل على نتائج الثورات التي لم ينجح أغلبها (كما هي سيرة كل ثورات البشر في كل تاريخ البشر) فكانوا أقرب إلى التهدئة، وهو ما يظهر في قول ابن حجر المشهور بأن الخروج "مذهب للسلف قديم".
والمعنى الذي نريد قوله هنا أن المسلمون لم يتحولوا بهذا النص إلى عبيد لمن حكمهم وتغلب عليهم، ولعل دولة الأمويين هي الدولة التي واجهت أكبر عدد من الثورات في تاريخ الإسلام، وهي أول دولة ظهر فيها الحاكم المتغلب (عبد الملك بن مروان)، برغم إنجازاتها هائلة في الفتوح ونشر الإسلام ووحدة الأمة من الصين حتى فرنسا.
3. فإذا حاولنا استطلاع وفهم هذه المسألة في الفكر القانوني الغربي، الذي يُعرض لنا كواحة للعدالة في مقابل تراثنا المظلم، وجدنا عجبا.. إن المدارس القانونية الغربية تُلْزِم بطاعة القوانين غير العادلة، لأن إتاحة الخروج عليها لكل من يرى أنها غير عادلة يساوي اختلال النظام واضطراب الدولة، أي أن الفكر القانوني الغربي يُنَظِّر ويُشَرْعِن لفكرة "تسمع وتطيع للنظام وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك". هذا فضلا عن أن أصل نظرية السيادة في الفكر الغربي إنما تؤول عمليا إلى مراكز القوى (أي: المتغلب) في لحظة كتابة الدستور، أي أن المتغلب القوي هو الذي يصنع نظرية السيادة أولا ثم يصوغها في دستور ثم تتفرع عنه القوانين، التي تكون كلها ملزمة للشعوب ولا يجوز لهم خرقها ولو كان رأيهم أنها غير عادلة.
ومن فضلك لا تنسى أن المتغلب في التاريخ الإسلامي لم يكن يستطيع أن يغير المرجعية العليا الحاكمة (القرآن والسنة) ولا كان يستطيع –ولو توفرت له القدرة- أن يتغول على المساحات المجتمعية التي يتولاها العلماء والأعيان وغيرهم، لأنها محروسة أيضا بنصوص مقدسة.
4. فإذا ذهبنا إلى متابعة الواقع الغربي في تطبيق هذه الفكرة، فسنجد أن التاريخ الغربي كان مخلصا في فرض القوانين بالقهر والقوة، وفي مقاتلة الخارجين عليها مهما كانت مبرراتهم أنها غير عادلة، بل ولما تغيرت الظروف وتغيرت هذه القوانين وحصل الاعتراف بأنها لم تكن عادلة لم يحصل ردُّ الاعتبار للقتلى ولا تعويض المضارين الذين ثاروا أساسا على هذه القوانين التي اتضح بالفعل أنها غير عادلة. (انظر تفصيل هذا في هذا المقال للشيخ الفذ الأسير: إبراهيم السكران، سجين آل سعود، فرج الله عنه.. ففيه طواف في المدارس القانونية والوقائع التاريخية الغربية).
وهكذا مع تفكيك هذه العوائق الأربعة نصل بوضوح إلى أن الديمقراطية المعاصرة لا تتميز لا من حيث النظر ولا من حيث التطبيق على الشريعة الإسلامية، بل هي أدنى وأحط، لأن المستقر عندها "الخضوع للنظام ولقوانينه غير العادلة" هو المختلف فيه لدى الفقهاء، بل هو مساوٍ لأدني تفسيرتهم للطاعة رعاية للمصلحة العامة.. فضلا عن أمور أخرى كثيرة.
[2]
تُعْرض الديمقراطية المعاصرة في ثوبها اللطيف المُزَيَّن باعتبارها النظام الذي أنتج تداولا سلميا للسلطة، يذهب رئيس ويأتي رئيس، في حين ارتكست مسيرتنا الحضارية منذ لحظة تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة رعاية لمصلحة الأمة ففرط بهذا في الحق الذي معه تحت وطأة الضرورة، وهو ما أدى إلى استمرار التوريث الذي لا زال ينكبنا حتى هذه اللحظة.
لنفكك هذا الكلام في ظل العوائق الأربعة التي ذكرناها:
1. فمن حيث حكم الإسلام فنحن أمام اتفاق معروف بأن منصب الإمامة منوط باختيار الأمة، فتركه النبي ولم يُسَمِّ من بعده خليفة لكي لا يكون نصب الخليفة نصا شرعيا، وهكذا قال أبو بكر في أول خطبته، وهكذا سار العمل في زمن الراشدين.. ومنتهى القول في هذه المسألة أن مسألة التوريث هذه لم يقبلها الصحابة وكبار التابعون في زمن معاوية إلا تحت وطأة الاضطرار والخوف من وقوع الفتنة إذ يتعذر جمع الناس على خليفة يرضون به جميعا، فسَلَّموا بأن تحكم العصبة الأقوى المؤهلة لقيادة الأمة، مع بقاء الحكم الشرعي نفسه واضحا يردده الفقهاء منذ وُجِدوا إلى زماننا هذا.
أي أن الإسلام لم يشرعن التوريث، لم يحض عليه، بل ولا يقبل به إلا في حالة الاضطرار والضرورة.. هذا من حيث حكم الإسلام نفسه.. وهذا في وقتٍ كانت كل أنظمة الدنيا ملكية وراثية من الصين حتى غرب أوروبا، فالإسلام لم يكن متأثرا بالواقع الأرضي بل كان متفوقا عليه ومبتكرا لنظام تختار فيه الأمة من يحكمها، وهي الفكرة التي كان مجرد طرحها في بلاط ملكي يثير الضحك ويلقي بصاحبها في الموت متهما بالجنون!!
أما من حيث أن التوريث هو سبب نكبة الأمة الآن، ففي هذا اختلاف شديد جدا، ولا يُسَلَّم بهذا القول، فالأمة عاشت حضارتها التي ازدهرت وكانت قوة عظمى عالمية ألف سنة في ظل الملك العضوض والتوريث، ككل أمم الدنيا شرقا وغربا وككل حضارات الدنيا التي ازدهرت في ظل النظام الملكي الوراثي. وقد احتلنا الغرب ونهبنا وقهرنا منذ كانوا في نظامهم الملكي الوراثي بداية من إسبانيا الكاثوليكية التي افتتحت عصر الكشوف الجغرافية. ثم إن أمتنا منكوبة الآن على يد الملوك والعسكر الجمهوريين معا، فالنكبة تعم من ورثوا أولادهم ومن لم يورثوا.
2. العائق الثاني: كيف سار هذا الوضع في التاريخ الإسلامي؟ والإجابة: سار مسيرة الأمر الواقع الذي يسوق إليه الاضطرار، والذي لا يلقى استسلاما من بقية الأمة، بل سيرة الثورات والتمردات مستمرة، مع بقاء الضمير العام متطلعا إلى نظام الخلافة الراشدة، ومع استمرار المحاولات بقدر ما أتاحت الظروف والإمكانات، ومن وقف بجانب الملوك إنما وقف بجانب استقرار النظام وتقديم مصلحة الأمة.
3. فما هو موقع موضوع التوريث من الفكر الغربي؟ والإجابة: أنه لم تخرج فكرة التمرد على النظام الملكي نفسه وصناعة النظام الجمهوري ليحكم دولا كبيرة إلا قبل قرون قليلة (قرنان أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر)، وما قبل ذلك إنما كان الحكم الديمقراطي علامة على المدن الصغيرة سواء أكانت مدن اليونان قديما (والتي انتهت تحت جحافل الرومان) أو المدن الإيطالية في العصر الوسيط والتي انتهت أيضا تحت جحافل الملوك أو البابوات.. ولذلك ظلت فكرة الحكم الديمقراطي نفسها وإن نجحت في إدارة الشأن الداخلي إلا أنها عاجزة عن التوسع والتمدد والنجاح في دولة كبيرة بل وظلت عاجزة عن حماية نفسها من تغول الدول الكبيرة المجاورة. وهكذا ظل نظام التوريث الملكي هو النظام السائد في الفكر والتطبيق التاريخي في أوروبا إلى ما قبل عصر الثورات الجمهورية التي يؤرخ لها بالثورة الفرنسية (قبل حوالي قرنين فقط).
على أنه يُنازَع أيضا، وبقوة، في أن مسألة رفض الملكية والتوريث كانت تطورا فكريا وارتقاء غربيا في مدارج الإنسانية، بل الأمر مزيج من عوامل اقتصادية وسياسية ودينية صنعت شكل الدولة الحديثة ضد الكنيسة والملكية والإقطاع (هذا المقال مجرد مثال يثبت أن المسألة لم تكن أفكارا).
4. فما هو موقع موضوع التوريث من التطبيق الغربي؟ والإجابة: أن هذا أيضا موضع شك كبير، ففي كثير جدا من المؤلفات الغربية حديث متكرر عن أن الديمقراطية وتداول السلطة هو مجرد مسرحية تدور أمام الشعوب بينما تتحكم بها مراكز القوى الحقيقية والخفية.. تلك هي مراكز الأموال الضخمة التي تملك تمويل وتسيير وإنتاج وإخراج المسرحية السياسية، يستدلون على ذلك بكثير من الشواهد منها: أن السياسة فعليا لا تتغير مع تبدل الرؤساء إلا كما يغير أحدهم ثوبه، وأن العائلات الغنية الكبرى لا تزال هي التي تتوارث المال منذ أربعة قرون فكأنها هي العائلات الملكية التي فضَّلت ألا تكون في واجهة المسرح وقدَّمت بدلا منها عرائس تحركها من الخلف. وحركة الإنتاج الفكري التي تتحدث عن السيطرة المالية الاقتصادية على السياسة كلها –تقريبا، وفيما أعلم- تؤول إلى الحديث عن مراكز القوى الحقيقية الخفية وشبكات المصالح والسيطرة التي لا تتغير بالانتخابات، ولا تُستدعى أمام البرلمان، ولا تحاكمها وسائل الإعلام.. بل كل هذه الأمور إنما هي وسائلها التي تتحكم بها في المشهد.
إن الحديث أن الغرب بالديمقراطية المعاصرة تجاوز التوريث ووصل إلى تداول حقيقي للسلطة هو أمر مُتَنَازع فيه ومختلف فيه بقوة. وقد سجل صحافي أمريكي مشاهدات خطيرة في كتابه ذي العنوان الكاشف "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها".
والمقصود من كل ما سبق: أن التوريث الذي يُعيروننا به لم يكن شرعا بل كان اضطرارا، وليس هو بنفسه سبب النكبة (إذ حضارات العالم القديم ازدهرت في ظل أنظمة ملكية وراثية)، كما أن الغرب لم يتخلص عمليا من التوريث، وهذا التداول في السلطة مشكوك في حقيقته من الغربيين أنفسهم.
[3]
وأختم بهذا المثال، ولن أطيل فيه فقد طال المقال:
يُعيّروننا بأحكام الجهاد التي فيها جهاد الطلب، ويرون أنه اعتداء وعدوان على الأمم الأخرى ولو كانت مسالمة، بينما جاء النظام العالمي بسيادة الدول ومنع الآخرين من التدخل في شؤونها.
1. فأما حكم الإسلام في المسألة نفسها فهو متعلق بمسألة "هل الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى: السلم أم الحرب"، فالجمهور على أنه السلم وقال الشافعية بأنه الحرب، وفي المسألة تفاصيل كثيرة ليس هذا موضعها، لكنها جعلت بعض المعاصرين يجعلون المسألة على العكس فيقولون بأن الجمهور على أنها الحرب أو على أنها الدعوة.. ويُطلب الأمر في كتب الفقه لكن الذي نقصده الآن أن المسألة فيها خلاف بين الفقهاء.
ومنبع هذا الخلاف –فيما أرى- أن وقائع السيرة والتاريخ تحتمل الرأيين، فمن طبائع الواقع أن الباطل لا يطيق وجود حق إلى جواره، فسرعان ما تنشب بينهما المعركة.. ومن ثم فإن غزوات النبي وفتوحات الراشدين حين تُحلَّل فقيها فإنها لا تخلو من سبب عدائي من الطرف الآخر، ويأتي الخلاف من تقدير الفقهاء: هل لو لم يقع هذا السبب العدائي كانت ستتحرك الجيوش للغزو والفتح أم لا.
على كل حال هو نقاش نظري.. لكن المضمون العملي الكامن فيه هو: هل على الدولة الإسلامية مسؤولية أخلاقية لإنقاذ الشعوب الأخرى من الظلم والاضطهاد الواقع عليها من الأنظمة الباطشة؟ فيكون الفتح إنقاذا لها ولو لم يقع من هذا النظام الباطش بشعبه خطر على المسلمين والدولة الإسلامية؟
2. العائق الثاني: كيف جرى تطبيق هذا في تاريخ الإسلام؟ والإجابة: سبقت خلاصتها في السطور السابقة.. فقد توسعت دولة الإسلام توسعا كبيرا وغزت جيوشها أطراف الصين وحتى جنوب فرنسا، ووصلت إلى موسكو شمالا وإلى وسط إفريقيا جنوبا.. وكانت –كما نرى ونعتقد- أوسع عملية تحرير للشعوب في تاريخ البشر، ونحن الفاتحون الذين أقاموا العواصم الحضارية في أقصى الشرق والشمال وفي أقصى الغرب والجنوب بينما قصص الاحتلال هي قصص امتصاص موارد البلاد ودماء الشعوب لتتضخم عواصم الإمبراطورية.. وفي عموم التاريخ الإسلامي كانت عواصم الشرق والغرب أزهى حضاريا من مكة والمدينة وأحيانا أيضا: بغداد ودمشق (وهي عواصم الدولة الإسلامية).
3. العائق الثالث: كيف يرى الغرب مسألة جهاد الطلب؟ والإجابة: وثائق المنظمات الأممية فضلا عن إنتاجات المفكرين حافلة بأن الغرب لديه مسؤولية أخلاقية في نشر ما يراه حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية.
4. العائق الرابع: كيف كان تطبيق جهاد الطلب عمليا في التاريخ الغربي؟ والإجابة: سل خمسة قرون تبدأ من الإسبان في عصر الكشوف الجغرافية وحتى لحظة قراءتك لهذا المقال: عن استعمار إفريقيا والأمريكتين واتخاذ ملايين البشر عبيدا وطواف السفن من ماجلان وكولومبوس حتى القواعد العسكرية البحرية في المحيطات والبحار حول العالم.. الجواب واضح.
إنما المأساة هنا في أن ترى "مفكرا" ينادي على الغرب (يسميه: المجتمع الدولي) أن يتدخل لإنقاذ شعب من حاكمه الجلاد، كما في سوريا مثلا، ويرى في توجيه الضربات العسكرية للنظام ومساندة الثورة عليه عملا جليلا وإنسانيا ونبيلا.. ثم هو هو نفسه يريد أن "يجدد" الإسلام فيحذف جهاد الطلب لأنه لا يناسب المعايير المعاصرة والتقدم الإنساني الذي وصلت إليه البشرية!!
لئن كنتَ ترى أن تدخل القوي لإنقاذ الضعيف واجب إنساني.. فما الذي جعله بردا وسلاما للأمريكان ووثائق المنظمات الدولية حرًّا ونارا على المسلمين وتراثهم الفقهي؟!!
الخلاصة:
أكثر تشغيبات الذين يريدون "تجديد" الإسلام وتنقيح تراثه الفقهي وتطويره بما يتلاءم مع العصر هم في الحقيقة منسحقون أمام الثقافة الغالبة، ومن شدة انسحاقهم تشوهت لديهم معرفة ثقافتهم ومعرفة الثقافة الغالبة معا.. وهذا أمر لا بد لا بد لا بد أن تتحرر منه حركات المقاومة والتحرر، فلا مقاومة ولا تحرر إلا بنفسية تؤمن بأنها الأصلح والأحق وأنها على الخير والهدى، وحتى يتحقق ذلك فالأمانة التي على واجب العلماء والفقهاء والمفكرين والكتاب أن يحللوا كل مسألة في ضوء هذه العوائق الأربعة لتتضح الصورة التي نؤمن بها أننا خير أمة أخرجت للناس، وأننا جند الله وقدره الغالب ولو بعد حين!
نشر في مجلة كلمة حق
والمحنة التي يعانيها الفكر الإسلامي منذ مائتي سنة (التي هي عمر التفوق الغربي وهيمنته على بلادنا) هي محنته مع هذه الثقافة الغربية الغالبة، وانقسام المدارس الفكرية الإسلامية هو في الواقع انقسامها في استجابتها لهذا التحدي، فهناك من سعى للتوفيق والمصالحة وهناك من سعى للرفض والمواجهة، وفي كلٍّ درجات ومنازل وأطياف من الثبات ومن الانحراف.
وإن أمر التحرر والمقاومة هو من صميم هذه المحنة العاتية.. فإن أقصى ما تريده الثقافة الغربية الغالبة أن يعتنقها أولئك المهزومون الضعفاء ليكونوا من أبنائها (أو بالأحرى: عبيدها)، ومن ثم فلن يفكروا في المقاومة أصلا بل سيعتبرون لحظة احتلالهم هي لحظة الفتح الغربي لبلادهم! كذلك فإن أقصى ما تريده الثقافة الإسلامية أن تعود الأمة إلى دينها الصافي الأول كما نزل على نبيها دون شوائب ودون تأثر بالمكونات الأجنبية الدخيلة التي جاءت من عصور التخلف والاحتلال..
لهذا كله فإن المقاومة والتحرر والثورة هي في النهاية علامة على مدى نجاح المعركة بين الثقافتين والحضارتين: الغالبة والمغلوبة، فما دامت الأمة تقاوم وتسعى للتحرر فهي لا تزال وفية لنفسها ودينها وتاريخها، أما حيث فقدت روح المقاومة والتحرر فإنها تعبر عن مرحلة احتضار مفزعة.
لكن الأمر ليس دائما بهذا الوضوح، ليس المشهد منقسما بين متغربين يمارسون الدعوة للحضارة الغربية وإسلاميين يمارسون الكفاح والمقاومة والتحرر، لقد وُلِد من رحم المدرسة الفكرية التي سعت للإصلاح وبفعل أزمنة الاستضعاف ظواهر من دعاة ومفكرين ونخبة محسوبة على المدرسة الإسلامية لكنها تعتنق أصول الحضارة الغربية، بل وتمارس ما ترى أنه "تجديد" في الفقه والتراث الإسلامي، وهي في صف الثورات عموما، وفي صف المعارضة للأنظمة الحاكمة، لكن البديل الذي تدعو إليه والمجتمع الذي تنشده هو صورة من البديل والمجتمع والنظام الغربي.
أولئك لا يرون مشكلة أمتنا في الاستضعاف والاحتلال وحكم العملاء بقدر ما يرونها في تراثنا الفقهي ومسيرتنا التاريخية وإنتاجنا الحضاري، وأشد ما يزعجهم ويسيطر على كتابتهم هي المسائل التي تمثل تناقضا بين الحضارتين كقضايا المرأة وأحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة والحدود (وبالذات: حد الردة وحد الرجم)، ويرون أن أصل المشكلات إنما هي ما فعله معاوية، وبعضهم يمدها إلى الحسن بن علي باعتباره أول من تخلى عن الشرعية السياسية تحت وطأة الضرورة (رغم أن النبي مدح فعل الحسن!!)، وبعضهم يمدها إلى سقيفة بني ساعدة، وبعضهم انصب تجديده على الأصول يحاول تفكيك المناهج الإسلامية المستقرة التي اجتمع عليها العلماء في الاستنباط والتعامل مع النصوص، وبعضهم يجدد اللغة لتفكيك معاني ومفاهيم المصطلحات القرآنية والنبوية المستقرة ليُخرجها من دلالاتها التي استقر عليها فهم المسلمين وبُنيت عليها الأحكام، وبعضهم يحاول التفلت برفع راية المقاصد التي لا تستنبط من الأحكام بل تهدر الأحكام وتخرقها، فكأن المقاصد فوق الأحكام وليست ثمرة لها!
النقاش مع هؤلاء يطول في المجال الفكري، لأن لهم آثارا فكرية مريعة ومدمرة، وقد ذكرنا في مقال سابق كيف أن مهمتهم فاشلة، إلا أن الذي يهمنا الآن هو آثارهم المدمرة في باب المقاومة والتحرر والكفاح الذي تخوضه الأمة.أولئك يجمع بينهم القول بأن الأمة ضلت في باب السياسة منذ معاوية أو منذ الحسن أو حتى منذ أبي بكر، وهم بهذا لا تفصلهم عن العلمانيين المتغربين سوى خطوة فكرية واحدة، كما لا تفصلهم عن الشيعة سوى نصف خطوة، فالعلمانيون يقولون ليس في الإسلام نظام سياسي وهؤلاء يقولون فيه نظام سياسي لكن لم يُطبَّق أبدا أو لم يُطبَّق سوى خمس عشرة سنة! والشيعة يقولون: كفر الصحابة وغيروا وبدلوا وأولئك يقولون: لم يكفروا ولكن غيروا وبدلوا وانتصرت عليهم شهوات النفس ومطامع الدنيا.. كذلك يجمع بينهم التعامل مع الديمقراطية والمنتج السياسي الغربي باعتباره أرقى ما توصلت إليه البشرية في تطورها، فهو إن لم يكن الحكمة التي علينا طلبها من أي أحد فهي على الأقل الحكمة التي فاتت صحابتنا وفقهاءنا وتراثنا وفارقت تاريخنا منذ بدأ وحتى الآن!!
وهذه النتيجة أفتك ما يصيب روح أمة وهي في مرحلة التحرر والكفاح والمقاومة، فليس يكافح إلا الذي ينطلق من إيمان جازم بأنه على حق وأنه يملك البديل الأحق لهذا الظلم الذي انطلق يواجهه، وحيث ليس لدينا نظام سياسي فإن غاية ما نفعله حتى لو انتصرنا أن نطبق النظام الغربي ونستورده. أي أن هذه المدرسة (وهي بالمناسبة أكثر المدارس "الإسلامية" تمتعا بالأموال والشهرة الإعلامية الآن) تضرب عقيدة المقاتل وثقته بنفسه ورؤيته لنفسه بأنه من خير أمة، ثم تأخذ به ليتلقى الدروس في مصانع الحكمة الغربية التي يواجهها!
والمشكلة أن بعضا من حركات التحرر والمقاومة تتأثر بإنتاج هذه المدرسة لما ترى من رموزها من المواقف الثورية والمعارضة للواقع الحاضر، وإني أشهد فيما أراه على الانترنت وفيما أراه من الواقع كثيرا من الطاقات التي تعطلت، وبعضهم وصل الحال به إلى أن ارتد أو ألحد أو تشكك، وكان في يوم ما من الطاقات الثائرة الباسلة التي كادت تفقد حياتها في مواطن ثورية. كذلك أشهد خطابات لجهات وكيانات محسوبة على الثورات قد فقدت روحها الإسلامية الثائرة والمعتزة وصارت تميل إلى اللغة السياسية التي تكثر فيها الاستدراكات والاحترازات.
وهذا ما يجعل الأمانة ثقيلة ثقيلة ثقيلة على من وهبهم الله شيئا في باب التفكير والتنظير ونشر الوعي لترشيد المقاومة، وفي محاولة مني لوضع خطة أمام هؤلاء الذين تحملوا هذه الأمانة للقيام بها في باب التحرر والمقاومة وجدت أن الأمر يتلخص في أربعة عوائق رئيسية:
الأولى: معرفة حكم الإسلام في المسألة مع التخلص التام من ضغط الواقع وسطوة الثقافة الغالبة.
الثانية: معرفة موقع هذا الحكم من المنظومة العامة للإسلام، وكيف سار تطبيقه في التاريخ الإسلامي، والمراحل التي مرَّ بها.
الثالثة: معرفة رؤية الحضارة الغربية لهذه المسألة نفسها في كتابات المنظرين والمفكرين والفلاسفة، وموقعها ضمن المنظومة الفكرية الغربية العامة.
الرابعة: معرفة التطبيق الغربي لهذه الفكرة في الواقع العملي، وهل جرى تطبيقها في نفس السياق الذي أراده الفلاسفة والمفكرون حين أنتجوها أم أن الفكرة المبهرة التي صيغت في الكتب لم يكن لها مجال واقعي، وظلت كاللعبة يُشار إليها للفت نظر الصبيان وتغرير المغفلين وإلهائهم؟!
إذا اكتملت في العقل هذه الأمور الأربعة اتضح طريق الهداية والنور لحركة المقاومة والتحرر أولا، ثم لسائر الحركة الفكرية التي تقاوم في ثغور الكتابة والتنظير والتفكير.
سنضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح الصورة، وسنختاره من أشهر الشبهات التي تروج في إنتاج هذه المدرسة، وسنختارها من الشبهات المتعلقة بالجهاد والمقاومة والثورة:
[1]
تُزَيَّن الديمقراطية الغربية باعتبارها النظام الذي منح الشعوب حقوق الاعتراض، ومنع السلطة من الظلم وغلَّ يدها عنه، في مقابل التراث الفقهي والنصوص التي شرعنت الظلم وشلَّت الأمة عن الاعتراض عليه، كما في الحديث "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك".
لتفكيك هذه الفكرة ينبغي تجاوز العوائق الأربعة: فهم حكم الإسلام في هذه الطاعة للأمير الظالم، ثم فهم كيف جرى تطبيق هذا الأمر في تاريخ المسلمين، ثم البحث عن رأي الفكر الغربي في هذه الطاعة، ثم البحث عن التطبيق العملي لهذه الفكرة في التاريخ الغربي الحديث.
1. سنجد أولا أن علماء الحديث مختلفون في صحة هذه الزيادة "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" فبعضهم يقول هي صحيحة، وبعضهم يقول: هي ضعيفة لا يؤخذ بها. سنمضي الآن مع من قالوا إنها صحيحة، فسنجد الفقهاء مختلفين في تنزيلها على قولين؛ الأول: أن الحاكم إذا ضرب ظهرك في عقوبة شرعية كحد الجلد في السرقة أو في الخمر وإذا أخذ مالك شرعا كالزكاة فتلك من حقوقه التي لا يجوز لك أن تخرج عليه بسببها بل تظل على الطاعة والولاء واحترام النظام، والثاني: أن الحاكم إذا ظلمك فضرب ظهرك وأخذ مالك فلا ينبغي أن يثور بك الغضب فلا تقدر عواقب الخروج عليه، بل إن كانت المصلحة في الصبر واحتمال الأذى منه أكبر من المفسدة المترتبة على الثورة والخروج عليه فاحتسب ذلك عند الله واصبر.
وهكذا نجد معنى السمع والطاعة للأمير الظالم في أدنى حالاته يساوي معنى احتمال الأذى الخاص رعاية للمصلحة العامة.
2. فإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي، وكيف فهم المسلمون الأوائل هذا النص وعملوا به، وجدنا أنفسنا أمام طوفان من الثورات والتمردات، لا سيما في الصدر الأول، وهم خير القرون وهم كذلك أفقه الأمة، فلقد سعى الأكثرون في تغيير المنكر بالسيف وإن لم يتيقنوا من قدرتهم على تغييره، وأكثر الصحابة إما قاتل مع علي أو مع معاوية ومن اعتزل فإنما اعتزل لأنه لم يتبين له الحق، وسائر الأئمة الكبار تعرضوا لغضب السلاطين وكثير منهم أنشب ثورة أو شارك فيها أو حرض عليها أو أفتى بما يدعمها، وهذا أمر يطول استقصاؤه، حتى قال الشهرستاني بأن مسألة الإمامة (أي: أمر السياسة) هو أكثر ما سُلَّ فيه السيف في الإسلام. أي أنك أمام أمة ثائرة حتى إنه ليمكن تفسير الفقه المصلحي الداعي إلى السمع والطاعة في القرون المتأخرة بأنه رد فعل على نتائج الثورات التي لم ينجح أغلبها (كما هي سيرة كل ثورات البشر في كل تاريخ البشر) فكانوا أقرب إلى التهدئة، وهو ما يظهر في قول ابن حجر المشهور بأن الخروج "مذهب للسلف قديم".
والمعنى الذي نريد قوله هنا أن المسلمون لم يتحولوا بهذا النص إلى عبيد لمن حكمهم وتغلب عليهم، ولعل دولة الأمويين هي الدولة التي واجهت أكبر عدد من الثورات في تاريخ الإسلام، وهي أول دولة ظهر فيها الحاكم المتغلب (عبد الملك بن مروان)، برغم إنجازاتها هائلة في الفتوح ونشر الإسلام ووحدة الأمة من الصين حتى فرنسا.
3. فإذا حاولنا استطلاع وفهم هذه المسألة في الفكر القانوني الغربي، الذي يُعرض لنا كواحة للعدالة في مقابل تراثنا المظلم، وجدنا عجبا.. إن المدارس القانونية الغربية تُلْزِم بطاعة القوانين غير العادلة، لأن إتاحة الخروج عليها لكل من يرى أنها غير عادلة يساوي اختلال النظام واضطراب الدولة، أي أن الفكر القانوني الغربي يُنَظِّر ويُشَرْعِن لفكرة "تسمع وتطيع للنظام وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك". هذا فضلا عن أن أصل نظرية السيادة في الفكر الغربي إنما تؤول عمليا إلى مراكز القوى (أي: المتغلب) في لحظة كتابة الدستور، أي أن المتغلب القوي هو الذي يصنع نظرية السيادة أولا ثم يصوغها في دستور ثم تتفرع عنه القوانين، التي تكون كلها ملزمة للشعوب ولا يجوز لهم خرقها ولو كان رأيهم أنها غير عادلة.
ومن فضلك لا تنسى أن المتغلب في التاريخ الإسلامي لم يكن يستطيع أن يغير المرجعية العليا الحاكمة (القرآن والسنة) ولا كان يستطيع –ولو توفرت له القدرة- أن يتغول على المساحات المجتمعية التي يتولاها العلماء والأعيان وغيرهم، لأنها محروسة أيضا بنصوص مقدسة.
4. فإذا ذهبنا إلى متابعة الواقع الغربي في تطبيق هذه الفكرة، فسنجد أن التاريخ الغربي كان مخلصا في فرض القوانين بالقهر والقوة، وفي مقاتلة الخارجين عليها مهما كانت مبرراتهم أنها غير عادلة، بل ولما تغيرت الظروف وتغيرت هذه القوانين وحصل الاعتراف بأنها لم تكن عادلة لم يحصل ردُّ الاعتبار للقتلى ولا تعويض المضارين الذين ثاروا أساسا على هذه القوانين التي اتضح بالفعل أنها غير عادلة. (انظر تفصيل هذا في هذا المقال للشيخ الفذ الأسير: إبراهيم السكران، سجين آل سعود، فرج الله عنه.. ففيه طواف في المدارس القانونية والوقائع التاريخية الغربية).
وهكذا مع تفكيك هذه العوائق الأربعة نصل بوضوح إلى أن الديمقراطية المعاصرة لا تتميز لا من حيث النظر ولا من حيث التطبيق على الشريعة الإسلامية، بل هي أدنى وأحط، لأن المستقر عندها "الخضوع للنظام ولقوانينه غير العادلة" هو المختلف فيه لدى الفقهاء، بل هو مساوٍ لأدني تفسيرتهم للطاعة رعاية للمصلحة العامة.. فضلا عن أمور أخرى كثيرة.
[2]
تُعْرض الديمقراطية المعاصرة في ثوبها اللطيف المُزَيَّن باعتبارها النظام الذي أنتج تداولا سلميا للسلطة، يذهب رئيس ويأتي رئيس، في حين ارتكست مسيرتنا الحضارية منذ لحظة تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة رعاية لمصلحة الأمة ففرط بهذا في الحق الذي معه تحت وطأة الضرورة، وهو ما أدى إلى استمرار التوريث الذي لا زال ينكبنا حتى هذه اللحظة.
لنفكك هذا الكلام في ظل العوائق الأربعة التي ذكرناها:
1. فمن حيث حكم الإسلام فنحن أمام اتفاق معروف بأن منصب الإمامة منوط باختيار الأمة، فتركه النبي ولم يُسَمِّ من بعده خليفة لكي لا يكون نصب الخليفة نصا شرعيا، وهكذا قال أبو بكر في أول خطبته، وهكذا سار العمل في زمن الراشدين.. ومنتهى القول في هذه المسألة أن مسألة التوريث هذه لم يقبلها الصحابة وكبار التابعون في زمن معاوية إلا تحت وطأة الاضطرار والخوف من وقوع الفتنة إذ يتعذر جمع الناس على خليفة يرضون به جميعا، فسَلَّموا بأن تحكم العصبة الأقوى المؤهلة لقيادة الأمة، مع بقاء الحكم الشرعي نفسه واضحا يردده الفقهاء منذ وُجِدوا إلى زماننا هذا.
أي أن الإسلام لم يشرعن التوريث، لم يحض عليه، بل ولا يقبل به إلا في حالة الاضطرار والضرورة.. هذا من حيث حكم الإسلام نفسه.. وهذا في وقتٍ كانت كل أنظمة الدنيا ملكية وراثية من الصين حتى غرب أوروبا، فالإسلام لم يكن متأثرا بالواقع الأرضي بل كان متفوقا عليه ومبتكرا لنظام تختار فيه الأمة من يحكمها، وهي الفكرة التي كان مجرد طرحها في بلاط ملكي يثير الضحك ويلقي بصاحبها في الموت متهما بالجنون!!
أما من حيث أن التوريث هو سبب نكبة الأمة الآن، ففي هذا اختلاف شديد جدا، ولا يُسَلَّم بهذا القول، فالأمة عاشت حضارتها التي ازدهرت وكانت قوة عظمى عالمية ألف سنة في ظل الملك العضوض والتوريث، ككل أمم الدنيا شرقا وغربا وككل حضارات الدنيا التي ازدهرت في ظل النظام الملكي الوراثي. وقد احتلنا الغرب ونهبنا وقهرنا منذ كانوا في نظامهم الملكي الوراثي بداية من إسبانيا الكاثوليكية التي افتتحت عصر الكشوف الجغرافية. ثم إن أمتنا منكوبة الآن على يد الملوك والعسكر الجمهوريين معا، فالنكبة تعم من ورثوا أولادهم ومن لم يورثوا.
2. العائق الثاني: كيف سار هذا الوضع في التاريخ الإسلامي؟ والإجابة: سار مسيرة الأمر الواقع الذي يسوق إليه الاضطرار، والذي لا يلقى استسلاما من بقية الأمة، بل سيرة الثورات والتمردات مستمرة، مع بقاء الضمير العام متطلعا إلى نظام الخلافة الراشدة، ومع استمرار المحاولات بقدر ما أتاحت الظروف والإمكانات، ومن وقف بجانب الملوك إنما وقف بجانب استقرار النظام وتقديم مصلحة الأمة.
3. فما هو موقع موضوع التوريث من الفكر الغربي؟ والإجابة: أنه لم تخرج فكرة التمرد على النظام الملكي نفسه وصناعة النظام الجمهوري ليحكم دولا كبيرة إلا قبل قرون قليلة (قرنان أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر)، وما قبل ذلك إنما كان الحكم الديمقراطي علامة على المدن الصغيرة سواء أكانت مدن اليونان قديما (والتي انتهت تحت جحافل الرومان) أو المدن الإيطالية في العصر الوسيط والتي انتهت أيضا تحت جحافل الملوك أو البابوات.. ولذلك ظلت فكرة الحكم الديمقراطي نفسها وإن نجحت في إدارة الشأن الداخلي إلا أنها عاجزة عن التوسع والتمدد والنجاح في دولة كبيرة بل وظلت عاجزة عن حماية نفسها من تغول الدول الكبيرة المجاورة. وهكذا ظل نظام التوريث الملكي هو النظام السائد في الفكر والتطبيق التاريخي في أوروبا إلى ما قبل عصر الثورات الجمهورية التي يؤرخ لها بالثورة الفرنسية (قبل حوالي قرنين فقط).
على أنه يُنازَع أيضا، وبقوة، في أن مسألة رفض الملكية والتوريث كانت تطورا فكريا وارتقاء غربيا في مدارج الإنسانية، بل الأمر مزيج من عوامل اقتصادية وسياسية ودينية صنعت شكل الدولة الحديثة ضد الكنيسة والملكية والإقطاع (هذا المقال مجرد مثال يثبت أن المسألة لم تكن أفكارا).
4. فما هو موقع موضوع التوريث من التطبيق الغربي؟ والإجابة: أن هذا أيضا موضع شك كبير، ففي كثير جدا من المؤلفات الغربية حديث متكرر عن أن الديمقراطية وتداول السلطة هو مجرد مسرحية تدور أمام الشعوب بينما تتحكم بها مراكز القوى الحقيقية والخفية.. تلك هي مراكز الأموال الضخمة التي تملك تمويل وتسيير وإنتاج وإخراج المسرحية السياسية، يستدلون على ذلك بكثير من الشواهد منها: أن السياسة فعليا لا تتغير مع تبدل الرؤساء إلا كما يغير أحدهم ثوبه، وأن العائلات الغنية الكبرى لا تزال هي التي تتوارث المال منذ أربعة قرون فكأنها هي العائلات الملكية التي فضَّلت ألا تكون في واجهة المسرح وقدَّمت بدلا منها عرائس تحركها من الخلف. وحركة الإنتاج الفكري التي تتحدث عن السيطرة المالية الاقتصادية على السياسة كلها –تقريبا، وفيما أعلم- تؤول إلى الحديث عن مراكز القوى الحقيقية الخفية وشبكات المصالح والسيطرة التي لا تتغير بالانتخابات، ولا تُستدعى أمام البرلمان، ولا تحاكمها وسائل الإعلام.. بل كل هذه الأمور إنما هي وسائلها التي تتحكم بها في المشهد.
إن الحديث أن الغرب بالديمقراطية المعاصرة تجاوز التوريث ووصل إلى تداول حقيقي للسلطة هو أمر مُتَنَازع فيه ومختلف فيه بقوة. وقد سجل صحافي أمريكي مشاهدات خطيرة في كتابه ذي العنوان الكاشف "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها".
والمقصود من كل ما سبق: أن التوريث الذي يُعيروننا به لم يكن شرعا بل كان اضطرارا، وليس هو بنفسه سبب النكبة (إذ حضارات العالم القديم ازدهرت في ظل أنظمة ملكية وراثية)، كما أن الغرب لم يتخلص عمليا من التوريث، وهذا التداول في السلطة مشكوك في حقيقته من الغربيين أنفسهم.
[3]
وأختم بهذا المثال، ولن أطيل فيه فقد طال المقال:
يُعيّروننا بأحكام الجهاد التي فيها جهاد الطلب، ويرون أنه اعتداء وعدوان على الأمم الأخرى ولو كانت مسالمة، بينما جاء النظام العالمي بسيادة الدول ومنع الآخرين من التدخل في شؤونها.
1. فأما حكم الإسلام في المسألة نفسها فهو متعلق بمسألة "هل الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى: السلم أم الحرب"، فالجمهور على أنه السلم وقال الشافعية بأنه الحرب، وفي المسألة تفاصيل كثيرة ليس هذا موضعها، لكنها جعلت بعض المعاصرين يجعلون المسألة على العكس فيقولون بأن الجمهور على أنها الحرب أو على أنها الدعوة.. ويُطلب الأمر في كتب الفقه لكن الذي نقصده الآن أن المسألة فيها خلاف بين الفقهاء.
ومنبع هذا الخلاف –فيما أرى- أن وقائع السيرة والتاريخ تحتمل الرأيين، فمن طبائع الواقع أن الباطل لا يطيق وجود حق إلى جواره، فسرعان ما تنشب بينهما المعركة.. ومن ثم فإن غزوات النبي وفتوحات الراشدين حين تُحلَّل فقيها فإنها لا تخلو من سبب عدائي من الطرف الآخر، ويأتي الخلاف من تقدير الفقهاء: هل لو لم يقع هذا السبب العدائي كانت ستتحرك الجيوش للغزو والفتح أم لا.
على كل حال هو نقاش نظري.. لكن المضمون العملي الكامن فيه هو: هل على الدولة الإسلامية مسؤولية أخلاقية لإنقاذ الشعوب الأخرى من الظلم والاضطهاد الواقع عليها من الأنظمة الباطشة؟ فيكون الفتح إنقاذا لها ولو لم يقع من هذا النظام الباطش بشعبه خطر على المسلمين والدولة الإسلامية؟
2. العائق الثاني: كيف جرى تطبيق هذا في تاريخ الإسلام؟ والإجابة: سبقت خلاصتها في السطور السابقة.. فقد توسعت دولة الإسلام توسعا كبيرا وغزت جيوشها أطراف الصين وحتى جنوب فرنسا، ووصلت إلى موسكو شمالا وإلى وسط إفريقيا جنوبا.. وكانت –كما نرى ونعتقد- أوسع عملية تحرير للشعوب في تاريخ البشر، ونحن الفاتحون الذين أقاموا العواصم الحضارية في أقصى الشرق والشمال وفي أقصى الغرب والجنوب بينما قصص الاحتلال هي قصص امتصاص موارد البلاد ودماء الشعوب لتتضخم عواصم الإمبراطورية.. وفي عموم التاريخ الإسلامي كانت عواصم الشرق والغرب أزهى حضاريا من مكة والمدينة وأحيانا أيضا: بغداد ودمشق (وهي عواصم الدولة الإسلامية).
3. العائق الثالث: كيف يرى الغرب مسألة جهاد الطلب؟ والإجابة: وثائق المنظمات الأممية فضلا عن إنتاجات المفكرين حافلة بأن الغرب لديه مسؤولية أخلاقية في نشر ما يراه حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية.
4. العائق الرابع: كيف كان تطبيق جهاد الطلب عمليا في التاريخ الغربي؟ والإجابة: سل خمسة قرون تبدأ من الإسبان في عصر الكشوف الجغرافية وحتى لحظة قراءتك لهذا المقال: عن استعمار إفريقيا والأمريكتين واتخاذ ملايين البشر عبيدا وطواف السفن من ماجلان وكولومبوس حتى القواعد العسكرية البحرية في المحيطات والبحار حول العالم.. الجواب واضح.
إنما المأساة هنا في أن ترى "مفكرا" ينادي على الغرب (يسميه: المجتمع الدولي) أن يتدخل لإنقاذ شعب من حاكمه الجلاد، كما في سوريا مثلا، ويرى في توجيه الضربات العسكرية للنظام ومساندة الثورة عليه عملا جليلا وإنسانيا ونبيلا.. ثم هو هو نفسه يريد أن "يجدد" الإسلام فيحذف جهاد الطلب لأنه لا يناسب المعايير المعاصرة والتقدم الإنساني الذي وصلت إليه البشرية!!
لئن كنتَ ترى أن تدخل القوي لإنقاذ الضعيف واجب إنساني.. فما الذي جعله بردا وسلاما للأمريكان ووثائق المنظمات الدولية حرًّا ونارا على المسلمين وتراثهم الفقهي؟!!
الخلاصة:
أكثر تشغيبات الذين يريدون "تجديد" الإسلام وتنقيح تراثه الفقهي وتطويره بما يتلاءم مع العصر هم في الحقيقة منسحقون أمام الثقافة الغالبة، ومن شدة انسحاقهم تشوهت لديهم معرفة ثقافتهم ومعرفة الثقافة الغالبة معا.. وهذا أمر لا بد لا بد لا بد أن تتحرر منه حركات المقاومة والتحرر، فلا مقاومة ولا تحرر إلا بنفسية تؤمن بأنها الأصلح والأحق وأنها على الخير والهدى، وحتى يتحقق ذلك فالأمانة التي على واجب العلماء والفقهاء والمفكرين والكتاب أن يحللوا كل مسألة في ضوء هذه العوائق الأربعة لتتضح الصورة التي نؤمن بها أننا خير أمة أخرجت للناس، وأننا جند الله وقدره الغالب ولو بعد حين!
نشر في مجلة كلمة حق
Published on September 05, 2018 12:09
September 1, 2018
الحج.. الفريضة المقاوِمة
شاء الله تعالى أن ننتهي من سلسلة رصد الأوضاع في مصر قبل وبعد الحداثة من خلال رحلتي حج، في نفس الشهر الذي تظللنا فيه أيام الحج.. وكلما ظللنا مشهد الحج عرفت لماذا تمنى المستشرق الفرنسي كيمون أن تهدم الكعبة، وينبش قبر النبي ويوضع رفاته في متحف اللوفر. وهذا الرأي عرفناه بالأصالة لأن الذي نقله كان هو وزير الخارجية الفرنسي مسيو هانوتو، كان هذا الأخير منزعجا ومتعجبا من مقاومة الجزائريين وأنهم لا يقبلون الخضوع لفرنسا رغم فارق القوة وتطاول الزمن وفداحة التكاليف.. رأى كيمون أن قبر النبي كالعمود الكهربي الذي يبث أفكاره في المسلمين الذين يتحولون إلى مجانين بهذه الأفكار، ولقد كانت ألفاظه الأصلية من الوقاحة والحقد بحيث أخجل من نقلها كما هيإن الحج فريضة إسلامية تقاوم كل ما أريد أن يُغرس في الأمة ويرسخ فيها قسرا وقهرا، وهو فريضة تذكر الأمة بما أريد لها أن تنساه، فلا يزال الحج يُقاوم التقسم القُطري ويذكرها بأنها أمة واحدة، لا يزال يقاوم الأفكار التي تجعلها أقواما وأعراقا ويذكرها بأن هويتها الإسلام، لا يزال يقاوم ما ينشب بينها من الخلافات ويذكرهم بالألفة ووحدة المسار والمسير المصير، لا يزال يقاوم صناعة الأعداء الوهميين وتسويقهم فيها ويذكرهم بأن عدوهم الشيطان، لا يزال يقاوم ما يراد لهم من الانهمار على الدنيا واتباع الشهوات ويذكرهم بمشهد الكفن والحشر يوم القيامة.
قد منع الله الجدال في الحج فيجتهد الناس في لزوم الألفة ويحملون أنفسهم على كبح الغضب والمسامحة والنزول على رأي أحدهم بسلاسة فيرتد هذا على أنفسهم في بقية حياتهم، وإن مواقع التواصل الاجتماعي تزخر بموقف وقع بين مصري وجزائري أو بين باكستاني ومغربي أو بين حجازي وإندونيسي فيتذكر الجميع ما بينهم من الرابطة والرحم.
هذا الحج هو أحد أهم الدعائم التي جعلت الأمة المسلمة في هذه الصورة من المتانة والترابط والتلاحم عبر خمسة عشر قرنا، مهما تقسمت الأنظمة السياسية ومهما حاولت تقسيمهم، ومهما اختلفت ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم، ومن أهم ما أذكره في هذا الباب أني كنت في مؤتمر علمي بالسودان عن طرق الحج وآثارها المتعددة، وتحدث عدد من الأساتذة عن أن رحلة الحج أدت إلى رسوخ المذهب المالكي في السودان وفي الشمال الإفريقي لأن الحجاج المغاربة كانوا يقطعون الطريق إلى الحج عبر السودان. فعقب أستاذ سوداني بلفتة بديعة، فهو يرى أن مذهب المالكية في الحج مما ساهم في ترابط المغاربة بالمشارقة وذلك أن المالكية يجعلون القدرة على الحج هي فقط القدرة الصحية، فيعذرون المريض لكن لا يعذرون الفقير، ومذهبهم أن يخرج الصحيح فيعمل حتى يوفر أجر الطريق فيسير فيه ثم يعمل حتى يوفر أجر الطريق، وهكذا حتى يصل.. ومن ثَمَّ كان الحجاج المغاربة بمن فيهم الفقراء الأصحاء ملزمون بالحج، وهو ما ساعد على كثرة الحجاج من بلاد المغرب وغرب إفريقيا.
بقيت الفريضة قائمة في نفوس المسلمين التي تتشوق للبيت الحرام وزيارة مسجد النبي، حتى في الأوقات التي كان الطريق فيها مخيفا وموحشا كان الحجاج يفدون من مشارق الأرض ومغاربها حتى وإن غلب على ظنهم وظن أهاليهم أنها الرحلة الأخيرة، بلا عودة.. وبمثل هذا ظلت الرابطة الإسلامية تجدد نفسها كل عام مرة كبيرة، بخلاف مرات غير معدودة من سنة العمرة والزيارة.
لذلك، فمنذ أن دخلت أمتنا في عصر الاستضعاف ورزحت تحت الاحتلال والحكومات العلمانية حتى عملت كثير من تلك الأنظمة على التضييق على الحج، وما من حكومة نشأت في تلك البلاد إلا واعتدت على أوقاف الحج، وهي أوقاف ضخمة مرصودة بكل بلاد الإسلام للإنفاق على الحرمين تنتج أموالا غزيرة، وهو ما أثر سلبا على أوضاع الحرمين، فضلا عن الصدقات الأخرى والعادات التي كانت تؤديها الإمارات الإسلامية من أموالها أو التي كان يتبرع بها الناس، فكل هذا قد توقف مع الدخول في الدولة القومية الحديثة التي بسطت سيادتها على سائر ما في أراضيها من الموارد وتحكمت فيها، والأصل أن الأوقاف أموال محبوسة لله وليس للحكومات عليها سبيل. ولولا الطفرة النفطية في الجزيرة العربية لكانت أحوال الحرمين الآن مزرية للغاية وتشهد بهذا الضرر الخطير.
كذلك فقد ضيقت بعض الحكومات على الحج نفسه، وقد روى شكيب أرسلان في رحلته إلى الحج (التي كانت 1930م) أن حجاج الأناضول حُرِموا من الحج "لأن مصطفى كمال (أتاتورك) يأبي أن ينفق التركي شيئا من ماله في بلاد عربية، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه. وياليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر والميسر والألبسة الإفرنجية"وأشد من ذلك وأشنع ما فعلته الأنظمة الشيوعية في الصين وفي آسيا الوسطى وفي أوروبا الشرقية، والتاريخ حافل بآلام وأهوال في حظرهم الحج أو تشديد المراقبة عليه أو تعذيب وقتل من ثبت أنه تسلل خفية إلى الحج، وهذا التاريخ لا يزال أكثره مجهول لأن أهله ليسوا من العرب، ولأن كثيرا من تلك البلاد لا تزال في نفس الحال أو أهون قليلا.
والخلاصة أن الحج هو مؤتمر المسلمين السنوي الذي يكافح كل ما أريد أن تنساه الأمة، ويغرس كل ما أريد خلعه روح الأمة، وهو لهذا مصدر خطر على كل عدو لهذه الأمة، فلست تجد عدوا لها إلا وهو متوجس من الحج ساعٍ في عرقلته ورفع كلفته وصد الناس عنه وتشديد الرقابة عليه.
نشر في مجلة المجتمع
Published on September 01, 2018 12:00
August 27, 2018
لماذا يحتفل الأتراك بمعركة ملاذ كرد؟
تمر اليوم ذكرى معركة ملاذ كرد (26 أغسطس 1071م)، وقد أقام لها أردوغان احتفالا مشهودا، وسارعت وسائل الإعلام تغطي ذكرى هذه المعركة.. فما أهمية هذه المعركة؟ ولماذا هي من بين آلاف المعارك التي خاضها السلاجقة والعثمانيون التي يجعلها أردوغان علامة تستحق الاحتفاء؟
سأحاول تقديم صورة عن هذا الموضوع بأوجز عبارة ممكنة إن شاء الله
[1]
كانت الإمبراطورية البيزنطية هي أشد القوى السياسية عداء للإسلام وصلابة في مواجهته طوال ثمانية قرون، وكانت عاصمتها القسطنطينية تحتوي على الكنيسة العظمى (أيا صوفيا) التي هي عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في كل العالم. وكانت هذه الإمبراطورية هي القوة المسيحية العظمى.
للمسيحية تاريخيا عاصمتان كبريان: القسطنطينية وروما.. في الأولى أيا صوفيا، وفي الثانية: الفاتيكان.. وقد كانت بشرى النبي بفتح المسلمين لهما تساوى البشرى بانتصار الإسلام وسيادته على العالم.
تحققت البشرى الأولى بعد ثمانية قرون على يد السلطان محمد الفاتح، ولا زال المسلمون ينتظرون نصف الوعد بفتح روما.
لكن الذي يهمنا الآن أن روما في وقت النبي كانت ضعيفة ومفككة، وكانت القوة المسيحية التي تصدت للإسلام وعرقلت انتشاره في أوروبا هي الدولة البيزنطية التي أخفق المسلمون فتح عاصمتها القسطنطينية رغم محاولاتهم الكثيرة المضنية منذ زمن الدولة الأموية وحتى الدولة العثمانية.
يمكن اختصار التاريخ الطويل المرير بين دولة الإسلام والدولة البيزنطية في ثلاث معارك فارقة: اليرموك، ملاذ كرد، فتح القسطنطينية.
1. معركة اليرموك أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي نهائيا من الشام ثم من مصر.2. معركة ملاذ كرد أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي من الأناضول، وصار بإمكان المسلمين أن يشاهدوا كنيسة أيا صوفيا من الطرف الآسيوي.. لذلك تسمى ملاذ كرد بـ "اليرموك الثانية".3. فتح القسطنطينية هي المعركة الأخيرة التي أزالت الإمبراطورية البيزنطية نفسها وفتحت الطريق أمام انتشار الإسلام في شرق أوروبا والذي وصل إلى فيينا.
بين كل معركة وأخرى أربعة قرون: اليرموك (15 هـ) وملاذ كرد (463 هـ) وفتح القسطنطينية (857 هـ)
أي أن ملاذ كرد هي المحطة الثانية من ثلاث محطات في انتشار الإسلام وسقوط القوة المسيحية العظمى. ولهذا فهي واحدة من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام.
[2]
وقعت المعركة في منتصف القرن الخامس الهجري، وكان هذا القرن من قرون الصحوة الإسلامية في المشرق والمغرب.لقد عاشت الأمة الإسلامية القرنَ الرابع الهجري في حال ضعف قوية، وسيطرة شيعية شاملة، فالبويهيون يسيطرون على فارس والعراق، والقرامطة على الجزيرة العربية والشام، والدولة العبيدية الفاطمية الإسماعيلية على مصر والشمال الإفريقي.. ولم ينجُ من هذا الوضع البائس إلا الأندلس والمغرب الأقصى التي كانت تعيش واحدة من أعظم ازدهارها تحت حكم عبد الرحمن الناصر ثم ابنه المستنصر ثم الحاجب المنصور بن أبي عامر.
في القرن الخامس تغير الحال، دخلت الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتضعضعت قوتها، بينما نبغ في الشرق الدولة الغزنوية التي فتحت الهند، ثم السلجوقية التي اكتسحت الدولة الشيعية، وفي المغرب نبغت دولة المرابطين التي منعت الأندلس من السقوط وتضعضعت الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وزالت عن الشمال الإفريقي.
ما يهمنا الآن هم السلاجقة:
السلاجقة من الجنس التركي، وقد تكونت دولتهم في المشرق ثم قويت حتى استحالت عاصفة كبيرة حكمت خراسان ثم فارس ثم العراق وصارت على حدود الشام.. وأنقذت الخلافة العباسية من الدولة البويهية الشيعية التي سيطرت عليها مدة 113 عاما، وصار طغرل بك (زعيم الدولة) هو الرجل الأقوى في العالم الإسلامي.
في فترات الضعف السابقة كانت الدولة البيزنطية قد استطاعت احتلال الكثير من الأراضي التي فتحها المسلمون في آسيا الصغرى وإرمينية، وصارت تهاجم الشام، ومدنها الكبرى كحلب وأنطاكية وتنفذ مذابح كثيرة في منبج وفي شرق آسيا الصغرى.
لما توفي طغرل بك آل السلطان من بعده إلى ابن أخيه ألب أرسلان (تعني بالتركية: الأسد الثائر)، فإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية التي سيواجهها ألب أرسلان سيكون الوضع كالآتي:
1. البيزنطيون صاروا يهاجمون الشام ويستبيحون مدنه.. بينما الدولة العبيدية الفاطمية في مصر قد تضعضت ولا تستطيع الدفاع عن الشام الذي كان تابعا لها، بل على العكس من ذلك يرى الطرفان (العبيديون والبيزنطيون) أن عدوهما القادم هو السلاجقة الذين يحكمون دولة شاسعة تمتد من خراسان حتى الشام ومن حدود أرمينية حتى المحيط الهندي.. وبالفعل كان بين الطرفين تحالف ضد هذا العدو السني القوي القادم.
2. مناطق التنازع والاحتكاك بين هاتين القوتين: في مناطق إرمينية والجزيرة الفراتية.. وكليهما كانتا قبل الآن مناطق إسلامية لكن الضعف الإسلامي في القرون الماضية أدخلهما تحت سلطان أو تهديد البيزنطيين والعبيديين.
ولذلك شهدت هذه المناطق حركتان متوازيتان: ألب أرسلان يفتح مناطق في إرمينية وآسيا الصغرى، وإمبراطور الروم البيزنطيين يهاجم المناطق الجنوبية من آسيا الصغرى ويصل إلى الشام.
كان اللقاء حتميا..
[3]
جمع إمبراطور الروم حشدا رهيبا يقدر بمائتي ألف مقاتل وخرج به إلى نواحي أرمينية وفي خطته أن يكمل المسير إلى العراق ثم إلى فارس حتى يدمر عاصمة السلاجقة (الري) ومن شديد ثقته بقوته أعطى كل أمير أرضه التي سيتولى عليها في طول هذه البلاد.
وكان ألب أرسلان في الطريق بين ديار بكر وحلب فبلغه هذا الحشد الرهيب لإمبراطور الروم.. ولأسباب تختلف المصادر فيها كثيرا لم يكن معه من الجيش في ذلك الوقت إلا خمسة عشر ألفا من الجنود، لكنهم كانوا من نخبته المتميزة.
كان الجيش الرومي يتكون من سائر العناصر العرقية التي تحكمها الإمبراطورية البيزنطية: الروس والكرج واليونان والأرمن فضلا عن الروم فضلا عن أتراك من مجموعات لم تعتنق الإسلام.
لم يكن أمام ألب أرسلان في هذا الظرف العصيب الذي لم يستطع فيه حشد الجنود إلا أن يطلب الهدنة.. لكنه لو طلبها من موقع ضعف فلن يُستجاب له بحال، تلك هي قاعدة السياسة والقوة التي يفهمها الجميع.. فلذلك دبَّر أمره لكي يوقع بمقدمة الجيش البيزنطي التي تسبقه بمسافة -وكانت من الروس- ثم يرسل في طلب الهدنة.
وبالفعل، استطاع خوض معركة قوية سحق فيها المقدمة الروسية التي تتكون من عشرين ألف جندي، فحسَّن وضعه التفاوضي، وأرسل سفيره يطلب الهدنة.. لكن الإمبراطور ذي المائتي ألف لم يبال أن هلك له عشرون ألفا، فقال ساخرا: سأرد على هذا العرض حين أصل الري!
هنا لم يعد أمام ألب أرسلان إلا الانسحاب ومحاولة الإعداد.. أو الاندفاع في هذه المغامرة المجنونة والتي فيها احتمال هلاك نخبته المكونة من خمسة عشر ألف جندي مرة واحدة!
كان الانسحاب يعني خسارة نتائج الأعوام الماضية من الفتوح في أرمينية وشمال الشام، ويعني انهيار الروح المعنوية لدى الجنود المسلمين، كما يعني مئات آلاف القتلى والجرحى والسبايا في المدن المسلمة.. ويعني تعاظم الروح المعنوية لدى البيزنطيين وازدياد القوى العسكرية بمن سينضم إليهم من بلاد إرمينية والكرج وأذربيجان ونصارى شمال الشام.
قرر ألب أرسلان أن يخوض المعركة..
وشجعه على ذلك الفقيه الذي كان في الجيش نصر بن عبد الملك البخاري، قائلا: إنك تقاتل عن دين قد وعد الله بنصره.
[4]
كان ألب أرسلان في حاجة إلى أمرين معا: أن يجعل جيشه في أقصى طاقته المعنوية والقتالية، وأن يضع خطة عسكرية تكسر التفوق العددي والعُدَدي الهائل بينه وبين الروم (15 ألفا مقابل 200 ألف).
فعلى مستوى الطاقة المعنوية أعلن أنه قد تخلى عن منصبه كسلطان، وقال: ليس هاهنا اليوم سلطان يأمر ولا جُنْد يُؤمر، فمن أراد البقاء للقتال بقي ومن أراد أن يرجع رجع.. وخلع ثوب السلطنة ولبس الثياب البيض (أي: الكفن) وقال: إن قتلت فمن حواصل النسور الغبر إلى حواصل الطير الخضر رمسي، وإن انتصرت فإني أُمْسِي ويومي خير من أمسي.
وعقد يده بذنب خيله (علامة على الثبات وعدم الفرار)، ونزل ومرغ وجهه في التراب وتضرع إلى الله.. وكانت وصية فقيهه أن يؤجل المعركة إلى ساعة الزوال من يوم الجمعة حتى تدركه دعوات المسلمين على المنابر.
وكان هو قبل ذلك قد أرسل إلى الخليفة في بغداد يخبره، فأمر الخليفة بعض الفقهاء بوضع دعاء موحد، وزعه على المساجد، وفيه الدعاء لألب أرسلان وجيشه.
وكان من البشريات العاجلة أنهم اكتشفوا الجيش البيزنطي وقد حفر خندقا حول معسكره، فعلموا أن هذا دليل على خوفهم وخشيتهم وأنهم لا يتمتعون بما أظهره الإمبراطور من ثقة كاملة في نصره.
وعلى مستوى الخطة العسكرية فإن مجموع ما وصلنا من الروايات التاريخية يؤدي بنا إلى القول بأنها كانت كالآتي:
- كان الهمّ الأول والأكبر لجيش ألب أرسلان منع التطويق، ومن ثم فقد وضع قطعة من جيشه في كمين خلف طريق الجيش البيزنطي ليثخن فيه من الخلف ويشاغله ويعرقله.
- عند لحظة انتشاب القتال سيتحول الجيش كله إلى ما يشبه السهم، ليتحرك حركة سريعة وخاطفة إلى قلب الجيش مباشرة حيث خيمة الإمبراطور نفسه، وبهذا تنقسم مهمة الجيش إلى من يصدون ويشاغلون ويفتحون الطريق، وإلى نخبة أخرى تخترق هذه الصفوف بأقصى ما تملك من سرعة لتصل إلى خيمة الإمبراطور فتقتله وتشيع خبره فينهار الجيش الكبير.
وهو ما كان فعلا.. لم تلبث المعركة كثيرا حتى كان بعض نخبة السلطان ألب أرسلان قد اخترق خيمة الإمبراطور فنزع عن رأسه التاج، ووضعه فوق رمح ونادى بأن الإمبراطور قتل، فيما كان جندي آخر قد جرده من ملابسه الإمبراطورية وسحبه أسيرا.. وما إن انتبه الجيش إلى التاج المرفوع فوق رمح حتى انهار وتفتت وانسحب لا يلوي على شيء.
يضطرب كثير من المؤرخين في محاولة وصف أسباب الهزيمة مع وجود هذا الفارق العددي الكبير، ولذلك تتنوع اجتهاداتهم في تحليل ما حدث.
البعض يرفع من عدد جيش المسلمين حتى يوصله إلى خمسين ألفا أو مائة ألف، ويخفض من جيش الروم حتى يوصله إلى مائة ألف.. والبعض يعزو الهزيمة إلى اختلاف أجناس الجيش البيزنطي وعدم اتساقه وانسجامه.. والبعض يذكر خيانة وقعت من بعض القادة غير الروم للإمبراطور الرومي مما أدى لهذه الهزيمة.. والبعض يذكر أن المجموعات التركية التي كانت في جيش الروم تخلت عنه وانحازت لبني قومها الترك وإن لم تكن على دينهم.. والبعض يقول انقلب اتجاه الريح ليصير في وجه الجيش البيزنطي مما ساعد حركة الجيش الإسلامي.
لكن القدر المشترك المتفق عليه بين الروايات، ولا سيما الروايات الإسلامية، هو هذا الفارق الهائل في العدد والعدة، وفي أن المعركة لم تطل وكانت سريعة، وفي أمور تضرع السلطان وحماسة جنده وترتيبه أن تبدأ المعركة لحظة ارتقاء الخطباء المنابر.
[5]
كانت هذه أعظم نتيجة يحققها جيش إسلامي على جيش بيزنطي، فلم يسبق من قبل أن استطاع الجيش المسلم أسر الإمبراطور، وغاية ما حصل قبل ذلك أن الإمبراطور أصيب كما في معركة ذات الصواري -زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه- أو كان جيشه ينتصر في أوقات الضعف الإسلامية في منطقة شرق آسيا الصغرى وشمال الشام.
لهذا لم تكن الصدمة التي نزلت بالروم صدمة عسكرية فقط أدت إلى انهيار الجيش، بل كانت صدمة سياسية أيضا، إذ ترتب عليها صراع في بلاط الحكم حول الإمبراطور القادم.
كانت حالة أرمانوس -الإمبراطور الأسير- مريعة، وقد ظهر منه هذا إلى حد أن السلطان ألب أرسلان قرر أن يُطلقه.. فالذي تلقى صدمة الهزيمة أنفع للمسلمين وهو في الحكم من إمبراطور جديد قد يطلب الثأر.. فالقاعدة أن القيادات المنهزمة المنهارة أفضل لعدوها من القيادات الجديدة الناشئة.
رأى ألب أرسلان بفراسته أن أرمانوس هذا لن يفكر مرة أخرى في حرب المسلمين، فقرر إطلاقه، مقابل جزية سنوية (مليون ونصف المليون دينار) وإطلاق كل أسرى المسلمين لدى الروم، وهدنة خمسين سنة.. وقد وافق على هذا كله، ثم نظر ناحية بغداد -حيث الخليفة- وانحنى كعلامة على الخضوع والتعظيم.
ولما عاد إلى عاصمته كان منبوذا من قومه، ولم يستطع أن يعود إلى ملكه، بل قُبِض عليه وسَمَلوا عينيه لكي لا يصلح للحكم ولكي ينتهي أمله.
فكانت ميتته بيد قومه بعد هزيمة ساحقة لم تلق الإمبراطورية البيزنطية مثلها من المسلمين من قبل.
لكن النتيجة الأهم التي جعلت لمعركة ملاذ كرد تأثيرها العظيم في التاريخ هو أن قوة الإمبراطورية البيزنطية انتهت تماما من كل أملاكها في الأناضول وبلاد أرمينية.. لقد صارت هذه الأنحاء ضمن نفوذ المسلمين، وتكاثر فيها المسلمون، ودخل كثير من أهاليها في الإسلام.. ولم يخرج الإسلام من تلك المناطق أبدا فيما بعد إلا قبل مائة سنة مع الحرب العالمية الأولى التي انتزعت أرمينية وجورجيا وأذربيجان.
فكانت هذه المعركة هي بداية سكنى الأتراك منطقة الأناضول.. وهي المنطقة التي سيظلون بها أربعة قرون أخرى، حتى إذا انتهت الدولة السلجوقية من هناك كانت الدولة العثمانية قد ولدت، وهي التي ستستكمل مهمة الفتح حتى تفتح القسطنطينية ثم شرق أوروبا حتى فيينا.
لهذا يحتفل الأتراك بهذه المعركة باعتبارها المعركة الفاصلة التي أسكنتهم هذه الأرض وجعلتها قلعة الإسلام قرونا ثم قلعة الخلافة قرونا.
[6]
استغربت حين سمعت كلمة دولت بهجلي -رئيس الحزب القومي التركي- كأنها كانت كلمة رئيس حزب إسلامي (إلا قليلا).. وأشد ما لفت نظري في كلمته أنه قال: إن الروم الذين هزمناهم لم ينتهوا بعد، بل إنهم لا زالوا أحياء ولا زالوا يقاتلوننا ولا يزالون يبثون الفتن بين المسلمين.
نعم.. إن الغرب لا يزال يتخوف من الأتراك باعتبار أنهم كثيرا ما قلبوا ميزان القوة لصالح المسلمين، ومعركة ملاذ كرد هي واحدة من أهم هذه اللحظات الكبرى الحاسمة!
لقد اتضح بعد هذه الهزيمة أن الدولة البيزنطية بدأت عصر الغروب، ورغم أنها استمرت أربعة قرون بعد هذه اللحظة إلا أن ملاذ كرد قد اضطربت لها الكنائس الغربية التي بدأت تشعر بالارتياع من الزحف الإسلامي إلى أوروبا. لا سيما وأنه لم تمض خمس عشرة سنة على هذه الهزيمة إلا وكان المرابطون يحققون نصرا حاسما آخر في الزلاقة يطيلون به عمر الأندلس أربعة قرون أخرى.
إثر هاتين الهزيمتين استيقظت المسيحية الأوروبية وقررت أن تدافع عن المسيحية بنفسها بعد انهيار ثقتها بالحصن البيزنطي الذي يحمي المسيحية من الشرق، وهي الصحوة التي ولدت فيما بعد أشهر حدث في التاريخ: الحروب الصليبية.
من المؤسف أن دولة السلاجقة (وإن بقيت في الأناضول أربعة قرون) إلا أنها دخلت في طور ضعف بعد وفاة السلطان ألب أرسلان ثم ابنه ملكشاه.. واستطاعت الجيوش الصليبية أن تخترق الأناضول وتهزم السلاجقة في منطقة الروم لتستقر في الشام قرنين من الزمان حتى يكون انكسارهم على يد صلاح الدين بعد نحو القرن ثم نهايتهم تماما على يد المماليك بعد نحو قرن آخر.. وتلك الحروب الصليبية كانت لها آثار واسعة ليس هذا مجال بيانها.
لكن المهم في سياقنا هذا الآن، أن الكتابات الغربية تنظر للأتراك المعاصرين وترى فيهم السلاجقة كما ترى فيهم العثمانيين، وتتخوف من نهضة معاصرة تجدد ملاذ كرد وفتح القسطنطينية مرة أخرى. والتراث الغربي تجاه العثمانيين حافل بما يجعل ذكراهم مرعبة ومثيرة للفزع.
هذا شعور الغرب نحو المسلمين جميعا، لكن الخطر الذي يرونه الآن أقرب إليهم هو خطر الأتراك.. وهو الأمر الذي يعرفه أردوغان ويستدعيه ويجدد ذكراه ويثير حماسة الأتراك به، وهكذا تفعل الأمم الناهضة: تحيي تاريخها ولحظات مجدها.
لكن أسوأ ما يحدث هنا أن هذه الظروف تجعل من نصر ملاذ كرد يبدو وكأنه نصر تركي، بينما الحقيقة أنه نصر إسلامي لا شك في ذلك.. فما كان في الزمن القديم معنى القومية العرقية العنصرية التي زرعها فينا الاحتلال وعملاؤه من بعده..
ولذلك، فبقدر ما يحتفل المسلمون في كل مكان بهذا النصر بقدر ما يتحرر النصر من هذه الصبغة القومية الضيقة ليكون نصرا من انتصارات المسلمين ويوما من أيام الله.
نشر في مدونات الجزيرة
سأحاول تقديم صورة عن هذا الموضوع بأوجز عبارة ممكنة إن شاء الله
[1]
كانت الإمبراطورية البيزنطية هي أشد القوى السياسية عداء للإسلام وصلابة في مواجهته طوال ثمانية قرون، وكانت عاصمتها القسطنطينية تحتوي على الكنيسة العظمى (أيا صوفيا) التي هي عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في كل العالم. وكانت هذه الإمبراطورية هي القوة المسيحية العظمى.
للمسيحية تاريخيا عاصمتان كبريان: القسطنطينية وروما.. في الأولى أيا صوفيا، وفي الثانية: الفاتيكان.. وقد كانت بشرى النبي بفتح المسلمين لهما تساوى البشرى بانتصار الإسلام وسيادته على العالم.
تحققت البشرى الأولى بعد ثمانية قرون على يد السلطان محمد الفاتح، ولا زال المسلمون ينتظرون نصف الوعد بفتح روما.
لكن الذي يهمنا الآن أن روما في وقت النبي كانت ضعيفة ومفككة، وكانت القوة المسيحية التي تصدت للإسلام وعرقلت انتشاره في أوروبا هي الدولة البيزنطية التي أخفق المسلمون فتح عاصمتها القسطنطينية رغم محاولاتهم الكثيرة المضنية منذ زمن الدولة الأموية وحتى الدولة العثمانية.
يمكن اختصار التاريخ الطويل المرير بين دولة الإسلام والدولة البيزنطية في ثلاث معارك فارقة: اليرموك، ملاذ كرد، فتح القسطنطينية.
1. معركة اليرموك أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي نهائيا من الشام ثم من مصر.2. معركة ملاذ كرد أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي من الأناضول، وصار بإمكان المسلمين أن يشاهدوا كنيسة أيا صوفيا من الطرف الآسيوي.. لذلك تسمى ملاذ كرد بـ "اليرموك الثانية".3. فتح القسطنطينية هي المعركة الأخيرة التي أزالت الإمبراطورية البيزنطية نفسها وفتحت الطريق أمام انتشار الإسلام في شرق أوروبا والذي وصل إلى فيينا.
بين كل معركة وأخرى أربعة قرون: اليرموك (15 هـ) وملاذ كرد (463 هـ) وفتح القسطنطينية (857 هـ)
أي أن ملاذ كرد هي المحطة الثانية من ثلاث محطات في انتشار الإسلام وسقوط القوة المسيحية العظمى. ولهذا فهي واحدة من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام.
[2]
وقعت المعركة في منتصف القرن الخامس الهجري، وكان هذا القرن من قرون الصحوة الإسلامية في المشرق والمغرب.لقد عاشت الأمة الإسلامية القرنَ الرابع الهجري في حال ضعف قوية، وسيطرة شيعية شاملة، فالبويهيون يسيطرون على فارس والعراق، والقرامطة على الجزيرة العربية والشام، والدولة العبيدية الفاطمية الإسماعيلية على مصر والشمال الإفريقي.. ولم ينجُ من هذا الوضع البائس إلا الأندلس والمغرب الأقصى التي كانت تعيش واحدة من أعظم ازدهارها تحت حكم عبد الرحمن الناصر ثم ابنه المستنصر ثم الحاجب المنصور بن أبي عامر.
في القرن الخامس تغير الحال، دخلت الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتضعضعت قوتها، بينما نبغ في الشرق الدولة الغزنوية التي فتحت الهند، ثم السلجوقية التي اكتسحت الدولة الشيعية، وفي المغرب نبغت دولة المرابطين التي منعت الأندلس من السقوط وتضعضعت الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وزالت عن الشمال الإفريقي.
ما يهمنا الآن هم السلاجقة:
السلاجقة من الجنس التركي، وقد تكونت دولتهم في المشرق ثم قويت حتى استحالت عاصفة كبيرة حكمت خراسان ثم فارس ثم العراق وصارت على حدود الشام.. وأنقذت الخلافة العباسية من الدولة البويهية الشيعية التي سيطرت عليها مدة 113 عاما، وصار طغرل بك (زعيم الدولة) هو الرجل الأقوى في العالم الإسلامي.
في فترات الضعف السابقة كانت الدولة البيزنطية قد استطاعت احتلال الكثير من الأراضي التي فتحها المسلمون في آسيا الصغرى وإرمينية، وصارت تهاجم الشام، ومدنها الكبرى كحلب وأنطاكية وتنفذ مذابح كثيرة في منبج وفي شرق آسيا الصغرى.
لما توفي طغرل بك آل السلطان من بعده إلى ابن أخيه ألب أرسلان (تعني بالتركية: الأسد الثائر)، فإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية التي سيواجهها ألب أرسلان سيكون الوضع كالآتي:
1. البيزنطيون صاروا يهاجمون الشام ويستبيحون مدنه.. بينما الدولة العبيدية الفاطمية في مصر قد تضعضت ولا تستطيع الدفاع عن الشام الذي كان تابعا لها، بل على العكس من ذلك يرى الطرفان (العبيديون والبيزنطيون) أن عدوهما القادم هو السلاجقة الذين يحكمون دولة شاسعة تمتد من خراسان حتى الشام ومن حدود أرمينية حتى المحيط الهندي.. وبالفعل كان بين الطرفين تحالف ضد هذا العدو السني القوي القادم.
2. مناطق التنازع والاحتكاك بين هاتين القوتين: في مناطق إرمينية والجزيرة الفراتية.. وكليهما كانتا قبل الآن مناطق إسلامية لكن الضعف الإسلامي في القرون الماضية أدخلهما تحت سلطان أو تهديد البيزنطيين والعبيديين.
ولذلك شهدت هذه المناطق حركتان متوازيتان: ألب أرسلان يفتح مناطق في إرمينية وآسيا الصغرى، وإمبراطور الروم البيزنطيين يهاجم المناطق الجنوبية من آسيا الصغرى ويصل إلى الشام.
كان اللقاء حتميا..
[3]
جمع إمبراطور الروم حشدا رهيبا يقدر بمائتي ألف مقاتل وخرج به إلى نواحي أرمينية وفي خطته أن يكمل المسير إلى العراق ثم إلى فارس حتى يدمر عاصمة السلاجقة (الري) ومن شديد ثقته بقوته أعطى كل أمير أرضه التي سيتولى عليها في طول هذه البلاد.
وكان ألب أرسلان في الطريق بين ديار بكر وحلب فبلغه هذا الحشد الرهيب لإمبراطور الروم.. ولأسباب تختلف المصادر فيها كثيرا لم يكن معه من الجيش في ذلك الوقت إلا خمسة عشر ألفا من الجنود، لكنهم كانوا من نخبته المتميزة.
كان الجيش الرومي يتكون من سائر العناصر العرقية التي تحكمها الإمبراطورية البيزنطية: الروس والكرج واليونان والأرمن فضلا عن الروم فضلا عن أتراك من مجموعات لم تعتنق الإسلام.
لم يكن أمام ألب أرسلان في هذا الظرف العصيب الذي لم يستطع فيه حشد الجنود إلا أن يطلب الهدنة.. لكنه لو طلبها من موقع ضعف فلن يُستجاب له بحال، تلك هي قاعدة السياسة والقوة التي يفهمها الجميع.. فلذلك دبَّر أمره لكي يوقع بمقدمة الجيش البيزنطي التي تسبقه بمسافة -وكانت من الروس- ثم يرسل في طلب الهدنة.
وبالفعل، استطاع خوض معركة قوية سحق فيها المقدمة الروسية التي تتكون من عشرين ألف جندي، فحسَّن وضعه التفاوضي، وأرسل سفيره يطلب الهدنة.. لكن الإمبراطور ذي المائتي ألف لم يبال أن هلك له عشرون ألفا، فقال ساخرا: سأرد على هذا العرض حين أصل الري!
هنا لم يعد أمام ألب أرسلان إلا الانسحاب ومحاولة الإعداد.. أو الاندفاع في هذه المغامرة المجنونة والتي فيها احتمال هلاك نخبته المكونة من خمسة عشر ألف جندي مرة واحدة!
كان الانسحاب يعني خسارة نتائج الأعوام الماضية من الفتوح في أرمينية وشمال الشام، ويعني انهيار الروح المعنوية لدى الجنود المسلمين، كما يعني مئات آلاف القتلى والجرحى والسبايا في المدن المسلمة.. ويعني تعاظم الروح المعنوية لدى البيزنطيين وازدياد القوى العسكرية بمن سينضم إليهم من بلاد إرمينية والكرج وأذربيجان ونصارى شمال الشام.
قرر ألب أرسلان أن يخوض المعركة..
وشجعه على ذلك الفقيه الذي كان في الجيش نصر بن عبد الملك البخاري، قائلا: إنك تقاتل عن دين قد وعد الله بنصره.
[4]
كان ألب أرسلان في حاجة إلى أمرين معا: أن يجعل جيشه في أقصى طاقته المعنوية والقتالية، وأن يضع خطة عسكرية تكسر التفوق العددي والعُدَدي الهائل بينه وبين الروم (15 ألفا مقابل 200 ألف).
فعلى مستوى الطاقة المعنوية أعلن أنه قد تخلى عن منصبه كسلطان، وقال: ليس هاهنا اليوم سلطان يأمر ولا جُنْد يُؤمر، فمن أراد البقاء للقتال بقي ومن أراد أن يرجع رجع.. وخلع ثوب السلطنة ولبس الثياب البيض (أي: الكفن) وقال: إن قتلت فمن حواصل النسور الغبر إلى حواصل الطير الخضر رمسي، وإن انتصرت فإني أُمْسِي ويومي خير من أمسي.
وعقد يده بذنب خيله (علامة على الثبات وعدم الفرار)، ونزل ومرغ وجهه في التراب وتضرع إلى الله.. وكانت وصية فقيهه أن يؤجل المعركة إلى ساعة الزوال من يوم الجمعة حتى تدركه دعوات المسلمين على المنابر.
وكان هو قبل ذلك قد أرسل إلى الخليفة في بغداد يخبره، فأمر الخليفة بعض الفقهاء بوضع دعاء موحد، وزعه على المساجد، وفيه الدعاء لألب أرسلان وجيشه.
وكان من البشريات العاجلة أنهم اكتشفوا الجيش البيزنطي وقد حفر خندقا حول معسكره، فعلموا أن هذا دليل على خوفهم وخشيتهم وأنهم لا يتمتعون بما أظهره الإمبراطور من ثقة كاملة في نصره.
وعلى مستوى الخطة العسكرية فإن مجموع ما وصلنا من الروايات التاريخية يؤدي بنا إلى القول بأنها كانت كالآتي:
- كان الهمّ الأول والأكبر لجيش ألب أرسلان منع التطويق، ومن ثم فقد وضع قطعة من جيشه في كمين خلف طريق الجيش البيزنطي ليثخن فيه من الخلف ويشاغله ويعرقله.
- عند لحظة انتشاب القتال سيتحول الجيش كله إلى ما يشبه السهم، ليتحرك حركة سريعة وخاطفة إلى قلب الجيش مباشرة حيث خيمة الإمبراطور نفسه، وبهذا تنقسم مهمة الجيش إلى من يصدون ويشاغلون ويفتحون الطريق، وإلى نخبة أخرى تخترق هذه الصفوف بأقصى ما تملك من سرعة لتصل إلى خيمة الإمبراطور فتقتله وتشيع خبره فينهار الجيش الكبير.
وهو ما كان فعلا.. لم تلبث المعركة كثيرا حتى كان بعض نخبة السلطان ألب أرسلان قد اخترق خيمة الإمبراطور فنزع عن رأسه التاج، ووضعه فوق رمح ونادى بأن الإمبراطور قتل، فيما كان جندي آخر قد جرده من ملابسه الإمبراطورية وسحبه أسيرا.. وما إن انتبه الجيش إلى التاج المرفوع فوق رمح حتى انهار وتفتت وانسحب لا يلوي على شيء.
يضطرب كثير من المؤرخين في محاولة وصف أسباب الهزيمة مع وجود هذا الفارق العددي الكبير، ولذلك تتنوع اجتهاداتهم في تحليل ما حدث.
البعض يرفع من عدد جيش المسلمين حتى يوصله إلى خمسين ألفا أو مائة ألف، ويخفض من جيش الروم حتى يوصله إلى مائة ألف.. والبعض يعزو الهزيمة إلى اختلاف أجناس الجيش البيزنطي وعدم اتساقه وانسجامه.. والبعض يذكر خيانة وقعت من بعض القادة غير الروم للإمبراطور الرومي مما أدى لهذه الهزيمة.. والبعض يذكر أن المجموعات التركية التي كانت في جيش الروم تخلت عنه وانحازت لبني قومها الترك وإن لم تكن على دينهم.. والبعض يقول انقلب اتجاه الريح ليصير في وجه الجيش البيزنطي مما ساعد حركة الجيش الإسلامي.
لكن القدر المشترك المتفق عليه بين الروايات، ولا سيما الروايات الإسلامية، هو هذا الفارق الهائل في العدد والعدة، وفي أن المعركة لم تطل وكانت سريعة، وفي أمور تضرع السلطان وحماسة جنده وترتيبه أن تبدأ المعركة لحظة ارتقاء الخطباء المنابر.
[5]
كانت هذه أعظم نتيجة يحققها جيش إسلامي على جيش بيزنطي، فلم يسبق من قبل أن استطاع الجيش المسلم أسر الإمبراطور، وغاية ما حصل قبل ذلك أن الإمبراطور أصيب كما في معركة ذات الصواري -زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه- أو كان جيشه ينتصر في أوقات الضعف الإسلامية في منطقة شرق آسيا الصغرى وشمال الشام.
لهذا لم تكن الصدمة التي نزلت بالروم صدمة عسكرية فقط أدت إلى انهيار الجيش، بل كانت صدمة سياسية أيضا، إذ ترتب عليها صراع في بلاط الحكم حول الإمبراطور القادم.
كانت حالة أرمانوس -الإمبراطور الأسير- مريعة، وقد ظهر منه هذا إلى حد أن السلطان ألب أرسلان قرر أن يُطلقه.. فالذي تلقى صدمة الهزيمة أنفع للمسلمين وهو في الحكم من إمبراطور جديد قد يطلب الثأر.. فالقاعدة أن القيادات المنهزمة المنهارة أفضل لعدوها من القيادات الجديدة الناشئة.
رأى ألب أرسلان بفراسته أن أرمانوس هذا لن يفكر مرة أخرى في حرب المسلمين، فقرر إطلاقه، مقابل جزية سنوية (مليون ونصف المليون دينار) وإطلاق كل أسرى المسلمين لدى الروم، وهدنة خمسين سنة.. وقد وافق على هذا كله، ثم نظر ناحية بغداد -حيث الخليفة- وانحنى كعلامة على الخضوع والتعظيم.
ولما عاد إلى عاصمته كان منبوذا من قومه، ولم يستطع أن يعود إلى ملكه، بل قُبِض عليه وسَمَلوا عينيه لكي لا يصلح للحكم ولكي ينتهي أمله.
فكانت ميتته بيد قومه بعد هزيمة ساحقة لم تلق الإمبراطورية البيزنطية مثلها من المسلمين من قبل.
لكن النتيجة الأهم التي جعلت لمعركة ملاذ كرد تأثيرها العظيم في التاريخ هو أن قوة الإمبراطورية البيزنطية انتهت تماما من كل أملاكها في الأناضول وبلاد أرمينية.. لقد صارت هذه الأنحاء ضمن نفوذ المسلمين، وتكاثر فيها المسلمون، ودخل كثير من أهاليها في الإسلام.. ولم يخرج الإسلام من تلك المناطق أبدا فيما بعد إلا قبل مائة سنة مع الحرب العالمية الأولى التي انتزعت أرمينية وجورجيا وأذربيجان.
فكانت هذه المعركة هي بداية سكنى الأتراك منطقة الأناضول.. وهي المنطقة التي سيظلون بها أربعة قرون أخرى، حتى إذا انتهت الدولة السلجوقية من هناك كانت الدولة العثمانية قد ولدت، وهي التي ستستكمل مهمة الفتح حتى تفتح القسطنطينية ثم شرق أوروبا حتى فيينا.
لهذا يحتفل الأتراك بهذه المعركة باعتبارها المعركة الفاصلة التي أسكنتهم هذه الأرض وجعلتها قلعة الإسلام قرونا ثم قلعة الخلافة قرونا.
[6]
استغربت حين سمعت كلمة دولت بهجلي -رئيس الحزب القومي التركي- كأنها كانت كلمة رئيس حزب إسلامي (إلا قليلا).. وأشد ما لفت نظري في كلمته أنه قال: إن الروم الذين هزمناهم لم ينتهوا بعد، بل إنهم لا زالوا أحياء ولا زالوا يقاتلوننا ولا يزالون يبثون الفتن بين المسلمين.
نعم.. إن الغرب لا يزال يتخوف من الأتراك باعتبار أنهم كثيرا ما قلبوا ميزان القوة لصالح المسلمين، ومعركة ملاذ كرد هي واحدة من أهم هذه اللحظات الكبرى الحاسمة!
لقد اتضح بعد هذه الهزيمة أن الدولة البيزنطية بدأت عصر الغروب، ورغم أنها استمرت أربعة قرون بعد هذه اللحظة إلا أن ملاذ كرد قد اضطربت لها الكنائس الغربية التي بدأت تشعر بالارتياع من الزحف الإسلامي إلى أوروبا. لا سيما وأنه لم تمض خمس عشرة سنة على هذه الهزيمة إلا وكان المرابطون يحققون نصرا حاسما آخر في الزلاقة يطيلون به عمر الأندلس أربعة قرون أخرى.
إثر هاتين الهزيمتين استيقظت المسيحية الأوروبية وقررت أن تدافع عن المسيحية بنفسها بعد انهيار ثقتها بالحصن البيزنطي الذي يحمي المسيحية من الشرق، وهي الصحوة التي ولدت فيما بعد أشهر حدث في التاريخ: الحروب الصليبية.
من المؤسف أن دولة السلاجقة (وإن بقيت في الأناضول أربعة قرون) إلا أنها دخلت في طور ضعف بعد وفاة السلطان ألب أرسلان ثم ابنه ملكشاه.. واستطاعت الجيوش الصليبية أن تخترق الأناضول وتهزم السلاجقة في منطقة الروم لتستقر في الشام قرنين من الزمان حتى يكون انكسارهم على يد صلاح الدين بعد نحو القرن ثم نهايتهم تماما على يد المماليك بعد نحو قرن آخر.. وتلك الحروب الصليبية كانت لها آثار واسعة ليس هذا مجال بيانها.
لكن المهم في سياقنا هذا الآن، أن الكتابات الغربية تنظر للأتراك المعاصرين وترى فيهم السلاجقة كما ترى فيهم العثمانيين، وتتخوف من نهضة معاصرة تجدد ملاذ كرد وفتح القسطنطينية مرة أخرى. والتراث الغربي تجاه العثمانيين حافل بما يجعل ذكراهم مرعبة ومثيرة للفزع.
هذا شعور الغرب نحو المسلمين جميعا، لكن الخطر الذي يرونه الآن أقرب إليهم هو خطر الأتراك.. وهو الأمر الذي يعرفه أردوغان ويستدعيه ويجدد ذكراه ويثير حماسة الأتراك به، وهكذا تفعل الأمم الناهضة: تحيي تاريخها ولحظات مجدها.
لكن أسوأ ما يحدث هنا أن هذه الظروف تجعل من نصر ملاذ كرد يبدو وكأنه نصر تركي، بينما الحقيقة أنه نصر إسلامي لا شك في ذلك.. فما كان في الزمن القديم معنى القومية العرقية العنصرية التي زرعها فينا الاحتلال وعملاؤه من بعده..
ولذلك، فبقدر ما يحتفل المسلمون في كل مكان بهذا النصر بقدر ما يتحرر النصر من هذه الصبغة القومية الضيقة ليكون نصرا من انتصارات المسلمين ويوما من أيام الله.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on August 27, 2018 00:55