محمد إلهامي's Blog, page 18

July 3, 2019

هل نحتاج "قراءة ثانية" للإسلام؟


ثلاث حلقات حتى الآن من برنامج "قراءة ثانية" الذي يبثه التليفزيون العربي، ومع أن مسار الحلقات يدل على نفسه من الحلقة الأولى إلا أن أصحاب حسن الظن لا يشعرون بالكارثة إلا حين تقع على رؤوسهم، ولات حين مندم!
تريد القراءة الثانية للإسلام أن تنقل ثوابت الإسلام التي استقر عليها المسلمون أربعة عشر قرنا إلى مساحة الخلاف، لكي يبدو الموضوع خلافيا محتملا، فناقشت الحلقة الأولى مسألة الدولة وهل في الإسلام دولة؟ وقالت الحلقة الثانية: وهل في الإسلام حد الرجم؟ وقالت الثالثة: وهل يلزم أن ترث المرأة نصف الرجل؟.. ونتوقع أن تكون الحلقات التالية عن نفي حد الردة، وتجويز رئاسة الكافر للدولة المسلمة، وإمكانية استبدال الشريعة بالقوانين الوضعية، وتجويز خلع الحجاب والاكتفاء بالحشمة وسفر المرأة بغير محرم، وتعديل مفهوم الجهاد ليكون فقط دفاعا وفقط ضد المحتل الصهيوني.. إلى آخر هذه الموضوعات المحفوظة.
هي موضوعات محفوظة لأنها منتظمة في خط واحد، هو خط تطويع الإسلام للثقافة الغربية الغالبة، ولذلك لا يُعرض النقاش إلا في مواضع التناقض والاحتكاك بين الإسلام، وهذه الموضوعات لم تكن مطروحة في عالم المسلمين من قبل لأنه لم تكن ثمة حالة انهزامية تفرض عليهم مراجعة دينهم وتقديم قراءة ثانية له كي تتوافق مع رغبات الغالبين!
ومما يدل على أن المطلوب ليس مراجعة علمية حقيقية لبعض الآراء التراثية أن البرنامج لن (أكرر: لن) يعرض موضوعا ليبدو فيه أكثر تشددا وأصالة مما هو شائع، فلن نجد فيه حلقة تذكر المسلمين بضرورة الجهاد في مناطق محتلة مثل الشام والعراق وأفغانستان، ولن نجد حلقة تروج لمواجهة الاستبداد المحلي أو الحلول الممكنة اقتصاديا للخروج من أسر النظام المصرفي العالمي، ولن نجد حلقة تروج لتعدد الزوجات باعتباره حلا مجتمعيا يعالج الكثير من الأزمات، ولن نجد حلقة تُرَوِّج للنقاب باعتباره زي أمهات المؤمنين وكمقاومة لحالة الإباحية المنتشرة عالميا.. وهكذا!
يضع البرنامج لنفسه شكلا محايدا، ضيفان يتوزع بينهما الوقت، لكن روح البرنامج تبدو واضحة في لحن القول وفي التقرير الذي يسبق الحلقة وفي اختيار الضيوف وأمور أخرى.
ومن الطريف أن البرنامج سيستمر على هذه الشاكلة حتى يصير مجمعا للآراء الشاذة:
1. ففي حلقة هل في الإسلام دولة اعتمد الضيف على أن لفظ الدولة بدلالته المعاصرة لم يرد في القرآن والسنة ولم يفهمه الصحابة ولا عموم الفقهاء كما نفهمه الآن، وتكلف أن يفرِّغ كل لفظ قرآني أو نبوي من معناه الواضح ليؤوله إلى معنى آخر. مما يوحي أنه لو وُجِد اللفظ الصريح في القرآن أو السنة أو عمل الصحابة فلم نكن لنختلف؟!
2. لكن في الحلقة الثانية: هل في الإسلام رجم؟ وُجِد اللفظ الصريح في السنة المتواترة، ومع ذلك تمسك الضيف بأن اللفظ لم يرد في القرآن، واصطنع قاعدة تقول بأن ما جاء في القرآن وحده هو الحد وما جاء في السنة تعزير!مما يوحي –لمرة أخرى- أن الأمر لو جاء في القرآن فلم نكن لنختلف!
3. لكن جاءت الحلقة الثالثة لتناقش نصا صريحا في القرآن (للذكر مثل حظ الأنثيين)! لتسعى في اطراحه واستبدال نصوص أخرى به، نصوص من كتاب حقوق الإنسان الليبرالي الغربي المعاصر الذي صار أصلح من كتاب الله، وتجميلا للطرح يُقال: كان كتاب الله صالحا لزمان نزوله ولبيئة العرب وأحكامه ارتبطت بأوضاع هذا الزمان والمكان. وهذا القول الخطير (وهو المذهب التاريخاني) مقتضاه أن كتاب الله لم يكن وحيا نازلا من السماء فوق الزمان والمكان وإنما هو نتاج بيئته ومن ثم فهو ليس وحيا وإنما اختراع من محمد الذي لن يستطيع الانفكاك من بيئته وهو يقدم رسالته.
وهكذا لم يعد الأمر قراءة علمية بأي معنى، بل هو اتجاه مغرض، يسعى لتطويع الإسلام في قالب الثقافة الغربية الغالبة، اتجاه يتحول به القرآن والسنة من موقع المرجعية العليا والحاكم على ما سواه إلى موقع المشكلة والعقبة التي تحول دون ظهورنا أمام الأجانب بمظهر عصري إنساني يوافق هواهم وثقافتهم.
ولذا سنحتاج في حلقة الدولة علي عبد الرزاق مهما كان قوله شذوذا عن علماء المسلمين، وسنحتاج في حلقة الرجم إلى أبي زهرة والقرضاوي مهما كان قولهما شذوذا عن علماء المسلمين، وسنحتاج في حلقة المواريث إلى من هم خارج أهل العلم بالكلية كنصر أبو زيد وشحرور والحداثيين المناهضين للشريعة كلها، فالشأن أننا سنجمع من كلٍّ قَوْلَه الذي شذَّ فيه لنقدم دينا جديدا، فإن لم نجد من الفقهاء ذهبنا لغيرهم.
ولكن، ومع هذا، ربما يثور السؤال: ألسنا في حاجة إلى قراءة جديدة للإسلام؟
والإجابة على هذا السؤال تنطوي على إجابة سؤالين قبله؛ الأول: ما هو غرض هذه القراءة الجديدة؟ والثاني: ما هي وسائلنا وحدودنا في هذه القراءة الجديدة؟
فأما غرض القراءة الجديدة فلا يخرج عن اتجاهين، فإما أن نقرأ لنفهم مراد الله والوصول إلى اجتهاد معاصر يضبط حركتنا في ظل ما نحن فيه من نوازل كثيرة وتغيرات هائلة، وإما أن نقرأ لنحاول تقريب الإسلام من دين آخر أو ثقافة أخرى. القراءة الأولى هي عمل المجتهدين وأمانة العلماء إذ هم ورثة الأنبياء وهي واجبٌ عليهم بالمقام الأول وهذا لا يعترض عليه أحد بل يشعر كل مخلص لدينه وأمته بالحاجة إليه، وأما القراءة الثانية فهي عين الضلال والانحراف وتبديل الدين ولا يقدم عليها إلا منهزم فكريا ونفسيا أمام بريق الغالبين وهذا الذي يُعتَرَض عليه ويشعر كل مخلص لدينه وأمته أنه الخطر العظيم.
وأما وسائلنا وحدودنا في تقديم هذه القراءة الجديدة، أو بالأحرى تقديم الاجتهاد الشرعي، فقد ناقشه العلماء قديما مناقشة علمية بديعة فاستخرجوا قاعدة ذهبية تضع أساسا وفارقا راسخا بين القراءة الجديدة التي هي اجتهاد منضبط وبين القراءة الجديدة التي هي ضلال وانحراف.
تقول القاعدة "إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قوليْن لم يَجُز لمن بعدهم إحداث قول ثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه، وإلا جاز".
وهذه القاعدة فرع عن موضوع الإجماع، ومعنى الإجماع ببساطة أن العلماء إذا أجمعوا على قول كان قولهم هذا هو الحق وهو مراد الله، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وخلاف العلماء في باب الإجماع يقع في ضبطه لا في أصله، بمعنى أنه يختلفون هل وقع في هذه المسألة إجماع أم لم يقع؟ لا أنهم يختلفون في كون الإجماع ملزما أو غير ملزم.
ومعناها بتبسيط شديد أنه إذا حصل إجماع على قولٍ لم يكن جائزا القولُ بخلاف هذا الإجماع، لأنه رمي للأمة بالضلالة وبأنها عاشت سنينا وقرونا ضالة عن الحق ومجتمعة على هذه الضلالة، وهو أمر ينسف الدين نفسه، لأنه إن أجمع الصحابة على أمر ولم يكن حقا لم يكن ثمة معنى للقرآن ولا السنة، فإنهم هم الذين نزل القرآن عليهم وكان النبي بينهم، فإن أخطأ هؤلاء فهم ما نزل عليهم وما وقع بينهم وأجمعوا على الضلالة فلن يكون القرآن ولا السنة هداية لأحد من بعد. ولذلك فدليل الإجماع أقوى من دليل النص الذي يحتمل أكثر من معنى، لأنه اتفاق أهل العلم على معنى بعينه.
ولكن: إذا اختلف أهل العلم في مسألة على قولين اثنين، هل يكون من الجائز اتخاذ قول ثالث؟ أجابوا بأنه غير جائز، لأن اختلافهم على قولين اثنين هو إجماع على ضلالة وبطلان القول الثالث، وإذا اختلفوا على ثلاثة أقوال فهو إجماع على بطلان القول الرابع.. وهكذا!
وبعض العلماء وضع تفصيلا يقول: بأن القول الثالث إن كان يخرج عن القولين فهو باطل، وإن كان يستفيد منهما ويؤلف بينهما فهو جائز لأنه لا يخرج عنهما. ولهم في هذا تدقيق يُرجع إليه في كتب الأصول والقواعد الأصولية، وفيها نقاش علمي بديع يشهد لعقولهم بالعبقرية والسعة واستشراف ثغرات الضلال والتفلت.
ربما يخطر بالبال أن هذا تضييق وتشدد، ولكن الذي يعلم ثراء الفقه وتعدد أقوال العلماء يعلم تماما أنه ليس ضيقا بحال، فبعض المسائل اختلف فيها أهل العلم على أربعين قولا وزيادة، ولكن الثوابت الكبرى لم يختلفوا فيها، وإنما هذه القاعدة وشبيهاتها ضمانٌ ألا يخرج الاجتهاد عن الحق، وألا يكون مضادا لإجماع الأمة الذي إن جاز الخروج عليه لم يبق الدين كله، وإلا فماذا يمنع أن يباح الزنا والربا والخمر والقتل والظلم والسرقة والخيانة بل والشرك بالله وعبادة الأصنام؟! فليس من فكرة إلا ويُستطاع تزيينها وفلسفتها لتبدو براقة ومقبولة.
كل شيء يمكن تقديم قراءة جديدة له ليتحول من مرذول إلى مقبول، وها نحن في زمن تسير المرأة فيه شبه عارية ويُرى أن هذا من حقوقها، ويُقَطِّع فيه الناس ثيابهم ليسايروا الموضة التي كانت قبل سنين معدودة عملا مستبشعا يدل على الفقر وسوء الحال فصار الآن يدل على الغنى والأناقة، ويقال فيه: الصلاة في مسجد أوغندا أكثر بركة من الصلاة في الأقصى، ويقال فيه: اللواط والسحاق حق لمن أراد ويُجَرَّم من يدينه أو من يكره فاعليه.. إلى آخر كل هذه الأمور التي كانت قبل سنوات أو عقود ثوابت إنسانية عامة لا تعرض للنقاش!
لهذا، فإن تقديم قراءة جديدة للإسلام لا بد أن ينضبط بألا يخرج عن إجماع المسلمين، هذا إن كانت تهدف حقا للوصول إلى الحق وفهم مراد الله مع الخضوع والتسليم لله وحكمته والإيمان بأن هذا الدين وحيٌّ من عنده. أما بغير هذا الضابط فهذا في حقيقته محاولة تبديل الدين واستخراج نسخة جديدة بطلب من سلطة النظام العالمي.
أخيرا يجب التأكيد على أنه ليس كل من يعتنق رأيا يخالف فيه السابقين هو بالضرورة متآمر أو أو خبيث أو عميل، بل فيهم من نحسبه من المخلصين –والله حسيبه- وفيهم متبحرون في العلم وإنما شذوا في مسائل –والكمال لله وحده- وفيهم من نحسبه حريصا على خدمة الدين وتحسينه للناس لدعوتهم إليه، ولكن حديثنا هنا هو حديث عن المشروع والسياق الكبير الذي يحاول جمع الشذوذات في سياق واحد، لتكوين الدين الجديد، وهو المشروع الذي تنفق فيه الأموال والجهود.
وشهيرةٌ هي قصة شيخ جمع شذوذ الفقهاء في كتاب يقدمه إلى السلطان ليوافق فيه لذاته، فوضع له كتابة في إباحة الخمر والمتعة والمعازف، فلما عرضه الخليفة المعتضد على القاضي إسماعيل بن إسحاق الذي بهت لما فيه وقال: «يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق. فقال: كيف؟ فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر (المعتضد) بتحريق ذلك الكتاب».
وعلى هذا المثال: فعلي عبد الرازق لم ينكر الرجم ولا نادى بالتسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، وأبو زهرة والقرضاوي يثبتان ضرورة الدولة للإسلام وأنه دين ودولة ولم ينادِ أحدهما بالتسوية في المواريث، وهكذا..
لكن.. ترى هل كان عنوان الكتاب الذي أحرقه المعتضد أيضا «قراءة ثانية»!!
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 03, 2019 04:36

June 26, 2019

لماذا يستطيع أمثال مدحت شلبي أن يحكموا مصر؟


يعيد الفيديو المشهور لمدحت شلبي الحديث مجددا عن مستوى ثقافة العسكر الذي يحكمون بلادنا بالظلم والقهر. فاللواء السابق الذي بلغ السبعين من عمره لا يعرف خريطة الوطن العربي، ويطلب بكل براءة من ضيفه الموريتاني أن يتحدث باللغة الموريتانية، ثم يندهش للغاية حين يعرف أن موريتانيا بلد عربي وأن أهلها يتكلمون العربية كلغة أم.
يشبه الأمر أن تسأل إنجليزيا وببراءة: أين تعلم الإنجليزية؟ ولماذا اسمه يبدو إنجليزيا للغاية هكذا؟! ثم يتصادف ولسوء الحظ أن يكون هذا الإنجليزي من بلد اشتهر بالشعر الإنجليزي.
لأن مدحت شلبي نفسه لا يستطيع التحدث بالعربية لخمس دقائق من تلقاء نفسه، فهو بالضرورة لا يعرف أن موريتانيا وعلماء بلاد شنقيط هم الذين يضرب بهم المثل في الحفظ وإنشاء الشعر، حتى كاد كل علم لديهم يتحول إلى منظومة شعرية، حتى القوانين الوضعية نظمها بعض علمائهم في قصائد شعرية بلغت آلاف الأبيات.
على أن هذا ليس أخطر ما في الأمر، الخطوة الحقيقية كامنة في أن مدحت شلبي وأمثاله هم النخبة السياسية والإعلامية الحاكمة الآن في مصر، لا يعرف الواحد منهم وقد بلغ السبعين خريطة الوطن العربي ولا أسماء البلاد العربية، فضلا عن أن يعرف ما وراء ذلك عن تاريخها وثقافتها وشعوبها.
ليس هذا الموقف الأول ولن يكون الأخير، إنما هو حلقة في سلسلة ممتدة لا تبدأ برئيس يرى نفسه طبيب الفلاسفة ولا تنتهي بعسكري صنع جهازا لعلاج الإيدز بالكفتة!
إنها لعنة الجهل المسلح.. وحين يُمسك الجاهل بالسلاح تخضع له رقاب الآخرين، ومنهم من يطمع فيما لديه من الدنيا فينشيء فيه الأشعار ويفلسف له جهالاته ويبتكر له النظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من تخريفاته حكمة وفصل الخطاب.
لكن: إذا كانوا جهلة فكيف تسنى لهم أن يحكموا ويقهروا العلماء والمثقفين؟ وإذا كان السيسي وفريقه على هذا القدر من الحماقة فكيف استطاعوا خداع أساتذة الجامعة حتى أنزلوهم من سدة الحكم وألقوهم في غيابات السجن وعلَّقوهم على أعواد المشانق؟!
يمكن أن يكون هذا السؤال مثيرا للاستغراب في حالة واحدة: أن يكون هؤلاء قد وصلوا إلى ما هم فيه بإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية، أما وحيث كانوا مجرد أدوات تابعة ومُسَيَّرة ومُوَجَّهَة بواسطة الريموت الأمريكي، فإن العجب يزول.
يتعلم العسكر وعناصر الأمن في بلادنا فنون الحكم والسيطرة على الشعوب، والكليات الأمنية والعسكرية في البلاد العربية متطورة المناهج في هذا الجانب، وقد أتيح لي قبل سنوات الجلوس إلى أحد أولئك الذين درسوا في ظرف استثنائي في كلية أمنية فاطلعت على شيء من هذا الجانب. وهو ما يفسر كفاءة العنصر الأمني في مراوغة وتوظيف وخداع من كانوا أكبر منه سنا وأغزر علما وأوسع ثقافة، مثلما يستطيع الجاسوس أن يتقن مهمته في التنكر والتقنع بشخصية أخرى ويخدع بهذا من يفوقه في سائر العلوم والمعارف الأخرى.
وما قصة أمتنا في خلال القرن الماضي إلا قصة أمة باسلة بذلت الدماء والأرواح ثم سُرِقت منها الثورات وحروب التحرير والاستقلال على موائد التفاوض وبالاختراقات الأمنية وبتصعيد العملاء والجواسيس.
لم يكن عبد الناصر –مثلا- أذكى الناس في مصر، لكنه استطاع أن يصعد فوق أكتاف الجميع، بعض السر يتكشف حين تنظر في كتب مايلز كوبلاند وولبر كراين إيفيلاند وغيرها من الكتب التي روت كيف صُنِع حكم عبد الناصر، ولكن الذي يهمنا الآن أنه بينما يضطرب المفكرون والمثقفون ويختلفون اختلافا واسعا حول ما يجب فعله فيما بعد الثورة فإن الخبراء الأمنيين لا يختلفون كثيرا على إجابة هذا السؤال، في كتاب مايلز كوبلاند "لعبة الأمم" سنجد نصائح ثمينة لحكومة جاءت بعد ثورة، هذه النصائح تمثل خلاصة العلوم الاجتماعية والسياسية والخبرة التاريخية، قُدِّمت لعبد الناصر الذي لم يكن مؤهلا لأن يصل إليها بنفسه.
ولا ريب أن السيسي، وقد اعترف أنه كان على تواصل يومي بوزير الدفاع الأمريكي في فترة ما قبل الانقلاب وما بعدها، لديه من يأمر ويشير ويوجِّه من الخبراء الأمريكان، فإن قدراته الذهنية كما تتضح من خطاباته أضأل وأقل من أن تُمَكِّنه من ممارسة الحكم بكفاءة.
فالركن الأول من إجابة هذا السؤال تكمن في أن هؤلاء العسكر وأجهزتهم الأمنية لم ينتصروا على أساتذة الجامعات والمثقفين بمجرد مواهبهم الذاتية، وإنما لأن خلفهم دعم جبار من مراكز صناعة الحكام والحكومات وإسنادها، لا بمجرد الخبرة الأمنية والعسكرية فحسب، بل بالخبرة السياسية والتاريخية كذلك.
والركن الثاني أن دراسة العلوم الأمنية أهم في وظيفة الحكم من دراسة العلوم الأخرى، والمبتدئ في الدراسات الأمنية يستطيع أن يُوَظِّف الخبير في الهندسة والكيمياء وغيرها. والعلوم الأمنية ليست فرعا مستقلا من العلوم بل هي في واقع الحال خلاصة العلوم الإنسانية: السياسة والاجتماع والإدارة وعلم النفس ولكن في صورة عملية أكثر من كونها دراسة نظرية. فتدريبٌ واحد على فنون الإقناع أكثر أهمية ونفعا عمليا من دراسات مطولة في علم النفس والاجتماع ونحوه. ومنذ أن انفصلت العلوم الاجتماعية عن الفلسفة النظرية، أو لنقل: منذ أن تخلص حقل العلوم الاجتماعية من هيمنة الفلسفة وصار يعتمد على التجارب العملية لا على البناء النظري الفلسفي، منذ ذلك الوقت فإن العلوم الاجتماعية أمكن توظيفها عمليا على يد المؤسسات من بعد ما كان الحال مقتصرا على كونها مواهب إنسانية يتمتع بها الزعماء.
وبدون الخوض في هذا التفصيل النظري بين فروع العلوم، فالذي يهمنا في هذا السياق أن التدريب الذي يتعرض له عنصر أمني ليؤدي مهماته بكفاءة يجعله أقدر على هضم وتوظيف خلاصات العلوم الاجتماعية أكثر بكثير من أساتذة تدريسها نظريا في الجامعات! بل ويمكنه توظيف هؤلاء لصالحه أيضا!
مدحت شلبي الذي يعرف تفاصيل حياة لاعبي الكرة الأجانب لا يعرف أن موريتانا دولة عربية، لكن الوظيفة التي يتولاها مدحت شلبي في تسريب القناعات الدولتية السيساوية لجماهير الكرة تأتي بثمارها. وأحمد موسى الذي هو مثال في الجهل وانحطاط الأخلاق وقذارة اللسان يؤدي وظيفته في غراسة أفكار السيسي ونظامه في شرائح شعبية واسعة. لم يكن الجهل العام مانعا من أداء الوظيفة الصغيرة بكفاءة ضمن المنظومة الأكبر.
إذا وسَّعنا دائرة النظر أكثر، فسنرى عسكريا مثل القذافي يرى أن حل المشكلة في فلسطين بتسمية إسرائيل وإنشاء مسجد أقصى في أي مكان، هذا القذافي استطاع أن يحكم بلدا أربعين سنة!! المسألة ببساطة أن المعرفة التي تلقاها وأتقنها هي معرفة وسائل السيطرة على الحكم (مسنودا برغبة أجنبية طبعا) أكثر من معرفتها بقيمة وقداسة المسجد الأقصى.
لذلك يجلس أمثال القذافي في البحرين، يجتمعون لبيع مقدسات المسلمين، وربما يتمكنون من تنفيذ مخططهم هذا وإجبار الناس عليه، وليس يشعر أحدهم أنه يرتكب عار التاريخ وفضيحة الدهر وأنها السبة واللعنة التي ستطارد ذِكره ونَسْلَه من بعده. ذلك أن المعرفة التي تلقاها في المدارس الأجنبية أو الكليات الأجنبية أو البعثات الخارجية (وأغلب طبقة الحكام في بلادنا الآن نشؤوا في مدارس أو على الأقل كليات أجنبية أو بعثات خارجية) لم يكن في محتواها قداسة فلسطين والمسجد الأقصى. بل غاية ما يمكن أن تمثله فلسطين والأقصى في منظومتهم المعرفية أن تكون شعارا يُستعمل ويُوَظَّف كأداة في سياستهم الداخلية والخارجية.
كان لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني (1916 – 1922) يحفظ أسماء القرى في الأرض المقدسة (فلسطين) بينما كان يجهل جنرال عربي الأهمية العسكرية للقدس فلم يحفل بسقوطها كما روى أمين الحسيني في مذكراته، ومع هذا فلم يكن الجنرال العربي خائنا بل كان عربيا مخلصا كما ذكر الحسيني، لكن القدس وأهميتها العسكرية وموقعها الجغرافي لم يكن ضمن المعرفة العسكرية التي تلقاها.
لهذا ينتصرون علينا رغم أنهم جهلة بأبسط ما نعرفه، ولهذا ينهزم أمامهم أساتذة الجامعات رغم أنهم علماء ومثقفون.
نشر في الخليج أون لاين 
3 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on June 26, 2019 04:30

June 19, 2019

رحل مرسي وبقيت قصته مثلا وعبرة


عند لحظة الانقلاب على مرسي لم يكن أحد يعرف أنه قد بقي في عمره أقل من ست سنوات، أي أنه في كل الأحوال لم يكن ليُكمل فترتيْن في الرئاسة، حتى لو فاز بفترة ثانية! فإن أجل المرء لا يتقدم ساعة ولا يتأخر منذ أن قدَّره الله ومهما كانت الأسباب.
وهنا يأتي السؤال: ماذا كان سيكون مصير مصر والمنطقة لو أن مرسي توفي رئيسا بعد استقرار تجربة الديمقراطية والحكم المدني في مصر؟ هل كانت مصر والمنطقة ستكون أحسن حالا أم أسوأ حالا؟!
يجب أن يقف أمام هذا السؤال أولئك الذين فرغ صبرهم بعد عام واحد من حكم الرجل، وها هم يسيرون في العام الخامس تحت حكم السيسي، الذي مهَّد لنفسه بتعديل دستوري لا يزال ساخنا ليستكمل به للحكم مدى الحياة!
لكن يأتي قبل هذا سؤال آخر أهم منه: هل كان يستطيع مرسي أن يستمر في الحكم؟ أم أن انتخابه من قبل الجماهير على الطريقة الديمقراطية ليس شيئا كافيا لهذا؟
لا أظننا نحتاج جدالا كثيرا في الإجابة على هذا السؤال: ستة أعوام كافية لتقديم الإجابة الشافية الوافية الكافية على هذا السؤال.. باستطاعتنا أن نقول باطمئنان: إن فكرة الديمقراطية كحلّ قد وُضِعت في قبرها مع مرسي، ومثلما ستنفض الحالة السياسية يدها من عودة مرسي فينبغي على الحالة الفكرية أن تنفض يدها من الحل الديمقراطي كذلك! فإن الدبابة التي دهست مرسي حتى قتلته ثم شيعته في الظلام إلى قبره دهست معه فكرة الديمقراطية نفسها!
لقد تصرف مرسي كما ينبغي أن يتصرف حاكم ديمقراطي يقرأ من كتاب الليبرالية الغربية، بل بما هو فوق الموجود في الكتاب، فكتاب الليبرالية الغربية يعطي الحق للحزب الفائز أن ينفرد بتشكيل الحكومة والسيطرة على المؤسسات وتنفيذ برنامجه، لكن النخبة العلمانية العربية اخترعت كتابا جديدا اسمه "كتاب التوافق"، وهذا الكتاب الجديد يناقض كتاب الديمقراطية في أصل مبدئه الذي يقضي بانفراد الأغلبية بالحكم ويطرح أصلا جديدا يقول بتنازل الأغلبية عن حقوقها رعاية لرغبات الأقلية (التي لم ترضَ أبدا، ولن ترضى).
كانت أياما لا تتصورها الأحلام، حرية رأي لم تحصل عليها الدول التي ازدهرت فيها الديمقراطية نفسها، حرية رأي وصلت إلى أن يُكتَب السبُّ له على جدران قصر الرئاسة، وأن وُضِع أمام بيته البرسيم لأنه "خروف"، وكان الصحافي الذي لا يجد شيئا ليكتبه يُدبِّج المقالات في سب مرسي وجماعته، وأحد أولئك بعدما حُكِم عليه بالسجن  تدخل مرسي بنفسه ليعدِّل قانون الصحافة كي لا يبيت شاتمه في السجن، فخرج ليواصل مهمته في السب والتحريض!!
وتوافقٌ لم يشهد رئيسٌ منتخب مثله، تحولت به حكومته إلى شركاء متشاكسين، وزير من اليمن ووزير من اليسار، وزير محافظ ووزير ليبرالي، ورئيسٌ يعرض منصب رئيس الحكومة على خصومه السياسيين وهم يتمنعون، وعلى شباب يجاهر بمهاجمته وهم يرفضون، وفريق استشاري يتخلى أفراده عن رئيسهم في لحظة هو فيها مُهَدَّدٌ بالاغتيال!
لا أحسب أننا بحاجة إلى التذكير بأنه حينما جاء السيسي على دبابته، مزق كتب الديمقراطية والتوافق بلا تردد، فإذا بفلاسفة الديمقراطية والتوافق بين منافق وسجين وطريد وعائد إلى مزرعته السعيدة في بلاد الأجانب أو قواعده في تويتر أو مشروعاته العظيمة في الغذاء الصحي!!
القوة هي الحكم.. والسيف يهزم الدم.. والرصاص أقوى من السلمة.. والدبابة أعتى من الصندوق.. والقنابل تسحق الحشود.. والعسكري فوق الديمقراطية!
حين تتعادل القوى يظهر القانون، وعلى نحو ما قال الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري: القانون يحكم بين قويين أو ضعيفين، أما إذا اختلت موازين القوى فلا قانون، وحينئذ تصير القوة هي القانون.
نعم في بعض اللحظات تكتسب قوة الشعب وزنا استثنائيا في معادلة القوة، كما هو الحال في لحظة الثورة والاحتجاج، وعندئد يمكن للقيادة الحكيمة أن تُوَظِّف هذه القوة في تلك اللحظة لتحقيق مكسب سياسي لا يمكن أن يتحقق في وقت آخر، لكن هذا يحتاج من الذكاء والمبادرة والسرعة ما لا يتمتع به إلا الزعماء الأكفاء.
قال مرسي، وصدق، بأن ثورة يناير والشرعية ثمنها حياته.. وقد وفَّى بهذا رحمه الله، فمات في سجنه بعد عذاب السنوات الستة ميتة كان يمكنه أن يتجنبها ويعيش في شيء من اليسر، ماتَ وقد ترك المشهد المصري واضحا: حق وباطل، ثورة وانقلاب، اختيار الشعب وحكم السلاح.
لكن لماذا لا يكون الحفاظ على يناير والشرعية ثمنها حياة أعداء الشعب؟! هذا ما كان ينبغي أن يكون.. أن تبقى ثورة يناير وتبقى شرعية الشعب ويكون الثمن هو حياة أعداء الشعب والثورة والأمة والدين.. هكذا يجب أن تمضي الأمور، تماما مثلما مضت في كل الثورات الناجحة!
ولو أن ثمة من لا يفهم هذا فيرى في الإجراءات الثورية الرامية لحفظ الثورة وحمايتها اعتداء على الحريات فلا بأس ألا يفهم، لعله إن عاش يفهم من تلقاء نفسه أو حتى فليمت دون أن يفهم وتبقى شرعية الشعب وحقه في التحرر والاستقلال واختيار من يحكمه. وإلا كان البديل أن تضيع الثورة وحياة رموزها كما حدث مع مرسي وغيره، ثم يفهم صاحبنا المغفل هذا بعد أن تضيع الفرصة، ثم هو قد لا يفهم أيضا مثل الذين لا زالوا حتى الآن يُنَظِّرون لكون سهرة 30 يونيو ثورة شعبية.
إنها لمكانة عليا أن تجتمع على مرسي قلوب ملايين المسلمين ترثيه وتنعيه وتنشد له الأشعار وينتصب رمزا ويتحلى بلقب الشهادة، هي مكانة عليا حقا، ولكن الأعلى منها والأنفع للأمة أن يعيش منتصرا متمكنا قادرا على حماية شعبه وتحقيق أمانيهم قاهرا لأعدائهم وعملاء أعدائهم، ثم هو في كل ذلك متعرض للشهادة أيضا، شهادة الفاتحين في ساحات النصر والكفاح لا شهادة الأسير في ضيق الزنازين.
إن الواجب علينا أن نسعى في النصر المؤزر حتى ندركه أو ننال الشهادة دونه، ولئن كنا ظننا يوما أن الديمقراطية تأتي قبل التحرر، فإن الوفاء لدم مرسي ودماء الشهداء وعذابات الأسرى والمشردين أن نؤمن الآن أن التحرر يأتي قبل كل شيء، وأن مطلب التحرر يجب أن يكون أولا، أن نمتلك القدرة على الاختيار لا أن نختار حين يُسْمَح لنا ثم نذبح حين تتغير رغبة القوي المحتل!
الديمقراطية صنم مأكول (كما ذكرت ذلك في المقال الماضي، الذي كُتِب بتقدير الله قبل وفاة مرسي)، ولو كان لها معنى لظل النبي في مكة يستكثر من الأتباع ثم يطالب سادة قريش بانتخابات حرة نزيهة، لكن شيئا من هذا لم يخطر بباله ولا ببال أحد، إنما كان يستكثر من الأتباع المؤمنين ليخوض بهم معركة التحرر والاستقلال، فلم يضيع –صلى الله عليه وسلم- السنوات الطوال في الخضوع لنظام قريش ومحاولة إصلاحه ليسمح بانتخابات حرة، بل عرض نفسه على القبائل يطلب النصرة، يبحث عن الأرض التي يقيم عليها الدولة ويحميه أهلها، حتى فتح الله قلوب الأنصار فكانوا رجال دولة الإسلام.
هنا حصل التحرر، حصل الاستقلال، هنا تحولت الفكرة إلى كيان، وهنا بدأت مرحلة أخرى من الحرب الإقليمية والعالمية ضده لتدميره.. إلا أن الخلاصة المقصودة في سياقنا الآن: أن الاختيار ليس متاحا لمن لا يملك (القدرة) على الاختيار، الضعيف مفعول به مهضوم الحق مهيض الجناح مهدوم الركن! مهما كان صاحب حق ومهما كان فصيحا في بيانه والتدليل عليه.
سجل المتنبي وهو أشعر العرب تجربته بين الشعر والسيف فقال:حتى رجعتُ وأقلامي قوائل لي .. المجد للسيف، ليس المجد للقلماكتب بنا أبدا بعد الكتاب به .. فإنما نحن للأسياف كالخدمصدقتِني، ودوائي ما نطقتِ به .. فإن غفلت فدائي قلة الفهممن اقتضى بسوى الهندي حاجته .. أجاب كل سؤال عن هلٍ بِلَمِ
وقبله مدح أبو تمام المعتصم بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:السيف أصدق إنباءا من الكتب .. في حده الحد بين الجد واللعب
وبعدهما ردد شوقي ذات المعنى وهو يمدح مصطفى كمال أتاتورك يوم كان مخدوعا:فقل لبانٍ بقولٍ ركنَ مملكة .. على الكتائب يُبْنَى المُلْك لا الكُتُب
ومن قبل ذلك كله، ومن بعد ذلك كله قول ربنا (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).
رحم الله الرئيس الشهيد محمد مرسي، وجعل قصته هدى وعبرة وعظة للمؤمنين.
نشر في الخليج أون لاين
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 19, 2019 03:38

June 18, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (15) هكذا تشكلت زعامة صلاح هاشم


هكذا تشكلت زعامة صلاح هاشم مؤسس الجماعة الإسلامية المصرية
·        انتقلت من الصوفية إلى عقيدة أهل السنة على يد الشيخ عبد الله السماوي!·        بدأ العمل قبل التفكير والتخطيط، وأول ما فعلنا: منع إقامة حفل فاسد بالجامعة!·        كان الشيخ صلاح هاشم دمث الخلق مثالا في الإيثار على نفسه!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة  (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي
ذكرتُ في الحلقة الماضية كيف كان تعرفي على الشيخ عبد الله السماوي وكيف بايعته بعد أول خطبة جمعة سمعتها له، كان الرجل يدعو لدولة الخلافة وكنا نحب أن نكون رجال هذه الدعوة وهذه الدولة، لكن سرعان ما اختلف الأمر.
كانت تمضي بنا الأيام ويزداد العمر وينظر المرء خلفه فيجد أنه لم يصنع شيئا!!
أول سؤال يخطر ببال القارئ: ما هي النشاطات التي كنتم تمارسونها في جماعة الشيخ السماوي؟ وأجيب: هذه هي المشكلة، أنه لم تكن ثمة نشاطات نقوم بها، ما هو إلا أن يأت الشيخ عبد الله السماوي فنجتمع حوله، فيخطب فينا ويعظنا ويحدثنا ويبث فينا ما يثير فورة حماستنا وعزمنا وإصرارنا، ثم تنتهي الجلسة فينتهي معها كل شيء!
كان أمير مجموعتنا في الجامعة هو صديقنا عبد التواب طه أحمد الذي عرفني بالشيخ أول مرة، ومع هذا لم نفعل شيئا في الجامعة، بل لم نتخذ لأنفسنا اسما، إنما نعرف بعضنا كمجموعة الشيخ عبد الله السماوي. وهكذا كان يفتر حماسي بمرور الوقت بسبب هذه "البطالة"!، لم يكن الشيخ رحمه الله يُوَظِّف أتباعه توظيفا حسنا، كان تحت يده عشرات الشباب في الجامعة، ولكن إجابته الوحيدة تقريبا على حماسة الشباب التي تسأل عن العمل أن يقول: أول الواجبات نتعلم العقيدة الصحيحة!
وهو، والحق يقال، ممتاز في باب العقيدة، وأنا أعتبر نفسي تلميذه في هذا الباب، وقد قرأنا في مجموعته "العقيدة الطحاوية" وشُرِحَتْ، وقرأنا مجموعة التوحيد وشُرِحت لنا، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرح لنا، وهكذا.. وبهذه الكتب والشروح انتقلتُ نقلة حقيقية وقوية من الصوفية إلى الالتزام بأهل السنة والجماعة وعقيدتهم: العقيدة الطحاوية.
كان رحمه الله مثالا للسلفي الحق، كان سلفيا مجاهدا أو مقاوما، ليس مثل أولئك الذين شوهوا صورة السلفيين، أعني: حزب النور وفريق الإسكندرية هذه الأيامكانت مجموعة الشيخ عبد الله السماوي سابقة في الجامعة على أي مجموعة دينية، لا جماعة إسلامية ولا سلفيين ولا شيء، وكان أظهر وجود لها عندنا في جامعة أسيوط، ومع أن الشيخ السماوي مقيم في القاهرة إلا أنه كان يكثر من زيارة أسيوط.
وكان ثمة شيخ آخر شهير جدا لكن غاب عني اسمه الآن، وكان من جمعية أنصار السنة المعترف بها رسميا، لكنه كان رئيس جماعة أخرى "جماعة الحق"، وكان أيضا من هذا التيار السلفي المقاوم، وكان يحث على العمل، لكن أهم ما أخذناه من العمل منه هو إعفاء اللحية، ولا أتزال أتذكر مقولته في الحث على ذلك، فهو إن وجد شابا حليقا سأله نصف مازح "أيهما خير؟ الديك أم البِنِّيَّة؟!" (وهي الدجاجة)، فتصل الرسالة، فمن هذا الشيخ تعلمنا الالتزام بالسنة والهدي الظاهر.
في تلك الأثناء بدأ يتزايد ظهور المتدينين في الجامعة من غير المنضوين تحت "الجماعة الدينية" الرسمية في الجامعة والتابعة في حقيقتها لأمن الدولة، كان أولئك المتدينون من أمثالنا وأمثال غيرنا من المتأثرين ببعض الشيوخ. وأحببنا أن يكون لنا نشاط إسلامي حقيقي، ينفذه متدينون مخلصون أمثالنا غير تابعين لأمن الدولة! فمن هنا بدأ يكون لنا شيء من النشاط المستقل داخل الجامعة، فصرنا نفعل ما كنا ننفذه ضمن "الجماعة الدينية" التابعة للجامعة ولكن باستقلال عنهم، من نحن؟.. إلى هذه اللحظة لم نتخذ اسما ولا عنوانا!
نقيم معرضا للكتاب الإسلامي، نكتب مجلة الحائط، نبيع الزي الإسلامي للفتيات، أحيانا نجمع من بعضنا مبالغ زهيدة بسيطة ثم نشتري هذا الزي ونوزعه مجانا، إمكانيات محدودة، إلا أن فارقا واضحا بين هذا الزمن وبين هذا الواقع الآن؛ في ذلك الوقت كنت طالبا ملتحيا فما إن أذهب إلى صاحب بقالة أقول له: نحن نجمع تبرعات للزي الإسلامي للبنات أو لشراء مذكرات الجامعة للطلاب الفقراء أو لأي غرض آخر، إلا ويعطيني من المال دون تردد، كان مظهر المتدين في ذلك الوقت يساوي الثقة. قد يعطيني التاجر خمسين قرشا، وكان هذا في ذلك الوقت مبلغ له قيمته. كذلك فقد كان في الناس خير وبذل وعطاء يبدو أنه غاض الآن!
كانت اللحية والقميص (الجلابية باللهجة المصرية) تُسَرِّع من تعارف المتدينين الجدد إلى بعضهم، ولم يكن أعضاء "الجماعة الدينية" الرسمية التابعة للجامعة يهتمون باللحية ولا الهدي الظاهر، بينما تمسَّكنا نحن بهذا، وكنا ندخل إلى الجامعة على هذه الهيئة، بل كان هذا القميص (الجلابية) من أهم أسباب القبض علي فيما بعد، ومنعي من دخول الامتحانات أربع سنوات.
بينما نحن كذلك إذ تناهى إلى مسامعنا أن شابا اسمه صلاح هاشم (الذي سيكون فيما بعد أحد أهم أعمدة الجماعة الإسلامية المصرية) يعتزم منع حفلة تقيمها الجامعة، وسرى الخبر في الجامعة وفيه فحوى تقول: فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلينصر أخاه في منع هذا المنكر!
وبهذا نستطيع القول أن فاعلية النهي عن المنكر سبقت تكوَّن الجماعة، سبق العمل التخطيط!
كانت الحفلة بمباركة عميد الكلية ورعاية رئيس الجامعة، ستأتي مُغَنِّيتان: خضرة وفاطمة سرحان، لم تكونا مشهورتين مثل مغنيات التلفاز والإذاعة لكنهما كانتا مشهورتيْن شعبيا، من فئة المغنيات الشعبيات، وقد اتفق معهما اتحاد الطلاب لإقامة حفل في الجامعة، ووافق على هذا ودعمه العميد ورئيس الجامعة.
وكانت فكرة صلاح هاشم بسيطة، أن يستكثر من المتدينين في مكان الحفل، وأن يسبقوهم إليه، فيحضروا ويكاثروا حتى يكثروا ويغلب عددهم عدد الذين يريدون الحفلة فعلا، ثم يشرعون في قراءة القرآن جماعة، هذا يقرأ ثم هذا ثم هذا، وهو ما كان.. سبق الشباب المتدين إلى مكان الحفل، أخذوا في تلاوة القرآن، ولم ينتهوا!
جاء العميد، وجاء من بعده رئيس الجامعة، وجاء من قبلهم ومن بعدهم غيرهم يستحثوننا أن ننتهي ونخلي المكان، ونحن ماضون في التلاوة كأن شيئا لم يكن، ولم يكن بدٌّ من وقوع اشتباك فقد جاءوا يخرجوننا بالقوة، فاشتبكنا معهم، وحيث وقع اشتباك وعراك فقد فسد الحفل، المغنيتان خافتا، والناس الذين جاءوا للحفل انسحبوا بأنفسهم، وانتهى الأمر على هذا الحال. أفسدنا عليهم حفلتهم أو بالأحرى: أصلحنا الأمر وقوَّمنا اعوجاجه.
لم نكن ننوي الاشتباك إنما حسبنا أن بقاءنا سيحملهم على الملل والعودة عن قصدهم، إنما حيث هوجمنا فقد كنا مضطرين. وهم بهذا يتحملون مسؤولية إفساد أجواء حفلتهم!
أغلب الظن أن هذه الواقعة كانت في ربيع 1976م، في الفصل الدراسي الثاني من عام 1975/1976م. قبل سنة واحدة من أول فوز "للجماعة الإسلامية" بانتخابات اتحاد الطلاب.
لكن أهم ما أسفرت عنه هذه الحادثة هو الزعامة التي تشكلت حول صلاح هاشم في الجامعة، لقد صار بهذه المبادرة والشجاعة زعيما بحكم الأمر الواقع، زعيما على المتدينين، على هذه الحالة الشبابية الإسلامية التي تتشكل في الجامعة. فكنا من بعدها إذا أردنا أن نفعل شيئا ذهبنا إليه فعرضناه عليه، أو إذا أردنا مشاورة شاورناه، وهكذا..
كان الشيخ صلاح هاشم حينها في السنة الرابعة والأخيرة من كلية الهندسة، هو ابن محافظة سوهاج، كان طيبا للغاية، دمث الخلق جدا، كريما جدا، مثالا في الإيثار، ولقد شهدت منه في هذا قصة كلما تذكرتها وتخيلتها في ذهني سبق إليَّ البكاء:
في ذلك الوقت كنا بدأنا في إقامة المخيمات أو المعسكرات، في المساجد، وكنا نستعين على نفقاتها من تبرعات المحسنين كما ذكرت آنفا، ولهذا فقد كان معظم ما فيها من الطعام الأمور البسيطة: الجبن والحلاوة الطحينية والعسل، فإذا اتفق وحضر أحدٌ من أهل الخير مخيما من هذا فربما تبرع من عنده ببعض الأرز واللحم، ودائما ما كان هذا الطعام يكفي بالكاد عدد الطلاب الحاضرين في مخيماتنا، إذ كان العدد يصل إلى ثلاثمائة طالب ولا يقل عن مائة وخمسين.
كان صلاح هاشم مسؤول المخيم، وتحته مجموعة نسميهم "أمراء الحلقات" وأولئك الذين يديرون المخيم فبعضهم يقوم على شأن الطبخ وإعداد الطعام، وبعضهم يقوم على شأن التعليم: تلاوة القرآن والتفسير واللغة العربية والفقه.. إلخ! وأولئك الذين يديرون المخيم يأكلون آخر الناس، بعدما ينتهي الطلاب من الطعام، يجمعون من بقايا الطعام طعاما لهم، لم تكن لدينا وقتها ثقافة التنظيم أو إبقاء بعض الطعام لمن يديرون المخيم، إنما كانوا هم ونصيبهم، فلئن بقي لهم طعام أكلوا وإن لم يبقَ لم يأكلوا.
أين صلاح هاشم هنا، مسؤول المخيم؟.. إنه آخر من يأكل، بعد أن ينتهي أمراء المخيم من أكلهم، هذا إن بقي له شيء يأكله. ولقد رأيته لا يقبل أن يأكل إلا آخر الناس ولو لم يبق له شيء إطلاقا. كان مأكله في مكان تنظيف الأطباق إن وجد شيئا!
لقد أكبرته جدا، وبمرور الوقت ترسخت بيني وبينه علاقة أخوة عميقة، كانت بذرة لنشأة الجماعة الإسلامية المصرية.
نشر في مجلة كلمة حق، يونيو 2019 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 18, 2019 14:18

June 12, 2019

تاريخ الأتراك العثمانيين



§        اسم الكتاب: تاريخ الأتراك العثمانيين§        المؤلف: إدوارد شيفرد كريسي§        المترجم: د. أحمد سالم سالم§        الناشر: جامعة حمد بن خليفة§        الطبعة: الأولى، 2019م§        عدد الصفحات: 1219 صفحة
صدر قبل أيام قليلة عن جامعة حمد بن خليفة في الدوحة ترجمة جديدة لسفر من أهم الأسفار في التاريخ العثماني، وهو كتاب "تاريخ الأتراك العثمانيين" للمؤرخ والمستشرق الإنجليزي إدوارد شيفرد كريسي، ذلك السفر الذي تصدى لمهمة ترجمته الدكتور أحمد سالم سالم، الصديق والأخ العزيز، والاسم الصاعد في سماء ترجمة الأعمال الاستشراقية القيمة، وقد قضى في هذا العمل ثلاث سنوات حافلات بالعمل المضني، حتى خرجت هذه الثمرة إلى النور.
ولكي لا يتشعب الحديث فسنجمل الكلام عن كل عنصر من عناصر هذا الموضوع: الكتاب، والمؤلف، والمترجم، والترجمة.
[1] الكتاب
ونبدأ بالكتاب..
يعرف الباحثون في التاريخ العثماني أن المصدر الأوروبي الأهم في كتابة التاريخ العثماني هي موسوعة المؤرخ والدبلوماسي الألماني جوزيف فون هامر (1774 – 1856م)، الذي كان يتقن ثماني لغات من بينها اللغات الشرقية الثلاث الكبرى: العربية والفارسية والتركية، وكان عمله في وزارة الخارجية النمساوية وسفارتها في اسطنبول ثم في بلاط الإمبراطورية النمساوية قد وضع أمامه حشدا من المصادر والوثائق والمشاهدات والروايات التي جمعها في هذه الموسوعة التي حملت اسم "تاريخ الإمبراطورية العثمانية" التي بلغت عشر مجلدات. كان هذا الكتاب منعطفا في التاريخ الأوروبي للدولة العثمانية، وبه صار هامر رائد هذا الباب بين المستشرقين، لكن المشكلة التي تعنينا الآن أن هذه الموسوعة لم تترجم للعربية حتى لحظة كتابة هذه السطور فيما أعلم.
وقد اعتمد كتاب كريسي الذي بين أيدينا على موسوعة هامر، ويمكن اعتباره بكثير من التجوز اختصارا لما جاء فيه، مع إضافات وزيادات لاحقة، لكن مادة الكتاب الأساسية اعتمدت على موسوعة هامر، وهذه أول فائدة كبيرة ينتظرها الباحثون من هذه الترجمة الجديدة.
تمثلت إضافات وزيادات كريسي في اعتماده على مصادر أخرى غير موسوعة هامر، وأهم هذه المصادر أنه كان شاهدا على فترة العشرين سنة التي فصلت بينه وبين هامر، وما وقع فيها من أحداث مؤثرة في التاريخ العثماني عند أواخر القرن التاسع عشر. مع ملاحظة أن تاريخ هامر توقف قبل قرنٍ من تاريخ كريسي.
الفائدة الثانية بالطبع هي هذا الاختصار، لمن لا يُفضِّل المُطَوَّلات. لقد كانت موسوعة هامر تعاني من أنها لم تترجم من الألمانية إلى الإنجليزية بسبب ضخامتها وتخوف الناشرين الإنجليز ألا تجد لها قارئين!
[2] المؤلف
وأما المؤلف فهو قانوني مؤرخ، عاش سحابة حياته في بريطانيا القرن التاسع عشر (1812 – 1878م)، أي في العصر الذهبي للإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وهو العصر الذهبي للاستشراق الإنجليزي الذي استطاع عبر جيوشه وأساطيله ولحاجة جيوشه وأساطيله أيضا أن يجعل حركة الاستشراق في أوج ازدهارها، درس القانون ثم التاريخ في جامعة كمبريدج ثم صار أستاذا له في جامعة لندن ثم قضى آخر خمسة عشر عاما من حياته تقريبا (1860 – 1875م) في سيلان، وأنتج في حياته الحافلة عددا من المؤلفات في التاريخ والقانون الإنجليزي.
وقد ألقى هذا العصر بظلاله على الكتاب الذي اجتمع فيه ما اجتمع في حركة الاستشراق الاستعمارية، حركة تقدس المجهود البحثي الدؤوب، وتلبس معه روح الحملات الصليبية مع تحسينات معاصرة حديثة أو بتعبير مكسيم رودنسون "زخرفات عصرية"!
ومن هنا جاء الكتاب عملا علميا قيِّمًا، مسكونا بروح صليبية تتفلت من بين العبارات فتطل برأسها أحيانا سافرة وفي أغلب الأحايين متقنعة.
[3] المترجم
وأما المترجم: د. أحمد سالم سالم فهو من الأسماء الصاعدة بقوة في التاريخ العثماني، وقد عرفته من ترجمتين سابقتيْن له، فقد ترجم كتاب المستشرق الإنجليزي الشهير ستانلي لين بول "تاريخ مصر في العصور الوسطى" (2014م)، كما ترجم كتاب المستشرق الإنجليزي الشهير أيضا إدوارد وليم لين "القاهرة في منتصف القرن التاسع عشر" (2017م)، وقد فازت ترجمته لكتاب ستانلي لين بول بجائزة الشيخ حمد للترجمة (2015م) وطبعت خمس طبعات حتى (2017م). ومن قبل هاتين الترجمتين كان قد أصدر كتابه "السيطرة العثمانية على الحوض الغربي للبحر المتوسط في القرن السادس عشر" (2011م) وكتابه "استراتيجية الفتح العثماني" (2012م).
وترجمة أعمال المستشرقين المتقدمين أمر يتهيبه المترجمون عادةً، ذلك أن اتساع قائمة مصادرهم يجعل المترجم الأمين أمام عبء البحث عن النصوص الأصلية في مظانها، وكثير من هؤلاء المستشرقين يستسهلون الإشارة إلى المصادر دون توثيق دقيق في ذلك الزمن. ثم تتمثل الصعوبة الثانية في تطور اللغة الإنجليزية المتسارع بحيث تعد لغة ما قبل مائة عام أو مائتين أشبه بلغة أخرى غير الإنجليزية المعاصرة، وهو عمل يستغرق جهدا مضاعفا في فهم التراكيب والتعبيرات التي صارت مهجورة. وإلى هنا يمكن للمترجم أن يعفي نفسه من أعباء جديدة لكن د. أحمد من مدرسة ترى أن عليها عبء تحقيق النص ومناقشته والتعليق عليه، وهذا يضيف عبئا جديدا على المترجم لكنه يجعل الثمرة النهائية وجبة شهية للقارئين!
لذلك حفلت ترجمات د. أحمد بالحواشي المعينة على فهم النص أو الاستدراك عليه، في غير تطويل وإملال واستكثار بلا معنى كما يفعله بعض من يحبون التباهي والتفاخر بما لا قيمة فيه ولا تعويل عليه.
[4] الترجمة
أضيف إلى صعوبات الترجمة لهذا الكتاب الذي بين أيدينا صعوبة جديدة، إذ أن مسرح الكتاب في أغلبه هو مناطق شرق أوروبا، فلم تعد الترجمة هنا ترجمة لتاريخ مصر أو لشوارع القاهرة وأحيائها، وهو الأمر الذي يسهل على المترجم المصري، لا.. لقد صار الأمر متعلقا بالجغرافيا المعقدة الثرية الحافلة التي شملتها الدولة العثمانية لا سيما مناطق أوروبا الشرقية، وذلك أن المدن في هذه الأنحاء تسمى بأسماء عديدة: عثمانية وبيزنطية ويونانية وأوروبية، بحسب تاريخ المدينة وتقلبات الذين هيمنوا عليها، وأحيانا ما كان المؤلف يمضي وراء هامر في استعماله تسميات وألفاظا دارجة في الألمانية. هنا تبدو عملية الترجمة الدقيقة كعملية فدائية لا يقدم عليها إلا مغامر!
لقد كثر في تعليقات الترجمة التعريف بالأعلام وتحديد مواقع المدن وأحيانا بيان معانيها والمقارنة بين لفظها بالعثمانية وباللغة الأوروبية التي وردت في المتن، وربما كان هذا أثمن وأنفس ما في الترجمة لأنها تضبط خيال القارئ وتمنع الخلط والتشتت أن يصيبه بين كومة الأسماء الكثيرة المنهمرة عليه!
ومن جهة أخرى فقد كان د. أحمد يشعر –كما توحي مقدمته للترجمة- أنه مسؤول عن تقييم تاريخ هامر ومعلوماته باعتباره المرجع الأساسي الذي نهل عنه المؤلف إدوارد شيفرد كريسي كما نقل عنه كثيرون من المؤرخين والباحثين العرب، ومن هاهنا كان يعمل عملا فوق الترجمة وهو اختبار صحة ودقة تاريخ هامر المتغلغل في كتاب كريسي والتعليق عليه. مؤملا أن يتوقف الاعتماد المستسلم على تاريخ هامر.
وثمة استطراد هنا جدير بالإشارة إليه، ففي حركة البحث التركية التاريخية الجديدة صدرت العديد من الدراسات وترجم بعضها إلى العربية، وفي كثير من هذه الدراسات إشارات متعددة لجناية هامر على التاريخ العثماني برغم أهمية كتابه وكونه عمدة في بابه، ولهذا فسيزال كتاب هامر يمثل تحديا للمؤرخين المسلمين حتى يغامر أحدهم بالتفرغ لفحصه والتعليق عليه تفصيلا. لكن الذي يهمنا الإشارة إليه هنا أن العديد من هذه الدعاوي الهامرية وجدت من يلتقطها ويرد عليها ردا سريعا ومختصرا في هذه الترجمة.
نسأل الله تعالى أن يكون هذا الكتاب من العلم النافع الخالص لوجهه الكريم.
نشر في الخليج أون لاين

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 12, 2019 04:32

June 9, 2019

كيف تأثرت القاهرة الأوقاف العثمانية


لا زلنا نحاول رفع التشويه والزيف والتزوير التاريخي الذي يردد أن الحقبة العثمانية كانت احتلالا أجنبيا للبلاد العربية، وقد ذكرنا في مجموعة المقالات الماضية أننا سندرس سلوك الحكم العثماني في القاهرة خلال نصف القرن الأول منه، حين كانت الدولة في أوج قوتها وتمكنها وتستطيع أن تنفذ سياستها قهرا، لنرى هل كان سلوكها حينئذ سلوك محتل أجنبي كما هو حال الاحتلالات الأجنبية فيما بعد، أم هو سلوك دولة إسلامية تحكم رعيتها الممتدة؟ وقد ركزنا الحديث عن الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة في تلك الفترة كنموذج لأوقافهم في عموم الديار المصرية، وبعد أن عدَّدْناها وذكرنا تاريخها، نبدأ في هذا المقال بيان آثارها على مجتمع القاهرة، وكيف اتسعت القاهرة عمرانيا وازدهرت اقتصاديا بأثر من نمو حركة الأوقاف العثمانية.
تتعدد أوجه الآثار التي يمكن أن نرصدها لأوقاف الولاة العثمانيين على مجتمع القاهرة في تلك الفترة، على أن أهم ما ينبغي التنبيه إليه أن حركة الولاة تجاه نشاط ما يثير بطبيعة الحال إقبالا عليها في سائر طبقات المجتمع، فالناس على دين ملوكهم، "وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في سوقهم يروج في أسواق الأمة"وكثيرا ما يصعب فصل الآثار المترتبة على وقف ما تحت تصنيف بعينه، فقد يكون للوقف نفسه أثر عمراني واقتصادي وديني واجتماعي، ولهذا فقد سرنا هنا في رصد الآثار بحسب ما يغلب على الوقف من الأثر دون نفي الآثار الأخرى المتعلقة به بطبيعة الحال. وقسمناها هنا إلى آثار: عمرانية واقتصادية واجتماعية. ونورد تحت كل منها شذرات سريعة بحسب ما يحتمله المقام.وتبدأ هذه العملية بأن يشتري الواقف أو يشيد "مباني اقتصادية تدر ريعا مثل المنازل والحوانيت والرباع والحمامات العامة. وكان من مصلحة نظار هذه الأوقاف أن تكون مواضع الممتلكات متقاربة حتى يسهل عليهم إدارتها وجباية دخولها والسهر على سلامتها. وعلى هذا كانت العقارات تتجمع في غالبية الأحوال على مقربة من الصرح الذي أنشئ الوقف لصالحه. وكان من الممكن أيضا أن يتحول وقف حضري كبير إلى عملية تعميرية حقيقية يتم في ظلها إعادة تشكيل أو تنظيم حي بأكمله. وفي الأغلب تجري مثل هذه العمليات في مناطق المدينة القابلة للتوسع، حيث توجد مساحات متاحة، وتقل كثافة الإنشاءات. وهذا يفسر لنا لماذا أقيم عدد من الأوقاف في مواقع رائدة، وحيث ساهمت في توجيه نمو المدينة أو على الأقل في مصاحبته"وهكذا توسعت القاهرة في مطلع العصر العثماني عمرانيا إلى الجهة الشمالية بأثر من النمو التجاري، الذي استثمرته ودعمته منشآت الولاة العثمانيين، كمعاصر السكر ووكالات تجارة الكتان التي أنشأها سليمان باشا، ووكالات الحبوب التي أنشأها داود باشا، فتوسعت بولاق تجاه الشمال والغرب ونما شارع كبير موازٍ لنهر النيل على أراضي طرحها النهر أثناء انحساره تجاه الغرب، وقد وجد بها عدة منشآت تابعة لأوقاف بعض الولاة كمسجد سليمان باشا وسنان باشا، وأخذ الزحف العمراني يمتد إلى أرض وقف سليمان باشا بشاطئ النيل وتحولت بعض الحدائق المرصدة إلى مقاهي ووكائلوإذا "كان الناس على دين ملوكهم فنجد أن القاهريين باختلاف فئاتهم يسهمون بدور في تفعيل الحركة العمرانية، كأن هناك تكاتف بين هؤلاء والدولة على أهمية التعمير، فاتجهوا أيضا إلى تشييد المنشآت التجارية والخدمية ولا سيما الأسبلة والآبار ثم قاموا بوقفها، وقد راع هؤلاء أن يختاروا لمنشآتهم تلك المناطق التي تتسم بخلخلة عمرانية والتي تسمح بالتوسع فيما بعد، فنجد مثلا الجمالي يوسف بن يونس الزركاشي يوقف عدة منشآت تشتمل على معمل نشادر ووكالتين مستجدتي الإنشاء بخط باب اللوق والجامع الطولوني بالإضافة إلى عدد من الحوانيت ومدبغة ونصف طاحون وغير ذلك من المنشآت التي أحدثها الواقف، ووقفها على نفسه ثم من بعده يخصص جزء من ريعه لحمل المياه إلى عدد من الزوايا"وقد حظي أمر توفير المياه للناس والحيوانات "باهتمام أغلب الواقفين، فحرصوا على إنشاء الأسبلة والآبار في مختلف أحياء القاهرة، ولوحظ أن منشئيها قد حرصوا على تشييدها بالمناطق الخربة والأرض الموات. وبعيدا عن العوامل العقدية والدنيوية لإقامة مثل تلك المنشآت فإن اختيار أماكنها... أسهم بدور ولو بسيط في تشجيع التوسع وجذب الناس إلى الأماكن التي تتسم بضعف النمو"وحيث كان جزء كبير من ريع الأعيان الموقوفة ينفق في صيانة الوقف وترميمه، فقد سهل هذا من عملية الصيانة، التي كانت خاضعة لإشراف القضاء، ولم يكن ذلك ليتم لولا اهتمام الدولة العثمانية بالأوقافومن هنا عَمِلَتْ منشآتُ الولاة الصناعية والتجارية على أن تَرِدَ إلى القاهرة العديد من البضائع التي لاقت رواجا اقتصاديا كالكتان والأرز والحبوب والجلود والسكر بدلا من البضائع الكمالية التي كانت تفد إلى مصر القديمةوبقدر ما أسهمت الأوقاف في تنشيط الحركة التجارية في بولاق وإتاحة الفرصة لها لتكون مركزا تجاريا، بقدر ما عاد هذا على الأوقاف نفسها بالتوسع، فلقد صار وقف سليمان باشا من الأوقاف الكبرى التي تزيد مواردها عن تغطية نفقات المصارف المقررة لها، ولهذا سمح الواقف لإدارة الوقف أن تستثمر الفائض في توسيع الوقف بشراء المزيد وضمه إليها، ويصبح حكم الجديد كحكم الوقف الأصلي، وقد ضم الوقف عقارا بقيمة 26 ألف نصف فضة، وأنشأ وكالة تجارية لبيع الكتان تكلفت أكثر من 160 ألف نصف فضةوقد شجَّع وقف سليمان باشا بطريق غير مباشر على رواج الحركة التجارية، ذلك أن أحواض وأسبلة المياه من وسائل رواج حركة التجارة الداخلية، إذ أن وجودها في مكان ما كخدمة مجانية كان يزيد من نشاطه التجاري، ولقد كان في وقف سليمان باشا في بولاق حوضان معدان لشرب الدواب، كذلك أسهم وقف سليمان باشا في رواج هذه الحركة التجارية بطريق أخرى، حيث كان يصرف في كل سنة ثمن ستة قناطير زيت، يضاء به كل ليلة الفنار الموجود في أبي قير لينير الطريق للمسافرين الواردين عليها. وهذا أمر متعدد الفائدة إذ لها فائدة اقتصادية في تشجيع التجارة بإنارة الطريق للتجار، وفائدة اجتماعية بتأمين الناس وحركة السير ليلا، وفائدة عمرانية بتعمير المكانومن أهم الآثار الاقتصادية للأوقاف ما توفره من الوظائف المتعددة لكثير من الطاقة العاملة، وهو ما يُدخل إلى سوق النشاط الاقتصادي موارد بشرية تزيد من حركة دوران رأس المال في المجتمع، فقد كانت أوقاف المساجد والمدارس والتكايا والزوايا تحتاج إلى العديد من الوظائف الدينية والفقهية، سواء من جهة الإشراف على هؤلاء الموظفين وحساب الراتب وغيره، وكثيرا ما يكون لناظر الوقف نائب أو أكثر كما يكون لديه وكيل يتولى عنه الحضور أمام القضاء وغيره، وربما كان للوقف الواحد أكثر من ناظر، وربما كان للوقف ناظرٌ ومتولٍّ مع تشابه وتداخل في المهام، وأحيانا يكون أكثر من واحد في مهمة المتولي، هذا فضلا عن وظائف أخرى توجد أو لا توجد بحسب الوقف كالمُباشر والكاتب والشاهد، كذلك فقد استلزم وجود الوقف وظائف أخرى كالجابي الذي يجمع أموال الوقف والشاد (ويُسَمَّى أيضا: القاصد) الذي يساعده، وفي بعض أنواع الأوقاف لزم وجود الصراف لاكتشاف الأموال المزيفة، وأمين الكلار الذي يوجد في الأوقاف التي تخزن الغلال أو الأمتعة والأدوات، ومتعاهد كتاب الوقف (وهو أقرب إلى وظيفة الشؤون القانونية للوقف) وعمَّال الصيانة، والحارس (الخفير)، فضلا عما يقتضيه كل وقف من وظائف مخصوصة تبعا لطبيعته وغايتهوتؤكد الشواهد أن رواتب وظائف الأوقاف لم تكن سيئة، بل كان يقع على الحصول عليها تكالب ولجوء إلى الوسطاء، كما وُجِد ما يدل على أن بعض الأسر كانت تتعيش من رواتب الأوقاف، وأن الحصول على وظيفة وراتب ثابت من الأوقاف كان مدعاة للاستقرار والاطمئنان، وقد زاد خاير بك في رواتب موظفي وقفه، وشرط سليمان باشا الخادم في وقفيته أن تزيد رواتب موظفيه بمرور الزمنوقد منحت بعض الأوقاف لبعض موظفيها –فضلا عن الراتب- سكنا ملحقا بها، حرصا على حسن القيام بالعمل، ومن ذلك أن وقف خاير بك قد منح سكنا "للمزملاتي"نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يونيو 2019

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 09, 2019 04:41

June 6, 2019

الديمقراطية.. المعبود المأكول!


لعل أدق ما قيل في هذه السنين الماضية أن الديمقراطية ليست إلا صنم العجوة التي كان يتخذها الجاهلي في سفره معبودا، فإذا جاع أكله!
الديمقراطية لفظ يكاد أن يطل في كل مقال وكل بحث وكل دراسة وكل كتاب وكل خطاب وكل برنامج، يقال في ظل المستبد وفي ظل الثورة وفي ظل الانقلابات العسكرية، وكلٌّ يدَّعي وصلا بالديمقراطية، ثم كلُّهم يأكلها إذا جاع، وهل من جائع هو أشد من الجائع للسلطة والهيمنة؟!
حين يجدّ الجدّ يختفي المعنى البسيط المباشر للديمقراطية: أن يختار الشعب من يحكمه، لتحل محله فلسفات عقيمة (أو: عميقة، لا فرق)، ونقاشات طويلة مملة خلاصتها في النهاية: كيف نصرف حق الحكم عن هذا الشعب، وكيف تهندس النخبة الحاكمة النظام الحاكم على مقاسها، وتنهمر أحاديث لا نهاية لها عن فلسفة الديمقراطية ومعناها ومعاييرها وخصوصياتها وأزماتها، وهل تصلح في بلادنا؟ وهل تناسب شعوبنا؟ ومتى نبدأ بها؟ وكيف؟ وما هو طول الفترة الانتقالية المناسبة: عام أم عامان أم أربعة أعوام؟ وماذا لو جاءتنا الديمقراطية بمن لا نرغب فيهم؟ وماذا لو جاءتنا الديمقراطية بمن لا ترضى عنهم الأسرة الدولية (لاحظ مصطلح "الأسرة" الدافئ العميق هذا، كأن العالم يجتمع أمام مدفأة العائلة يتمتع بأبوة وحنان القوى الكبرى)؟! وهل نضع الدستور أولا أم نمارس الانتخابات؟ وهل نبدأ بانتخابات البرلمان أم الرئاسة؟ ومن يكتب الدستور؟ وهل تكتب الدساتير بالتوافق أم هي تعبير عن انحيازات الأغلبية ... إلخ!
طابور طويل لا ينتهي من الأسئلة التي تلد غيرها ثم لا تكف عن التكاثر، بينما كان فلاسفة الديمقراطية قبل أن يجدّ الجد يُشعروننا أن الأمر بسيط وواضح ومُجَرَّب ولن نعيد اختراع العجلة! فلما احتجنا إلى هذا الترياق الديمقراطي الذي طالما تعطشنا له حتى ظننا أنه السِّحر الذي سيقلب بلادنا إلى جنة، إذا بمن رسموا لنا الجنة وتغزلوا في الترياق انقلبوا على أنفسهم وأغرقونا في هذه الأسئلة!
لن نوغل في الماضي لنذكر أحداث مصر وفلسطين والجزائر عند مطلع التسعينات، إن لدينا الآن ثورتان: واحدة في السودان والأخرى في الجزائر! خرج الشعبان في ثورة وخرج لهم الجيش يهددهم أهلا ثم يستجيب لهم بعد قليل أو كثير من القتلى ثم يتوقف الزمن! يتفق الجيشان بعد هذا على تعطيل هذا التحول الديمقراطي، ويتفق معهما فيه النخبة العلمانية التي احتكرت حديث الديمقراطية واتهام الإسلاميين بالاستبداد!
إن الذي استطاع إزاحة رأس النظام واعتقال أبرز وجوهه، يستطيع أن يضمن بهذه القوة إجراء انتخابات نزيهة وترك الأمر ليقرره الشعب نفسه. يبدو الأمر بسيطا فعلا لكنه مع هذا لا يحدث بل يبدو دائما أنه معقد ويزداد تعقيدا!ترى لماذا؟!
الإجابة البسيطة: لأن الديمقراطية كصنم العجوة.. لما جاع كَهَنَتُه أكلوه!
إن العالم الذي تحكمه المصالح وصراعات النفوذ والهيمنة لن يلتفت بطبيعة الحال لرغبة الشعوب المنهوبة المسلوبة، فكيف إذا كانت هذه الرغبة هي التهديد والأزمة في معركة الهيمنة والنفوذ؟! ولهذا يبتلع العالم كله الانقلابات العسكرية والمذابح الأسطورية كما يبتلع قطعة اللحم في وجبة العشاء في الأمم المتحدة، تلك الهيئة التي يجتمع فيها الكبار وصنائعهم الصغار ليمارسوا الحديث حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ومشكلات الأوطان!
هذا كلام لا يحتاج أن يكون استنتاجا لأننا كنا مسرح الجريمة وضحاياها، إلا أننا نحتاج دائما للتذكير به لأن بعضا من قومنا وأهلنا اندمجوا في المسرحية الكبيرة وتحمسوا جدا لمسألة الديمقراطية وأخلصوا لها إخلاصا عظيما حتى ظنوا أن مشكلة العالم معنا أنه لا يفهم الأوضاع بشكل جيد في بلادنا أو أنه عالم مؤيد حقا للديمقراطية ولكن لديه بعض تخوفات ينبغي علينا إزالتها وتطمينه من ناحيتها!
إن مسألة تجاوز الديمقراطية يفعلها العالم ببساطةِ أكلِ الجاهلي صنمَ العجوة، لا يفكر كثيرا في الأمر، ولا ينظر إلى ذلك باعتبارها خيانة للمبدأ أو تشويها للإله، لكن يجري تغليف المسألة بعبارات فلسفية منمقة (ويجب أن نعترف للحضارة الغربية المعاصرة بقدرتها الفائقة على صناعات التغليف والتعبئة)، هذه الفلسفة المنمقة تعمل كمُسِهِّل لعملية هضم الجريمة المنصوبة: جريمة استعباد الشعوب وإعادتها إلى الحظيرة بكل وسيلة.
يمكن أن ننقل عبارات مطولة من مذكرات وخطابات صناع القرار العالمي في التبرير المزخرف لسياسة التهام صنم العجوة الديمقراطي، كيسنجر مثلا في "النظام العالمي" وهيلاري كلينتون في مذكراتها "خيارات صعبة" وبول بريمر في مذكراته "عام قضيته في العراق" ويكاد سائر من عاصروا حرب العراق وثورات الربيع العربي من أولئك السياسيين أن يكونوا تناولوا مسألة الاختيار بين الديمقراطية والمصالح الأمريكية في العالم العربي.
لكن المعنى الأهم الذي ينبغي الانتباه إليه أن الأصنام في الجاهلية ظلت معبودة رغم أنها مأكولة، فلم يكن التهام أحدهم لإلهه الذي صنعه مانعا له أن يكرر عبادة الصنم، والبيئة التي كانت تؤكل فيها الأصنام ظلت تعبد الأصنام كذلك، ولقد رأى قوم إبراهيم –عليه السلام- أصنامهم مكسورة فلم يتساءلوا كيف لم تدفع الآلهة عن نفسها بل تساءلوا (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين)، وحاول إبراهيم –عليه السلام- استفزاز عقولهم فأشار إلى الصنم الكبير باعتباره المتهم الأول لأنه يحمل الفأس وباعتباره لا يقبل مزاحمة هذه الآلة الصغيرة له، ولكنهم مع ذلك قرروا إحراق إبراهيم عليه السلام!
نعم، لقد دافعت البيئة الوثنية دفاعا مريرا عن هذه الأصنام باعتبارها ميراث الآباء والأجداد العظام المؤسسين، وباعتبارها مركز النظام القائم ومحط شرعيته، وتعاملت بكل القسوة مع من حاولوا التنبيه على أن هذه الأصنام لا تصلح كمعبودات، وأبرز النظام الوثني مخالبه وكشَّر عن أنيابه، ثم خاض حروبا مريرة تحت راية الأصنام، ولم تسقط الأصنام في نهاية المطاف إلا حين امتلك المسلمون (القدرة) على تحطيمها.
في كتابه "آفاق الحرية"، ذكر د. علي العمري –الداعية الأسير في السجون السعودية والذي طالبت النيابة بإعدامه- أنه قد تعددت مذاهب الإسلاميين المعاصرين في مسألة: أيهما أولا الحرية أم الشريعة؟، على أربعة أقوال: فقد ذهب القرضاوي ومحمد أحمد الراشد إلى أن المنادة يجب أن تكون بالحرية أولا فهي أساس اختيار الشريعة وهي الممهدة لها، وذهب محمد الحسن ولد الددو إلى أن الشريعة أولا لأن الدين فطرة مركبة في النفس لكن الحرية تكون سابقة للتدين إذ يفعل المرء الطاعات وينزجر عن المعاصي صادرا عن حرية اختيار، وذهب راشد الغنوشي والمطهري إلى أن الحرية والشريعة كليهما من بعضهما بحيث لا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر أو ينفصل عنه، وذهب حسن الترابيوقد كنتُ منذ أمدٍ أميل إلى هذا المذهب الأول، إلى أن اعتنقت مذهبا خامسا–لو صح التعبير- وخلاصته أن الذي يختار هو الذي يتمتع أصلا بالقدرة على الاختيار، أما حيث عجزنا عن هذا فإن اختلاف النظر لن يعدو أن يكون ثرثرة فلسفية بلا ثمرة حقيقية عملية، ذلك أن الغالب المهيمن لا يطرح الخيارات على المغلوب وإنما يقهره على إرادته ونظامه، ومهما امتلك العبد المقهور ناصية البيان ومهما صاغ بناء متينا لفلسفته فسيظل عبدا، وكم في التاريخ من عبيد شعراء!
نشر في الخليج أون لاين
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 06, 2019 06:51

May 29, 2019

ليه السيسي ما ينفعش يتباع؟


يوما ما من عام 2001 أرسل أستاذ مصري للهندسة النووية رسالة نشرها بريد الأهرام، يتذكر فيها أسماء دفعته من طلاب الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية، وكيف صار كل واحد منهم أستاذا لهذا التخصص في أمريكا وكندا وألمانيا وغيرها، ولم يبق أحد منهم إطلاقا في مصر، ثم تساءل عن جدوى بقاء قسم للهندسة النووية بجامعة الإسكندرية طالما أن البلد لن تستفيد منهم، إذ حقيقة الأمر أن البلد تنفق على الطلاب ليستفيد منهم الأجانب!
بعد نحو عشرين عاما من هذه الواقعة كان خير ما تفتَّق عنه ذهن عبد الفتاح السيسي الذي صار رئيسا لمصر أن يأخذ من هذه الدول ضرائب على العقول المهاجرة، ثم يقهقه ضاحكا، من السعادة أو من البلاهة لا فرق، وكان الجدير به أن يتحسر على هذه الكفاءات وأن يسأل نفسه: لماذا تهاجر وكيف يمكن استعادتها والاستفادة منها!
لكن سؤال الأستاذ يظل يطرح نفسه بقوة: ما فائدة قسم الهندسة النووية في بلد لا تنوي ولا تفكر في أن تكون قوة نووية، ومن ثم فلا مجال أمام خريجي هذا القسم إلا أن يكونوا تروسا في آلة القوى النووية الكبرى؟
وعلى نمط سؤال الأستاذ نريد أن نطرح ذات السؤال على باقي "مؤسسات" و"قطاعات" بلادنا العربية المنكوبة:
فإن لم تكن هذه الأنظمة تفكر في التحرر وأن تكون قوة حقيقية تملك قرارها فلماذا يكون لديها الجيوش؟ ولماذا تستنزف الأموال الهائلة في صفقات سلاح خيالية ثم لا تجدي شيئا! إنك لو فتشت في تاريخ العرب المعاصر لن تجد جيشا أخطأ ذات مرة ودخل في حرب ضد عدو للأمة، إنما هم يحاربون بعضهم وهذا إن حاربوا من الأساس. حتى حرب أكتوبر اليتيمة في هذا التاريخ المعاصر لم تكن حربا بالمعنى التقليدي للحرب وإنما كان عملية خاطفة مفاجئة استهدفت تحرير بضعة كيلومترات وتجميد الموقف العسكري، ثم إنها لم تنته بنصرٍ بل لقد انتهت بالتعادل في أحسن الأحوال أو بالهزيمة العسكرية طبقا للوضع الذي انتهت إليه. على أننا لو تجاوزنا كل هذا وقلنا إنها كانت نصرا فهل هذا النصر الوحيد اليتيم طوال القرن الماضي يكافئ ما خسرته الأمة من أرواح أبنائها وشبابهم ومن أموالها التي موَّلت صفقات السلاح الفلكية؟!
وإذا كان الأمن في بلادنا ضائعا، وتتزايد معدلات الجريمة بسرعة مجنونة، كما يتزايد معها انحسار دائرة الأمن حول العواصم والمدن ومنابع الثروة ويتزايد الانفلات الأمني في الزوايا والحواري والقرى والأرياف والمناطق المهمشة.. إذا كان الوضع كذلك فما فائدة وجود الشرطة؟ قد يمكن تحقيق هذه الأهداف ببساطة من خلال شركات الأمن الخاصة التي ستعفي بلادنا من بذل شباب أبنائها وأعمارهم ثم ستعفيها من بذل أموال التسليح في صفقات المدرعات والأسلحة وقنابل الغاز وأنواع التجهيز. لا سيما وشركات الأمن الخاصة تطورت لمنظمات عالمية عتيدة التدريب والتجهيز والتسليح!
إذا كانت كليات القانون تنهمر علينا بعشرات ومئات آلاف الطلاب سنويا بعد دراستهم الطويلة لمطولات القوانين وفلسفاتها وتاريخها وأقسامها وإجراءاتها، لكن لن تستقبل المؤسسات القانونية إلا أبناء كهنة القانون وأقاربهم لتعيد تدويرهم في مناصب آبائهم وأصهارهم، ثم يعيدون هم تكرار سيرتها الفضائحية التي جعلت القضاء في بلادنا مضرب المثل في الفساد والظلم بل وفي الكوميديا السوداء الأليمة التي تسحق يوميا الأرواح والأعمار والأموال والدموع: بين المشانق والسجون والغرامات.. إذا كان هذا هو الحال فلماذا تفتح كليات القانون أفواهها لتستهلك أعمار هذا القدر الهائل من الشباب وأموالهم وهم لن يعملوا بالقانون، ولو عملوا به لكانوا هم أمثلة قتل القانون؟!
ومثل هذا يقال عن كليات الإعلام التي بعدما تدفق الخريجين فلن يجد سوق الإعلام في بلادنا إلا صاحب الواسطة لا صاحب الموهبة، أو في أحسن الأحوال صاحب الموهبة الذي لا تنقصه الواسطة، فإن كان ولا بد فصاحب موهبة لا تنقصه موهبة بيع نفسه وضميره لتتأقلم مع منظومة السوق الإعلامي وقيمه، لتخرج الشاشات وهي تعزف منظومة شاذة كئيبة من الانهيار الفكري والتفاهة المعرفية فضلا عن الانحطاط الأخلاقي المريع.
ومثل ذلك أيضا عن الكليات الشرعية التي كأنها تكاد تجدب من إخراج الفقهاء الجامعين بين علم الشرع وعلم الواقع، ثم بين العلم والعمل، فأكثر خريجيها ساكت، وكثير منهم منافق، وأقل القليل منهم: عالم صادح بالحق رافض للظلم عارف بما يجب أن يُقال وكيف يقال.
السبب في بقاء كل ما سبق هو نفسه السبب في فسادها..
يمكن للحاكم في بلادنا أن يترك العقول تهاجر إلى بلد أخرى لتخدمها في الفيزياء والكيمياء والهندسة النووية، فهو بهذا يؤدي دوره في دعم وتمكين المنظومة العالمية التي مَكَّنَتْه من الحكم وأجلسته على كرسي السلطة في بلادنا. إلا أنه لا يمكن أن يتخلى عن الجيش والشرطة والقضاء والإعلام ونحوهم.. لسبب بسيط: أن خدمتهم لهذه المنظومة العالمية نفسها إنما تكون من داخل هذه البلد!
مؤسساتنا في الحقيقة هي مؤسسات إنتاج وتصنيع العبيد، مؤسسات تجهيز الجنود والبيادق لتركيع الشعوب وإخماد حركة تحررها:
هي جيوش لم توجد لكي تحارب العدو أو لتحمي الحدود بل لكي تمارس الحكم وتنقلب عسكريا وتنصب المذابح في الشوارع، فإذا جاءها العدو انسحبت وتركت الأراضي حلالا زلالا، هذا إن لم تتنازل عن الأرض باتفاقيات سياسية من غير حرب أو نتيجة للحرب. ومع كل ما أنفق على هذه الجيوش لتجهيزها وتدريبها وتسليحها إلا أنها تخفق في مواجهة مجموعات مسلحة صغيرة، فلا جيش السعودية (التي تضرب المثل بأرقام صفقات التسليح) والإمارات يستطيع الانتصار على الحوثيين، ولا جيش مصر يستطيع حسم المعركة مع تنظيم ولاية سيناء، ولا جيش لبنان يجرؤ على التفكير في مواجهة حزب الله، ولا جيش سوريا يتمكن من مواجهة التنظيمات المسلحة، وهذا كله مع وفرة المال والدعم الاستخباري والسياسي والعسكري أحيانا، ومع سخاء هذه الجيوش في ارتكاب المذابح دون تردد!!
وهي شرطة لم تؤسس لحفظ أمن الناس والدفاع عن ممتلكاتهم، بل للسيطرة عليهم وتكبيلهم وإخضاعهم لإرادة السلطة، ولذلك فهي أكفأ في التعامل مع مظاهرة احتجاجية أكثر من كفاءتها في التعامل مع معركة شوارع بين مجموعة من البلطجية، أو مع مجموعة تهريب مخدرات. وفي هذا السياق يتحول أفرادها (مثل إخوانهم عناصر الجيش) إلى مسوخ بشرية لا إنسانية، لا تفهم غير لغة القوة وإطاعة الأوامر، لقد جرى إعدادها وتجهيزها منذ لحظة الالتحاق الأولى بالكلية لكي يكونوا آلات قاسية باردة لا تفكر في معنى ما تفعل ولا في أخلاقيته.
وهو قضاء لم يوضع لإقامة العدل بل لشرعنة سياسة السلطة، وتحويل عملية الظلم والسحق إلى منظومة فلسفية منمقة مزخرفة مشحونة بالألفاظ الرتيبة والتعبيرات الرصينة، ونصب تمثال القانون في موضع تمثال الصنم في العصر الجاهلي، حيث عليك أيها المواطن احترام القانوني مهما كان ظالما ولا أخلاقيا، ثم عليك احترام القضاء مهما انتهك القانون وتعدى عليه في سبيل شرعنته سياسة السلطة التي لم تعد تتفق مع القانون كما وضعته لنفسها!
وهو إعلام لم يكن يوما لتوعية الناس بل لتعبيدهم، لإخضاع نفوسهم وعقولهم لرغبة السلطة، لنشر التفاهة والسقوط والانحلال فيهم، إعلام يقوم بمهمة تصنيع الإله الذي يجب أن يطاع في هذه البلد، وهو الرئيس أو الملك بطبيعة الحال، فكل رئيس في بلده إله، ما أجمله وما أحكمه وما أعدله، معبود الجماهير مهيب الركن حكيم الأولين والآخرين، يرعى العلم والفن والثقافة والرياضة والمرأة والفقير... إلخ!
مثل هؤلاء لا تقبل دول الهيمنة أن نصدرهم لها كما يقبلون علماء الكيمياء والفيزياء والهندسة النووية، فمثل هؤلاء يقومون بدورهم في بلادنا، إنهم أركان مصنع إنتاج العبيد، وحراس آلة الاستبداد الوحشية، إنهم خط الدفاع الأول عن المنظومة العالمية المهيمنة، وهم مخلبها الأول والأقوى والقليل التكاليف.
لهذا كله لن تجد السيسي يقهقه طالبا ضريبة عقل مهاجر، بل سيقف صارما ليقول: أنا لو ينفع اتباع لاتباع. فهو يعرف والبقية يعرفون إنه "ما ينفعش يتباع"!
نشر في الخليج أون لاين
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 29, 2019 06:47

May 22, 2019

هل حقا يحب المغامسي إزاحة آل سعود وعودة عمر؟


أقسم صالح المغامسي يمينا مغلظة على أن الإخوان المسلمين لو بُعِث فيهم عمر بن الخطاب فلن يرضوا به خليفة للمسلمين لأنهم لا يقبلون أن يكون الخليفة إلا منهم.
وتلك يمينٌ كاذبة سيُسأل عنها أمام الله تعالى، وهي يمينٌ تدل على أنه يجتهد من نفسه لينافق السلطة السعودية لا أنه في عداد المضطرين والمقهورين، فإن المضطر المقهور يتخلص من المأزق بأدنى الوسائل وليس يبتكر مثل هذه الكلمات العظيمة!
لا الإخوان المسلمون ولا غيرهم من الحركات الإسلامية ولا من عموم المسلمين الذين يحبون الدين مهما بلغت انحرافاتهم يخطر في باله أن يعترض على عمر بن الخطاب لو بُعث فيهم، ولو أننا جمعنا المسلمين في صعيد وأقسمنا عليهم أن يصدقونا في تمنيهم أن يُبعث فيهم عمر بن الخطاب من جديد لهللوا فرحا وبكوا أملا.. اللهم إلا قليلا! وأولئك القليل هم هؤلاء الحكام الذين ينافقهم المغامسي ثم إخوانه في نفاقهم.
ذلك أن عمر بن الخطاب لو قيل له أن واليا ممن تغلب على المسلمين يبذل أموالهم لقيصر الروم مع شدة حاجتهم إليه، ثم هو يبذلها لمن يقتلهم ويذبحهم في مصر واليمن وليبيا كما بذلها أسلافه من قبل في الجزائر والعراق لما قرَّ لعمر قرارٌ حتى ينزل به من العقوبة ما هو أهله! فليس يخاف من انبعاث عمر بن الخطاب إلا من يخاف من جرائمه ومخازيه أن تنزل به عقوبة عمر!
وما لنا نذهب في الخيال وقد كفانا القوم مؤونة الخيال وقالوا بألسنتهم وأقلامهم قول السوء:
إن أول الذين سينزعجون من انبعاث عمر رجل مثل عبد الحميد الحكيم مدير "مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية" الذي مقره في جدة بالسعودية، حيث دعا العرب للاعتراف بأن القدس رمز ديني لليهود كما هي مكة بالنسبة للمسلمين، ثم إنه قدَّم قبل أيام (8 مايو 2019م) تهنئته لإسرائيل قائلا بصريح العبارة: "أقدم التهنئة بذكرى 71 عاما لإرادة شعب جعل من الحلم حقيقة بدولة من العالم الأول اسمها إسرائيل في محيط يقدس موروث الناصرية والإسلام السياسي يطعن في شرعيتها ويشرعن تدميرها، 71 عاما من إنكار العرب لحق اليهود التاريخي بدولتهم لم يجلب لهم إلا دمار أوطانهم كمسارح للحروب الأهلية تعبث بها طهران صباح مساء". فمثل هذا لا بد أنه ينزعج من عودة عمر الذي فتح بيت المقدس، ثم إنه سينزعج من عمر تارة أخرى لأن عمر أجلى اليهود من خيبر، ولعله كتب فعلا تهنئته لعودة اليهود إلى خيبر اعترافا "بحق اليهود التاريخي" فيها، ولكنه ينتظر الوقت المناسب لنشرها.
أول من سينزعج من عودة عمر رجل مثل المخرج السعودي علي الهويريني الذي يرى أن الفتوح الإسلامية كانت تخلفا وأنها كانت نكسة على الإسلام وأنها جلبت العداء للأمة الإسلامية، وقد نعى على جيوش الفتح الإسلامي أنها اتجهت إلى شمال إفريقيا ولم تتجه جنوبا إلى أعماق إفريقيا حيث نيجيريا (تأمل جهله بالجغرافيا!!) وإثيوبيا. لقد كان يدين جيش عمر الذي قاده عمرو بن العاص والذي فتح مصر ثم اتجه إلى الشمال الإفريقي بقيادة عقبة بن نافع وبسر بن أرطأة حتى فتحوا طرابلس، ثم أكملوا فتح تونس في عهد عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع. والفضيحة أنه لا يعلم أن الجيوش الإسلامية توغلت جنوبا حتى وصلت إلى دنقلة وفتحت ما بعد الشلال الرابع وبموازاة الشلال الخامس على نهر النيل، أي أنهم لم ينسوا إفريقيا التي يحزن على تركها بلا فتح، على أن حركة الفتوح كانت تستهدف إنهاء الوجود البيزنطي في الشمال الإفريقي الذي كان هو القوة الأساسية التي تواجه الإسلام في سائر جناحه الغربي: في الشام ومصر والشمال الإفريقي. وليس المقام مقام ردٍّ وتفنيد، إنما هو مقام بيان البلوى التي ابتلينا بها، والتي نوردها لنقول كيف كان علي الهويريني سينزعج من عودة عمر التي تعني عودة الفتوحات العظيمة شرقا وغربا.
لم يقف الأمر عند عمر بل تجاوزه إلى آخرين سينزعجون من هو خير من عمر، سينزعجون من عودة أبي بكر الصديق؛ فلقد أخرجت لنا السعودية في العقود الأخيرة من يتهم أبا بكر الصديق أنه مؤسس فكر التكفير، فقد نشرت صحيفة الرياض الرسمية السعودية تقريرا لأحمد الجميعة أستاذ الصحافة بكلية الإعلام بعنوان "الإرهاب لا دين له ولا وطن" (العدد: 13375، بتاريخ 5 فبراير 2005م) كان مطلعه على هذا النحو: "لم يخرج فكر التكفير إلى الوجود بغتة بل إن له جذوراً وسوابق في التاريخ الإسلامي ولعل أول وأهم واقعة تاريخية عبرت عن ميلاد فكرة التكفير في الإسلام هي "حروب الردة" التي خاضها الخليفة أبوبكر الصديق في مطلع عهده"، ثم قال بعد ذلك: "وبذلك تكون حروب الردة أول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير".
ترى إذا قيل لهذا أن أبا بكر سيبعث خليفة من جديد، فماذا يكون موقفه من خلافة مؤسس أيديولوجيا التكفير؟!!بقيت مرتبة أخرى أحط محجوزة لكاتب سعودي آخر أشهر من جميع من سبقوا، ذلك هو تركي الحمد الذي قال هذه الكلمة العظمى، "جاء رسولنا الكريم ليصحح عقيدة إبراهيم الخليل، وجاء زمن نحتاج فيه إلى من يصحح عقيدة محمد بن عبد الله". ولما اشتعلت ضده حملة على تويتر دَعَمَه أستاذ سعودي آخر هو وائل القاسم بقوله: "صدق الدكتور (تركي الحمد) في كل تغريداته التي ألهبت سياطها ظهور القطيع. نعم نحتاج إلى تصحيح عقيدة محمد ودين محمد ونصوص محمد بن عبد الله".
ليست المشكلة هنا في مجرد الكلمة التي يقولها أحدهم، المشكلة في أن قائل هذه الكلمات إنما يحظى بالتقدير والعناية في السعودية، ويوضع في مصاف النخبة المثقفة، وهو يمرح ويصول ويجول على الفضائيات والصحافة ومواقع التواصل في زمن الاعتقالات العامة والتخويف والترويع والإجبار على السكوت وإغلاق حسابات التواصل. ويحدث هذا كله في ذات الوقت الذي تطالب النيابة السعودية فيه بإعدام سلمان العودة وغيره من المشايخ، وتضع قائمة للاتهامات من بينها: تأسيس منظمة لنصرة الرسول!!
إن الذي يتخوف وينزعج من عودة عمر وأبي بكر ومحمد صلى الله عليه وسلم هو من ينوي بناء الكنائس في مهد الإسلام، وعنه تتسرب الأخبار والوعود بقرب بنائها وأن الأمر مسألة وقت، لا بل تتسرب الصور والفيديوهات لمساكن وبنايات اتُّخِذَتْ فعلا كنائس وتجري فيها الطقوس والشعائر المسيحية، فلئن كان صالح المغامسي يحب عمر بن الخطاب حقا فليواجه هذه الوقائع المعلنة والكتابات الصريحة قبل أن يقسم بالله هذا القسم المغلظ على غيب مكنون في الصدور تُكَذِّبه أحوال أصحابه وأعمالهم.
لكن ثمة سؤال هنا: ترى لو بعث عمر بن الخطاب فسأل المغامسيَّ: ماذا فعلت لرفع الظلم عن إخوانك المشايخ أو عن غيرهم من أهل مصر واليمن والشام والعراق.. ترى كيف سيقول المغامسي؟! هل يحب المغامسي حقا أن يبعث عمر بن الخطاب ويزيح آل سعود ويعود خليفة للمسلمين؟!.. هل يجرؤ المغامسي أن يعلن تأييده لإزاحة آل سعود من الحكم وأن يجاهد مع عمر ضدهم؟
ألا صدق القائل: ما شيءٌ أولى بطول حبسٍ من لسان!
نشر في الخليج أون لاين 
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 22, 2019 02:53

May 16, 2019

أيام ثقيلة: أوضاع العالم الإسلامي في 2019


من المغرب غربا حتى الصين شرقا، ومن نيوزيلاندا جنوبا حتى السويد شمالا، يبدو ثمة خيط متصل من الأزمة العامة لدى البلاد والأقليات الإسلامية.
في أشد لحظات التفاؤل بسقوط الشيوعية كان فرانسيس فوكوياما يضع قسمته للعالم إلى قسمين: "عالم ما بعد التاريخ" الذي يسكنه "إنسان ما بعد التاريخ"، و"عالم التاريخ" الذي يسكنه "إنسان التاريخ"، ووضع فوكوياما حدودا صارمة تضمن أن يتمتع إنسان ما بعد التاريخ بثروات إنسان ما قبل التاريخ دون أن يستطيع هذا الأخير مضايقة الأول في أرضه أو تهديده بسلاح ما، وأعلن أنه يجب التعامل بالقوة مع عالم وإنسان التاريخ. لكن تصدى هنتنجتون للرد عليه  في "صدام الحضارات" فدعاه لأن يكون واقعيا وعقلانيا وأن يبصر أن العالم ينقسم إلى حضارات، كل قوم يعكفون على هويتهم التي تميزهم وينفخون فيها الروح والحياة ويتمسكون بها وينسجون حولها أحلامهم وآمالهم، ومن ثم فيجب علينا أن نحدد من نحن لنحدد من الذين ينبغي أن نكرههم ونعاديهم ونحاربهم! وبالرغم ما بين الرجلين من اختلاف وتناقض إلا أنهما يتفقان أن العقبة الرئيسية التي تواجه الغرب هي الحضارة الإسلامية التي تبدي تصلبا كبيرا أمام التغرب كما أنها تهيمن على مركز الجغرافيا العالمية وأهم الموارد الاقتصادية وبالتالي فالحرب معها محسومة.
بدا عالم ما بعد الثورات العربية أنه تحقيق لهذه التوقعات بقرب الحرب العامة على المسلمين، بل لقد كتب جورج فريدمان في 13 يناير 2015 أن الحرب قد بدأت بين عالم الإسلام وعالم المسيحية، وأن عالم المسيحية مضطر لأن يقاتل الجميع طالما أنه لم يخترع جهازا بعد يمكن أن يفرق بين المسلم الإرهابي وغير الإرهابي!
ولا تزال البيئة الأكاديمية الغربية تكرر فكرة أن المشكلة الرئيسية في كون الإسلام نظاما وليس مجرد دين، فهذا هو "الاستثناء الإسلامي" الذي قدمه شادي حميد، ولهذا فإن محاولة إنشاء دولة إسلامية في النظام الدولي العلماني المعاصر هي محاولة لإنشاء "الدولة المستحيلة" كما قدمها وائل حلاق. وهذه الفكرة قديمة تكررت في كتابات المستشرقين، وبغض النظر عن أهداف قائليها فإن التوظيف العملي المعاصر يفضي إلى التعامل مع الإسلام والمسلمين تعاملا عدائيا كتهديد حضاري خطير.
وقد تفاعلت عوامل متعددة مثل الثورات العربية ونتائجها التي أبرزت التيارات الإسلامية (السياسية في التجارب السلمية، والجهادية في التجارب العسكرية)، وصعود الاتجاهات اليمنية والمتطرفة في أمريكا وأوروبا والهند والصين، لتجعل عالم ما بعد الثورات العربية عالما ساخنا يمور بالاضطراب والحركة والتغيرات اليومية.
وفي هذا الإطار يبدو عام 2019 وكأنه سيشهد واحدة من أكبر موجات التغير الحاسمة في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي حاولت هذه الورقة تقديم تصور عام له، لا يستهدف التحليل والاستشراف بقدر ما يستهدف تقديم الرؤية العامة ووضع المشاهد إلى جوار بعضها لتبدو خريطة العالم الإسلامي متصلة كجسد واحد كما هي في الحقيقة لا كما تجبرنا الدراسات الجزئية المتخصصة على تقطيعها وتجزئتها.المغربيعيش المغرب نذر تجدد حراك الريف الذي انطلق قبل أعوام قليلة ولكنه أُخْمِد وأودع رموزه السجن وكان من أبرز ما فتَّ في عضده أنه جاء في زمن انتصار الثورات المضادة، لكن الحراك الذي تشي به صفحات التواصل الاجتماعي وبعض المشاهد في مدرجات الكرة تقول بأن التململ لم يسكن تماما، والآن حين نجح الجزائريون في إسقاط بوتفليقة تجددت هذه الروح في جيرانهم المغاربة، وبدأ يزداد ويتواصل ما يعتبره البعض نذر تجدد الحراك من جديد.
كما يعيش المغرب حرجا آخر قد يؤثر على موقف السلطة يتعلق بصفقة القرن، وذلك أن ملك المغرب هو رئيس لجنة القدس التي انبثقت من منظمة المؤتمر الإسلامي ويفترض أنها المعنية بالدفاع عن القدس وتراثه وفيها مؤسسة بيت مال القدس الذي يفترض به رعاية شأن السكان والصحة والتعليم ونحو ذلك.
لهذا، يقدِّر البعض أن تفاعل المطالب الداخلية مع لحظة صفقة القرن قد يؤدي إلى حراك جماهيري في المغرب الذي ظل قصيًّا عن الربيع العربي، بعدما احتوى الملك موجتها الأولى بحكومة العدالة والتنمية فنزع بذلك فتيل الحراك الشعبي.
الجزائروإلى جوار المغرب تعيش الجزائر تداعي انتفاضتها التي أسقطت بوتفليقة وتواصل السعي نحو استكمال طريقها في لعبة شد الأعصاب وعض الأصابع مع النظام العسكري وأبناء فرنسا، ويبدو المشهد الجزائري حتى الآن تكرارا للنموذج المصري، المتمثل بإعادة تلميع العسكر الجزائري الذي يحتكر إدارة المشهد في زاوية الغموض والظلام بلا مشاركة مع أطراف شعبية وبحرص شديد على التذرع بالقانون والدستور لإبقاء الأحوال على ماهي عليه، بل يصل التشابه إلى تفاصيل صغيرة مثل القبض البطيئ المتدرج على عصابة النظام القديم، والتجاذب الحاصل بين فريق العسكر وبعض فريق أبناء فرنسا، وحالة الشيطنة العامة للإسلاميين.
وأشد ما يعاني منه الوضع الجزائري هو ضعف الصوت الممثل لعموم الشعب وغياب القيادة الممثلة للحراك التي تستطيع أن تضع نفسها طرفا في صناعة القرار، وهو التهديد الذي يجعل كل الحالة الثورية الجزائرية معرضة للسرقة والاحتواء وتجديد نفس النظام القديم بوجوه أخرى.
ثم تزيد الجزائر عن الوضع المصري مشهد تفجير الملف العربي الأمازيغي الذي تعمل أطراف كثيرة على تغذيته الدائبة، ومشهد التفزيع والتخويف الدائم من العشرية السوداء التي لم تندلع إلا بسبب سياسة العسكر الجزائريين أساسا والتي هي تهديد مبطن بأنهم قد يكررونها مرة أخرى!
تونس
وإلى جوار الجزائر تقبل تونس تقبل على مرحلة انتخابات قادمة ستكون هي المقياس الأخير للخيط الرفيع المتبقي من ثوب الثورة التونسية. ذلك أن رهان حركة النهضة وحلفائها الذين مثلوا حكومة ما بعد الثورة قام على قاعدة التنازل المستمر للحفاظ على مكسب التحول الديمقراطي، حتى جرى تسليم البلد مرة أخرى لممثلي النظام القديم بأشخاصهم وبشرعية كاملة، مقابل أمل منشود أن تظل الآلية الديمقراطية هي الآلية الوحيدة المعتمدة في تكوين هياكل السلطة.
وبناء على هذا التصور يترقب الجميع وضع الانتخابات المقبلة، فإن كانت انتخابات نزيهة وحصل فيها تبدل لمواقع السلطة والمعارضة فهذا يعني أن الثورة التونسية ما يزال فيها رمق وروح وإن كانت الأخرى فستكون هذه الانتخابات هي إسدال الستار على مشهد الثورة وإعلان تنصيب النظام القديم الذي نجح في احتواء الثورة وركوبها وإعادتها إلى ملعبه.
على أن الأوضاع في ليبيا والجزائر ستكون حاسمة في سلوك السلطة في تونس، فإن استطاع حفتر اقتحام طرابلس واستطاع العسكر الجزائريون امتصاص الثورة أو السير في طريق إخمادها فالأغلب أن سلطة السبسي ستتعامل بنفس الفجاجة والعنف المعتاد من نظام بن علي، وإن كانت الأوضاع في ليبيا والجزائر على العكس من هذا فإن الميزان سيميل إلى صالح الروح الشعبية.
ليبيا
إلى جوار تونس تعيش ليبيا واحدة من أحرج فصول ثورتها، حيث لا يزال حفتر على أبواب طرابلس مدعوما بالقوى الإقليمية (خصوصا: مصر والسعودية والإمارات) والدولية (خصوصا: أمريكا وفرنسا بالإضافة إلى الأمم المتحدة)، دعما سياسيا وعسكريا. فيما يتواصل الضغط على القوى الثورية التي تفتقد القيادة الحقيقية الجامعة وتتحرك في ظل هامش ضيق من المساحة السياسية والدعم المفقود بعد تضعضع أحوال الحلفاء في قطر وتركيا والسودان، فالحصار حول قطر واتهامها بدعم الإرهاب أدى إلى انسحابها من ملفات عديدة وتقليص الحركة في ملفات أخرى كذلك فإن المشكلات الداخلية والخارجية في تركيا تجعل من مسألة ليبيا مسألة متأخرة في جدول الأولويات العاجلة، كما أن انهيار نظام البشير في السودان والذي كان –لأسباب وموازنات خاصة- داعما لحكومة طرابلس ضد حفتر وتبدل الوضع فيها لصالح المحور السعودي الإماراتي، كل هذا يعود بالضعف على حالة القوى الثورية في طرابلس.
ومما يزيد في أزمة ثوار طرابلس ومن انحاز إليهم أنهم فيما يخوضون المعارك عسكريا عند طرابلس فإنهم يفقتدون المقاتل الصلب في دهاليز السياسة أمام مكر مبعوثي الأمم المتحدة والوسطاء الدوليين.
مصر
إلى جوار ليبيا يبدو المشهد المصري أكثر استقرارا، لكنه الاستقرار الذي لا يضمن أحد متى ينفجر، فبحسب العديد من التقارير الصادرة عن الاتحاد الأوروبي ومؤسسات دولية ومراكز بحثية تبدو الساحة المصرية مُنْذِرة بانفجار لا يُدرى متى هو ولا كيف يكون.
إلا أن هذا ليس الأمر الوحيد الذي يثير سكون المشهد المصري، بل إن التحرش الجديد بتركيا حول الحدود المائية وعمليات الحفر والتنقيب عن غاز شرق المتوسط يُنذر بتطورات متسارعة في ظل التصريحات التركية العازمة على التنقيب أمام التصريحات الأمريكية والمصرية والقبرصية، وفي السنوات القليلة الماضية تطور سلاح البحرية المصرية تطورا مثيرا للنظر وهو الأمر الذي لم يحدث منذ نحو قرنين بعد تدمير أسطول محمد علي باشا وفرض معاهدة لندن التي سرَّح فيها أسطوله، ولم تحاول مصر منذ ذلك الحين تطوير أسطولها البحري لا في عهد الاحتلال ولا في عهد العسكر، إلا ما كان مؤخرا من نظام عبد الفتاح السيسي، وهو ما يتأكد يوما بعد يوم أنه إعداد ضمن حلف مصري إسرائيلي يوناني ضد تركيا.
ثم يأتي بعد ذلك ملف صفقة القرن الذي هو الملف الأكبر للسيسي ليحصل على الرضا الأمريكي (ومصطلح "صفقة القرن" نفسه إنما سُمِع لأول مرة من السيسي في حضرة ترامب في أول محاولة لتسويق نفسه لديه)، والمؤكد أن مصر ستتولى على الأقل استقبال نزوح فلسطيني غزي في سيناء، ولا زال السيسي منذ تولى وهو يُجَهز سيناء لهذا الوضع بداية من حفر قناة السويس الجديدة التي تضاعف عزلة سيناء والتخلي عن تيران وصنافير وعن الضفة الغربية لخليج العقبة (تحت زعم المشاريع والاستثمار) وإصدار قوانين تبيح تملك الأجانب في سيناء وتهجير رفح المصرية وإزاحة سكانها إلى الغرب في عمق سيناء. كل ما سبق يجعل الأيام القادمة في مصر أياما مضطربة وساخنة كذلك.
السودان
إلى الجنوب من مصر تعيش السودان فصلا آخر خطيرا من أيامها بعد الانقلاب العسكري الذي امتطى الحراك الشعبي وأزاح عمر البشير، والآن يتولى أمر المجلس العسكري رجال معروفون بالتواصل القوي مع السعودية والإمارات إذ هم مهندسي المشاركة السودانية في حرب اليمن، فوق أنهم شركاء في فساد نظام البشير نفسه، فضلا عما رشح من سياستهم التي تضع السودان في المحور السعودي الإماراتي المصري، وتثير العداء مع المحور التركي القطري، ومع ذلك كله فإن نوايا البقاء في السلطة مسيطرة على تصريحاتهم بتطويل الفترة الانتقالية وهو ما يثير المخاوف مجددا من إخماد الثورة السودانية بالترغيب والترهيب، بالمذبحة والمناورة.
الخليج
إلى الشرق من مصر والسودان يعيش الخليج على صفيح ساخن، الإجراءات التي يتخذها محمد بن سلمان لتحطيم ما هو راسخ في المجتمع السعودي بل وحتى في تقاليد الأسرة الحاكمة، ثم السياسات الاقتصادية الجديدة، كل هذا يؤدي إلى توترات متسارعة وانهيارات لا يزال أغلبها مكتوما تحت القبضة الأمنية العتيدة، إلا أن لحظةً –لا يبدو أنها بعيدة- مثل وفاة سلمان قد تسفر عن خروج المكتوم إلى السطح، وساعتئذ سيكون الاختبار الحقيقي لسياسة ابن سلمان وتمكنه، فإن استطاع تجاوز اللحظة فقد تمَّ له الأمر، وإن لم يستطع فإن البلاد ستدخل في دوامة لا يُستطاع توقع آثارها وتفاعلاتها، ذلك أن نحو مائة سنة من حكم الأسرة السعودية الثالثة قد يؤدي انهيارها لحالة شبيهة بالتمزق القبلي والاضطراب السياسي الذي كان سائدا قبل عبد العزيز، إضافة إلى الحزازات التي صنعها حكم آل سعود ليس في نفوس القبائل فحسب بل في المحيط السعودي نفسه في قطر واليمن وإلى حد ما في عمان والكويت.
ومن المؤكد أن أي اضطراب في السعودية سيساوي اضطرابا يشمل الخليج والمنطقة، إذ أن الانقسام الحالي في الخليج يُرَتِّب انقساما طبيعيا داخل الأسرة الحاكمة السعودية في لحظة البحث عن بديل، وفيما تظهر قطر كأول المستفيدين والحريصين على إزاحة جناح بن سلمان تظهر كلا من الكويت وعمان في نفس هذا المعسكر وإن في مرحلة متأخرة وبدرجة أقل من الحرص.
ومع هذا فإن ثمة ملفان كبيران يمكن أن ينفجرا في أي وقت، لا سيما وقت وفاة سلمان، وهما دور السعودية في صفقة القرن المرتقبة وإلى أي حد يمكن أن تمرَّ موجة التطبيع العنيفة التي تفرضها السلطة السعودية شعبيا على مجتمع ساد فيه إلى الأمس التدين السلفي. والثاني هو ملف الاستنزاف المستمر في حرب اليمن والتي تشهد تقدما للحوثي على الأرض وسيطرته على المزيد من المناطق كما أنه استطاع تهديد الأجواء السعودي بقصف صاروخي متكرر وطائرات مُسَيَّرة.
اليمن
بحسب تقرير صادر عن منسقية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن (7 مايو 2019م)، فإن اليمن يشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث يحتاج نحو 80% من سكانه إلى الحماية أو مساعدات إنسانية، وأكثر من ثلثي المديريات اليمنية (230 من 333 مديرية) تواجه خطر المجاعة، وأن التمويل لخطة الاستجابة الإنسانية لم يتحقق منها سوى 14% من احتياجات تقدر بأكثر من 4 مليارات دولار.
بينما يشهد الوضع السياسي في الجملة تقدما مستمرا للحوثيين وسيطرتهم على العديد من المناطق، وضعف وتراجع المقاومة التي تعاني من نقص الدعم المتوفر من الحلفاء، ففي ظل الانقسام في الموقف بين السعودية والإمارات من ناحية وقطر من ناحية أخرى فقد أدَّى هذا إلى تراجع الدور القطري في اليمن، ثم إن الخلاف في الأهداف بين السعودية والإمارات ألقى بآثاره على الأوضاع على الأرض حيث تهتم الإمارات بالسيطرة على اليمن الجنوبي والموانئ وجزيرة سقطرى ولا تهتم كثيرا بما يجري في الشمال فضلا عن عدائها الأصيل لحزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) الذي يتولى مقاومة الحوثي في مناطق عمقه القبلية، بينما السعودية تهتم أكثر بما يجري في الشمال اليمني وتضع عينها أكثر على ميناء الحديدة الواقع غربي اليمن على ساحل البحر الأحمر، كما أن سياستها منذ بداية الحرب هي إعادة الحوثي للمفاوضات وليس التمكين للإصلاح، وهو الأمر الذي حدَّد سياسة السعودية في دعم الحوثي إلى أن انقلب الأخير عليها باحتلاله صنعاء ليلة وفاة الملك عبد الله.
الأردن
إلى الشمال من السعودية سيكون ملف صفقة القرن هو المثير للاضطرابات، وقد بدأت الأردن تشهد هذا التوتر المكتوم، والذي تختلف فيه التحليلات، إذ يبدو ملك الأردن رافضا لصفقة القرن ومعترضا عليها، وقرارات العزل لمجموعة من رجال الاستخبارات، بل وما يتسرب من قرارات تحفظ واعتقال لنافذين في الأسرة الملكية، تشي بأن ثمة ما يدور في الدهاليز، وهذا الوضع يفسره بعض المحللين باعتبار أن الأردن إذا فقد ورقة القدس والقضية الفلسطينية فلن يعود له دور إطلاقا في السياسة الإقليمية، وذلك ما يفسر تمسك الملك بالأوضاع السابقة على صفقة القرن.
بينما يذهب آخرون إلى أن الملك يمارس نفس المسرحية التي مارسها أبوه الراحل الملك حسين من قبل في حرب الخليج الثانية، ففي ذلك الوقت انقسم الموقف العربي من احتلال صدام للكويت فاتخذ الملك حسين موقفا غير متوقع وهو تأييده لموقف صدام، وقد سَوَّق صدام موقفه هذا بأنه بداية لتوحيد الأمة العربية لتحرير القدس وتمثل في هذا بصلاح الدين الذي وحَّد مصر والشام قبل تحرير القدس كما تذرع بالإسراف والترف الذي تعيشه دول الخليج ثم بالتحالف الدولي الذي تكون ضدَّه بقيادة أمريكا، وبتصريحاته المتكررة بقصف إسرائيل (وهو ما نفَّذ رشقات منه فيما بعد)، ومن ثَمَّ فقد كان الموقف الفلسطيني مدفوعا بالرغبة أولا في نجاح الخطة أو في تصديق وجود قيادة عربية تتأهب لتحرير القدس ثم مدفوعا بخريطة المعسكرات التي تكونت ضد العراق ليقف إلى هذا الجانب، وحيث يشهد الأردن كتلة شعبية كبرى من الفلسطينيين المهجرين بعد نكبتي 1948 و1967 فإن أي وقوف ضد العراق في ذلك الوقت كان يعني اضطرابا خطيرا على النظام السياسي، ولكن الملك حسين استطاع أن يمتص الغضب الأردني (والفلسطيني خصوصا) في الأردن عبر اتخاذه موقف التأييد والمساندة لصدام حسين (في مشهد مستغرب على طبيعة الملك وسياساته من قبل ومن بعد)، حتى إذا تم احتواء المشهد وقُصِف العراق عاد الملك سيرته الأولى.
بعض التحليلات تستدعي هذه الصورة لتستنج أن موقف الملك الحالي في نفس إطار امتصاص الغضب الشعبي عبر التظاهر بالوقوف في جانبهم إلى أن يتم الأمر لتعود الأمور سيرتها الأولى، ويشهد لذلك لقاءاته بالمعارضة الإسلامية وحضوره المؤتمرات والفعاليات المعنية بمسألة القدس وتقديم خطاب مرتفع اللهجة ليس معتادا منه.
سوريا
إلى الشمال من الأردن لا تزال الأوضاع في سوريا على صفيح ساخن، ويبدو أن الخلاف حول إدلب دخل في مرحلة التفجير بين أطراف القضية: الروسي والتركي، وهو خلاف يدخل على خطه التدخلات الإيرانية والأمريكية والإسرائيلية والأوروبية، فعلى خلاف ما استقر عليه الوضع في مؤتمرات آستانة وسوتشي وتفاهمات القمم التركية الروسية الإيرانية، فقد بدأت القوات السورية مدعومة بالقصف الجوي الروسي بمهاجمة المناطق التي كانت تركيا هي الضامن فيها لوقف إطلاق النار في ظل صمت تام من الجانب التركي، بل لقد تعرضت بعض نقاط المراقبة التركية لقصف من القوات السورية، وهذه المناطق هي التي تجمعت فيها القوى الثورية المسلحة التي هُجِّرت من المناطق المختلفة تدريجيا، فضلا عن المجموعات الجهادية التي لا تملك خيارا آخر. ويعد هذا التطور الأخير هزيمة للسياسة التركية وتدميرا لأهم أوراقها في الملف السوري.
وهذا الهجوم الأخير، سواء كان لفرض المنطقة العازلة التي تمخضت عنها تفاهمات سوتشي أو هو هجوم يعبر عن خلاف تركي روسي، فإنه في النهاية يقلص المساحة التي تعمل فيها المجموعات الجهادية وبقية القوة الثورية السورية، وثمة مؤشرات لوجود خلافات تركية روسية حقيقية بما يعني أن فرض المنطقة العازلة نفسه وما ينتج عنه من موجة نزوح جديدة إنما يساوي خسارة متزايدة للثورة السورية التي تضعضع أمامها موقف الحليف التركي الضامن، وهو ما يعني بالضرورة أن تآكل مساحات المحرر مستمر ولو على المدى المتوسط، إلا أن يتغير الظرف الإقليمي والدولي تغيرا حادا.
وبعيدا عن مشهد إدلب فإن مجموعة الأطراف الدولية تمارس تدخلها وتكوين تحالفاتها وأذرعها في ملف المسلحين وملف القوات الكردية في مناطق الشمال السوري، وهو لا يزال ملفا حافلا بالتناقضات والمصالح المتضاربة وإن يكن الآن أسكن من الملف المتفجر في إدلب.
ثم تأتي بعد ذلك عاصفة صفقة القرن التي ستلقي بظلالها على الوضع السوري لا سيما بعد حسم مسألة الجولان بقرار ترامب، وبعد سلسلة الضربات الموجهة للقوات الإيرانية ومراكز الأسلحة في سوريا.
العراق
إلى الشرق من سوريا تأتي العراق، ولا يزال العراق يحتفظ بجيوب تنظيم الدولة الذي تناثر وتمزق بعد هزائمه في الموصل والرقة والباغوز، وهذه المجموعات التي تناثرت في الصحراء لا يبعد أن تعيد تكوين نفسها من جديد. يرى البعض أن تنظيم الدولة لا بد سيعيد تكوين نفسه لكونه تنظيما عقائديا صلبا لا يُستغرب أن يتحول من حرب المواجهات المفتوحة إلى حرب العصابات التي كان عليها قبل 2014، ويرى آخرون أن تنظيم الدولة –لا سيما بعدما لحقه من هزائم- صار كشركة مساهمة مخترقة من عدة أطراف، وهذا يعني ضمن ما يعني أن قرار إعادة تنشيط بعض المجموعات قرار يمكن لطرف إقليمي أن يتخذه ضمن أوراقه في الخريطة السياسية. والمقصود أنه بغض النظر عن تحليل بنية التنظيم فإن احتمال عودته لا تزال مطروحة.
وبعيدا عن تنظيم الدولة فإن التوتر الشعبي العام في العراق نتيجة الفساد الضارب أطنابه في الحكومة العراقية في بغداد وانهيار الخدمات وتعدد الحوادث وكثرة الميليشيات المسلحة وما بينها من صراع معلن أحيانا ومكتوم أحيانا أخرى على مساحات النفوذ، كل هذا يضيف مزيدا من أسباب المعاناة في العراق ويجعل الاستقرار فيه أمرا بعيد المنال في المدى المنظور.
كذلك فإن التململ الدائم في المنطقة الكردية التي تَعَرْقَل إعلان انفصالها بعد التحالف الإيراني التركي مؤخرا لا يعني أن هذا الملف طويت صفحته، إذ لا يزال الملف الكردي واحد من أهم الملفات التي تعبث بها القوى الدولية لاستنزاف إيران وتركيا، وفي حال حصول أي تغير كبير في أي من هذين البلدين فإن الأكراد في العراق هم الجزء الأهم والأقوى ضمن المجموعات الكردية الأخرى وهو الجزء المؤهل للانفصال، مما سيكون له تداعيات خطيرة.
ومع هذا كله، إلا أن أخطر ما سيؤثر على العراق هو هذه العاصفة القادمة على إيران، فلا تزال العراق تحت النفوذ الإيراني على الحقيقة، وفي ظل ما تشهده إيران من تصعيد متسارع ضدها فلا بد أنها ستحاول من جديد استعمال أوراقها في العراق بما في ذلك أوراق المقاومة المسلحة ضد القواعد الأمريكية هناك، وهو ما سيعيد تشكيل وضع الخريطة العراقية التي لا يبعد أن تشهد من جديد صحوة لتنظيم الدولة أو القاعدة أو حركات المقاومة السنية (فضلا عن الشيعية في الجنوب) كنوع من دفاع إيران المبكر عن نفسها.
وقبل الانتهاء من هذه الأسطر حذرت واشنطن رعاياها من السفر إلى العراق بسبب التوترات المتصاعدة، ونبهت على رعاياها داخل العراق بتوخي الحيطة والحذر والابتعاد عن التجمعات العامة.
إيران
إلى الشرق من العراق تعيش إيران الآن فيما يبدو واحدة من أحرج لحظاتها مع هذا التصعيد الأمريكي المستمر ضدها، والذي لم تملك أوروبا أن تصمد فيه أمام الرغبة الأمريكية بالانسحاب من الاتفاق النووي، فبعد قليل من التباطؤ والاعتراض الرسمي التحق الاتحاد الأوروبي بالركب الأمريكي، وبدأت سلسلة من العقوبات الأمريكية الإضافية على إيران وتوسيع نطاقها، حتى صرح وزير الخارجية الأمريكي بأن الهدف هو حرمان إيران من صادرات النفط تماما الذي يشكل المصدر الرئيسي للدخل. وإلى لحظة كتابة هذه السطور تتصاعد التهديدات الأمريكية والتصريحات الإيرانية المقابلة.
تعد إيران في هذه اللحظة في واحدة من أشد لحظات ضعفها بعد الاستنزاف المستمر الطويل في سوريا والذي أهلك صفوة قوتها العسكرية والمالية، وانتهى الأمر إلى دخول روسيا إلى المشهد السوري وامتلاكها القرار الأعلى، فلم تستطع إيران رغم كل هذا النزيف المستمر أن تحتفظ بسوريا كحليف قوي أو كمنطقة نفوذ خالصة، ومن هذه الزاوية تعد القضية السورية واحدة من الخسائر التي تكبدتها إيران، لا سيما بعدما بدأت إسرائيل تنفذ قصفا جويا على مخازن أسلحة وقوات إيرانية في سوريا في مشهد قد يشير إلى انتهاء فترة التهادن الإيراني الإسرائيلي الذي استهدف الحفاظ على نظام الأسد لتبدأ فترة تصفية النفوذ الإيراني في سوريا.
وسواء تطورت الأمور نحو حرب عسكرية ضد إيران أو وقفت عند العقوبات الاقتصادية والحصار السياسي فإن الأيام القادمة في إيران ستكون عصيبة بكل المعاني، لا سيما الوضع الداخلي الذي قد يلقي بانعكاساته على الانكماش الإيراني في عدد من المفات الخارجية، ففي النهاية لن تستطيع إيران بعد العقوبات الاقتصادية القاسية أن تواصل دعم أذرعها ونشاطها عبر العالم مثلما كانت من قبل.
تركيا
إلى الشمال الغربي من إيران تأتي تركيا، وتركيا تشهد الآن واحدة من أشد لحظات أزمتها وضعفها الداخلي والخارجي أيضا، فهي متورطة في إدارة مناطق الشمال السوري، وهي ضامنة لمنطقة إدلب التي تنهار الاتفاقيات حولها.
ومن وجهة نظر تركيا فإن إدارتها لمناطق الشمال وضمانها لوضع إدلب هما الورقتان اللتان تنتظر فيهما تركيا تنفيذ بقية الأطراف لتعهداتها بشأنهما، لقد سارت الأحداث في سلسلة يمكن وصفها من زاوية تركية بأنها كالآتي: تركيا فعلت كل ما أمكنها لمنع تطور المشكلة السورية إلى مشكلة كردية داخلية، وقد استلزم هذا أن تكون طرفا مغلوبا على أمره في التفرج على تصفية الثورة السورية في سائر المناطق وتهجير المسلحين إلى إدلب في الشمال، على أمل أن يحترم الآخرون تعهداتهم فيما بعد، والآن: يبدو أن هؤلاء الآخرين يتنصلون من هذه التعهدات لتكون تركيا في ورطة عظيمة مع روسيا التي تحتاجها بشدة في ظل العلاقات المتوترة مع الاتحاد الأوروبي والأمريكان، وهي الحاجة التي تعرفها روسيا وتضغط بها لتفعل ما تشاء رغم أنف تركيا الحليف المضطر إليها!!
استمرار القصف على إدلب فضلا عن تدميره لأهم ورقة تركية في الملف السوري فإنه سينتج موجة نزوح جديدة إلى الأراضي التركية أو إلى الأراضي التي تديرها تركيا في الشمال السوري، وهو ما يمثل عبئا إضافيا، كما أنه –وهو الأهم والأخطر- يؤدي بالضرورة إلى تدمير الورقة الثانية في مناطق الشمال السوري، ففضلا عن أنه لا يمكن ضمان التزام الروس والإيرانيين بتعهداتهم فيها فإن تعدد الفصائل والمجموعات العسكرية وتعدد ولاءاتها ووقوعها ضمن منطقة تشتبك فيها قوى دولية مختلفة يمن سينضاف إليهم من المجموعات الجهادية من إدلب، كل ما سبق سيجعل تركيا تفقد الورقة الثانية وتخرج من الملف السوري لا بخفي حنين بل بخسائر سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة، فضلا عن تغير الخريطة الجيوسياسية التي تجعل الملف الكردي يتحول إلى درجة أكثر خطورة.
دوليا يتواصل الابتزاز الدولي لتركيا، وبدا هذا واضحا في الحفاوة الدولية بذكرى مذبحة الأرمن هذا العام، كذلك فإنه إذا صدقت التسريبات وأصدر ترامب قرارا بإعلان الإخوان جماعة إرهابية فسيكون هذا ورقة جديدة في ملف الضغط والإحراج والابتزاز السياسي الدولي لتركيا.
داخليا تعيش تركيا أزمة أخرى، إذ أوضحت الانتخابات البلدية الأخيرة تراجعا واضحا في التأييد الشعبي لحزب العدالة والتنمية، ويعتبر خسران الحزب لمقاعد أنقرة واسطنبول هزيمة رمزية مؤثرة وإن كانت لا تؤثر كثيرا على مجمل سياسة البلديات الفرعية التي ظل الحزب ممسكا بأغلبية كبيرة فيها، وفي لحظة كتابة هذه السطور أعلنت اللجنة العليا للانتخابات عن قرارها إعادة الانتخابات في اسطنبول، وهو ما يجدد المناخ الانتخابي الاستقطابي مع أنه قد يكون فرصة ثمينة للحزب لإعادة الاعتبار إلى صورته، إلا أنها فرصة محفوفة بمخاطر إثارة الفوضى من قبل المعارضة التي توحد فيها الطرفان النقيضان (حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي! مع أن الحزب الثاني يتأسس على المظلومية الكردية التي أنتجها الحزب الأول، ومع أن الحزب الأول يتأسس على الوحدة التركية التي لا تعترف بأعراق أخرى).
لكن نتائج الانتخابات الماضية أسفرت –ضمن ما أسفرت- عن ارتفاع أصوات معارضة داخل الحزب كان من أهمها رسالة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، وهو ما أثار توقعات بنيته تأسيس حزب جديد يتألف من الشخصيات التي تركت حزب العدالة والتنمية مثل الرئيس السابق عبد الله جل ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان وآخرين. وهي خطوة إذا حدثت ستسبب مزيدا من ضعف السياسة التركية ومزيدا من الضعف في حاضنتها الشعبية.
وما إن أعلنت اللجنة العليا للانتخابات قرارها بإعادة الانتخابات في اسطنبول حتى شهدت الليرة التركية انهيارا حادا في قيمتها، يبدو أنه سيتواصل في الأيام القادمة، وهذا الضغط الاقتصادي هو واحد من أهم أسباب التراجع السياسي لحزب العدالة والتنمية، فالاقتصاد التركي برغم قوته إلا أن بنيته كسوق مفتوح تجعل تأثر العملة ينعكس سريعا على الأسعار فيطال هذا المواطن البسيط بشكل مباشر.
أفغانستان
إذا عدنا إلى إيران واتجهنا شرقا فسنجد وضعا ملتهبا آخر في أفغانستان، فقد اختتمت قبل أيام قليلة جولة المفاوضات السادسة بين طالبان والأمريكان في الدوحة دون نتائج تذكر، بينما تواصل قوات طالبان العمليات ضد القوات الأمريكية وقوات الحكومة الأفغانية العميلة، وما رشح عن جولة المفاوضات من الحديث حول سلاح طالبان والاعتراف بحكومة أفغانستان يدل على أن مشوار المفاوضات لم يدخل بعد في سياق الجدية، بل يميل الباحث إلى اعتقاد أن هذه المفاوضات مجرد محاولة أمريكية لدراسة عقل قيادة طالبان وتوجهاتها أكثر منها مفاوضات حقيقية، في محاولة لتحقيق تقدم لم تستطع القوات الأمريكية تحقيقه من خلال العمليات العسكرية. وإذا صحَّ هذا فمعناه أن المفاوضات تسير إلى طريق مسدود وأنه سيعقبها التهاب الوضع مجددا في أفغانستان في محاولة من كلا الطرفين لدخول الجولة القادمة وقد صارت لهم على الأرض أوراق جديدة.
باكستان
شهدت نهاية شهر فبراير الماضي تصعيدا عسكريا مفاجئا بين الهند وباكستان، حيث اقتحمت مقاتلات هندية الأجواء الباكستانية وتصدت لها مقاتلات باكستانية وأسفر الاشتباك عن تحطم مقاتلتين هنديتين وأسر طيار هندي، وتسارع المشهد بإغلاق الهند أربع مطارات في شمال البلاد، وبدأت حرب تصريحات وتحركات على الأرض حتى إن باكستان سحبت عددا من قواتها من الحدود الأفغانية لتحشدهم نحو الحدود الهندية، وفيما بدا الخطاب الباكستاني حريصا على التهدئة ونزع فتيل الأزمة بدا الخطاب الهندي عنيفا وحاد اللهجة. فيما يبدو نزع فتيل الأزمة بالإفراج الفوري الباكستاني عن الطيار الهندي الأسير، وهدأت الأمور.
قبل هذه الواقعة بثلاثة أيام فقط كان قاسم سليماني يطلق تصريحات نارية ضد باكستان بعد تفجيرات زاهدان، ويتهم باكستان بأنها تسمح بنفوذ واسع للمال السعودي الذي يصنع الإرهاب ويعبر الحدود إلى إيران. وقبلها بأيام أخرى كان محمد باقري رئيس هيئة الأركان الإيراني يهدد بأن إيران قد تمارس ضرب مراكز "الإرهاب" في باكستان بنفسها. ولكن ما لبثت أن وقعت عملية أخرى في إبريل قُتل فيها جنود باكستان وأعلنت باكستان أن المنفذين إنما جاءوا من إيران. وعند نهاية شهر إبريل أعلن المسؤولون في البلدين تشكيل قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب. وقرأ البعض في هذه الخطوة محاولة من باكتسان لتقوية الصلة بإيران في مواجهة الخطر المحتمل الذي تتوقعه من الهند.
انعكست هذه الأحداث على الداخل الباكستاني، إذ نشطت السلطات الباكستانية في تتبع ومراقبة المدارس والمعاهد الدينية بذريعة مكافحة الإرهاب، لسحب الذريعة من الهند ومن إيران وكخطوة تحاول بها جذب الأمريكان إلى صفها فيما يمكن أن يحدث بين البلدين، وهذه السياسة الأمنية الداخلية تزيد من التوتر العام في باكستان لا سيما منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان وما تبعها من مواجهات دامية متعددة الفصول.
الأقليات الإسلامية
إلى الشرق من باكستان تبدأ قصة الأقليات الإسلامية بعد اختفاء الدول الإسلامية (فيما عدا بنجلاديش التي سيأتي الحديث عنها ضمن أقلية الروهينجا)، وستُكْمِل الأقليات الإسلامية خط الأزمة الملتهب في الهند، وفي بورما، وفي تركستان الشرقية.. فضلا عن خط الأزمة المتصاعد لدى الأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا.
1. الهند: بدأت في الهند الانتخابات البرلمانية يوم 11 إبريل الماضي وينتظر إعلان نتيجتها يوم 23 مايو الجاري، والهند دولة ذات نظام برلماني، بما يعني أن هذه هي الانتخابات الأهم هناك. هذه الانتخابات ربما هي الأعسر على المسلمين منذ استقلال الهند قبل سبعين سنة، فبالرغم من أن الأقلية الإسلامية في الهند هي أكبر الأقليات المسلمة في العالم، إلا أنها تُواجَه بخطاب طائفي عنصري هندوسي بغيض، فالحزب الحاكم الذي فاز في الدورة الماضية وتعد المؤشرات في صالحه أيضا لهذه الانتخابات يعمل على تحويل الهند من دولة ديمقراطية علمانية إلى سياسات يمينة عنصرية هندوسية، وقد جاء هذا الحزب في وقت مواتٍ تماما، مع وجود ترامب في البيت الأبيض، فضلا عن العلاقة المتميزة التي يتمتع بها مع إسرائيل، وكذلك مع دول الخليج ولا سيما الإمارات التي تدعم بقوة وسخاء السياسات اليمينية ضد المسلمين والمنظمات الإسلامية في الهند، ويعول الحزب الحاكم على الفوز مجددا بما يتيح له تغيير الدستور لحساب تمكين الطائفة الهندوسية وتقليص المساحات الممنوحة للآخرين لا سيما الأقلية المسلمة. وقد حملت الدعايات الانتخابية عددا من الشعارات التي تهدد بإنهاء الوجود الإسلامي في الهند.
2. سريلانكا: إلى الجنوب من الهند ثمة حملة عاتية تجري على المسلمين في سريلانكا، بعد التفجيرات الأخيرة التي كانت بمثابة الشرارة لسياسات أمنية عنيفة تجاه المساجد والجمعيات الإسلامية، فضلا عن موجة أخرى من خطاب الكراهية والتحريض ضد المسلمين في سريلانكا، وفيما يبدو فإن هذه الحالة ستتحول إلى أوضاع قانونية جديدة تزيد من معاناة المسلمين الذين يعانون أصلا من السياسات الحكومية هناك.
3. الروهينجا: لا تزال مأساة الروهينجا قائمة في ظل غض الطرف دوليا عن سياسات الحكومة في بورما رغم التقارير العديدة التي أصدرتها المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة نفسها، وهو الوضع الذي سمح باستمرار حملة الحكومة في بورما على أقلية الروهينجا التي تجد نفسها بين جحيم المجموعات البوذية المتعصبة المتسلحة بالدعم الحكومي وبين إغلاق الحدود أمامهم كمهاجرين في تايلاند، أو الأوضاع القاسية شديدة السوء في ملجئهم الوحيد المتاح في بنجلاديش في مخيمات مبنية من القش والخشب والأقمشة في مناطق ذات مناخ مطير تتجدد فيه السيول والعواصف وتنتشر فيه أمراض الأحراش والغابات. ولا تبذل حكومة بنجلاديش شيئا ذا أثر لهؤلاء اللاجئين، بل على العكس فهي تتاجر في أموال الإغاثات القليلة المقدمة إليهم من منظمات إنسانية محدودة، إذ أن حكومة بنجلاديش تحتل مرتبة متقدمة في سلم الفساد، فضلا عن النظام السلطوي الديكتاتوري العلماني والذي تحولت البلاد تحت سلطته إلى واحدة من أفقر دول العالم.
4. تركستان الشرقية: ثم إلى الشرق من بنجلاديش الأقلية المسلمة المنسية: التركستان الشرقية، شعب الأويغور الذي يشهد واحدة من أعنف وأعتى وأشرس حملات الاعتقال والتطهير والتعذيب والإفناء والتذويب على يد السلطات الصينية، التي أنشأت العديد من مراكز الاعتقال الضخمة وحشدت فيها أعدادا غفيرة من شعب الأويغور، فضلا عن سياسات التعايش (بمعنى وضع صيني في كل بيت أويجوري كسيِّد عليهم ورقيب أيضا) والإخاء (بمعنى تشجيع -أو إجبار- زواج الإيغورية المسلمة من الصيني الملحد)، وقد أورد العديد من الناجين من هذه المعسكرات شهاداتهم على التعذيب الوحشي الذي يجري فيها لإنهاء الهوية الإسلامية والإلزام بالعقيدة الشيوعية التي يمثلها الحزب الشيوعي الحاكم، بل وأوردت العديد من الشهادات أن السلطات الصينية قامت بحملة لتعقيم المسلمات الإويغور، وهو ما يجعل فناء هذا الشعب مسألة وقت. وشعب الأويغور هم من المسلمين الأتراك وهم أعرق المسلمين في هذه الأنحاء إذ يمتد إسلامهم إلى الفتوح الأموية على يد قتيبة بن مسلم الباهلي الذي فتح مدينة كاشغر عاصمة التركستان في نهاية القرن الأول الهجري، وكان الأويغور دائما أرقى الشعوب التركية حضاريا وثقافيا، وجرى احتلال تركستان الشرقية على يد الصينيين عام 1948م.
5. المسلمون في الغرب: إذا انتقلنا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فسنجد وضع الأقليات الإسلامية في أوروبا تعاني من صعود الأحزاب اليمينية التي تضع في صلب برنامجها مكافحة الهجرة والحفاظ على هوية أوروبا التي يرون أنها مهددة على يد المسلمين تحديدا، وتعد حادثة نيوزيلاندا (وهي حادثة غربية حضاريا رغم أنها شرقية جغرافيا) المؤشر الأكبر الذي أشار إلى حقيقة تصاعد الهجمات ضد المسلمين والمساجد، وهو الأمر الذي يمتد من نيوزيلاندا شرقا حتى كندا غربا ليشمل كل الوجود الإسلامي في أوروبا وأمريكا. وفي أمريكا يعيش المسلمون أجواء شبيهة بلحظات ما بعد 11 سبتمبر بل ربما أسوأ حيث مثَّل خطاب ترامب وسياساته فرصة واسعة لتصاعد خطاب الكراهية ضد المسلمين، سواء في البيئة السياسية وتحت قبة البرلمانات الغربية أو في البيئة الأكاديمية أو في البيئة الإعلامية.
الحركات الإسلامية
يشير مصطلح "الحركات الإسلامية" إلى التيارات الإسلامية التي تمارس أعمالا تؤثر حركيا في المشهد السياسي، ولذلك يختلف هذا عن مصطلح "التيارات الدينية" التي تتسع لتشمل الاتجاهات المهادنة سياسيا أو المنعزلة عن المجال السياسي. وعادة ما يشير مصطلح الحركات الإسلامية إلى ثلاث اتجاهات كبرى فاعلة هي: الإخوان المسلمون، التيارات السلفية، التيار الجهادي.
هذه الاتجاهات الثلاثة تعاني ضعفا وانحسارا واضحا على سائر المستويات، وقد تلقى كل منها ضربة قاصمة في منطقة نفوذه الأصلية:
1. فأما التيار السلفي العلمي والحركي فقد تلقى هذه الضربة في السعودية مع سياسات ولي العهد محمد بن سلمان الذي يطمع أن يكون أتاتورك الجزيرة العربية فيكرر فيها تجربة أتاتورك العلمانية عقيب إسقاط الخلافة، وقد شهد التيار السلفي أوسع هجمة إعلامية حكومية وأوسع حملة اعتقالات للعديد من رموزه، وأُجْبِر آخرون على السكوت التام وإغلاق حساباتهم بمواقع التواصل، بينما أجبر آخرون على تقديم مراجعات واعتذارات صريحة، وهذا إضافة إلى إغلاق وتجميد وتقليص العديد من الجمعيات والمؤسسات الدعوية مما سبب انهيارا حادا في نشاطاتها، وإلغاء الأنشطة الدعوية المسجدية وفرض سياسات أمنية وصلت إلى الشعائر والعبادات كصلاة التروايح والاعتكاف في رمضان.
2. وأما الإخوان المسلمون فقد كانت الضربة القاصمة في مصر التي هي مركز قوتهم ونشاطهم الأول من بعد الانقلاب العسكري (يوليو 2013م) وهي السياسات التي لا تزال مستمرة والتي أسفرت عن تحقيق انهيار هيكلي كبير للجماعة وتحول أعضائها الفاعلين من القادة والكوادر إلى الهجرة في المنافي أو دخول السجون، مع مصادرة عامة لأهم أذرعها الاقتصادية ومؤسساتها المالية والاستثمارية، وعمليا فإن الجماعة في هذه المرحلة لا تستطيع أن تكون طرفا في المعادلة السياسية لا سيما بعدما ضربها الانقسام الداخلي الذي أسفر بدوره عن تفلت النسبة الأكبر من الشباب داخل مصر وخارجها.
3. وأما التيار الجهادي فقد تلقى أيضا ضربة عسكرية قاصمة غادر بها مناطق قوته الأساسية، فتنظيم الدولة الذي تمدد على مساحة واسعة بين العراق وسوريا واستولى على مقدرات واسعة قد خسر كل أراضيه، والمجموعات الجهادية التي نشطت في الثورة السورية صارت محصورة في منطقة محدودة في الشمال الشرقي لسوريا مركزها إدلب، وبقية الأجنحة الجهادية الأخرى تتراجع بوضوح مستويات نشاطها في إفريقيا أو آسيا أو أوروبا.
وعلى الجانب الآخر تشهد الحالة الإسلامية ازدهار "حركات" أخرى كانت تحسب قبل ذلك على فئة "التيارات الدينية" مثل الصوفية والسلفية المدخلية الجامية التي هي التمثيل الحكومي في التيار السلفي، وهذا الازدهار إنما في سياق محاولة تحطيم الحركات الإسلامية المشار إليها، ولهذا جرى دعم كبير للتيار السلفي المدخلي الذي يمكن القول بأنه استند أصالة إلى الأموال والنفوذ السعودي سواء في السعودية أو في مصر أو المغرب العربي وقد بلغ أقصى لحظات قوته في ليبيا حيث يملك التيار المدخلي ميليشيات مسلحة قوية تقاتل ضمن صفوف قوات خليفة حفتر. كذلك جرى كما جرى دعم آخر شبيه للتيار الصوفي الذي استند أصالة إلى الأموال والنفوذ الإماراتي وإن لم يصل حتى الآن إلى مستوى من الفاعلية تشبه المداخلة في ليبيا.خاتمةطبقا لهذه المؤشرات والاتجاهات العامة فيبدو واضحا أن خريطة البلاد والحركات الإسلامية عند نهاية 2019 ستكون قد تغيرت كثيرا عنها في هذه اللحظة، وهو ما يجعل العالم الإسلامي مقبلا على جملة من التحديات الثقيلة التي لا يبدو حتى الآن أن ثمة من يفكر فيها بمنظور إسلامي عام فضلا عن أن يوجد من يُعوَّل عليه في التصدي لها.
ومع هذا فحركة التاريخ لا تعرف المستحيل، كما أن تفاعلات الأحداث الكثيرة كثيرا ما تنتج ما لم يكن في الحسبان، فلم يكن يخطر ببال أحد في أكتوبر 2001 أن أمريكا قد تجلس في مفاوضات بعد ثمانية عشر سنة مع طالبان، ولم يكن يتصور أحد أن صفعة على خد البوعزيزي قد تتسبب في انطلاق شرارة ثورات عربية متصلة، ولم يكن يتصور سياسي ما قد أربع سنوات أن ترامب بسياساته وأسلوبه يمكن أن يكون رئيس أمريكا القادم.
لقد شهدت السنوات الماضية أن النظم العربية والجماعات التقليدية تعاني تصلبا وجمودا يجعل سقوطها أسهل مما كان متوقعا، وإلى لحظة كتابة هذه السطور تبدو النظم أكثر قدرة ومرونة على تجديد نفسها من الجماعات التقليدية، فهي تمارس الآن استعادة ما خسرته في جولة الربيع العربي الأولى ويتكون بينها تحالف عميق واسع لمضادة الحراك الشعبي، ويبقى أن تعيد الجماعات تكييف نفسها طبقا لتحديات المرحلة أو أنها ستعاني من السقوط النهائي والاستبدال.
إذا استطاعت هذه الورقة رسم صورة عامة لعموم المشهد الإسلامي ينبني عليها بذور تفكير شامل في عقل قارئ مسلم مهموم، فستكون قد حققت هدفها.
نشر في المعهد المصري للدراسات
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 16, 2019 14:19