محمد إلهامي's Blog, page 16

October 7, 2019

فتنة الضعف والفقر


أرشد الله تعالى أن الضعف والفقر فتنة، وقد تصل إلى هذه الفتنة إلى الكفر، ولهذا اقتضت حكمته أن لا يجعل نعيم الدنيا منصرفا إلى الكافرين وحدهم مع شدة حقارة الدنيا عليه، وذلك أنهم لو حازوها لهاجرت إليهم القلوب لانبهارها بهم فتابعتهم على كفرهم، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35]
ومعنى الآية أن الله أشرك المؤمنين والكافرين في نعيم الدنيا، بينما جعل نعيم الآخرة للمتقين وحدهم، ولو أنه تعالى جعل نعيم الدنيا للكافرين وحدهم لهاجرت النفوس إلى الكفر لما ترى عندهم من التفوق والغنى والنعيم، فلولا هذا لجعل الله للكافرين سقوف بيوتهم وأبوابهم ومصاعدهم وأسرتهم من الذهب والفضة.
وهذا أمر مضطرد في طبائع البشر نراه ونلمسه صبح مساء، وقد اشتهرت مقولة ابن خلدون في أن المغلوب مولع بتقليد الغالب في زيه وشعاره ونحلته وسائر عوائده، وقد صرنا الآن في حال نرى فيها شباب الأمة يتساقطون في الإلحاد والإباحية والعدمية والأفكار التي لم تتشربها نفوسهم عبر السجالات العقلية أو البحوث العلمية، وإنما غُزِيت نفوسهم بهذه الأفكار لأنها جاءت من الغالب المتفوق الغربي.
وإذا طالعنا المشهد الفكري الإسلامي نفسه فسنجده سجالات متكررة في الحديث عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل واستقلاليتها وحريتها في نفسها وحقها في العمل والسفر بدون محرم ونصيبها في الإرث ولماذا هو النصف، أو مسائل الحرية التي تقصد أساسا حرية الردة أو الزنا أو اللواط، أو مسائل دور الدين في الحياة وضرورة أن يبقى في المسجد لا شأن له بالسياسة أو الاقتصاد أو العلوم!
هذه المسائل وأشباهها إنما هي مناطق التناقض بين الإسلام والحضارة الغربية المتفوقة، ولذلك تدور المحاكمات حولها، ولو أن الدنيا دالت وانقلبت موازين القوى فصعدت الصين أو الهند لاختلفت طبيعة الأفكار الوافدة وطبيعة المسائل التي يجري السجال حولها، وعندها ستجد المسلمين يستهلكون جهودهم في مسائل أخرى، فربما هوجم الإسلام لأنه لا يجيز للمرأة أن تحرق نفسها بعد زوجها فهذا هو معنى الوفاء الأكيد لذكراه، أو هوجم لأنه يبيح للمرأة أن تطلب الطلاق ولو بغير ضرر مباشر لمجرد أنها لا تستطيع الحياة مع هذا الزوج، أو حتى هوجم لأنه يتعامل مع البقرة كحيوان من الحيوانات، أو لأنه يَعِد المؤمنين بالملذات الحسية في الآخرة ويبيح لهم في هذه الدنيا التمتع في الدنيا بالشهوات الجسدية من المأكل والمشرب.. إلخ! إن القصف المتواصل للثقافة الهندية المتفوقة في ذلك الحين سيجعل هذه المسائل موضع المحاكمة.
ولما كان الضعف فتنة وجَّه الله تعالى عباده إلى احتياز القوة وإعدادها فقال {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، واللطيف في الآية هو توجيهها النظر إلى أن ثمة "آخرين" ليسوا من الأعداء يتأثرون هم أيضا بحال القوة والضعف، فإذا كنتَ قويا ارتدعوا، وإذا كنتَ ضعيفا كانوا مع العدو! فالضعيف مطمع متاح مباح ليس للذي ينهشه فحسب، بل إن نهشه حلم يراود هذا الآخر الجالس بعيدا كذلك.
ولما كان الفقر فتنة استعاذ النبي بربه منه، وجعله قرينا للكفر، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر"، وهذا الدعاء العجيب الجامع قد أرَّقني زمنًا، فإنه دعاء قصير مسجوع، ولم أفهم لماذا ذكر النبي الكفر مع الفقر مع عذاب القبر، حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يكون قاله طلبا للسجع والجرس، حتى هداني الله إلى أن هذا الدعاء القصير إنما جمع الاستعاذة من الذل في كل أطوار الإنسان، فالإنسان في الدنيا ذله الفقر، والإنسان في الآخرة ذله الكفر، والإنسان في البرزخ ذله عذاب القبر.. فهكذا استعاذ النبي من ذل الدنيا وذل القبر وذل الآخرة، وصلى الله على من أوتي جوامع الكلم.
وفي أول معركة كبرى بين المسلمين وبين أعدائهم من قريش، أنعم الله عليهم بنعمة عجيبة ذكرها لهم، أنعم عليهم بأنه قَلَّلَ الكافرين في أعينهم، فهذا ما جعلهم أجرأ عليهم وأقوى في قتالهم، ولو أن المسلمين شعروا بحجم الفارق لوقع بينهم التنازع واضطراب قرار المواجهة، كما أنه سبحانه وتعالى قلَّل المؤمنين في أعين الكافرين ليسوقهم إلى الهزيمة والفخ، قال تعالى {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 43، 44].
وإذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأردنا أن نضع نقاطا على المراحل الفاصلة التي كثر فيها المسلمون فسنجد أنها كانت عقب الانتصارات، فقد انتهى المشركون في المدينة بعد غزوة بدر وصارت المدينة إما مسلم أو منافق أو يهودي، ومن بعد بدر صار عقد التحالفات مع القبائل والأنحاء أهون وأيسر، ثم جاءت الحديبية التي هي بمثابة الاعتراف الدولي بدولة المسلمين فكانت فتحا مبينا حتى أسلم في العامين اللذيْن بعدها مثلُ الذين أسلموا من أول الإسلام، وفي هذا الفتح نزل قوله تعالى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، ثم كان فتح مكة فكان الفتح الأعظم وبه دخل الناس في دين الله أفواجا، وكان العام التالي للفتح هو عام الوفود الذي أقبلت فيه وفود قبائل العرب تدخل الإسلام وتبايع النبي، وفي ذلك الفتح نزل قوله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1، 2].
ولعله لهذا اقتضت سنة الله تعالى أن يُبعث الأنبياء في أشراف أقوامهم، فيكون هذا من أسباب كمالهم البشري، إذ لو بُعِث الأنبياء في الضعفاء لاستنكفت أكثر النفوس عن الاستماع لهم واتباعهم، بل ولقُتِلوا قبل أن يبلغوا رسالتهم، وقد قصَّ تعالى علينا بعضا من هذا عن قوم صالح عليه السلام الذين كانوا يخشون من قومه فدبروا لمؤامرة سرية لقتله ولإعلان براءتهم أمام عشيرته من دمه، هذا مع أنهم الزعماء التسعة الرؤساء الذين يملكون زمام الإفساد، {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]، وكذلك قص الله علينا مشهدا مماثلا عن قوم شعيب الذين {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]، وضرب الله مثلا بحالة وحيدة لنبي افتقد للقوة وهو لوط عليه السلام، فكان في محنة يستغيث فيها ولا يجد ناصرا ويرجو أن لو كان له ركن متين {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، وعندئذ جاءه المدد فكشف ضيوفه عن أنهم ملائكة من عند الله وأنه لن يمسه منهم سوء، ولقد ذَكر النبي هذا الموقف ثم قال: "رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد!"، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "وما بعث الله من بعده من نبي الا في ثروة من قومه". ولقد كانت حماية عبد المطلب وبني هاشم لنبينا صلى الله عليه وسلم هي المانع الأكبر الذي أطال عمر الدعوة في مكة عشر سنوات، وعجز ملأ قريش أن يقتلوا النبي أو يؤذوه لقوة عصبته، وهذه هي السنوات العشر الذهبية التي استطاعت فيها الدعوة أن تجمع أنصارا وأن توجد لنفسها أرضا أخرى تنتقل إليها، ولولا هذا لكان قتل النبي هينا على ملأ قريش كقتلهم ياسرا وسمية، فعلوها ولم يطرف لهم جفن! ولم يخرج النبي إلى الهجرة إلا بعد استيثاق العباس من نصرة أهل المدينة له، وكان النبي في حراسة دائمة ليلا ونهارا حتى نزل قول الله تعالى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. ولهذا قال ابن خلدون في هذا المعنى: وإذا كان هذا في الانبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم؟!
إن المسلم المخلص، لا سيما في أوقات الاستضعاف، يحمل همًّا عظيما ومسؤولية كبرى، إن عليه أن يكافح ألا يكون فقيرا أو ضعيفا، وأن يرفع الفقر والضعف عن أمته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويكون ذلك منه على مستوى نفسه وأهله وجيرانه، كما يكون على مستوى قومه وبلده وأمته، وكل إنسان أدرى بما يستطيعه.. إن إنقاذ الناس من الفقر والضعف هو في الحقيقة إنقاذ لهم من الكفر! وكفى بذلك أجرا عظيما!
نشر في مجلة المجتمع، أكتوبر 2019
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 07, 2019 11:00

October 3, 2019

ثورة متسولة!


تعددت الأقوال والأمثال والحِكَم التي تُحَقِّر من لا يستفيد من تجاربه، حتى قال بعضهم الإنسان حيوان ذو تاريخ، وذلك أنه يستطيع تذكر الماضي واختزان تجارب الجيل السابق فيستفيد منه، وهذه الاستفادة هي التي تصنع تقدمه وتطوره، بينما الفأر يمكن أن يُصاد بنفس المصيدة وقطعة الجبن التي وقع فيها جده قبل ألف سنة، ونفس هذه المصيدة تصيد بقية إخوانه من بعده.
نحن الآن بعد أكثر من ثماني سنوات من ثورة يناير، ولكن البعض يريد تكرار نفس المشهد! يكفي هذا وحده لنحكم عليه بالحمق والسفاهة.
لكن الأكثر إثارة للاستغراب أنه أنه لا يريد حتى تكرار نفس المشهد، بل هو يريد تكرار الجزء الألطف والأسهل فيه، جزء الهتافات واللافتات والتجمعات الكثيرة، وينسى تماما المشهد الأهم والأقوى والأخطر في الثورة، المشهد الذي واجه فيه الشعب السلطة حتى أحرق أقسام الشرطة وقاتل في الشوارع وكاد أن يقتحم وزارة الداخلية، ونزل بأسحلته ليحمي الشوارع ويغلقها في وجه الشرطة، بل قاتل فيه الوحدات الأولى من الجيش التي نزلت إلى التحرير وأحرق سيارات الجيش.. هذا المشهد هو الذي شلَّ الذراع الأمنية للنظام وأجبر النظام على الاستعانة بالجيش، وساعتها كان القرار الأمريكي الذي أمر الجيش بعدم استعمال العنف ضد المتظاهرين والبدء بالتغيير هو الذي شلَّ الذراع العسكرية للجيش.
لم يكن الشعب ساعتها يعرف ماذا سيكون عليه القرار الأمريكي، من فضل الله على الجميع أنه كان في صالح التغيير (ولسنا الآن بوارد الحديث حول ما إن كان هذا القرار الأمريكي صحيحا أم خاطئا، فهذا أمر لا يزال يتجادل فيه الأمريكان أنفسهم، وتروي مذكرات هيلاري كلينتون وروبرت جيتس وغيرهم كيف تجادلوا فيه)، نقول: لم يكن الشعب ساعتها يعرف ماذا سيكون عليه القرار الأمريكي، لكن الجزء الذي يقوم به من مواجهة حقيقية للنظام قد تمَّ فعلا، وصارت أجهزة الأمن وعناصرها يختبئون ويخشون من الانتقام.
لولا هذا ما استطاعت النخبة اللطيفة من الشباب المرفه وطلاب الجامعات الأجنبية وغيرهم من المتعلمين والمواطنين الصالحين أن يظلوا في التحرير بأمان يمارسون هتافاتهم وصياحهم ويكتبون لافتاتهم بالإنجليزية ويمثلون مشاهدهم المسرحية الكوميدية في ميدان التحرير. بل وحتى اللحظة الفاصلة في ميدان التحرير (يوم معركة الخيول والجمال) لم يتصدى لها إلا شباب القرى والأقاليم والصعيد والمناطق الشعبية، ولولا أولئك لسُحِق المتعلمون اللطفاء كما تسحق الكيك تحت الأشواك والسكاكين.
لماذا ينسى الأكثرون هذه الحقيقة رغم أنهم عايشوها؟
الإجابة: هذا هو الدور الذي قامت به وسائل الإعلام في انتقاء واستعراض مشاهد معينة من الثورة، وتلميع وترميز شرائح بعينها من الشباب باعتبارهم صناع هذه الثورة وأبطالها، ومن وراء وسائل الإعلام المنظمات المحلية والدولية التي جعلت من صاحب صفحة على الفيس بوك أو حساب على تويتر قائدا ثوريا قاد التغيير في مصر!
الذين تشربوا هذه الرواية الإعلامية الدولية المسبوكة، وغفلوا عن الذي حدث على الأرض، تصوروا في لحظة غيبوبة غريبة أن التجمع والهتاف في ميدان ما يساوي حصول تغيير سياسي في واحدة من أهم دول العالم، مصر التي ترتكز فيها مصالح إقليمية ودولية في غاية الحساسية، والتي تجاور إسرائيل، وإسرائيل هي عقدة الصراع العالمي كله كما يقول جمال حمدان.
لا شك، لقد طرب الأكثرون لما حدث من تغيير قليلة التكلفة لطاغية ظن الناس أنه ضد الزمن ورغم أنف التاريخ، ثلاثين سنة يحكم بقبضة حديدية، لا يموت رغم شيخوخته ولا تؤثر فيه معارضة سلمية ولا مسلحة، بدا الأمر كالخيال أو الحلم، سرت حالة من عدم التصديق أنه خُلِع بهذه البساطة..
ومع أن كثيرا من الحصفاء كان يعرف ما جرى ويحذر منه (حفظ الله شيخنا الحبيب حازم أبو إسماعيل وأتباعه) إلا أن الأكثرين أحبوا أن يشربوا من خمر السهولة التي حصل بها هذا الأمر، وساروا وراء هذا الوهم (وهم أن التجمع السلمي والهتاف يغير الأنظمة) طوال السنين التالية، حتى دفعوا ثمن هذا الوهم آلافا من الشهداء في سلسلة مذابح غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث وفي التصفيات الجسدية وفي القصف المستمر في سيناء، مع مئات الآلاف من الأسرى والمطاردين والمهاجرين.
هنا يجب أن نستفيق.. أن نستيقظ.. ألا نشرب من هذه الخمر مرة أخرى.. أن نفهم أن التجمع والهتاف لا يغير النظم السياسية، وحتى لو أنه يغير بعض هذه النظم (جدلا وتنزلا) فلن يكون هذا مناسبا أبدا لتغيير نظام عبد الفتاح السيسي.
وقديما كان أبو نواس يحب الخمر مع أنه يعرف أنها داءٌ، فتفلسف حتى جعلها الداء والدواء، وقال أبياته المشهورة:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء .. وداوني بالتي كانت هي الداءصفراء لا تنزل الأحزان ساحتها .. إن مسه حجر مسته سراء
وطفق يتغزل في الخمر حتى ليشتهي قارئ قصيدته أن يشربها حتى وهو يعرف أنها أم الخبائث، ولو أن أجيالنا المعاصرة تحسن فهم العربية لانصرفوا بقصائد أبي نواس وأمثاله من فحول الشعراء عن الرداءة التي يسمعونها الآن، إلا أنه خرج فيهم من يغريهم بخمر أبي نواس باللغة الرديئة، ويطلب منهم النزول إلى الميادين بسلمية والتجمع فيها والهتاف وتصوير هذا لكي يراه العالم فيتغير السيسي؟
والشرطة؟ والجيش؟
هنا ننادي (وزير الدفاع المحترم) لكي لا يطلق الرصاص على الشعب، وننادي (وزير الداخلية المحترم) لكي لا يطلق الرصاص على الشعب..
وإذ فجأة، انقلبت الثورة الموعودة إلى ثورة متسولة!! هل حصل في التاريخ قبل هذا ثورة مستولة؟! تتسول النظام نفسه أن يسمح لها بتغييره؟!
يا قومنا..
إذا عجزنا عن الثورة فلنستوعب دروسها حتى إذا جاءت لحظة قادمة فعلناها كما يجب أن نفعلها، ولئن متنا فلنورثها لأبنائنا دروسا واضحة ظاهرة تعصمهم من أن يكرروا نفس غفلتنا وأوهامنا وأن يشربوا من نفس كأس الخمر التي سقيت لنا!
إذا عجزنا عن إخراج الأسرى المعتقلين فلنجتهد ألا ندفع إلى السجون بالمزيد منهم بنفس نفس الطريقة التي دخل بها السابقون كأننا نفس الفئران التي تصاد بنفس المصيدة!
إذا أخفقنا لأننا لا نملك الرؤية أو لا نملك القوة أو لا نملك الحلفاء، فلا يليق بنا أن نكرر نفس المحاولة لتتكرر نفس النتيجة ثم نعود فنبكي ونصرخ ونجلد أنفسنا لأننا لم نكن نملك الرؤية أو القوة أو الحلفاء!
في هذا العالم ليس ثمة حلول سهلة، ولا قصيرة، والذي يتحدث عن حلول سهلة إما أنه مخُادِع أو هو نفسه مخدوع، ولسنا أول أمة تُقاوِم الاحتلال الأجنبي أو الحكومات المستبدة، ربما نكون أول أمة تقاومهما معا متحدين في نفس اللحظة، ذلك أن زمن ضعفنا –كأمة- ترافق مع زمن التطور العلمي الذي ربط العالم كله في شبكة واحدة، فنشأ من جملة ذلك وجود نظام عالمي يستطيع بفارق القوة صناعة العملاء وتنصيبهم في البلاد المحتلة وتغطية ذلك كله بأنظمة قانونية وسياسية يملك الهيمنة عليها.
سنحتاج دائما أن نتعلم ونستفيد من كل حركة مقاومة في التاريخ، كما سنحتاج فوق ذلك إلى ابتكار الجديد الذي يوافق التحدي الجديد المفروض علينا، ومعنا عدة ضخمة كبيرة لا تملكها أي أمة أخرى، معنا موعود الله بأن هذه الأمة لن تباد ولن تستأصل، بل وبأنها ستعود وتنتصر، وبأنها كالغيث فيها الخير المستمر، وبأن الله يبعث فيها المجددين كل فترة من الزمن، وبأنها تضم الطائفة الظاهرين على الحق إلى يوم القيامة، وبأنها خير أمة أخرجت للناس، وبأن كتابها ومصدرها المعرفي المقدس وهو القرآن محفوظ في الصدور وفي السطور لا يمكن تحريفه ولا تبديله.
هذه عدة ضخمة عظيمة، ولذلك لا تزال أمتنا تقاوم وتثير دهشة العدو قبل الصديق، وتنبعث من بعد ما يُظَنّ فيها الركود والخمود والخفوت، وتروي وتزدهر من بعد الضعف والذبول، ولا تزال تبدو أكثر الأمم مناعة وإعاقة للتغرب والعلمنة، هكذا يرصدها أعداؤها أنفسهم، ولهذا تمثل كابوسا دائما لهم، وقلقا مستمرا لا يهدأ، وفي أرشيفي دلائل لا أحصيها من كثرتها من تصريحاتهم أو مواقفهم.
ومع هذا فـ: لا تحسب المجد تمرا أنت آكله .. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ولو كنت شاعرا لنسجت على منواله بيتا تقول: لن تبلغ المجد إن لم تترك الخمرا
نشر في مجلة "كلمة حق

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 03, 2019 16:27

September 15, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (18) بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط


مذكرات الشيخ رفاعي طه (18)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط
·        لم يعترف الإخوان بنتيجة الانتخابات، فاستمر الأمير الذي عزلناه أميرا على شبابهم·        شخصيتان اختلفتا مع الإخوان في السجن كان لهما الأثر الكبير على موقف أسامة حافظ من الإخوان·        كانت للإخوان خطة نتيجة اتفاق مع نظام السادات لتهدئة الشباب، لكنهم لم يكونوا بالحصافة الكافية لتنفيذها، فصادموا الشباب بدلا من احتوائهم، ففشلوا!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة  (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي –  (15) بداية زعامة صلاح هاشم – (16) محاولة الإخوان الهيمنة على جامعة أسيوط(17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية؟
وهنا يجب أن أقول للحق وللأمانة التاريخية، أن هؤلاء الشباب الذين أسسوا فيما بعد "الجماعة الإسلامية المصرية" لم يكونوا حتى ذلك الوقت معرضين ولا مستنكفين تماما أن ينضموا للإخوان المسلمين، فمنهم كثير كانوا يحملون هذا الاستعداد، وأنا من بين هؤلاء، لم يكن لدي أي مانع أن أنضوي تحت لواء الإخوان المسلمين، وكنت أرى أن خلافنا مع الإخوان إنما هو خلاف في قضايا بسيطة، وأنهم هم الجماعة الأكبر والأقدم والأعرق، وأنهم أكثر خبرة، وأنهم علماء ونحن شباب، ويحسن بنا أن نتبعهم. ومع هذا فقد كنت أسير مع المجموع، مجموع الشباب الذين أسسوا العمل الإسلامي في الجامعة، وأرى أن وجودي بينهم هو التزام أخلاقي لا يليق خرقه، لم أفعل مثلما فعل محيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي إذ تركوا هذا المجموع المؤسس وانضموا للإخوان المسلمين، كان الانضمام للإخوان ميل عندي وهوى في نفسي.
وبهذا يتبين لك أن هذا الطيف من الشباب لم يكن له موقف واحد من الإخوان، منهم من ترك هذا الجمع الشبابي وانضم للإخوان، ومنهم من كان هذا هواه في نفسه لكنه لم يفعل، ومنهم من لم يكن لينضم للإخوان أبدا، ومن هذا القسم الأخير كان أسامة حافظ.
وقد ذكرت آنفا أن أسامة كان متأثرا بصديقه عبد المتعال، المعيد في كلية الهندسة، والذي كان يحمل موقفا غاية في السلبية تجاه الإخوان، إذ كان قد سُجِن معهم سابقا ولعله كان منهم فوقع بينهم في السجن ما أحدث بينهما نفورا كبيرا، وكان عبد المتعال هذا صديقا مقربا من أسامة حافظ، وعنه أخذ أسامة هذا الموقف من الإخوان، وكان عبد المتعال أسنَّ منا، وكان ذا شهرة على مستوى أسيوط.
وقد تضافر مع تأثير عبد المتعال تأثير آخر، وهو تأثير الشيخ السويفي، وكان شيخا كبيرا في السن وفي العلم معا، وكان مشهورا في وقته كذلك إذ هو أحد الدعاة المعروفين في أسيوط، وكان مسجونا قديما مع الإخوان واختلف معهم داخل السجن فخرج مغاضبا لهم ونافرا منهم وله عليهم مؤاخذات شرعية أيضا، وقصته في الخلاف مع الإخوان قصة مؤلمة ورواها لي بنفسه، نسأل الله أن يرحمنا وإياه ويغفر لنا له ويجمعنا به في الجنة، لقد كان شديد النقد لكل التيارات الإسلامية الموجودة على الساحة ولا يكاد يسلم من لسانه أحد.
فمن هاهنا بُنِي موقف أسامة حافظ السلبي من الإخوان، ولأنه الشيخ أسامة حافظ شخصية محورية وزعامة بين شباب الجامعة فقد استطاع أن يقلب موقف مجموع الشباب ضد الإخوان، وبغض النظر عن حادثة أسامة السيد في ذاتها، أو لنقل: إن حادثة أسامة السيد كانت هي التي فجرت المخزون الرابض في النفوس. كان الأمر أشبه بالحاجز النفسي لكنه ليس حاجزا من الهوى بل هو حاجز مبني أو ملتبس بالمؤاخذات الشرعية على الإخوان.
أتصور لو كانت جماعة الإخوان أكثر حصافة في هذه المرحلة لكانت قد تمكنت من احتوائنا، الواقع أيضا أنهم أخفقوا في هذا، إن أحد أهم عناصر فشل جماعة الإخوان في هذه المرحلة أنهم فشلوا في احتواء شباب الجامعات المصرية، كان لديهم اتفاق مع النظام في هذه المرحلة أن يعملوا على تهدئة الطلاب وأن يكبحوا اندفاعتهم في وجه السادات والنظام، ولذلك فقد عملوا على هذا إلا أنهم نفذوه بطريقة استفزازية وغير احترافية، فبدلا من أن يستوعب الحالة صار يصادمها، كذلك فإن أمن الدولة في تلك المرحلة وحتى السياسيين بمن فيهم السادات لم يكونوا يدركون نفسية أبناء الحركة الإسلامية بصفة عامة، أو المخلصين منهم على وجه الخصوص، وفي تقديري أن المخلصين هم الذين يسهل احتواؤهم شرط ألا تصادمهم، فلو استمر السادات أكثر في مسرحية "العلم والإيمان" التي ابتدأها، واهتم بإتقان أدائها، لكان قد وجد له كثيرا من الشباب يحبونه ويدافعون عنه، ويقفون وراءه، ذلك أن الشباب يحتاج الإسلام.. يحتاج الدين، فهذا الشباب يرى زعيما يتكلم عن الدين والإسلام، لكن ينقصه أن يعمل كذا أو يعمل كذا.. لو أن السادات زاد في تمثيل هذا الدور لكان بإمكانه أن يحتوي هذه الطاقة الشبابية.
لكن اللغة الصدامية لا تصلح مع الشباب، فإذا أردت احتواء شاب لا يمكن أن يكون بداية هذا أن تصادمه، بل أن تعطيه قدره، وتثني عليه، فيكون هذا أول سبيل احتوائه.
أعود إلى خطبة تنحي أسامة السيد، تلك التي أدركتها من يوم المعسكر، وقد ذكرت أنها كانت عاطفية مؤثرة، وكان يلوم ويعاتب، ويقول بأن عزله هذا غير شرعي وغير صحيح، وأنه لم يزل الأمير الشرعي للجماعة الإسلامية في الجامعة، وهذا العزل وهذه الانتخابات كلها خطأ، وقال: وأنا أشكوكم إلى الله عز وجل، وسنلتقي بين يديه يوم القيامة... إلى آخر هذا الكلام.
ذهبت إليه زائرا في بيته، وسألته: ما الذي حصل يا شيخ أسامة؟
فشرع يقصّ علي قصة الخلاف من وجهة نظره، وأن المسألة قديمة في أصلها وليست حقيقتها ما يقال من أنه يعود إلى قيادة الإخوان، وأن شباب الجماعة الإسلامية لم يكونوا يرونه مؤهلا أصلا ليكون أميرهم منذ اليوم الأول، وأنه وباعتباره الأمير الذي أوكل إليه الأمر له الحق في تقدير ما الذي ينبغي أن يعود فيه للإخوان الكبار، وأن الخلاف معه على هذا ثم عزله بناء على ذلك أمر غير شرعي ولا يجوز.
قلت له: أنت تعرف يا أخ أسامة أن الإخوة الشباب الإسلامي في الجامعة ليسوا كلهم من الإخوان المسلمين، ومن ثم كان المفترض أن تتعامل مع الناس وفق هذا الاعتبار، فتفرق بين الذين لا ينتمون للإخوان والذين ينتمون إليهم، فإذا أردت أن تدخلني إلى الإخوان فاعرض عليّ الأمر بشكل طبيعي عادي: تعرفني بالإخوان وتعرض علي أن أعمل معهم جنديا بينهم، فإما أن أقبل وإما أن أرفض، فإذا قبلنا صرنا جميعا في الإخوان وإلا بقينا خارج الجماعة وروعي هذا في التعامل، لا أن يكون السبيل هو إدخالنا بنوع من المراوغة والخديعة ضمن الإخوان، وجعلنا تابعين لهم سواء رضينا عن هذا أو لم نرض!
على كل حال تركت المقابلة عندي انطباعا حسنا عن شخصه، وأشفقت عليه مما رأيت من حزنه وغضبه، وقلت له: سواء أكنت أمير الجماعة أو لم تكن فنحن وإياك ننصر الحق والدين والإسلام، وجماعة الإخوان جماعة مقدرة لها اعتبارها، وأنت أخونا وإن كنا أكبر منك سنا، ولك أن تطلب منا ما تشاء ونحن تحت أمرك، وأنا شخصيًّا سأتواصل معك كثيرا، ولا تؤاخذ إخوانك وسامحهم، فإنهم إذا أخطؤوا فإنما ذلك عن اجتهاد، فلنتسامح ولنتغافر.. وظللت أقول كلاما من هذا القبيل.
كانت زيارتي هذه وكلامي له أمر صدق ليس من قبيل المجاملة أو المداهنة أو حتى المراوغة السياسية، أبدا، إنما يلازمني في هذا الجانب الأخلاقي والإنساني في مثل هذه الأمور، فلقد بكيت لدى سماعي خطبته وتأثرت حقا، ثم كنت في زيارته هذه متأثرا به حقا وشفوقا عليه ومحبا له. هذا وأنا في نفس الوقت من أنصار الشيخ أسامة حافظ، ومن أشد المؤيدين لموقف عزل أسامة السيد، ومن المقتنعين تماما بأن العمل الإسلامي في الجامعة يجب أن يدار من داخلها لا من خارجها، وأن الجامعة يجب أن تكون مستقلة، وكان أول من رفع شعار "الجامعة تدار من داخلها" هو أسامة حافظ.
نستطيع أن نؤرخ بهذا المعسكر الذي عزل فيه أسامة السيد لحالة الانشقاق والانفصال بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، هنا ظهر بوضوح أن ثمة كيانيْن إسلامييْن من الشباب في الجامعة، والفارق بينهما واضح.
لم يُسَلِّم الإخوان بأمر عزل أسامة السيد وتنصيب ناجح إبراهيم أميرا، فاستمر أسامة السيد أميرا للشباب الإسلامي التابع للإخوان المسلمين بجامعة أسيوط، وصار ناجح إبراهيم أميرا لشباب الجماعة الإسلامية في أسيوط، غير أننا (شباب الجماعة الإسلامية) كنا الأكثر عددا وانتشارا وتأثيرا، فلم يكن الانشقاق معبرا عن نصفين أو فريقين متكافئين، بل لم تزل الجماعة الإسلامية هي صاحبة الصوت الإسلامي في الجامعة، والأمير هو ناجح إبراهيم قولا واحدا، لكن الذي صار معروفا أن شباب الجماعة الإسلامية شيء وشباب الإخوان شيء آخر، لا هؤلاء يتبعون لأولئك ولا أولئك يتبعون لهؤلاء.
مثلا، لم يكن للإخوان من أمراء الكليات إلا أسامة السيد أمير كلية الطب، وأحمد كمال أمير كلية العلوم والبقية معنا، اثنان فقط في كل جامعة أسيوط! ولذلك منعناهم من الحديث أو إصدار بيانات باسم الجماعة الإسلامية، إذ كانت هذه البيانات تعبر عنا نحن.
وهذا التمايز لم يكن أيضا يعبر عن كيانيْن لكل منهما فكر مخالف للآخر، فلم نكن نحن في الجماعة الإسلامية نحمل فكرا مناقضا للإخوان، إنما هو تمايز يعرف به أن "الجماعة الإسلامية" ليسوا من الإخوان المسلمين.
حاولت فيما بعد القيام بخطوة توفق وتقرب بين الجانبين، واقترح أسامة حافظ أن نقسم معسكرا عاما نجمع فيه كل إخوة الجامعة من كان منهم من الإخوان أو من كان منهم خارج الإخوان، كأنه معسكر تصالحي، ثم اختاروني لمسؤولية هذا المعسكر على اعتباري الشخصية التصالحية التي تربط بين الضفتين!
حضر الشباب من الكيانين: الإخوان والجماعة الإسلامية، وكان المعسكر سبع مجموعات، وحضره أسامة السيد ومعه أخ آخر اسمه أحمد زياد، وتولى كلا منهما مسؤولية مجموعة، وكان مجلس شورى المعسكر يتكون من أمراء المجموعات السبعة، وبهذا كان أسامة السيد وأحمد زياد ضمن هذا المجلس، وذكرت لهم في اجتماع مجلس الشورى أنه يجب أن نعمل في الجامعة كيد واحدة، وألا تفرق بيننا الانتماءات، هذا إخوان وهذا جماعة إسلامية، واخترنا موضوعات المعسكر للتأليف بين الكيانيْن: الإخوان والجماعة الإسلامية، كما اخترناها بحيث نبتعد تماما عن ذكر الخلاف أو ذكر الجماعتين لا بخير ولا بشر، فنقتصر على الموضوعات الشرعية والمعاني الروحية والأخلاقية، وخططنا ليأتي نصف الدعاة الذي سيحاضرون في المعسكر من الإخوان ونصفهم الآخر من خارج الإخوان.
لكن ومع ذلك فقد وقع المحظور..
وهذا ما نتناوله إن شاء الله في الحلقة القادمة.
نشر في مجلة كلمة حق 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 15, 2019 10:22

نحو موسوعة "من غُمِط حقهم ونُسِيَ ذكرهم"


لا أحسب أحدا يكثر القراءة في التاريخ والتراث إلا ويطوف برأسه فكرة إخراج كتاب أو سلسلة عن عظماء يلقاهم بين السطور ويعرف أسماءهم لأول مرة، ثم يدهش وهو يرى جليل آثارهم أو ثناء الأئمة الكبار عليهم.
فمن ذلك على سبيل المثال الإمام محمد بن نصر المروزي، هذا الاسم الذي يكاد يكون مجهولا للعامة والخاصة في عصرنا هذا قال فيه ابن حزم: "أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه. (ثم) قال: وما نعلم هذه الصفة -بعد الصحابة- أتم منها في محمد بن نصر المروزي، فلو قال قائل: ليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما أبعد عن الصدق". وعقب الذهبي على هذه الكلمة الهائلة بالقول "هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر" (سير أعلام النبلاء 14/40 ط الرسالة). 
هذا وابن حزم إمام ضخم واسع المعرفة غزير العلم موسوعي التآليف، مشهور بدقته وضبطه، معروف بشدته وصرامته وحدَّته بل وقسوة أحكامه التي جعلت كثيرين ينقدونه عليها، فمثل هذا القول منه قول كبير. 
ثم هذا الذهبي، وهو علامة من علامات الإنصاف التاريخي وقدوة في اعتدال أحكامه، قد يتوقع المرء أن يعقب على هذه المقالة بما يخفضها، إلا أنه يعقب عليها بما يؤكدها! ثم نقول هذا مجرد مثال.
وقد بدأ هذا الأمر عندي قبل أكثر من عشر سنوات، وعزمت مع صديق على إخراج سلسلة عن "العظماء المجهولين في التاريخ الإسلامي"، وصدر الكتاب الأول منها عن قائد الأسطول العثماني وعالم الجغرافيا البحرية (الكارتوغرافيا) محيي الدين بيري ريس والذي يكاد يكون مجهولا تماما في العالم العربي رغم معاركه البحرية في السويس وخليج عدن والخليج العربي مع البرتغاليين، أي أنه من أهم الأبطال التاريخيين الذين دافعوا عن سواحل العرب أن تكون برتغالية كما صارت سواحل أمريكا اللاتينية! غير أن ما جرى من الأحداث في مصر عطَّل استمرار السلسلة.
وقبل محيي الدين بيري ريس عمُّه كمال ريس الذي قاد الأسطول العثماني في البحر المتوسط، والذي يُعتبر أبرز شخصية بحرية في ذلك العصر، حتى إن المؤرخ الشهير جوزيف فون هامر –وهو صاحب أوسع كتاب تاريخي عن الدولة العثمانية وإلى وقت طويل بعده- يعتبر أن كمال ريس هو تجسيد الرعب الذي كان يغزو قلوب الأساطيل المسيحية في البحر المتوسط، ولقد كان كمال ريس صاحب يدٍ عليا في إنقاذ الأندلسيين وفي دعم ثوراتهم التي كانت بعد سقوط غرناطة، ولذلك فإن شذرات أخباره تلتمس في تاريخ الموريسكيين أكثر من أن تلتمس في تاريخ العثمانيين، على الأقل باللغة العربية.
وقبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، من تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهو رجل سياسة وحرب معا، وذكر اسمه في قيادات الجيوش لأكثر من ربع قرن مع الأمويين والعباسيين (119 – 146هـ)، وكان من الكفاءة السياسية بحيث أنه كان واليا في دولة بني أمية ثم مستشارا مقربا من أبي جعفر المنصور في صدر دولة بني العباس، ولعله لذلك لم يتوهج اسمه كما توهجت أسماء المنصور وأبي مسلم الخراساني، فهو من عينة الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها. وكان لجعفر نصائحه السديدة للمنصور في الثورات التي اشتعلت ضده كثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم بل هو الذي أشار بخطط مواجهة هاتين الثورتين، وتوقع مركز اندلاعها في البصرة قبل أن تحدث!
وفي ذلك الكتاب أيضا –أعني: رحلة الخلافة العباسية- لفت نظري اسم القائد البحري المسلم "غلام زرافة"، وبالبحث والتنقيب خلف سيرته، واستخراجها بعد اعتصار شذرات الأخبار القليلة عنه، نرى أن هذا البحار الكبير هو نفسه المعروف في مصادر تاريخية أخرى باسم "رشيق الوردامي" وهو نفسه المعروف في التواريخ الأوروبية باسم ليو الطرابلسي، وترجع شهرته إلى أن له غزوتين بحريتين كبيرتين هاجم فيهما مدينة أنطالية (التي تقع في تركيا الآن) ومدينة سالونيك (التي تقع في اليونان الآن) وكانت هذه الأخيرة ثاني أحصن المدن البيزنطية بعد القسطنطينية، وكان فتحها عملا مدويا في تاريخ القرون الوسطى، ويمثل ما يشبه المعجزة الحربية، ويعود الفضل في استخراج سيرته وبنائها للمؤرخين الكبيرين: محمد عبد الله عنان وعمر عبد السلام تدمري، وقد وصفه الأول بأنه "أعظم بحار في ذلك العصر، وأعظم بحار مسلم على الإطلاق" وأفرد له مبحثا في كتابه «مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام»، والمؤرخ عنان من كبار المؤرخين وممن لا يعرف عنه المبالغة!
أحسب أنه لو أطلقت مؤسسة علمية مؤتمرا بحثيا سنويا عن هؤلاء الكبار المجهولين الذين كان لهم أثر من علم أو حكمة أو سياسة أو حرب أو غير ذلك من المواهب، لاجتمع لها عدد ضخم من الأوارق البحثية، فليس ثمة مهتم بالتاريخ إلا وفي أرشيف أوراقه بحوث مكتملة أو شبه مكتملة أو بذور بحوث عن شخصية تلفت الأنظار على حافة نهر تاريخنا الثري الكبير، ومثل هذه البحوث لو لم يستخرجها مؤتمر أو عمل موسوعي فالأغلب أنها ستموت مع أصحابها، كما أن بعض الشذرات عند البعض ستكملها شذرات أخرى عند البعض الآخر، فقد ينتج عن هذا اكتشافات مدهشة في تاريخنا.
ومن قرأ مقدمة شيخ العربية محمود شاكر لكتاب المتنبي عرف شيئا من هذا، فقد استنتج شاكر بتذوق شعر المتنبي أنه كان يحب خولة أخت سيف الدولة لكنه ظل يتحرق بحثا عن دليل آخر غير التذوق، وقد حصل أكثر من موقف وجد له أحدهم دليلا إلا أنه لم يجد الفرصة التي يفضي كل منهم بما عرفه لصاحبه، فمات الجميع وضاعت الأدلة!
فهل نطمع في مؤتمر سنوي لمؤسسة من المؤسسات العلمية العديدة في عالمنا الإسلامي لإحياء سير المجهولين الكبار؟! أم هل يحدونا الأمل لكي تحمل واحدة منها عبء إخراج هذه الموسوعة الطريفة الظريفة المدهشة عن المجهولين؟!
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، سبتمبر 2019 

1 like ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on September 15, 2019 06:28

September 7, 2019

حوار عن التاريخ وإشكالياته، وواقع الأمة - مع مجلة "حضارة"



ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٣‏ أشخاص‏، و‏‏‏حشد‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏‏
نشر هذا الشهر العدد 22 من مجلة "حضارة" التي تصدر في عمّان، وفيه حوار لي عن التاريخ وإشكالياته وعن واقع الأمة.. أرجو أن يكون مفيدا
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏محمد إلهامي‏‏، و‏‏يبتسم‏، و‏‏نص‏‏‏‏

1. من يكتب التاريخ؟ المنتصر أم المنكسر؟
التاريخ هو رواية إنسانية للوقائع، وهذه الرواية تنتج متأثرة بالبيئة والواقع وعلاقات القوى المسيطرة عليه، وهذا معنى "التاريخ يكتبة المنتصر" لأن السلطة حريصة دائما على إنتاج المعرفة والأفكار، ومن هذا الحرص: إنتاج روايتها للتاريخ التي تدعم شرعيتها وأفكارها وقيمها وغاياتها. لذلك فكلما ابتعدت الفترة المدروسة عن تسجيلها كلما كانت كتابتها أفضل لخفوت تأثير القوى المسيطرة والكشف عن روايات ووثائق أرادت لها السلطة أو شبكات القوى أن تختفي، ولهذا ترى مدارس تاريخية أخرى أن التاريخ ينتصر على السلطة في نهاية الأمر، لأنه يمكن دائما استخلاص التاريخ الذي شاءت السلطة تغيبه. وتشكلت منذ نحو القرن مدارس تاريخية تهتم بكتابة التاريخ من وجهة نظر المغلوبين، وتحرص على التاريخ الشفوي، وعلى تتبع روايات المُهَمَّشين.
2. مع انتشار وسائل التواصل والمنصات الإعلامية هل يستطيع الخاسر كتابة التاريخ؟
بقدر ما بقيت وسائل التواصل وسيلة شعبية حرة مفتوحة بقدر ما أمكن للمغلوبين أن يسجلوا عليها روايتهم للتاريخ، لكن للأسف ليس هذا هو الواقع دائما، فوسائل التواصل نفسها هي من أدوات هيمنة الغالب، ونحن في هذا العالم المعاصر لدينا غالب عالمي وهو القوى الغربية وفي ذروتها الأمريكية، وهذا فضلا عن الغالب المحلي الإقليمي الذي وصل إلى السلطة عموما بدعم وإسناد هذا الغالب العالمي. ومن هنا فإن شبكات التواصل جزء من المنظومة العالمية الخاضعة لقوانينها فهي تمارس مكافحة "الإرهاب" وتستعمل للقضاء على "التطرف"، وتفسير هذه الألفاظ هو بطبيعة الحال من احتكار الطرف القوي الغالب، ولهذا تعمل وسائل التواصل نفسها كأداة في تتبع وإغلاق الصفحات والحسابات التي تنشر ما لا يتفق مع "القوانين" التي وضعها هذا الغالب.
ومن جهة أخرى، فإن وسائل التواصل أيضا تهتم بجني الأرباح، ومن هنا فإن قوة المركز المالي مؤثرة في القدرة على نشر الرسالة الإعلامية عبر وسائل التواصل، فمن يملكون الأموال يستطيعون أن ينشروا رسالتهم بقوة وانتشار أكبر بكثير ممن لا يملكون هذه الأموال، بل يمكنهم تنظيم الحملات التبليغية على خصومهم من خلال توظيف عاملين لمراقبة ومتابعة ومهاجمة أولئك الخصوم على وسائل التواصل الاجتماعي. وبهذا الشكل لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة محايدة أو حرة أو متاحة للجميع بنفس القدر، وصارت رواية الغالب المنتصر ذي القوة والمال أكثر رواجا عليها أيضا.
3. ما المنهجية المعتمدة في دراسة التاريخ؟ ما المقدمات الواجب استيعابها قبل البدء بالسرديات التاريخية؟
ربما يستغرب الكثيرون إذا قلنا بأن ما وضعه علماء الحديث من القواعد هو أقوى وأمتن ما يمكن أن يوضع في التحقيق التاريخي، فهم تتبعوا كل رواية من حيث سندها ومتنها، ثم تتبعوا كل سند من حيث اتصاله وانقطاعه، ومن حيث حفظ وإتقان رجاله، وتتبعوا كل متن من حيث اتفاقه واختلافه مع الروايات الأخرى، ووصلوا إلى مستوى من الدقة في حفظ السنة ما قيل عنه بحق أنه لو طُبِّق على التاريخ الإنساني لم يبق ثمة تاريخ!
إلا أن قواعد هذا العلم وأصوله ترسم المنهج العام لقراءة التاريخ، مع تساهل في مسائل السند واتصاله ورجاله، ويمكن فهم التاريخ كأقرب ما هو إلى الواقع إن تتبعنا روايات المؤرخين وفهمناها ضمن موقعهم من الحدث قربا وبعدا في الزمان والمكان، وضمن موقفهم واتجاهاتهم الفكرية التي يفسرون بها الأحداث، وضمن قيمتهم من الصدق والأمانة والدقة. ويسبق هذا كله الدأب في جمع الروايات التاريخية من مصادرها ومظانها المتعددة، فكل ما يتعلق بالحدث قد يضيف إليه بعدا في فهمه وتفسيره لم يكن متاحا بدونه.      
4. هناك تفسير مادي للتاريخ ويقابله تفسير إسلامي للتاريخ؟ هل يمكننا الولوج الى منطقة محايدة أو ما تسمى بالموضوعية في قراءة التاريخ؟
هذا سؤال مهم، لأنه يخلط بين أمرين يجب الفصل بينهما:
الموضوعية شيء، وتفسير التاريخ شيء آخر، الموضوعية هي محاولة تكوين الصورة التاريخية نفسها والوصول لأقرب وصف ممكن من حقيقة ما حدث في الواقع، بحيث تكون وسائل تكوين هذه الصورة وسائل علمية منهجية لا يتدخل الهوى والانحياز في بنائها.
أما التفسير فشيء آخر، التفسير هو رؤية المؤرخ لمعاني ودلالات ودوافع وآثار هذا الحدث التاريخي، هذا التفسير هو عمل إنساني كامل، لا يمكن فصله عن أفكار المؤرخ وانحيازاته ورؤاه، وطالما أن المؤرخ يقوم بعمله البنائي بشكل منهجي سليم فلا يمكن لومه على التفسير الذي وصل إليه مهما كان مختلطا بأفكاره وانحيازاته.
لكن المعضلة الحقيقية التي تبرز عمليا هو أن المؤرخين يروون التاريخ وقد اختلط فيه بناء الصورة التاريخية بتفسيراتهم وانحيازاتهم، وهذا هو ميدان الفحص والدراسة، بمعنى أن عمل المؤرخين جميعا هو محاولة الفصل بين الحدث التاريخي وبين تفسير المؤرخ له، ومحاولة اختبار مدى صحة ودقية وقيمة هذا التفسير.
ولكي نضرب مثالا يتضح به المقال، لنفترض أن لدينا معركة وقعت بين طرفين، فمجال الموضوعية هنا أن نصل إلى أفضل وصف لهذه المعركة كما حدثت، وهذا عمل علمي منهجي يكاد أن يكون محايدا. أما مجال التفسير فهو أن يُنظَر في الدوافع التي أدت لنشوب هذه المعركة، هنا سينحاز المؤرخ إلى أفكاره، فتجد أن الماركسي يبحث ويفسر في الصراع الطبقي والدافع الاقتصادي بين الطرفين بينما يبحث المؤرخ القومي في صراع الأجناس العليا والدنيا، بينما يبحث المؤرخ الديني في الدوافع الدينية التي أشعلت الصراع بينهما.. فهذا هو التفسير الذي هو جزء من الفلسفة ومن التصور العام الذي يعتنقه المؤرخ.
التاريخ ليس سائلا إلى الحد الذي تصلح له كل التفاسير بطبيعة الحال، وتظل هناك تفاسير خاطئة ومتكلفة ومتعسفة كما هناك تفاسير صحيحة وقوية.. لكن القصد الذي أريد بيانه هنا هو الفصل بين مسألة الموضوعية ومسألة التفسير.
نحن كمسلمون حين نعتنق التفسير الإسلامي للتاريخ فلا يعني هذا مساسا بالموضوعية، بل الموضوعية من الواجبات على المؤرخ المسلم لأنها من ضرورات التزامه بالمنهج الإسلامي في البحث والتفسير، فأول خطوات التفسير الصحيح الذي هو نفسه التفسير الإسلامي عندنا أن نصل إلى حقائق المعلومات، وقد وصف الله هذا المنهج في قوله تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). ففي هذه الآية نركز على قوله تعالى (ما كان حديثا يُفترى) أي أن الصحة والدقة في وقائع التاريخ هي التي يؤخذ منها العبرة والعظة، فالموضوعية في البحث والنظر وتكوين الصورة التاريخية من أصول المنهج الإسلامي في فهم وتفسير التاريخ.  
5. السؤال التقليدي هل التاريخ يعيد نفسه؟ كيف تنظر الى هذه المقولة وهل التاريخ يعيد الأحداث أم الأشخاص أم كليهما معًا؟
نعم، وهذه المقولة موجودة في كتاب ربنا في قوله تعالى (ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا)، فلقد أخبرنا الله أن له سننا مضطردة في الكون، وهذا هو نفسه معنى التكرار والإعادة، ولو أن التاريخ مجرد نهر يجري لا يتشابه لما كان منه استفادة، ولكن حيث أُمِرْنا بالنظر فيه والاعتبار منه فقد دلَّ هذا على أنه يتكرر ويتشابه.
وأجد من السذاجة والتفاهة هنا أن نقضي وقتا في نفي أن الذي يتكرر هي الأشخاص والأحداث بحذافيرها، فالمعلوم أن الميت لا يعود للحياة من الأشخاص أو الأحداث، إنما الذي يتكرر هو هذه السنن نفسها.. ولهذا فمن أدق وألطف ما في الرواية القرآنية والنبوية للتاريخ أنه لا يتوقف عند التفاصيل الصغيرة، لن تعرف اسم كلب أصحاب الكهف ولا الزمن الدقيق للسنوات التي قضوها، ولا التحديد الدقيق لمكان الكهف ولا اسم الملك الجبار... إلخ! وهذه إشارات إلى أن المهم من التاريخ هو فهم السنن لا حفظ ولا تكويم الأسماء والتواريخ والتفاصيل الصغيرة.
السنن هي التي تتكرر، ولهذا فالتاريخ صورة لما نحب وما نكره، وهو تمهيد لنا لاختياراتنا القادمة، بحلوها ومرها، مآسيها ومفاخرها، والجهل بالتاريخ شبيه بفقدان الذاكرة، والفارق بين أمة تهتم بالتاريخ وأمة لا تهتم به هو أضعاف أضعاف الفارق بين سليم الذاكرة وفاقدها.
6. يقال إن التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله يلقي عليهم نظرة ويمر...  برأيك هل أنصف التاريخ أبطاله وضحاياه، أم أنه غير معني بالطرفين.
الحديث عن التاريخ كأنه شخصية عاقلة لها إرادة وتدبير هو من التأثر بالرؤية الغربية التي تهوى أحيانا أن تعبر عن الحياة كلعبة عبثية كبرى، مثل هذه الرؤية هي التي يُمكن أن يصدر عنها مثل هذه الأقوال أو التصويرات الدرامية!
التاريخ هو سيرة البشر، بتفاعلاتهم المتعددة، والأبطال والضحايا هم على السواء سائرون إلى ربهم وهو يحاسبهم، فغمسة واحدة في الجنة كفيلة بإذهاب ألم الضحية إن كان من أهل الجنة، وغمسة واحدة في النار كفيلة بإذهاب نعيم البطل إن كان من أهل النار. وليس من اللازم أن ينصف التاريخ الأبطال أو الضحايا، قد يحدث هذا وقد لا يحدث.. لأن الإنصاف والعدل أمر خارج التاريخ وخارج البشر، هو أمر موكول إلى الله تعالى ومؤجل إلى يوم القيامة.
لكن المهم هنا والذي ربما يقصد السؤال إليه، هو أن التاريخ فوق قدرة البشر على صناعته وتغييره وتزويره، إذ مهما بلغ إنسان من القوة والطغيان والنفوذ فإن آخر ما يستطيع فعله هو فرض روايته التاريخية لمدة ما، فإذا انتهى ثم انتهت دولته وسطوته انبعث من يعيد بناء تاريخه من جديد. ضرب الله مثلا بفرعون كأطغى البشر، وهو مع ذلك يُلْعن صبحا وعشيا. وقبل أيام قليلة أزيل تمثال كريستوفر كولومبوس من نيويورك بعد تصاعد المطالبات بذلك لكونه لم يكن مكتشفا وإنما سفاحا في سلوكه مع السكان الأصليين لأمريكا، وهي لحظة فارقة لإزالة التعظيم المتعلق بكولومبوس على المستوى الشعبي من بعد ما زال هذا التعظيم قديما على المستوى البحثي الأكاديمي. إلا أن الذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن أحدا لا يملك إنصاف ضحايا كولومبوس الآن، بل ولا كانت إزالة تمثاله تمثل العدالة تجاهه، تبقى هذه الأمور –كما قلنا- موكولة إلى الله ومؤجلة إلى يوم القيامة.
7. كقارئ للتاريخ ماذا تعني لك بغداد تاريخا وحاضرا؟
بغداد لها رنين لذيذ في قلب كل مسلم، بل في قلب كل إنسان يحب الإنسانية والعلم والثقافة والحضارة، حتى على مستوى اللغة، ارتداد الدال في كلمة بغداد له قوة وجمال لغوي محبوب، وأحلى من ذلك اسمها التي سماها به المسلمون "دار السلام".
وكنت حين كتبتُ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" أتعايش مع بغداد أحيانا حتى أعبر الزمان وأتصورني أسير في دروبها، وأشهد مجالس العلم والشعر والأدب في ساحات المساجد والبيوت والمدارس، وحين طرق سمعي بيتا القاضي عبد الوهاب:
بغداد دار لأهل المال طيبة .. وللمساكين دار الضنك والضيقظللت حيران أمشي في أزقتها .. كأنني مصحف في بيت زنديق
أقول: حين سمعت هذين البيتيْن لم يلفت نظري هذا التشبيه العجيب الذي شدَّ أهل اللغة بقدر ما لفت نظري ما كانت بغداد تحياه من الرفاهية والطيب حتى إن الفقير فيها كالمصحف في بيت الزنديق، أي هو شيء شاذ وغريب عن الصورة.
وكنت أشعر بالأنس لا سيما حين سمعت قول الشافعي، وهو صاحب أسفار، بأنه لم ينزل بلدا إلا ورأى نفسه غريبا إلا بغداد فإنه حين ينزلها يأنس إليها فتكون داره.
يضيق الكلام عن بغداد في الكتب والمجلدات، فكيف يمكن جمع ذلك في إجابة سؤال، وحين أحاول تقريب هذه الصورة لبعض الناس أقول لهم: إن بغداد كانت في زمانها عاصمة المال والتجارة والثقافة والسياسة والعمارة، فكأنها الآن مجموع واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وروما، فما انفردت به كل عاصمة في عصرنا كان مجتمعا في بغداد في عصرها.
8. كيف تنظر لاحتلال بغداد عام 2003 في سلسلة الهجمات التي استهدفتها على مر الدهور؟
إذا استوعبنا الصراع الحضاري الطويل بين الحق والباطل، سنعرف ببساطة أن بغداد تمثل ثأرا في نفوس كل من يبغض الإسلام. هذه المدينة حكمت العالم الإسلامي شرقا وغربا، كانت تعبيرا عن عز الإسلام وقوته، إليها حضر السفراء خاضعون، ومنها خرجت الجيوش، كما خرجت منها المخترعات والعجائب، يكفي أن نقول كدليل على خود مكانتها أنها التي تكون فيها ثلاثة من مذاهب المسلمين الفقهية الأربعة المتبوعة: الحنفي والشافعي والحنبلي، وفيها تكونت مذاهب المتكلمين الكبرى، وكانت محافلها العلمية مصنعا لمدارس وروائع الأدب التي لا تزال حية.
مثل هذه المدينة كانت مطمعا لأعداء الإسلام من الروم البيزنطيين قبل ألف سنة وحتى ورثتهم الأمريكان اليوم، وهي حتى الآن معقد استراتيجي عظيم بين العرب وبقية المسلمين في شرق العالم الإسلامي، وتقع على رأس جزيرة العرب فهي مدخل الحرمين الشريفين، وهي التي اجتمع فيها الحسنيان: النفط والماء!
فمع أنها تعرضت للضعف في القرون الأخيرة إلا أنها لا تزال من أهم حواضر المسلمين، ولذلك لم يخفت فيها طمع أعداء هذه الأمة منذ أن وُجِدت بغداد وحتى الآن.
9. ما المنهجية المعتمدة لديكم في قراءة التاريخ الحديث والمعاصر؟
المعضلة الأساسية في التاريخ الحديث والمعاصر للأمة الإسلامية أن مادته الأساسية المفصلة لا تزال بيد الأعداء، وأعني بها الوثائق وتقارير السفارات الأجنبية، كما أن أكثر وسائل إنتاجه كالمدارس والجامعات ووسائل الإعلام كانت تحتكرها السلطة الغالبة التي هي إما غربية وإما استبداد تابع للغرب ومتأثر به، لذلك تكاد تندر للغاية الكتابات التي تنطلق من أصالة الهوية مع احتراف وتمكن البحث العلمي. لأن أداة السلطة في إنتاج المعرفة وقدرتها كانت تستبعد الرواية المعارضة كما تستبعد أصحابها.
لذلك فبقدر ما ينبغي الاطلاع الواسع على المادة الأساسية لتاريخنا الحديث والمعاصر –والموجودة في وثائق وتقارير غربية- بقدر ما ينبغي الاحتراز من المفاهيم والتفاسير والرؤى المهيمنة على هذه المادة، والمهيمنة بطبيعة الحال على المدارس التاريخية التي نشأت في الجامعات والمراكز البحثية المعاصرة، لأنها فرع عن صورة الدولة والسلطة المُنشِئة لها والمُصَدِّرة لخطابها.
وتظل الكتابة التاريخية غير ممكنة بدون التحرر السياسي من الاحتلال الأجنبي ومن سلطة الاستبداد المُوَجِّهة، ليس فقط من جهة المخاطرة بكتابة تاريخ ضد توجهات السلطة، بل من جهة توفر المواد الأساسية لكتابة هذا التاريخ. 
10. قد يوصف العظماء بأنهم مسكونون بالتاريخ، وهناك من يعيب على المهتمين بالتاريخ بأن مستقبلهم ماض! كيف ترى ذلك؟
يكاد ألا يكون من عظيم في عالم الناس إلا وله اطلاع ومعرفة بالتاريخ، مهما كان المجال الذي يشتغل به إبداعيا ابتكاريا، ولست أعرف ممن قد يوصف بالعظمة من كان يهمل التاريخ أو يحتقر المهتمين به، الأمر متعلق –كما سبق- بأن التاريخ للأمة كالذاكرة للفرد، والفرد يعاب بكثرة النسيان ويمدح بقوة الذاكرة، وليس يقال لقوي الذاكرة: منشغل بالماضي، كما لا يوصف كثير النسيان بأنه مهتم بالمستقبل. والعارفون بتاريخ العلوم عادة ما يكونون أكثر فهما واستيعابا لطبيعة وتطور هذا العلم والمناطق المحتاجة لاكتشاف فيه ومجالات تطبيقه.
11. وثق التاريخ نشوء الحضارات؟ هل يوثق التاريخ التوحش والاستعباد والنهب والسلب؟
نعم بطبيعة الحال، التاريخ كما قلنا هو سيرة البشر، وهو ليس انتقائيا ولا محابيا، وبقدر ما توفرت القدرة على تسجيله بقدر ما بقيت تفاصيل الأحداث تُروى جيلا بعد جيل.
والتاريخ –بهذا الشكل- مزعج للغاية لدى أولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم، وبعض أولئك يُحاول إنتاج النظريات التي تجعل تزوير التاريخ واجبا وطنيا كما تجعل محاولة كشف حقائقه خيانة وعملا مجرما.
ومن قرأ كتابا مثل "موت الغرب" الذي ألفه السياسي الأمريكي مارك بوكانان سيجد فصلا بعنوان "الحرب على الماضي"، يتحدث فيه بوضوح عن أن كشف التاريخ الحقيقي للأمريكان كمستعمرين وسفاحين يؤدي لضعف الهوية والانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة، ويبدي انزعاجه من المحاولات الحثيثة للمؤرخين لكشف الأمور التي طالما استقر في الوجدان الأمريكي أنها حقائق بطولية ملحمية جميلة.
على أن المرء يؤمن بأن ما وضعه الله في البشر من رغبة المعرفة ورغبة الوصول إلى الحقيقة أقوى من دعاوى تزوير وإنتاج التاريخ على وفق ما يهواه المجرم الغالب المتمكن.
12. حواضر العرب والمسلمين بغداد ودمشق والقاهرة كيف تراها اليوم؟
ما المسؤول بأعلم من السائل، إننا نحيا حقا أياما عصيبة، فحواضر الإسلام الكبرى كلها تحت الاحتلال، الاحتلال الأجنبي المباشر أو الاحتلال بالوكالة، مما يجعل الأمة الإسلامية في حالة أشبه ما تكون بالمشلول، فهذه الحواضر بالنسبة للأمة كالمراكز الدماغية بالنسبة للجسد، وليس يمكن حقا تحرير بيت المقدس أو العودة للمكانة القوية العالمية دون أن تتحرر هذه العواصم وتنهض: مكة ودمشق وبغداد والقاهرة، بل إن تحرر عاصمة واحدة من هذه تساوي نقلة ووثبة في حال الأمة، فإذا أضيفت لها أخرى تمكنتا من تحرير الثالثة والرابعة.
نحن بحق نعيش محنة كبرى، ونسأل الله أن تكون هذه آخر درجات المحن، لتكون أيامنا القادمة أيام الفرج والخروج منها، فإن الأمة الآن كالأيتام على موائد اللئام وكالفريسة تؤكل من كل جانب، حتى لم يعد بعضها يشعر ببعض.
13. هناك من يقول إن بغداد ضاعت كما ضاعت الأندلس كيف ترد على هذا القول؟
هذا خاطر صعب ومفزع ينزعج المرء من مجرد تصوره، لكن أول ما ينبغي محاربته هو انتشار مثل هذه القناعة التي تؤدي بطبيعتها للضياع والاستسلام.
فإن الأندلس ذاتها لم تضع إلا بوجود هذه النفسية، تلك التي بدأت مع قول شاعر الأندلس بعد سقوط طليطلة:
يا أهل أندلس شدوا رحالكمُ .. فما المقام بها إلا من الغلطالثوب ينسل من أطرافه وأرى .. ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
وعاشت الأندلس بعد قوله هذا أربعة قرون، ولو استمع له الناس فشدوا رحالهم لم تعش بعد قوله هذا يوما!.. وحتى حين بدا سقوط غرناطة انقسم العلماء حينها إلى رأيين، رأي يرى البقاء والدفاع والمواجهة وعبَّر عنهم أحمد بن أبي جمعة الوهراني في فتواه لأهل الأندلس بالبقاء مع الصبر والتمسك بالدين، ورأي يرى وجوب الخروج من الأندلس وعبر عنهم الونشريسي في فتواه "أسنى المتاجر فيمن غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر" وقد انتصر هذا الرأي الأخير، وكتابه مشتهر أكثر من كتاب الأول.
الضياع ليس حتمية تاريخية لا لبغداد ولا حتى للأندلس، بل الأمر منوط بالمجاهدين والمكافحين والمخلصين، ومن أغرب ما أتذكره في هذا السياق أن مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني حاول أن يتوسط في قضية المغرب لدى ألمانيا –التي كانت تربطه بها علاقات جيدة في وقته- لتساعد المغاربة ضد الاحتلال الفرنسي، ولما رأى من الألمان نكوصا حاول تحذيرهم بأن هذا قد يدفع المغاربة للتواصل مع الاتحاد السوفيتي بحثا عن استقلالهم، وهنا فوجئ الشيخ الحسيني –وفاجأنا لما حكى هذا- بأن مستشار الخارجية الألمانية قال له: نحن لا نخشى من الاتحاد السوفيتي (وهو حينئذ قوة عظمى وعدو لهم في الحرب العالمية الثانية) وإنما نخشى أن يتحد المغاربة مرة أخرى فيكررون سيرة الأندلس! فلك أن تتخيل كيف كان العرب وهم أصفار ممزقون في ميزان القوى الدولية أكثر إرعابا لأوروبا من الاتحاد السوفيتي، ومنه تعرف: أنهم ما زالوا حتى الآن يخشون أن تعود الأندلس!! فكيف نتحدث عن ضياع بغداد؟!!
نشر في مجلة "حضارة"، العدد 22، يوليو 2019
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 07, 2019 11:37

September 5, 2019

في اصطناع الرجال


هذه الافتتاحية ثلاثة أجزاء؛ الأول: قصة من قلب التاريخ عن شخصية لفتت النظر رغم قلة الأخبار المتوفرة عنها، لكن ذكرني بها أمور سأسردها في الجزء الثاني، وفي الجزء الثالث تعقيب على بعض ما ورد للمجلة من رسائل وتعليقات نحسب أنها مهمة.
[1]
قبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، فمن تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهذا رجلُ سياسة وحرب، واجتماع السياسة والحرب في الرجال قليل، إلا أنه كان في صدر دولة بني العباس فلم يتوهج نجمه بين أهل الثورة الناجحة وأهل الدولة في شروق شمسها، وكيف برجل عاش في زمن أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال وقحطبة بن شبيب الطائي؟! فأولئك كانوا وسيظلون من عظماء الساسة والخلفاء عبر كل التاريخ الإنساني، وإن نقدنا عليهم أمورا وكرهنا منهم أخرى.
وفي شذرات الأخبار القليلة التي جاء فيها اسم جعفر بن حنظلة البهراني نرى رجلا حكيما وافر العقل سديد الرأي، بل هو من الكفاءات السياسية التي عملت مع الأمويين ثم مع العباسيين، فهو إذن من عينة أولئك الرجال الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها الذين خلعتهم بعد ثورة كبيرة ساحقة. فإذا لم نكن نعرف عنه غير هذا لكان يكفينا أن نبصر فيها كفاءته النادرة!
أول ما نعرفه من أخبار جعفر أنه كان من قيادات الجيوش التي فتحت وسط آسيا ومناطق الشعوب التركية، في زمن الأمويين، إذ ينقل الطبري قيادته لكتيبة حمص في جيش أسد القسري (والي خراسان) ثم قيادته لكتائب المتطوعين في ذات هذه الحرب في عام (119هـ)، ثم تولى جعفرٌ خراسان أربعة أشهر في فترة انتقالية بين وفاة واليها أسد القسري وإلى أن واليها الجديد والأخير في دولة بني أمية نصر بن سيار (120هـ)، وقاد غزوة ضد الروم (139هـ)، وقاد غزوة أخرى (146هـ)، وهاتين في زمن العباسيين. ولكن جاء وصف شارد عند الطبري بأن جعفرًا هذا هو "أعلم الناس بالحرب، وأنه شهد مع مروان حروبه"، وأغلب الظن أن مروان المقصود هنا هو مروان بن محمد، وحروبه هذه إنما يقصد بها حروبه في أرمينية حيث كان مروان واليا قبل أن يلي الخلافة. ولو ثبت هذا فإن جعفرا كان متمرسا بالحروب وكان بين جبهتي الترك والأرمن في خراسان وما وراء النهر وفي جبال أرمينية!
وتفيد مجمل أخباره مع المنصور أنه كان من المقربين إليه في الأمور الخطيرة، فحين قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني كان صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني من أول من علموا بالخبر ودخلوا عليه بعد قتله، فقال للمنصور: "عدّ خلافتك مذ اليوم"، وكان الأمر كما قال، إذ لم يستتب أمر المنصور ولا استقرت الدولة لبني العباس إلا بعد ذهاب أبي مسلم الذي كان أخطر مركز نفوذ يستطيع أن يتحدى الخليفة نفسه، ولو لم يستطع المنصور الخلاص من أبي مسلم لضرب الانقسام الدولة الإسلامية والخلافة العباسية منذ أيامها الأولى.
وقد اشتعلت ضد المنصور ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وهي واحدة من الثورات العلوية ضد العباسيين، وكان التخطيط أن تعلن الثورة في المدينة على يد محمد، وفي البصرة على يد إبراهيم في نفس الليلة فيقع الارتباك والتشتت لدى المنصور، إلا أن خلافا في التقدير جعل محمدا يثور قبل الموعد المتفق عليه، وجاءت ثورته في ليلة كان إبراهيم فيها مريضا بالبصرة، فأعلنت الثورة من المدينة وحدها، وكان هذا من جملة أسباب إخفاقها. لكن الذي يهمنا هنا هو أن صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني تظهر له ثلاثة أخبار في هذه الثورة:
أولها أنه بمجرد ظهور محمد في المدينة نصح المنصور أن يوجه الجيش إلى البصرة ويهتم بها الاهتمام الأكبر، لكن أبا جعفر أعرض عن هذا الرأي، فلما فوجئ بثورة إبراهيم تشتعل في البصرة وتتمدد تمددا خطيرا يكاد أن يصل إلى الكوفة استدعى جعفر بن حنظلة البهراني وسأله كيف استطاع أن يتوقع هذا؟ فقال جعفر مقالته التي تدل على خبرته بالبلدان وطبائع أهلها ووزنها الجيوسياسي (بالمصطلح المعاصر)، قال: "لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة". وتذكر رواية أخرى أن المنصور سأله حين وصله خبر ثورة محمد فقال له: "يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة، قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل"، وكانت هذه هي أساس الخطة التي اتبعها المنصور في مواجهة ثورة محمد.
وثانيها: أنه خرج في قادة إخماد هذه الثورة، وهذا دليل كفاءة وثقة من المنصور فيه، فقد اجتمع له الحرب والرأي.
وثالثها: أنه لما عاد بخبر هزيمة إبراهيم بن الحسن وإخماد الثورة، كان الناس يدخلون على المنصور فيهنئونه بهذا النصر، ويأخذون في سب محمد وإبراهيم كما يفعل أعوان السلطان على عادتهم، فلما دخل جعفر على المنصور قال مقالته التي تنم عن شرف العربي ورفعة أخلاقه حتى في حال الخصومة، قال: "أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك"، فَسُرَّ بذلك أبو جعفر وقال: أبا خالد مرحباً وأهلاً ها هنا (أي أجلسه قريبا منه)، فعلم الناس أنه قد سرته مقالته فقالوا مثل قوله. وهذا درسٌ في أخلاق السياسة حتى مع الحرب والخصومة نحتاج أن نتذكره في زمن صار الخلاف فيه مبيحا للطعن في الأعراض وانتهاك الحرمات والتفنن في الكذب والتحقير.
ويروي البيهقي في "المحاسن والمساوئ" أن صاحبنا جعفرًا كان صاحب النصيحة الشهيرة عن المقارنة بين عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك ومصائر أولادهما، وأنه نصحها للمنصور قائلا: "يا أمير المؤمنين أدركت عمر بن عبد العزيز سنتين، لم يتخذ مالاً ولم ينشيء عيناً، ولم يستخرج أرضاً، ولم يضع لبنة على لبنة، ولا أُحصي كم من ولده تحمل الحمالات، وحمل على الخيل، وولي هشام بن عبد الملك ثماني عشرة سنة ما منها سنة إلا وهو ينشيء فيها عيوناً ويتخذ فيها أموالاً ويقطع لولده القطائع، ولا أعرف اليوم من ولده رجلاً يشبع".
هذه أخبارٌ تعد على أصابع اليد الواحدة عن رجل واحد، إلا أنها تدل على مبلغ كفاءته في الحرب والسياسة معا، وليس المقصود من هذا المقال إلا لفت الانتباه إلى ضخامة عدد المجهولين وأخبارهم في تراثنا، وأن أخبار كثير منهم مطمورة مغمورة تحتاج من يستخرجها.
[2]
ما سبق كانت هي القصة.. فما سبب إيرادها هنا؟
السبب كان تقريرا قرأته قبل مدة يبحث في إنتاج المراكز البحثية الغربية عن سبل الانتصار على حركات الجهاد والمقاومة الإسلامية، وقد رصد هذا التقرير اتجاها عاما في المراكز الغربية يتلخص في: ضرورة الفصل بين هذه الحركات وبين حواضنها الشعبية، إذ ستظل هذه الحركات دائمة التجدد مهما أبيد بعضها وأخمد بعضها طالما أن الإسلام يمثل عقيدة قتالية تعتنقه الشعوب المسلمة، وهو ما سيوفر دائما مددا من المجاهدين والمقاتلين إما لرفد الحركات القائمة أو لإنبات حركات جديدة. [راجع: https://goo.gl/Fc4nZS]
ومن ثَمَّ فلا بد من نشر وترويج نسخة جديدة من الإسلام في هذه المجتمعات المسلمة، ومن ضرورات هذه النسخة أن ينطق بها مسلمون مخلصون، إذ لو نطق بها الغربيون أو حتى العلماء الرسميون التابعون للسلطة فلن يمنحها هذا المصداقية اللازمة لانتشارها في المجتمعات الإسلامية.. وهكذا فلا بد من البحث عن البديل المناسب الذي لا بد أن يكون من داخل المجتمعات المسلمة، ويمثل نمطا طبيعيا فيها ليجري دعمه والترويج له بدون فجاجة ليسود خطابه المنافر لحركات الجهاد والمقاومة فتنقطع الأمة عن إمداد هذه الحركات فيسهل إخمادها وإبادتها بلا رجعة.
بحسب التقرير تنحصر هذه البدائل في أربعة رئيسية، لكل طيف من المراكز البحثية الغربية واحدا تميل إليه، وهم: الإسلام الرسمي التابع للسلطة، الطرق الصوفية، السلفية الدعوية (العلمية)، الحركات السياسية (الإخوان المسلمون).يعرف الباحثون الغربيون الذين اقترحوا هذه البدائل أن كلا منها قد يتحول إلى خطر بنفسه إذا جرى دعمه، وربما يشب عن الطوق، فحتى الأزهر الذي يمثل السلطة الرسمية يُخشى منه دعمه أن تتجدد زعاماته المشيخية ودوره التاريخي القديم في مكافحة الاحتلال، وكذا الطرق الصوفية التي لها تاريخ عريق في الجهاد لا سيما في الشمال الإفريقي والعراق وتركيا والجناح الشرقي للعالم الإسلامي، وكذا السلفية العلمية التي تحتضن أصولها الفصل الواضح بين المسلمين وغيرهم وبين دار الإسلام ودار الكفر والتي تعد أضعف الاتجاهات الإسلامية في تقبل الحداثة، وكذلك الإخوان المسلمون الذين يمثلون خطرا قويا وهم الذين أفرزا حركة مثل حماس ورجلا مثل أردوغان وكادوا أن يحققوا تحولا خطيرا بمصر!
المضحك المبكي أن ما يعرفه هؤلاء الباحثون ويحذرون منه لا يعرفه أبناء التيار الإسلامي نفسه الذين يسود بينهم سوء الظن بعضهم في بعض، وتختزن عقول كل طائفة منهم قائمة طويلة من جنايات وإساءات وخيانات وأخطاء وجرائم الطائفة الأخرى!!
الواقع أن هذه الخنادق والفوارق الواسعة من التباغض وسوء الظن هو الذي دفع أولئك الغربيين (الذين يكرهوننا جميع ويحاربوننا جميعا) لأن يتوقعوا أن يكون بعض الإسلاميون بديلا عن بعضهم الآخر، بل وأن يكونوا ذراعا لضرب البعض الآخر، ويبدأ عملهم في التفريق والتوظيف، بينما هم يطمحون إلى غاية تدمير الجميع ونشر الكفر التام بين المسلمين.
نحن نعلم بيقين، ومن واقع ما عايشناه وشاهدناه، أن في كل هذه البدائل أناس مخلصون للإسلام إخلاصا لا سبيل للشك فيه، مجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم، باذلون له من أوقاتهم وأعمارهم ودموعهم ودمائهم، بل في كل أولئك أناس مستجابو الدعوة يُستعان بهم في الشدائد، فضلا عن أن في كل أولئك كفاءات علمية وشرعية ودعوية وإدارية وسياسية وعسكرية وغير ذلك.
فلماذا ينبغي أن يكون بعض أولئك بديلا لبعضهم الآخر، ولا يكن بعضهم لبعض مكملا وسادًّا للفجوات والثغور والاحتياجات الملحة؟
نعم بين هذه الأطياف من المشكلات الفكرية والتاريخية بل والاختلافات العقدية ما هو معروف، وليس مطلوبا الآن التفتيش في هذه الأمور، بل المطلوب هو التعاون في ظل هذه النوازل الكاسحة التي تريد استئصال الإسلام كله.
لئن وُجِد في الكفار الأصليين من يعرف الفوارق بين الاتجاهات الإسلامية إلى الحد الذي يريد فيه ويعمل على توظيف بعضهم ضد بعض، أفلا ينبغي أن يكون في العاملين للإسلام من المنصفين وأهل العدل والحلم والروِّية من يستثمر في العلاقة مع الأطياف الأخرى لسد النقص وملء الاحتياج وجبر الكسر؟!
فإذا لم يكن هذا موجودا ولا محتملا فأضعف الإيمان أن تكون العلاقة بين الإسلاميين بالقدر الذي يتعطل معها توظيف بعضهم ضد بعض، لئن لم يكونوا معنا ولم يكونوا إلى جوارنا فليكونوا محايدين ولا يكونوا في المعسكر الآخر!
ويجدر أن نتعلم هذا أول ما نتعمله من نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فقد جعل الوليد بن الوليد يراسل أخاه خالدا ويعده ويمنيه بأن رسول الله يعرف له حقه وما مثل خالد يجهل الإسلام، هذا وخالد هو صاحب الهزيمة القوية في أحد والتهديد الخطير في الحديبية. بل وفي اللحظة الأخيرة أعطى رسول الله لأبي سفيان شيئا لنفسه لأنه رجل يحب الفخر فذهب هذا مفتخرا ينادي "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وأبو سفيان قبل هذه اللحظة رأس العداوة للإسلام وللنبي.. والمواقف كثيرة وليس يجهلها الإسلاميون ففي كل منهم علماء وفقهاء وشرعيونز
ثم لنتعلمه من تاريخنا، وهذه القصة التي سقتها عن جعفر بن حنظلة البهراني مجرد واحدة من كثير، بل إن قصص العفو عن الخصوم واصطناعهم لهي حديث طويل تزخر به كتب التاريخ وكتب آداب المجالس وكتب الحلم والأمثال.
فإن لم يسعف هذا فلنتعلمه من أعدائنا، ولعمري إن العكوف على مذكرات الساسة البريطانيين وحدها، لتأتينا بثروة هائلة من حسن سياستهم في تدبير شأن القبائل ومعرفة الحق لرؤوسها، واصطناعهم لشيوخها ورجالها، مهما كانت بينهم وبين الإنجليز معارك طاحنة، وبهذه السياسة التي مهما كرهناها منهم فلا نملك إلا الإعجاب بها وبأنها وفرت عليهم أنهارا من دماء وبحارا من أموال وصنعت لهم نفوذا لا زلنا نصارعه ونكابده. وقد فعلوا هذا كثيرا بعد انتصارهم وتمكنهم، وبه كسبوا أوضاعا جديدة وانتزعوا فتيل ثورات كان يمكنها أن تطيح بهم وتسبب لهم إزعاجا شديدا. ولو أن لي من الأمر شيئا لخصصت مركزا بحثيا ينفق عليه من أموال الإسلاميين لتحليل مذكرات الساسة الأجانب فحسب في مراحل تاريخنا المختلفة فإن فيها دروسا عظيمة عظيمة، وما على الرجل أن يتعلم من عدوه إذا أحسن عدوه الإنجاز!
[3]
بقي أمرٌ أخير يحملنا على ذكره بعض التعليقات التي جاءتنا على بعض المقالات التي نشرت في المجلة، والتي ترى أن المجلة تتخذ موقفا معينا من فصيل في ثورة الشام المباركة، وقد جاءتنا تعليقات متعاكسة، فبعضها يرى أننا نأخذ موقفا مادحا من فصيل ما وبعضها يرى أننا نأخذ موقفا قادحا من الفصيل نفسه.
ولتوضيح هذا الأمر، نقول:
1.    قولا واحدا وقاطعا ليس للمجلة موقف أو انحياز لأحد الفصائل أو الفرق أو الجماعات لا في داخل الشام ولا في خارجه، ويشهد الله أن المجلة فكرة ذاتية من العبد الفقير، ومن معه من الأصدقاء ممن يقومون بشأن المجلة لا ينتمون لحزب ولا لجماعة ولا لطائفة.
2.    المجلة تفتح أبوابها لاستقبال المقالات من الجميع، وتجري مراجعة المقال على قاعدة: هل هو نافع أم لا؟ فإذا ترجح ذلك نُشِر وإن لم نوافق على كل ما فيه، ونحن حريصون –كما ذكرنا ذلك مرارا- أن تكون مادة المجلة نافعة للعاملين.. فليست تهتم لا بالثناء على أحد ولا بالقدح في أحد.. وإن كان المدح والقدح يجريان بالضرورة في نقاش أية قضية، فكيف بمناقشة القضايا العويصة في زمن الاستضعاف وفي خضم الفتن التي تجعل الحليم حيرانا؟!
3.    والمعنى المباشر لما سبق أن المجلة تستقبل المقالات من أفراد تختلف آراؤهم وتوجهاتهم، وكل هذا مرحب به، بل نحن حريصون عليه.. لكننا في ذات الوقت نحرص أيضا ألا تكون المجلة سجالات بين أطراف مختلفة، وألا تتحول إلى مجرد ساحة فكرية لتبادل الردود والاتهامات. فالأصل الذي يقاس عليه كما نكرر: هل المقال نافع أم لا؟
4.    وكل الأمور التقديرية عرضة للصواب والخطأ، فإنما نحن بشر، ولربما أخطأنا التقدير فنشرنا ما حقه الحجب، أو حجبنا ما حقه النشر، وإنما هذا مبلغ اجتهادنا.. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 05, 2019 11:24

August 18, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط


كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط
·        لماذا عزلنا أول أمير للجماعة الإسلامية في أسيوط بعد شهور؟!·        حاول الإخوان إثناءنا عن عزل أمير الجماعة الإسلامية لكننا أصررنا على ذلك!·        لم نستجب لمحاولات الإخوان فرض هيمنتهم على شباب الجماعة الإسلامية!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة  (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي –  (15) بداية زعامة صلاح هاشم – (16) محاولة الإخوان الهيمنة على جامعة أسيوط
خضع أسامة حافظ وكبار زعماء الطلاب لاختيار الشاب الطالب بالصف الأول بكلية الطب أسامة السيد كأمير للجماعة الإسلامية بالجامعة، في واحدة من وقائع الزهد وتوقير الكبار وتقديم مصلحة الدعوة على مصلحة النفس، على النحو الذي أشرنا إليه سابقا.
لكن وَضْع أميرٍ على رأس الإخوة الكبار، وهو لا يتمتع بمواهب القيادة، لم يكن أمرا طبيعيا، لقد صار الأمر كأنه وُضِع أمير شكلي ليدير شيئا أكبر منه وأعظم، وجرى الأمر بهذه الصورة: الاسم والمنصب الرسمي لأسامة السيد، والزعامة الحقيقية لمن هم كأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وغيرهم. له الصورة ولهم حمل العبء العملي في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يصدرون عن طبعهم وما استقر عليه الأمر في الفترة الماضية، فهم الذين يملكون مقاليد العمل على الحقيقة.
عُرِفت جامعة أسيوط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان هذا أبرز سمت للعمل الدعوي الشبابي فيها، وقد حاول أسامة السيد تعطيل هذا الأمر مرارا ولكنه لم يفلح!
كان أسامة السيد واجهة قيادة الإخوان في الجامعة، وبدأ يظهر بالتدريج لماذا وضعوا أسامة السيد في هذا المنصب وأصروا عليه في ذلك المعسكر، كانت بداية المشكلات في اجتماع مجلس شورى الجامعة، حيث يجتمع أمراء الكليات ليتشاوروا ويقرروا ماذا يفعلون، فإذا اتفقوا على شيء قال أسامة السيد: لا بد من الرجوع للإخوة الكبار، لا يمكن أن نتصرف في هذا بغير إذن الإخوة الكبار، وهكذا!.. يقصد بهم قيادة الإخوان في المحافظة.
وعندئذ يزمجر الإخوة أمراء الكليات، أولئك الذين أسسوا العمل ونظموه وتحملوه وكانوا يعملون باستقلال تام قبل أن يطرأ عليهم هذا الوضع الجديد، ويعترضون على هذا الأسلوب الذي يرهن العمل وقراره لآخرين، وأسامة من جهة يصرّ على ألا يُمْضِي أي أمر دون هذا الرجوع لقيادته في الإخوان واستئذانهم، ويتمسَّك بشرعية اختياره أميرا وله على الجميع حق السمع والطاعة!
تعددت الوقائع، يخرج أسامة من اجتماع مجلس شورى الجامعة إلى قيادة الإخوان بما استقر عليه أمرهم، فإما أقرُّوهم فعاد إليهم بإمضاء ما اتفقوا عليه، وإما اعترضوا فلم يُقِرُّوهم فسعى في نقض ما اتفقوا عليه بالأمس.
هنا بدأ ينمو عزمٌ لدى أسامة حافظ بأن يعزل أسامة السيد! وحدَّث بقية الإخوة بما في نفسه، يقول: اخترنا أسامة السيد أميرا فإذا هو مخبر، يذهب إلى الإخوان فيخبرهم بكل شيء، وكلما اتفقنا على أمر رهنه لقرار ورغبة "الإخوة الكبار" عنده، والجامعة لها وضعها الذي لا يفهمه من كان خارجها، ولا يمكن أن يُقاد العمل في الجامعة من خارجها، وذهب هذا مثلا وشعارا "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها".
وجد كلامه صدى في نفوس بقية الإخوة، وتشاوروا: كيف نعزله؟ قالوا: نجمع الناس كما جُمِعوا أول مرة، ونختار مرة أخرى، ولئن أعادوا اختياره فهم وما أرادوا، ولكن سيكون اختيارهم هذه المرة اختيارا حرًّا يجب علينا قبوله، وإن لم يختاروه فلن نسمح مرة أخرى لهذا الضغط أن يُمارس علينا، ولن يُفرض علينا من لا نقتنع به.
كان هذا في ذات السنة، لقد تولى أسامة السيد إمارة الجامعة في النصف الأول من العام الدراسي 1976 – 1977، بدأت ولايته في شهر نوفمبر أو ديسمبر 1976، وقضينا في هذه المشكلات الداخلية سحابة هذا العام حتى قررنا إقامة المعسكر العام لعزله في شهر مارس أو إبريل 1977، واخترنا أن يكون أيضا في مسجد عمر مكرم.وليس يعني هذا أن العمل في الجامعة قد توقف، بل نحن في هذه السنة قد فزنا برئاسة اتحاد الطلاب في الجامعة. وكما هو معروف فقد كانت إمكانيات اتحاد الطلاب الرسمي العصب الأقوى في العمل الدعوي في الجامعات تلك الفترة.
حاول الإخوان ما استطاعوا إثناءنا عن فكرة الدعوة إلى معسكر، ثم حاولوا إثناءنا عن فكرة الانتخابات في المعسكر أيضا، طلبوا أن نعطيه فرصة أخرى، سنة أخرى، فترة جديدة، ونحن في إصرارنا نرفع شعار "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها" و"لا فرصة إلا لمن يأتي به الطلاب"، يجادلوننا: ها قد صرنا في نهاية السنة الدراسية والوقت قد ضاق بل قد فات، ولن يتمكن الجديد من فعل شيء إذا انتُخِب، ونحن نرد: المهم عندنا أن يتحقق اختيار حقيقي للطلاب، ولئن اختاروه مرة أخرى فلا مشكلة عندنا..
وهكذا أخفقت محاولاتهم في إفساد الأمر، وذهبوا في محاولة حشد أتباعهم لإعادة انتخابه!
كان زعماء تنظيم المعسكر والدعوة إليه ثلاثة: أسامة حافظ وصلاح هاشم وأنا.. وكان حضور صلاح هاشم نوعا من الدعم المعنوي والروحي باعتباره مؤسس العمل الدعوي في الجامعة مع أنه كان قد تخرج في هذ الوقت.
بدأنا بانتخابات أمراء الكليات، وفيما أتذكر كانت النتائج هي هي، فيما عدا أمير المدينة الجامعية التي فاز بها هذه المرة ناجح إبراهيم وكان طالبا في كلية الطب، خلفا لأخ اسمه محمد عباس أو شيئا قريبا من هذا، وقد كان هذا الأخ من الجماعة الإسلامية أيضا لكنه لم يعد من المشهورين من رجالها فيما بعد.
اختير أسامة السيد أميرا لكلية الطب مرة أخرى، وجاء دور اللحظة المهمة، لاختيار أمير الجامعة.
كانت قيادات الإخوان حاضرة أيضا، نفس المجموعة: د. دسوقي شملول ود. محمد حبيب والمحامي محمد الغزالي، وفيما أظن الأستاذ عبود أيضا، وحاولوا قدر إمكانهم منع اختيار بديل لأسامة سيد، ولكن قيادات العمل الطلابي التي بدأته كانوا حاضرين أيضا: صلاح هاشم وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وعبد الله عبد السلام.
ولم أحضر أيضا هذا الاجتماع، ولا أتذكر السبب الآن، لكني أدركته في اللحظات الأخيرة!
تداول الحاضرون فيمن يمكن أن يكون أميرا للجامعة، كان الإجماع منعقدا على رفض أسامة السيد، لكن ليس ثمة إجماع مقابل على شخص البديل، كان أسامة حافظ أول من طُرِح ليكون هو أمير الجامعة، ولكن أسامة حافظ رفض، رفض لئلا يقال: فعل هذا كله لأنها أرادها لنفسه. مثلما تنازل عنها أول مرة زهدا فيها وإيثار لما ظنه مصلحة العمل الدعوي.
وكان الشيخ أسامة حافظ هو الذي رشح ناجح إبراهيم ليكون أميرا للجامعة!
قال له الإخوان: لكن ناجح إبراهيم حليق، وأنت كنت تنتقد أسامة السيد لأنه حليق أيضا، فقال: يلتحي من الآن. فالتحى ناجح من هذه اللحظة وصار أميرا للجامعة.
انتهى الأمر، وصعد أسامة السيد المنبر ليقول كلمة، وهنا دخلت المسجد فأدركت هذه الكلمة!
الحق أنه قال كلمة مؤثرة حقا، بل لقد أبكاني فيها، وذكر أن ما حدث اليوم أمر غير شرعي، وأنه خروج على أمير شرعي، وأنه عمل لا يجوز، ولا أرضى عنه، وبصفتي أميرا للجماعة لا أقبل به، وذكر نحو هذا الكلام. كانت أشبه بخطبة التنحي عن العرش!! وانقضى الأمر، وأعلن ناجح إبراهيم أميرا للجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط.
وقبل أن أترك هذا المقام فإني أسأل الله أن يجمعنا بالدكتور أسامة السيد على خير وعلى ما يحب ويرضى، هو الآن طبيب كبير، ولكنه ليس حاضرا في الساحة الإسلامية، أو بالأحرى لا أدري الآن أين موقعه من العمل الإسلامي، وقد قابلته مرة أخرى في التسعينات، لقد كان أخا دمث الخلق جدا، وكان أصغر منا في السن ونحن أكبر منه، واختاره الإخوان –كما ذكرتُ من قبل- لكي يقضي أكبر فترة ممكنة في التواجد داخل الجامعة، بحيث يؤسس لحركة الإخوان داخل جامعة أسيوط، لكن هو كشاب كانت إمكانياته القيادية ضعيفة، لم يكن الأمر مجرد صغر في السنّ، فربما كان الأخ صغيرا ولكن ارتفعت به مواهبه، ولذلك لم يكن قادرا على احتواء الإخوة الذين كانوا أكبر منه وأقوى في مسألة القيادة.
كان يمكنه أن يعود للإخوان في كل القرارات لكن بشكل أذكى وأكثر احترافا وحصافة، دون أن يعطي شعورا لمجلس شورى الجماعة الإسلامية أنهم رهن قرار الإخوان، لقد كان يعلم أن هؤلاء الذين معه ليسوا أبناء جماعة الإخوان، ومن ثَمَّ فهم لا يقبلون بهذا الارتهان والقيادة من الخارج، أحسب أني لو كنتُ مكانه لكنت ركزت جهدي واهتمامي في احتواء أولئك الذين ليسوا من الإخوان ليصيروا جزءا من الإخوان فيما بعد، فأشركهم معي في القرار والإدارة، بدلا من أن أقول: لا بد من الرجوع للإخوان، يمكنني أن أقول: ما رأيكم أن نستفيد من رأي هؤلاء الإخوة الكبار ومن خبرتهم؟ هلم بنا لمزيد من الفائدة نناقش هذا الأمر مع هؤلاء الإخوة الكبار، وهكذا.. أنشئ نوعا من التعامل والاحتكاك بين هؤلاء الإخوة وبين الإخوان الكبار عسى أن يجعلهم ذلك من الإخوان تدريجيا! لكن الذي وقع أن الإخوة الكبار في الإخوان كانوا كأصحاب الفيتو والمرجعية المفروضة على مجلس شورى الجماعة الإسلامية بالجامعة، وبالتالي أنشأ هذا شعور النفور وقوَّى شعور الاستقلال لدى الشباب. لعله لو كان أسنَّ من ذلك وأخبر حركيا كان سيمكنه أن يدير الأمر بشكل أفضل.
نشر في مجلة كلمة حق 

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 18, 2019 09:36

August 7, 2019

الحج الممنوع والقلب المفجوع؟


وصلا بالمقال الماضي، نستأنف ونقول:
بعث الله في نفوس المؤمنين حب البيت الحرام والشوق إليه، وكانت تروي لي أمي عن جدتها رحمها الله أنها حجَّت على مواكب الجِمال، وأن الناس في تلك الأيام كانوا يوَدِّعون الحاج كوداعهم الميت، فإن الطريق طويل، والأخطار كثيرة، وقد يكون الخطر بسيطا كعقرب أو أفعى في الصحراء، أو مرضا بسيطا لا يوجد له الطبيب والدواء، وقد يكون خطرا كبير كما يحدث من قُطَّاع الطريق أو ظلم الحُكَّام ونحوه. والمقصود أن رحلة الحج كانت أشبه برحلة الموت إلا أن الشوق الذي يتردد في صدور المؤمنين لا يفتر ولا يهدأ حتى يحرك صاحبه إلى هذه الرحلة ولو كانت رحلة موت!
ولست أنسى يوما كنت فيه في مؤتمر بجامعة إفريقيا عن "طرق الحج في إفريقيا"، فاستفدت من بعض المشاركين أن المذهب المالكي يجعل الاستطاعة في الحج هي الاستطاعة البدنية، بمعنى أن صحيح البدن قد فرض عليه الحج ولو كان فقيرا، فكان أهل الشمال والغرب الإفريقي يخرجون من بلادهم البعيدة، فإذا نفدت نفقته عمل في أي عمل يلقاه في أي بلد حتى يحصل أجر مرحلة من الرحلة، فلا يزال يعمل وينتقل إلى أن تنفد نفقته فيعمل ثم ينتقل حتى يصل إلى البيت العتيق. وهكذا اتصل المسلمون في أقصى غرب إفريقيا والأندلس بالحرمين والمشارقة، وهكذا بقيت الأمة واحدة متجانسة.
ولكن السؤال الذي يلح على الخاطر: أي شوق هذا الذي يحمل صاحبه على أن يتكبد كل هذا العناء في رحلة مخوفة مجهولة محفوفة بالمخاطر؟!.. لا تفسير لهذا بأي مقياس مادي، إنما هو الحب الذي أودعه الله قلوب المؤمنين.
يروي محمد لبيب البتانوني في رحلته إلى الحج "الرحلة الحجازية" (1327هـ = 1909م)، وكان ممن اختير ضمن موكب الخديوي عباس حلمي الثاني لما عزم على الحج، يروي أن الحج يهذب الأخلاق تهذيبا لو أن الحكومات انتبهت إليه ليسرت سبيل الحج على الناس، وذكر أن الحكومة المصرية كانت "في الزمن الغابر تُخرج إلى الشوارع والحارات في أشهر الحج أناسا يتغنون بأناشيد (يسمونها تحانين) تُحرِّك عواطف الناس إلى أداء هذه الفريضة" (الرحلة الحجازية، ص162).
وذكر الشيخ رشيد رضا في رحلته للحج (1334هـ = 1916م) ذات الملاحظة عن تشويق الحكومة المصرية للحج، فروى أن ركاب الدرجة الثالثة كانوا ينامون على ظهر السفينة، وأولئك كانوا "من أدنى طبقات المصريين، قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون، وحَمْلِها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب" (مجلة المنار 19/563).
وهذه الحكومة المصرية التي نتحدث عنها هنا ليست حكومة إسلامية، بل هي حكومات فاسدة كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وكان رأسها الخديوي أو الملك هو سليل أسرة محمد علي باشا زعيم التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، ومع ذلك فإن بعض الشر أهون من بعض، فما لاقيناه من حكم العسكر من بعدهم صار يُشَوِّق إلى أيامهم! كما أن حكومة الحجاز في تلك الأيام أيضا لم تكن حكومة إسلامية بل كانت تنسج المؤامرة مع الإنجليز للانقلاب على الدولة العثمانية فيما عرف بالثورة العربية.
هذه المساعدة والتشويقات التي كانت تبذلها الحكومة وتساعد الفقراء ليحجوا، تثير الأذهان لمعرفة كم كان يكلف الحج في تلك الأيام، ومن حسن الحظ أن المؤرخ المصري الكبير د. حسين مؤنس أخبرنا أنه حجَّ في عام 1937 (أي في مطلع عهد الملك فاروق)، يقول: "لم يكن معي إذ ذاك إلا مائة جنيه كنت قد ادخرتها، وكانت كافية في تلك الأيام لكل مطالب الحج من نفقات سفر وإقامة وما لا بد من أدائه من ضرائب قليلة كان لا بد من دفعها"، وفي نهاية الرحلة كان قد أنفق ثمانين جنيها فقط بما في ذلك السفر ذهابا وإيابا!!
كان عمره في هذا الوقت ستة وعشرون عاما، وكان الجنيه المصري وقتها يساوي 4 دولارات، أي أن تكلفة الحج على المصري كانت تساوي 320 دولارا، وهو ما يوازي الآن خمسة آلاف جنيه مصري، لكن رحلة الحج هذه الأيام تكلف المصري في المتوسط مائة ألف جنيه!!
منذ ذلك الوقت حتى الآن جرت في النهر مياه كثيرة، قيل عن مصر إنها استقلت وصار يحكمها أبناؤها الوطنيون، وفاض نهر النفط في الحجاز حتى صار ملوكها وأمراؤها مضرب المثل في البذخ والترف والإسراف وهدر الأموال، ومع ذلك اختفى من مصر التشويق إلى الحج وتضاعفت تكاليفه، كما ضيَّقت السعودية على الحج وفرضت عليه الضرائب، خصوصا ذلك الذي أراد تكرار الحج والعمرة، فعليه أن يدفع الأموال الكثيرة لسلطات مصر ثم لسلطات السعودية.
أما الذي صارت تُشَوِّق إليه مصر وتسهله السعودية فأمر آخر، إنها حفلات الرقص والخلاعة والمجون في جدة، إذا قصدت إلى تلك الحفلة خرجت لك التأشيرة السعودية في دقائق، ولم تكلفك السلطة المصرية شيئا من الضرائب. وقد حاول بعض الأذكياء استثمار هذا في الذهاب إلى العمرة فألقي القبض عليهم في السعودية ثم خضعوا للتحقيق الأمني في مصر، إذ كيف لك أن تستغل تسهيلاتنا لحفلات الطرب والرقص فتذهب إلى البيت الحرام؟!
هذا فضلا عن أن السلطة السعودية تمنع كثيرا من المسلمين أن يحجوا أو يعتمروا، فالذي يعارض السلطة السعودية لا يستطيع أن يفكر في زيارة البيت الحرام ولا أن يتمتع بالأمن فيه، على أن السعودية لا تقتصر في ذلك على معارضيها، بل هي تتطوع فتحرم معارضي الأنظمة الأخرى الصديقة أيضا، وقد وقع أنَّها سلَّمت حجاج ومعتمرين إلى أعدائهم يسومونهم سوء العذاب ثم يقتلونهم!!
بل أكثر من ذلك، السلطة السعودية تمنع شعبا من الحج لأن السعودية على خلاف سياسي مع النظام الحاكم هناك، أعني: المسلمين في قطر، وهذه عقوبة فريدة من نوعها، قد أنكرها أهل الجاهلية الأولى، فلقد كانت قريش في مأزق شديد أمام العرب أن منعت رسول الله من العمرة وهما على عداء، حتى قال حليف قريش الحليس بن علقمة: أيحج الناس من لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟!!
كلما شب الشوق للحرم في نفسي تناولت كتابا من كتب الرحلات الحجازية، أتلمس في الحكاية عن بيت الله إرواء شيء مما في صدري، فإذا الرحلة تزيد الشوق شوقا، ثم جاء صبيحة يوم لا أنساه، حصلت فيه على كتاب "المختار من الرحلات الحجازية"، وهو كتاب بديع ممتع عجيب، جمع الرحلات الحجازية بما فيها المغمور المطمور، ثم لخصها وانتقى منها، ونشرها رحيقا لذيذا يجمع بين المتعة والفائدة.. كان هذا الكتاب أحد أغلى ما في مكتبتي من الكتب، أتناوله كل حين وأنهل منه رحيقا عذبا من أجواء البيت الحرام. لكني كلما تناولته كلما آلمني وعذبني أن مؤلفه الآن في سجون السعودية، إنه الداعية الموهوب صاحب الهمة العالية والمؤلفات الغزيرة، محمد موسى الشريف!!
رجل من آل البيت، من أهل المدينة، وأمه مصرية، جمع في برديه بين الحجاز ومصر.. فلو كانت مصر ما تزال تثير الأشواق للحرم، أو كانت السعودية ما زالت ترحب بالحجاج، لكان هذا الرجل وكتابه يوزع مجانا على الشعوب! بدلا من تأشيرات اللهو والخلاعة التي تصدرها هيئة الترفيه!
ألا لو كان للمسلمين خليفة لأنشدنا له قصيدة شوقي الباكية المبكية التي شكا فيها من ولاة مكة وظلمهم وجورهم قائلا:
ضجَّ الحجاز، وضجَّ البيت والحرم .. واستصرخت ربَّها في مكة الأممُقد مسَّها في حماك الضُّر، فاقض لها .. خليفةَ الله، أنتَ السيدُ الحكمأُهِينَ فيها ضيوفُ الله واضطُّهِدوا .. إن أنت لم تنتقم فالله مُنتقمعزَّ السبيلُ إلى طه وتربِته .. فمَنْ أراد سبيلا فالطريقُ دمربَّ الجزيرةِ، أدرِكْها، فقد عَبثَتْ .. بها الذئابُ، وضلَّ الراعيَ الغنمإن الذين تولُّوْا أمرَها ظلموا .. والظْلمُ تصحبُه الأهوالُ والظُّلَمفي كلَّ يومٍ قتالٌ تقشعرُّ له .. وفتنةٌ في ربوع اللهِ تضطرم
نشر في الخليج أون لاين
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 07, 2019 23:39

نظرية مدهشة مثيرة للتأمل!


صدر الشهر الماضي في اسطنبول كتاب "نظريات ونماذج بيت المقدس" لأستاذ العلاقات الدولية د. عبد الفتاح العويسي، وفي هذا الكتاب مزجٌ بين فروع عدة من علوم السياسة والتاريخ والعلاقات الدولية، ولذا فقد كان هو مطلع سلسلة عنوانها "نحو تصور جديد للعلاقات الدولية" مما يجعلنا نتوقع أن السلسلة تخبيء لنا المزيد منها. كذلك جاء العنوان الفرعي للكتاب على هذا النحو "لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها وصناعة التاريخ المستقبلي".
المؤلف اسم معروف مشهور في الدراسات المقدسية، وهو حقل الدراسات الأكاديمية المتعلقة ببيت المقدس، وهو مؤسس ومدير الوقف المعرفي لدراسات بيت المقدس، الذي يقيم مؤتمرا علميا سنويا في هذا المجال، وتصدر عنه مجلة فصلية محكمة أيضا، فضلا عما يصدر من الدراسات الأخرى خارج هذه السياقات.
لست هنا في معرض التعريف بالمؤلف أو الكتاب، مع أن الأمر يستحق ويبدو شيقا ومثيرا، لكن سأركز على مسألة واحدة تعد جوهر الفكرة التي بُنِي عليها الكتاب، وهي فكرة تحولت –مع دراسات المؤلف عبر عقود- إلى نظرية في العلاقات الدولية، والواقع أن هذه النظرية تفتح الطريق للتفكير في عدد من الأمور بشكل مختلف، وبشكل عام فإن قوة النظرية هو فيما تطرحه من نموذج تفسيري جديد قادر على ضمِّ عدد من الظواهر في سياق واحد.
في هذه السطور أسوف تعريفا عاما لهذه النظرية مؤملا أن يفتح هذا الطريق لقراءة الكتابة ومواصلة البحث في الآفاق الجديدة التي يفتحها هذا التفسير الجديد.
بدأت النظرية من قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله).
إذن، فالمسجد الأقصى كما في الآية هو مركز البركة، وتنتشر البركة من حوله، أي أننا لو رسمنا خريطة مفترضة للبركة، فستبدأ دوائر البركة تنداح من مركز المسجد الأقصي وتتسع حوله.
لكن أين تنتهي مساحة البركة هذه؟.. فرسَّام خريطة البركة يريد أن يعرف أن يقف!
يجيب المؤلف: إلى المسجد الحرام! ويستدل على اختياره هذا بالآية نفسها، فقد حددت الآية ذلك بعبارة (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، وبهذا فإن المسافة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى هو نصف قطر دائرة البركة.
وبهذا تكون الدائرة التي مركزها المسجد الأقصى وحافتها المسجد الحرام هي دائرة البركة الكبرى المذكورة في آية سورة الإسراء.
يضيف المؤلف، ولا يمنع هذا من رسم دوائر أصغر منها، لأن منطقة بيت المقدس لها فضائل خصوصيات أخرى وردت في العديد من الأحاديث والآثار، وكذلك منطقة الشام لها خصوصيات أخرى وردت في آحاديث وآثار أخرى، ومن ثَمَّ قام المؤلف بتقسيم دائرة البركة الكبيرة هذه إلى دائرتين أصغر منها.
الدائرة الأولى: وهي مركز إشعاع البركة الأقوى المنطلق من بيت المقدس، ويشمل إقليم بيت المقدس.
والدائرة الثانية: التي هي متوسطة في البركة، وهي أبعد قليلا، تشمل منطقة مصر والشام وجزيرة قبرص في البحر المتوسط.
وما إن تم هذا الرسم وجرى توقيع هذه الدوائر على الخريطة حتى بدأت تظهر نتائج مثيرة للتأمل، وهي النتائج التي تحتاج مجهود المؤرخين وأساتذة العلاقات الدولية في البحث وراءها وتعميقها لتكوين النظرية الجيوسياسة الخاصة ببيت المقدس.
من خلال مجهود بحثي تاريخي، توصل الدكتور خالد عبد الفتاح العويسي، مدرس التاريخ بجامعة ماردين، وهو ابن المؤلف، إلى رسم إقليم بيت المقدس، الذي يمثل الدائرة الأولى من البركة، الدائرة الضيقة الصغيرة التي ينطبق عليها أحاديث وآثار فضائل بيت المقدس. وعلى مجهوده هذا تم اعتماد مساحة الدائرة الأولى.
يمكن بمجهود تاريخي بسيط إثبات الارتباط التاريخي القوي بين مصر والشام، وأنهما يمثلان جناحان لقوة الأمة، وعبر التاريخ الإسلامي كان اتحاد مصر والشام في دولة واحدة يمثل لحظة من لحظات قوة الأمة، كما كان انفصالهما في حكمين مختلفين هو من لحظات ضعف الأمة، هذا أمر يمكن لباحث التاريخ استدعاءه بسهولة، وهو يمثل ركنا ركينا من النظرية الجيوسياسة للعالم الإسلامي.
لكن النتائج الجديدة التي جاءت بها النظرية، وهي التي تدعو للدهشة والتأمل، كانت أعمق من هذه النظرة السريعة: لقد أظهرت دوائر الرسم أن المسافة بين بيت المقدس وحلب هي نفسها المسافة بين بيت المقدس والإسكندرية، أي أن الإسكندرية وحلب هما على حافة نفس الدائرة المرسومة من مركز بيت المقدس. وهو ما يعني حسب النظرية أن كمية البركة الواصلة إليهما من بيت المقدس متساوية، وهو ما يعني حسب النظرية أيضا أنهما بأهمية واحدة في الوزن الجيوسياسي في النظرية العامة للأمة.
باستدعاء التاريخ هنا سنرى أن المدينتين كليهما كانتا من معاقل الجهاد في العديد من فترات تاريخ الأمة، ثم من معاقل الثقل المالي الاقتصادي في العديد من الفترات أيضا.. ومما يلفت النظر أن بداية تحرير الشام في عصر الدولة الزنكية كان في حلب، وبداية تحرير مصر في نفس العصر كان من الإسكندرية بمجهود صلاح الدين وأسد الدين شيركوه. لن نمضي الآن وراء الاستنتاج فإنما المقصود هنا التعريف بما قد يأتي من نتائج مدهشة.
وعلى ذات الغرار فإن من أعجب النتائج أيضا أن المسافة بين بيت المقدس والمدينة المنورة هي ذات المسافة بينها وبين أنقرة. ولقد كانت أنقرة (التي تضم في جنباتها مدينة عمورية القديمة) هي المدينة الثانية المقدسة لدى الإمبراطورية البيزنطية، ولذلك أرادها المعتصم بالفتح ليثأر من غارة الروم في وقته، وسمي فتحها بفتح الفتوح في القصيدة الشهيرة لأبي تمام "السيف أصدق إنباء من الكتب"، كما أن المدينة المنورة هي المدينة الثانية المقدسة في الإسلام.
كذلك فإن المسافة بين بيت المقدس ومكة هي ذات المسافة بينها وبين اسطنبول، اسطنبول التي هي القسطنطينية والتي هي المدينة المقدسة الأولى للإمبراطورية البيزنطية، والتي بشر النبي بفتحها وكان فتحها عملا غير مجرى التاريخ كله، حتى عرف فاتحها بالسلطان الفاتح. كما أن مكة هي المدينة المقدسة الأولى في الإسلام.
يجادل المؤلف، صاحب النظرية، بأن موقع المدينة من خط البركة هو نفسه موقعها من الوزن الجيوسياسي للأمة، ولذلك أخد في تتبع مواقع المدن وخرج بنتائج تستحق التأمل والتدبر، وهي للوهلة الأولى مثيرة ومدهشة، وتلفت النظر إلى بعض المدن الواقعة على خطوط استراتيجية مهمة، كما ستعيد لفت النظر إلى تاريخ بعض المدن المغمور المطمور، ليعاد فهم العلاقة بين السيطرة على هذه المدن.
لا ريب ستثير النظرية من الدهشة بقدر ما ستثير من الخلاف، ولكن المقصود هنا هو التعريف بها ولفت النظر إليها، عسى أن يساعد هذا علماء الأمة ومفكريها والحريصين عليها في إطار سعيهم لفهم سنن الحياة ومسار التاريخ وقوانين الجغرافيا وموازين العلاقات الدولية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أغسطس 2019 

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 07, 2019 08:11

August 5, 2019

ضرورات الحركات


ما من صاحب هم وحرص على هذه الأمة إلا وهو يحاول إدراك السر الذي ينقل من حال الضعف والهزيمة إلى حال العز والنصر، فتراه لا يجلس مجلسا ولا يفتح كتابا ولا يحضر ندوة ولا يستمع إلى متكلم إلا وهو يحاول أن يفتش في كل ذلك عن طريق الحل. هذا السعي من أدلة الهمَّ ولعله من أدلة الصدق مع الله.
وفي هذا الحال يثار التفتيش في التجارب التاريخية، مع أنه لن يمكن تكرار تجربة تاريخية بحذافيرها أبدا، فالزمن نفسه جزء من تغير المشكلات وتغير الأوضاع، ومع ذلك يظل المسلم يحاول دائما استخلاص السنن والقواعد العامة التي لا تتبدل مع تغير الزمن.
ونحن المسلمون ننظر أول ما ننظر إلى تجربة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أنجح تجربة تاريخية بشرية على الإطلاق وبشهادة غير المسلمين من المؤرخين والباحثين، بل لأن الاقتداء بالنبي أمرٌ شرعي، أُمِرنا به في الكتاب والسنة، وإن كثيرا من تجارب الملوك والزعماء الأقوياء الناجحين لا يجوز لنا الاقتداء بها، فكم كان ثمن نجاح كثير من الزعماء دماء ملايين الناس وخراب المدن والبلاد!
إذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحاولنا أن نرى ما هي الإمكانيات والأدوات التي كانت بيده عند لحظة بدئه الدعوة، وكيف عمل صلى الله عليه وسلم على امتلاك ما لم يكن معه، فلعل ذلك أن يكون واجب الوقت.
وما سأكتبه هنا إنما هي قراءة سريعة عجلى لهذا الأمر، وهي جهد المُقِلّ المُقَصِّر الكسير، ويظل الواجب الأكبر على علماء السيرة والتاريخ أن يبذلوا لأمتهم هذا العلم، فلعل كلمة من هنا مع كلمة من هناك، فتحا يأتي به هذا مع فتح يأتينا من ذلك، فيكون ذلك أول الشرر، وسبيل الهداية لقوم يبحثون عن عمل وينقصهم بعض العلم.
1. أول الأمر فكرة ورسالة، وحي ألقاه الله لنبيه، فأول الأمر هو هذه الفكرة والرسالة الدينية الصافية، بدونها ما كان ليحدث شيء على الإطلاق.
2. وثاني الأمر إيمان عميق راسخ أصيل لا يتزعزع ولا يتردد، إيمان بهذا الدين، وبصلاحيته لهذه الحياة في كل زمان ومكان، وبقدرته على إصلاح حياة الناس وإنقاذهم دائما وأبدا، إيمانٌ يختلط باللحم والدم والعظم، يجري في العروق وينبض في القلوب، إيمانٌ لا تستطيع قوة أن تنتزعه أو أن تصرف عن العمل له، التخلي عن الإيمان بالرسالة يساوي التخلي عن الحياة، إيمانٌ عبر عنه النبي في قوله: "أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة".
3. شخصية عظيمة موهوبة، تملك مؤهلات القيادة، تستطيع أن تجمع إليها العقول والقلوب، قائد يملك أن يفصح عن فكرته، شديد الصلة والارتباط بربه، يعرف مداخل الناس وله فيهم فراسة ونظر ورأي، رجلٌ على قدر المهمة.
سيقول قائل: أين هذا القائد؟
وأجيب: إنها والله لمعضلة حقا، لكن أمة تبلغ أكثر من مليار ونصف يستحيل ألا تحتوي على هذا الرجل، ربما تفرزه الأحداث فيجب عندها أن تكون القوى والجهود في ظهره ومن خلفه، وأن تخلص النفوس من حظ نفسها وتتجرد لله ولمصلحة الأمة، فأن نكون ذيولا في الحق خير لنا من أن نكون رؤوسا في الباطل، وهو خير لنا في الدنيا، فأن نسوق للزعيم المسلم دابته خير من أن نرعى خنازير الكافر الذي سيحتلنا ويذلنا.
ربما تفرزه الأحداث، وربما نحتاج أن نبحث عنه بعينٍ أخرى كما كان طالوت في أمة بني إسرائيل المهزومة، كان بينهم وكانوا يبحثون عن قيادة، مقاييسهم كانت تحجبه عن عيونهم، ولما جاءهم خبر السماء بأنه القائد المصطفى من الله استنكروا هذا الاصطفاء (تعسا لأمة مهزومة ترفض نخبتها القائد المصطفى من الله استكبارا وعلوا، لهذا هُزِموا واستُذِلُّوا)، نحتاج أن نبحث عن كل كفاءة وطاقة وموهبة ونوسع لها ما استطعنا سبيل الارتقاء، وما أكثر قادة أمتنا الذين نصروها وأعزها فكانت مسيرة حياتهم فصولا من تقديم المخلصين لهم والتعريف بهم. [اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2015/01/b...]
4. رجالٌ أكفاء على قدر المهمة، رجال صالحون في أنفسهم، فعَّالون في مجتمعهم، رجال يتشربون الفكرة والرسالة حتى تبلغ منهم مبلغ اللحم والدم والعظم، وهم مع ذلك أهل كفاءة وفعالية، ونحن إذا نظرنا في الذين دعاهم النبي أول أمره لوجدناهم شخصيات متميزة في نفسها، أبو بكر أمة وحده، وهو فوق معدنه الأصيل النفيس، رجل تاجر صاحب أموال قادر على التمويل والإسناد، نسابة يعرف خريطة قبائل قريش، مؤرخ يعرف أيام قريش، مركز علاقات عامة "يألف ويؤلف"، وبمجرد ما آمن التقط ستة من كل قريش، فكانوا من العشرة المبشرين بالجنة ومن أعمدة الإسلام الكبرى، انظر مدى الخبرة والدقة والفراسة في معادن الناس. وعلي بن أبي طالب صبي فتى مستقل بنفسه قوي الشخصية يؤمن بدين يخالف دين قومه، وسيرته تدل على مبلغ قوته وشجاعته مع ذكائه ومقدرته. وخديجة، هي فوق معدنها النفيس امرأة مستقلة صاحبة قرارها، تدير تجارة وأموالا، تتاجر تجارة عالمية، ولا يخرجها هذا عن معنى الشرف والعفة والنزاهة، ولا يخرجها فيما بعد عن حسن التبعل للزوج واللين له، وإنها لموهبة وحزم وقوة. ثم فتش في كتب السيرة عن عثمان وأبي عبيدة وطلحة وزيد وسعد، كل واحدٍ منهم كان مع كونه شابا مستقل الرأي والنظر، معروف القدر والأثر.
والحركة الإسلامية الآن لا تدعو للإسلام من جديد، بل واجبها أن تنتقي الكفاءات المؤثرة، ولا تستكثر من الضعفاء والهزالي والكسالى الذين ما دخلوا حركة إلا أثقلوها وجعلوها منتفخة بلا أثر، بل إن حقيقة نكبتنا المعاصرة أن غالب جسد الحركة الإسلامية ليس أهلا للمهمات، بل وصل أولئك إلى مواقع القيادة فساقوا أتباعهم إلى المذبحة وقدموهم غنيمة باردة. يجب أن تكون الدعوة والانتقاء لمن يضيف إليها ولا يكون عالة عليها، دعوة للمؤثر الكفء الفعال مهما كان سبيل دعوته صعبا ومجهدا، وهي دعوة تستهدف نخبة الناس، ومراكز القوى والتأثير في المجتمع، والناظر في الخريطة القبلية للمسلمين الأوائل يشعر أنه انتقاء مقصود من أفضل نخبة الشباب في القبائل العليا لمجتمع قريش.
الحركة تنتقي، ولكنها لا ترفض من أقبل إليها مهما ضعفت إمكانياته ولا تصرفه (وهذا هو موضع عتاب الله لنبيه في ابن أم مكتوم، عاتبه الله في الانصراف عن الذي أقبل، لا في أنه دعا سادة القوم). إننا نؤمن بقول نبينا "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" وسنستعين بهؤلاء في الدعاء فكم فيهم من مستجاب الدعوة، ونتقرب إلى الله بخدمتهم ورعايتهم والنظر في أحوالهم، لكن حديثنا الآن عن مسارات العمل وما تحتاجه من كفاءات.[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2017/11/b...]
5. تربية إيمانية مكثفة لهذه النخبة المختارة من الرجال، تربية تستهدف الارتقاء بأرواحهم وعقولهم بما ينزع عنهم شوائب الجاهلية ويجعلهم خالصين لهذا الدين. فَرَضَ الله على المسلمين قيام الليل كله أو نصفه أو ثلثه سنة كاملة (أربع ساعات قيام ليل بحد أدنى، يوميا، لمدة سنة، ثم نزل التخفيف). لا بد للحركة من برنامج إيماني قاسٍ لكوادرها الأساسية. إن أولئك الذين خاضوا هذه التجربة الإيمانية صاروا أعمدة الإسلام، أسقطوا ملك فارس والروم، وجاءت كنوز المملكتين بين أيديهم فلم يغتروا ولم ينهزموا ولم يتحولوا، كان رصيد الإيمان الذي امتزج بروحهم قد رفعها عن هذا، وكم رأينا في التاريخ وفي حياتنا من تخطفته أنواع الترهيب وشدة التكاليف، ثم رأينا من صمد في الشدة ولكن زل في الرخاء فزاغ وضل وبدَّل الدين حرصا على سلطة ومال بعدما صمد للسلخ والتعذيب. نسأل الله لأنفسنا ولجميع المسلمين الثبات على طريقه.
6. حماية سياسية، مثل التي وفَّرتها بنو هاشم وزعيمها أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم، وكان النبي يُبعث في "ثروة" (مَنَعة) من قومه، وذلك حتى تقوى الدعوة ويشتد عودها وتستقل بحماية نفسها، وسيرة الدعوات أنها تستفيد من واقع المجتمع الذي تريد تغييره، وتوظفها لمصلحتها، فيجب أن تقصد الدعوة مواضع الحماية وعصبيات القبائل ومراكز القوى لتحتمي بقوتها ومكانتها، ولهذا يجب عليها أن تعرف خريطة مجتمعها جيدا قبل أن تبدأ الحركة. وفي الوقت الحاضر ربما يجب الاجتهاد في مسألة مراكز القوى العالمية، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منها، وكيف يمكن ذلك؟.. هذا عملٌ نضعه بين أيدي السادة العلماء.[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2013/12/b...]
7. عاصمة مؤثرة، إن العمل في الأطراف والهوامش أسهل كثيرا، ونتائجه أسرع كثيرا، ولكنها أيضا: أضعف كثيرا، بينما العمل في العواصم أصعب كثيرا، ونتائجه أبطأ كثيرا، ولكن النجاح فيها يغير التاريخ. لقد بُعِث النبي في مكة وهي عاصمة العرب، وظل فيها عشرة أعوام يحاول أن يهتدي سادتها لكي يتبعهم العرب، فلما أبوا ولم يعد من أمل، ذهب إلى العاصمة الثانية: الطائف، ولما وجد صدودا لا إمكان معه لمحاولة أخرى، بدأ بعرض نفسه على القبائل حتى وجد الأنصار، ثم كانت المرحلة المدنية صراعا مع العاصمة المكية نفسها، حتى فُتِحت، ولما فُتِحت أقبلت جزيرة العرب مسلمة! تنجح الثورة طالما سيطرت على العاصمة، ينجح الاحتلال إن سيطر على العاصمة، يبقى النظام طالما سيطر على العاصمة، يفشل الاحتلال طالما لم يدخل العاصمة، العاصمة قادرة على استعادة الأطراف مهما ضعفت زمنا ولو طال، وبعض الثورات والتمردات استمرت خمسين سنة ثم ذبلت لما لم تنجح في السيطرة على العاصمة.[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2016/08/b...][اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2018/02/b...]
8. خطة واضحة، خطة البحث عن أرض تكون أرضا للدعوة، خطة تحول الدعوة إلى دولة، لقد كانت الفترة المكية فترة البحث عن دولة، استمرت المحاولة في مكة ما بقيت حماية بني هاشم وأبي طالب، فلما كُسِرت هذه الحماية بموت أبي طالب، و/أو لما بدا أن أهل مكة لن يؤمنوا، ذهب النبي إلى الطائف، ثم عرض نفسه على القبائل، وقبل من هذه القبائل حمايتها ولو داخل البلدة فحسب كما كانت بيعته للأنصار "وأن تحموني مما تحمون منه أنفسكم وأبناءكم"، ولو لم يؤمن الأنصار لطاف النبي على قبائل أخرى وأخرى حتى يجد له أرضا تنصره ليبلغ منها رسالة ربه، ولتكون أرض الدعوة وليكون أهلها أنصاره وحزبه. إن الوصول إلى الاستقلال بأرض لإقامة الدولة من بعد الدعوة كانت خطوة في طريق كل حركة ناجحة، سواءٌ أكان ذلك بتنفيذ ثورة، أو انقلاب، أو الاستقلال بناحية، ويظل الصراع دائما حول السيطرة على العاصمة التي تعني نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد.
وهذه الخطة يجب أن يستخلص لها أهل كل مكان ما يناسب وضعهم، إذ هي حصيلة النظر في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والأمن والسياسة، وبدون وجود رؤية كهذه يستحيل أن تحقق الحركة نجاحا، لأنها تصير كالتائه الذي لا يدري ماذا يفعل، يتحرك بالانطباع الانفعالي اللحظي، تحت ضغط الظرف والضرورة، يوظفه الأقوياء من حوله في صراعاتهم، ويدفع هو ثمنها كاملة دون أن يربح شيئا.[اقرأ: http://melhamy.blogspot.com/2015/05/b...][اقرأ: http://melhamy.blogspot.com/2018/02/b...]
9. كفاح مرير مستمر، وتلك سنة الدعوات والحركات والدول والإمبراطوريات، نشاط لا يهدأ وجهاد لا ينقطع، وتحديات يتلو بعضها بعضا، ولا تستقر الدنيا لأحد، ولا تستقر على حال، ولقد كان هذا الأمر معلنا منذ اللحظة الأولى للدعوة (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، وقالها النبي لزوجه "مضى عهد النوم يا خديجة"، فمن كفاح لزرع الدعوة وغرسها في مكة، إلى كفاح لإيجاد الأرض والأنصار لها، إلى كفاح لإنشاء الدولة في المدينة، إلى كفاح لحمايتها وتثبيتها، إلى كفاح للفتح ونشر الدعوة، وراحة المؤمن –كما يقول الإمام أحمد- عند أول قدم يضعها في الجنة، لن تصل الحركة إلى مرحلة تتنسم فيها عبير الراحة، صراع يتصل فيه العدو من الشرطي الذي يراقب المسجد في القرية إلى رأس النظام العالمي الذي يراقب "التهديد الإسلامي" القادم، ومن نوازل زماننا أن هذا الخط بين شرطي القرية ورأس النظام العالمي قد صار متصلا ومتينا وسريعا، حتى كأنه عدو واحد في جسد واحد، إذا تهدد شرطي القرية تداعى له جسد النظام العالمي بالحمى والسهر. وتلك نازلة تحتاج اجتهادا في النظر ثم اجتهادا في العمل، تحتاج فوق مجرد الذكاء والحكمة واقتناص الفرصة، قوة أعصاب فولاذية في الصبر والتحمل وترتيب الأولويات وتحييد الأعداء وتسكين هذا وترغيب ذاك وتهدئة ذلك وتطمين أولئك. صراعٌ ما أصعبه على الضعيف المقهور.
لهذا فالواقعية شعار المراحل كلها، والواقعية ضد التهور وضد التنازل، وهي في الواقع تكاد تكون شعرة لا يدركها غير الحكيم الحصيف الذي جمع إلى الذكاء القوة، ولم يختر نبينا أن يتصارع مع جهتين في وقت واحد أبدا، فإذا اجتمعوا سعى في تفريقهم، ولو ببذل بعض المال وبعض التنازل.[اقرأ: https://www.fb.com/mohammad.elhamy/po...]
وفي النهاية فإن مهمتنا –على صعوبتها الشديدة- أسهل كثيرا فنحن لا نبعث أمة، ولا نبنيها من جديد، بل ننفض عنها الغبار ونزيل طبقة الصدأ، إنما نُذَكِّر بمعاني الدين التي هي عميقة في النفوس وفي الأرواح، فوق أننا إذا أحسنا الفقه في الدين علمنا أنه الرحمة للعالمين، وبقي أن نحسن عرضه والدعوة إليه، فكم من مظلوم مقهور لا يعرفه، فإذا عرفه آمن به وأخلص له.الحركة الإسلامية ليست بديلا عن المجتمع، هي له كالمغناطيس لبرادة الحديد، تجمع طاقاته وتنظمها، ليست جزءا متعاليا على الناس، فكم في الناس من هو أحسن وأفضل من أفراد الحركة الإسلامية، إلا أنهم لظرف ما كانوا خارجها، الحركة الإسلامية ليست بديلا عن المؤسسات الدينية ولا وظيفتها أن تقدم العلم الشرعي، بل وظيفتها أن تجد الطريقة لتحريك هذه المؤسسات الدينية والاستفادة منها وبعثها واستثمار طاقتها. الحركة الإسلامية بنت الأمة والأمة حاضنتها، نمط التعالي والعزلة بل والتكفير نمطٌ مدمر للحركة الإسلامية نفسها. وقد كانت الأمة أسبق من الحركات إلى الثورات، وبذل الأمة في الثورات أوسع وأعظم من بذل الحركات. الحركة الإسلامية روح تسري في الأمة لتعيد تنشيط ما خمل منها.[اقرأ: https://www.fb.com/mohammad.elhamy/po...]
نشر في مجلة كلمة حق، أغسطس 2019
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 05, 2019 08:25