محمد إلهامي's Blog, page 15
February 7, 2020
أنفقوا في سبيل الله
بدأت سيرة هذه الأمة برجال لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم أن ينفقوها في سبيل الله، وسَجَّلت صفحات التاريخ الأولى لقصة الأمة المسلمة موقف أبي بكر رضي الله عنه وهو ينفق الأموال ليشتري بها العبيد والإماء الذين أسلموا ليُنْقِذَهم من العذاب، ثم يعتقهم فيحررهم، فإذا العبد المعذب بالأمس يصير مسلما حرا اليوم، وأشهر هؤلاء قاطبة: بلال بن رباح مؤذن النبي وصاحبه الذي ضُرِب به المثل في صبره واستهانته بنفسه في سبيل الله! حتى قال عمر، وهو العربي القرشي، "أبو بكر سيدُنا، وأعتق سيدَنا".
ثم مضت سيرة الدعوة حتى هاجر المسلمون إلى المدينة فابتدأت سيرة الدولة، ولقد بدأت سيرة الدولة الإسلامية برجال لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم أن ينفقوها في سبيل الله، ولقد ضرب الأنصار مثلا رفيعا سامقا لولا أنه جاءنا بأصح الأسانيد ينقله الثقة عن الثقة لظننا أنه من أساطير الأولين وخرافات القصاصين، لقد استقبل القوم في بلادهم طوفانا من المهاجرين بل تسابقوا على استضافتهم، حتى صارت تضرب القرعة بين الناس على من يستضيف!! "فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بسهم"، ثم بلغ الحال أن الأنصاري يعرض نصف ماله على أخيه المهاجر، بل يعرض أن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها أخوه المهاجر.. هذا خبر لا يُصَدَّق، ولو أن أحدنا طالب أحدًا أن يفعل ذلك لوقع في نفسه أنه مجنون! ولهذا يجب أن نعرف عظمة أسلافنا الأنصار الذين أقبلوا على هذا الذي نعده جنونا وهم فرحون مستبشرون. ولقد وصفهم الله بوصف انفردوا بهم فقال تعالى (والذين تبوؤا الدار والإيمان) أي أن الأنصار دخلوا في الإيمان وسكنوا فيه وكان لهم وطنا.
ومن نظر في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وجد عجبا، فإن الله تعالى قد خاطب النفس من جميع مداخلها كي تتخلص من البخل فتنفق في سبيله.
فقد تكرر في القرآن الكريم أن الإنفاق في سبيل الله من صفات المؤمنين، حتى إن المرء ليخشى على من لا ينفق أن لا تكون له صفة الإيمان، ففي أول آيات القرآن الكريم وصف للمؤمنين بأنهم (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، وجاء في سورة الحجرات (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، ويُفهم هذا من قوله تعالى في سورة الحديد (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا) فالمفهوم من الآية أن كل مسلم هو مُنْفِقٌ بالضرورة، إلا أن الذين أسلموا قبل الفتح أعظم درجة من الذين أسلموا بعده، والفتح المقصود هنا هو: صلح الحديبية.
كذلك تكرر في القرآن الكريم أن الله وصف إنفاق المال بأنه جهاد في سبيل الله، قال تعالى (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم)، وقال تعالى (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، بل وقدَّم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وهو ذروة سنام الإسلام كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبر الله أن البخل من صفات الكفار والمنافقين وأنه سمة من يتخلف عن رسول الله (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، وقال تعالى: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله).
وكرر الله تبارك وتعالى في كتابه أن المال الذي ينفقه صاحبه لا يضيع، بل إن الله يحفظه له وهو العليم الخبير البصير، ثم إنه ينميه ويضاعفه له حتى يبلغ أن يكون سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). ومن بديع ما رقق الله به القلوب ووجهها إلى الإنفاق أنه تعالى سمَّاه قرضا لله، وهذا معنى عظيم تخشع له النفوس، إذ لا يتصور الإنسان نفسه وهو الضئيل الضعيف القليل أنه يُقرض الله شيئا، كأن الله في حاجة إليه أو إلى ماله، ثم إنه قرض موعود بالمضاعفة حين الردَّ! وهذا معنى أعظم وأعظم، إذ الإنسان لو احتاج إليه عظيم من عظماء بلده ذا فضل عميم قديم لأقرضه ولم يتردد وهو يستشعر الشرف، فكيف إذا كان موعودا بالمضاعفة؟! قال تعالى (إن تقرضوا الله قرضا حسنا، يضاعفه لكم، ويغفر لكم، والله شكور حليم).
وفي المقابل فإن الذين يبخلون بأموالهم إنما يصنعون العذاب لأنفسهم كما قال تعالى (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيُطَوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السموات والأرض)، وقال تعالى (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، واعتدنا للكافرين عذابا مهينا)، وأسوأ هذه الأصناف رجل سأل الله أن يغنيه وعاهد الله أنه ينفق المال في سبيله إذا أغناه، فإذا به ينقلب فيصير حاله كما قال تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون).
وقد أقسم رسول الله على أن المال لا ينقص بالإنفاق، وهذا القسم من النبي دليلٌ على ما في النفس من البخل وحب المال حتى ليحتاج النبي في توجيهها إلى القسم كي تطمئن النفوس فتبذل المال، قال صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة.."!
ومن راجع خواتيم آيات الإنفاق في سورة البقرة سيجد أن الله تعالى وصف نفسه بكل ما يحبب الإنسان في الإنفاق، ويطمئنه أن ما أنفقه لن يضيع، (والله واسع عليم)، (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (والله غني حليم)، (والله بما تعملون خبير)، (وما تنفقوا من خير يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون)، (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
إن أمتنا اليوم في حاجة إلى الإنفاق في سبيل الله، لقد أنتجت هذه الجراحات والنكبات عشرات الملايين من اليتامى والأرامل والمشردين والجرحى واللاجئين، فضلا عن الفقراء والمساكين والمحتاجين، فضلا عن المصالح التي لا تقوم الأمة إلا بها من نشر العلم والإنفاق على طلبته وتربية الأطفال على حفظ القرآن وتعاليم الإسلام، وإن إنفاق الدينار في هذا اليوم خير من إنفاق آلاف الدنانير في معالجة آثاره فيما بعد، فالطفل الذي يحفظه الدينار والديناران في الكُتَّاب لا يكفيه الآلاف حين ينحرف فيصير إلى الإلحاد أو الإجرام والفساد حين يكبر!
إذا نشأ الفتى في مجتمع يتراحم الناس فيه فيعطف غنيهم على فقيرهم، فإن الخير يعود على الغني نفسه، ذلك أنه إذا نشأ في مجتمع يأكل الغني فيه حق الفقير ويتضخم بامتصاص مجهوده فإنه يوشك أن يتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر أول ما تنفجر في هذا الغني نفسه.
ولقد كانت أمتنا قبل عصر الرأسمالية المتوحشة هذا تتراحم فيما بينها، حتى ليكاد الغنى أن يقترن بالمروءة والكرم، ولا يكاد يُعرف الغني البخيل الذي لا يفتح أبواب بيته لإطعام الفقراء وإكرام الضيوف وكفالة المحتاجين، ما كان مثل هذا يُعرف في مجتمعاتنا قبل هذه الحداثة المادية الغبية التي نزعت التراحم من الناس، وأورثتهم بدلا منها أحقادا متبادلة تورث حذرا وبطشا وضغائن لا تموت.
أمتنا اليوم بحاجة إلى المنفقين.. لأننا أمة مهزومة مستضعفة تعاني جراحها، ومن يدري.. من يدري.. من يدري أن يكون غني اليوم فقير الغد اللاجئ المحتاج المطرود! وما هذا ببعيد.. فنحن نرى في يومنا هذا من كان غنيا بالأمس فصار اليوم إلى حالٍ يرثى لها!
فأنفقوا في سبيل الله.. كي يقيض الله لكم من ينفق عليكم إذا احتجتم إلى ذلك يوما ما! هذا إذا لم تنفقوا ابتغاء وجه الله وثواب الآخرة!
ثم أنفقوا.. فإن الصدقة تقي مصارع السوء.
نشر في مجلة المجتمع، فبراير 2020
Published on February 07, 2020 10:48
February 4, 2020
تنصيب الأنظمة العربية هو صفقة القرن الحقيقية
في نفس اليوم (28 يناير 2020م) سقطت معرة النعمان بيد قوات نظام الأسد، وأعلن ترمب صفقة القرن واقفا إلى جوار نتنياهو، ونشر خريطة لقطع من الأرض المتمزقة والمتناثرة ومعها خمسين مليار دولار كحلٍّ للقضية الفلسطينية.يمكن قول الكثير في كلا الأمريْن، وهو ما ستفيض فيه الأقلام لا ريب، لكن الذي يجب أن يلفت النظر في كلا الأمريْن هو الحرص الأجنبي على بقاء السلطة المحلية "الوطنية" في مشهد الصراع، فإذا كانت روسيا قادرة على هزيمة الثورة السورية بتفوقها العسكري الكاسح، وإذا كانت إسرائيل قادرة على احتلال الأراضي الفلسطينية، فلماذا يحرصان على بقاء سلطة الأسد ونظام محمود عباس؟!
إن فهم هذا الحرص قد يكون مفتاح الحل الرئيسي لقضايانا المتعددة، لقد وفَّرت هذه الأنظمة كل ما من شأنه أن يجعل احتلال بلادنا عملية سهلة سائغة قليلة التكاليف للأجنبي المحتل، ومن ثَمَّ فإن بقاءها صار ضرورةً لا يمكن الاستغناء عنها. فلا يمكن لإسرائيل أن تعيش بدون سلطة فلسطينية، ولا يمكن لروسيا أن تخوض حربها ضد الثورة السورية بدون نظام الأسد، ولا يمكن للأمريكان أن يسيطروا على أفغانستان بدون سلطة محلية.. وهكذا!
إسرائيل، أصلا، لم تنشأ إلا بمجهود الأنظمة العربية المحيطة في حمايتها ورعايتها، مهما جعجعوا أياما طويلة ضدها، ولم تكن إسرائيل يوما ما أشد رعبا من يومٍ بدا فيه أن أنظمة هذه الدول المحيطة بها تعاني من تهديد الثورات العربية. وكتب التاريخ مثل صفحات الواقع حافلة بالتفاصيل!
لقد تحولت بلادنا تحت هذه الأنظمة الحاكمة إلى سجون حقيقية، وهذه الأنظمة هي السجَّان، ولكننا نحن –المسجونين- ننفق الكثير جدا جدا جدا من الوقت والطاقة في الجدال حول ما إن كنا في سجن أم لا؟ وما كنا لننفق هذا كله لو تغير أمر واحدٌ فقط: لو كان المحتل أجنبيا صراحة!
لو كان المحتل أجنبيا كنا سنبصر في التو واللحظة أننا في سجن يديره الاحتلال وأنه يجب علينا أن نتحرر منه، أما حيث أن السجان يشبهنا، فقد صار كثرةٌ منا يدافعون عن السجن ويظنونه الوطن، وعن العبودية ويظنونها الوطنية، وعن القيود ويظنونها نظاما، وعن التعذيب ويظنونه عقوبة عادلة للمتمردين، وعن أباطرة التعذيب ويظنونهم حماة الوطن، ويهاجمون من يحاول التحرر ويظنونه إرهابيا، بل يهاجمون فكرة التحرر أصلا ويظنونها الفوضى!
السيطرة على وعي الإنسان يساوي السيطرة عليه والتحكم فيه! وهذا الوعي الزائف أقتلُ ما أصاب أمتنا وعرقل مجهوداتها نحو التحرر! وذلك أنه نقل قسما كبيرا من أبناء الأمة نفسها ليكونوا جنودا في جيش العدو الأجنبي، يوفرون عليه الدماء والأموال والمجهود!
وإذا نظرنا في تاريخنا قبل أكثر من مائة عام وحسبنا عدد الذين قتلهم العدو وقارنَّاهم بمن قتلتهم الجيوش "الوطنية" وأجهزة الأمن لخرجنا بالنتيجة الفظيعة المرعبة التي تؤكد ما نقول! بل لو أتيح لنا أن نحسب عمليات المقاومة التي أجهضها العدو بنفسه، والعمليات التي أجهضها بفضل أجهزة الأمن "الوطنية" لخرجت لنا النتيجة الأكثر فظاعة وإرعابا!
إن السلطة الفلسطينية هي آخر من ينبغي أن يفكر في تركيب كاميرات مراقبة في شوارع الضفة الغربية، فإنها تعاني من فراغ كل مظاهر السلطة والسيادة، وينتشر فيها الفساد المالي والأخلاقي، ويُفترض أنها في مهمة تحرر وطني إذا صدَّقنا ما تعلنه، ولكنها مع ذلك تمتلك جهازا أمنيا مدربا تدريبا ممتازا، وتحرص على نشر الكاميرات في كل مناطق الضفة، لماذا؟ لأن مهمتها الحقيقية هي حماية إسرائيل، وإدارة شأن الفلسطينين اليومي بما يرفع هذا العبء عن الإسرائيليين!
كذلك، تلقي روسيا حممها من طيرانها البعيد المرتفع، ولكنها لا تحصد شيئا على الأرض إلا من خلال قوات نظام الأسد الذين يهلكون في المعارك، ولا ثمن لهم عند أحد، فإذا وضعتَ نفسك مكان الروسي: فمن أين سيكون لك مئات آلاف الجنود على الأرض إن لم يكن نظام الأسد موجودا؟!
إن تاريخ هذه الأنظمة العربية في دعم إنشاء إسرائيل ورعايتها وتمكينها من الهيمنة تاريخٌ أسودٌ ضخم، ولن يُعرف حق المعرفة إلا حين تزول هذه الأنظمة.. وفي هذا الشهر الماضي وحده بدأ تصدير الغاز الإسرائيلي لمصر!
تصدير الغاز الإسرائيلي لمصر هو مجرد حدث واحد في ملايين الأحداث التي مَكَّنَت بها الأنظمة لإسرائيل، وقد كنتُ سألت بعض الأصدقاء المهتمين بهذا الملف فأخبروني بعدد من المفاجآت ملخصها كالآتي:
حقول الغاز الموجودة في البحر المتوسط تقع ضمن الحدود المصرية، لكن النظام المصري تنازل عنها لإسرائيل، غير أن المشكلة أن إسرائيل لا تمتلك بعض التقنيات الضرورية لبيع الغاز، فجرى الاتفاق على أن تبيع إسرائيل هذا الغاز لمصر، لكن مصر في هذا الوقت لا تحتاج لاستيراد الغاز لأنها تستخرج من حقولها ما يغطي هذه الحاجة، فقررت مصر خفض إنتاجها من الغاز لكي تفسح الطريق للغاز المستورد!
وهكذا ترى كيف أن الأمة خسرت ثلاث مرات: خسرت الأموال الضخمة بالتنازل عن الغاز، ثم خسرت أكثر منها حين تشتريه مرة أخرى بأكثر من ثمنه، ثم خسرت بتعطيل إنتاجها من الغاز. وكسبت إسرائيل ثلاث مرات.. وهكذا تبرعنا بدمائنا لتمكين عدونا، فعلها طبيبٌ يبدو أنه منَّا، وفعلها وهو يقول أنها في مصلحتنا!!
ترى ما شعورك حين ترى طبيبا فقأ عين أبيك ليتبرع بها إنقاذا لعين قاتله، وأنت لا تدري، فتشكره وتمتنُّ له، وتحسب أنه فعله لصالحك!
وهذه قناة السويس الجديدة.. المشروع الأبرز الأضخم لحماية إسرائيل!
قد ذكرتُ في مقالات وبحث سابق أنه ما كان ممكنا أن تنشأ إسرائيل وتتمتع بالبقاء الآمن لولا الحماية التي وفرتها قناة السويس كمانع طبيعي يفصل بين سيناء وبين بقية أرض مصر، ويجعل التواصل بين أهل الوادي وأهل سيناء تحت المراقبة والتحكم، وقد اعترف قادة حرب أكتوبر –بمن فيهم السادات- أن قناة السويس هي أصعب مانع مائي حربي. ومع ذلك كانت سياسة النظام المصري منذ السادات وحتى السيسي زيادة التفريعات في قناة السويس، باستثناء مرسي رحمه الله الذي أراد أن يقيم حولها كثافة سكانية وتجارية تعيد اتصال سيناء بالوادي. فكانت هذه التفريعات تحفر بالأموال المصرية لتزيد من صعوبة واتساع المانع المائي لقناة السويس، فلما جاء السيسي وصل بين هذه التفريعات بتفريعة هي الأكبر والأضخم، وبها صارت قناة السويس قناتيْن، وتحول المانع المائي إلى مانعيْن، يستحيل أن تتكرر فيهما قصة العبور التي كانت في حرب أكتوبر.
لكن الشاهد المقصود هنا أن هذا كله تم بأموال المصريين، وبحملة جعلتهم يقدمون أموالهم عن رضا وطواعية وانتظارا لمكسب عظيم يعود عليهم منها، واستهلك المشروع احتياط النقد الأجنبي، وأفضى إلى أزمة خانقة في الدولار وترتبت عليه آثار اقتصادية ضخمة.. وبهذا بنى المصريون بأموالهم ودفعوا من مجهودهم وعرقهم تكلفة بناء حماية جديدة لإسرائيل. ما كانت إسرائيل لتحلم بشيء من هذا، فانظر كيف صار الحلم حقيقة عبر النظام الخائن العميل.
إن مواجهة صفقة القرن لن تكون في بيت المقدس، بل هي على الحقيقة في القاهرة ودمشق وبغداد والحجاز، وعبر التاريخ كان فتح بيت المقدس بعد فتح جزيرة العرب والعراق والشام، ولم يصل صلاح الدين إلى بيت المقدس إلا بعد أن تحررت دمشق والقاهرة والحجاز، ثم لم يحتل الإنجليز بيت المقدس إلا بعد أن كانت القاهرة ودمشق وبلاد العرب تحت الاحتلال، ولم تُغرس إسرائيل إلا بعد تنصيب هذه الأنظمة!.. هذه سيرة التاريخ وهي أصدق من كل التحليلات السياسية الخائبة التي تتصور أنه يمكن عقد الأمل على نظام من هذه الأنظمة!
يقولون كيف؟!
نعم إن المهمة ثقيلة، ولكننا لسنا أول أمة تقع تحت الاحتلال والاستبداد، ولسنا أول أمة تعاني من حكم الخونة، ومن ثَمَّ فلسنا أول أمة تفكر في المقاومة وهي في موقع الاستضعاف!
فأول بند في إجابة سؤال كيف: أن نؤمن أن الهزيمة ليست قدرا، وأن النصر ليس مستحيلا، وأن المقاومة واجبة علينا مهما اختلت موازين القوى!
وثاني بند: أن نعلم ما نملكه من الموارد، فنحن بحمد الله نمتلك أصلب عقيدة لا تزال تحير عدونا لشدة ثباتها وأصالتها وعمقها في النفوس وتجددها عبر الأجيال، ثم إننا نملك طاقة من البسالة الهادرة التي أفصحت ثورات الربيع العربي وساحات الكفاح عن جانب منها، ولا تزال تفصح وتكشف!
ثالث بند: أن نعلم مواضع ضعفنا ومن أين نؤتى.. وإن لدينا ضعفا خطيرا في مسألة القيادة ذات الكفاءة التي تستطيع أن تجمع بين فهم الدين وفهم الواقع، بين السياسة والقتال، بين الحلم والحزم. ولدينا ضعفا خطيرا في الجانب الأمني والمعلومات وهو ما يجعلنا على ضعفنا كالملاكم الذي لا يعرف أين يضرب ومتى؟ وهذا الضعف يجعل صفوف الفاعلين غير مؤمنة ضد الاختراقات الأمنية حتى وصل إلى قيادة حركات إسلامية فعالة من هم عملاء لأجهزة الأمن والمخابرات، فكانت ضرباتهم من الداخل أقسى وأقتل من كل ضربات العدو في الخارج. ثم إن لدينا ضعفا خطيرا في جانب المبتكرين والمبدعين، أولئك الذين يستطيعون بفكرة وبشيء من الإمكانيات أن يضيقوا فارق الفجوة العلمية الرهيبة التي تقتلنا قتلا وتحصدنا حصدا؛ فما أشد حاجة أمتنا إلى فكرة تعطل تفوق الطيران فقط، لو امتلكنا هذا لاختلفت نتائج المعارك اختلافا حاسما.
ومع هذا فإنه لا مجال للوصول إلى الحل ومعالجة نقاط الضعف إلا بمواصلة العمل والكفاح، ففي ساحاته ينبت القادة وتظهر الكفاءات، ولأجل ضروراته تنشأ المحاذير الأمنية وتلح الحاجة إلى المعلومات، وتحت وطأته تخرج الأفكار والإبداعات! والحمد لله الذي تعبدنا ببذل المجهود ولم يحاسبنا على بلوغ الغايات.
قد خرج سلمان الفارسي من بيته في فارس وراء معلومة سمعها يوما، فظل ينتقل من فارس إلى العراق إلى الأناضول إلى الحجاز حتى بلغ غايته فلقي النبي، ثم لقي معه الكرامة الكبرى "سلمان منا آل البيت"، ثم رافق النبي حتى كان على يديه نجاة دولة الإسلام بفكرة "الخندق" في أخطر لحظة تهديد للدولة الإسلامية، ثم واصل الجهاد حتى دخل أرض فارس فاتحا وهي التي خرج منها خائفا يترقب. نعم النموذج في الهمة، ونعم النموذج في الصبر والدأب والسعي وراء الحق حتى يدركه.. وما أحوجنا إلى ذلك..
لا يعرف المسلم اليأس.. ولا مشيئة فوق مشيئة الله.. وكم من اتفاقيات أبرمها الساسة الطغاة سحقتها أقدام المستضعفين النحيفة الدامية! ومن كان يدري أن أبا جهل هشام بن عمرو بن المغيرة المخزومي سيد بني مخزوم في قريش تكون نهايته تحت قدم ابن أم عبد، راعي الغنم نحيف الساقين، من كان لا يجرؤ قبل الإسلام أن يرفع عينه في مثل أبي جهل؟!
ثم من كان يدري أن يتعثر الأمريكان، أضخم قوة في الأرض، في أفغانستان التي تبدو متهالكة ضعيفة فقيرة تنهبها المجاعة؟ أو في العراق المنهكة بعد ثلاثين سنة من الحروب ونحو خمسة عشر عاما من الحصار وبعد نصف قرن من الطغيان الذي أهلكها؟!
في التاريخ عبر كثيرة كثيرة كثيرة.. وما أحوج المهزوم المستضعف إلى أن يتعلم.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on February 04, 2020 10:29
January 17, 2020
مذكرات الشيخ رفاعي طه (22) بلغ التحرش في جامعة أسيوط حدًّا فظيعا، وكان العميد يؤيد ذلك
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
بلغ التحرش في جامعة أسيوط حدًّا فظيعا، وكان العميد يؤيد ذلك
· استطعنا ولأول مرة أن نلزم الجامعة بالفصل بين الطلاب والطالبات· لم يكن انفصالنا نحن والإخوان انفصالا فكريا أو علميا، إنما هي خلافات إدارية· الفكرة الجامعة بين مؤسسي الجماعة الإسلامية معارضة النظام المصري الفاسد الخائن
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي – (15) بداية زعامة صلاح هاشم – (16) محاولة الإخوان الهيمنة على جامعة أسيوط – (17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية؟ - (18) الانشقاق بين الإخوان والجماعة الإسلامية في أسيوط – (19) أخفقت في التوفيق بين الإخوان والجماعة الإسلامية – (20) لم يتسامح السادات مع التيار الإسلامي – (21) نظرة من الداخل على التيار الإسلامي بجامعة أسيوط
إذا تبين لنا هذا الحال –الذي ذكرناه في الحلقات السابقة- في خريطة التيار الإسلامي داخل جامعة أسيوط، فسيكون علينا أن نتابع التمايز والتكون التدريجي لأفكار الجماعة الإسلامية التي استقلت بهذا الاسم عن الإخوان المسلمين في جامعة أسيوط، وصارت تعبيرا عن تيار بدأ الدعوة ولم تستطع الجماعة احتواءه حتى وقع الانشقاق الذي ذكرنا قصته.
لقد ذكرت أننا لم نكن أصحاب رؤية كلية جامعة، إنما هي أفكار التدين البسيطة الأولى التي تجمع الشباب المسلم الغيور على دينه، ومن هنا كان تكوُّن أفكارنا في الجماعة الإسلامية وليد المناقشات الجانبية بيننا، لم نعقد –مثلا- مؤتمرا أو مخيما أو ندوة جامعة لنسأل أنفسنا من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف سنصل إليه؟.. تلك الأسئلة الكبيرة العميقة التي يبدأ الآن بها بعض الشباب جلساتهم البسيطة، فيختلفون عليها فينفضون قبل أن يعملوا شيئا!!.. كان الأمر لدينا بسيطا، نحن قوم عاملون عمليون، تحركنا تلك الأفكار البسيطة الأولى، ثم تأتي الحركة بالتكون التدريجي للأفكار. وهكذا، وفي أروقة الحوارات الجانبية بيني وبين عاصم أو بين كرم وبين حمدي أو بين آخرين وُلِدت أفكار الجماعة الإسلامية.
ولأن الأفكار لا تولد في الفراغ، ولا في الذهن المحض، فلقد كان واقع الخلاف مع الإخوان في الجامعة صاحب نصيب كبير في هذا التكون الفكري، لقد بدأ التمايز من إخفاق الإخوان في احتوائنا ومن نجاحنا في الاستقلال عنهم، كان الشيخ صلاح هاشم ثم أسامة حافظ وأنا ثم ناجح إبراهيم رموز هذه الحركة الطلابية التي تمايزت عن الإخوان، وظل لها الشعبية الأكبر داخل الجامعة فيما كانت شعبية الإخوان على الأخص في كلية العلوم وجزء من كلية الطب.. وقد بدأ التمايز الفكري بيننا وبينهم من باب العمل، لقد كنا حريصين تماما على صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية.
مثلا: الإخوان لا يرون إعفاء اللحية واجبا، هم يرونها سنة مؤكدة ويحبذون إعفاءها، ويجيزون حلقها في ظل ظروف التضييق الأمني أو طلبا لمصلحة التأليف الدعوي أو حرصا على عدم حصول التمايز بينهم وبين عموم الناس فذلك عندهم أقرب لدعوتهم وتألفهم واجتذابهم. بينما نحن في الجماعة الإسلامية نرى إعفاء اللحية واجبا، وأنه لا يجوز حلقها بحال، وأنها عنوان التدين والالتزام، وهي أول ما يُطلب في مهمة صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية.
ليس يعني هذا أن الإخوان جميعا يحلقونها، على العكس، لقد كان الأخ أحمد كمال أمير كلية العلوم، وهو من الإخوان، ذا لحية طويلة جدا، وكان ملتزما بالهدي النبوي الظاهر، وكان رجلا ممتازا نحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا. بل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وكان حينها رمزا ضخما، كان ساعتها ذا لحية كثة جدا، وكان يرتدي البنطال القصير، ولقد كنت منبهرا به حين تعرفت عليه ورأيت منه هذا الالتزام بالهدي الظاهر.
إذن، لم تكن المشكلة بيننا وبين الإخوان هنا مشكلة علمية أو فكرية، بل كانت مشكلة حركية لو صحّ التعبير، كانت المشكلة في حرصنا على التمايز والظهور الإسلامي العام، وفي حرصهم هم على الذوبان في الناس وتجنب التمايز عنهم حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن سيادة المظهر الإسلامي العام.
ومثل اللحية في هذا مثل الثوب القصير، لقد كان أكثر طلاب الجامعة الإسلامية يذهبون إلى الجامعة وهم يرتدون الجلباب القصير، ولربما ذهب بعضنا بالبذلة الإفرنجية أو البنطلون، لكن عمومنا وأكثرنا يحرصون على هذا الجلباب القصير كجزء من هدف صبغ الجامعة بالصبغة الإسلامية. ولقد كان بعض الإخوان يفعل هذا أيضا لكن ليس كما كنا نفعل كثرةً وحرصا.
هذه الأمور وإن كانت تبدو بسيطة للغاية وظاهرية جدا إلا أن مردودها الحركي ومغزاها البعيد يؤدي إلى تدعيم آراء فكرية في مسائل أشد عمقا وخطورة، نحن في الجماعة الإسلامية لم نجلس يوما لنناقش مسألة: هل الإخوان يوالون النظام المصري؟ ولم يكن هذا السؤال موضع اتفاق يوما فيما بيننا، إنما تختلف فيه الآراء. لكن، ومع هذا، فإن الخلاف حول اللحية والجلباب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو هذه الأمور يلقي بأثره وظله على هذه المسألة: مسألة الموالاة. لقد كان يسود رأي عام في أوساطنا أن الإخوان يُزَيِّنون نظام السادات، وأنهم يبذلون جهدهم في تثبيط الشباب عن مقاومة هذا النظام.
لست أناقش الآن صحة هذا التصور أو خطئه، إنما أصف ما كان موجودا حينئذ، وإلا فإن الجماعة فيما بعد تحملت العبء الأكبر في مواجهة كامب ديفيد وما تلاها، ولقد كانت مجلة الدعوة –الناطقة بلسان الإخوان- تشن حملة عنيفة جدا على كامب ديفيد، وهو ما أثار غضب السادات حتى صادرها. يجب أن تقال هذه الحقائق الآن. لكن لماذا كنا غافلين وقتها عن هذا ونظن أنهم موالون للنظام؟ لعله كان للسنّ أثر في هذا!
إن الأمر الذي أحرص على تأكيده في تلك المرحلة أن "الجماعة الإسلامية" في تمايزها وانفصالها عن الإخوان المسلمين في ذلك الوقت لم تكن حركة ذات أصول فكرية أو اختيارات فقهية واضحة خالفت بها الإخوان، كان هذا التمايز والانفصال تمايزا حركيا عمليا نشأ من مشكلات إدارية أخفقوا فيها في استيعابنا، وحرصنا فيها على استقلالنا. لا لأنهم يقترفون ما نحن ضده، ولا العكس كذلك.
أتذكر الآن بالفخر والإنجاز أننا كنا أول جامعة في مصر يُصدر رئيسها قرارا يُلزم فيه بالفصل بين الطلاب والطالبات داخل قاعات التدريس، وتحديد أماكن الطلاب وأماكن الطالبات، هذا القرار كان نتيجة جهودنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي كان خلافا حركيا بيننا وبين الإخوان، إذ يرون الصبر عليه لتجنب ما قد يقع من الصدام مع الأمن أو إدارة الجامعة.
بدأت هذه القصة من كلية التجارة، والتي كان المدرج فيها يسع 750 طالبا، بينما كان العدد الحقيقي للدفعة ما بين ألفين إلى ألفين وخمسمائة طالب، فلك أن تتخيل كيف يتكدس المدرج بثلاثة أضعاف سعته الطبيعية من الطلاب، ولقد كانت نسبة الطالبات من بينهن تبلغ نصف هذا العدد تقريبا (بين 47% - 49%)، وأولئك جميعا في مرحلة الشباب، ويعلم الجميع ماذا يعني أن يتكدس الشباب والبنات في هذا السن في مكان واحد على هذا النحو، لقد كان التلاصق بين الشباب والبنات أمرًا لا مفرَّ منه لمن يكرهه، فكيف إذا كان هذا مرغوبا فيه مطلوبا بعوامل السن والرغبة.
والأشد من تكدسهم في المدرج هو ما يحصل هذا الجمع في لحظات الخروج والدخول إليه، فإذا كان التحرش الفج يحصل في المدرج فهو يحصل أضعافا عند التزاحم في الخروج والدخول، ولقد شاهدت بنفسي منه مشاهد سيئة منافية للأدب والأخلاق والعفة والدين، لقد وصل الحال إلى مقدمات الزنا على الحقيقة!!
عندئذ، جمعت الإخوة في الجماعة الإسلامية في كل التجارة، أخبرتهم أن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر، ولا بد أن يتوقف بأي طريقة، وما من سبيل أمامنا إلا أن نقاومه مهما كلَّف الأمر، واستقر رأينا أول الأمر على أن نذهب لعميد الكلية، لا من باب أننا من الجماعة الإسلامية بل ولا من باب الدين، وإنما من باب أننا من الصعيد، وهذا أمر لا نقبله في بيئتنا ولا في عائلاتنا ولا في مجتمعنا، وهو ينافي ما عليه الصعيد من الأخلاق والحياء في نسائه والغيرة والنخوة في رجاله.
كان عميد الكلية هو د. مصطفى بهجت، وذهبت إليه مع أخ نسيت اسمه، وصادف ذلك اليوم أن كان أخونا الشيخ صلاح هاشم يزورنا في الكلية وكان ساعتها مجندا فكان حليق اللحية، فذهب ثلاثتنا إلى العميد، وكنتُ المتحدث منهم، فقلت له: يا سعادة العميد، نحن صعايدة كما تعرف، ولقد أرسلنا أهلونا إلى هنا كي نتعلم، ولكن الذي يحدث في الكلية هنا ينافي الأخلاق بل وينافي التعليم نفسه، فأنا شخصيا حين أرى مشاهد التحرش والاختلاط والتصاق الطلاب بالطالبات وما يقع بينهم يذهب تركيزي على الجملة فلا أحسن أن أتعلم، فلهذا نرجوك أن تتصرف فتجعل مقاعد خاصة للطلاب ومقاعد أخرى خاصة بالطالبات، وهذا نفسه سيوفر بعض الأماكن فإن الطلاب إذا تزاحم منهم 600 أو 700 طالب في مكان يتسع لثلاثمائة فقط لم يكن هناك شيء من الحرج والحساسية فيما بينهم، وكذلك الطالبات إذا تزاحمن معا لم يكن بينهن من الحساسية والحرج شيء، وهذا سيوفر مزيدا من الأماكن.
حاول العميد أخذ الأمر على سبيل المزاح والسخرية، وخلط كلامه ببعض التلميحات الماجنة، وجاءت ردوده على نحو: أنت يا بني ستخرج غدا إلى العمل في شركة أو في مصنع، ستختلط بزميلاتك هناك، فعوِّد نفسك منذ الآن على هذا الاختلاط، ثم ما أدراك أن الاختلاط شر؟ وماذا فيها لو حصل بينك وبين زميلتك تلامس ما، هكذا أو هكذا، وحتى لو أن الأمر تطور بينكما شيئا ما هكذا أو هكذا... إلى آخر هذا الكلام الذي ظاهره مزاح وباطنه خلاعة، ثم كانت خلاصة الكلام: هذا هو نظام الكلية، ونظام الكلية مستقر، ولا أريد فوضى أو بلبلة. وأخرجنا من عنده على هذا.
فكرنا مرة أخرى ثم ذهبنا إلى أستاذ لنا، كان اسمه د. محروس، كان متدينا وذا نزعة صوفية، وكان في الوقت نفسه مؤسسا أو مديرا لجميعة تهتم بالفتيات في أسيوط، يأتي لهن بمحاضرات دينية ونحو هذا. فذهبنا إليه شاكين وراجين: يا دكتور محروس، ذهبنا للدكتور مصطفى بهجت من أجل كذا فحصل كذا وكذا، فلو أنك ذهبت إليه فكلَّمْتَه لكان خيرا، فأنت أستاذ تخاطب أستاذا، ولعل صدره أن يفتح لك إذا أغلق لنا لكوننا من الطلاب. فوعدنا خيرا، وذهب إليه، وسمع منه ما يكره.
وهكذا فعلنا ما نستطيع من التغيير الناعم اللطيف، التغيير باللسان، فلم ينفع.. فلم يبق إلا التغيير باليد كما في الحديث الشريف!
في ذلك الوقت لم نكن فقهاء، ولم نكن قرأنا مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتوسع كما عرفناه فيما بعد، إنما البسيط الذي لدينا من العلم، حرَّك الكثير الذي فينا من الطاقة والغيرة والهمّ، وساعتها قررنا أن نغير هذا المنكر باليد.
قلت للإخوة: غدا إن شاء الله، نكتب لافتة: هذا المكان مخصص للطلاب، هذا المكان مخصص للطالبات. واستبقنا الطلاب في الصباح، وبدأنا بالدفعة الأولى التي هي حديثة عهد بالجامعة فهي أقرب للاستجابة للتغيير، فجعلنا أبواب المدرج الخلفية للدخول، وأبوابه الأمامية للخروج، وجعلنا بابا في الأمام وبابا في الخلف للطلاب ومثلهما للطالبات. فيمتنع بهذا أن يحدث تكدس في الدخول والخروج، كما يمتنع أن يحدث اختلاط وتزاحم بين الطلاب والطالبات. وداخل المدرج وضعنا لافتات على قسم فجعلناه خالصا للطلاب وقسم آخر جعلناه خالصا للطالبات، ووضعنا عددا من الكراسي الإضافية في أماكن الفراغ الممكنة لتستوعب ما قد يزيد عن القاعدين في هذه الأقسام.
ولقد التزم الطلاب من تلقاء أنفسهم في أغلب الأحيان، بل إن معظمهم لم يشغل نفسه بسؤال من الذي وضع هذه اللافتة أو رتب هذا النظام، ولقد اقتصر دورنا على أن نقف أمام الأبواب، فإذا جاءت فتاة عند باب الشباب وجهناها لباب الفتيات، وإذا جاء شاب عند باب الفتيات وجهناه لباب الشباب، فكانوا يستجيبون.
كان الموضوع بسيطا، وسريعا أيضا، إلا أنه بقي يُعَكِّر صفوه أولئك الذين يحرصون على الالتصاق والجلوس إلى جوار بعضهم من الشباب والفتيات، أولئك الذين كان الاختلاط على هواهم، أو لعلهم لم يكونوا كذلك وإنما صاروا ضحاياه، فاستناموا لهذا الانحراف بعد استقامة!!.. أما هؤلاء فقد بدأنا معهم جولة أخرى، كنا نذهب إليهم فنوَجِّه الفتاة إلى أن تغادر مكان الشباب إلى مكان الفتيات، ونوجه الشاب إلى مغادرة مكان الفتيات، توجيها رفيقا لطيفا، بعضهم كان يستجيب، وبعضهم كان يعاند ويُصِرّ على موقفه، وكنا نصبر عليهم، كما كنا نراهن على الوقت، وأن يصير الأمر نظاما وعادة، وأن ينكشف أولئك المعاندون، إذ سيجد عشرين طالبا أنفسهم بين خمسمائة من الطالبات، وهي صورة مثيرة للخجل على كل حال.
وكان من فضل الله علينا أن عميد الكلية في هذا الوقت سافر خارج البلد، وظل غائبا خمسة عشر يوما، فلم نجد معارضًا، وتمّ الأمر واستقر دون مشكلات، حتى الأساتذة لم يحفلوا بهذا التغير عموما، وبعضهم كان يثني عليه.
بعد هذه الأيام عاد عميد الكلية، وكانت لديه محاضرة في طلاب السنة الأولى، فتفاجأ من هذا النظام الجديد، ومن هذه الملصقات، فسأل بحنق: من وضع هذه اللافتات؟! من الذي جعلكم تنفصلون هكذا؟!.. لا.. لا، عودوا كما كنتم واختلطوا!
قال الطلاب: فعلها طلاب الجماعة الإسلامية، كما هو مكتوب على اللافتة، وهم يُشرفون على هذا النظام من أول اليوم إلى آخره!
قال: لا.. لا.. الجماعة الإسلامية لن تفرض إرادتها على جموع الطلاب، ارجعوا كما كنتم واختلطوا!
لكن الطلاب لم يرجعوا، كأنهم استهجنوا هذا التعبير، ولم أكن حاضرا في السنة الأولى هذا اليوم، إنما كنت مع أخ آخر ننفذ هذا النظام في طلاب السنة الثانية، وبينما هو في جداله مع الطلاب إذ أخبروه أننا نكرر نفس هذا النظام في السنة الثانية، فترك المحاضرة وحضر إلينا هائجا مائجا غاضبا! فتبعه طلاب السنة الأولى.
جاءت إلينا الجموع عند طلاب السنة الثانية، فبلغ العدد في مدرج السنة الثانية ما بين الثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف طالب، وأمر عامل المدرج فأحضر له الميكروفون، تكلم فيه غاضبا: من الذي فعل هذا؟ وظل هكذا خمس دقائق، وكنتُ مع أخي أبو بكر عثمان ومعنا صلاح هاشم أيضا –وكان يزورنا- ساكتين حتى رآني فتذكرني، فصاح بي: تعال هنا، تعالَ، فذهبت إلى صدر المدرج، وانتظرته لينهي كلامه، فإذا به يسأل ساخطا، وأجيبه هادئا:
- ما هذا الذي تفعلون؟- وماذا نفعل؟- هل تسخر مني.. هذا الذي تفعلونه؟!- إنما ننظم أماكن الجلوس لا أكثر- هذا من عمل الإدارة، وليس من عملكم- هذا من عملنا نحن الطلبة، وهو يخصنا ولا يخص إدارة الكلية- وكيف هذا؟!!- نحن ننظم أماكن جلوسنا، ولم نتدخل في قضايا التدريس، نحن أدرى بأنفسنا، وماذا يريحنا، وكيف نجلس وكيف ندخل ونخرج.. وإذا جاءتك طالبة عندك في المكتب فأجلسها في المكان الذي تحب على الوجه الذي تريد، أما نحن فقد ارتضينا هذا النظام.. هل شكى لك أحد؟!- أنا عارف لسانك طويل، وأنا سأفصلك من الكلية
وضعت يدي على كتفه قائلا بثبات:- لو أني أخاف من الفصل ما كنتُ سأفعل!
زاده هذا هياجا وغضبا وصاح: أنزل يدك، أنزل يدك، سأؤدبك، بل سأفصلك، وسأفصلك اليوم.
هنا، ومع اشتداد اللهجة وتأزم الأجواء، هتف صلاح هاشم: الله أكبر!
وإذا بالجمع الهادر تسري فيه طبيعة الجماهير، فهتفوا: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.. إسلامية إسلامية.. وماجت الجموع المتكدسة داخل المدرج حتى فزع وأخذه الروع وتحير، وتدافع الطلاب من حوله حتى كادت تميد به الأرض، بل كادت تزهق روحه من هذه الاندفاعة المفاجئة، ولكن تدخل بسرعة وبذكاء أخونا أبو بكر عثمان فصرخ في الطلاب: لا يقترب أحد من العميد، سيموت، سيموت.. ومع صرخته الحازمة كأن الناس انتبهت فانفلقت عنه، فنادى أبو بكر بعض إخوانه بسرعة فكَوَّنوا ما يشبه السياج أو السوار حول العميد حتى أخرجوه من المدرج.
أمسكت بالميكروفون وخطبتُ في الطلاب: لقد حاولنا بقدر الإمكان أن ننظم أحوالنا بدون معاندة وبدون مشقة، والأمر سار فعلا على نحو سلس وبغير مشكلات، لكن يبدو أن العميد مُصِرٌّ على موقفه، ومُصَمِّمٌ على تفجير المشكلات، وبالتالي فقد قررنا أن ندخل في إضراب عن الدراسة إلى أن يتم إقرار هذا النظام الجديد بشكل رسمي!
وعزمتُ على إبلاغ بقية إخواني بهذا الأمر الذي طرأ علي منفردا، كي نغلق كلية التجارة وكلية الصيدلة وكلية الهندسة، وتلك هي الكليات الموجودة في الفرع القديم للجامعة، ثم سنطلب من إخواننا تعطيل الدراسة في الجزء الآخر من الجامعة الذي كان يُطلق عليه "الجامعة الجديدة"، وخرجنا من المدرج نذيع هذا الخبر بين الطلاب الذين خرجوا من المدرجات ومن السكاشن، وتجمعنا في فناء الكلية، وخطبتُ فيهم: نحن مستمرون في هذا الاعتصام حتى يتحقق مطلبنا، وتبادل الإخوة من الجماعة الإسلامية الخطب في الطلاب.
لم ينزعج إخوة الجماعة الإسلامية من انفرادي بهذا القرار، أو وصول الأمر إلى هذه النقطة الحرجة، بل كانوا متحمسين جدا، وبينما نحن كذلك إذ جاءنا رجل من قسم "رعاية الطلاب" اسمه المناديلي، يخبرني أن نائب رئيس الجامعة د. عبد الرازق حسن يطلبك إلى مكتبه، فوقفتُ بين الطلاب، وأعلنت فيهم أني ذاهب إلى نائب رئيس الجامعة، ولكننا على العهد: لن ينفض هذا الجمع حتى يُقَرَّ هذا النظام رسميا.
ذهبت ومعي أخي (الدكتور فيما بعد) السيد العربي إلى د. عبد الرازق حسن:
- ما هذا الذي تفعلون؟- لا داعي للسؤال، فأنت تعرف.- أعرف؟!.. أعرف ماذا؟- ألم يخبرك د. مصطفى بهجت؟- لا، لم يخبرني بشيء!
فوجئنا أنه لا علم عنده بالأمر، فقصصنا عليه القصص، فتفاجأ، ثم قال مندهشا: هذا الاعتصام من أجل تنظيم مكان للبنات ومكان للأولاد؟
- نعم، وهذا ما رضيه الطلاب أنفسهم، ولم يشتكِ أحدهم إلى د. مصطفى بهجت أو غيره، ولن نتراجع عن الاعتصام حتى يتم إقرار النظام رسميا!- خلاص، تم إقراره رسميا.- لا، الأمر ليس بالكلمات، ونحن لا نُخْدَع، والمسألة لا تقتصر على المدرجات بل على السكاشن أيضا.- ماذا؟ سكاشن؟!.. لا، لا نستطيع، هذه لا يمكن تغييرها الآن.- إذن، الطلاب لن تنصرف من مكانها ولن ينفض هذا الاعتصام حتى يتحقق هذا المطلب، إلا لو أردتم استعمال القوة وصرفهم بالعنف.- يا بني، أنا والله موافق.. لكن لا يمكن أن نغير السكاشن الآن، هذه لها نظام لا بد من تعديله، أما مسألة المدرجات فالأمر سهل وبسيط، وما فعلتموه سيبقى كما هو.- لا.. لا بد من السكاشن أيضا- اعتبر هذا وعدا شخصيا مني، إذا رجعتم من إجازة منتصف السنة ستجدون نظام السكاشن قد جرى تعديله، لكن الآن هذا غير ممكن، لقد بقي شهر واحد على الإجازة، وهذا الوقت لا يتسع للتعديل.- تمام، سأعتبر هذا وعدا شخصيا منك، ونحن موافقون.- إذن، انزل واصرف الطلاب.- لا، لا أستطيع أن أصرف الطلاب، ولكن سأكتب بيانا أقول فيه إن الدكتور عبد الرازق حسن نائب رئيس الجامعة قرر الموافقة على هذا الترتيب الجديد، وسَتُوَقِّع عليه قبل أن أعرضه على الطلاب.- حسنا، موافق، اكتب البيان وسأوقع لك عليه.
وعلى هذا انتهى الحوار بيننا، وكتبت البيان ووقعه، ونفَّذ كلٌّ منا ما تعهد به. ولقد امتدَّ أثر هذا القرار تلقائيا إلى كل شيء في الجامعة، حتى الكافتيريا، نَظَّم أصحاب الكافتيريات في الجامعة أنفسهم بحيث يكون بعضها للطلاب وبعضها للطالبات بأثر من هذا الموقف.
وهكذا كان موقف واحد سببا عظيما في اصطباغ الجامعة بالصبغة الإسلامية، وشيوع الهدي الظاهر فيها، وترافق هذا مع كوننا نحن الجماعة الإسلامية في جامعة أسيوط الأعلى صوتا ضد نظام السادات والأكثر هجوما على سياساته، ونحن بهذا الثوب الإسلامي واللهجة الإسلامية والصبغة الإسلامية. كان صوتنا أشد قوة وأكثر إسلامية من الإخوان المسلمين، ومن السلفيين بطبيعة الحال، فالسلفيون يتجنبون الاشتباك السياسي، لقد كنا نحن الثوريين، كنا نمثل القوة التغييرية القادرة على الفعل، وكنا بفضل الله عز وجل وعونه إذا أردنا شيئا فعلناه، وقد استطعنا أكثر من مرة أن نفرض ما نريد على كل قيادات المحافظة حتى المحافظ ومدير الأمن ورئيس الجامعة.
لقد كان السر في هذا أننا كنا تيارا متماسكا قويا، صحيحٌ أننا مع الوقت بدأنا نتحول رويدا رويدا إلى نوع من التنظيم والمسؤولية وتوزع الصلاحيات، إلا أن الغالب في هذه الفترة ولفترة بعدها كان هو الحب، كانت علاقة الحب هي السائدة وكانت القيادة تدير الجميع من منطلق الأخوة والتقدير والاحترام، إذا قال صلاح هاشم شيئا هرعنا لتنفيذه، أمير الكلية يرى شيئا فيسابق إخوانه لعمله، كان الأمر فطريا دون تأصيل فقهي أو عمق فكري، حتى إنك لو سألتَ أحدنا يومئذ: هل طاعة الأمير واجبة؟ لكانت الإجابة التلقائية: لا. ولكن الواقع العملي كان يشهد أن الإجابة: نعم. فلم تكن الطاعة التي يبذلها الإخوة لأميرهم ومسؤوليهم طاعة صادرة عن اختيار فقهي أو نظر علمي، بل هي صادرة عن شعور الحب الغالب، ومما يرونه في أميرهم من العمل والتضحية والبذل والسبق.
كان وجودي في الجماعة الإسلامية استمرارا لموقعي في المعسكر المعارض لنظام الحكم، لقد وجدتني منذ وعيت ضدّ هذا النظام، ذلك هو مشربي الذاتي وندائي الداخلي وفطرتي السليمة، ومنذ فكرتُ قديما في الالتحاق بكلية عسكرية لإدارة انقلاب عسكري، مرورا بجماعة الشيخ عبد الله السماوي، وصولا إلى الجماعة الإسلامية وأنا أعي أنني في مجموعة تعارض هذه السلطة. حتى حين كنت ذات يوم مع عبد الناصر وعضوا في الاتحاد الاشتراكي لم أكن أشعر أبدا أنني جزء من هذا النظام أو أنني أوالي هذه السلطة.
وعلى هذا النحو جاء كافة القيادات الذين أسسوا الجماعة الإسلامية مثل الشيخ صلاح هاشم والشيخ أسامة حافظ والشيخ حمدي عبد الرحمن والشيخ ناجح إبراهيم، كلهم كانوا على هذا المذهب ومن هذا المشرب، ولعل هذا هو الذي جمع بيننا في أعماقنا: شعورنا بالمعارضة لهذا النظام الفاسد الذي لا يخدم البلد، بل هو نظام يوالي اليهود والأمريكان، نظام لا يمكن قبوله، ولا يمكن أن يكون هذا هو النظام الإسلامي بحال، ومن ثَمَّ فقد استشعرنا الواجب المفروض علينا: أن نقوض هذا النظام لإحلال نظام أفضل. تلك هي أساس الفكرة التي تكونت حولها الجماعة الإسلامية رويدا رويدا.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on January 17, 2020 15:33
January 8, 2020
أخت الأندلس المجهولة المذبوحة
عند صدور هذا العدد من المجلة ستكون قد حلت علينا الذكرى السنوية المريرة التي نتذكر فيها سقوط الأندلس (2 يناير 1492م)، لم يكن مجرد سقوط حاضرة زاهرة ناضرة هي مفخرة لأي أمة، بل كانت افتتاح عهد عصيب مرير، إذ ما إن مرت بضع سنوات حتى بدأت حملات التنصير الجماعي تصيب المسلمين، وأنشئت محاكم التفتيش الشيطانية لتحاكم الناس على ما في قلوبهم، وتستعمل في انتزاع الاعترافات أشنع ما توصل له العقل من وسائل التعذيب، وقد استمر هذا الحال أكثر من قرن من الزمن، ثم صدر قرار الطرد الجماعي للمسلمين، ومع ذلك فقد استمر الإسلام سرا في إسبانيا لنحو خمسة قرون يتوارثه الجيل بعد الجيل، حتى فوجئ كثيرون ممن أسلموا من الإسبان بآبائهم وأمهاتهم وجدَّاتهم يروون لهم أنهم شاهدوا آبائهم يصلون هذه الصلاة سرا!!
حديث الأندلس طويل ومرير، مع أنه معروف وشهير، ذلك أن الأندلس كانت عربيةً فكان تراثها عربيا فظل بالإمكان قراءته والاستفادة منه في عموم الأمة الإسلامية، إذ كانت اللغة العربية هي لغة العلم حتى في الأقطار الفارسية والتركية والإفريقية، ثم إن التفوق الغربي خلال القرنين الماضيين أحدث حالة من الهجرة العربية إلى أوروبا للدراسة أو الحياة، فتُرجم الكثير من دراسات المستشرقين الإسبان والغربيين عن الأندلس إلى اللغة العربية، وتخصصت أقسام في كليات الآداب والتاريخ لدراسات الأندلس، فصار لدينا فوق التراث الأندلسي إنتاجا غزيرا استشراقيا وعربيا عن الأندلس، فعرفنا الكثير من تاريخها.
ونحن في زماننا هذا نعاين كثيرا مما وقع على الأندلسيين، في تركستان الشرقية وبورما (ميانمار) وكشمير وآسام الهندية وإفريقيا الوسطى، في تلك البلاد نرى بالصوت والصورة ما كنا نقرؤه في كتب التاريخ، لقد رأيت طفلا من التركستان يُخلع من أبيه خلعا، والوالد المستضعف يستمسك به والقهر يكتم بكاءه فلا يُسْمَع له من شدة الهول صوتا، والطفل يبكي لا يدري ماذا يُفعل به ولا إلى أين يؤخذ، يا حسرة قلب أب عرف أنه لن يرى ابنه بعدها أبدا!
لولا الإيمان بالله والدار الآخرة لما كان في هذه الدنيا متسع للحياة.. هذا الإيمان وحده هو الذي يلقي في النفس العزاء بأن كل مظلوم سيقتص من ظالمه، وأن يوم القيامة ستُرَدُّ فيه الحقوق، وتُوَفَّى فيه المظالم.
إلا أننا الآن لا نعرف الكثير عن هذه البلاد التي هي نظائر الأندلس، حواجز منيعة كثيرة صنعت هذا الجهل لدينا بتاريخ المسلمين في هذه البلاد، يأتي في طليعتها حاجز اللغة ثم حاجز البعد الجغرافي ثم كون هذه البلاد لم تمثل تحديا حضاريا قويا للمسلمين في القرون الأخيرة مثلما هو حال الغرب، فلم يأبه كثيرون للتفتيش في قضايا المسلمين وتاريخهم في تلك الأنحاء. بل يكفي حاجز اللغة وحده ليصنع هذا الجهل العميم، فإن معرفتنا –نحن العرب- بالدولة العثمانية وتاريخها أقل من معرفتنا بالأندلس مع اتحاد الجغرافيا والدين، فكيف يكون الحال بالنسبة لتركستان الشرقية وبورما وكشمير وجمهوريات آسيا الوسطى وبلاد البلقان والممالك الإسلامية في إفريقيا لا سيما ما كان منها في الشرق الإفريقي.. سائر هذه التواريخ هي في حكم المجهول، ومن ثَمَّ فإن قضايا المسلمين فيها محاطة بحُجُبٍ كثيفة من الظلام.
إن رفع هذه الحجب مهمة ثقيلة ثقيلة، ويزيدها ثقلا وصعوبة أوضاع الدول الإسلامية التي لا تهتم ولا تحفل بمثل هذه الأمور، والحركة العلمية هي في كل الأحوال صورة من الحركة السياسية، فلن ينهض البحث العلمي في دولة راكدة سياسيا. إن السؤال المفزع الذي يتردد في الأذهان: ترى هل سنعرف ونستوعب قضايا المسلمين في تلك البلاد قبل فنائهم وسحقهم؟ أم سنذهب نبكي على أطلالهم –إن بقيت لهم أطلال- كما نفعل على أطلال الأندلس؟!
لا أعرف من بين الكتب العربية أو المترجمة إليها مما درس قضية المسلمين في التركستان الشرقية إلا عددا شحيحا، منها كتاب "الإسلام في الصين" لفهمي هويدي، و"تركستان المسلمة وأهلها المنسيون" لعبد القادر طاش ورواية "ليالي تركستان" لنجيب الكيلاني، ومن الكتب المترجمة كتاب "التركستان الشرقية وراء الستار الحديدي" لعيسى بك يوسف ألب تكين (القائد التركستاني الشهير وكان السكرتير العام لحكومة التركستان الشرقية في الاستقلال القصير منتصف القرن الماضي)، وكتاب "الأويغور: تاريخ الأتراك في آسيا الوسطى وحضارتهم" للمؤرخ الأديب التركستاني تورغون آلماس، وهو الكتاب الذي تسبب صدوره في مصادرة كل مؤلفاته وفي اعتقاله حتى توفي في 11 سبتمبر 2001م.
من الجدير بالذكر هنا أن كلمة تركستان تعني كل المناطق التركية في آسيا الوسطى، أي كل هذا الهلال الذي يمتد من الصين (تركستان الشرقية) وينتهي عند بحر قزوين ونهر أورال، ولكن السياسات المعاصرة قَسَّمت هذه الأنحاء بحيث عُرف الجزء الشرقي الذي تحتله الصين –والذي هو موضوع مقالنا هنا- بأنه "تركستان الشرقية"، وعرفت الأجزاء الوسطى التي تشغل وسط آسيا بأنها "جمهوريات آسيا الوسطى" أو جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والتي تشكل "تركستان الغربية"، وبعض الباحثين يضيف إليها تركيا الحالية، ولهذا نجد بعض الباحثين ساخطا على أن أتاتورك أطلق على الجمهورية اسم "تركيا" بينما كان الأولى أن يسميها "تركيا الغربية"، لأن هذا الاسم (تركيا) قد أوحى بنزع الصفة التركية عن سائر الشعوب الوسطى والشرقية، وإذا قبلنا هذا الرأي كانت بلاد التركستان كلها تمتد من الصين وحتى حافة أوروبا.
والشاهد من ذكر هذه الملحوظة الإشارة إلى أن اسم تركستان عموما يشمل كل هذه المنطقة، لذلك توجد مؤلفات عن "تركستان" وهي تتناول تركستان الغربية التي هي جمهوريات آسيا الوسطى أو حتى تقتصر عليها، مثل كتاب "تركستان قلب آسيا" لعبد العزيز جنكيز خان وهو ابن قاضي قضاة المحكمة الشرعية في تركستان الشرقية، ومثل السفر الكبير للمستشرق الروسي الشهير بارتولد، ومثل كتاب "تركستان" للمؤرخ السوري الراحل محمود شاكر الحرستاني.
لقد نشر الكثيرون دعوات لمقاطعة البضائع الصينية، عسى ذلك أن يكون رادعا لها، جادل آخرون بأن الأمر لن يحقق أثره. في كل الأحوال المقاطعة مفيدة ومهمة وضرورية، حتى لو لم تحقق شيئا، إنها في نهاية الأمر تعبير عن الروح الإسلامية الواحدة التي تجمعنا، تعبير عن رفض الظلم وإن كان أضعف من أن يردع الظالم، إنها كقول "أحد.. أحد" التي لم ترفع الصخرة عن صدر بلال ولم تأتيه بسحابة تظلله من حرّ الشمس والبطحاء، لكنها كلمة كشفت عن الإيمان المكنوز في الصدر المكظوم، وعن الروح الباقية في الصوت المبحوح!
إن المقاطعة أضعف الإيمان، ويكفيها أن تكون دليلا على بقية الإيمان الباقي في النفوس، الإيمان الذي يتألم لما يحدث بإخوانه، الإيمان الذي لا يقبل أن يستمتع بالشيء الذي يعود مكسبه على الذي يعذب أخاه!
والواقع أننا بحاجة إلى المقاطعة في كل حال وكل حين؛ فلقد امتلأت حياتنا بالترف والرفاهيات والكماليات حتى أصاب ذلك صميم نظامنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كله! لا يهمني الآن أننا بلاد متخلفة صناعيا فهذا في الواقع قرار سياسي، لا يملك أن يغيِّره قارئ هذه السطور، لكن كثيرا مما يملأ حياتنا ويؤثر فيها يملك قارئ هذه السطور أن يتخلى عنه أو على الأقل أن يتخفف منه.
إن الزهد، والتخلي عن الترف، أمرٌ ضروري لحياتنا ذاتها، لصحتنا النفسية ومناعتنا الإيمانية، فضلا عن ضرورتها في سيرنا نحو التحرر والنهوض. إن تمسكنا بما لا نحتاج له هو في الحقيقة سجن ناعم، سجن صنعه لنا عدونا فدخلنا فيه بأنفسنا ثم صار تحررنا منه رهينا بتحرر نفوسنا من هذا الأسر.
نشر في مجلة المجتمع
Published on January 08, 2020 05:47
January 3, 2020
خطر الاستهانة بالمعارك
في مؤتمر علمي شاركت فيه في اسطنبول، لاحظت غياب الترجمة، رغم أن الأوراق العلمية التي يحتويها المؤتمر باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والتركية، وفي مثل هذه المؤتمرات لا بد من وجود الترجمة بطبيعة الحال. سألتُ عن سر هذا فعلمتُ أن بلدية اسطنبول امتنعت عن تمويل المؤتمر من بعد ما أُبرم الاتفاق بينها وبين الجامعة أو أنها قَلَّصَت التمويل المتفق عليه كثيرا، فأثَّر هذا على كل شيء، على عدد المدعوين من خارج تركيا، وعلى اتساع المكان، وعلى التجهيزات، إلا أن أغلب هذا لم ينتبه له المشاركون –إذ هم لا يعرفون الوضع الذي كان منشودا ثم تقلص- وإنما كانت مسألة الترجمة لضرورتها هي ما أثارت الانتباه.تغير الوضع في اسطنبول منذ فاز برئاسة البلدية الكبرى مرشح حزب الشعب الجمهوري، وصارت البلدية تمول فعاليات أخرى، منها حفلات راقصة في مناسبات علمانية، وفي المقابل تقلص أو انتهى التمويل الذي كان يذهب للفعاليات العلمية خصوصا الإسلامية والعثمانية، واتسع نشاط التضييق على اللاجئين والمهاجرين في تركيا وإغلاق منشآتهم الاقتصادية والتجارية وشروط إقامتهم وتنقلاتهم، وغير ذلك مما بعضه معروف وأكثره لا يعرف!
تذكرت في هذه اللحظة منشور شيخ معمم لاجئ في تركيا، كتب عند لحظة فوز مرشح الحزب الجمهوري، ينعي على المنفعلين حزنهم وحماستهم، مؤكدا أنها مجرد جولة انتخابية كغيرها، ولن ينهدّ الكون.. هكذا ظنَّ نفسه عقلانيا ناضجا واعيا مفارقا لعاطفة العامة والغوغاء.
وتذكرت معها أيام الانقلاب العسكري في مصر، حيث كانت شريحة من أولئك الناضجين الواعين الحكماء يرون أن المسألة مجرد صراع سياسي، ونزاع على الكراسي، فلا فوز مرسي مكسب عظيم ولا انقلاب السيسي خطر داهم. وكنا حين نحذر من خطورة هذا وكارثيته ينظرون إلينا كما ينظرون إلى المجنون المهووس المتعصب المنغلق المتشائم!
والآن جميع الناس يرون إلى أين صارت مصر وأحوالها، وكيف كان انقلاب العسكر فيها نكبة وطعنة للأمة كلها لا لمصر وحدها، وليست النكبة نكبةً سياسية أو عسكرية، بل أخطر منها ما جرَّته من النكبة الدينية والاجتماعية، وهذه الموجة الهائلة من الإلحاد والإباحية وضياع الدين ونشأة جيل جاهل بمبادئ الدين متحلل من مبادئ الأخلاق.
إن المعارك التي تجري في بلادنا، ليست مجرد نزاعات دنيوية محدودة، بل تكاد كلها أن تكون ذات ارتباط وثيق بالدين والهوية.. هذا ما يجب أن نعلمه جيدا ونستوعبه جدا ونهضمه تماما! إنها معاركٌ يكون النصر فيها فتحا والهزيمة فيها نكبة، النصر فيها سبيل إلى الإيمان والهزيمة فيها باب إلى الكفر.. بما في ذلك المعارك الانتخابية، فبها تنفق أموال الأمة ومواردها في صالح الأمة أو ضد مصالحها، وبها يُفسح للإسلام ويُمَكَّن له أو يُفسَح للكفر ويُمَكَّن له.
وفي زمن الاستضعاف العام الذي نحن فيه، فإن كل نصر وكل فتح هو إنقاذ لملايين المسلمين، مثلما أن كل هزيمة وكل نكبة هي إهلاك لملايين المسلمين، فأثر النصر في زماننا وحالنا مُضَاعَف، كما أن أثر الهزيمة في زماننا مُضاعَف!وانظر وتأمل وقارن بنفسك وانظر في أحوال المسلمين ترى هذا واضحا..
فخلال الشهر الماضي أفرج الجهاز الأمني لحماس في غزة عن عمليات أمنية معقدة نفذها بكفاءة، حتى أسقط –وكاد يأسر- مجموعة من نخبة النخبة الإسرائيلية التي دخلت في مهمة متقنة محسوبة لزرع أجهزة تتمكن بها من اختراق شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة. لقد فشلت محاولات إسرائيل السابقة من خلال العملاء في هذه المهمة حتى لم يعد أمامها إلا أن تلقي بنخبة النخبة من عناصرها في موضع الخطر، ثم لم ينجحوا، وكانت إسرائيل من قبل هذا مرتاحة البال هانئة، ويتولى هذه المهمات نيابة عنها سلطة فتح وعناصرها الأمنية، ففي ظل سيطرة فتح كان إنشاء شبكة اتصالات خاصة بالمقاومة شيئا فوق الخيال والتصور، بل كان الرجل من أبناء المقاومة يخشى على نفسه الاعتقال والتعذيب فتؤخذ منه كل المعلومات وأدقها عن كل ما يعرف ثم تُعطى في تقرير وافٍ لإسرائيل!
وخلال هذا الشهر الماضي نفسه تطورت الأحوال في ليبيا كثيرا، فدخلت تركيا على خط دعم حكومة الوفاق الليبية، وهذا أمرٌ أقلُّه وحدُّه الأدنى أن يؤجل انهيار طرابلس في يد حفتر إلى أمدٍ، ولعله تتغير الأحوال في هذا الأمد، وأحسن أحوال هذا الدعم التركي أن ينهار أمامه حفتر ومشروعه، وهذا مكسب ضخم، وإن كان بعيد المنال، وبين ذلك الأدنى والأقصى احتمالات كثيرة نسأل الله أن ينجي الأمة من شرِّها.
ولا يمكن فهم ضخامة الإنجاز في هذين المثالين إلا إذا تصوَّرنا ماذا كان يمكن أن يكون لو أن حماس لم تخض الانتخابات في 2006 ولم تأخذ قرار الحسم العسكري في 2007، وبقيت غزة مثل الضفة الغربية تحت سلطة فتح. أو إذا تصورنا أن أردوغان لم يخض هذه التجربة السياسية ولم يدعمها ببناء قوة ذاتية وعناصر مسلحة تتصدى للانقلاب العسكري وتؤمنه من محاولات الاغتيال!
وأولئك الذين يطعنون في هذين التجربتين، مع احترامي لبعض دوافعهم وتقديري لبعض مشاعرهم، أشبه بأولئك الذين لم يتصوروا فارقا كثيرا بين مرسي والسيسي، ولم يعرفوا أن مرسي وجماعته –مع كل ما يؤخذ عليهم- إنما كانوا دِرْءًا وجُنَّة من أمثال السيسي. ولعلهم يعرفون هذا الفارق إذا -لا قَدَّرَ الله- ضربت تجربة حماس في غزة أو تجربة أردوغان في تركيا.
ولماذا ننتظر أن يحدث ما لم يحدث؟ يكفي أن نمد أعيننا إلى أرض مسلمة تخلو من مثل هذه التجارب، لننظر في تركستان الشرقية وفي بورما وفي الهند (لا سيما: كشمير وولاية آسام)، فضلا عما يجري في مصر والشام والعراق والشرق الليبي، ثم ما يجري في الخليج وأرض الحرمين واليمن.. في سائر هذه المناطق لا يجد العدو مانعا في ذبح المسلمين وإذلالهم وقهرهم وتغيير دينهم وعقيدتهم وطردهم من بلادهم وسبي نسائهم وأولادهموسجن علمائهم وشيوخهم.
ومن كان يتخيل أن أرض الحرمين تتحول إلى مسرح عابث كبير، وتنفجر فيها مظاهر الفجور بهذه الفجاجة؟! حتى إن الشيخ المنافق الذي يعبد ولي الأمر من دون الله يوقف عن الخطابة والتدريس لأنه مسَّ هيئة الترفيه، وهي الهيئة التي تتولى ملف نشر الانحلال والخلاعة في جوار بيت الله الحرام!
الشاهد المقصود أن المعارك التي تجري في بلادنا، بما فيها المعارك الانتخابية، والثقافية فضلا عن المعارك السياسية والعسكرية ليست مجرد نزاعات محدودة، إنما هي عميقة التأثير والنتائج، والداعية الذي يجلس في بيته أو مسجده ويعزل نفسه عن هذا كله هو في الحقيقة يُغمض عينيه ويُسكت ضميره لأنه ليس في معزل ولا يملك أن يكون بمعزل، فكل الذي يجري هذا إنما يؤثر فيه وعليه وعلى بيئته وعلى جمهوره، والكلام الذي كان يستطيع أن يقوله بالأمس تصريحا سيقوله اليوم تلميحا ثم سيكتمه غدا، وبعد غد سيقول بعكسه اضطرارا وخوفا ثم يطول به الأمد فيقوله إيمانا به واعتناقا له، وإذا استمر هذا الحال فسيأتي جيل إذا سمع الإسلام قال "ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين"!
وفي الأيام الماضية اشتعل بين المصريين جدالٌ على فتاة كانت مسلمة ثم ألحدت ثم ماتت، فتعاطف معها أقوامٌ ترحموا عليها وأقاموا لها صلاة جنازة وجادلوا عنها جدالا عنيفا ليجعلوا الترحم عليها حقٌ أو واجبٌ.. فانظر كيف ضاعت ثوابت الدين وحلَّت مكانها تصوراتٌ أخرى يظن أصحابها أنها من الدين! وهذا كله أثرٌ من آثار انتصار الانقلاب العسكري في مصر وما جرَّه من النكبات على التصورات وعلى النفوس، وما زلزله من الإيمان بالدين.
إن النصر يرفع من شأن أصحابه، ولا شيء أكثر ترويجا لفكرة ما من انتصارها في المعركة، ولهذا قيل بحق "الناس على دين ملوكهم"، وقال عثمان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وهذا المعنى في كتاب ربنا (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا)، فالنصر يفتح العقول والقلوب للفكرة، وهذه سيرة الدنيا والناس وانتشار الأفكار.
وإن الحمل الثقيل الذي تحمله الأمة اليوم إنما هو حمل الهزائم، فالمعارك التي هُزِمنا فيها، والمعارك التي استهان آباؤنا وأجدادنا بها، والمعارك التي نكصوا عنها انشغالا بغيرها.. كل هذا صار هو الميراث الثقيل الذي نواجهه اليوم. وإن سيرتنا مثل سيرتهم، فالمعارك التي لن نخوضها أو التي سنستهين بها أو التي سنُهزم فيها هي التي سنرى نتائجها المريرة في أنفسنا وأبنائنا، ثم ستكون عبئا يزداد ثقله على الأجيال التالية.
سيقرأ القارئ هذه السطور في ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير 1492م)، وساعتها سينظر في أمتنا بعد تراكم الأثقال وتراكم الهزائم ليرى كل الأرض الإسلامية أندلسا جديدة، وهكذا: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء!
يقول ابن القيم:
"لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده. ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا.
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} [الفرقان: 51، 52] ، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى: {ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التوبة: 73]، فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا. ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- من ذلك أكمل الجهاد وأتمه".
نشر في مجلة كلمة حق
Published on January 03, 2020 15:28
December 21, 2019
مذكرات الشيخ رفاعي طه (21) نظرة من الداخل على التيار الإسلامي في الجامعات المصرية
مذكرات الشيخ رفاعي طه (21)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
نظرة من الداخل على التيار الإسلامي في الجامعات المصرية
· لأول مرة شعر الطلاب بأن أموالهم رُدَّت إليهم لما فاز الإسلاميون باتحاد الطلاب· كنا حريصين على مكافحة التحرش والاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة!· لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، لكنهم كانوا يتحاشون الصدام مع النظام
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي – (15) بداية زعامة صلاح هاشم – (16) محاولة الإخوان الهيمنة على جامعة أسيوط – (17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية؟ - (18) الانشقاق بين الإخوان والجماعة الإسلامية في أسيوط – (19) أخفقت في التوفيق بين الإخوان والجماعة الإسلامية – (20) لم يتسامح السادات مع التيار الإسلامي
كانت فرصة اتحاد الطلاب عظيمة، أعطت التيار الإسلامي قفزة كبرى لم تكن متوقعة، في تلك الفترة كانت ميزانية الاتحاد الطلابي قوية، وكانت هذه الميزانية تُنفَق من قبل على الفساد والإفساد، وتغير الحال لما جاء التيار الإسلامي فأنفقها في مصالح الطلاب: مساعدات للفقراء، أزياء إسلامية للأخوات اللاتي يرتدين الحجاب، إعانات للطلاب في دفع إيجار مساكنهم أو في شراء الكتب لهم، وسائر ما يقع في هذه المنافع التي شعر بها الطلاب بالفائدة الكبرى العائدة عليهم بوجود الإسلاميين في اتحاد الطلاب، لأول مرة ربما يرى الطلاب أن أموالهم التي تأخذها منهم الدولة قد رُدَّت إليهم، وقد كان هذا نفسه من دواعي ودوافع تحول الكثير منهم إلى الالتزام دينيا.
وتحولت هذه القوة الطلابية إلى قوة سياسية حين تبنى اتحاد الطلاب معارضة سياسة السادات في الذهاب لمفاوضات كامب ديفيد وتوقيع معاهدة السلام، ومثَّلت الحركة الطلابية ضغطا قويا حتى ارتكب السادات جريمته الجديدة بحل اتحادات الطلاب على مستوى الجامعات المصرية!
لكن قبل أن نتحدث عن حل الاتحادات الطلابية سيكون حسنا لو ألقينا نظرة على الشكل الداخلي لتنوعات التيار الإسلامي، والتي لم تكن ظاهرة ولا منظورة لمن كان خارج هذه البيئة الإسلامية. لقد كانت الصورة من الخارج يمثلها تيار إسلامي عريض منتشر في سائر الجامعات، لكن لم يكن هذا هو الواقع إذا نظرنا إلى الصورة من الداخل.
لقد أسلفت أن الصحوة الشبابية الإسلامية في الجامعات سبقت وجود جماعة الإخوان التي كانت في السجون الناصرية ولم تزل قياداتها مسجونة حتى أن البعض منهم لم يفرج عنه إلا عام 1974م، وحين خرجت هذه القيادات سعت في احتواء القيادات الشبابية التي كانت قد تزعمت حالة الصحوة الإسلامية في الجامعات، وقد نجحت بالفعل في اجتذاب قيادات جامعة القاهرة، بينما تفاوت نجاحها في بقية الجامعات! لكن كان لها وجودٌ وحضور قوي في سائر الجامعات!
أما بقية الحالة الشبابية التي لم تنجح جماعة الإخوان في احتوائهم فقد كان حضورهم ظاهرا في الجامعات لكن لا حضور لهم خارجها، لأنه لا امتداد لهم في الخارج، إذ لا جماعة غير الإخوان في هذا الوقت، على الأقل ليس ثمة جماعة كبرى أخرى غيرها.
وانتهت الحالة إلى أن تحتوي الإخوان الحالة الإسلامية في جامعة القاهرة بالأساس، ثم في جامعة الأزهر وجامعة عين شمس، بينما كنا نحن أصحاب الحضور الأقوى في جامعات الصعيد (المنيا وأسيوط)، وكلمة "نحن" هنا تعود على "الجماعة الإسلامية" التي احتفظت بهذا الاسم كما بدأت به، ثم صارت فيما بعد حالة تنظيمية يقودها الشيخ عمر عبد الرحمن والتي نفذت فيما بعد أحداث 1981 واغتيال السادات. وأما جامعة الإسكندرية فقد غلب عليها الاتجاه السلفي الذي صار فيما بعد جماعة "الدعوة السلفية" ذات الرموز المعروفة: محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي وأبو إدريس وغيرهم.
وإذا قلنا بأن جماعة الإخوان أخفقت في احتواء الشباب الإسلامي في الصعيد وفي الإسكندرية فليس معنى هذا أنهم توقفوا عن المحاولة، ولا معناه أيضا أنه لم يكن لهم حضور في هذه الأنحاء، بل لقد سبق وذكرت أن ما حصل عندنا في أسيوط سبَّب انشقاقا وبقي شباب الإخوان خطا مستمرا تحت قيادة الأخ الدكتور أسامة السيد، كما بقي شباب الإخوان في جامعة الإسكندرية تحت قيادة خالد الزعفراني وإبراهيم الزعفراني.
وبالرغم من وحدة الصورة للتيار الإسلامي كما تبدو لمن يراها بالخارج، فإن الصورة من الداخل ذهبت في سياق التنافس والتنازع، لا التنسيق ولا الوحدة، وكان الخلاف بين هذه الأطياف الرئيسية الثلاث خلافا شديدا، كان الإخوان يرون أنهم الجماعة الأكبر وأنهم لهذا يجب أن يكونوا أصحاب اليد العليا في سائر الجامعات، وأولئك الذين لم تسعهم عباءة الإخوان كانوا يقاومون هذا بشراسة، وكانوا شبابا لم ينضجوا بعد ولم يطرأ على بالهم اقتراح: تعالوا نجلس مع الإخوان المسلمين وننسق معهم.
وقد زاد في الخلاف بين الطرفين اختيارات الإخوان السياسية في تلك المرحلة، فلم يكن الإخوان قادرين على أن يدخلوا إلى احتواء الشباب من باب: تعالوا معنا، وستجدون عندنا ما ترجونه من دعوة وجهاد وحسبة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. لا، لا يستطيعون احتواء الشباب من هذا المدخل الذي هو ساعتها يمثل أصلا اصيلا في اتجاههم وحركتهم.
لقد كان الشباب وقتها عالي السقف عظيم الطموح مستعدا للفداء والتضحية ولا تردد عنده لو قاده أحد حتى لمواجهة الدولة، كانوا يسيرون عمليا نحو الصدام مع النظام.. نظام السادات. وكان الإخوان يتحاشون هذا أشد المحاشاة ويتجنبونه غاية التجنب، ومن ثم كانوا يبذلون غاية جهدهم في كفكفة الشباب الإسلامي عن قضايا إسلامية كثيرة كانوا يرون أنهم يجب خوضها.
من ذلك مثلا: مواجهة الانحلال الأخلاقي! وهذه تفردنا بها –نحن الجماعة الإسلامية- داخل جامعة أسيوط، فلقد كنا حريصين على صبغ الجامعة بالهَدْيِ الظاهر، نريد للشباب أن يلتحي، وللفتيات أن تتحجَّب، نرفض حصول الاختلاط بين الشباب والفتيات، ولا نعني بالاختلاط مجرد الكلام الذي يقع بين طالب وزميلته أو مجرد ما قد يجمعهما من أمور الدراسة فقد كان موجودا ولم نكن نستنكره، بل أعني بالاختلاط ما يكون من الاختلاط الفاحش كالذي يحدث في الحفلات من الرقص، وقد كان هذا موجودا في الجامعات آنذاك، أو ما يحدث من المزاحمة بينهما عند الدخول إلى المحاضرات والخروج منها، وكان يقع في أثناء ذلك تحرش وإسفاف كبير. كان الإخوان يرون أن نغض الطرف عن هذه الأمور كي لا تكون إثارتها سببا في الاشتباك مع أمن الجامعة أو إدارتها، وأن نصبر ولا نتعجل إصلاح هذه الأمور.
وكان لنا على الإخوان مطعن آخر، لقد كنا نرى أن الإخوان حركة لا تهتم بالعقيدة، ولا تعتني بالأساس العقدي للمنتسبين إليها، ويوجد في الإخوان من هو صوفي، وكان رأينا أن النزعة الصوفية تحتاج إلى الكثير من التخفف ومن التخلص من البدع والأهواء التي شابتها، لتعود إلى نقاء أهل السنة والجماعة. بينما كان الإخوان ينظرون إليها نظرة أخرى، فإذا ناقشناهم قالوا: نحن مدرسة للتربية، يدخل إليها الجميع، فيدخل إلينا الصوفي فيعيش بيننا ثم بعد فترة يقلع عن هذه البدع التي تعترضون عليها. وكنا نقول: أنتم لا تمارسون حتى التوجيه إلى نقد هذه البدع... وهكذا!
في الواقع لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، أقصد كحركة في الجامعة، كانت حقيقة الخلاف في طريقة الأداء والسلوك، لم يكن اختلافا جوهريا، لم يكن اختلافا عقديا، إلا أنه كان اختلافا مصبوغا بفارق الأجيال، الفارق الذي يجعل الاتصال عسيرا بين حماسة الشباب وطاقتهم، وبين تعقل الشيوخ وتريثهم!
لقد كان يأتي لزيارتنا إخوة كبار مشاهير، مثل الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله رحمة واسعة، أو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، أو السيدة زينب الغزالي رحمها الله، فكانوا رغم مكانتهم وقدرهم لا يراعون سن الشباب في لهجة خطابهم، يقول لنا الأستاذ التلمساني: أنتم تستعجلون الجهاد وكذا وكذا، وفي الواقع لم نكن نستعجل الجهاد بل ولا كنا نفكر فيه ساعتها، ولا كانت فكرة الجهاد نفسها موجودة ومطروقة، وغاية ما نفكر فيه كانت هذه المظاهرات الصاخبة المعارضة للسادات في كامب ديفيد أو في استقباله لشاه إيران، يعني مسائل بسيطة لا تستوجب هذه الحملة الشديدة التي يتصدى لها الأستاذ التلمساني نفسه، يرحمه الله!
وعن نفسي، كنت أقول: يمكن للإخوان أن يستوعبونا، ويمكن أن نكون من رجالهم، فقط لو أنهم قدَّروا سن الشباب واجتهدوا في احتوائه، بدل أن ينظروا إلى تصرفاتهم بعين النقد وبدل أن يعالجوها بما يُنَفِّر منهم!
لهذا أقول، لقد كان الخلاف بيننا وبين الإخوان في الأساس خلافا في الأداء والسلوك، لا في الرؤية، بل من الإنصاف أن أقول: لم يكن لدينا في هذه المرحلة رؤية أصلا!
لم يكن لدينا رؤية لأننا بالأساس لم نلتقِ أولا على رؤية، كانت لا تزال فكرة الانقلاب العسكري في ذهني، نعم، لكن كل ذهن كان يحمل فكرته الخاصة، وإذا كنا تعارفنا أجسادا وأرواحا فلم نتعارف بعدُ رؤىً وأفكارا، بل وقد كان فينا من لم تكن لديه فكرة مطلقا، إنما هو ينظر إلى الجماعة كمحضن أو كبيئة ينفق فيها طاقته وبذله لخدمة الدين. إنما كانت لقاءاتنا لقاءات الشباب المتدين الملتزم، وفيما بعد نشأت بينهم الألفة والمودة، ثم فيما بعد جاء دور التعرف على الأفكار وتمحيصها!
لهذا أقول، لو كان الإخوان المسلمون استهدفونا بشكل منظم، وخاطبوا كل واحد فينا بما يناسبه، لكان محتملا جدا أن يؤثروا علينا، ربما ليس الجميع، لكن الأغلب، ولو أنهم نجحوا لصاروا القوة الأولى في جامعة أسيوط لا القوة الثانية. ولكن يجب أن أثبت هنا للتاريخ أنهم كانوا القوة الثانية رغم كل شيء.
وحين أسترجع الأيام في ذهني، أقول وبأمانة، ربما يكون الخلاف أقل حتى من أن يكون خلافا في السلوك والأداء، لقد كنت أشهد شباب الإخوان وفيهم من يقيم الليل ويغض البصر، وسائر هذه الأمور التي هي سمت الشباب المسلم المتدين.
وبالعموم يمكن القول بأن فترة السبعينات بقدر ما شهدت ازدهار الصحوة الإسلامية، بقدر ما شهدت بذور الخلافات الأساسية بين التيارات الإسلامية المصرية، وهي الخلافات التي ستستمر نصف قرن آخر فيما بعد!
نشر في مجلة كلمة حق
Published on December 21, 2019 09:37
December 5, 2019
دروس منزوية في قصة مشهورة
استغرب بعض القراء من مقال العدد الماضي الذي تحدث عن شذرات من مجد المرأة المسلمة بعد سقوط الأندلس، وعاد البعض إلى المقال القديم "سيوف الإسلام الخفية" الذي يروي دور المرأة المسلمة في إسلام المغول وملوكهم، وذلك أن ثبات الرجال الأشداء في ميادين النكبة الرهيبة أمرٌ عزيزٌ نادر، فكيف بالمرأة الضعيفة المقهورة!
على أن هذا لا ينبغي أن يُستغرب، ففي كتابنا الكريم ضرب الله مثلا للذين كفروا بامرأتين: امرأة نوح وامرأة لوط، وكيف أصرتا على الكفر وهما في بيت النبوة، وأحدهما –وهو نوح- من أولي العزم من الرسل ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، والآخر بلغت امرأته أنها كانت تدُلُّ قومها على أضياف زوجها كما جاء في بعض التفاسير، أي أنها كانت محنة فوق محنة قومها، وقد كنتُ سألت بعض إخواننا المختصين في التفسير: ما السر في أن القرآن الكريم يحرص على ذكر امرأة لوط ضمن المشمولين بالعذاب مع قومها مع أنه لا يذكر امرأة نوح إذا جاء ذكر الطوفان الذي أغرق قومها، فأجابني بقوله: أظن أن ذلك لكون امرأة لوط كانت عونا لقومها على زوجها.
وكذلك لما ضرب الله مثلا للذين آمنوا ضربه بامرأتيْن: امرأة فرعون ومريم بنت عمران، والأولى منهما آمنت بالله وكفرت بأطغى جبار في التاريخ على الإطلاق، كفرت بالرجل الذي خضعت له الممالك والرقاب وتلقب بالرب الأعلى {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] والإله الوحيد {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقد صمدت لعذابه حتى لاقت ربها!
ويصلح هذا لموضوع السطور التالية، وهو عن امرأة أيضا ضربت مثلا عجيبا في الصبر والثبات، وقد أكرمها الله بكرامة لها ظلت خالدة تُروى إلى أن تقوم الساعة.. تلك هي ماشطة ابنة فرعون!
وقصتها، كما في الحديث، أنها كانت تُمَشِّط شعر ابنة فرعون (كوافيره بالمصطلح المعاصرة) فسقط منها المشط، فتناولته وهي تقول "باسم الله" فقالت ابنة فرعون: أبي؟ فقالت الماشطة: لا، بل ربي وربك ورب أبيكِ. فأخبرت الفتاة أباها فرعون، فألقى القبض عليها وعلى أبنائها معها، وشرع في التحقيق: ألكِ ربٌ غيري؟ فقالت: ربي وربك الله. فشرع في التعذيب، فأمر بوعاء كبير من النحاس، فأحماه بالنار (وبعض الأخبار تذكر أنه ملأه زيتا، حتى صار الزيت يغلي)، ثم أمر بأن يلقى ولدها فيه، فظلت على موقفها، ثم الثاني ثم الثالث حتى انتهى إلى طفلها الرضيع فانخلع قلبها عليه فكأنها ترددت، فأنطق الله الصبي فقال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وبداية الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في ليلة الإسراء والمعراج مرَّ برائحة طيبة، فسأل عنها جبريل، فأخبره أنها ماشطة بنت فرعون، وذكر قصتها.
وفي هذه القصة درس ظاهرٌ يتذكره الناس ويُذَكِّرون به، وفيها دروس منزوية نحاول أن نلفت النظر إليها.
فأما الدرس الظاهر فهو هذه القوة الإيمانية النفسية الرهيبة التي سكنت قلب هذه المرأة، تلك التي كان لها العذر في أن تسكت وتكتم وتنطق بالكفر وقلبها مطمئن بالإيمان، لكنها اختارت موقف العزيمة، وأي عزيمة؟! إنها مواجهة الفرعون الرهيب الجبار الذي يرتعد له آخر من في المملكة والذي لم تنتهي آثار طغيانه من نفوس بني إسرائيل بعد عشرات السنين من مهلكه أمام أعينهم!
ولو أنها واجهته بنفسها وحسب لكانت مثالا نادرا، فكيف وقد رأت احتراق أبنائها أمامها واحدا بعد الآخر، وشاهدت بعينها تفحم أجسادهم وسمعت بأذنها صراخاتهم وشمت بأنفها رائحة شواء جلودهم واحتراق لحومهم وعظامهم، هذا والله موقفٌ هائل لا يكاد يبلغ المرءُ القدرةَ على أن يتصوَّره في نفسه وأن يتمثله في عقله وخياله، فكيف بالتي واجهته حقا وحقيقة! ثم لم تتراجع!!
الموقف في ذاته موقف عظيم ضخم، وهو حين يُروى في أيامنا هذه موقف أعظم وأضخم، فإننا نشاهد هوان الدين على نفوس المسلمين، ونرى الشكوك والتردد يغزو قلوب أبناء المسلمين بأدنى شبهة ولأدنى شهوة وبأقل الضغوط. مع من فينا –والحمد لله- من الصابرين الصامدين الثابتين الباسلين الذين فقدوا أبناءهم في حروب ومظالم كثيرة، ولكنهم القلة، ثم يبقى فارق الاختيار وفارق المواجهة وفارق الصبر عظيما وضخما لصالح ماشطة بنت فرعون.فما أجدر المسلم أن يتذكر كل حين هذه المسلمة وأمثالها، فيستعين بأخبار ثباتهن على ما هو فيه من المحنة، ويأخذ من صبرهن قبسا على أيامه وبلائه حتى يلقى الله.
وأما الدروس المنزوية التي تخفى على أغلب الواعظين، فمنها:
1. نفسية الجبار الطاغية، إن الرجل الذي دانت له الألوف وعشرات الألوف في عرض البلاد وطولها ارتاع وانزعج لأن امرأة لا قيمة لها في مُلكه انطوت في قلبها على عقيدة تناقض إرادته، ولم يُعرف رفضها هذا إلا بفلتة لسان عابرة، كان يمكنه أن يتجاهل ويتغافل، فلا قتل هذه المرأة يزيد في أمجاده ولا بقاؤها يخصم من هيبته، فلا مماتها سيُروى في أخباره ولا حياتها ستُنْقِص من دولته، ومع هذا لم تسمح نفسه أن يوجد في زاوية ما من مملكته من يعارض إرادته ولو سرًّا! فأفرغ لهذا وقتا من وقته وقدَّمها على شؤون السياسة والحكم كأنما إيمانها المكتوم هذا أمرٌ أخطر وأكبر.
ثم كان من قسوته أنه لم يذهب إلى قتلها وعقوبتها، بل أراد لها أن تتوب وتندم وترجع وتعترف له بالربوبية والألوهية، وقد كان يمكن له أن يقتلها بعد أن يعذبها فيشفي رغبة ثأره ويجعلها عبرة ومثلا، لكنه لم يفعل، لعله لو فعل هذا لبقي شعوره بالهزيمة أمامها كما هو، وبقي إيمانها في صدرها كما هو، إنما أراد أن تعلن هي إيمانها به وكفرها بالله، وأن ترجع هي بنفسها ولسانها عما تعتنقه في قلبها، ولهذا جاء بأولادها ليحرقهم أمامها واحدا تلو الآخر!
لم يكن في قلبه شيئ من الرحمة بهؤلاء الصبية الذين يحترقون انتقاما من إيمان أمهم، كان مشهدهم وهم يحترقون أقل من شهوته أن يرى خضوع أمهم ورجوعها. وكفى بهذا قسوة وغلظة وطغيانا!
يجب على المرء فينا أن يراقب نفسه وطباعه، فإن انطواء النفس على القسوة قد يصل بالمرء إلى هذه الطباع الوحشية، وإن تعلق المرء بالمنصب والنفوذ والقوة وإرادته أن يخضع الناس له قد تورثه مثل هذه الطباع التي تحمله على ارتكاب أمور بهذه البشاعة، وإن كل صاحب سلطة مهما صغرت مُعَرَّضٌ لخصلة من خصال الفرعونية بقدر ما له من النفوذ، ونحن نرى هذا بأعيننا كما نشعر به في نفوسنا، فحتى الموظف الصغير يجد لذة في تحكمه بورقة أو بختم أو بتوقيع، فكيف بمن فوقه؟!
2. ومن الدروس كذلك نفسية الخاضع للفرعون، إنه هذا المجهول الحاضر في القصة، الغائب باسمه وشخصه الماثل بفعله وأثره، هذا الجندي الذي كان ينفذ أمر الفرعون فيلقي بالصبي في القدر المحميّ أو الزيت المغلي، يسمع أمر الفرعون فيطيع دون تردد ولا نقاش.
هذا التابع المطيع، الذي رافق قصة فرعون من أولها إلى آخرها، كان في أولها يهجم على البيوت فإذا رأى المولود ذكرا ذبحه تنفيذا لأمر الفرعون، وكان في منتصفها يرى معجزة موسى وإيمان السحرة به فينفذ أمر فرعون بتعذيبهم وقطعهم، ثم هو في آخرها يرى المعجزة الكونية الهائلة ويشهد بعينيه انفلاق البحر لموسى لكنه مع ذلك لا يؤمن بل ولا يتوقف ولا يفكر، إنما يسمع لفرعون ويطيعه ويخوض وراء البحر حتى يغرق معه!
هذا الجندي الفرعوني المحترف، الذي ينفذ الأوامر كما تصدر إليه، يحذف عقله ومشاعره معا، لا يهتز قلبه لمرأى الطفل المرعوب إذ ينزعه من يد أمه، ولا لصراخه إذ يرفعه إلى القدر، ولا لاحتراقه بعد أن يقذفه فيها.
فهذا أسوأ المراتب وأحط المنازل، فقد خلا من عقل الفرعون، وخلا من فطرة الإنسان، وانهار ليكون أداة القتل والتعذيب.. فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله لنا ولكم النجاة من هذه المصائر.
نشر في مجلة الممجتمع، ديسمبر 2019
على أن هذا لا ينبغي أن يُستغرب، ففي كتابنا الكريم ضرب الله مثلا للذين كفروا بامرأتين: امرأة نوح وامرأة لوط، وكيف أصرتا على الكفر وهما في بيت النبوة، وأحدهما –وهو نوح- من أولي العزم من الرسل ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، والآخر بلغت امرأته أنها كانت تدُلُّ قومها على أضياف زوجها كما جاء في بعض التفاسير، أي أنها كانت محنة فوق محنة قومها، وقد كنتُ سألت بعض إخواننا المختصين في التفسير: ما السر في أن القرآن الكريم يحرص على ذكر امرأة لوط ضمن المشمولين بالعذاب مع قومها مع أنه لا يذكر امرأة نوح إذا جاء ذكر الطوفان الذي أغرق قومها، فأجابني بقوله: أظن أن ذلك لكون امرأة لوط كانت عونا لقومها على زوجها.
وكذلك لما ضرب الله مثلا للذين آمنوا ضربه بامرأتيْن: امرأة فرعون ومريم بنت عمران، والأولى منهما آمنت بالله وكفرت بأطغى جبار في التاريخ على الإطلاق، كفرت بالرجل الذي خضعت له الممالك والرقاب وتلقب بالرب الأعلى {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] والإله الوحيد {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقد صمدت لعذابه حتى لاقت ربها!
ويصلح هذا لموضوع السطور التالية، وهو عن امرأة أيضا ضربت مثلا عجيبا في الصبر والثبات، وقد أكرمها الله بكرامة لها ظلت خالدة تُروى إلى أن تقوم الساعة.. تلك هي ماشطة ابنة فرعون!
وقصتها، كما في الحديث، أنها كانت تُمَشِّط شعر ابنة فرعون (كوافيره بالمصطلح المعاصرة) فسقط منها المشط، فتناولته وهي تقول "باسم الله" فقالت ابنة فرعون: أبي؟ فقالت الماشطة: لا، بل ربي وربك ورب أبيكِ. فأخبرت الفتاة أباها فرعون، فألقى القبض عليها وعلى أبنائها معها، وشرع في التحقيق: ألكِ ربٌ غيري؟ فقالت: ربي وربك الله. فشرع في التعذيب، فأمر بوعاء كبير من النحاس، فأحماه بالنار (وبعض الأخبار تذكر أنه ملأه زيتا، حتى صار الزيت يغلي)، ثم أمر بأن يلقى ولدها فيه، فظلت على موقفها، ثم الثاني ثم الثالث حتى انتهى إلى طفلها الرضيع فانخلع قلبها عليه فكأنها ترددت، فأنطق الله الصبي فقال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وبداية الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في ليلة الإسراء والمعراج مرَّ برائحة طيبة، فسأل عنها جبريل، فأخبره أنها ماشطة بنت فرعون، وذكر قصتها.
وفي هذه القصة درس ظاهرٌ يتذكره الناس ويُذَكِّرون به، وفيها دروس منزوية نحاول أن نلفت النظر إليها.
فأما الدرس الظاهر فهو هذه القوة الإيمانية النفسية الرهيبة التي سكنت قلب هذه المرأة، تلك التي كان لها العذر في أن تسكت وتكتم وتنطق بالكفر وقلبها مطمئن بالإيمان، لكنها اختارت موقف العزيمة، وأي عزيمة؟! إنها مواجهة الفرعون الرهيب الجبار الذي يرتعد له آخر من في المملكة والذي لم تنتهي آثار طغيانه من نفوس بني إسرائيل بعد عشرات السنين من مهلكه أمام أعينهم!
ولو أنها واجهته بنفسها وحسب لكانت مثالا نادرا، فكيف وقد رأت احتراق أبنائها أمامها واحدا بعد الآخر، وشاهدت بعينها تفحم أجسادهم وسمعت بأذنها صراخاتهم وشمت بأنفها رائحة شواء جلودهم واحتراق لحومهم وعظامهم، هذا والله موقفٌ هائل لا يكاد يبلغ المرءُ القدرةَ على أن يتصوَّره في نفسه وأن يتمثله في عقله وخياله، فكيف بالتي واجهته حقا وحقيقة! ثم لم تتراجع!!
الموقف في ذاته موقف عظيم ضخم، وهو حين يُروى في أيامنا هذه موقف أعظم وأضخم، فإننا نشاهد هوان الدين على نفوس المسلمين، ونرى الشكوك والتردد يغزو قلوب أبناء المسلمين بأدنى شبهة ولأدنى شهوة وبأقل الضغوط. مع من فينا –والحمد لله- من الصابرين الصامدين الثابتين الباسلين الذين فقدوا أبناءهم في حروب ومظالم كثيرة، ولكنهم القلة، ثم يبقى فارق الاختيار وفارق المواجهة وفارق الصبر عظيما وضخما لصالح ماشطة بنت فرعون.فما أجدر المسلم أن يتذكر كل حين هذه المسلمة وأمثالها، فيستعين بأخبار ثباتهن على ما هو فيه من المحنة، ويأخذ من صبرهن قبسا على أيامه وبلائه حتى يلقى الله.
وأما الدروس المنزوية التي تخفى على أغلب الواعظين، فمنها:
1. نفسية الجبار الطاغية، إن الرجل الذي دانت له الألوف وعشرات الألوف في عرض البلاد وطولها ارتاع وانزعج لأن امرأة لا قيمة لها في مُلكه انطوت في قلبها على عقيدة تناقض إرادته، ولم يُعرف رفضها هذا إلا بفلتة لسان عابرة، كان يمكنه أن يتجاهل ويتغافل، فلا قتل هذه المرأة يزيد في أمجاده ولا بقاؤها يخصم من هيبته، فلا مماتها سيُروى في أخباره ولا حياتها ستُنْقِص من دولته، ومع هذا لم تسمح نفسه أن يوجد في زاوية ما من مملكته من يعارض إرادته ولو سرًّا! فأفرغ لهذا وقتا من وقته وقدَّمها على شؤون السياسة والحكم كأنما إيمانها المكتوم هذا أمرٌ أخطر وأكبر.
ثم كان من قسوته أنه لم يذهب إلى قتلها وعقوبتها، بل أراد لها أن تتوب وتندم وترجع وتعترف له بالربوبية والألوهية، وقد كان يمكن له أن يقتلها بعد أن يعذبها فيشفي رغبة ثأره ويجعلها عبرة ومثلا، لكنه لم يفعل، لعله لو فعل هذا لبقي شعوره بالهزيمة أمامها كما هو، وبقي إيمانها في صدرها كما هو، إنما أراد أن تعلن هي إيمانها به وكفرها بالله، وأن ترجع هي بنفسها ولسانها عما تعتنقه في قلبها، ولهذا جاء بأولادها ليحرقهم أمامها واحدا تلو الآخر!
لم يكن في قلبه شيئ من الرحمة بهؤلاء الصبية الذين يحترقون انتقاما من إيمان أمهم، كان مشهدهم وهم يحترقون أقل من شهوته أن يرى خضوع أمهم ورجوعها. وكفى بهذا قسوة وغلظة وطغيانا!
يجب على المرء فينا أن يراقب نفسه وطباعه، فإن انطواء النفس على القسوة قد يصل بالمرء إلى هذه الطباع الوحشية، وإن تعلق المرء بالمنصب والنفوذ والقوة وإرادته أن يخضع الناس له قد تورثه مثل هذه الطباع التي تحمله على ارتكاب أمور بهذه البشاعة، وإن كل صاحب سلطة مهما صغرت مُعَرَّضٌ لخصلة من خصال الفرعونية بقدر ما له من النفوذ، ونحن نرى هذا بأعيننا كما نشعر به في نفوسنا، فحتى الموظف الصغير يجد لذة في تحكمه بورقة أو بختم أو بتوقيع، فكيف بمن فوقه؟!
2. ومن الدروس كذلك نفسية الخاضع للفرعون، إنه هذا المجهول الحاضر في القصة، الغائب باسمه وشخصه الماثل بفعله وأثره، هذا الجندي الذي كان ينفذ أمر الفرعون فيلقي بالصبي في القدر المحميّ أو الزيت المغلي، يسمع أمر الفرعون فيطيع دون تردد ولا نقاش.
هذا التابع المطيع، الذي رافق قصة فرعون من أولها إلى آخرها، كان في أولها يهجم على البيوت فإذا رأى المولود ذكرا ذبحه تنفيذا لأمر الفرعون، وكان في منتصفها يرى معجزة موسى وإيمان السحرة به فينفذ أمر فرعون بتعذيبهم وقطعهم، ثم هو في آخرها يرى المعجزة الكونية الهائلة ويشهد بعينيه انفلاق البحر لموسى لكنه مع ذلك لا يؤمن بل ولا يتوقف ولا يفكر، إنما يسمع لفرعون ويطيعه ويخوض وراء البحر حتى يغرق معه!
هذا الجندي الفرعوني المحترف، الذي ينفذ الأوامر كما تصدر إليه، يحذف عقله ومشاعره معا، لا يهتز قلبه لمرأى الطفل المرعوب إذ ينزعه من يد أمه، ولا لصراخه إذ يرفعه إلى القدر، ولا لاحتراقه بعد أن يقذفه فيها.
فهذا أسوأ المراتب وأحط المنازل، فقد خلا من عقل الفرعون، وخلا من فطرة الإنسان، وانهار ليكون أداة القتل والتعذيب.. فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله لنا ولكم النجاة من هذه المصائر.
نشر في مجلة الممجتمع، ديسمبر 2019
Published on December 05, 2019 12:45
December 4, 2019
مصير المواطن الصالح
روى الشهيد سيد قطب في مذكراته قصة بليغة معبِّرة، وهي تتماس مع ما كنا كتبناه في العدد الماضي عن "نكبة الشعوب العزلاء"، وهذه القصة الحقيقية وقعت في قريته موشا التابعة لمحافظة أسيوط، وكانت في العقد الثاني من القرن الماضي، والجدير بالذكر هنا أن هذه المذكرات التي تحكي طفولة سيد قطب وأيامه في القرية إنما كُتِبَتْ ونُشِرَت قبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي وقبل أن يتعرف على الإخوان المسلمين. وأهمية هذه القصة في أنها تختزل كثيرا من الحقائق التي لا تزال حاضرة حتى الآن.
سأنقل القصة أولا، ثم أعقب عليها بما يهمنا من الوقوف عنده.
قال سيد قطب:
"صحت القرية مروعة على صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وخطوات الجند الثقيلة، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول، ويجوسون خلالها في جلبة وضوضاء على غير عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج.وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم أن ينهضوا مع الفجر مبكرين ليغادروا القرية جميعا، فأوثقوهم بالحبال والسلاسل، وجعلوهم عندهم رهينة حتى لا يعودوا فيُنَبِئوا القرية النبأ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة على الناس وهم نيام.
ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم، وكُمِّمت أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوار العمدة الذي أوقظ في البكور، وحُجِز في غرفة من غرف دواره، ريثما يجتمع إليه مشايخ القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم، فصُنِع بهم هناك ما صُنِع بالخفراء.
وكانت القرية كلها قد استيقظت مروَّعة، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت ودرب قد فزَّعت الناس وملأت قلوبهم رعبا. ماذا؟ ماذا؟ إنها حملة لجمع السلاح!
حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية جميعا، واختار هذه الطريقة المروّعة ليبدأ بها عمله، فلم تعلم القرية ماذا يبغي، ولا حتى العمدة والمشايخ، إلا بعد أن صار المقبوض عليهم بالعشرات، ومن بينهم مشايخ البلد الخمسة، وكلهم مكتوفوا الأيدي بالحبال، تتلقاهم الأيدي بالصفع، والأرجل بالركل، دون أن يعلموا شيئا عن حقيقة ما يُراد بهم.. سوى أن الحكومة هنا، والحكومة تصنع هذا وسواه.. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش.
كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح، وعهدت في تنفيذه إلى رجال الإدارة، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عُمَد البلاد كالمعتاد، فاجتمع بذلك عدد من قطع الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع، وهو عادة لا يساوي إلا نسبة صغيرة من الموجود في أيدي القرويين.
ولكي ندرك حقيقة الحال، يجب أن نعلم أن السلاح في القرية يملكه فريقان؛ الفريق الأول: هم أصحاب الحقول والمواشي وخفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على أموالهم من اللصوص، والفريق الثاني: هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذين يجدون هذه الحرفة –على ما فيها من مخاطر- أضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول.
ونَقْصُ السلاح في أيدي أصحاب الحقول والمواشي معناه زيادة في ارتكاب الجرائم، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم ومواشيهم، أما نقص السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم في الحياة!
كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح، ولما كان العمدة يخشى أفراد الفريق الثاني تارة، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة، فإن جمع السلاح في كل مرة كان ينصبّ على الفريق الأول بكل تأكيد.
ولكن الأمور لا تجري في القرية بالعنف، ولا حسب الأوامر الرسمية، إنما تجري حسب المواضعات العرفية، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت، وما نوع كل قطعة، فإذا طلبت الحكومة جمع السلاح اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه، ولكي لا تكون المسألة مكشوفة، فإن بعض القطع الحديثة تُزَيِّن المقدار المجموع، ويُوَرَّد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة أن يحصل عليه.
وطبيعي أن هذا كله لا يتم بالمجان، فلكل شيء ثمن، ولكل خدمة مقابل في الريف، فإذا خطر للسلطات أن ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل، فالمرجع هو العمدة وبإشارته يتم كل شيء، وغداءٌ فخمٌ على أوزي وبعض أزواج الديكة والدجاج والحمام كفيلٌ مع الوسائل الأخرى بتسوية كل شيء، وإتمام المحاضر على خير ما يرام!أما هذه الطريقة المبتكرة، فقد تفَتَّقَت عنها عبقرية ذلك الضابط، الذي تعهد للسلطات بجمع السلاح جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ الذي روعت له القرية كلها في جنح الظلام.
ونعود إلى هؤلاء المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم، أُلْصِقَتْ وجوههم بالحائط دون أن يعلموا شيئا مما يُطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا أن يتلقوها بين الحين والحين، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة، أو قتل الجراد فيها، دون أن ينالوا على ذلك أجرا، لأن أجورهم –إن حُسِبَت لهم أجور- تذهب إلى جيوبٍ أخرى، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ما هي، ثم ينصرفون وبحسبهم أنهم قد انصرفوا ناجين، بعد أن يكونوا قد كُلِّفوا استحضار طعامهم من بيوتهم طوال مدة السخرة التي تنقص أو تزيد!
لم يفصح لهم أحد عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة، ولكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب ظهورهم من أيدي الجنود، عن أن اليوم ليس كالأيام، وإنما هو العذاب الأليم الذي لا يملكون له ردًّا وهم مسجونون!
ثم أخذ الرصاص يدوي فوق رؤوسهم هم والخفراء المُوثقون، والأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار!
هذا الرصاص للإرهاب، وبلبلة الأفكار، وإتلاف الأعصاب، وبينما هذا الفزع الأكبر يُخيِّم عليهم، ويكاد يُفقدهم صوابهم، أُمِر كلٌّ من المشايخ أن يُملي على الشاويشية أسماء مائتي رأس أسرة ممن يملكون سلاحا في البلدة، وأن يُعَيِّن نوع قطع السلاح التي يملكونها!
وإذا كان قد بقي فيهم إلى الآن عقلٌ أو ذاكرة، فقد أخذ كل منهم يُملي الأسماء، وكلما توقف برهة ليتذكر، نزلت السياط على ظهره وجنبيه، فارتفعت حرارة العدّ، ومضى كالمجنون يُملي الأسماء!
وانتهت العملية فإذا في يد كل جاويش بيانٌ عن مائتي عائلة تحمل سلاحا، وأمام كل اسم نوع القطع التي يملكها رأس هذه العائلة.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: كيف كانت هذه البيانات، ولا مدى مطابقتها للواقع، فالشيخ المصلوب المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه، لا يُطلب إليه في هذه الحال أن يتحرى شيئا، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم يرد اسمه في هذه القائمة، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فإنما هي لصغار الأشقياء الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ!
وانتهت هذه المرحلة ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب والفزع والألم، أما العمدة فقد اشترى نفسه وكرامته من أول الأمر، لقد كان حصيفا، رأى العين الحمراء، فسارع إلى وسيل مضمونة لإرضاء الحكام، هَدَتْه إليها تجربة طويلة وذكاء عملي ومقدرة على جميع الوسائل والاتجاهات!
ثم بدأت المرحلة الثانية، فانطلق الخفراء مع الجنود وهو مكتوفو الأيدي، يجوسون معهم خلال القرية ليدلوهم على البيوت، وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات، ويصروا على استحضار أكبرهم سنا، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار.. وهناك يُصنع بهؤلاء ما صُنِع من قبلُ بالمشايخ والخفراء قبل أن يُسْأَلوا شيئا وقبل أن يجيبوا، حتى إذا أُشْبِعوا ضربا وترويعا وإهانة صُرِّح لهم عما يُطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات. فأما إذا صادف أن كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده فقد أحسّ بالفرج وبادر بالإقرار وطُلب أن يسمح له بإحضارها، ولكنه لم يُجَب إلى طلبه، إنما يُستدعى أحد أبنائه أو أحد أفراد عائلته، فيشاهده هكذا، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات واللكمات، ثم يتلقى الأمر منه أن يستحضر قطع السلاح المطلوبة، فيخرج ركضا لاستحضارها، حتى إذا تمَّت معاينتها وظهرت مطابقتها للبيانات المكتوبة أُفرج عن الرجل وابنه أو قريبة، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة ما لَقِيا من اللكم والصفع، ومن الفزع والروع، وانصرف أهله لعلاج جروحه وكدماته بالزيوت والمُسَكِّنات!
وأما إذا صادف أن اختلفت البيانات عما عنده من السلاح، أو لم يكن لديهم سلاح أصلا، فالويل له والثبور، يُعاد جلده ولكمه وصفعه ما دام يُنكر، أو يقرّ بسلاح آخر غير السلاح المطلوب، وفي الحالة الأخيرة كان يُحْضَر السلاح الذي يملكه، ثم يظل يُطالب بقطع السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ وهو في ذهول الروع والآلام!
عندئذ يضطر المسكين أن يعترف بما ليس عنده، وأن يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد، وفي هذه المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات، لشرائها حيث تكون، فإن لم يجدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة، فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة أنهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في هذه البلاد، اطمئنانا إلى أن رأس الأسرة رهين لدى القوة، وعذابه مرهون بالوقت الذي يقضونه غائبين.
وعندما يُوفَّقون إلى القطعة المطلوبة يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع. وكثيرون انتهزوا هذه الفرصة فبالغوا في أثمان القطع المطلوبة، كما أن الكثيرين أيضا ظهرت أريحيتهم في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار.عندئذ يبتسم الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تُحضَر بعد الإنكار، ويردّ ذلك إلى عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق!
في نهاية اليوم كانت الأسلحة المجموعة تُصَنَّف أكواما أكواما، فهذه بنادق، وهذه غدارات، وهذه مسدسات، وهذه طبنجات، وهذه سيوف، وهذه سكاكين كبيرة، وهذه بلط، وهذه مزاريق، وكل "ماركة" من هذه الأنواع مرتبة وحدها، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين..
وكان في كل بيت من بيوت القرية مناحة صامتة، فهذا مشجوج الرأس، وذلك مرضوض الأضلاع، وذلك ملتهب الجلد، وهذا ممزق الأشداق، وكان نسوة وأطفال القرية يغدون ويروحون بالزيوت وكمادات الماء الساخن والبارد يسعفون بها المصابين.
وكان كثيرون من أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم وحلي نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح التي قيل إنها عندهم، وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا. لقد كان هؤلاء هم جماعة الفقراء الذين أكمل المشايخ بهم العدد، وهم في مأمن من ردّ الجميل، إذ لا قوة لهم كالأشقياء، ولا جاه لهم كالأثرياء.
ويمرّ على هذه الحادثة أكثر من ربع قرن! والطفل لا يزال يذكرها كأنها حادث الأمس القريب، لقد فزع للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة. وفي أثناء هذه السنوات يسمع أن هذا الضابط الوحش قد رُقّي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام، اعترافا بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام، فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين.
ثم يسمع إشاعات بعد ذلك أنه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات، فيحس أن كابوسا ثقيلا قد رُفِع عن صدره، وتنفس الصعداء".
انتهى الاقتباس من مذكرات الشهيد سيد قطب.. وبقي أن نُعَلِّق عليه بما هو مقصود المقال، فنقول وبالله التوفيق:
1. أما الطغيان والجبروت والإجرام في السلطة المصرية فهو حديث طويل، وليس هو المقصود بالكلام هنا، ولكنه إجرام متأصل قديم، وحتى إشارة سيد قطب إلى "الحكم التركي" الذي لا زال يعيش بعض من أدركوه، فإنما المقصود به حكم أسرة محمد علي وليس الحكم العثماني، فقد انخلعت مصر من الحكم العثماني منذ 1805 مع تولي محمد علي للسلطة، وهذا الهجوم الذي تنفذه السلطة على الناس إنما هو أسلوب محمد علي في جمع المصريين للتجنيد الإجباري، ويمكن العودة في تفاصيل هذه المآسي لكتاب "كل رجال الباشا" (ص145 وما بعدها)، ومن وقتها صار الشعب المصري كالعبيد لدى السلطة، حتى إن الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون –الذي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر- يتحدث عن تقليد مستقر في ضرب المصري بالقفا إذا دخل قسم الشرطة. (رحلة بيرتون، 1/9، 105).
إن الشعب قد صار مجموعة من العبيد بإمكان ضابط الشرطة أن يستبيحه كيفما شاء، أي أن العيش في مصر مرهون بمزاج ضابط الشرطة غالبا، فإذا خطرت له فكرة في إطار صلاحياته فبإمكانه أن ينفذها بما يحيل حياة الناس جحيما دون أن يبالي.
وبينما كانت تحتفظ القرى بنوع من الأعراف وحفظ المقامات واحترام الكبير، فإن السلطة لا تفهم هذا كله، إن حضور السلطة إلى القرية يعني انهيار كل القيم والأعراف والتقاليد، لتبرز الحقيقة الوحيدة: السيد والعبيد، وللسيد أن يفعل ما شاء بمن شاء كيفما شاء! لا معقب ولا رقيب.
ليس هذا فحسب، بل إن كفاءة الضابط تقاس بما يُحدثه من الترويع، ومن تحقيق علاقة السيد بالعبيد، فقد وصل إلى أن صار مديرا للأمن العام، ولم يلق جزاءه العادل إلا على يد مواطن "خارج عن القانون"!!
2. وأما اللافت للنظر والمثير للغيظ معا أن هذه السلطة المتوحشة لا تقيم الأمن، ولا تقضي على اللصوص، بحيث يضطر الناس إلى التسلح لحماية أنفسهم وأموالهم ، ولكن الحكومة تمنع حيازة السلاح تحت مبرر أنها الجهة التي تحتكر السلاح وتتكفل بحفظ الأمن وإقامة العدل. فكأنها تمنع عنك حيازة الماء لأنها تتكفل لك بإروائك من العطش ومع ذلك فإنها لا تفعل، فإذا حاولت أن تشرب فأنت مهدد بالعقاب!
لن نخوض الآن في حق حمل السلاح الذي هو حق أصيل للبشر منذ وُجِدوا على هذه الأرض، ولم يكن معرضا للنقاش إلا في عصر الحداثة هذا، مع أن بلاد الحداثة الآن تسمح بحمل السلاح وتتساهل في الترخيص به، إلا بلادنا، التي يُراد لشعوبها أن تعيش كالفراخ والدجاج تنتظر دورها على يد الجزّار. ولذلك كان التجريد من السلاح في مقدمة القرارات التي أصدرتها سلطات الاحتلال والتغريب منذ نابليون وحتى الآن.
لكن الذي يجب الخوض فيه والتركيز عليه، هو هذا الفارق بين الفريقيْن المسلحيْن في القرية، فثمة فريق يحمي السلاح ليدافع عن نفسه، وثمة فريق يحمل السلاح ليُهاجِم به فيسرق وينهب. أما الفريق الأول فهو خارج عن "القانون" في مسألة حمل السلاح وحدها، وأما ما سوى ذلك فهو مواطن صالح ملتزم بشروط السلطة: يؤدي الضرائب، يعمل بالسخرة، يتحاكم إلى المحاكم... إلخ! وأما الفريق الثاني فهو خارج عن "القانون" دائما، حياته هي نفسها الخروج على "القانون"..
فماذا كان المصير؟!
كان المصير أن هؤلاء الخارجين عن القانون هم الذين كانوا بمنأى عن السلطة، هم الذين كانت لهم من القوة والهيبة ما منع مشايخ البلد أن يُبْلِغوا عنهم حتى وهم في العذاب، لقد فضَّل مشايخ البلد أن يكتبوا أسماء الفقراء والتعساء ومن لم يحمل سلاحا قط ليُكملوا به العدد ولا أن يقتربوا من فئة اللصوص المسلحين..
وهكذا، لم يدفع الثمن إلا المواطنون الصالحون الملتزمون بالقانون، بل ودفعه أولئك الضعفاء الذين لم يحملوا سلاحا أصلا لأنه ليست لديهم أموال يحرسونها أو ليست لديهم أموال يشترون بها سلاحا، بينما نجا من هذا المصير أولئك الذين مزَّقوا القانون وخرقوه ووضعوه تحت أقدامهم وعاشوا حياتهم لا يعترفون به ولا يقيمون له وزنا.
وهذا الوضع مستقر مستمر حتى يومنا هذا، فالسلطة في بلادنا تتحالف مع اللصوص والبلطجية ومنظمات الإجرام وتجار السلاح والمخدرات والأعضاء البشرية والآثار، وبينهما تحالفات وصفقات وخدمات متبادلة، بينما لا يُطبَّق القانون إلا على "المواطن الصالح"، فهذا المواطن الصالح يعاني من البلطجي واللص والمجرم ثم لا يجد طريقا إلا أن يشتكي للشرطة، وعند الشرطة يعاني مرة أخرى، بحسب ما يجده من الظروف وما يكون من مزاج الضابط الذي سيتولى أمره.
في هذه الحال، يجب أن يسأل المرء نفسه: هل من المفيد أن تكون هذا "المواطن الصالح"؟
3. وقعت هذه القصة في قرية موشا المنزوية في بلاد الصعيد، ولكنها تعبير حقيقي ممتاز عن السياسة الدولية، القوة الدولية التي تمثل السلطة العليا يمكنها أن تستبيح ما تشاء من العبيد بفارق القوة التي تملكها، وحتى السلطة المحلية التي تخدمها وتوفر عليها الوقت والجهد، يمكن أن يعنّ لها في بعض الأحيان أن تتجاوزها وتتدخل بنفسها لتنفذ ما تراه في صالحها.
إن عمدة القرية لم يكن متمردا، ولا مشايخ البلد، بل هم ممثلوا السلطة العليا، هم الذين يديرون لها الأموال والثروة ويجمعون لها الضرائب والعاملين بالسخرة، ولكنهم يحتاجون في سبيل هذا لبعض المهارة والحكمة التي تفرضها الأعراف التي جعلتهم في موضع السلطة فيراعونها. السلطة القوية الغاشمة لا تعترف بهذا كله حين تريد. مثلما لا يتردد الضابط وجنوده في حبس العمدة ومشايخ البلد وإهانتهم، لا يتردد ترمب في إهانة وإذلال عملائه في السعودية ومصر رغم أنهم لم يفكروا في التمرد عليه، فهو ينهب بالمليارات ويفرض العقوبات ويهدد ويسخر، والعبيد يواصلون الخدمة ولا يفكرون في التمرد!
وحدهم الذين تسلحوا بأنفسهم، وغامروا بها، وخاطروا، وصاروا لا يبكون على شيء.. وحدهم الذين ينجون من الإهانة والإذلال.. فإما عاشوا كما أرادوا، وإما ماتوا موتا سريعا لا إهانة فيه ولا إذلال. وحدهم أولئك الذين استطاعوا الانتقام من الضابط الوحش الذي صار بوحشيته مدير الأمن العام!
استشهاد القسام وعزام
مرت في شهر نوفمبر ذكرى استشهاد رجلين من أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامي الحديث، وهما الشيخ عز الدين القسام (20 نوفمبر 1935م) والشيخ عبد الله عزام (24 نوفمبر 1988م)، وكلا الرجلين مثَّل رمزًا للمقاومة الإسلامية في عصره وفي الأجيال التالية له حتى يوم الناس هذا!
كلا الرجلين من رجال الأزهر الشريف، غير أنك لن تجد الأزهر المعاصر يحتفي بهما ولا يذكر لهما مآثرهما ولا يدرس سيرتهما، وما ذلك إلا أن محاولات تحطيم الأزهر وتدجينه قد آتت ثمرتها، وصار الأزهر يدفع عن نفسه وصمة التطرف والإرهاب!!وكلا الرجلين وجد طريقه للجهاد حين أغلق عليه الجهاد في بلده، فقد جاهد القسام في سوريا حتى أغلق عليه السبيل وضاقت به المسالك، فوجد سبيلا له للجهاد في فلسطين حتى لقي الشهادة. وحاول عزام أن يتصدى في قلة للاجتياح الإسرائيلي لقريته في نكبة 1967 ثم ضاقت عليه سبيل الجهاد في بلده فوجد سبيله للجهاد في أفغانستان وكان شيخ المجاهدين العرب. وبهذا حقق الرجلان بسيرتهما واستشهادهما واقع أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن الأمة أمة واحدة، وأن الحدود بينها ليست إلا ترابا وخيالا ولو تواطأ على ترسيخها وتعزيزها طواغيت الغرب والشرق.
وكلا الرجلين لا يزال حيا في ضمير الأمة وبين صفوة شبابها رغم أن السلطة ومنافذ تعليمها وثقافتها وإعلامها يعمل على طمسه وطمره أو على وصف طريقه ومنهجه بالتطرف والإرهاب، فضمير الأمة أبقى وأعمق، هذا مع أنه يجب أن نلوم كثيرا من الحركات الإسلامية كذلك أنها لم تسع في إحياء سيرة هذين الرجلين ولا تدريس سيرتهما ولا العناية بإنتاجهما (لا سيما الإنتاج العلمي الكبير لعزام)، فالذين حملوا على عاتقهم إحياء هذه الذاكرة إنما كانوا من الشباب الذين خلت أيديهم من عوامل القوة والنشر والترويج.
حماس والجهاد الإسلامي
من أخطر ما وقع في الساحة الإسلامية الشهر الماضي هي الحرب التي عانت منها غزة، والتي بدأت باغتيال القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا. إن ثمة انقساما حصل في ساحة غزة التي هي من أهم معاقل المقاومة، ونموذج المقاومة الراشدة التي تمزج السياسي بالعسكري وتوازن بين قوة العقل وقوة الساعد، وغزة عزيزة على كل مسلم، ثم هي أعز على كل مهموم بشأن الإسلام وشأن المقاومة. إن غزة بقعة مضيئة في الصمود ونموذج لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا، مع ما في كل تجربة من الهنات والأخطاء التي لا تخلو منها تجربة بشرية.
لكن الذي حدث هذه المرة هو الأخطر في سياق أن العدو استطاع أن ينفذ عمليته بعد تخطيط وتصعيد إعلامي ثم عملية ميدانية تستهدف بوضوح إنشاء حالة الانقسام والشقاق بين حماس والجهاد، وهو الأمر الذي لا نستطيع القول أنه قد فشل فيه، بل على العكس، ما نراه من الحوارات بين شباب الفصيلين وما ندّ من بعض العناصر من الأفعال يشير إلى وضع مثير للخوف والقلق على العلاقة بينهما، وهو أمر يجب أن تتداعى له العقول والقلوب للإصلاح قبل أن يتسع الشقاق. ولعل هذا يكون أولى أولويات أهل الرشد في الساحة الفلسطينية!
الحكم بإعدام هشام عشماويأذاعت صفحة المتحدث الإعلامي للعسكر المصري أنهم حكموا بالإعدام على هشام عشماوي، رائد الصاعقة المنشق عن الجيش المصري، ومؤسس تنظيم المرابطين، ولكن اللافت للنظر أن جملة التهم التي أذاعتها هذه الصفحة لا تتضمن فيما بينها اعتداءا واحدا على مدنيين، بل كانت كل التهم هي مشاركته أو تنفيذه في قتال ضد العسكريين. وهذا الوضع طبقا للعلوم الأمنية العلمانية وتشريعاتهم القانونية لا تندرج تحت مسمى "الإرهاب"، بل يدرجونها تحت مسمى "التمرد"، فالإرهاب هو غالبا عمل ضد المدنيين وبلا أهداف سياسية وليست له حاضنة شعبية ولا يعبر عن قضية مشروعة، بينما التمرد هو عمل ضد نظام السلطة وله قضية مشروعة ويتمتع بحاضنة شعبية ويسعى لتحقيق أهداف سياسية.
والشاهد أن السلطة المصرية نفسها التي تهرف بوصف الإرهاب لم تحاول حتى أن تلفق تهمة "إرهابية" لخصمها الذي أزعجها، والذي لم تستطع أن تصل إليه بنفسها، وإنما سُلِّم لها تسليما.
وبالنسبة للسلطة المصرية فيعتبر الحديث عن محاكمة عادلة نوعا من الهزر والسفاهة، فإذا كان الذي هتف في وسط الجموع وأمام الشاشات "سلميتنا أقوى من الرصاص" قد حُكِم عليه بالإعدام عدة مرات وبمئات السنين، فكيف بالذي خاض المعركة ضدهم، من بعد ما كان واحدا منهم؟!
ولا يمكن في هذه العجالة الحديث عن قضيته، وقد تناولناها سابقا في هذا المقال، ولكن الذي يمكن قوله: إنه وإن لم ينصفه التاريخ بعد سقوط هذا الحكم العسكري، فحسبه أن الله هو الرقيب الحسيب الذي لا يُظلم عنده أحد.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on December 04, 2019 09:25
November 21, 2019
مذكرات الشيخ رفاعي طه (20) السادات لم يدعم التيار الإسلامي ولم يتسامح معه
مذكرات الشيخ رفاعي طه (20)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
السادات لم يدعم التيار الإسلامي ولم يتسامح معه وأرسل نائبه حسني مبارك لكي لا يذهب منصب رئيس الاتحاد لشاب ملتحٍ
· قصة الفوز بأول انتخابات لاتحاد الطلاب، وكانت فكرتي التركيز على الأطراف· تصرفنا في أموال اتحاد الطلاب لمصلحة الطلاب مما أكسبنا ثقتهم وتقديرهم!· نظمنا الرحلات الدينية بدل الرحلات المختلطة، ونظمنا رحلات لزيارة المقابر!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي – (15) بداية زعامة صلاح هاشم – (16) محاولة الإخوان الهيمنة على جامعة أسيوط – (17) كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية؟ - (18) الانشقاق بين الإخوان والجماعة الإسلامية في أسيوط – (19) أخفقت في التوفيق بين الإخوان والجماعة الإسلامية
وصفتُ في الحلقات السابقة كيف تطورت العلاقة بين الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين في جامعة أسيوط حتى الانفصال وبعض العداء، لقد كان هذا هو المشهد الداخلي بين الشباب الإسلامي، وهو مشهد حزين مؤسف، وأما المشهد الخارجي الدعوي فهو مشهد مشرق..
في ذلك العام (1978م) كان أول فوزنا بانتخابات اتحاد الطلاب.. وما أدراك ما اتحاد الطلاب؟!
في ذلك الوقت كان "اتحاد الطلاب" قوة حقيقية، وكانت اللائحة الجامعية تجعل منه كيانا قويا وتحت يده مقدرات وافرة، وأتذكر أن ميزانية اتحاد الطلاب في السنة التي تولى فيها عادل أسعد الخياط بلغت ثلاثين ألف جنيه، وهذا في زمن السبعينات مبلغ ضخم. وهذا المبلغ لا يمكن صرفه إلا بتوقيع رئيس اتحاد الطلاب نفسه، ولا يملك أي أستاذ جامعي أن يصرفه، وكان للاتحاد شرعية التعبير عن الطلاب، وفي إمكانه استعمال واستثمار مقدرات عديدة في الأنشطة الطلابية.. وباختصار، فإن التيار الذي سيفوز بانتخابات اتحاد الطلاب قادر على التأثير في مجتمع شباب الجامعة تأثيرا قويا..
يبدأ الطلاب الذين يريدون الترشح على قائمة اتحاد الطلاب بتجهيز أنفسهم منذ الشهر الأول في العام الدراسي، شهر أكتوبر، يجهزون بعض الأوراق على المستوى الرسمي لتقديمها إلى لجنة "البتّ" أو لجنة الفحص، وهي لجنة من موظفي الجامعة تفحص الأوراق من حيث تحقق بعض الشروط كألا يكون الطالب متهما بسلوك مشين أو نحو ذلك، ولكن اللجنة كانت من وسائل السلطة في استبعاد الطلاب الذين تراهم مزعجين، فربما تقدَّم لها ثلاثون أو أربعون، لكنها لا تجيز منهم إلا عشرة فقط.
لهذا كنا ندخل إلى اللجنة بكامل ثقلنا، بحيث أنهم مهما استبعدوا من الأسماء يبقى من المُجَازِين من هو منا، وفيما بعد صارت هذه اللجنة لا تجيز إلا من اطمأنت إليهم السلطة أو كانوا من عملاء الأمن بين الطلبة.
انبثقت الفكرة من الشيخ صلاح هاشم، سأل: لماذا نحن كجماعة إسلامية لا ندخل انتخابات اتحاد الطلاب؟ إننا نستطيع الفوز فيه؟
ووجد السؤال موقعه في نفوسنا: لماذا لا نفعل؟ هذا الاتحاد يستولي عليه طلاب من التيار اليساري، أو شلل منتفعة لا لزوم لها، فكرة ممتازة.. ولكن، هذا الأمر جديد علينا، فكيف نفعله ونفوز؟
أول ما فكرنا فيه: من هو المرشح المناسب؟
اقترح صلاح هاشم أن يكون مرشحنا عادل أسعد خياط، شاب متدين، من أسرة كبيرة من مركز إخميم في محافظة سوهاج، ذو مال من أسرة تعمل بالتجارة، يستطيع أن يقوم بعبء الترشح والحملة الانتخابية البسيطة، ونحن من ورائه عصبة ودعما وسندا. وكان صلاح هاشم بمثابة الأب الروحي أو الأخ الأكبر له، ولم يكن لعادل توجه إسلامي محدد، إنما هو شاب متدين عموما.
واستفدتُ من خبرتي القديمة في اتحاد الطلاب، فلقد كنت فيه ضمن الأنشطة التي صنعتها منفردا كما سبق الذكر، فألقيتُ فكرة مهمة كانت هي السرّ في الفوز..
في ذلك الوقت كانت جامعة أسيوط هي الجامعة الوحيدة في جنوب الصعيد، فكانت لها فروع في محافظات سوهاج وقنا وأسوان، في كل هذه المحافظات كان ثمة كليات تابعة لجامعة أسيوط، وهذه الكليات هي التي كان نواة جامعات المحافظات فيما بعد: جامعة سوهاج وجامعة جنوب الوادي وجامعة أسوان، فكانت الفكرة كالآتي، قلت لهم: إن الطالب المنافس (واسمه القرشي) يعتمد على الأصوات في جامعة أسيوط نفسها، فلنقم بالخطوة التي لن ينتبه إليها أحد، لنركز اهتمامنا على كليات الفروع في سوهاج والمنيا وأسوان، هذه الكليات لا يُنْتَبَه لها عادة، فإذا كسبنا اتحاد الطلاب في هذه الكليات فقد قطعنا نصف الطريق أو أكثر منه نحو اتحاد طلاب الجامعة، ولن يبقى لنا إلا الفوز بكلية أو اثنتين من كليات جامعة أسيوط نفسها.. والواقع أنه يجب علينا أن نبدأ في هذا من الآن.
استحسن الإخوة هذه الفكرة، وتواصوا بالكتمان، وحذروا أن تتسرب، ثم بدؤوا الحركة في هذه الكليات الفرعية، وانتدبنا لهذه المهمة إخوة بأعيانهم، كانوا تابعين لنا في هذه الكليات، ليترشحوا ويفوزوا، وقد نجحت الخطة فعلا، وفاز كل مرشحينا في سوهاج وقنا وأسوان، ففي كل هذه الكليات حزنا منصب رئيس اتحاد طلاب الكلية ونائبه، وهكذا حسمنا الموقف:
كان مجلس الجامعة يتكون من عشرين مقعدا تعبر عن عشر كليات، لكل كلية مقعدان: رئيس اتحاد طلاب الكلية ونائبه، فكان فوزنا في سوهاج وقنا وأسوان قد ضمن لنا أربعة عشر مقعدا عن سبع كليات تتوزع في هذه المحافظات.لم يحز منافسنا على صوت واحد من خارج أسيوط، وهكذا كان الفوز مضمونا، وصار عادل أسعد الخياط رئيس الاتحاد!
هذا الفوز كان فوزا إسلاميا عاما، لقد كنا في هذه المرحلة مع الإخوان في كيان واحد، لم يكن قد وقع الانشقاق بيننا ساعتها، وأتذكر المجهود العظيم الذي بذله شباب الإخوان أيضا، بل والمجهود الكبير الذي بذله الدكتور محمد حبيب، وكان في ذلك الوقت أستاذا بكلية العلوم، وكان شخصية بارزة وتربوية وتوجيهية مرموقة، ونحن كنا نحبه ونُكبره وننجذب إليه، وكانت جولاته وحديثه مع الطلبة من أكثر ما يؤثر فيهم ويجذبهم لانتخاب شباب الجماعة الإسلامية.
وقد حاول د. حبيب فيما بعد أن يجعل مؤسسة اتحاد الطلبة محايدة تخدم الاتجاهين (خصوصا بعد وقوع الانشقاق بين الإخوان والجماعة الإسلامية)، ولكن ما كان هذا ممكنا، لقد كان عادل أسعد الخياط رئيس الاتحاد من شباب الجماعة الإسلامية، فكان الاتحاد تابعا لنا. ويمكن القول بأن موقف عادل أسعد الخياط قد ساهم بشكل كبير في بروز الجماعة الإسلامية.
استمر عادل رئيسا لاتحاد طلاب الجامعة إلى أن صدر قرار السادات في السنة التي تليها (1978/ 1979) بحل اتحاد الطلاب، وهذا كان أول قرار يتخذه السادات في حل اتحادات الطلاب على مستوى مصر كلها، وهذا يدحض المقول الرائجة الشائعة بأن السادات دعم التيار الإسلامي أو أفسح له لمواجهة التيار اليساري، هذه مقولة غير صحيحة بالمرة.
لم يكن السادات داعما للتيار الإسلامي ولا حتى متسامحا معه، لقد أرسل السادات نائبه حسني مبارك إلى جامعة عين شمس ليجتمع باتحاد الطلاب في الجامعة لكي يفرض عليهم ألا يترشح طالب ملتحٍ على رأس الاتحاد! تأمل كيف يهتم رئيس الدولة بإرسال نائبه ليفرض على الطلاب ألا يأتي متدين لمنصب رئيس اتحاد الطلاب في جامعة!!
ومع ذلك كسر الطلاب هذه المعادلة، وحاز الشباب الإسلامي على اتحاد الطلاب، كان الجميع ساعتها يُسَمَّى "الجماعة الإسلامية" رغم أنهم لم يكونوا جماعة واحدة، بل كان الإخوان هم الأقوى في القاهرة وعين شمس، وكان السلفيون هم الأقوى في الإسكندرية، ونحن كاتجاه مستقل كنا الأقوى في أسيوط والصعيد. لكن المشهد الإسلامي العام أمام الدولة كان مشهدا واحدا تعبر عنه لافتة واحدة هي "الجماعة الإسلامية".
الواقع أن السادات دخل صراعا مبكرا مع الحركة الإسلامية، وهو من ابتدأ هذا الصراع، وكان جذريا فيه إلى حد مطاردة الإسلاميين في منصب رئيس اتحاد الطلاب!!!
نعود للاتحاد..
كانت أهم إنجازاتنا في الاتحاد أن أحسنا استثمار الميزانية الكبيرة التي كانت تذهب إلى الجيوب ويوزعها النافذون فيما بينهم، أتذكر من بين هذه الأموال منحة تسمى "منحة البكالوريوس"، وقد كانت تعطى لأبناء الطبقات الغنية ينظمون بها رحلات إلى المصايف، وربما أنفق في الرحلة ألف جنيه أو عشرة آلاف جنيه (وهذا مبلغ كبير في ذلك الزمن). فأما حين تولينا شأن الاتحاد فقد ألغي هذا كله، وشرعنا في تنظيم رحلات دينية بالحافلات.
لقد اكتسبنا ثقة الطلاب بحسن تصرفنا في هذه الأموال، لأول مرة يرى الطلاب "الكتاب المجاني"، لقد اقتطعنا من ميزانية الاتحاد ما نوزع به الكتب على الطلاب الفقراء، كذلك أحضرنا الأزياء الإسلامية لمن تريد أن ترتدي الزي الإسلامي، وزَّعنا إعانات مالية للطلاب الفقراء، دفعنا إيجارات للعاجزين عن دفع الإيجارات من الطلاب الذين قدموا من سوهاج وقنا وأسوان، أخرجنا الطلاب في رحلات مجانية من خلال الحافلات التي يملكها الاتحادات..
وكان من بين هذه الرحلات، رحلات لزيارة المقابر!!
وزيارة المقابر معنى ديني معروف، أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم لترقيق القلوب، ولكنه كان رؤية جديدة لمسألة الرحلات.
ولقد تبنى اتحاد الطلاب مواقف سياسية مخالفة لرئيس الدولة، وبالذات في مسألة اتفاقية كامب ديفيد، وكانت هذه المرة الأولى، إذ يفترض أن هذا الاتحاد مؤسسة تابعة للدولة، لكن الاتحاد عبر عن الشباب والطلاب ولم يكن يعبر عن الدولة.
وعلى هذا الوضع انتهت هذه السنة، نجاح في المشهد الإسلامي العام، وانقسام في المشهد الإسلامي الداخلي، عادل أسعد الخياط هو رئيس اتحاد طلاب الجامعة، وناجح إبراهيم هو أمير الجماعة الإسلامية بالجامعة.. ودخلنا إلى الصيف.
كان صيف العام 1978 عامرا بالنشاط الدعوي في كل محافظات مصر، حين أنهينا الدراسة الجامعية هذه السنة بدأ نشاط الدعوة، كانت حافلات (أوتوبيسات) اتحاد الطلاب تحت تصرفنا، فكنا نذرع بها مصر ذهابا وإيابا في نشاطات ومعسكرات ومحاضرات مختلفة. وكان طلاب الكليات في سوهاج وقنا وأسوان ضمن المجال الطبيعي لعملنا كاتحاد لطلاب جامعة أسيوط، وخدمة هؤلاء الطلاب من صميم نشاطنا.
في ذلك الصيف نظَّمنا ثلاث معسكرات للطلاب، واحد في سوهاج، وواحد في الجيزة، وواحد في أسوان، وفي كل معسكر يحضر الطلاب من هذه الكليات أو حتى من خارجها، من داخل الجماعة الإسلامية أو من غيرها، إن المسألة وإن كانت نشاطا طلابيا في صميمها إلا أن لها آثارا اجتماعية تتجاوز شريحة الطلاب كلها.
وبهذه المناسبة، أقول: إن طلاب الكليات كانوا يشاركون في انتخابات اتحاد الطلاب، لكن نظامنا الداخلي كجماعة إسلامية لم يكن بالانتخاب، وإنما هو أقرب إلى نظام "أهل الحل والعقد"، هذا مع انتشار الجماعة في الكليات وفروعها. في ذلك الوقت كانت الطيبة والصدق والصفاء هو الغالب على الشباب، يجتمع "الإخوة الكبار" –وهو مصطلح يعني السابقين من الطلاب في العمل الدعوي وتأسيسه والقدامى الذين عملوا به في صفوف الطلاب- فيختارون من بينهم من يرونه الأصلح للإمارة في الجامعة ثم الأصلح لإمارة بقية الكليات، وقد كانت العادة أن هذا الذي يُختار لهذا الموقع يدفعها عن نفسه ويرفضها بصدق وينكر ذاته على الحقيقة، ويجتهد ليصرفها إلى غيره ثم يجتهد إخوانه ليحملوه عليها، كان التدين الحقيقي موجودا في ذلك الوقت، لم يكن ثمة تنافس أو تنازع أو تسابق على المسؤوليات كالذي نراه الآن. وكنا في هذا الوقت نُوَلِّي من نحسبه على خير، ومن نتوسم فيه الفهم، فهم الدين، وقد كان فهم الدين رقراقا راقيا صافيا، لم يكن الأمر مثل ما هو الآن!
نعود لشأن الرحلات..
كان أول ما تتميز به رحلاتنا أن كانت غير مختلطة، رحلات للشباب ورحلات للفتيات، وكان اهتمامها التثقيفي الديني هو الطاغي عليها، نطلب مشاهير المشايخ والدعاة والعلماء لإلقاء المحاضرات، وننظم توزعهم بين المعسكرات. لم يكن ثمة نشاط رياضي أو إعداد بدني بخلاف الطوابير الرياضية العادية، لقد نسيت بالفعل الحلم القديم: حلم الانقلاب العسكري، جرت في النهر مياه كثيرة، واندمجت في الجماعات الدعوية تماما: مجموعة الشيخ السماوي ثم الجماعة الإسلامية.. ثم عرفت فيما بعد أنه لم تكن ثمة رؤية موحدة أصلا.
لقد كنا نعمل بالدافع الإسلامي الدعوي العام والبسيط، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على نشر الدين وعلى أن يشيع الالتزام به بين المسلمين، كانت مظاهر اللحية والحجاب والنقاب هي ذاتها مظاهر النجاح، وقد كانت تنتشر باضطراد.. سنكتشف فيما بعد، حين تتحول الجماعة الإسلامية إلى تنظيم مع محمد عبد السلام فرج أننا طوال عملنا الدعوي النشيط الحافل هذا لم نفكر ماذا نريد أن نفعل؟!
كان الكل يعمل حسب طريقته وأفكاره، في سحابة عامة غامضة من التصورات والرؤى، تشغلنا المهمات اليومية والأمور التشغيلية وترتيب شأن المعسكرات والندوات والمحاضرات والخطب ونحو ذلك عن أن نجعل لكل هذا هدفا نهائيا نصل إليه، لم نجلس مرة لنسأل أنفسنا: ماذا ينبغي أن نفعل بهؤلاء الشباب، ولا حتى بسؤال كيف ينبغي أن يفعل هذا الشباب حين يتدينون في واقعهم الذي يصادم هذا الدين؟! نحن نعرف وبشكل نظري أن الواقع يجب أن يتغير، ونقوم بالدعوة إلى الله، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، نقسم الحكام القائمين كلٌّ حسب وصفه، نرى أن هذا كله هو أول الطريق إلى إقامة دولة الإسلام.. لكن كيف؟!.. لا توجد خطوات عملية، لا يوجد تصور كيف سنصل إلى الدولة الإسلامية ولا كيف سنبلغ مرحلة الخلافة، ولا كيف سنزيل هذه الأنظمة الجاهلية الكفرية القائمة.. لكن هذا كله كان بمثابة الأحلام المحلقة التي تراودنا ونتشرب لذتها في صحونا ومنامنا، حلم دولة الإسلام القوية والخلافة الراشدة الموعودة.. هذا الحلم كان يزيدنا حماسة في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونرجو أن نكون ممن يفعل ذلك ولا يخشى في الله لومة لائم.
هل لم نكن نتناقش؟!
بلى، كنا نتناقش ونتحاور ونتبادل الآراء والتصورات، رفاعي –مثلا- يرى أن الأمر لا يتغير إلا بانقلاب عسكري في النهاية وينبغي أن ندعو ضباط الجيش وهكذا، غيره يتصور طريقة أخرى، لكن لا أحد يعمل على تحقيق تصوره، لا رفاعي يدعو ضباطا في الجيش أو يجمعهم، ولا الآخر يفعل أيضا!
وفيما بعد ومع تطور وتعدد النقاشات كانت السحابة الغامضة تسفر عن بعض الوضوح، لقد وصلنا في النهاية إلى تصور نظري، وهو أيضا غير مدعوم بأي حركة عملية، هذا التصور النظري يقول بأن الأمر في مصر يتغير عبر الثورة الشعبية المسنودة بقوة مسلحة.
بقدر ما كان نشاطي ينمو، وأعمالي الدعوية تتسع، بقدر ما كان ينمو معه الخوف والقلق في نفس أبي وأمي، كنتُ شخصا ذا قدر وهيبة واحترام في بيتنا، أبذل لأبي وأمي الاحترام اللائق بهما، لكنهما يبذلان لي احتراما مقابلا، كنتُ من يشير عليهما، وكانا يلجآن إلي: ماذا نفعل في كذا وكذا؟.. ولقد كان هذا نمطا عاما رأيته في جيلنا، أقصد قيادات العمل الطلابي الإسلامي، رأيتهم يحملون مسؤولية بيوتهم، ولهم القدر الوافر من الاحترام والتقدير في نفوس آبائهم وأمهاتهم. وهذا الأمر تسمعه –لو سألتَ- من الشيخ أسامة حافظ والشيخ عاصم عبد الماجد والشيخ كرم زهدي.. لم يكن يقع بيننا وبين آبائنا صدام في البيوت، على العكس، لقد أسلموا لنا القياد، إسلاما تحوطه المحبة والتقدير.. ويحوطه أيضا الخوف والقلق.. الكثير من الخوف والقلق والحذر!
ثم بدأ العام الدراسي الجديد في خريف 1978.. ولقد كان عاما عامرا أيضا!
نشر في مجلة كلمة حق
Published on November 21, 2019 13:10
November 6, 2019
من شهيد التذكرة إلى شهيد الشهامة.. نكبة الشعوب العزلاء!
في لحظة كتابة هذه السطور عمَّت مصر فاجعة جديدة، شابان لا يمتلكان أجرة القطار، أجبرهما الكمسري على النزول منه وقد بدأ القطار في السير، وإلا فإنه سيسلمهما إلى الشرطة في المحطة التالية. ولأن الشرطة في مصر نموذج للرعب الفظيع فقد كان أهون على الشابين أن يخاطرا بالقفز من القطار المتحرك، قفز أحدهما ففقد ساقه، وقفز الآخر فسقط تحت القطار فانفصلت رأسه عن جسده!وهكذا بدأت قصة شهيد التذكرة!!
الكارثة هنا كثيفة الجوانب، يمكن أن نلعن السيسي الذي تسبب في الفقر حتى عجز الشاب عن أجرة قطار، ويمكن أن نلعن الكمسري –ممثل السلطة في القطار- الذي كان له من السطوة والنفوذ ما يملك به أن يجبر اثنين على إلقاء أنفسهما في الموت، ويمكن أن نلعن الجبن والعجز الذي شمل ركاب القطار حتى لم يستطيعوا أن يدافعوا عن الشابين في وجه الكمسري أو حتى لم يستطيعوا أن يجمعوا لهم من أموالهم ما يبلغ قيمة التذكرة، ويمكن أن نلعن جهاز الشرطة المصرية السفاح القبيح الذي صار جهاز خوف دونه الإقدام على الموت، وأخيرا: يمكن أن نلعن الخوف الذي منع هذين الشابيْن أن يفتكا بالكمسري أو حتى أن يقفزا به معهما إلى الموت!!
وهذه القصة ليست سوى حلقة واحدة في مسلسل مصري طويل..
ولئن كانت هذه القصة ستشغل المصريين زمنا، فلقد سبقتها مباشرة قصة أخرى، قصة الفتى محمود البنا، حتى تحولت قضيته إلى رأي عام، وخلاصة القصة أن محمودا رأى فتية آخرين يتحرشون بفتاة فحاول الدفاع عنها، فأفلتت الفتاة لكنهم اجتمعوا عليه، وأخرج أحدهم مطواة فطعنه بها فقتله! ولأن الجريمة صُوِّرت بالفيديو فقد كانت أشد تأثيرا، ولأن التحرش جريمة ينتفض لها الجميع بمن فيهم الإسلاميون والليبراليون والنسويون فقد صارت قضية رأي عام. وقد زاد في المأزق أن القاتل من أسرة نافذة، والنفوذ في مصر فوق القانون وفوق الأخلاق وفوق الفطرة، وتطورات القضية حتى الآن برغم ما يحوطها من الزخم الملتهب تسير في صالح القاتل، وفيما يبدو سيذهب دم المقتول هدرا.
ثمة جزء هامشي صغير حاول البعض إثارته، ولكنهم فوجئوا بهجوم شديد، ذلك أن الفتى القتيل هو ابن رجل كان مشهورا بالولوغ في دم الإخوان المسلمين منذ أيام الانقلاب، وشارك في حملات مطاردتهم وضربهم وتحطيم ممتلكاتهم، وكان يفخر بهذا ويعلنه ويكتبه ويحرض عليه ويهدد ويتوعد! فهو الآن يذوق حرقة قلبه على ولده كما فعل هو نفسه في قلوب عدد لا نعرفهم من المسلمين.
نعم، إن هذا جزء هامشي بسيط في القصة والغرض الذي نكتب لأجله هذه السطور، لكنه يجب ألا يفوت، ويجب ألا يُنْسَى، بل يجب أن يُذَكَّر به، فإن العاقبة تردع الظالم أحيانا. ومع هذا فلا يمنع هذا من التعاطف مع الفتى المقتول، ولا السعي في الاقتصاص له من قاتله، ولا التهوين من دمه، ولا الشماتة فيه.
وبعد أن يتضح هذا نبدأ في الحديث عن الغرض من ذكر هذه القصة ثم ما يليها:
حسب القانون المصري المليئ بالخروق القانونية فلن تكون عقوبة القاتل الإعدام، ولو افترضنا أنها ستكون فذلك سيكون بعد شهور أو سنين، وبعد أن تنفق أسرة الفتى المقتول ظلما من الأموال والنفوذ والوسائط ما تستطيع أن تعادل به تأثير نفوذ أسرة القاتل وأموالها. وبهذا يكون أهل القتيل قد خسروا حياة ابنهم الفتى الناضر في مقتبل العمر، وخسروا معها أطنان الأموال لجمع الوساطات ورشوة القضاة والشهود ليشتفي صدرهم بموت القاتل. هذا مع أن الجريمة واضحة ومصورة، فلا هي غامضة ولا هي معقدة.
وقد ينفقون هذا كله ثم لا يعاقب القاتل إلا بسنوات معدودة في سجن الأحداث، أو حتى في سجن الجنائيين، وهو السجن الذي يمكن لأهل النفوذ والمال تحويله إلى حياة جيدة، ثم يخرج قبل أن يكمل المدة بعفو عام أو بقضاء نصفها أو ثلاثة أرباعها أو نحو ذلك.
لماذا؟.. ما الذي أوصلنا إلى هذا الشكل المعقد؟!
أشياءٌ كثيرة أوصلتنا إلى هذا الوضع، لكن أهمها في الواقع شيء بسيط جدا.. أن الفتي المقتول، لم يكن يمتلك سلاحا!!
بحسب الفيديو المنشور، حين رأى الفتى أنه يواجه مسلحين حاول الهرب، لكنهم حاصروه، ثم طعنه صاحب السلاح. هنا تبدو اللحظة الفارقة في أوضح أشكالها، كان أحدهم يمتلك سلاحا وكان الآخر أعزل، لقد كان المشهد سيختلف تماما لو أن الفتى كان يمتلك سلاحا يدافع به عن نفسه، أو كانت الفتاة التي وقع التحرش بها تملك سلاحا تدافع به عن نفسها، في هذه الحالة لن تمتد يد المتحرش على الفتاة ثم لن تمتد يد القاتل على الفتى إلا وهو يعرف أن الثمن الذي سيدفعه ربما يكون: حياته، أو عاهة دائمة، أو جرح عميق يظل علامة في وجهه وجسده سنين عددا!
غياب هذا السلاح البسيط من يد المقتول هو الذي صنع هذه المأساة..
إن المواطن الصالح الملتزم بالقانون هو المواطن المقتول المقهور المذبوح، وغياب السلاح من يد المقتولين المقهورين المذبوحين، هو الذي يجعلنا نتوسل مؤسسات الدولة وقضاءها وشرطتها وساستها وإعلامها ونبذل لهم الأموال والدموع ليتكرموا علينا بعقاب القاتل، وربما نجحنا في استدرار عطفهم وتوسل كرامتهم فعاقبوه كما أردنا، ولكن الأغلب أننا لا ننجح.. ونعود بهوان الدنيا وخزي الحياة وغيظ الصدور وقهر الرجال!
ما الذي يجعل الجزار قادرا على ذبح مئات الدجاج في اليوم الواحد، إلا أن الدجاج لا يملك سلاحا يدافع به عن نفسه؟!
لقد وقع شيء كهذا في يوم جلسة المحاكمة للقاتل، ولقد صُوِّر بالفيديو أيضا، بغل من بغال الشرطة المصرية انتزع الهاتف المحمول من يد سيدة يريد أن يفتشه، ولما تشبثت به ضربها، فلما حاول الناس أن يهرعوا لها (وهم لا يعرفون أنه شرطي) أخرج سلاحه وصرخ فيهم ففروا كما تفر الدجاج تماما! ثم سيقت المرأة المقهورة بالضرب والإهانة حتى أدخلوها سيارة الشرطة.. ولا أحد يدري مصيرها!
لماذا استطاع البغل الواحد أو البغلان والثلاثة أن ينفضوا عنهم جمهورا من الناس، فينتثر كالشذرات المتطايرة من نفخة الهواء؟!.. إنه السلاح!
أتذكر شابا أمريكيا كان يتحدث مع بعض أصدقائنا في أيام الثورة الأولى، فاقترح عليهم أن يجعلوا في الدستور المصري القادم حق حمل السلاح، ونظر إليه أصدقاؤنا ساخرين، فكلهم من فئة المواطنين الصالحين الذين يريدون دولة مدنية محترفة مثل أوروبا وأمريكا: الشعب فيها أعزل والشرطة تحترم القانون، فقال لهم: نحن في أمريكا لو لم نكن نملك السلاح لفعلت بنا حكومتنا مثلما تفعل بكم الحكومات العربية! بعض أصدقائنا عرف من هذه العبارة ولأول مرة أن أمريكا شعب مسلح!!
سيكون عملا ممتعا لو قررتَ قراءة المناقشات التي تداولها واضعوا الدستور الأمريكي عن حق حمل السلاح، وكيف أنهم أقروه في النهاية لكيلا تكون ثمة فرصة للحكومات للاستبداد بالشعب، أو لكيلا تكون ثمة فرصة للمحتل (الإنجليزي) ليعود مرة أخرى.
يقول بعضهم: ولكن إباحة حق حمل السلاح للشعب فيه خطر، أمريكا نفسها تعاني من بعض المجانين الذين يحملون سلاحا فيقتحمون مدرسة ويقتلون بعض أطفالها، يحدث هذا كل عدة أشهر. في الواقع كان هذا أيضا رأي أوباما الذي كان يقيم مشهدا تمثيليا دامعا بعد كل حادثة ليحاول تغيير هذا الوضع الذي يبيح حمل السلاح للشعب، وكان أفضل ردٍّ على ذلك ما قاله ترمب: إن السبب الأساسي في قلة عدد الضحايا وسرعة السيطرة على القاتل أنه كان بالقرب من الحادثة رجل مسلح آخر!
وقد صدق ترمب، لو كان القاتل لا يجد مسلحين لكان قد استمر في جريمته حتى يشعر بالملل، أو حتى تنفد رصاصاته، أو حتى تأتي الشرطة.. بينما وجود مسلح آخر في المكان جعل الحادثة تمر بأقل الخسائر.
في كتابه "بنادق أكثر جرائم أقل" يرصد جون لوت انخفاض معدل الجرائم بعد صدور قوانين إباحة امتلاك السلاح، أي أن انتشار السلاح لم يتسبب في مزيد من الدماء بل على العكس، لقد أدى هذا الوضع إلى توازن الردع.. ووضع في كتابه هذا الرسوم البيانية من واقع معدلات الجرائم مقارنة بين الأعوام السابقة والتالية لصدور القوانين.
وهذا أمر نستطيع أن نلمسه في واقعنا ببساطة، إن الجرائم لا تنتشر في المجتمعات المسلحة، بينما تنتشر في المجتمعات المدنية، ويمكن –في الحالة المصرية- المقارنة بين انتشار الجرائم في الصعيد وانتشارها في الوجه البحري. في الصعيد مثلا لا تبرز ظاهرة البلطجة، بينما بلطجي الوجه البحري قادر على فرض سطوته ونفوذه بالدماء في المنطقة التي يسكنها "المواطنون الصالحون" العُزَّل!!
والآن.. إذا استرجعنا صورة الحادثة التي وقعت، فأي شيء أفضل؟
أن يعرف القاتل أن الفتاة مسلحة وأن الذي يدافع عنها مسلح مثله فيرتدع أولا؟!
ولئن لم يرتدع وقرر خوض المغامرة فخرج منها مقتولا أو مصابا؟!
فإن خرج قاتلا عاش بقية أيامه في خوف من أهل القتيل المسلحين الذين سيفكرون حتما في الثأر؟!
أم الأفضل أن يمارس هوايته في التحرش ثم في القتل ثم يسعى أهله لدى الدولة المسلحة بما عندهم من النفوذ فيحمونه من العقوبة؟!
سأنقل لك الآن مشهدا خياليا..
تصور أن الناس جميعا يسيرون في الحياة عراة، لا يملكون ما يحميهم من برد الشتاء أو من حر الصيف أو حتى من عيون الناظرين! ثم تصور أن هؤلاء العراة ليسوا في الشارع وإنما هم في ساحة عريضة يتسلى السادة بمشاهدتهم وإطلاق النكات الساخرة على عوارتهم! ثم تصور أن بعضا من هؤلاء السادة الذين يرتدون الملابس الفاخرة نزل من موقعه في مقاعد المتفرجين ليعبث ويصطاد بعضا من هؤلاء العراة يتسلى بهم.
هل قلتُ إنه مشهد خيالي؟!
أعتذر لك.. إنه واقعنا نحن في الدولة المتوحشة التي تحكمنا!
لئن كان لدى الأوروبي الآن فسحة من النظر والاختيار بين مجتمع مسلح يحميه من الجريمة، وبين دولة محترفة تحميه من الجريمة (دولة محترفة بمعنى: شرطة مستعدة، قضاء مستقل، قوانين صارمة، تنفيذ لا يجامل)، فنحن في بلادنا لا نملك هذه الفسحة.. نحن في السجن والأسر والهوان، دجاجات عند الجزار، فئران يتسلى بنا القط والكلب والضبع، كأننا صورة تصورها الشاعر لما قال:
من لاذ بالسيف لاقى فرصة عجبا .. موتا على عجل، أو عاش منتصفا
أي: من كان محتميا بسلاحه فهو في فرصة ممتازة، إما يموت بسرعة أو يعيش بكرامة..
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة جاز لنا أن نتصور: هل كان سهلا على والد محمود البنا مطاردة الإخوان وتحطيم ممتلكاتهم والتحريض عليهم لو أنه يعلم أنهم مسلحون، وأنه سيجد في طريقة مقاومة عنيفة؟!
حسنا، هل لو كان اعتصام رابعة مسلحا بعدد مئات آلاف من كانوا فيه، هل كانت ستكون مذبحة على هذا النحو المروع البشع؟! أم كان ذلك السلاح سيكون إنقاذا لآلاف الناس حتى لو فُضَّ الاعتصام في نهاية الأمر!
أعرف أن حديث تسلح الثورة حديث طويل الذيل حافل بالتفاصيل.. لهذا لن أخوض فيه الآن.. لكن الشاهد المقصود هنا أن توازن الرعب –لا توازن القوة- هو في صالح الطرف الأضعف المظلوم دائما!
إن الضحية العزلاء مغرية بافتراسها، قرار سهل يتخذه أي بلطجي في الشارع، أو أي ضابط شرطة فاسد دون أن يتردد أو يتوقف.. بينما قرار الحرب مع الضعيف قرارٌ صعب، روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي نفسه –أعتى قوة في تاريخ البشر- يوصي في نهاية مذكراته أن تكون الحرب هي آخر الحلول وينطلق يهاجم أولئك المغرورين الذين يتصورون أن فارق القوة يعني سهولة النصر.. ومذكرات جيتس كلها كانت عن ورطة الأمريكان في أفغانستان والعراق!.. فانظر وتأمل كيف تشكو أعتى قوة في تاريخ البشر، ومعها حلف القوى الكبرى جميعا، من مقاومة دولتين أحدهما (أفغانستان) فقيرة بائسة تعاني المجاعات ولا تملك شيئا من عالم التقنية والسلاح، والأخرى (العراق) خارجة من حروب وحصار امتد لثلاثين سنة وعلى رأسها حاكم طاغية فاسد أهلك جيشه وبلده!
يقول روبرت جيتس: "سلكت نهجا طيلة مدة ولايتي كوزير مصمما على تجنب أي حروب جديدة في الوقت الذي كنا لا نزال فيه متورطين في العراق وأفغانستان. هل تذكرون المثل القديم القائل "عندما تجد نفسك في حفرة فإن أول ما ينبغي أن تفعله هو التوقف عن الحفر"؟ ما بين العراق وأفغانستان أعتقد أن الولايات المتحدة كانت في حفرة عميقة جدا. إن كنا في مواجهة تهديد عسكري خطير للمصالح الحيوية الأمريكية فسأكون أول من يُصِرّ على رد عسكري ساحق، لكن في غياب مثل هذا التهديد لا حاجة للذهاب والبحث عن حرب أخرى. احتفظتُ بقول لونستون تشرشل يعود للعام 1942 في درج مكتبي ليذكرني كل يوم بحقائق معينة "لا تظنن على الإطلاق أن أي حرب ستكون سلسة وسهلة، أو أن أي شخص يبدأ هذه الرحلة الغريبة يمكنه أن يعرف المد والجزر والأعاصير التي سيواجهها. على رجل الدولة الذي يستسلم لحمّى الحرب أن يدرك أنه بمجرد أن تُعطى الإشارة، لن يعود مسيطرا على السياسة وسصبح رهينة الأحداث الخارجة عن التوقعات والسيطرة". لذلك عارضت العمل العسكري كخيار أول" (ص219 من مذكراته).
المقصود أن الفريسة الأعزل لا يتردد أي ضعيف في نهشه، بينما الذي يمتلك حدًّا من القوة يمتلك أن يدافع عن نفسه، ويمتلك أن يُوَرِّط الذي يحاول افتراسه مهما كان فارق القوة بينهما عظيما!
بالأمس قُتِل البغدادي..
لكن شيئا ما في قصة قتله لا يجري التركيز عليها كثيرا.. لقد فجَّر نفسه، فمنع الأمريكان من اتخاذه مسلسلا دراميا طويلا يتسلون بمشاهدته.. مثلما فعلوا بصدام حسين، أخرجوه ثائر الرأس منكوش الشعر يُقلبه أحدهم ذات اليمين وذات الشمال ويفتش في فمه وبين خلاياه (وقد فهم المشاهد الرسالة وعرف ماذا قد حدث فيه مما لم يُعرض)، ثم محاكمة طويلة هزلية، ثم إعدام في صبيحة يوم الأضحى.. مسلسل من الإذلال!
هذا فارق مهم بين مسلح وأعزل، كان قتله لنفسه أهون من أن يوضع في قفص الحيوانات ويعرض على الشاشات ويُغدى به ويُراح على التحقيقات والمحاكمات وسماع الاتهامات، وكافة ما تتقنه الحضارة الغربية من إبداعات التفاصيل والرموز!
ومهما يكن من أمر، فقد كانت ميتته هذه أهون وأشرف من كل مصير ينتظره، وكان الفضل فيها للسلاح الذي كان يملكه حتى اللحظة الأخيرة.
إن نظرية الشعب المسلح نظرية قديمة في تراث المقاومة والكفاح.. ويجب ألا نستغرب حين نعرف أن تجريد الشعوب المسلمة من السلاح كان على رأس أولويات الاحتلال الأجنبي وعملائه من قبله ومن بعده، ولم يستقر للاحتلال قرار في بلادنا إلا بتحويل شعوبنا من فرسان إلى فراخ! بل لربما تصيبك الدهشة حين تعلم أن المحتل يسعد أكثر بوجود حكومات قوية تسيطر على البلد، فهذا يسهل احتلالها، والغرب هو أكثر المعنيين ببناء مؤسسات مسيطرة مهيمنة على شعوبنا، هذا يظهر واضحا في العديد من المواقف وفي مذكرات صناع القرار الأمريكان (راجع مثلا هذا المقال) ولعلنا نفرد له مقالا آخر فيما بعد.
شتان شتان بين شعوب قوية ترفع نزاعاتها إلى القضاء ليحكم بينهم فيكون حكمه تجنيبا لحروب تنشب بينهم، وبين شعوب قضاؤها جزء من سلطة فاسدة لا يقضي إلا للقوي على الضعيف، ولو أنه قضى للضعيف يوما فلن يستطيع الضعيف إنفاذ حكم القضاء أصلا!
والناس حين يتوازنون في القوة فإنه يكفي في القضاء في منازعاتهم مجلسٌ عرفيٌ واحدٌ يقضي فيه حكماؤهم وأعيانهم، فتحقن الدماء وتقضى الحقوق ويتراضى المتنازعون، وأما الضعفاء العُزَّل فإنهم يهلكون أعمارهم وأيامهم وأموالهم بين أقسام الشرطة والمحامين والنيابات وجلسات المحاكمات، ثم لا يعودون إلا ببعض حقهم، لو أنهم عادوا به!
نشر في مجلة كلمة حق
Published on November 06, 2019 00:51