محمد إلهامي's Blog, page 13

December 21, 2020

كلمة عن كتاب "الدولة المستحيلة"

 منذ أن أنهيتُ كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، وأنا أهيئ نفسي لتدبيج مقال مطوّل عنه، ومع الأسف يمرُّ الوقت وتجتمع المشاغل مع ضعف الهمة فلا يلبث المرء إلا أن يكون بين خياريْن: إما أن يُدرك بعضَ ما نوى أو أن يتخلى عنه كله.


ولهذا، فما هذه السطور إلا خواطر متناثرة، لا تزال تترسب في الذاكرة، قدَّرْتُ أن بثَّها خيرٌ من طيِّها.
[1]
بداية، ولكي نريح القارئ العجول، فأنا في صفّ المعجبين بالكتاب والمؤيدين لفكرته، والفكرة البسيطة للكتاب أن نموذج النظام الإسلامي مختلف جذريا ومتناقض تماما مع نموذج الدولة الحديثة، ولا يمكن التوفيق بين هذين النموذجيين، إذ أحدهما ديني أخلاقي أنتج بالفعل نظاما عاش 1300 سنة، فضلا عن تجذره في نفوس المسلمين وعالمهم بما يجعل انخلاعهم عنه وانخلاعه عنهم مستحيلا، مثلما يستحيل انخلاع الأوروبي من إرثه اليوناني والمسيحي والتنويري.. بينما النموذج الثاني علماني مادي وهو ابن تجربته الغربية، التي جعلت الدولة إلها حقيقيا متغولا وسائدا على المجتمع، مع أنه ليس لها لا رحمة الإله ولا حكمته، كما أنه ليست لها أخلاق، بل هي نظام عنيف مدمّر ولا إنساني.
وبالتالي -يقول حلاق- فالمسلمون حين يتطلعون إلى "دولة حديثة" كالتي في العالم الغربي، فإنهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير! بل يجب على الغرب أن يحاول حل مشكلة الحداثة بالنظر إلى التراث الإسلامي وما فيه من هيمنة أخلاقية قوية.
2. هذه الفكرة في جوهرها ليست جديدة، بل طرحها آخرون من المستشرقين والمسلمين منذ مائة عام على الأقل، ولم تزل تتردد في أروقة البحث ذي الصلة بهذا الموضوع.. ولكن قيمة كتاب حلاق هذا في أمرين؛ الأول: أنه خدم هذه الفكرة وتعمق في إثباتها بنقولات غزيرة من حقول القانون والفلسفة والسياسة لأعلام الفكر الغربي، تدلّ على تمكنه من مادته، وقدته البارعة على المقارنة الموفقة بين النموذجين الإسلامي والغربي. والثاني: هو هذا العنوان التشويقي الإثاري في الزمن الملتبس.
[2]
سأفترض جدلا أن اختيار حلاق للعنوان كان بريئا، وهذا أمر مستبعد جدا، لكن الذي يهمنا الآن أكثر من التفتيش في نواياه أن العنوان غير معبِّر بدقة عن فكرته.. فالكتاب أصلا لم يؤلف ليقرأه المسلمون، بل غرض تأليفه وجمهوره هم الغربيون الذين يُحاول تبصيرهم بعيوب الحداثة وكيف أنه يمكن أن نجد لها حلا في التراث الإسلامي.. فالعنوان الفرعي أدق في التعبير عن غرض الكتاب "الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"!
ولكني أعرف تماما أنه لو كان هذا هو عنوان الكتاب، فلم يكن أحد ليتشجع لترجمته، ولم يكن مركز عزمي بشارة ليتحمس لنشره، ولكن عزمي بشارة يحمل مشروعا فكريا من أركانه إقناع المسلمين باستحالة عودة الدولة الإسلامية، حتى لو اعترفنا -حقا أو تخديرا- بأنها كانت دولة عظيمة في زمانها وضمن ظرفها التاريخي!
لقد كان عنوان الكتاب واقعا بقوة ضمن مشروع عزمي بشارة.. ولعله لهذا كان هو الكتاب هو الوحيد الذي ترجمه ونشره هذا المركز من تراث حلاق كله.
ولا يمكن أن ننسى الزمن الذي صدر فيه الكتاب، لقد كان زمن الاحتدام الضخم حول المستقبل، في إبان الربيع العربي ووصول الإخوان إلى السلطة في مصر وتونس، واحتمال وصولهما إليها في غيرها.. لقد شهدت هذه الفترة سعارا علمانيا محموما لنقض فكرة الدولة الإسلامية، يستوي في ذلك من اعتمد لغة هادئة أو من اعتمد لغة هائجة.
لقد زادَ هذا كلٌّه -العنوانُ والتوقيتُ- من رواج الكتاب وانتشاره، ولكنه شوَّه فكرته أيضا. أتصور أن الكاتب إذا خُيِّر بين رواج مع تشوه مثير للنقاش والجدل، وبين خفوت وانطماس فسيختار الأول.
كلمة "الدولة" معناها ملتبس، فهي في التراث الإسلامي تساوي الزمن أو العصر أو الحقبة، يقال: دولة بني أمية أو دولة بني العباس ويُقصد به زمانهم، فهي مشتقة من التداول (وتلك الأيام نداولها بين الناس).. ولكنها في المعجم السياسي المعاصر تشير إلى "جهاز الحُكْم" وإلى النظام السياسي.. ولهذا يفهمها المعاصرون العرب باعتبارها مردافا للحكم والسلطة والنظام.. إلخ!
بينما وائل حلاق يرفض استعمال هذا اللفظ "الدولة" إلا بمعنى "الدولة الحديثة" التي هي النسخة الغربية المعاصرة من شكل الحكم.. فالدولة عنده هي هذا المعنى، ويرفض بإصرار أن يُطلق لفظ الدولة على أي معنى آخر، حتى أنه اشتبك في أكثر من حاشية مع مستشرقين آخرين عبَّروا عن نظام الحكم الإسلامي بكلمة "دولة"، واشتبك مع نوح فيلدمان لاستعماله لفظ "دولة" لوصف نظام الحكم الإسلامي في كتابه "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" مع أن طرحهما متقارب جدا إن لم يكن متطابقا.
برأيي أن هذا الإصرار على هذا المعنى الوحيد للفظ "الدولة" لا ضرورة له، ففي النهاية فإن المنادين بالدولة الإسلامية -مهما كان إيمانهم بإمكانية تلاقي نظام الحكم الإسلامي مع شكل الدولة الحديثة- يعرفون أنهم في سعيهم هذا يُعدِّلون تعديلا جوهريا في شكل النسخة الغربية المعاصرة من الحكم "الدولة الحديثة".. وبالتالي فليس الاشتباك حول اللفظ أمرا شديد الأهمية طالما نستطيع تمييز الفحوى والمضمون.
كذلك فإن استعماله لفظ "المستحيلة"، بدا لمن لم يقرأ الكتاب، وكأنه يُصدر بهذا حُكْما نهائيا على استحالة عودة نظام الحكم الإسلامي، وهذا المعنى جديرٌ بأن يثير حساسية كل مسلم، مع أنه أوضح صراحة في أكثر من موضع أنه لم يقصد هذا، ولكنه قصد إلى أن شكل نظام الحكم الإسلامي إن عاد للواقع ذات يوم فسيكون مغايرا ومخالفا لشكل الدولة الحديثة. كما أنه طرح فكرة الصعوبات الواقعية، إذ النظام العالمي بتركيبته الرأسمالية المعولمة القائمة على شبكة من الدول القومية القُطرية لن يسمح بقيام حكم إسلامي، وسينفق في هذا كل ما لديه من عنف هائل في سبيل تحطيم أي حركة تسعى إليه.
[3]
ذكرتُ أن الكتاب لم يُكتب لنا، وإنما كتب للجمهور الغربي أو لصناع القرار في الغرب، ومن أبرز الأدلة على هذا أنه أنفق وقتا طويلا في شرح أركان الإسلام -في الباب قبل الأخير إن لم تخني الذاكرة- ليشرح آثارها الأخلاقية على مجتمع المسلمين.
ولهذا فإن الكتاب ليس مفيدا للحركيين ولا لعموم المسلمين، هو مفيد لمساحة المثقفين والباحثين الذين يخوضون هذا السجال الفكري مع العلمانيين أو مع الغربيين، والذين يهتمون بجمع الأدلة في بيان عيوب الدولة الحديثة وتفوق النموذج الإسلامي.
بينما المسلم يتشرب المعاني المطروحة فيه بشكل طبيعي من خلال الكتاب والسنة وتراث المسلمين ومواعظ العلماء والدعاة.. بل يتشربها بطريقة أكثر عمقا وبساطة، بل -وهذا هو الأهم- يتشربها بالطريقة التي تحثه على العمل.
أنا شخصيا قبل عشر سنوات كتبتُ كتابا عن "منهج الإسلام في بناء المجتمع"، أشعر أحيانا حين أقرؤه بأنه تافه لا يطرح جديدا على المجتمع المسلم، وأحيانا أشعر أنه جيد جدا وأتعجب كيف كتبته قبل عشر سنوات، لم أكن قد اطلعت فيها على آلاف الأدلة الإضافية على فكرته الرئيسية، وأشعر بإلحاح أني في حاجة إلى إنتاج نسخة أخرى منه مشروحة ومزيدة تحتوي ما وقعتُ عليه في هذه السنين من الأدلة والإضافات.
ضربتُ المثل بنفسي هنا لكي أقول، وبدون أي محاولة تواضع، أن الشاب المسلم يستطيع ببضاعة قليلة مزجاة من الثقافة العامة أن يعتنق نفس الفكرة الرئيسية التي تبدو وكأنها مفاجئة للبيئة الثقافية يوما ما! وذلك لشدة وضوحها.. والقصد أن أقول: إن هذا الكتاب -كتاب حلاق- ليس مؤثرا أبدا في مسيرة أي حركة إسلامية، لأنها تعتنق فكرته بطبيعتها.. هو ربما كان مفاجئا لقومه ومفاجئا للبيئة الثقافية المرتبطة بالإنتاج الغربي.
حتى الحركات الإسلامية التي تبدو مؤمنة بالحداثة والدولة الحديثة، هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، ولو أتيحت لها الفرصة الحقيقية لتطبيق نموذجها، فسينتج عنها بشكل تلقائي تغييرات جوهرية على نموذج الدولة الحديثة يُفرِّغها عمليا من محتواها العلماني، ويتدرج في التطبيق والتنفيذ إلى إنتاج صيغة معاصرة من نظام الحكم الإسلامي. حتى الغنوشي والعثماني -مع عميق بغضي لأفعالهما ورفضي التام لسياساتهما وأفكارهما- إذا أتيحت لهما فرصة تامة وارتفعت عنهما الإكراهات العلمانية والدولية لكانت النتيجة نسخة توفق بين الإسلام والحداثة، وستنتهي حتما إلى الإسلام لا الحداثة!.. على الأقل هذه قناعتي، ولست مستعدا الآن للجدال حولها.
[4]
يعد كتاب وائل حلاق هذا واحدا من الكتب التي أتعجب أن صاحبها لم يعتنق الإسلام.. إن الكتاب يمكن ببساطة أن نجعل عنوانه "الإسلام هو الحل" وسيكون هذا العنوان أكثر تعبيرا عن محتواه من هذا العنوان الحالي.
يصلح الكتاب أن يكون مرافعة ممتازة لصالح نظام الحكم الإسلامي في مقابل نموذج الدولة الحديثة، ولا أكاد أشك أن نشأة وائل حلاق القديمة في الشام وما بقي في ذهنه من ذكراها جعلته يقارن بوضوح بين المجتمع الأخلاقي الذي نشأ فيه وبين الحداثة القاتلة التي يحياها الآن.
إن الذين يقيمون في الغرب يذوقون بالفعل روعة المجتمع الإسلامي الأخلاقي المتكافل، بشرط أن يتخلصوا من عقدة النقص.. وهذا الأمر بدا كثيرا في إنتاج كثيرين من المستشرقين بل وفي إنتاج المسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب إذا لم يفقدوا أنفسهم.. ولا يزال تعبير سيد قطب العبقري يرنّ في رأسي منذ قرأته، "أمريكا: تلك الورشة الضخمة الغبية"!
ويمكن في هذا السياق أن نطالع كتابات جوستاف لوبون وآنا ماري شيميل وزيجريد هونكه وعلي عزت بيجوفيتش وعبد الوهاب المسيري.. حتى إن بعض المستشرقين المتعصبين يندّ عنهم شيء كهذا أحيانا مثل جولدزيهر الذي كان يتنكر ليصلي مع المسلمين ورينان الذي كان منظر الصلاة يثير فيه الندم أنه لم يكن مسلما.
قرأت كثيرا من كتب المستشرقين عن سيرة النبي أو فصولا كتبوها عنه وتعجبتُ إلى درجة الحيرة: لماذا لم يُسلم هؤلاء؟!.. إن بعضهم كتب أمورا يعجز عن كتابتها بعض الدعاة والعلماء المسلمين، وما ذلك إلا لأن خبرتهم بـ "الجاهلية" الغربية سمحت لهم بالتقاط جوانب من عظمة الإسلام لا ينتبه لها المسلم.
أحسب أني بعد هذه السنين وصلتُ إلى بعض الجواب: إن منهج الوضعية العلمية السائد في الغرب منذ دخوله عصر العلمانية جعل كثيرا من الباحثين يرى أن مهمته تتوقف عند إتمام البحث بصورة عملية ممتازة، ولا يرى نفسه بعد ذلك مكلفا باتباع ما وصل إليه من الحق أو الخضوع له!
هذه النزعة الوصفية التفسيرية التي لا يتبعها عمل تسربت بقوة إلى مجتمعاتنا العلمية، صار كثير من الباحثون والأساتذة العرب رؤوسا كبيرة متضخمة ممتلئة بالأفكار، لكن لا نصيب لها من سلوكهم وعملهم! صار الباحث يرى عمله واقفا عند جمع المعلومات وتركيب الصورة وتقديم التفسير وربما تقديم بعض التوصيات، دون أن يرى نفسه مُطالبًا بالحركة في سبيل ما آمن به من هذه القناعات!
وهذا أمر مُدَمِّر.. وهو خلاف ما كان عليه حال العلماء في حضارتنا الإسلامية، حيث العلم يُطلب للعمل، وحيث لا يقبل من العالِم أن يخالف ما يقوله.. الآن بإمكان الطبيب أن يحاضر عن خطورة التدخين أو الخمر ثم هو يدخن أو يشرب الخمر، وبإمكان أستاذ الجامعة أن يحاضر عن الحقوق والحريات ثم هو نفسه ترسٌ في آلة استبداد بشعة، بل حتى الحقوقي يحاضرنا عن المرأة والتحرش ثم هو نفسه يزني ويغتصب ويتحرش!!
هذا الحال الذي ينفصل فيه العلم عن العمل، والعلم عن الأخلاق، مقبول في الزمن الغربي حيث المنهجية الوضعية (التي هي بنت العلمانية)، ولكنه مرفوض أشدَّ الرفض في ديننا ومنهجنا.
كتاب حلاق هذا هو واحد من طابور طويل من الكتب التي عرف أصحابها الإسلام ثم لم يعتنقوه.. فكيف يفعل هؤلاء أمام ضمائرهم؟ وكيف يكون حالهم أمام الله يوم القيامة؟!
[5]
كشف هذا الكتاب، عند صدوره، مأساة في حالتنا الثقافية العربية.. فلو امتدت يد إلى كتاب حلاق هذا فغيَّرت أسلوبه الأكاديمي الجاف، واستبدلت بعض صياغاته بأخرى فيها آيات وأحاديث وبعض العاطفة، ومدَّت بعض الأفكار على استقامتها، لتحول هذا الكتاب إلى تنظير جها دي ممتاز، ولصار طبعة جديدة موسعة من "معالم في الطريق" لسيد قطب، أو طبعة جديدة من كتاب تأسيسي حركي لجماعة جها دية!
هذا يخبرك كيف أن الفكرة حين يكتبها غربي باللغة الإنجليزية وبالأسلوب البارد تصير موضع حفاوة وتقدير، أو على الأقل مناقشة وتفكير، ثم كيف أن نفس هذه الفكرة حين يكتبها مسلم غيور تُجابَه بالإنكار والرفض والتنديد والتشنيع!!
إن نخبتنا الثقافية تشربت من أصول التفكير الغربي ما لم تتشرب عشر معشاره من القرآن والسنة، حتى صار ما يعجبنا لا يزيد عن أن يكون "بضاعتنا رُدَّت إلينا"!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 21, 2020 08:38

December 1, 2020

كيف تتشكل صورة المسلمين في فرنسا؟ خبرة مستشرق فرنسي

 


في عام 2016 أصدر المستشرق الفرنسي فرانسوا بورغا كتابه "فهم الإسلام السياسي"، وفيه حاول أن يوجز رحلاته في الديار الإسلامية، حيث اكتشف هناك زيف الصورة التي يعتنقها الفرنسيون. واكتشف أيضا أن هذه الصورة ليست لمجرد ضعف الثقافة أو لأن الفرنسيين لا يعرفون إلا الغرب، بل لأن ثمة شبكة من المؤسسات السياسية والإعلامية والأكاديمية تعمل على ترويجها وفرضها وتثبيتها كصورة وحيدة. ونفس هذه الشبكة هي التي تُرَوِّج تحليلاتها وتفسيراتها وتقدم "الفهم الوحيد الصحيح" لما يحدث في بلاد المسلمين، ليس هذا فحسب، بل إنها تسعى سعيها المحموم لمطاردة أي صوت آخر يحاول أن يقدم صورة أخرى أو تحليلا آخر لما يجري هناك.

ومن ثَمَّ كان على المتحدث في شأن الشرق أن يلتزم بهذه الرواية الرائجة، فإذا تجرأ وقدَّم رواية أخرى تنصف المسلمين أو تحاول فهمهم، كان عليه أن يدفع الثمن، ومن الجدير بالذكر أن تهمة التعاطف مع الإسلام تساوي "باختصار: الخيانة"

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، ديسمبر 2020


ص20، 22، 23.

ص18.

ص19، 25.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 01, 2020 13:28

November 2, 2020

فرنسيون أنصفوا الإسلام

نستأنف في هذا المقال ما كنا قد ختمنا به المقال السابق، حيث كان حديثنا عن الاستشراق الفرنسي، وكيف أنه كان ذراعا علميا للهيمنة الفرنسية، ووسيلة السياسة الفرنسية لتسهيل احتلالها البلاد الإسلامية سواء من خلال قيامهم بالدور العلمي في فحص ودراسة هذه البلاد وأحوالها لإيجاد أفضل الطرق وأقلها تكلفة لعملية الاحتلال والسيطرة، أو من خلال قيامهم بالدور الإعلامي الذي يبرر ويشرعن عملية الاحتلال من خلال تشويه أهلها وثقافتهم وأخلاقهم.

ومن بين طابور المستشرقين الفرنسيين الطويل خرج عدد قليل من أولئك الذين أنصفوا الإسلام ونبيه وحضارته، فمنهم من اصطفاه الله وكتب له الخير فأسلم واعتنق الدين، ومنهم من بقي على حاله.

وعموما فإن الكتابات المنصفة تصدر عن الغربيين بعد أن تنطوي صفحة الصراع المشتعل، حين ينتصرون في المعركة ويحسمونها لصالحهم، عندها لا يعود الشعور بالخطر قائما، وتصير الأمة المغلوبة كالجثمان الممدد أو الفريسة العاجزة، لا يُخشى منها، وعندئذ يمكن أن تبدأ دراستها بطريقة أكثر علمية وموضوعية، مثلما تجري دراسة الآثار في المتاحف، لا يستنكف أحد أن يعترف بعظمة حضارة قد دثرت وماتت.

لذلك فإن التأمل في تاريخ إنصاف الحضارة الإسلامية في الكتابات الاستشراقية سيفضي بنا إلى إدراك أن هذا الإنصاف لم يحصل إلا بعد العلو الغربي، وأما ما قبل ذلك فقد كان الجهر بإنصاف الإسلام أمرا خطيرا، فمن ذا الذي يجرؤ –ولو بدافع العلمية والموضوعية- أن يمتدح عدوه الذي يستشعر منه الخطر؟!.. إنه أمر لا يقوم به إلا أفذاذ الناس الذين يرفعون قدر الحق والحقيقة فوق كل اعتبار وكل مصلحة، ويكونون مستعدين لدفع الثمن الباهظ بمخالفتهم تيار السياسة وتيار الإعلام وتيار التحريض الشعبي. إن الذي ينطق بالحق في وقت الهزيمة والقهر وقلة النصير وشدة الخطر إنما هو في مرتبة عليا، بل هو في الإسلام "سيد الشهداء".

ومع هذا كله، ومع استيعابنا لهذه الظروف التي تسمح بالكلمة المنصفة، فإنه لا بد أن نُقَدِّر أيضا أولئك الذين أنصفوا ديننا ونبينا وتاريخنا، فلم يزل هذا الإنصاف مغامرة غير آمنة في كل الأحوال، لا سيما في فرنسا، ومن يتابع أعمال المستشرق المعاصر فرانسوا بورجا يرى بنفسه بعضا من هذه المعاناة التي يلقاها، والتهم التي يُرمى بها، ليس ذلك إلا لأنه جال كثيرا من بلدان العالم العربي ورأى الصورة التي تحجبها فرنسا، وتلمس التاريخ الذي لا يُدَرَّس فيها.

وبعض أولئك الذين حاولوا إنصاف الإسلام وحضارته ورسالته سلك مسالك متنوعة وحذرة في إزجاء المدح الواضح، وامتلأ حديثه بالاستدراك والاستثناء وطرح الاحتمالات، كأنه يحاول أن يجد طريقا لا يخون به العلم ولا يزعج به الحالة السائدة.

في هذه السطور القادمة التقطنا بعض هذه الشهادات المنصفة التي صدرت عن مستشرقين منصفين، وغرضنا منها أن نبين: أن الباحث إذا أخلص لوجه الحقيقة وتجرد لها فإنه سيصل بمشيئة الله إليها، حتى لو كانت بيئته وثقافته تنطلق من المعاداة.

 

1. تحدث المستشرق الفرنسي وعالم الاجتماع المعروف جوستاف لوبون عن الفتوحات الإسلامية فقال: «وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم... وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم، التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم»

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 02, 2020 08:53

October 4, 2020

قصة الاستشراق الفرنسي: الوجه العلمي للهيمنة الفرنسية

 

في فرنسا، وإلى الجنوب من باريس، توقفت الفتوحات الإسلامية عند مدينة بواتيه، المعروفة في التاريخ العربي باسم "بلاط الشهداء" (114 هـ = 732م)، بعد الهزيمة التي أنزلها شارل مارتل بجيش عبد الرحمن الغافقي، وهي الهزيمة التي اكتسب بها شارل مارتل سمعته الكبيرة في التاريخ الأوروبي باعتباره البطل الذي أوقف الزحف الإسلامي.

على أن بعض المستشرقين الفرنسيين، مثل جوستاف لوبون، تحسر بعد أكثر من ألف سنة على حصول هذه الهزيمة، وتمنى أن لو كان المسلمون قد حكموا فرنسا، يقول: "لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسا غير بارد ولا ممطر كجو إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة قرون"

جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص317.

رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز، ضمن: الأعمال الكاملة، 2/70، 2/103 وما بعدها.

عن تاريخ الاستشراق الفرنسي، انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون، 1/138 وما بعدها؛ يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، ص78 وما بعدها، 207 وما بعدها.

إدوارد سعيد، الاستشراق ص45، 46.

إدوارد سعيد، الاستشراق، ص50.

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 04, 2020 06:48

September 5, 2020

كلمة في "تغريب" الفكر السياسي

ذات يوم جمعنا مجلس بصديق، وكان قد أنهى الماجستير في العلوم السياسية بإحدى الجامعات الأوروبية، فطرح علينا هذا السؤال:

هل حقا حظيت دراسة السياسة في الإسلام بالجهد المناسب؟ ألا نحتاج لإعادة قراءة كيف أديرت "السياسة" وكيف استجاب الحكام والفقهاء والقضاة لتعقيداتها؟ أليس من الضروري أن نكشف -من الناحية العملية التطبيقية- عن نسبية السياسية، مدنيتها، سلطة الشريعة وكيف تم تعريفها وتطبيقها في سياقات مختلفة، وحدود البراغماتية والمصلحة؛ فضلا عن التعددية والحرية واستقلال المجتمع وحيويته؟ ألم تكن أسئلة السياسة التي تصدى لها ميكيافيللي وهوبز ولوك وروسو هي تقريبا ذاتها التي تصدى لها الماوردي والجويني وبن تيمية وبن خلدون وبن رشد. فإلى أي حدٍّ تشابهت الإجابات وإلى أي حدٍّ اختلفت؟

وانفتح نقاش حول هذه الأسئلة، نقاش لم ينتهِ ولا أحسبه ينتهي يوما ما، فتلك الساحة من المقارنات والقراءات تلد كل يوم جديدا، لكن ثمة شيء يثير التأمل في سياق هذه الأسئلة، ذلك الشيء هو هذه الروح الغربية السائرة فيها، والتي تبدو في رنين المصطلحات وإيحاءاتها، كما تبدو في طبيعة تعريف الموضوعات. فذلك هو ما يهمنا مناقشته في السطور القادمة.

مع التأكيد التام على أن صاحبنا السائل هو من الأفاضل، ولستُ أحسبه من المنبهرين بالغرب ولا من المتجافين عن تراثه الإسلامي، لكن طبيعة الدراسة التي نتلقاها في الجامعات إنما تنصبغ وتنفعل بالرؤية الغربية بطبيعة الحال، فلا تزال جامعاتنا ومعاهدنا العلمية تقفو أثر المناهج الغربية المتشبعة برؤيتها وفلسفتها وتصورها للأمور.

يبدأ مفتاح النقاش من فهم معنى كلمة "السياسة"، فهذه الكلمة "السياسة" في عصر الحداثة صارت تعني كل شيء تقريبا؛ لشمولِ نشاط السلطة كافَّةَ الجوانب داخل الدولة.. بينما هي فيما قبل كذلك تنصرف إلى جانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما، وبعض ما نعنيه اليوم بـ "الاقتصاد".

لهذا فإن كان المعنى المقصود بالسياسة هو معناها الآن في زمن الحداثة فأحسب أنه لن يوجد مفكرون غربيون أسهموا في هذا بالقدر الذي أسهم فيه المسلمون، لسبب بسيط، وهو أن أغلب الإنتاج الإسلامي في الفكر السياسي إنما أنتجه فقهاء، وأكثرهم تولوا مناصب القضاء، وكلهم مارسوا الفتوى، فكانوا على معرفة عميقة بتفاصيل الشؤون الاجتماعية والمالية، وجرى استفتاؤهم في شؤون الجهاد والأسرى والأموال والإدارة، فكتبوا فتاوى كما كتبوا فقها، بينما عموم المفكرين السياسيين الغربيين لم يكونوا على اطلاع تفصيلي بسائر هذه الجوانب، وإنما عُرِفوا بجانب أو جانبين منها.. حتى من كان منهم سياسيا أو قاضيا أو مستشارا فلم يكن جامعا لبقية شؤون الرعية ولا يُلجأ له فيها.

ومن ثَمَّ فيبدو طبيعيا أن إنتاج ثمرات المفكرين السياسيين الغربيين –بمن في ذلك أسماؤهم اللامعة- إنما يغلب عليها الكلام في النظرية السياسية، وأقل منه الكلام في النظم السياسية، ثم أقل منه الكلام في العلاقات الدولية. ويغلب في هذه الأبواب كلها المعالجة النظرية التي تحاول القبض على تصور فلسفي محكم يفسر حركة السياسة والاجتماع ليصدر عنها تصور التنظيم والتطبيق.

بينما يجد ذو الخبرة بكتب الفقه المذهبي والفتاوى والنوازل تراثا ضخما كله متعلق بالموازنة في القضايا المعقدة، ومحاولة تحقيق مفهوم الموازنة بين المصالح والمفاسد والأضرار والمنافع، وهذه الموازنات هي التي تطور بها وتفرع علم أصول الفقه والمقاصد وما يشتملان عليه من معايير صناعة الفتوى. حتى إن كثيرا من الكتب التي تُصَنَّف في باب السياسة الشرعية تحتوي على مسائل في البيئة والعمران والتخطيط ورعاية الحيوان وغيرها. لهذا فالمدونة الفقهية أبعد ما تكون عن أنها مدونة سلطانية أو سياسية بحتة، إنها مدونة حافلة بالنقاش العميق في الأمور المعقدة، ومن ثمة فقد اتسعت فيها مساحة النظر للقاضي والمجتهد، كما اتسعت فيها مساحة الصلاحيات للأمير والوالي.

ومن هنا نجد الفقه الإسلامي شديد التنوع والثراء، حتى إن أحكامه التكليفية هي في حدها الأدنى على خمسة مراتب: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام (ويتطور في مذهب الأحناف إلى بضع عشرة درجة)، بينما ينحو الفكر السياسي الغربي إلى الضبط القانوني وإحكام التفصيل حتى تضيق المساحة على اجتهاد القاضي وتضيق المساحة على تصرف الرئيس. وبغض النظر الآن عن الأسباب التي دفعت إلى هذا والتي هي أصيلة في بنية النظام السياسي والاجتماعي، إلا أن الشاهد المقصود هنا أن التراث السياسي الإسلامي كان أوسع وأكثر مرونة لاستيعاب المستجدات والنوازل ومائلا إلى توسيع وتكثير التصنيفات والأقسام والمراتب، بينما كان هذا على العكس منه في التراث السياسي الغربي.

ومما يلفت النظر هنا أن علماء أهل السنة قرروا السكوت في بعض القضايا، كقضية الفتنة بين الصحابة، والتي هذ ذرورة التعقد في الموازنات السياسية واشتباه الموقف، وذلك مع كونهم يقررون أيضا أن المصيب هو علي رضي الله عنه وأن المخطئ هو معاوية. فالتجربة تشهد أن أقل الناس هم من يستطيعون الحكم في الأمور المعقدة، وهذا واقع نراه بأنفسنا وفي أنفسنا، فكم تحيرنا نحن في قضايا أبسط بكثير، وكم نتضايق حين نجد من يستخف بالقضية المعقدة فيصدر فيها حكما جازما حاسما ببساطة واستسهال.

ثمة مشكلة أخرى تطالعنا لدى الحديث عن السياسة في الإسلام، تلك هي أن ألفاظ هذا الحقل تحمل ظلالا سلبية أو أيديولوجية، يعني حين نستعمل مثلا عبارات من قبيل "نسبية السياسة" "مدنية السياسة" "حدود البرجماتية"، فإن هذه الظلال تدفع القارئ إلى محاولة تبرئة الفكر السياسي الإسلامي منها أو إلى محاولة وصمه بها (حسب موقفه العام من الفكر السياسي الإسلامي)، ومن هنا فإن وجود مثل هذه الألفاظ يُعَقِّد -عمليا- النقاش المتعمق في المعاني الكامنة وراءه، والتي من الوارد جدا أن صاحب الكلام لم يقصد إيحاءاتها السلبية.

أهم ما في الأمر هنا أن الفكر السياسي الإسلامي كان وليد العقلية الفقهية، يعني أنتجه فقهاء، والفقهاء لم يكونوا طبقة متميزة بل كانوا شبكة متغلغلة داخل المجتمع، وكانوا في أعم الأحوال ممثلي المجتمع أمام السلطة، فضلا عما نعرفه جميعا من أن السلطة لم تكن متغولة على كل أنشطة المجتمع.. ماذا يعني هذا؟

يعني أن الفقهاء كانوا دائما قوما عمليين لا فلاسفة ولا منظرين ولا مفكرين ولا منفصلين عن الواقع؛ كانوا مغروسين دائما في الموازنات المعقدة الناتجة عن مسائل الناس وأحوالهم وعلاقتهم بالسلطة وعلاقة السلطة بهم، ولهذا كان عموم إنتاجهم أكثر واقعية وعملية من أن يسمى "فكرا سياسيا"؛ لأن كلمة "فكر" في قاموسنا المعاصر تحمل معنى تنظيريا تجريديا فوقيا.

فأسماء الماوردي والجويني وابن تيمية وابن خلدون وابن رشد تقذف إلى أذهاننا معنى الفقيه الكبير الذي عمل بالقضاء وكان على دراية قوية بالنصوص الجزئية وكان مرتبطا بواقعه، فمثلما كان له اجتهاد في فقه الطهارة والعبادات والمعاملات المالية والاجتماعية وحتى في الرقائق والتصوف كان له إسهامه القوي في السياسة. كانت خبرته العملية الواقعية المجتمعية التفصيلية ودرايته القوية بالنصوص الجزئية الفرعية تجعله قادرا على إنتاج النظرية السياسية أو الفتوى السياسية وهو مستوعب لظروف كثيرة.

بينما أسماء لوك وهوبز وميكيافيللي وروسو لا تقذف إلى أذهاننا ذات المعنى، بل هي أسماء مفكرين أكثر تنظيرا وتجريدا وفوقية وعمومية، ربما نال أحدهم منصبا سياسيا أو كان مستشارا أو نحو ذلك، ولكن أحدا منهم لن يكون أبدا بخبرة القاضي الفقيه الذي انغرس في أحوال الناس ووازن طويلا وهو يتأمل مسائلهم وحيلهم في استخلاص الفتوى أو الحكم منه.

ويبدو أثر هذا جليا واضحا في أن ابن تيمية والجويني وابن خلدون كانوا يتعاملون أكثر في مستوى التطبيق، بينما ميكيافيللي وروسو وجون لوك وغيرهم كان إسهامهم الفكري الأبرز في ميدان التنظير. وميدان التنظير قد استغنى فيه المسلمون بنصوص قرآنية ونبوية عن كثير من إشكالاته، لم يُرهق العقل الإسلامي بمحاولة تحديد الأساس النظري الفلسفي لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وبمعنى السيادة، ومن أين يكون استمدادها، وكيفية تحققها، وكيفية انتهائها. وحتى هذه اللحظة لا يستطيع لوك ولا هوبز ولا روسو ولا غيرهم تقديم أساس تاريخي عملي تحققت فيه الفكرة المركزية الفلسفية التي نَظَّروا لها في العلاقة بين السلطة والناس.

بينما هذا كله لم يكن المسلمون بحاجة للتنظير فيه لأنه محلول بنصوص القرآن والسنة وسيرة الخلافة الراشدة.. كان الفقهاء المسلمون مشغولين بكيفية الاقتراب من نموذج دولة النبوة والخلافة الراشدة، وباستخلاص منهجهم وطريقتهم في التعامل مع الموازنات.

لقد كانت طريقة الفقهاء أنسب وأقرب إلى شأن السياسة وواقع الناس وتعقدات الحياة من طريقة الفلاسفة، وكانت ميلهم إلى المعالجة العملية أصوب من البقاء في فراغ النظرية الفلسفية والرؤية المثالية، ومن هنا كثر في طريقة الفقهاء التفريع والموازنة بالحديث عن المصلحة والمفسدة وجلب المنفعة ودفع المضرة واحتمال أدنى المفسدتين ونحو ذلك... وهو المسار الذي أنتج البناء الفقهي الإسلامي الضخم الذي حفل بقواعد الموازنة بين النصوص لاستخلاص الحكم، وقواعد الموازنة بين الأحوال لإصدار الفتوى. بينما كانت طريقة الفلاسفة والمفكرين والمنظرين كثيرة التفريع والتشقيق في التعريفات والمصطلحات وضبط حدود المعاني والمفاهيم. ولئن صحَّ بشكل عام أن التطبيق السياسي كان مخالفا للنظرية السياسية في كل التجارب الإنسانية، فيصحّ أيضا أن تأثير المعرفة الإسلامية والنظرية الإسلامية في واقع المسلمين كان أعلى بكثير من تأثير الفلسفة الغربية في واقع التطبيق الحضاري الغربي.

يبقى سؤال: هل بُحثت السياسة في الإسلام بما يناسب أهميتها؟

تقديري أن السياسة الشرعية كتب فيها كثير جدا جدا جدا، بل فيها تخمة، كثير منها مجهول.. ويمكن مطالعة كتاب د. نصر عارف "مصادر التراث السياسي الإسلامي" لتصور حجم المنتج التراثي.. كما ان جامعات العالم الإسلامي حوت كثيرا جدا من المتخصصين في السياسة الشرعية ولكنهم لم يبرزوا إعلاميا مثل فتحي الدريني وفتحي عبد الكريم ومنير البياتي وسعدي أبو جيب وضياء الدين الريس ومحمد البلتاجي حسن والدميجي وسامي الوكيل والطريقي ومحمد يسري إبراهيم وعطية عدلان، فضلا عن المشاهير كالسنهوري والقرضاوي والشاوي وحاكم المطيري وسعد العتيبي والطريفي وإبراهيم السكران وفهد العجلان وغيرهم.

ومهما اختلفنا في شأن هؤلاء من حيث الكثرة والقلة في الإنتاج أو من حيث العمق والتبسيط، أو حتى من حيث الصواب والخطأ، فإن المقصود هو أن الإنتاج الإسلامي في السياسة الشرعية كثير، ولكنه مغمور فضلا عن أنه غير مُفَعَّل.. إن سؤال الدولة الذي ضغط على المسلمين طوال قرن أو أكثر أنتج أجوبة كثيرة عنه.

إلا أن أهم ما في كتب السياسة الشرعية أنها لم تبرر الواقع ولم تلفق له، ولو أنها فعلت لما ظللنا حتى اليوم نتحدث ونتجادل في التغلب وفي ولاية العهد.. جدالنا هذا نفسه هو ثمرة من ثمرات أجدادنا الفقهاء العظماء الذين حفظوا لنا الدين وأخبرونا في كل كتبهم أن ولاية التغلب تجوز في الاضطرار وأن ولاية العهد تجوز في الاضطرار، وتحت ضغط الموازنات الواقعية، وأن الأصل هو التولية الرضائية باختيار الأمة الحر.. وهذه هي القيمة العظيمة لتراثنا العلمي العظيم، أنه لم تصنعه سلطة ولم تتحكم فيه سلطة، وإنما كان الفقيه يُقرر الأصل ثم يجيز ما هو خلاف الأصل للضرورة والموازنات.

بينما عموم الفكر السياسي الغربي أنه كان وليد بيئته وأوضاعه، ولذلك فهو يحمل من السيولة والاختلاف والتضارب ما لا يمكن معه الحديث عن "فكر سياسي غربي" إلا بنوع من التعميم الواسع ولغرض التصنيف الدراسي لا غير. وبين هذه المدارس الفكرية من التناقض ما لا يمكن رفعه، فإذا استطاعت فكرة ما أن تنجح في أرض الواقع وتطبق نفسها فليس لها معيارٌ إلا نفسها، ولا يمكن أن تُحاكَم إلى أي معيار آخر يمثل أساسا ثابتا ومستقرا. إن الملكية التي تبدو عيبا خطيرا في مدرسة ما تبدو مقبولة تماما في مدرسة أخرى، احتكار الأسواق والتحكم في التجارة يبدو ظلما شنيعا في مدرسة ما بينما يبدو ذروة العدالة في مدرسة أخرى. وعلى كل فكرة أن تجاهد لتحقيق نفسها في الواقع لتفرض قيمها وتجعلها قيمة كونية وعلامة حضارية.


نشر في مجلة المجتمع الكويتية، سبتمبر 2020 


3 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on September 05, 2020 07:34

August 8, 2020

حوار مع موقع تبيان: اشتباك التاريخ والواقع

 بسم الله الرحمن الرحيم

"من وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره"، فيجب علينا النظر في تاريخ الأمة أو تواريخ الأمم السابقة لنخرج منها بخلاصات لمشاكلنا الحالية.

يشرفنا في تبيان أن نرحب بالأستاذ محمد إلهامي في هذا الحديث الماتع حول التاريخ ودروسه وكيف نأخذ العبر منه لفهم الواقع.

 

تبيان 1: ما هي الوسائل العملية أو الخطوات المُعينة على معرفة وإدراك التاريخ الحقيقي للأمة الإسلامية بعيدا عن عقبات التزييف أو التشويه؟ وكيف يمكن الاستفادة من المصادر المختلفة رغم توجهاتها التي قد تؤثر في الخلاصات التاريخية. وهل من أسماء تنصح بها لمؤرخين ومصادر تاريخية؟

 

ما شاء الله، البداية ثقيلة كمدفع ضخم، ويصعب في الواقع إعطاء إجابة مكتملة على هذا السؤال الواسع. سأحاول اختصار الأمر فأقول:

التاريخ هو مجموعة من الأحداث المتتابعة والمتراكمة، كثير منها مجهول، والمعلوم منها هي الأحداث الكبرى الفارقة، أو تلك الأحداث التي أتيح لها أن تسجل في وثائق أو نقوش أو ما شابه. هذه الأحداث في ذاتها لا تكشف عن معنى ولا تؤدي إلى قصة، إنها مثل قراءة قاموس لغوي أو معجم أو دليل الهاتف القديم -وهو كتاب ضخم يتذكره جيل ما قبل عصر الانترنت- لكن هذه الأحداث تكتسب المعنى وتُكَوِّن القصة على يد المؤرخ أو الراوي.

وهذا أمر يشمل سائر العلوم، بما فيها العلوم البحتة.. فالمكتشفات العلمية يمكن تشبيهها بنقاط ضوء في مساحة معتمة، فيأتي العالِم فيحاول أن يفهم من خلال هذه المكتشفات القانون الذي يفسرها ويربطها، فيبدأ في تكوين نظرية، ثم يبدأ في اختبارها وتجريبها حتى يستقر على صوابها أو تعديلها أو خطئها.

إن عملية الربط والتأمل والتفسير واستخلاص النظرية هي عملية إنسانية، مُحَمَّلة بكل انحيازات الإنسان ورؤاه وتصوراته وطريقة تفكيره، فيمكن ببساطة أن توضع نفس المعطيات أمام عدد من العلماء، فيختلفون في استخلاص نتائجها تبعا لاختلافهم.

لكن عملية الربط والتأمل والتفسير تكون أكثر عمقا وتعقيدا وتأثيرا في العلوم الإنسانية، وذلك أن العلوم البحتة يمكن إخضاع الكثير من فروضها للتجربة في المعمل، ففي المعمل يمكن عزل بعض العوامل لتحديد العامل المؤثر، أو لتحديد نسبة كل عامل من التأثير في النتيجة النهائية. بينما هذا غير ممكن في العلوم الإنسانية؛ فنحن لا يمكننا -مثلا- إعادة التاريخ وتجريب القرارات والخيارات الأخرى لنرى كيف ستكون النتائج.

وبهذا يعتمد تفسير التاريخ وتصور قوانينه، وكذا سائر العلوم الإنسانية، على الإنسان المؤرخ.. فالحدث الواحد يحتمل الكثير من التفاسير، ولكن المؤرخ يفسره في ضوء خبرته وتصوراته وثقافته وميوله الفكرية.

وأبسط مثال يمكن أن نضربه هنا هو نشوب معركة ما، فإنك تجد المؤرخ الماركسي يحاول تحليلها في ضوء الصراع المادي الاقتصادي، بينما يفسرها المؤرخ القومي في ضوء الفروق القومية والعرقية، بينما يفسرها المؤرخ الديني من خلال الخلاف الديني. وسيجد الجميع من بين الحوادث ما يمكنه أن يتعلق بالجانب الذي يميل إليه، فيسعى في تضخيمه والتركيز عليه.

التاريخ هو رواية إنسانية لأحداث إنسانية، ولا يمكن أن يفلت المؤرخ من نفسه، فكل رواية تاريخية إنما هي مصبوغة برؤية صاحبها ومواقفه وانحيازاته، مهما اجتهد ومهما ادعى أنه مؤرخ موضوعي محايد.

كل هذه المقدمة الطويلة أريد بها الوصول إلى واقع راسخ، وهو أن التاريخ لا يُقرأ بمعزل عن تصور ورؤية وفلسفة حاكمة، مثله مثل سائر العلوم الإنسانية.

من هنا عملت المدارس التاريخية على وضع قواعد ومناهج علمية تهدف بالأساس إلى التخلص من صبغة المؤرخ التي وضعها على الرواية التاريخية -قاصدا أو غير قاصد- وذلك من خلال معرفة: ميول المؤرخ واتجاهه الفكري، ومدى ارتباط مصالحه أو تعارضها مع الحدث أو الشخص الذي يؤرخ له، ومدى قربه أو بعده من زمان الحدث ومكانه، ومقارنة روايته برواية آخرين لنفس الحدث إن أمكن.

وقد تميزت المدرسة التاريخية الإسلامية بأنها الوحيدة التي اعتمدت على منهجين متوازيين لنقد الرواية التاريخية، وهما: نقد السند ونقد المتن. فسائر المدارس التاريخية الأخرى تركز على نقد المتن (وهو ما يسمى النقد الداخلي للنص) بمقارنته بغيره ومقارنته بنصوص زمانه لمعرفة ما إن كان نصا أصيلا من تلك الحقبة أو نصا منحولا لها. وأما المسلمون فقد دفعتهم عنايتهم بالحديث النبوي وسيرة النبي وخلفائه الراشدين إلى ابتداع علوم ضخمة نشأت لحفظ الحديث فأنشأت حولها علوما في معرفة الرجال الرواة، وفهرسة رواياتهم، وتسجيل حياتهم ووفياتهم وشيوخهم وتلاميذهم وقدرهم من العلم والدقة ومن الأمانة والتقوى. وبهذا كان التاريخ الإسلامي أصح تاريخ لأمة من الأمم بلا جدال.

وقد ساهم المحدثون في نقد المتن أيضا، ولهم في هذا إبداع خاص، وهذا غير ما ساهم به الأصوليون والفقهاء الذين يتخصصون أساسا في جانب المتن، لأنهم يوازنون بين المتون ويقارنون بينها لاستخلاص الحكم الفقهي أو لاستخلاص الأصول التي بنيت عليها الأحكام.

والقارئ المبتدئ يصعب عليه أن ينقد الرواية التاريخية ويكتشف زيفها، وإنما تتأتى له هذه الخبرة مع الممارسة وطول التجربة، فليس أمامه -كما هو الحال في شأن سائر العلوم- إلا أن يبدأ بإرشاد وتوجيه ممن يثق في علمه ودينه، ومع التقدم والاجتهاد تتكون شخصيته ويكتسب الخبرة التي يتمكن بها من إنتاج تحقيقاته التاريخية الأصيلة التي يبني بها فوق من سبقوه، ويمهد بها لمن يلحقوه.

وأما ترشيح أسماء أو مصادر تاريخية فلعلنا نتناول طرفا منه في الإجابات القادمة إن شاء الله.

 

تبيان 2: ما هو الحد الأدنى الذي على المسلم الإحاطة به في دراسة التاريخ؟ ما هي القضايا الأساسية التي يجب أن يلم بها أو الشخصيات والأحداث لفهم الواقع الذي نعيشه واستشراف المستقبل؟

ذكرنا أنه لا بد في قراءة التاريخ من رؤية تفسر أحداثه وتجمعها في سياق مفهوم، رؤية تتحدد بها العوامل الأكثر أهمية وتأثيرا والعوامل الأقل منها في الأهمية والتأثير، رؤية تحدد معاييرنا في الصواب والخطأ وفي الحق والباطل، وتحدد ترتيب الأولويات والمهمات.

نحن المسلمين نستمد هذه الرؤية وهذا التصور من ديننا، من القرآن والسنة، إن طريقة القرآن في رواية القصص التاريخية للأنبياء والأقوام السابقين وسيرة النبي تغرس في المسلم هذا التصور وتعينه على حسن قراءة الحدث التاريخي وسننه وتحديد معايير الصواب والخطأ وترتيب الأولويات. ثم تأتي القراءة في السيرة النبوية (وهي فرع من السنة النبوية) التي هي التطبيق العملي للإسلام في ذروته العليا لتزيدنا وضوحا وتفصيلا من هذه الرؤية الإسلامية وهذا التصور الإسلامي. ثم تأتي سيرة الخلفاء الراشدين لتعطينا الصورة المثلي للتطبيق الإسلامي في حال عدم وجود نبي، فنفهم منهم كيف يجب أن يحكم المسلمون أنفسهم حكما إسلاميا، ولهذا أوصى النبي باتباع سنة الخلفاء الراشدين والعضّ عليها بالنواجذ، فهي -بهذا- جزء متمم للسيرة النبوية، وتطبيق بشري مثالي للإسلام.

من هنا فإن أولى الأولويات وأوجب الواجبات لدى المسلم في باب التاريخ هو فهم ما في القرآن وتعلم السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين. ومن استطاع أن يتضلع من هذه الأمور ويستوعبها ويهضمها ويفهمها حق الفهم فقد استقام له التصور الإسلامي كله، واستقامت معاييره في الصواب والخطأ، وانتظمت أولوياته في التفكير والتفسير والتحليل والتعليل، وكان بهذا قادرا على قراءة بقية العصور وبقية الأحقاب وفهمها وتقييمها، وكان بهذا قادرا تحديد المسافة بين واقعنا المعاصر وبين المثال الذي نطمح إليه.

وهذا يستلزم مجهودا كبيرا ومستمرا، كما يقتضي تعلمه على يد شيخ خبير -وما أندرهم- فعلى الذي يحتسب نفسه لهذه المهمة أن يصدق الله في همته وهمّه كي يصدقه الله في التوفيق والسداد.

 

تبيان 3: ما مدى حاجتنا كمسلمين لإعادة قراءة تاريخية لحركات مقاومة الاستعمار ورموزها خارج توظيفها القومي والوطني ؟

أحب أن أبدي أولا إعجابي بهذا السؤال وتقديري لصاحبه، فلقد مسَّ أمرا خطيرا وقضية عظمى..

هذه المشكلة، أعني مشكلة توظيف رموز مقاومة الاحتلال في صورة وطنية أو قومية ضيقة، هي فرع من مشكلة الفلسفة والرؤية والتصور الذي يحكم قراءة التاريخ كما ذكرناه سابقا.

سنضرب الآن مثلا خياليا، لنتصور أن احتلالا أجنبيا نزل إلى مصر وقسَّمها إلى خمس دول، كما هو موجود في بعض المخططات فعلا وإن بعض سياسة عبد الفتاح السيسي تبدو وكأنها تمهد لهذا، على أن هذا موضوع آخر.. لنبق في المثال: لنتصور احتلالا أجنبيا نزل إلى مصر وبينما هو يسيطر عليها هب لمقاومته رجال من أنحائها فقاوموا فخطبوا وكتبوا وقاتلوا وأنشؤوا التنظيمات السرية ونفذوا في الأجنبي وعملائه عمليات تفجير واغتيال.

لكن الاحتلال الأجنبي نجح في قهرهم وهزيمتهم، ثم نجح في خطته، وصارت مصر خمس دول جديدة.. هذه الدول الجديدة التي أنشأها الاحتلال ووضع لها رؤساءها وأعطاها استقلالا شكليا ستبدأ في كتابة تاريخها للمقاومة والاستقلال. فتكتب دولة الإسكندرية تاريخ الرمز الوطني السكندري، وتكتب دولة الصعيد تاريخ الرمز الوطني الصعيدي، وتكتب دولة الدلتا تاريخ الرمز الوطني الدلتاوي.. وينسجون القصص والحكايات حول حب كل مقاوم لوطنه، وتضحيته فداء له!

سيخرج جيلٌ "وطني" بل متعصب لدولته الصغيرة، يتصور أطفال وشباب الإسكندرية أن فلانا كان يضحي من أجل دولة الإسكندرية ومن أجل الشعب السكندري، ويتصور أطفال وشباب الصعيد أن فلانا كان يضحي من أجل دولة الصعيد والشعب الصعيدي… وهكذا!

بينما هذه الرؤية لم تكن موجودة أصلا في ذهن الذين قاوموا الاحتلال، والكلمة التي قالها السكندري في حب الإسكندرية لم تكن تعني الوطنية السكندرية بل كانت تعني حبه لمنبته أو حبه لأهله ولكنه إنما كان يقاتل في سبيل تحرير مصر كلها، وكذلك الكلمة التي قالها الصعيدي في حب الصعيد لم تكن تعبيرا عن وطنية صعيدية… وهكذا!

انتهى المثال.. لنعود الآن إلى الحقيقة!

الحقيقة أن الاحتلال الأجنبي حين نزل إلى بلادنا، وهبَّ الناس لمقاومته فإنهم لم يكونوا يفكرون أبدا بهذا المنطق الوطني الصغير، لقد قاتل الحملة الفرنسية على مصر شوام وحجازيون ومغاربة بل ومن إندونيسيا قاوم طلاب الأزهر، والذي قتل كليبر إنما هو من حلب التي هي الآن في الشمال السوري!!

وقبل أيام جاءنا خبر استعادة الجزائر رفات عدد من مقاومي الاحتلال الفرنسي وفوجئ المصريون بأن بينهم قائد مصري من دمياط.. هذه المفاجأة نفسها هي دليل على رسوخ القسمة الوطنية القطرية، ففي ذلك الزمن لم يكن يتساءل أحد: لماذا يقاتل دمياطي في الجزائر؟!

وهكذا جرى الحال، سنجد أن قادة المقاومة المصرية للاحتلال الإنجليزي كانوا شديدي الارتباط بالخلافة العثمانية، وكانوا يقفون بكل القوة والإصرار ضد انفصال مصر عن الدولة العثمانية، وأحمد عرابي في مذكراته يصرح بهذا، ومثله مصطفى كامل، ومثله محمد فريد (بل إن محمد فريد ألف تاريخا كبيرا عن الدولة العثمانية)، وعزيز المصري، وغيرهم.

بل إن مصطفى كامل كان يدفع باتجاه التنازل عن ثلث سيناء للدولة العثمانية في الحادثة المعروفة بأزمة طابا 1906، وما ذلك إلا لكي ينتزعها من الإنجليز. ولكننا لم نعرف هذا إلا حين فتشنا في الكتب بعد أن كبرنا، لم يخبرونا بهذا في المدرسة، لم يخبرونا بهذا لأنهم كانوا يريدون لنا أن نفهم مصطفى كامل كزعيم وطني متعصب للجنس المصري وفقط! ولم نعرف شيئا أبدا عن العاطفة الإسلامية الحارة لديه ولا عن علاقته الوثيقة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

الخلاصة: يجب أن نعرف أن التاريخ الذي درسناه في الدول القطرية هو تاريخ مزيف بطبيعته، لأنه يحاول بالتاريخ ترسيخ الوهم والتقسيم، وهو أمرٌ لم يكن موجودا وقتها أصلا. تماما مثلما يحاولون إيهامنا بأن الدولة العثمانية كانت احتلالا للديار العربية، ويتجرأ بعضهم أكثر فيتحدث عن الاحتلال العربي لمصر على يد عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب.. ويبلغ هذا السفه ذروته حين تسمع كاتبا مثل عادل حمودة يستغرب: لماذا علينا كمصريين أن ندافع عن محمد (صلى الله عليه وسلم) ضد الإساءة إليه، فهذا -عنده- عملٌ يجب أن تقوم به السعودية!!

إذا فهم المرء التصور والرؤية التي ينطلق منها كاتب التاريخ سيفهم بوضوح ما الذي جرى تجاهله، وما الذي جرى التركيز عليه.

وبعد الفهم سنحتاج لمجهود ضخم في استخراج التاريخ الحقيقي المطمور المغمور لأبطال المقاومة هؤلاء ليعاد قراءته القراءة الصحيحة المتسقة مع طبيعة العصر ومع انتماء هؤلاء المقاومين لأمتهم ودينهم.

 

تبيان 4: ما مدى تقدم الدورة التاريخية الحالية، وهل هناك بوادر قريبة المدى لعودة التكتلات في الغرب على أساس المسيحية، بعد استنفاذ المنظومة القيمية العلمانية لرصيدها في البقاء، وهل لهذا دور في استنهاض البعد الديني الصريح في الصراع بين الغرب وبلاد المسلمين؟

أنا ممن يقولون بأن المسيحية لم تختفِ من السياسة الأوروبية حتى مع الهيمنة العلمانية، بل ظلت المسيحية هي الهوية الكامنة والظاهرة وإن تخلى الغربيون عن ممارسة شعائرها وطقوسها وإن عبَّروا عن ازدرائها والتنصل من التزاماتها. وهذا خلاف طويل بين المؤرخين والمفكرين والمحللين ليس هذا مقام التفصيل فيه. إلا أنه لا يمكننا أن نفسر انتشار حملات التنصير برفقة حملات الاستعمار دون استدعاء هذه الهوية! وكان محمد أسد (ليوبولد فايس) قد ذكر في كتابه الشهير "الطريق إلى الإسلام" أن أوروبا لم تتعرف على نفسها كمجموع إلا في ظل الحروب الصليبية، فالحروب الصليبية هي المكون الأساسي في الشعور الأوروبي العام، وأن طريقة تفكير الأوروبيين اليوم إنما هي وليدة انفعالات ومشاعر أنشأتها الحروب الصليبية.

نعم، فقد البابا جزءا كبيرا من نفوذه الروحي، وفقدت الكنيسة قدرا عظيما من نفوذها السياسي، وهُزِمت المسيحية أمام العلمانية على مستوى العبادات والشعائر والسلوك الشخصي حتى اضطر بعض رجالها أن يشرعن الزواج المدني وأن يشرعن زواج الشواذ، ولم يستطع الرهبان -بطبيعة الحال- مقاومة موجات الإباحية العاتية فصارت لهم فضائح جنسية متكررة. ونستطيع أن نزيد أمورا أخرى!

لكن إذا نظرنا في السياسة الغربية الداخلية والخارجية بإجمال فلن نجد حيادا تجاه الأديان، بل لا تزال المسيحية هي الدين الأثير، ولا تزال الكنائس تتمتع بأنهار من الأموال والذهب والنشاطات الواسعة البعيدة، ولا يزال الفاتيكان حجر أساس في السياسة الدولية، وفي بلادنا هنا فإن الأقليات المسيحية كانت أحظى الأقليات بالحنان والدفء والاهتمام الغربي، ورغم الدخول الغربي في الحقبة العلمانية منذ أكثر من قرنين فلا تزال الروح الصليبية ظاهرة حاضرة، فالأعلام الأوروبية زاخرة بالصليب والبرتوكولات الملكية والرئاسية حافلة بمراسم وتقاليد وأشكال صليبية، وحين دخل الجنرال ألنبي القدس نشرت الصحف الإنجليزية عنوانا يقول "الآن انتهت الحروب الصليبية" ورسمت إحداها كاريكاتيرا لريتشارد قلب الأسد وقد قرّت عينه باحتلال القدس، وحرص غورو قائد جيش الجمهورية الفرنسية "العلمانية" أن يركل قلب صلاح الدين في دمشق قائلا "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، ووقفت أوروبا وماطلت ضد دخول تركيا -يوم أن كانت علمانية مخلصة للعلمانية- إلى الاتحاد الأوروبي، وكاد بندكت السادس عشر ينجح في أن يضع ضمن بنود ميثاق الاتحاد الأوروبي ميثاقا عن الهوية الصليبية لأوروبا، وتخبرنا كونداليزا رايس في مذكراتها أنه حتى عهد جورج بوش الابن كانت المنظومة المدفعية الأمريكية الرئيسية الموجهة للسوفيت تسمى crusader"صليبية"، وجميعنا يذكر ما قاله بوش الابن عن حربه المرتقبة على الإسلام "إنها حملة صليبية جديدة"! ثم استدركها مستشاروه وقالوا "إنها فلتة لسان"، وإني لأصدقهم في أنها فلتة لسان، ولكنها كما قيل "فلتات اللسان تخبر عن مكنونات الصدور".

الخلاصة أن أوروبا لم تتخل عن الهوية المسيحية الصليبية كي تستدعيها من جديد، لقد كانت دائما حاضرة حتى وإن تخفت أحيانا تحت زخارف علمانية عصرية ومقولات مادية عقلانية. وما كان ممكنا أصلا أن تتخلى أوروبا عن المسيحية فإنها هوية عميقة دفينة، ونحن العرب -على سبيل المثال- لا نملك أن نتخلى عن الهوية الإسلامية، ولو فتشت في القيم الحاكمة والمهيمنة على مجمل الشعوب العربية بل حتى على مجمل النخب المتعلمنة لوجدتها تستمد جذورها من القيم الإسلامية، فحتى الملحدين العرب لا يتحولون إلى عدميين عبثيين كما هو المفترض في النتيجة النظرية المنطقية للإلحاد!

صحيح أن الإسلام أرسخ جذورا في شعوبه من أي دين آخر، إلا أن المسيحية راسخة في الغرب رسوخا عظيما كذلك، وسيستمر هذا إلى يوم القيامة، ففي الحديث عن ملحمة آخر الزمان أن الروم يرفعون الصليب تحت ثمانين راية.

 

تبيان 5: أجيال التسعينات لديهم وعي كاف بالقضية الفلسطينية وبخبث دعوات التطبيع مع إسرائيل، كانت نشأتهم مساعدة في ذلك التربية عكس أجيال الألفية، شريحة كبيرة منهم لا تدري ما هو الاحتلال وما هي القضية الفلسطينية. ما السبب في ذلك من وجهة نظر الأستاذ محمد إلهامي؟ وما التصرفات اللازمة لإعادة نشأة الجيل الجديد على الاهتمام بأحوال القضية الفلسطينية؟

السبب في ذلك أنهم آخر الأجيال التي شاهدت رواية عربية تناصر فلسطين وتعتبر إسرائيل عدوا وتعيش على أمجاد الحروب معها، صحيحٌ أن الأنظمة العربية كانت هي الحراسة الحقيقية والأسباب المباشرة لقيام إسرائيل، ولكن التمثيلية كانت تتطلب أن يقوموا بهذا الدور وهم يهتفون ضد إسرائيل. ولذا فبينما هم يسلمون لها الأرض ويدمرون الجيوش يصرخون ضدها في وسائل الإعلام ومناهج التعليم.

من هنا فقد تشربت الأجيال هذه المعاني التي كانت ضرورية لعملية الخداع ولتسهيل القيام بالخيانة.

ثم جاءت مرحلة جديدة بعد أن صارت إسرائيل أمرا واقعا، وصار السلام معها خيارا استراتيجيا، فهاجر إليه العرب جميعا، أو كما قال أحمد مطر "لم يرجع الثور ولكن.. ذهبت وراءه الحظيرة"! وتدحرج الذاهبون بداية بالمغرب ومصر ثم الأردن ثم الإمارات، ثم جاء عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية بمبادرة استسلام عامة حمل عليها الدول العربية وسماها مبادرة السلام العربية وأقرتها القمة العربية في بيروت قبل أقل من عشرين سنة.

والآن دخلنا في مرحلة جديدة، حيث صارت إسرائيل سيدة العرب، وصار السيسي محتاجا لها في انقلابه وفي تثبيت شرعيته ومكانه، وكذا صار محمد بن سلمان محتاجا لها في تثبيت مكانه من بين أمراء الجيل الثالث للأسرة السعودية، وأما الإمارات فقد صارت ولاية صهيونية تتطوع وتجتهد في خدمة إسرائيل، وكانت هي أسبق الدول الخليجية لتعذيب المجاهدين في سجونها للحصول منهم على معلومات، بل إن خبراء صهاينة كانوا يتولون تعذيب فلسطينيين قبض عليهم في الإمارات، وذلك في الإمارات نفسها منذ مطلع التسعينات من القرن العشرين.

كل هذا المسار كان يتطلب خطابا آخر يُلقى على أسماع الجماهير العربية، خطاب السلام والوئام والحب والمودة، خطاب التطبيع مع إسرائيل. ولست أنسى هنا يوما كان في ظل انتفاضة الأقصى عام 2000 أو في مطلع 2001 كتبه لبيب السباعي وكان على رأس مؤسسة الأهرام المصرية، حيث تعجب واستغرب من خروج مظاهرات تلاميذ المدارس الابتدائية في مصر تعاطفا مع انتفاضة الأقصى، ومن يقرأ مقاله يكاد يتخيله وهو يضرب كفا بكف ويقول: كيف لهؤلاء الذين تلقوا خطاب السلام مع إسرائيل أن يخرجوا في هذه المظاهرات، من أين يأتيهم الخطاب الآخر الذي يعادي إسرائيل؟!

حسنا، هذا الواقع، فما الحل؟!

الحل الجذري الذي لا أرى غيره هو التركيز على خيانة هذه الأنظمة، على إسقاطها، على فضحها وتعريتها دائما، كل ما سوى ذلك سيأتي تباعا.. لقد كان خطاب الوقوف مع الأنظمة في مواجهة إسرائيل خطابا تخديريا إن لم يكن خطابا مُغَفَّلًا وساذجا. وإن السهم الذي يطلق في قلب نظام عربي هو كمائة سهم في قلب إسرائيل. إسرائيل لم تنشأ ولم تتمكن ولم تتسيد إلا بفعل هذه الأنظمة الخائنة.

إن كثيرين لم ينتبهوا لدور السعودية الخطير في دعم إسرائيل إلا لما قالها ترمب في 2018 "لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة"، بينما يمتد شأن هذا الدعم منذ عبد العزيز نفسه، حتى في فترة الملك فيصل التي بدت الأكثر إسلامية كان رجل المخابرات السعودية كمال أدهم أحد أضلاع الدعم السعودي لإسرائيل، وأما الآن فقد دخلت السعودية رسميا في اتفاقية الأمن بشرائها جزيرتي تيران وصنافير ووقعت على الاتفاق الأمني الملحق بكامب ديفيد.

وإنما أضرب المثل بالسعودية لأنها آخر الدول التي كانت الجماهير الإسلامية تظن أنها داعمة لإسرائيل، ولقد كان الجهاديون بل الموغلون منهم في التكفير يتوقفون في تكفير النظام السعودي (كما روى أبو محمد المقدسي عن سيد إمام، وكان سيد إمام قاضي جماعة الجهاد ومنظرها وهو من الغلاة جدا في التكفير حتى إنه ليكفر كل من ذهب إلى الانتخابات، ومع ذلك كان يتوقف في تكفير النظام السعودي، وهو ما جعل المقدسي يؤلف كتابه "الكواشف الجلية").. فانظر كيف كان الخداع عظيما، وكيف كان الانخداع كبيرا، هذا الذي لا يتورع عن تكفير عموم المسلمين كان يتوقف في النظام السعودي!!

فالخلاصة أن تعرية هذه الأنظمة وفضحها ومقاومتها والسعي في إسقاطها هو الحل الأكبر بل هو الحل الوحيد، وسائر ما سوى ذلك يأتي تبعا.

 

تبيان 6: الحراك السلمي واللعب في المساحات المسموحة، وتاريخ من الحركات الإصلاحية وحركات المقاومة في بلادنا الإسلامية لم تثمر في إحداث التغيير المطلوب، فكيف تستشرف مستقبل هذه الحركات والتيارات الإسلامية؟

كانت الحركات الإسلامية هي الطليعة التي أفرزتها الأمة لمقاومة الاحتلال والطغيان والتغريب، وقد كانت هذه الحركات ولا زالت السد الأقوى تجاه سقوط الأمة فكريا ونفسيا ومعنويا بعد سقوطها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وسائر هذه الحركات قدمت ثمارا عظيمة وحققت نتائج مبهرة بالقياس إلى فارق الإمكانيات الضخم، كما كانت لها إخفاقاتها بطبيعة الحال.

وكنتُ قد أشرت في مقال سابق إلى ما تحتاجه الحركات الإسلامية لكي تتنتصر، ولكن المهم في شأن المستقبل أن نعرف أمرا يتعلق بالماضي، ذلك هو أن الحركات التغييرية تنتصر حين تتحول إلى دولة، وأن هذا لا يتأتى إلا أن تكون هذه الحركة على مستوى اللحظة وعلى قدر المهمة، سواء كان طريقها إلى النجاح جهاديا عسكريا أو سياسيا أو مزيجا بينهما، فكل حركة أدرى بواقعها التفصيلي وبوسائل تصحيحه والنجاح فيه.

وفي واقعنا المعاصر الآن فإن الحملة العالمية الجديدة تستهدف الاستئصال والإبادة، ولا تسمح بمساحة حركة مقبولة للجماعات الإسلامية في جوار الأنظمة، بل هي الآن تضع الكل في سلة واحدة، ولا تراهن إلا على الحركات والجماعات التي تفرض أصولها الفكرية عليها الطاعة التامة للأنظمة مثل المداخلة والصوفية وربما بعض الجماعات العلمية الغارقة في تفاصيل علمية وفروعية وسجالية. لقد اختفت الآن المساحة التي حاولت مراكز البحث الغربية اللعب عليها بتكوين "شبكات الإسلام المعتدل" تبحث عن إسلاميين يقدمون نسخة سياسية متوافقة مع النظام الغربي، لم يعد هذا مطروحا الآن، والخيار الوحيد هو جماعات لخدمة الأنظمة بتقديم نسخة دينية تشرعن بالدين سياسة الأنظمة أو تهجر السياسة بالكلية.

لهذا فإن التحديالقادم المفروض على الحركة الإسلامية هو في صلبه تحدٍّ جهادي، لمقاومة الإبادة والاستئصال، فالأنظمة التي رأت في ثورات الربيع العربي خطورة زوالها ولا تزال حتى الآن تعاني من ذلك، لم تعد تفكر في التسامح مع الحركات الإسلامية.

ويجب أن نعترف هنا أن سياسة الأنظمة العربية -ومن ورائها النظام الدولي- في امتصاص الموجة الثانية من الربيع العربي كانت سياسة خبيثة وناجعة، فالآن إذا نظرت إلى العراق ولبنان والسودان والجزائر وجدت حراك الشارع قد انتهى إلى الصفر أو إلى نتائج سلبية على الشعب، لقد جرى تطويع هذا الحراك بكفاءة ليعود النظام القديم بوجه جديد دون أية مكاسب شعبية.

ولهذا، فما لم تكن الحركات الإسلامية في قادم الأيام قادرة على خوض معركة مقاومة، ممزوجة بالسياسة وحسن التدبير، فلا يُتَوَقَّع لها أن تنجح. وما لم تكن الحركات الإسلامية ساعية في إعداد نفسها لامتلاك القوة وأدواتها والتدبير لتهيئة كوادر تحسن إنشاء العلاقات ودخول المساومات واكتساب الأموال واختراق النظم السياسية، فلا يُتَوَقَّع لها أن تنجح.

إن خبرة القرنين الماضيين خبرة عظيمة، لكن أكثر الحركات الإسلامية لا تهتم بقراءة هذه التجارب، وكذلك خبرة الواقع المتجددة خبرة عظيمة لكن تحتاج لمن يقرؤها بعين تسترشد لا بعين تدافع عن الحزب والجماعة.

وفي ظني أنه بغير هذه الخبرة فلن تكون الحركة الإسلامية على مستوى التحدي ولا على مستوى اللحظة التاريخية، وهذا هو شرط الإنجاز والنجاح.

 

تبيان 7: في ظلال السيرة النبوية، كيف كانت طريقته صلى الله عليه وسلم للتغيير، كيف أسس الرسول صلى الله عليه وسلم دولته؟

هذا السؤال مما تُكتب فيه الكتب ذات المجلدات الكثيرة، وقد حاولت اختصاره من قبل في هذا المقال وأرجو أن يرجع القارئ إليه. لكني أنتهز الفرصة هنا لأقول إن التغيير دائما يأتي من الأعلى لا من الأسفل، من القيادة والسلطة لا من الشعب والعامة. وإن سيرة حركات التغيير هي سيرة قوم ذوو إيمان بفكرة سعوا لامتلاك القوة والشوكة ثم صادموا بها النظام الحاكم حتى أسقطوه فدانت لهم الشعوب فطبقوا فكرتهم!

هذه سيرة التغيير الناجح سواء أكانت الفكرة في نفسها حقا أم باطلا..

وأما سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فهي ذروة الحق، وهي أيضا ذروة النجاح في تجربة بشرية، ولهذا اختراه مايكل هارت كأعظم شخصية في التاريخ الإنساني، ذلك أن نجاحه الديني والدنيوي لم يستطعه أحد من قبله، فهو الوحيد -صلى الله عليه وسلم- الذي أسس في حياته دينا عظيما ودولة عظيمة.

وما إن نزل الوحي على النبي وأُمر بالبلاغ حتى نهض إلى تكوين "فريق العمل" أو "السابقون الأولون" الذين انتقاهم واختارهم بعناية وأفضى لهم بأمر الدين فآمنوا واتبعوه، وقد بذل جهده الكبير في محاولة إسلام زعماء قريش إذ هم سادة مكة التي هي عاصمة العرب، فإذا أسلموا أسلم العرب من ورائهم، فلما صدوا عنه ذهب إلى الطائف وهي العاصمة الثانية للعرب، فلما صدوه صار يطوف على القبائل يطلب الحماية والنصرة، أي: يطلب إنشاء دولة، حتى لقي الأنصار فكانوا أهل الشوكة والدولة، وبهم حارب قريشا حتى فتح مكة فدانت له العرب.

فكرة، ثم قائد موهوب يحملها، ثم فريق عمل قوي، ثم أنصار ودولة، ثم سيطرة على العاصمة الأهم.. تلك هي خلاصة رحلة التغيير التي تخوضها أية حركة.

 

تبيان 8: في ضوء دراستك للتاريخ ما هي سنن الانتقال من الذل إلى المجد، أو ما التصور لملامح طريق إعادة الإسلام إلى واقع الحياة؟

لا يختلف الجواب هنا كثيرا عن جواب السؤال السابق، لكن الله تبارك وتعالى قصَّ علينا قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، وتلك قصة نموذجية في الانتقال من الذل إلى المجد.. كنتُ قد كتبت هذا في مقال سابق أيضا أرجو العودة إليه.

وأحب أن أضيف إلى هذا المقال السابق نقطة مهمة، تتعلق بالقيادة والقائد، تلك هي أن القائد الجدير بالقيادة ليس دائما قادرا على انتزاع القيادة لنفسه، قد يكون فساد النظام والتقاليد أقوى منه، وقد تكون الخدمة العظمى التي يؤديها الواحد منا لهذه الأمة أنه يفسح الطريق للموهوبين، وأن يدفع بكل موهوب إلى مكانه الذي هو جدير به.

وقد تكرر في تاريخنا وتواريخ غيرنا قصص الأبطال الكبار الذين غيروا مجرى التاريخ، وما حملهم إلى موقع القيادة إلا أمر هو خارجٌ عنهم ولم يكن بسعيهم.. وهذه بعض النماذج هنا.


تبيان 9: إذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه، كيف نوفق بين هذه المقولة لابن الأثير وبين دورنا للأخذ بالأسباب لإحداث التغيير؟ وهل ترى الأحداث الراهنة كتهيئة لأسباب التغيير في المنطقة وتمهيدًا لها؟

كان ابن القيم رحمه الله، يرد على القدريين بمثالٍ رائع، يقول فيما معناه: إن الله قدَّر العطش وخلق الماء، فمن أصابه العطش أخذ بالأسباب فذهب إلى الماء، فشرب فزال عنه العطش، فهو يأخذ بالأسباب، ولكن هذا كله جرى بقدر الله.

لقد حجب الله أقداره عن الناس، وإنما تتمثل أقداره في سعيهم، فهم مظهر قدرته إلا أن كلا منهم سعى إلى ذلك بنفسه وباختياره، فمن سعى وحقق وأدرك غايته أو بعضها فإنما كان هذا بأخذه بالأسباب، وكان هو وسعيه والأسباب من قدر الله. ومن تكاسل وأبطأ وتبطل فأخفق وأساء وخاب فقد كان كسله وتبطله وتركه للأسباب وخيبته من قدر الله.

لسنا نعرف قدر الله المكتوب في علم الغيب إلا بعد أن يتحقق في الواقع، ولا يخرج شيء عن علم الله ولا عن قدرته، كيف وهو الذي خلق الناس ويعلم بواطنهم وظواهرهم ويعلم ما كان وما يكون وما سيكون.

ذلك هو معنى: إذا أراد الله شيئا هيأ له أسبابه.

وهذا المعنى لا ينافي ولا يعارض أن نأخذ نحن بالأسباب لنبلغ ما نريد ونرغب، فإن نحن صدقنا في السعي والأخذ بالأسباب والتعلق بالله وحققنا ما نريد وما نرغب فإنما هذا كله من تهيئة الله الأسباب لما يريد. وإن نحن أخفقنا ولم نبلغ ما نريد فإنما هو بتقصيرنا في الأخذ بالأسباب أو بقصورنا عما نطلب ونرغب أو لحكمة شاءها الله تعالى، وكان هذا كله من تهيئة الله الأسباب لما يريد.

والجدل في مسائل الأقدار وفي ما هو من علم الغيب وفيما يتعلق بذات الله لم يبزغ ويكثر إلا في عهود البطالة والترف، حيث يكثر الجدل ويقل العمل، بينما إن نظرنا إلى سيرة النبي وصحابته وجدناهم كما قيل: آخذ بالأسباب وكأنه لا قدر، ثم أرتقب القدر وكأنه لا أسباب.

فما علينا إلا أن نسعى ونعمل ونبذل الجهد ما استطعنا، فإما بلغنا الغاية، وإما كنا تمهيدا لمن سيبلغها بعدنا، وفي النهاية فإن كل امرئ سيحاسب على نفسه وعمله فردا، فكم من أناس سيدخلون الجنة دون أن يبلغوا النصر، وكم من ناس سيدخلون النار وقد عاشوا في زمن النصر. الأمر متعلق بعمل الإنسان في نفسه وحياته، وقد وزَّع الله الأفهام والقدرات والمواهب كما وزَّع الأرزاق، فالناس يتفاوتون، والحمد لله الذي اختص نفسه بالحساب، فهو الأعلم والأرحم بكل عبد من عباده، وهو الأعلم بما يطيقه كل واحد من العمل ومن الفهم أيضا.

 

تبيان 10: هل ترى أن الأمة تفتقد القائد الفذ الذي يحركها؟ أم أن هناك الكثير من المؤهلين لشغل دور القيادة لكن الأمة لم تتحرك بعد لتظهر هذه القيادات؟

 

يصعب أن أتصور خلو أمة تبلغ مليارا وسبعمائة مليون من المؤهلين للقيادة، من المستحيل أن يكون هذا العدد الضخم من الناس خاليا من قادة مؤهلين. الأقرب للتصور أن الوضع العام الذي تعيشه الأمة وما يسيطر عليها من التقاليد والأنظمة والأعراف الفاسدة هو ما يجعلها تكبت هؤلاء وتحرمهم من صعود المكان اللائق بهم.

وقد أشرت في إجابة سابقة إلى مثل هذا، ولعل هذه فرصة لبعض تفصيل:

إن الملأ من بني إسرائيل الذين طردهم العماليق وأخرجوهم من الأرض المقدسة وانتزعوا منهم مقدساتهم، إن هؤلاء الملأ كانوا يحتوون في داخلهم القائد المخلص، ويحتوون الجنود الذين سيحققون النصر.. لكنهم لم يهتدوا إليه! بل لما قال لهم نبيهم إن الله قد اختار لكم هذا القائد انزعجوا واستغربوا وقالوا (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال).. هذا هو الشاهد!.. لقد كان بينهم القائد الجدير بالقيادة إلا أنهم لم يفكروا فيه ولم يكونوا ليفكروا فيه لفساد أفكارهم ونظرتهم وتصورهم للأمور، ولأن هذا الفساد في التصور كان فاشيا وطاغيا لم يستطع طالوت نفسه أن ينتزع بنفسه موقع القيادة مع أنه جدير بها. كان القوم محتاجين لمن ينبههم إلى هذا القائد، وكان القائد محتاجا لمن يرفعه إلى موقع القيادة.. فلما حصل هذا، استطاع هذا القائد بثلاثمائة رجل منهم فقط أن يحقق النصر ويسترجع المقدسات ويطرد العماليق من الأرض المقدسة، ويكون هو المؤسس لأزهى عصور بني إسرائيل على الإطلاق.

نحن أقرب شبها في قصتنا الحالية إلى هذا الحال، قادة لا يجدون من يرفعهم إلى مكان القيادة، وأنظمة عتيقة بالية وتصورات فاسدة تسيطر على الأذهان والأفكار فتصرف القيادة إلى غير الجديرين بها، والنتيجة: أمة مستضعفة على كثرتها وقوتها ومخزونها الرهيب من طاقة الإيمان والفداء.

لهذا فإن من أوجب الواجبات التي يجب السعي إليها هو تمكين كل ذي موهبة من المكان الذي هو جدير به، وتذليل السبل له، ودعمه بكل ما يمكن أن يحتاجه لينجح: بالعلم وبالمال وبالعلاقات وبالتعريف به وبالحماية وبتثبيط الخصم عنه… وهكذا!

وكل إنسان أعلم وأعرف بنفسه وبما يستطيع أن يفعل لنفسه ولمن يعرفهم ممن هم حوله.

 

تبيان 11: كنت أشرت في أحد مقالاتك سابقًا بأن إعادة نشر “الوعي بالنظام الإسلامي” في بناء المجتمع هو واجب الوقت، فكيف توضح ذلك في ضوء محاربة الدولة القومية الحديثة للنظام الإجتماعي الإسلامي وتفكيكه منذ نشأتها وباستمرار حتى حربها الأخيرة على مؤسسات مثل الأزهر الشريف في مصر؟

نشر الوعي بالنظام الإسلامي هو أول مراحل مقاومة هذه الدولة القومية الحديثة، من أهم جذور المشكلة المعاصرة أن الناس لا تعرف ما هو الإسلام ولا ما هو نظامه، الناس لا يتخيلون كيف كان المسلمون يعيشون قبل وجود هذه الدولة، يبدو الناس الآن كالذي وُلِد في سجن فهو لم يعرف سوى السجن، يرى قيوده انضباطا ويرى تحكمه نظاما ويرى سيطرته إدارة ويرى زنزانته وطنا ويرى أسواره منتهى الدنيا.. هذا الذي وُلِد ونشأ وعاش في السجن يصعب إقناعه بأن وراء هذه الأسوار دنيا فسيحة لا قيود فيها ولا زنازين ولا تحكم ولا سيطرة.. وحتى لو أقنعناه، فإنه سيخاف من هذه الفوضى، من هذا الفراغ، من هذا المجهول، من هذه السعة الفسيحة، لقد سكن السجنُ روحَه وشكَّل عقله وكوَّن قناعاته، ورسم له أحلامه وحدد له خيالاته.

هذا حالنا في هذه الدولة الحديثة.. إن حياة المجتمع الإسلامي قبل الدولة الحديثة تكاد تكون مجهولة تماما، بل الواقع أنها مجهولة حتى في أوساط كثير من المتخصصين في التاريخ الإسلامي، ذلك أن هؤلاء لم يحاولوا توسيع خيالهم ليتجاوز الدولة الحديثة فصاروا يفهمون نصوص التاريخ ضمن خيالاتهم وأفكارهم المحكومة بالدولة الحديثة والتي صنعتها الدولة الحديثة.

من هنا فإن الغربيين أحسن تصورا لحالة المجتمع الإسلامي قبل الحداثة من كثير من المسلمين، وأحسن تصورا لتناقض الإسلام مع الدولة الحديثة المعاصرة من كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم. يعود ذلك لأسباب أهمها في رأيي سببان:

- الأول: أن الحرية التي يعيشونها في بلادهم تجعلهم يبصرون عيوب نظام الدولة الحديثة، ويدركون هيمنتها الكامنة الخفية على كل شيء، بينما شعوبنا لأنها تعيش في استبداد شنيع فإن مجرد وصولهم لما فيه الغربيون من الحرية يعد حلما لامعا وخيالا متألقا، فكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يدركوا عيوب نظام هو بالنسبة لهم حلما بعيد المنال؟!

- الثاني: أن الغربيين -وأقصد هنا علماءهم وباحثيهم ذوي الرصانة والدقة- يدرسون الإسلام منذ قرن ونصف على الأقل وهم في حالة من التمكن والتفوق والقوة تجعلهم لا يشعرون بالتهديد منه، فهم يدرسونه كما يدرسون تمثالا في متحف، كأنما هو حضارة شبه ميتة لا يُخشى منها، لذلك ينصفون ويعدلون، فلا خشية من الميت. وبعضهم يرى أن في الإسلام من المزايا ما تحتاجه الحضارة الغربية لتحسين مستواها الحضاري والأخلاقي. ولم يكن ممكنا أن يخرج هذا الإنصاف في أزمنة التهديد الإسلامي، فتلك أزمنة التشويه والتفزيع.

الشاهد من هذا أنه، على الأقل فيما رأيت وفيما أعلم، أجد عن المستشرقين والباحثين الغربيين فهما أوضح وأفضل لواقع المجتمع الإسلامي قبل الدولة الحديثة، أفضل من المسلمين بمن فيهم العلماء والدعاة مع الأسف الشديد.

ثم أرجع لأؤكد وأقول: إن نشر هذا الوعي بالنظام الإسلامي وبصورة المجتمع الإسلامي قبل الحداثة هو الخطوة الأولى في مقاومة هذه الدولة الحديثة، إنه تعريف بنور الإسلام لمن لم يذق سوى ظلمات الجاهلية، وقد تخوَّف عمر رضي الله عنه من اللحظة التي ينشأ فيها جيل إسلامي لا يعرف الجاهلية فلا يدرك عظمة الإسلام ونعمته، فكيف يا ترى تكون المصيبة حين ينشأ جيل مسلم في الجاهلية ولا يعرف الإسلام؟! ثم يظن أن الإسلام ليس إلا مجرد تحسينات وتعديلات في هذا النظام الجاهلي؟!

في كل الأحوال على العلماء والدعاة والباحثين مهمة كبرى في تجلية نظام الإسلام والترويج له والدفاع عنه، وفي الدفع بكل القوة لتحقيقه عند كل فرصة وباقتناص كل ثغرة.. وقد حاولت جهدي -وهو جهد المقل- في الكتابة والإشارة إلى هذا الموضوع.. فعل المستزيد يتفضل فيطالع هذه الروابط (سأكتفي بسبعة فقط، وسيجد في مدونتي وفي صفحات حسابي أمورا أخرى في هذا الصدد) :

فيديو: كيف بنىالإسلام نظامه الاجتماعي والسياسي؟

فيديو: المستبدفي تاريخ الإسلام صلاحياته أقل من الحاكم الديمقراطي المعاصر

فيديو: أحاديثطاعة الأمراء لن يفهمها المتأثرون بالثقافة الغربية

مقال: طبقاتالاستبداد ومقاومة الأمة

مقال: أخصرالمختصر في النظام السياسي الإسلامي

مقال: صناعة مجتمع الجسد الواحد: الجزء الأول - الجزء الثاني

كتاب: منهجالإسلام في بناء المجتمع

 

تبيان 12: إن الله لا يصلح عمل المفسدين، والظلم مؤذن بخراب العمران، كيف نوفق بين ذلك والتجارب الإقتصادية الناجحة والنهضة التي أحدثها طغاة ومستبدون مثل محمد علي والنهضة التي أحدثها في مصر حتى لقب بمؤسس مصر الحديثة؟

هذا سؤال مركب يحتاج إلى تقسيم ليحصل البيان والتوضيح:

أولا: ما معنى "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"؟

ذكر المفسرون عند هذه الآية عددا من المعاني، منها أن الله تعالى "لا يجعلهم بأعمالهم الفاسدة صالحين، أو لا يجعل أعمالهم الفاسدة صالحة"، وقال بعضهم: لا يُصلح أي: لا يرضى بعمل المفسدين.

وبعض العلماء حمل المعنى على أن هذا في العاقبة، فالله لا يصلح عمل المفسدين كما أنه لا يهدي كيد الخائنين، فالخيانة تنكشف والحقيقة تظهر، فكونه جل وعلا "لا يهدي كيد الخائنين" إنما ذُكرت في قصة يوسف عليه السلام عند براءته مع أنه لبث في السجن بضع سنين. فالمعنى أنه لا بد لعمل المفسدين أن يبطل ويظهر فساده وإن علا الفساد وتمكَّن زمنا، فالله لا يُثبت هذا العمل ولا يديمه كما في قوله تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).

وبعض العلماء حمل المعنى على أنه في الآخرة، فالله لا يصلح عمل المفسدين كما أنه لا يضيع أجر المحسنين، فإن هذا يكون في الآخرة يقينا ويكون في الدنيا أحيانا، ومعناه أن الله يجعل عملهم لا ينفعهم، كما في قوله تعالى (ليجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم).

ويلوح لي من هذه الآية، من تأمل سياقها، أنها وردت في حال المواجهة بين موسى والسحرة (قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين)، وهذا السياق يتضح به المعنى: أن الباطل حين يواجهه الحق فإن الله ينصر أهل الحق، وهو معنى متكرر في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)، وكما في قوله تعالى (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).

فطالما حصلت المواجهة والمقاومة والمقاتلة والمدافعة فإن الله تعالى لا يُمَكِّن للكافرين، فإذا حصل التمكين للكافرين فإنما حصل بقعود أهل الحق عن القيام بالواجب في مدافعتهم ففقدوا بذلك معية الله، وجرت عليهم سننه الكونية في نصر من اجتهد وأخذ بالأسباب ولو كان كافرا. وهذا المعنى كان ينبه عليه عمر وهو يوصي جيوش الفتح، وكان المسلمون إذا تأخر عليهم فتح حصن أرسل إليهم يخوفهم ذنوبهم وينبههم إلى ما قد أحدثوه من المعاصي مما تسبب في تأخر الفتح عليهم.

ويشهد لهذا المعنى قول مقاتل في تفسيرها "إن الله لا يعطي أهل الكفر والمعاصي الظَّفَر"، ومقاتلٌ هو من كبار مفسري التابعين ومقامه أشهر من أن يعرف!

ومع هذا كله، فلو حملنا الآية على ظاهرها من أن الله لا يصلح عمل المفسدين وتدبيرهم وخططهم لرأينا مصداق هذا كثيرا، فقد كانت بعض المؤتمرات التنصيرية في مطلع القرن العشرين تعدّ العدة لتنصير العالم الإسلامي كله ووضعوا لذلك خطة تنتهي بنهاية القرن، وها قد فشلوا. بل انتقلوا بعد عقود إلى فكرة صناعة أو دعم تيارات إسلامية "معتدلة" ثم إلى فكرة دعم الطرق الصوفية.. إنه تاريخ من تحطم الأحلام على صخرة الواقع، تاريخ من الإخفاق.

كذلك وضع مؤسسوا إسرائيل خططهم منذ 1897 ليقيموها بعد خمسين سنة 1947 ونجحوا، ثم ليجعلوها تتمدد بين النيل والفرات بعد خمسين أخرى 1997 ففشلوا. وجاء شارون الرهيب -الذي يمكن أن نختصر سيرة إسرائيل كلها في سيرته- ليبني بنفسه جدارا عازلا ليحمي قومه من مواكب الاستشهاديين في الضفة الغربية، فانظر كيف لبطل إسرائيل الكبير ومحاربها العنيد العتيد أن يخط بنفسه حدودا تحبس التوسع الإسرائيلي.

والباحثون في الجانب الأمني يرون هذا واضحا في كثير من الدراسات الأمنية التي تتحدث عن فشل القوى العظمى في تحقيق أهدافها، ومؤخرا كانت الواشنطن بوست تنشر تحقيقا طويلا من جلسات مطولة مع قادة الحرب في أفغانستان عن أسباب الفشل في هذه الحرب، وهناك العديد من الكتب والدراسات التي تخصصت في رصد العمليات الفاشلة والتاريخ الفاشل لأجهزة المخابرات العظمى التي تمتلك من الإمكانيات ما لا يُتَوَقَّع معه حصول كل هذا الفشل.

وكثيرا ما ترى في مذكرات صناع القرار -تصريحا أو تلميحا- إلقائهم بمسؤولية الفشل على رفاقهم في الإدارة، وتظهر إلى العلن المشاكسات بين المسؤول السياسي والمسؤول الأمني والمسؤول العسكري، وغير ذلك مما يدل بوضوح على أن أعمالهم لا تسير كما خططوا لها، وإذا كان هؤلاء بكل ما لديهم من إمكانيات هائلة يخفقون كل هذا الإخفاق، فمن يا ترى الذي أفسد عملهم؟!.. إنه الله، لا إله إلا هو، رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم.

ثانيا: ما معنى "الظلم مؤذن بخراب العمران"؟

هذه الكلمة لابن خلدون، وكان تعبيره دقيقا حين قال بأنه "مؤذن" أي أن الظلم مؤشر على خراب العمران، ونذير له، وهو يؤدي إليه.. فليس وقوع الظلم يعني أن العمران يخرب من وقته، بل السنة أن الظلم يفسد من النفوس ومن السلوك ما تبدأ معه متسلسلة تنتهي بخراب العمران. وهذا المعنى مضطرد من قبل ابن خلدون ومن بعده، وإنما استنبطه ابن خلدون لأنه متشرب للإسلام، ومن تشرب الإسلام قرأ ذلك المعنى في حديث رسول الله "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 08, 2020 10:02

August 5, 2020

الرحالات الحجازية: عالم من المتعة


من يقرؤون في بلادنا قلة، وهذا أمر مؤسف.. غير أن الأشد أسفا من ذلك أن هذه القلة القارئة ينصرف معظمها نحو قراءة الروايات والقصص والمواد الخفيفة اللطيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لا.. بل الحق أنها تضر ولا تنفع، وأنها تؤذي ولا تُصلح!
والإكثار من قراءة الروايات يشبه الإكثار من الاستماع إلى المسلسلات والأفلام، وأكبر الضرر أن تكون مادّة العقل وأفكاره ورؤاه وتصوراته مبنية على قصص خيالية حبكتها عقول المؤلفين، بينما حقيقة الحياة أكثر تركيبا وتعقيدا وعمقا. إن هذا الحال يشبه كثيرا أن يكون كل غذاء الجسم من المأكولات السريعة: حلوة الطعم حافلة بالمقبلات ولكنها مضرة بالجسم.
ربما كان الكثير من الشباب معذورا، لم يجد من يوجهه إلى المعرفة الثقيلة الرصينة النافعة، وربما كان العذر في أن هذه المعرفة النافعة لم تُكتب بأساليب سهلة مبسطة مشوقة تمتع القارئين، فظلت حكرا على المتخصيين فيها وعلى من يتصبر لها ويتجلد أمامها حتى يفهمها فيذوق لذتها.
وأكثر ما أشعر بهذا المأزق حين يتكاثر في بريدي سؤال متكرر: ماذا نقرأ في التاريخ؟ وكيف نتخلص من عقدة أن ما نقرأه سرعان ما ننساه؟!
هذا مع أن التاريخ مَبْنَيٌّ على القصص والحكايات، حتى لقد أوصى بعض العلماء طالبَ العلم أن يتعلم التاريخ "خاصةً وقت راحته وسآمته من تعلم غيره من العلوم، فإن هذا العلم سهل جداً، ومَنْشَط ومُنْتَزَه ولذة، لا ينبغي لأحد أن يخلو منه"لقد جُبِل الإنسان على حب القصة، وعلى الشغف بالسرد، حتى لو أنه يعرف نهاية القصة فإنه لا يزال يستمع إليها معجبا بها، وبهذه الفطرة سمعنا قصص الطفولة من آبائنا وأمهاتنا عشرات المرات ولم نكن نشعر بالملل.
فلماذا إذن يستثقل الشباب في زماننا قراءة التاريخ ويستخفون قراءة القصة؟!
لهذا أسباب عديدة بعضها يتصل بمناهج التاريخ المعاصرة التي اهتمت بالتحليل والتعليل والتفسير واتخذت لنفسها من المناهج والأساليب الأكاديمية ما أبعدها عن الجمهور، وبعضها يتصل بأساليب تدريس التاريخ في مدارسنا، وبعضها يتصل كذلك بالضعف العام للهمم والركون إلى السهل في عالمٍ تسيطر عليه حضارة اللذة والسرعة وسرعة تقلب المزاج وحب الراحة!
كنتُ أجيب السائلين بأن عليهم أن يتركوا الروايات ويقرؤوا كتب المذكرات الشخصية وأدب الرحلات وحتى أدب السجون، ففيها يتحقق جانب المتعة بالسرد والوصف إلى جانب كونها حقيقية وليست خيالا ابتدعه عقل مؤلف! فتكون قراءتها اطلاعا على حقيقة العالم وعلى العالم الحقيقي، ويكتسب القارئ فيها ثقافة ووعيا بما يجري في دنيا الناس وما يؤثر عليه في دنياه وفي أخراه أيضا.
وهذه السطور هي تعريف بكتاب عظيم اجتمع فيه العلم والمتعة، الدين والدنيا، النفع واللذة، ذلك هو كتاب "الرحلات الحجازية" للشيخ الدكتور محمد موسى الشريف.
مؤلف هذا الكتاب عُرِف بغزارة الإنتاج، وقائمة كتبه طويلة متعددة منها ما بلغ عددا من المجلدات ومنها الكتيبات الصغيرة.. وقد حدثني –حفظه الله- أنه صار يتعمد أن يخرج كتبا صغيرة لأن همم القراءة قد ضعفت، وهو لا يحب أن يظل العلم حكرا على المتخصيين والقلة من ذوي الهمة.
وقد دفعته هذه الرغبة فيما يبدو لتلخيص وتهذيب عدد من الموسوعات الكبرى العلمية، لتكون أيسر على القارئين، ككتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي والذي بلغت به بعض الطبعات خمسين مجلدا وهو سجل حافل للشخصيات الكبيرة في التاريخ الإسلامي لسبعة قرون، حيث اختصره د. موسى الشريف إلى أربعة مجلدات بعنوان "نزهة الفضلاء"، ومثل ذلك كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي وهو سفر ضخم في التراجم اختصره إلى مجلدين بعنوان "الأخبار العليّات"، ومثلهما كتاب "رياض النفوس" وهو تراجم لأعلام المغرب الإسلامي اختصره في مجلد واحد. ثم أتمَّ مسيرة التراجم بكتاب آخر اختصره من تسعة عشر كتابا في التراجم لأعلام الإسلام بين القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الهجري، وسماه "المختار المصون من أعلام القرون" في ثلاث مجلدات.
لكن الكتاب الذي نحن بصدده مُخْتَصَرٌ من بين نحو الثلاثين مجلدا، فقد نهضت همة الشيخ إلى جمع أربعة وعشرين كتابا كتبها أصحابها عن رحلتهم إلى الحج، ثم اختصر ذلك في كتاب واحد، فخرج الكتاب في ثلاث مجلدات كأنه خلاصة الخلاصة ورحيق الرحيق، وسمَّاه "المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية"!!
وقد اتسعت دائرة الجمع، فشملت القدامى كابن جبير وابن رشيد الفهري وابن بطوطة كما شملت المتأخرين كشكيب أرسلان ورشيد رضا وعلي طنطاوي ومحمد حسين هيكل. كما شملت كذلك كتب المستشرقين الغربيين الذين تنكروا كمسلمين ليشاهدوا الحج ويكتبوا عنه، مثل فارتيما وجوزيف بتس وريتشارد بيرتون.
فاجتمعت في هذا الكتاب أنواع من المعارف واللطائف وزوايا النظر لاتساع الزمان وتعدد الرجال، فلكل زمان أهله وأفكاره وقضاياه، ولكل مؤلف رؤاه وقضاياه وما يلفت نظره وما يعتمل في نفسه، حتى الأساليب اللغوية الأدبية قد تنوعت في هذا الكتاب بين القديم والحديث، المشرقي والمغربي، الأصيل والمترجم.
كأنه صورة بانورامية مصغرة وشاملة لرحلة الحج عبر عشرة قرون، تمر فيها على أحوال مكة والمدينة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وعلى طرق الحج وأحوالها وأوضاعها وما يكتنف الحاج فيها من المشاق وما وُضِع له فيها من التسهيلات، ومواقف الحكومات من الحج ما بين المنع والتضييق أو الفسح والتشويق، وطبيعة التنظيم لقافلة الحج والقائمين عليها وتدابيرهم في الحماية والحراسة ونحو ذلك، وأحوال المطوفين في مكة والمُزَوّرين (أي الذين يرشدون الزائرين) في المدينة وتعاملهم مع المسلمين ممن لا يعرفون العربية وما يقع بينهم وبين الحجاج من تراحم أو ضده، وما يقع في الحج من التعارف والتآلف واللقاء بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما يقع للحجاج عند مغادرة بلادهم من التوديع وعند العودة إليها من الحفاوة.
وكأنه بستان متنوع من الخواطر والنظرات الإيمانية التي جالت في صدور أصحابها وهم في الديار المقدسة، وبستان متنوع من صور الشوق العظيم الذي يغمر قلوب المسلمين، فمنهم من حجَّ فارتوت أشواقه وتجددت، ومنهم من لم يدرك ولكن قَلَمًا لأحد هؤلاء الرحالة سجَّل هذه الأشواق.
وظهر في هذه الرحلات آثارٌ علميةٌ واجتماعيةٌ يصعب أن تُدرك بوضوح في مصادر التأريخ التقليدية، كذلك الذي يقع بين الحجاج وبين المدن على طريق الحج من الإقامة والزواج والتعليم والتجارة، وما يتعرض له الحجاج من المغامرات مع قطاع الطريق أحيانا ومع غيرهم من قوافل الحج أحيانا أخرى، وما شاع في بعض الأزمنة والأمكنة من العادات والتقاليد الدينية والدنيوية، وما يترنم به الحجاج من الأناشيد والأهازيج، وما أصدره بعض العلماء من فتاوى لإسقاط فرض الحج حين يبلغهم ما في الطريق من الصعوبات والمخاوف، وكيف استقبل الناس هذه الفتاوى فمنهم من غلبه الشوق ومنهم من غلبه الخوف.
ولا تخلو هذه الرحلات من فوائد قوية في الأحوال السياسية لبلاد المسلمين، لا سيما ما تعلق منها بأمراء مكة والمدينة وأعيانهما، وأوضاع الخلافة الإسلامية لا سيما في العصر المملوكي والعثماني، وما كان يلقاه الحجاج من الرعاية أو الإهمال، وكيف أدارت السلطة شأن الحجاج بداية من تمهيد السبل والحماية من قطاع الطرق وتنفيذ الحجر الصحي ومتابعة شؤونهم في التنقل والإقامة ورفع المظالم، وذلك المشروع الكبير الذي تعلقت به قلوب المسلمين في عهد السلطان عبد الحميد: سكة حديد الحجاز!
ومن عادة المؤلف حفظه الله، أنه يضع في نهاية الكتاب فهرسا للفوائد، يضع فيه ما هو جدير بالنظر والمطالعة من المعارف اللطائف والغرائب والمواعظ وما يثير التأمل، وهذا الفهرس هو من بدائع ما يفعل المؤلف، ومن يبدأ بقراءته يزداد شوقا لمطالعة الكتاب. وقد صرَّح في كتابه "رحلتي مع القراءة" بقوله:
"لما تعمقت في القراءة رأيت أن أضع علامة على المواضع المهمة في الكتاب حتى أعود إليها فيما بعد، وقد أفادتني هذه الطريقة فيما بعد، فقد كنت إذا أردت الرجوع إلى كتاب قرأته من قبل فإني أقلَّب صفحاته لأعرف المواضع المهمة فيه. وربما وضعت بعض التعليقات داخل الكتاب على ما أجده جيداً أو مستهجناً مما أقرؤه. وربما وضعت في صدر الكتاب بعد فراغي من قراءته رأيي فيه وفي مصنفه بكلمات موجزة قليلات. ثم إني انتهيت في القراءة إلى وضع فهرسة خاصة لفوائد كل كتاب أقرأه غالباً، وذلك الفهرست -فهرست الفوائد- هو العمل الأرضى عندي في باب القراءة؛ وذلك لأن الفهرست يعد خلاصة ما في الكتاب".
وللمؤلف أيضا كتابان آخران يتعلقان بأمر الحج، أولهما كتاب "المقالات النفيسة في الحج إلى الأماكن الشريفة" وهو قريبٌ من فكرة كتاب "الرحلات الحجازية" إلا أنه عن المقالات لا عن الرحلات، وفيه جمع المؤلف عشرات من عيون المقالات التي كتبها أئمة وعلماء ودعاة وأدباء في شأن الحج ومعانيه وفقهه وآثاره في النفس والمجتمع وما يوصى به للحاج في نفسه أو ما يُرفع للحكام والأمراء من النصائح في باب الحج، وقد استخرج هذه المقالات من المجلات والجرائد وكثيرٌ منها هو في حكم الضائع لأنه لم يُجمع ضمن كتب أخرى لصاحبه. فهذا الكتاب بستان آخر في عالم الحج والحجيج، وشعاع نور بديع تشاركت في نسجه ورسمه أقلامٌ أصيلة رصينة.
وثانيهما هو كتاب "الشوق والحنين إلى الحرمين"، وهو مستخلص من كتاب "الرحلات الحجازية"، إذ أفرد المؤلف أخبار الشوق والحنين لدى الحجاج وما يتصل بها في ذلك الكتاب الصغير، وحسنًا فَعَل، إذ هو أرجى أن ينتشر ويُقرأ ويتحقق منه معنى التشويق والتحفيز إلى الحرمين الشريفين.
والخلاصة المقصودة أن كتاب "الرحلات الحجازية" هو نموذج بديع وعظيم للكتب التي ننصح أن ينصرف إليها الشباب عن غيرها من الروايات الأدبية والخيالية، فلا بد للمرء أن يكون حريصا على عقله كما هو حريص على جسمه، بل غذاء العقل أهم وأولى من غذاء الجسم، لا سيما وكثيرٌ من غذاء العقل النافع هو أيضا غذاء ممتع ولذيذ.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أغسطس 2020
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 05, 2020 12:52

July 27, 2020

أخصر المختصر في ملامح النظام السياسي الإسلامي


ما زالت تزداد قناعتي كل يوم بأن المعضلة المعاصرة التي تواجه المسلمين ليست معضلة شبهات تحتاج إلى ردود وتوضيح وبراعة في البيان والتفسير والتفصيل، بل هي معضلة عجز وإخفاق تحتاج إلى كفاءة في العمل والإنجاز والبناء والتكوين.
فالشبهة مهما كانت متهافتة فإنها تستمد قوتها إذا نطق بها القوي الغالب المتمكن، والحق مهما كان سديدا فهو مخدوش مُزْدَرى إذا نطق به الضعيف المهضوم، تلك طبيعة النفس البشرية، فإذا انقلبت موازين القوى فإذا بالشبهة المتمكنة التي كانت تهيمن في زمن القوة تزول كأنها غمامة صيف تنقشع، وإذا المهضوم المزدرى إذا غَلَبَ انتصرت أفكاره وأقبل عليها الناس بلا عسر.
ومع هذا كله، فلا بد من البيان فإنه أول العمل، وقد جعل البخاري بابا في صحيحه بعنوان "باب العلم قبل القول والعمل"..
ثم أقول: وما زالت تزداد قناعتي كل يوم بأن الإنتاج المعاصر في باب السياسة الشرعية ليس قليلا ولا هو ضعيف أو ضحل، وإنما هذا كلام من لم يكن لهم حظٌّ من الاطلاع على ما أنتجه المعاصرون في باب السياسة الشرعية أو ما صار يسمى "الفقه السياسي الإسلامي"، والواقع عكس ذلك، فإن قضية الدولة الإسلامية كانت هي القضية الأكثر حرجا لدى المهمومين بقضايا الإسلام، طوال قرنٍ أو قرنين على الأقل، وأنتجوا فيها كثيرا جدا. إلا أن أكثر هذا الإنتاج غير معروف ولا مشتهر، وما ذلك إلا لأن موازين القوى –والتي من بينها منافذ الإعلام والثقافة- تسهم في طمر هذا الإنتاج وغمره. وإنما المنشور كثير جدا، وأكثر منه غير المنشور الذي لا يزال رابضا على رفوف المكتبات في الرسائل العلمية بكليات الشريعة والقانون والحقوق والاقتصاد والسياسة، فكثير من طلاب هذه الكليات عبر هذه العقود بحثوا الموضوعات المعاصرة والقضايا الملحة في الإسلام أو مقارنا بغيره من النظم الوضعية. وهذا فضلا عن إنتاج المجامع الفقهية ومراكز البحوث الإسلامية المتعددة التي حاولت سد هذه الثغرات وتقديم مشروع إسلامي.
ولكن، وبسبب ما ذكرناه من هيمنة العلمانية على المجال العام ومنافذ التعليم والثقافة، فلا تزال الحاجة ماسة لتعريف المسلمين بملامح النظام السياسي الإسلامي، وكيف أنه متفرد متميز عن غيره. كما لا تزال الحاجة ماسة إلى تبسيط هذه المادة العلمية وتقديمها بمختلف الصور ووسائل الشرح لتحقق أكبر انتشار بين عموم المسلمين، وعموم غير المسلمين أيضا.
وفي النهاية، فمهما كان ثمة نظرية عظيمة متقنة محكمة، فلا مجال لرؤية عظمتها إذا لم تكن ثمة فرصة للتطبيق والتنزيل، وهنا تظهر بشكل أقوى موازين القوى التي لا تسمح بأدنى قدر من تحقق الفكرة في واقع الحياة. فمهما امتلكنا من البلاغة والفصاحة وأحسنَّا الشرح والبيان والتفصيل، فلن يتغير شيء في الواقع.
لهذا الذي سبق كله، حاولت في هذه السطور القادمة اختصار أهم الأفكار التي أرى أن عموم المسلمين في حاجة لاستيعابها جيدا في ملامح النظام السياسي الإسلامي، وليس لي إلا غرض واحد فيها لو أنه تحقق فقد تمَّت النعمة، وهو: تجميع هذه الأفكار المتناثرة في خيط واحد لدى العقل المسلم، خيط يتصل فيه ما هو ديني بحت بما هو دنيوي بحت، يتصل فيه معنى التوحيد العقدي بشكل النظام السياسي، وهذا الاتصال هو الذي أستشعر كثيرا في نقاشاتي مع الشباب أنه مفقود أو غير واضح.
ووضعت هذه الأفكار في نقاط، حاولت أن تسلم كلُّ واحدة منها للتي بعدها، فأسأل الله أن أكون قد وفقت في هذا:
1.    اختلف معنى كلمة "السياسة" عبر الزمن، وفي زماننا هذا يُقسم المعاصرون "السياسة" إلى ثلاثة فروع كبرى هي: النظرية السياسية، النظم السياسية، العلاقات الدولية.
2.    مهما جاء أحدٌ بمشروع تغيير وإصلاح، فإنه لا يستطيع أن ينفكَّ عن واقعه ولا أن يبدأ من الفراغ، وإنما يأخذ من واقعه لمشروعه، ويعاني مضايقاته، ويتصرف في اضطراراته، ويوازن بين المصالح والمفاسد حتى يبلغ ما يريد. ولم يستطع المثاليون المتعلقون بالأحلام المستعلنون برفض الواقع المتعالون على السنن، أن ينجزوا التغيير في واقع الحياة.
3.    الموازنة بين المصالح والمفاسد، مهما كُتِب فيها نظريا، فإنها متعلقة بحكمة العاملين وقوة فهمهم للسنن وحسن بصيرتهم في تقدير المآلات، ومن ثمَّ فالحديث النظري إنما هو رسم للخطوط العامة والقواعد العريضة وتوضيح للأهداف والغايات، فهو كالهداية والإرشاد وليس قيدا لتعطيل العمل أو القعود بالعاملين. وهو تحديد للوجهة والطريق وليس حثًّا على المسارعة في هدم الواقع ومخالفة سنن التدرج ومراعاة الطبائع والتقيد بحكم الضرورة والاضطرار.
4.    تراجعت حركة الاجتهاد في الفقه السياسي لظروف عديدة: سياسية وعلمية، فالمجتهد في باب الفقه السياسي بحاجة إلى إدراك ثلاثة أمور: علم السياسة الشرعية، والعلم بالواقع المعاصر، وإدراك الفوارق بين النموذج الإسلامي والمعاصر على مستوى التنظير وعلى مستوى التطبيق التاريخي والواقعي. وهذه الأمور يتعذر تحصيلها في الأوطان التي يحكمها الاستبداد وينشر فيها التخلف العلمي.
5.    ومن شأن هذا أن يقع الخلاف الكثير والواسع أحيانا بين مكونات وأطياف العمل السياسي الإسلامي، فالخلاف قد يحدث في الاجتهاد نفسه، وقد يحدث في تنزيل هذا الاجتهاد على الواقع، وقد يحدث في كليهما. كما أن التطبيق العملي لهذا الاجتهاد قد يتناوله الخطأ، والعبرة بمجمل أحوال العاملين، ويجب أن تتسع الصدور لمن دلَّت مجمل أحواله على الرغبة الصادقة لخدمة الإسلام والمسلمين، مهما وقع الخلاف بيننا في التأصيل أو في التنزيل أو في التطبيق.
6.    الأصل الأول الكبير الذي قام عليه الإسلام هو التوحيد، الذي هو شهادة "لا إله إلا الله"، ومن هذا الأصل الكبير تتفرع سائر الأصول والفروع التي تمثل نظام الإسلام في واقع الحياة. ومن ثم، فإن التوحيد يمثل صلب النظرية السياسية الإسلامية.
7.    تتمثل أهم آثار "التوحيد" في "النظرية السياسية الإسلامية" في أنه يحسم الإشكاليات الكبرى المعضلة التي اختلفت فيها النظريات السياسية الوضعية، وذلك لوضوح التصور العام والقيم الأساسية والأهداف النهائية وطبيعة العلاقات السياسية والاجتماعية.
8.    إن الله تبارك وتعالى قد اختص نفسه بالخلق والأمر {ألا له الخلق والأمر}، ومن ثم فإن البشر سواء، ولا فضل للحاكم على المحكوم وإنما هو وكيل عنهم، وهم جميعا –الحاكم والمحكوم- يعملون لتنفيذ أوامر الله التي أنزلها على رسوله، ومن هنا نزع الإسلام كل الأصول والقواعد التي يقوم عليها الطغيان، فالحاكم ليس إلها ولا شبه إله ولا ينحدر من نسل الآلهة، كما أن القوانين والشرائع التي تهيمن على المجتمع ليست من إنتاج الحاكم أو النخبة الحاكمة وليست وثيقةً كتبها المنتصر في لحظة ما، بل هي شريعة الله التي يعلمها ويخضع لها الجميع.
9.    وكل محاولة للطغيان على البشر تبدأ منذ اللحظة التي يتغلب فيها أحدهم، فيكتب في لحظة نصره الوثائق والقوانين التي يحكم بها الناس، ليتحول انتصاره إلى حالة شرعية وتتحول مقاومته إلى حالة خروج عن الشرعية تستوجب العقوبة. هذا الطغيان على الناس يراه الإسلام "عبودية لغير الله"، ويعتبر المسلمون أن من مهماتهم إنقاذ الناس بإخراجهم من عبادة غير الله إلى عبادة الله، وبذلك يخرجون من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
10.          هذا التأسيس العقدي للتوحيد يتفوق على كل تأسيس آخر فكري ونظري، لأنه يستمد قوته من كونه دينا وعقيدة، وليس مجرد فكرة أو فلسفة، وبهذا يتحول المسلم –من هذه الزاوية- إلى طاقة عملية جبارة في التغيير، لا إلى مجرد عنصر يحمل فكرة ثورية فحسب!
11.          وبعد هذا التأسيس العقدي، فإن الإسلام يبني نظامه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بحيث يقلص الصلاحيات الممنوحة للحاكم ويجعلها في الحد الأدنى اللازم لإدارة وتدبير شأن الناس، وفي نفس الوقت يزيد من التكتل الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، بحيث تكون القدرة على اضطهادهم واستعبادهم أصعب ما يكون، إذ هي خروج على الشريعة وعلى النظام الاجتماعي الراسخ في نفس الوقت.
12.          بهذا صار مستقرا لدى المسلمين، حتى في عصور هيمنة الإمبراطوريات التي يزعم حكامها أنهم يحكمونها بقداسة إلهية، أن الحاكم مجرد بشر وأنه وكيل عنهم وأن مهمته تنفيذ الشريعة ورعايتها، وأنهم مكلفون برقابته والنصح له وتقويمه سرا وجهرا، وأن خروجه عن الشريعة يسقط شرعيته ويبيح الخروج عليه. وهذه الأصول والثوابت لم تصل إليها الأنظمة المعاصرة حتى الآن، ويبقى على المسلمين مهمة الاجتهاد المعاصر في التحقيق الأمثل لهذا النموذج، كتدبير شأن اختيار الحاكم وتدبير طرق رقابته وتقويمه، ومقاومته وعزله.
13.          وبملاحظة التطبيق التاريخي للنموذج الإسلامي في مقابل النظم الأخرى بما فيها الديمقراطية المعاصرة، يمكن القول بوضوح بأن أشد حكام التاريخ الإسلامي استبدادا كانت صلاحياته أقل كثيرا من أكثر حكام الديمقراطية المعاصرة، وهذا الحاكم الأشد استبدادا في الحضارة الإسلامية كان محكوما في تصرفه –رغبا أو قسرا- بقيود أخلاقية لا يلتزم بها أكثر حكام الديمقراطية المعاصرة.
14.          تتمثل المعضلة الأساسية في الواقع المعاصر في أن الاستعمار الأجنبي والأنظمة التي أنشأها في بلادنا قد أزاحت هيمنة الدين من واقعنا، لتحل محلها هيمنة الدولة، وعملت الدولة بكل طاقتها على أن يتحول الدين إلى شأن شخصي وطقوس شعائرية لا دخل لها في المجال العام، إلا أن يكون هذا التدخل في خدمة الدولة، وبالتالي يصير الدين خادما للدولة بدلا من أن تكون الدولة خادمة للدين.
15.          وحيث جرت إزاحة الدين فقد ارتكبت هذه الدولة الكثير من الجرائم في حق الأمة، ولكن هذه الجرائم كانت تُقَدَّم باعتبارها حداثةً وتطورًا وسياسات دنيوية. ومن هذه الجرائم التعدي على كرامة الناس وحريتهم بالتدخل المتغول في شؤونهم ومنعهم من التنقل ومن الزواج ومن التجارة ومن البناء ومن التدريس ومن أي نشاط بدون تصريح مسبق، وإجبارهم على أنشطة اقتصادية وتعليمية وثقافية تحددها هي، ومنها التعدي على أموال الله كالأوقاف وفرض الضرائب عليهم وهو عدوان على أموال الناس بغير حق، فضلا عن إشاعة الفاحشة والانحلال والتفلت الأخلاقي، وغير ذلك كثير. إلا أن المشكلة الأساسية أنه لا يمكن تقييم هذه الأفعال على أنها جرائم إلا بوجود الميزان الإسلامي، فإذا فُقِد هذا الميزان أو أزيح فإن هذه الأفعال تُصَوَّر باعتبارها سياسات حديثة!
16.          وهذه الدولة التي صنعها الاستعمار هي ذاتها وحدة في شبكة دولية أسس لها هذا الاستعمار الأجنبي وسمَّاها "النظام العالمي"، وفي هذا النظام العالمي يتجسد معنى الطغيان الذي حاربه الإسلام، فقد وضع المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية جملة من الوثائق والقواعد والنظم التي ترسخ هيمنتهم على العالم، وقدموها باعتبارها "النظام العالمي" و"الثقافة العالمية" و"القانون الدولي" و"الشرعية الدولية"، وأعطوا لأنفسهم حق معاقبة الخارج عليها بأنواع العقوبات التي تبدأ بعدم الاعتراف وتمر بالحصار وتنتهي بالاحتلال العسكري.
17.          بُني النظام السياسي الإسلامي على نظريته السياسية، وكان تطبيقا عمليا لها، وقد وقع فيه سائر ما يقع في أي عمل إنساني، وهو وجود مسافة بين التنظير والتطبيق ناتجة عن الخطأ والقصور الذي يصيب أي عملية بشرية، ولكنه مع ذلك ظل أفضل نموذج تطبيقي لتجربة سياسية في التاريخ {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وبينما تمثلت لحظته النموذجية في عصر النبوة ثم عصر الخلافة الراشدة، فقد بدأ النقصان التدريجي مع عصر الدول الأموية والعباسية والعثمانية، ثم انهار مع سقوط الخلافة الإسلامية (1924م).
18.          تمثلت أهم ملامح النظام السياسي الإسلامي في التطبيق العملي لكون الأمير وكيلا عن الشعب، يأتي لهذا المنصب باختيار الأمة وتفويضها، ويظل تحت مراقبتها ولها حق نصحه وتقويمه، وحق مقاومته وعزله إن خرج عن الشريعة، ومع أنه قد حصل انحراف مبكر لمسألة اختيار الحاكم، إلا أن ذلك لم يتحول أبدا إلى عمل مشروع في كتب الفقه والسياسة الشرعية بل ظل هو خلاف الأصل وجائزا للضرورة، ولم يستطع ملك أو سلطان مهما كانت إنجازاته أن يبدل الأساس العقدي –الفكري والنظري- فيجعل نفسه مكتمل الشرعية وقد جاء بالتغلب.
19.          كذلك تمثلت في كون النظام السياسي الإسلامي قد حقق أكبر قدر معروف من التمكين المجتمعي في أي نظام سياسي، لقد كان من آثار العبادات والمعاملات الإسلامية أن حققت تلاحما عظيما وقويا بين أبناء الأمة مما جعل الطغيان عليهم لا يقارن بالطغيان الذي وقع على أمم أخرى في فارس والهند والصين وأوروبا، ولم يوجد في العالم الإسلامي قط طبقية أو عبودية على النحو الذي وُجِد في الأمم الأخرى، بل ولا حتى وُجِد في الديمقراطية المعاصرة. لقد كانت الصلاة والزكاة والصيام والحج تزيد يوميا وشهريا وسنويا من التلاحم الإنساني بين عناصر الأمة، وكانت تعاليم صلة الرحم وحسن الجوار والتكافل والإنفاق بالصدقة وإقامة الأوقاف وعمل الخير وتقديم المعونة تزيد من التكتل الجغرافي والقبلي لأبناء الأمة ليكونوا مجتمعا متماسكا. وهذا كله يجعل الطغيان على هؤلاء والاستبداد عليهم عملية صعبة على أي مستبد، ومحفوفة بالمخاطر.
20.          وحقق النظام الإسلامي أكبر قدر معروف في تقليص صلاحيات السلطة، فلم تكن السلطة في الحضارة الإسلامية تتغول على أنشطة المجتمع العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يستطع حاكم مسلم مصادرة الأوقاف التي كانت تمثل تمويلا ذاتيا واستقلالا ماليا للمجتمع، كما أن ما فُرِض من الضرائب والمكوس في فترات ما لم يتمتع أبدا بالشرعية ولم يستقر لفترة طويلة، وظل المجتمع حتى في حالات الضعف والانهيار العسكري قادرا على مواصلة العطاء الحضاري.
21.          هذه الملامح العامة، التي نضطر لشرحها لعموم الجهل بها في الواقع المعاصر، ترسم ملامح النظام السياسي الذي نطمح إليه، فهو النظام الذي يقلص مساحات السلطة وتغولها، ويعيد تمكين المجتمع ويقويه، وهو ما يترتب عليه بالضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع الطبيعي للثروة، كما يتحقق به وقف التغول السلطوي على النشاط المجتمعي.
22.          وهذا النظام الذي نطمح إليه لا يمثل إنقاذا لأمتنا وحدها، بل نحن نقدمه لكل العالم إنقاذا لهم، ونرى أن كل مجهود المجتمع المدني في الديمقراطيات المعاصرة، وكل الأفكار التي قامت عليها النقابات والجمعيات الأهلية والأنشطة الاجتماعية لا تحقق جزءا بسيطا من التلاحم والتماسك الذي يحققه النظام الإسلامي، فنحن نؤمن أن هذا النظام ينقذ كل البشر من الاستبداد والطغيان الذي يهيمن عليهم، والذي يتزخرف ويتزين بشرعية شعبية وهمية من خلال عملية انتخابات مزيفة تجري تحت التحكم الكامل لأصحاب النفوذ والتأثير.
23.          وعلى هذا فالنظام السياسي الذي نأمله هو الذي تقل فيه صلاحيات السلطة إلى الحد الأدنى، ويزداد فيه تمكين المجتمع إلى الحد الأقصى، ونرى أن تطبيق القيم والنظام الإسلامي هو السبيل الوحيد الكفيل بالوصول إلى هذا الهدف.
24.          نرى أن السلطة السياسية يجب أن تتقلص إلى وزارات محدودة تنظم قطاعات: الجيش والشرطة والقضاء والمالية والخارجية. وهي القطاعات التي تقوم بمهمتي حفظ الأمن والدفاع وما يتعلق بهما. بينما يوكل تنظيم قطاعات التعليم والإعلام والثقافة والصحة والزراعة والصناعة وبقية النشاطات إلى العمل المجتمعي والأهلي والخيري.
25.          ومع ذلك، فإن القطاعات التي تتولاها السلطة لا تُنْتَزَع من المجتمع كلية، وإنما المجتمع مساند لها وداعم بمجهوده في وجودها، فمثلا:
-      الشعب يجب أن يكون مسلحا ومدربا، فانتشار التسليح والقدرة على استعماله يعصم الأمة من استبداد وطغيان الحكام في الداخل كما يجعل عملية احتلالهم الأجنبي عملية بالغة الصعوبة، ويساعد انتشار السلاح في استتباب الأمن وانخفاض الجريمة، وهذا يرفع عبئا كبيرا من أعباء الجيش والشرطة والقضاء.
-      وأعيان الشعب وزعماؤه يجب أن يكون لهم الحق في حل الخصومات والنزاعات من خلال القضاء العرفي والأهلي الذي يقضي بالشريعة، فهذا يعزز الأمن الاجتماعي ويقضي على كثير من أسباب التحايل وهضم الحقوق وبطء التقاضي.
26.          كما أن القطاعات التي يتولاها المجتمع، يمكن للسلطة أن تساهم فيها بالتوجيه والتخطيط والمشاركة لكن دون هيمنة واحتكار:
-      فيمكن للسلطة أن تبني المستشفيات وتنشيء المدارس والجامعات والأندية الرياضية والنشاطات الثقافية وغيرها، تنشيء ذلك وتموله من فائض الموارد المالية الشرعية التي ترد إليها.
-      كما يمكن أن تشير في كل هذه الأنشطة بالتوجيه والإرشاد لرؤوس الأموال نحو بناء مستشفى بعينها أو في مكان بعينه لحاجة المجتمع لذلك، أو الاستثمار في منطقة بعينها أو مجال بعينه. يمكن لخريطة اقتصادية تضعها السلطة أن تصنع التوازن بين مجالات النشاط الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع نفسه.
27.          ويجب أن يكون واضحا أن من مهمات السلطة حراسة الدين ورعايته، ومن ضمن ذلك تعهدها بإقامة الشعائر ورعايتها كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، وهي أمور تزيد من تماسك المجتمع وصلابته.
28.          ولا يجوز للسلطة فرض ضرائب إطلاقا، فهذا من الكبائر في الإسلام، وهناك الكثير من البدائل التي يمكن بها سد عجز ضروري في الموارد كالاقتراض والمشاركات أو إعطاء مزايا بعينها لمن يستثمر في مجال ما لا تتشجع له رؤوس الأموال، فإن لم يكن فقد أجاز العلماء فرض الضرائب على الأغنياء دون الفقراء بقدر الحاجة والضرورة وبشكل استثنائي مؤقت.
29.          والسلطة بالأساس لا يحوزها إلا من اختارته الأمة بإرادتها الحرة، ولها الحق في نصحه ومحاسبته وعزله، وآليات الانتخاب والمراقبة والعزل متروكة لأهل الزمان والمكان طالما كان ذلك في إطار الشرع لا خارجا عنه. سواءٌ أطلق على هذا اسم "الديمقراطية" أو أي اسم آخر، فالعبرة بالمعاني والمسميات.
30.          استقلال الأمة وتحررها هو الهدف الأول والأكبر والأعظم أمام كل مشروع تغيير، ولا يمكن تحقيق أدنى تمكين قبل تحقيق هذا الاستقلال، الاستقلال السياسي والاقتصادي، وهذا الاستقلال السياسي والاقتصادي لا يمكن أن يتم دون قوة العقيدة والفكرة المهيمنة على عموم الأمة –وفي الطليعة منها: العاملون والقادة- ولا يمكن أن يتم دون قوة عسكرية تنتزع هذا الاستقلال انتزاعا ثم تحميه وتحرسه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 27, 2020 14:06

July 5, 2020

توقف مجلة "كلمة حق"


قد تمَّ فضل الله علينا، وأتمت مجلة "كلمة حق" ثلاث سنوات، في أيام حرجة من عمر الأمة الإسلامية، ومثل كل شيء له أول فلا بد أن يكون له آخر، فهذا العدد هو تمام السنوات الثلاث وهو كذلك العدد الذي ستتوقف بعده المجلة.
اخترنا اسم "كلمة حق" تيَمُّنًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وقد رأينا من واقعنا أن الناطقين بكلمة الحق ندرة، وأن كلمة الحق قد وُضِعت دونها السقوف والخطوط الحمراء الموضوعة للقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية بما فيها تلك التي ترفع الثورة والإسلام شعارا لها، فخطرت لنا فكرة المجلة حتى يسَّر الله فتحققت.
وقد وصلت كلمة حق إلى السلطان الجائر فبدأ الهجوم عليها منذ اليوم الأول في صحافة وإعلام دول محور الشر العربي، وزعموا أنها مؤامرة كبيرة وأنه قد رُصِد لها تمويل ضخم، وما كانت المجلة سوى ثلاثة أفراد وكُتَّابٌ تطوعوا فأنفقوا وقتهم وجهدهم وكتبوا، ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء الأجر عند الله!
وقد دهشنا نحن أنفسنا لما وصلت إليه المجلة في القلوب والأسماع، في شرق العالم الإسلامي وغربه، مما لم نكن نتصور مجرد تصور أنه قد نصل إليه، مع ضعف الحال والإمكانيات من جهة، ومع ثِقَل المادة ورصانتها من جهة أخرى، فلم نكن نقدم ترفيها ولا مادة جذَّابة بمعيار الجمهور ولا ابتغاء تحقيق الجماهيرية. ثم قد وجدنا من ردّة فعل أنظمة الشر العربي ما لفت أنظارنا إلى أن هذا الصوت الضعيف المبحوح الشارد في جنبات مواقع التواصل الاجتماعي إنما هو صوت مسموع، وأنه يؤرقهم، وإننا لنبتغي عند الله الأجر في إغاظة هؤلاء.
وقد تكاثرت الحملات الإعلامية، وتكاثر تسليط البلاغات على حسابات المجلة على المواقع المختلفة، فأغلق الموقع الأساسي للمجلة بعد بضعة أعداد، وأغلق لها بعض الحسابات على عدد من المواقع، وازدادت وتيرة حذف المقالات، وكنا في كل مرة نسلك سبيل البدائل ونحاول استدراك ما فات، والنهوض من جديد بوسائل أخرى وعلى نوافذ أخرى في ظل ما هو متاح، حتى كان هذا الشهر الماضي إذ تمَّ إغلاق صفحة المجلة على الفيس بوك. وستبقى مشكلة مطاردة صوت الإسلام الثوري المقاوِم طالما بقيت النوافذ المتاحة رهينة بمزاج السيد الغربي المتفوق، فهذه مشكلة تتعلق بموازين القوى والهيمنة، وهي مشكلة حضارية كبرى.
ونحسب أننا في هذه السنوات الثلاث قدَّمنا –أو على الأقل: دعمنا- خطابا كان مفقودا في عموم الساحة الثورية، خطابٌ كله تكاليف ومغارم، وما لنا رجاءٌ إلا أن يتقبله الله فيجعله خالصا لوجهه الكريم، فلئن كان قد تقبله الله فكل ما سوى ذلك هين.
وإذا كان لنا من رجاء نقدمه للقارئ الكريم، فهو أن يحتفظ بأعداد هذه المجلة وينشرها ما وسعه ذلك، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، والدالّ على الخير كفاعله، عسى الله أن يجعل ذلك كله في ميزان حسناته.
-      يمكن الوصول إلى جميع أعداد المجلة من هنا: https://archive.org/details/klmtuhaqy1
-      ويمكن الوصول إلى جميع الهدايا التي كانت ترافق أعداد المجلة، والتي هي مختصر كتب رأينا أنها مفيدة ونافعة من هنا: http://archive.org/details/klmtgift
-      ويمكن الوصول إلى الأعداد وهداياها، وتحميلها مباشرة، عبر قناة "أرشيف مجلة كلمة حق" على تليجرام: https://t.me/klmtu
كذلك يمكن البحث عن المقالات المنشورة في المجلة من خلال:
-      قناة التليجرام https://t.me/klmtuhaq
-      أو حساب تويتر https://twitter.com/klmtuhaq
وفي حال كان المقال المنشور محذوفا فيمكن الوصول إليه عبر هذه الطريقة التي يشرحها الفيديو على هذا الرابط: https://archive.org/details/klmtremov
وقد أعددنا هذا الرابط، وهو ملف صفحة ويب بسيط، وعليه معظم المقالات المنشورة في أعداد المجلة، ويمكنك من خلاله البحث عن الكلمة التي ترغب، كما هو الحال في أي صفحة انترنت: https://ia801505.us.archive.org/23/items/posts_1/posts_1.html
وبعد هذا كله، فإذا رغب القارئ في الوصول إلى شيء لم يستطع العثور عليه، فيمكنه أن يراسلنا عبر الصفحة البديلة للمجلة على الفيس بوك: http://fb.com/Klmtuhaq2
ولعل القارئ الكريم لا ينسانا من دعوة خالصة بظهر الغيب، ولعله إن شاء الله لا يكون آخر اللقاء بكم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 05, 2020 14:10

July 4, 2020

كيف عامل المسلمون عبيدهم؟.. شذرات من مؤلفات الرحالة الغربيين



إذا كنتَ تائها في بعض الأدغال أو الصحاري فليس من نعمة أغلى عندك وأثمن من أن تجد لافتة بائسة تدلك على الاتجاه! هذه اللافتة وحدها هي الهداية والإنقاذ من التيه والنجدة من الضلال، فإذا وجدتَ مع ذلك متطوعا كبير الوقت يعرض عليك المساعدة فأنت الآن في ذروة النعيم، ولعلك تريد أن تبذل له بعض عمرك وأيامك نظير هذا الإنقاذ من الحيرة والضلال!
لا بد أنك مررت بمثل هذا الموقف أو بشئ شبيه منه، يمكنك أن تستعيد هذه المشاعر، فإنما هذا مَثَل الكتاب ومَثَل الرسول! إن الآية الواحدة تعصمك من التيه عقودا وقرونا حين تكشف لك الحق، ولولاها لهلكت الأعمار والعقول والأجيال قبل أن تصل إلى الحق ولعلها لا تصل! وإن الرسول الذي شرح الآية وبذل حياته في محاولة الهداية وتقديم القدوة والأسوة يوفر عليك مثل هذا في الوصول للفهم الصحيح للآية وتطبيقها.

لقد ظلت أوروبا حتى وقت قريب تنظر للأعراق الأخرى نظرة دونية، ويتجادل علماؤها وفلاسفتها فيما إن كان بعض الناس بشرا أم أنهم ليسوا كذلك. وإذا وقع الاتفاق على أنهم بشر فهل هم في نفس المرتبة مع الأوروبيين أم أنهم في مرتبة أدنى ويحتاجون بالضرورة إلى الأوروبي ليقوم بمهمة تحضيرهم واستعمالهم. وهذا نقاش قديم اشترك فيه طابور طويل من الفلاسفة والقساوسة والمنظرين والسياسيين منذ أفلاطون وأرسطو مرورا بجون لوك وجوبينو ولا يزال يتجدد في أيامنا هذه مع صعود اليمين ونظريات العرق الأبيض.

وفي عصر الاحتلال الأوروبي للعالم، الذي هو عصر النزعة العلمية (العلموية)، قدمت هذه العلوم خدماتها للساسة في تبرير وشرعنة احتلال الشعوب، بإنتاجها نظريات التفوق الطبيعي للأوروبي الأبيض ونظريات التدني والانحطاط الأصيل لبقية الشعوب. وهذا مجال واسع اشترك فيه طابور طويل من علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والمستشرقون مثل: صمويل مورتون وكارل فون ليناس.
ولا يمكن الحديث هنا عن نظريات علمية مجردة أو آراء موضوعية ناتجة عن مجرد التأمل والتفكير والبحث، بل إن الغرائز والشهوات والأطماع والمصالح السياسية والاقتصادية تضغط على الإنسان وتشكل أفكاره وتؤثر في نظرياته، إن الأمر يؤول في النهاية إلى "اتباع الهوى" وأخلاق الشح والأثرة والظلم والاستبداد، ولكن هذه الدوافع تتزين بالنظريات العلمية والآراء الفلسفية.
هنا تبدو القيمة العليا والنعمة العظمى بوجود نص إلهي مقدس يقول (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وبوجود رسول يقول "لا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح"، ثم إن هذا الرسول قضى حياته لترسيخ هذه المعاني حتى صار القرشي عمر بن الخطاب يقول عن الأسود الحبشي بلال "سيدنا"!
ولهذا فلم تتطور نظريات وبحوث المسلمين –من مؤرخين وأدباء ورحالة- نحو العنصرية التي تحط من إنسانية الأقوام الآخرين، غاية ما هنالك أن يوجد من حاول تفسير بعض الظواهر الاجتماعية أو التاريخية أو النفسية من خلال اللون والبيئة والمناخ والحجم، بينما لم يكن ثمة من نزع عنهم الإنسانية أو رآهم في مرتبة أقل من البشر أو في مرحلة مما قبل التاريخ، بل شهد التاريخ الإسلامي صعودا قويا لطبقات العبيد الذين أُسِروا إلى مراتب السياسة والجيش، منذ العصر الثاني للدولة العباسية مرورا بالمماليك والإنكشارية، فضلا عن صعودهم بما حققوه في العلم والعبادة، حتى انتشر ذكرهم حتى في كتب الزهد والرقائق.
لولا وجود هداية النص وهداية القدوة لما وصلنا إلى ترسخ معنى المساواة بين الناس، إذ مهما اجتهد بعض الفلاسفة والمنظرين والمفكرين في إثبات أن البشر جميعا متساوين في الإنسانية فإن هذا لن يعدو أن يكون قولا ضمن أقوال، ورأيا ضمن آراء، حتى لو سُجِّل في حقبة ما ضمن وثائق عالمية لا تساوي –عمليا- ثمن الحبر الذي كتبت به!.. بغير وجود النص المقدس والعقيدة الدينية التي تأمر بالمساواة وتحرص عليها لن يكون ثمة عاصم من انزلاق الفكر إلى الآراء والنظريات البغيضة التي تجيز استعباد الإنسان والحط منه!
وفي هذا المعنى يقول الرئيس المجاهد علي عزت بيجوفيتش: "إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقاً لله، فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة (مادية)، إن وجودها قائم باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية، وفي مقابل ذلك إذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية فالناس غير متساوين... فطالما حذفنا المدخل الديني من حسابنا سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللا مساواة: عرقيّاً وقوميّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. إن السمو الإنساني لم يكن من المستطاع اكتشافه بواسطة علم الأحياء أو علم النفس أو بأي علم آخر"يفتح موضوع العنصرية نقاشات طويلة، فللكاتب أن يفرد حديثه عن عظمة الإسلام في التعامل مع الأقوام المفتوحة، أو عن عظمة الفقه الإسلامي في التعامل مع حقوق العبيد والأرقاء، أو عن تاريخ العبودية وجرائم الاحتلال الغربي في إفريقيا لأربعة قرون على الأقل، أو حتى عن أوضاع السود والملونين في أمريكا حتى الآن، إلا أن ثمة بابا في هذا الموضوع لا يزال لم يُفتح بعد، وذلك هو ما تواتر وتكاثر في روايات غير المسلمين –من المستشرقين والمؤرخين والرحالة الأجانب- عن تعامل المسلمين مع عبيدهم وأرقائهم. فقد أنتج هؤلاء في القرون الثلاثة الماضية كثيرا من المؤلفات والتقارير التي مهدت لمرحلة الاحتلال ورافقتها ولا تزال مستمرة حتى الآن، وقد سجَّل كثيرٌ من هذه المؤلفات أحوال البلاد العربية والإسلامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمنها ما كان تشويهيا ومنها ما كان منصفا، ومنها ما كان واقعيا ومنها ما زادت فيه جرعة الخيال، إلا أنها في كل الأحوال مصادر تاريخية لا غنى عنها. ثم إنها تتميز في موضوعنا هذا بكونها شهادة "شاهد من أهلها"، فهي بيان وحجة على لسان أعدائنا لتاريخنا العظيم الذي هو شعبة من تفسير قول الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقول الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
سنحاول في هذه السطور القادمة التقاط شذرات بسيطة من مناطق متفرقة، على سبيل فتح الباب أو حتى فتح الشهية، لعل باحثا يتفرغ له فيخرج منه بسفر عظيم.
تركيا
أفرد المستشرق البريطاني الشهير توماس أرنولد فصلا عن تحول العبيد المسيحيين إلى الإسلام في العهد العثماني، وذلك في دراسته الشهيرة الضافية "الدعوة إلى الإسلام"، وكانت مادة هذا الفصل خليطا من الأقوال والتحليلات التي تحاول تفسير لماذا اندفع العبيد النصارى إلى اعتناق الإسلام، فالأمر المؤكد أن الذين اعتنقوا الإسلام حتى وهم في العبودية كانوا أكثر بكثير جدا ممن بقوا على المسيحية، وقد ذهب المؤرخون النصارى مذاهب كثيرة في تفسير هذا التحول وفي التحسر عليه كذلك، والتقط بعضهم أن السر في ذلك هو ما للعبيد من حقوق مرعية، يقول: "كان للرقيق كما كان لسائر المواطنين حقوقهم، بل قيل إنه كان للعبد أن يقاضي سيده إذا أساء معاملته، وأنه إذا تحقق القاضي من اختلاف طباعهما اختلافا بينا إلى حد تعذر الاتفاق بينهما فله أن يرغم السيد على بيعه"، وقد نقل أرنولد بعض أقوال الغربيين المتحسرين على إسلام العبيد النصارى لما يرونه من حسن معاملة المسلمين، فمن ذلك: "في الوقت الذي لم يقض على أجسامهم بما أظهره لهم من رعاية وتقوى، صمم بدهائه الشيطاني على أن يقتل أرواحهم بتجريدهم من إيمانهم. ويمكن أن يشهد على هذه الحقيقة تلك الجموع من المؤمنين الذين لا يدخلون تحت حصر؛ ذلك أنه على الرغم من أن كثيرين منهم كانوا على غاية الاستعداد بأن يموتوا في سبيل العقيدة المسيحية... قد نفث فيهم، بإنقاذهم من الموت الجسدي، وحملهم إلى الأسر، فأفسدهم بمرور الزمن، ودفعهم بخسة إلى أن يُنكروا إيمانهم بالمسيح". وسجل رحالة إنجليزي في القرن السابع عشر أنه "كان قليل منهم يعود إلى وطنه؛ وأقل منهم من كان له من الشجاعة والثبات ما يمكنه من الاحتفاظ بدينه المسيحي"الكويت
أقام ضابط الأمن السياسي البريطاني ه. ر. ب. ديكسون، حوالي ربع قرن في منطقة شمال الجزيرة العربية وشرقها، وكان له دور سياسي مهم في خضم النفوذ البريطاني المهيمن على المنطقة، وجاء كتابه "عرب الصحراء" بمثابة تقرير شامل عن حياة سكان هذه الأنحاء، ويقع هذا الكتاب –كما يرى كثيرون- ضمن الكتب التشويهية في كثير من الأمور مما اضطر دار النشر إلى حذف بعض الفصول والفقرات التي اشتدت فيها جنايته على الشخصيات والموضوعات، ومع ذلك، فنراه يقول في شأن تعامل العرب مع عبيدهم: "الغالبية من الناس يعاملون عبيدهم من العاملين في خدمتهم بالأعمال المنزلية معاملة حسنة، ولا أبالغ إذا قلت إن بعضهم يعاملهم كأطفالهم تماما، فلهم حرية التزاوج بالطريقة المناسبة وبمساعدة أسيادهم، ولهم الحق بالتناسل بمقدار ما يشاؤون، ويعامل أطفالهم كما يعامل أطفال أسيادهم، يلعبون معا ويعيشون معا، ولا أبالغ إذا قلتُ: إن سيدات البيت يعاملن هؤلاء معاملة أفضل، وحتى في بعض الأحيان لا تختلف عن معاملة أخت لأختها"الحجاز
من أشهر الرحلات الاستشراقية وأشملها رحلة تشارلز داوتي إلى الجزيرة العربية، فإنها حافلة بالتفاصيل، وقد ترجمت في أربعة مجلدات إلى اللغة العربية، قضى فيها صاحبها عامين في أنحاء الجزيرة العربية (1876 – 1878م)، ومن أعجب ما ورد فيها مما يخص حديثنا هنا أن داوتي رأى عبيدا أفارقة في الجزيرة يحمدون الله على فضله أنهم صاروا عبيدا، وذلك أن هذه العبودية كانت طريقهم لاعتناق الإسلام وسكنى أرض الحرمين، يقول:
"ظروف العبيد هي دوما أمور مقبولة في الجزيرة العربية، وغالبا ما تكون ظروفا سعيدة؛ والعبيد هنا ينشأون باعتبارهم إخوان مساكين وفقراء لأبناء الأسرة، وهو نوعٌ من مكافأة الرب لرب الأسرة المسلم المتدين، وهم العم لهؤلاء العبيد أثناء عبوديتهم، وهو أيضا الأب بالنسبة لهم... ورب البيت هنا إذا كان من النوع الذي يخشى الله ويخافه يعتق عبيده خلال بضع سنوات قلائل؛ وهو لا يعتقهم ويرسلهم لحال سبيلهم خاويّ الوفاض؛ ولكن في الجزء المرتفع من الجزيرة العربية (حيث لا يمتلك العبيد فيه سوى الأغنياء) يقوم ذلك الرجل الطيب بتزويج العبد المعتوق سواء أكان ذكرا أم أنثى ويعطيه شيئا من ثروته ومقتنياته... هؤلاء الأفارقة لا يحسون بأي قلق أو ضيق لأنهم كانوا عبيدا في يوم من الأيام -إنهم في أغلب الأحيان يكونون أسرى من الحروب- بالرغم من أن تجار العبيد كانوا يختطفونهم من والديهم. كان الرعاة الذين يتبنون أولئك العبيد ويشترونهم يضمونهم إلى عائلاتهم، ويقومون بتختين الذكور منهم – وكان ذلك يُقَوِّي من روح هؤلاء العبيد المعنوية، حتى فيما يتعلق بعاطفة الحنين إلى الوطن القوية- لقد نظر الله إليهم في محنتهم، وبوسعهم أن يقولوا: هذا فضل الله، لأنهم استطاعوا عن طريق ذلك الذي حدث لهم أن يدخلوا في الدين المنقذ. ومن هنا فهم يعتقدون أن هذا البلد، الجزيرة العربية، هو الأفضل حيث أعتقوا فيه، وأن الحياة المدنية في هذا البلد أفضل من بلدهم، وأن هذه هي بلاد الحرمين الشريفين، أرض محمد (صلى الله عليه وسلم) ولذلك شكر هؤلاء العبيد الله على بيع أجسادهم في أسواق العبودية"ليبيا
توقف المؤرخ الإيطالي إتّوري روسّي متعجبا، وهو يرصد وضع تجارة الرقيق في طرابلس الغرب (ليبيا) في منتصف القرن التاسع عشر، ومجهود أوروبا وبالذات الإنجليز في محاربة هذه التجارة و"إنقاذ" العبيد، وخلص بعد الاستعراض إلى القول: "الغريب أن عملية الإنقاذ هذه قد تعرضت لصعوبات جمة، من قبل هؤلاء العبيد أنفسهم، الذين عاد عدد كبير منهم إلى أسياده، بعد تحريرهم وإعتاقهم، كما تعود البهائم المعتادة على النير وحمل الأثقال. عاجزين عن أن يشقوا لأنفسهم طريقا خاصا مستقلا، وقد تخلوا في غير أسف عن تلك الحرية التي لم يرغبوا فيها، رغم ما كان يُوَفَّر لهم من حماية ومساعدة. ومن الحق أن يقال: إن وضع هؤلاء العبيد، لم يكن سيئا قاسيا، وأن أصحابهم كانوا يعاملونهم معاملة إنسانية في العادة، كما أن أوضاع العبيد في البيئة الإسلامية لم تكن مهينة، كما يمكن أن تبدو على ضوء الأفكار الحديثة، في المساواة بين البشر"مصر
كان جوزيف بتس بحارا إنجليزيا لكنه وقع في أسر الجزائريين عند السواحل الإسبانية في حروب القرن السابع عشر، فبقي أسيرا وزار مع سيده مكة، وكتب رحلته إلى الحج، وفي أثنائها مروره بمصر، فوصف فيها حال العبيد والجواري على هذا النحو:
"في الجزائر أعترف أن إجبار الرقيق على التحول للإسلام ليس أمرا شائعا، رغم أنني –علم الله- قد عانيت بما فيه الكفاية منهم، لكن في مصر وتركيا –دعني أؤكد- أن الأمر يختلف. فالجواري والعبيد الذين هم في مرحلة الشباب يلحقون مباشرة بالمدارس لتعلم القراءة والكتابة فهم مخلوقات جاهلة بائسة، وحقيقة فإنهم بعد تحولهم للإسلام تسير أمورهم في هذه الأنحاء على نحو أفضل، وقد يتفوقون كأبناء سادتهم إن كانوا أذكياء، ويقال إن هؤلاء المتحولين للإسلام يلقون حظوة أكثر من الأتراك الأصلاء... ويفخر العبيد والجواري الذين بيعوا هنا أن يوسف (عليه السلام) قد تم بيعه في مصر"وبعد قرنين من رحلة بتس، أي في منتصف القرن التاسع عشر، وصل إلى القاهرة أشهر رحالة إنجليزي في عصره وهو ريتشارد بيرتون الذي ملأت رحلاته ثلاثة وأربعين مجلدا وكان يجيد خمسا وعشرين لغة، وكانت رحلته للحج في ثلاث مجلدات، الأول منها هو ما كان في وصف الأحوال في مصر، وجاء فيه:
"لقد عرف الإنجلير لتوِّهم أن العبيد ليسوا بالضرورة أكثر الناس بؤسا وأحطهم مرتبة. فهناك من لديه الشجاعة الكافية ليخبر الشعب الإنجليزي أن الرقيق في بلاد الشرق عامة، يأكل أفضل بكثير من الخدم أو حتى أفراد الطبقات الدنيا ممن ليسوا عبيدا، وهذا أمر حقيقي. فالشريعة الإسلامية تلزم المسلمين بمعاملة رقيقهم برقة بالغة، والمسلمون –بشكل عام- حريصون على الأخذ بتعاليم نبيهم. فالرقيق يعد فردا من أفراد الأسرة... وعندما لا يكون العبد راضيا بمعيشته ففي وسعه أن يجبر سيده على بيعه بالطرق المشروعة. والعبد في بلاد الشرق لا ينعي هم الطعام أو السكن أو اللباس أو الاستحمام، كما أنه معفى من دفع الضرائب، ومعفى من الخدمة العسكرية ومن دفع أي مبالغ لسيده"إن المتأمل في الأحوال العامة للعبيد في عموم تاريخنا الإسلامي سيجد أنهم كانوا في حال أفضل من حال السجين في السجون المعاصرة، بما في ذلك السجون الغربية. وكلما أطلنا التفتيش في تاريخنا وتراثنا –بشرط أن نتخلص من ضغط الثقافة الغالبة- كلما ازدننا إيمانا أن نبينا إنما هو "رحمة للعالمين" وأن البشرية تنتظر صحوة هذه الأمة لتزيل ما رسخ في أقطار هذه الأرض من الجرائم والمظالم.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يوليو 2020م 

3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2020 10:31