محمد إلهامي's Blog, page 17
August 7, 2019
الحج الممنوع والقلب المفجوع؟
وصلا بالمقال الماضي، نستأنف ونقول:
بعث الله في نفوس المؤمنين حب البيت الحرام والشوق إليه، وكانت تروي لي أمي عن جدتها رحمها الله أنها حجَّت على مواكب الجِمال، وأن الناس في تلك الأيام كانوا يوَدِّعون الحاج كوداعهم الميت، فإن الطريق طويل، والأخطار كثيرة، وقد يكون الخطر بسيطا كعقرب أو أفعى في الصحراء، أو مرضا بسيطا لا يوجد له الطبيب والدواء، وقد يكون خطرا كبير كما يحدث من قُطَّاع الطريق أو ظلم الحُكَّام ونحوه. والمقصود أن رحلة الحج كانت أشبه برحلة الموت إلا أن الشوق الذي يتردد في صدور المؤمنين لا يفتر ولا يهدأ حتى يحرك صاحبه إلى هذه الرحلة ولو كانت رحلة موت!
ولست أنسى يوما كنت فيه في مؤتمر بجامعة إفريقيا عن "طرق الحج في إفريقيا"، فاستفدت من بعض المشاركين أن المذهب المالكي يجعل الاستطاعة في الحج هي الاستطاعة البدنية، بمعنى أن صحيح البدن قد فرض عليه الحج ولو كان فقيرا، فكان أهل الشمال والغرب الإفريقي يخرجون من بلادهم البعيدة، فإذا نفدت نفقته عمل في أي عمل يلقاه في أي بلد حتى يحصل أجر مرحلة من الرحلة، فلا يزال يعمل وينتقل إلى أن تنفد نفقته فيعمل ثم ينتقل حتى يصل إلى البيت العتيق. وهكذا اتصل المسلمون في أقصى غرب إفريقيا والأندلس بالحرمين والمشارقة، وهكذا بقيت الأمة واحدة متجانسة.
ولكن السؤال الذي يلح على الخاطر: أي شوق هذا الذي يحمل صاحبه على أن يتكبد كل هذا العناء في رحلة مخوفة مجهولة محفوفة بالمخاطر؟!.. لا تفسير لهذا بأي مقياس مادي، إنما هو الحب الذي أودعه الله قلوب المؤمنين.
يروي محمد لبيب البتانوني في رحلته إلى الحج "الرحلة الحجازية" (1327هـ = 1909م)، وكان ممن اختير ضمن موكب الخديوي عباس حلمي الثاني لما عزم على الحج، يروي أن الحج يهذب الأخلاق تهذيبا لو أن الحكومات انتبهت إليه ليسرت سبيل الحج على الناس، وذكر أن الحكومة المصرية كانت "في الزمن الغابر تُخرج إلى الشوارع والحارات في أشهر الحج أناسا يتغنون بأناشيد (يسمونها تحانين) تُحرِّك عواطف الناس إلى أداء هذه الفريضة" (الرحلة الحجازية، ص162).
وذكر الشيخ رشيد رضا في رحلته للحج (1334هـ = 1916م) ذات الملاحظة عن تشويق الحكومة المصرية للحج، فروى أن ركاب الدرجة الثالثة كانوا ينامون على ظهر السفينة، وأولئك كانوا "من أدنى طبقات المصريين، قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون، وحَمْلِها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب" (مجلة المنار 19/563).
وهذه الحكومة المصرية التي نتحدث عنها هنا ليست حكومة إسلامية، بل هي حكومات فاسدة كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وكان رأسها الخديوي أو الملك هو سليل أسرة محمد علي باشا زعيم التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، ومع ذلك فإن بعض الشر أهون من بعض، فما لاقيناه من حكم العسكر من بعدهم صار يُشَوِّق إلى أيامهم! كما أن حكومة الحجاز في تلك الأيام أيضا لم تكن حكومة إسلامية بل كانت تنسج المؤامرة مع الإنجليز للانقلاب على الدولة العثمانية فيما عرف بالثورة العربية.
هذه المساعدة والتشويقات التي كانت تبذلها الحكومة وتساعد الفقراء ليحجوا، تثير الأذهان لمعرفة كم كان يكلف الحج في تلك الأيام، ومن حسن الحظ أن المؤرخ المصري الكبير د. حسين مؤنس أخبرنا أنه حجَّ في عام 1937 (أي في مطلع عهد الملك فاروق)، يقول: "لم يكن معي إذ ذاك إلا مائة جنيه كنت قد ادخرتها، وكانت كافية في تلك الأيام لكل مطالب الحج من نفقات سفر وإقامة وما لا بد من أدائه من ضرائب قليلة كان لا بد من دفعها"، وفي نهاية الرحلة كان قد أنفق ثمانين جنيها فقط بما في ذلك السفر ذهابا وإيابا!!
كان عمره في هذا الوقت ستة وعشرون عاما، وكان الجنيه المصري وقتها يساوي 4 دولارات، أي أن تكلفة الحج على المصري كانت تساوي 320 دولارا، وهو ما يوازي الآن خمسة آلاف جنيه مصري، لكن رحلة الحج هذه الأيام تكلف المصري في المتوسط مائة ألف جنيه!!
منذ ذلك الوقت حتى الآن جرت في النهر مياه كثيرة، قيل عن مصر إنها استقلت وصار يحكمها أبناؤها الوطنيون، وفاض نهر النفط في الحجاز حتى صار ملوكها وأمراؤها مضرب المثل في البذخ والترف والإسراف وهدر الأموال، ومع ذلك اختفى من مصر التشويق إلى الحج وتضاعفت تكاليفه، كما ضيَّقت السعودية على الحج وفرضت عليه الضرائب، خصوصا ذلك الذي أراد تكرار الحج والعمرة، فعليه أن يدفع الأموال الكثيرة لسلطات مصر ثم لسلطات السعودية.
أما الذي صارت تُشَوِّق إليه مصر وتسهله السعودية فأمر آخر، إنها حفلات الرقص والخلاعة والمجون في جدة، إذا قصدت إلى تلك الحفلة خرجت لك التأشيرة السعودية في دقائق، ولم تكلفك السلطة المصرية شيئا من الضرائب. وقد حاول بعض الأذكياء استثمار هذا في الذهاب إلى العمرة فألقي القبض عليهم في السعودية ثم خضعوا للتحقيق الأمني في مصر، إذ كيف لك أن تستغل تسهيلاتنا لحفلات الطرب والرقص فتذهب إلى البيت الحرام؟!
هذا فضلا عن أن السلطة السعودية تمنع كثيرا من المسلمين أن يحجوا أو يعتمروا، فالذي يعارض السلطة السعودية لا يستطيع أن يفكر في زيارة البيت الحرام ولا أن يتمتع بالأمن فيه، على أن السعودية لا تقتصر في ذلك على معارضيها، بل هي تتطوع فتحرم معارضي الأنظمة الأخرى الصديقة أيضا، وقد وقع أنَّها سلَّمت حجاج ومعتمرين إلى أعدائهم يسومونهم سوء العذاب ثم يقتلونهم!!
بل أكثر من ذلك، السلطة السعودية تمنع شعبا من الحج لأن السعودية على خلاف سياسي مع النظام الحاكم هناك، أعني: المسلمين في قطر، وهذه عقوبة فريدة من نوعها، قد أنكرها أهل الجاهلية الأولى، فلقد كانت قريش في مأزق شديد أمام العرب أن منعت رسول الله من العمرة وهما على عداء، حتى قال حليف قريش الحليس بن علقمة: أيحج الناس من لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟!!
كلما شب الشوق للحرم في نفسي تناولت كتابا من كتب الرحلات الحجازية، أتلمس في الحكاية عن بيت الله إرواء شيء مما في صدري، فإذا الرحلة تزيد الشوق شوقا، ثم جاء صبيحة يوم لا أنساه، حصلت فيه على كتاب "المختار من الرحلات الحجازية"، وهو كتاب بديع ممتع عجيب، جمع الرحلات الحجازية بما فيها المغمور المطمور، ثم لخصها وانتقى منها، ونشرها رحيقا لذيذا يجمع بين المتعة والفائدة.. كان هذا الكتاب أحد أغلى ما في مكتبتي من الكتب، أتناوله كل حين وأنهل منه رحيقا عذبا من أجواء البيت الحرام. لكني كلما تناولته كلما آلمني وعذبني أن مؤلفه الآن في سجون السعودية، إنه الداعية الموهوب صاحب الهمة العالية والمؤلفات الغزيرة، محمد موسى الشريف!!
رجل من آل البيت، من أهل المدينة، وأمه مصرية، جمع في برديه بين الحجاز ومصر.. فلو كانت مصر ما تزال تثير الأشواق للحرم، أو كانت السعودية ما زالت ترحب بالحجاج، لكان هذا الرجل وكتابه يوزع مجانا على الشعوب! بدلا من تأشيرات اللهو والخلاعة التي تصدرها هيئة الترفيه!
ألا لو كان للمسلمين خليفة لأنشدنا له قصيدة شوقي الباكية المبكية التي شكا فيها من ولاة مكة وظلمهم وجورهم قائلا:
ضجَّ الحجاز، وضجَّ البيت والحرم .. واستصرخت ربَّها في مكة الأممُقد مسَّها في حماك الضُّر، فاقض لها .. خليفةَ الله، أنتَ السيدُ الحكمأُهِينَ فيها ضيوفُ الله واضطُّهِدوا .. إن أنت لم تنتقم فالله مُنتقمعزَّ السبيلُ إلى طه وتربِته .. فمَنْ أراد سبيلا فالطريقُ دمربَّ الجزيرةِ، أدرِكْها، فقد عَبثَتْ .. بها الذئابُ، وضلَّ الراعيَ الغنمإن الذين تولُّوْا أمرَها ظلموا .. والظْلمُ تصحبُه الأهوالُ والظُّلَمفي كلَّ يومٍ قتالٌ تقشعرُّ له .. وفتنةٌ في ربوع اللهِ تضطرم
نشر في الخليج أون لاين
Published on August 07, 2019 23:39
نظرية مدهشة مثيرة للتأمل!
صدر الشهر الماضي في اسطنبول كتاب "نظريات ونماذج بيت المقدس" لأستاذ العلاقات الدولية د. عبد الفتاح العويسي، وفي هذا الكتاب مزجٌ بين فروع عدة من علوم السياسة والتاريخ والعلاقات الدولية، ولذا فقد كان هو مطلع سلسلة عنوانها "نحو تصور جديد للعلاقات الدولية" مما يجعلنا نتوقع أن السلسلة تخبيء لنا المزيد منها. كذلك جاء العنوان الفرعي للكتاب على هذا النحو "لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها وصناعة التاريخ المستقبلي".
المؤلف اسم معروف مشهور في الدراسات المقدسية، وهو حقل الدراسات الأكاديمية المتعلقة ببيت المقدس، وهو مؤسس ومدير الوقف المعرفي لدراسات بيت المقدس، الذي يقيم مؤتمرا علميا سنويا في هذا المجال، وتصدر عنه مجلة فصلية محكمة أيضا، فضلا عما يصدر من الدراسات الأخرى خارج هذه السياقات.
لست هنا في معرض التعريف بالمؤلف أو الكتاب، مع أن الأمر يستحق ويبدو شيقا ومثيرا، لكن سأركز على مسألة واحدة تعد جوهر الفكرة التي بُنِي عليها الكتاب، وهي فكرة تحولت –مع دراسات المؤلف عبر عقود- إلى نظرية في العلاقات الدولية، والواقع أن هذه النظرية تفتح الطريق للتفكير في عدد من الأمور بشكل مختلف، وبشكل عام فإن قوة النظرية هو فيما تطرحه من نموذج تفسيري جديد قادر على ضمِّ عدد من الظواهر في سياق واحد.
في هذه السطور أسوف تعريفا عاما لهذه النظرية مؤملا أن يفتح هذا الطريق لقراءة الكتابة ومواصلة البحث في الآفاق الجديدة التي يفتحها هذا التفسير الجديد.
بدأت النظرية من قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله).
إذن، فالمسجد الأقصى كما في الآية هو مركز البركة، وتنتشر البركة من حوله، أي أننا لو رسمنا خريطة مفترضة للبركة، فستبدأ دوائر البركة تنداح من مركز المسجد الأقصي وتتسع حوله.
لكن أين تنتهي مساحة البركة هذه؟.. فرسَّام خريطة البركة يريد أن يعرف أن يقف!
يجيب المؤلف: إلى المسجد الحرام! ويستدل على اختياره هذا بالآية نفسها، فقد حددت الآية ذلك بعبارة (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، وبهذا فإن المسافة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى هو نصف قطر دائرة البركة.
وبهذا تكون الدائرة التي مركزها المسجد الأقصى وحافتها المسجد الحرام هي دائرة البركة الكبرى المذكورة في آية سورة الإسراء.
يضيف المؤلف، ولا يمنع هذا من رسم دوائر أصغر منها، لأن منطقة بيت المقدس لها فضائل خصوصيات أخرى وردت في العديد من الأحاديث والآثار، وكذلك منطقة الشام لها خصوصيات أخرى وردت في آحاديث وآثار أخرى، ومن ثَمَّ قام المؤلف بتقسيم دائرة البركة الكبيرة هذه إلى دائرتين أصغر منها.
الدائرة الأولى: وهي مركز إشعاع البركة الأقوى المنطلق من بيت المقدس، ويشمل إقليم بيت المقدس.
والدائرة الثانية: التي هي متوسطة في البركة، وهي أبعد قليلا، تشمل منطقة مصر والشام وجزيرة قبرص في البحر المتوسط.
وما إن تم هذا الرسم وجرى توقيع هذه الدوائر على الخريطة حتى بدأت تظهر نتائج مثيرة للتأمل، وهي النتائج التي تحتاج مجهود المؤرخين وأساتذة العلاقات الدولية في البحث وراءها وتعميقها لتكوين النظرية الجيوسياسة الخاصة ببيت المقدس.
من خلال مجهود بحثي تاريخي، توصل الدكتور خالد عبد الفتاح العويسي، مدرس التاريخ بجامعة ماردين، وهو ابن المؤلف، إلى رسم إقليم بيت المقدس، الذي يمثل الدائرة الأولى من البركة، الدائرة الضيقة الصغيرة التي ينطبق عليها أحاديث وآثار فضائل بيت المقدس. وعلى مجهوده هذا تم اعتماد مساحة الدائرة الأولى.
يمكن بمجهود تاريخي بسيط إثبات الارتباط التاريخي القوي بين مصر والشام، وأنهما يمثلان جناحان لقوة الأمة، وعبر التاريخ الإسلامي كان اتحاد مصر والشام في دولة واحدة يمثل لحظة من لحظات قوة الأمة، كما كان انفصالهما في حكمين مختلفين هو من لحظات ضعف الأمة، هذا أمر يمكن لباحث التاريخ استدعاءه بسهولة، وهو يمثل ركنا ركينا من النظرية الجيوسياسة للعالم الإسلامي.
لكن النتائج الجديدة التي جاءت بها النظرية، وهي التي تدعو للدهشة والتأمل، كانت أعمق من هذه النظرة السريعة: لقد أظهرت دوائر الرسم أن المسافة بين بيت المقدس وحلب هي نفسها المسافة بين بيت المقدس والإسكندرية، أي أن الإسكندرية وحلب هما على حافة نفس الدائرة المرسومة من مركز بيت المقدس. وهو ما يعني حسب النظرية أن كمية البركة الواصلة إليهما من بيت المقدس متساوية، وهو ما يعني حسب النظرية أيضا أنهما بأهمية واحدة في الوزن الجيوسياسي في النظرية العامة للأمة.
باستدعاء التاريخ هنا سنرى أن المدينتين كليهما كانتا من معاقل الجهاد في العديد من فترات تاريخ الأمة، ثم من معاقل الثقل المالي الاقتصادي في العديد من الفترات أيضا.. ومما يلفت النظر أن بداية تحرير الشام في عصر الدولة الزنكية كان في حلب، وبداية تحرير مصر في نفس العصر كان من الإسكندرية بمجهود صلاح الدين وأسد الدين شيركوه. لن نمضي الآن وراء الاستنتاج فإنما المقصود هنا التعريف بما قد يأتي من نتائج مدهشة.
وعلى ذات الغرار فإن من أعجب النتائج أيضا أن المسافة بين بيت المقدس والمدينة المنورة هي ذات المسافة بينها وبين أنقرة. ولقد كانت أنقرة (التي تضم في جنباتها مدينة عمورية القديمة) هي المدينة الثانية المقدسة لدى الإمبراطورية البيزنطية، ولذلك أرادها المعتصم بالفتح ليثأر من غارة الروم في وقته، وسمي فتحها بفتح الفتوح في القصيدة الشهيرة لأبي تمام "السيف أصدق إنباء من الكتب"، كما أن المدينة المنورة هي المدينة الثانية المقدسة في الإسلام.
كذلك فإن المسافة بين بيت المقدس ومكة هي ذات المسافة بينها وبين اسطنبول، اسطنبول التي هي القسطنطينية والتي هي المدينة المقدسة الأولى للإمبراطورية البيزنطية، والتي بشر النبي بفتحها وكان فتحها عملا غير مجرى التاريخ كله، حتى عرف فاتحها بالسلطان الفاتح. كما أن مكة هي المدينة المقدسة الأولى في الإسلام.
يجادل المؤلف، صاحب النظرية، بأن موقع المدينة من خط البركة هو نفسه موقعها من الوزن الجيوسياسي للأمة، ولذلك أخد في تتبع مواقع المدن وخرج بنتائج تستحق التأمل والتدبر، وهي للوهلة الأولى مثيرة ومدهشة، وتلفت النظر إلى بعض المدن الواقعة على خطوط استراتيجية مهمة، كما ستعيد لفت النظر إلى تاريخ بعض المدن المغمور المطمور، ليعاد فهم العلاقة بين السيطرة على هذه المدن.
لا ريب ستثير النظرية من الدهشة بقدر ما ستثير من الخلاف، ولكن المقصود هنا هو التعريف بها ولفت النظر إليها، عسى أن يساعد هذا علماء الأمة ومفكريها والحريصين عليها في إطار سعيهم لفهم سنن الحياة ومسار التاريخ وقوانين الجغرافيا وموازين العلاقات الدولية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أغسطس 2019
Published on August 07, 2019 08:11
August 5, 2019
ضرورات الحركات
ما من صاحب هم وحرص على هذه الأمة إلا وهو يحاول إدراك السر الذي ينقل من حال الضعف والهزيمة إلى حال العز والنصر، فتراه لا يجلس مجلسا ولا يفتح كتابا ولا يحضر ندوة ولا يستمع إلى متكلم إلا وهو يحاول أن يفتش في كل ذلك عن طريق الحل. هذا السعي من أدلة الهمَّ ولعله من أدلة الصدق مع الله.
وفي هذا الحال يثار التفتيش في التجارب التاريخية، مع أنه لن يمكن تكرار تجربة تاريخية بحذافيرها أبدا، فالزمن نفسه جزء من تغير المشكلات وتغير الأوضاع، ومع ذلك يظل المسلم يحاول دائما استخلاص السنن والقواعد العامة التي لا تتبدل مع تغير الزمن.
ونحن المسلمون ننظر أول ما ننظر إلى تجربة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أنجح تجربة تاريخية بشرية على الإطلاق وبشهادة غير المسلمين من المؤرخين والباحثين، بل لأن الاقتداء بالنبي أمرٌ شرعي، أُمِرنا به في الكتاب والسنة، وإن كثيرا من تجارب الملوك والزعماء الأقوياء الناجحين لا يجوز لنا الاقتداء بها، فكم كان ثمن نجاح كثير من الزعماء دماء ملايين الناس وخراب المدن والبلاد!
إذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحاولنا أن نرى ما هي الإمكانيات والأدوات التي كانت بيده عند لحظة بدئه الدعوة، وكيف عمل صلى الله عليه وسلم على امتلاك ما لم يكن معه، فلعل ذلك أن يكون واجب الوقت.
وما سأكتبه هنا إنما هي قراءة سريعة عجلى لهذا الأمر، وهي جهد المُقِلّ المُقَصِّر الكسير، ويظل الواجب الأكبر على علماء السيرة والتاريخ أن يبذلوا لأمتهم هذا العلم، فلعل كلمة من هنا مع كلمة من هناك، فتحا يأتي به هذا مع فتح يأتينا من ذلك، فيكون ذلك أول الشرر، وسبيل الهداية لقوم يبحثون عن عمل وينقصهم بعض العلم.
1. أول الأمر فكرة ورسالة، وحي ألقاه الله لنبيه، فأول الأمر هو هذه الفكرة والرسالة الدينية الصافية، بدونها ما كان ليحدث شيء على الإطلاق.
2. وثاني الأمر إيمان عميق راسخ أصيل لا يتزعزع ولا يتردد، إيمان بهذا الدين، وبصلاحيته لهذه الحياة في كل زمان ومكان، وبقدرته على إصلاح حياة الناس وإنقاذهم دائما وأبدا، إيمانٌ يختلط باللحم والدم والعظم، يجري في العروق وينبض في القلوب، إيمانٌ لا تستطيع قوة أن تنتزعه أو أن تصرف عن العمل له، التخلي عن الإيمان بالرسالة يساوي التخلي عن الحياة، إيمانٌ عبر عنه النبي في قوله: "أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة".
3. شخصية عظيمة موهوبة، تملك مؤهلات القيادة، تستطيع أن تجمع إليها العقول والقلوب، قائد يملك أن يفصح عن فكرته، شديد الصلة والارتباط بربه، يعرف مداخل الناس وله فيهم فراسة ونظر ورأي، رجلٌ على قدر المهمة.
سيقول قائل: أين هذا القائد؟
وأجيب: إنها والله لمعضلة حقا، لكن أمة تبلغ أكثر من مليار ونصف يستحيل ألا تحتوي على هذا الرجل، ربما تفرزه الأحداث فيجب عندها أن تكون القوى والجهود في ظهره ومن خلفه، وأن تخلص النفوس من حظ نفسها وتتجرد لله ولمصلحة الأمة، فأن نكون ذيولا في الحق خير لنا من أن نكون رؤوسا في الباطل، وهو خير لنا في الدنيا، فأن نسوق للزعيم المسلم دابته خير من أن نرعى خنازير الكافر الذي سيحتلنا ويذلنا.
ربما تفرزه الأحداث، وربما نحتاج أن نبحث عنه بعينٍ أخرى كما كان طالوت في أمة بني إسرائيل المهزومة، كان بينهم وكانوا يبحثون عن قيادة، مقاييسهم كانت تحجبه عن عيونهم، ولما جاءهم خبر السماء بأنه القائد المصطفى من الله استنكروا هذا الاصطفاء (تعسا لأمة مهزومة ترفض نخبتها القائد المصطفى من الله استكبارا وعلوا، لهذا هُزِموا واستُذِلُّوا)، نحتاج أن نبحث عن كل كفاءة وطاقة وموهبة ونوسع لها ما استطعنا سبيل الارتقاء، وما أكثر قادة أمتنا الذين نصروها وأعزها فكانت مسيرة حياتهم فصولا من تقديم المخلصين لهم والتعريف بهم. [اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2015/01/b...]
4. رجالٌ أكفاء على قدر المهمة، رجال صالحون في أنفسهم، فعَّالون في مجتمعهم، رجال يتشربون الفكرة والرسالة حتى تبلغ منهم مبلغ اللحم والدم والعظم، وهم مع ذلك أهل كفاءة وفعالية، ونحن إذا نظرنا في الذين دعاهم النبي أول أمره لوجدناهم شخصيات متميزة في نفسها، أبو بكر أمة وحده، وهو فوق معدنه الأصيل النفيس، رجل تاجر صاحب أموال قادر على التمويل والإسناد، نسابة يعرف خريطة قبائل قريش، مؤرخ يعرف أيام قريش، مركز علاقات عامة "يألف ويؤلف"، وبمجرد ما آمن التقط ستة من كل قريش، فكانوا من العشرة المبشرين بالجنة ومن أعمدة الإسلام الكبرى، انظر مدى الخبرة والدقة والفراسة في معادن الناس. وعلي بن أبي طالب صبي فتى مستقل بنفسه قوي الشخصية يؤمن بدين يخالف دين قومه، وسيرته تدل على مبلغ قوته وشجاعته مع ذكائه ومقدرته. وخديجة، هي فوق معدنها النفيس امرأة مستقلة صاحبة قرارها، تدير تجارة وأموالا، تتاجر تجارة عالمية، ولا يخرجها هذا عن معنى الشرف والعفة والنزاهة، ولا يخرجها فيما بعد عن حسن التبعل للزوج واللين له، وإنها لموهبة وحزم وقوة. ثم فتش في كتب السيرة عن عثمان وأبي عبيدة وطلحة وزيد وسعد، كل واحدٍ منهم كان مع كونه شابا مستقل الرأي والنظر، معروف القدر والأثر.
والحركة الإسلامية الآن لا تدعو للإسلام من جديد، بل واجبها أن تنتقي الكفاءات المؤثرة، ولا تستكثر من الضعفاء والهزالي والكسالى الذين ما دخلوا حركة إلا أثقلوها وجعلوها منتفخة بلا أثر، بل إن حقيقة نكبتنا المعاصرة أن غالب جسد الحركة الإسلامية ليس أهلا للمهمات، بل وصل أولئك إلى مواقع القيادة فساقوا أتباعهم إلى المذبحة وقدموهم غنيمة باردة. يجب أن تكون الدعوة والانتقاء لمن يضيف إليها ولا يكون عالة عليها، دعوة للمؤثر الكفء الفعال مهما كان سبيل دعوته صعبا ومجهدا، وهي دعوة تستهدف نخبة الناس، ومراكز القوى والتأثير في المجتمع، والناظر في الخريطة القبلية للمسلمين الأوائل يشعر أنه انتقاء مقصود من أفضل نخبة الشباب في القبائل العليا لمجتمع قريش.
الحركة تنتقي، ولكنها لا ترفض من أقبل إليها مهما ضعفت إمكانياته ولا تصرفه (وهذا هو موضع عتاب الله لنبيه في ابن أم مكتوم، عاتبه الله في الانصراف عن الذي أقبل، لا في أنه دعا سادة القوم). إننا نؤمن بقول نبينا "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" وسنستعين بهؤلاء في الدعاء فكم فيهم من مستجاب الدعوة، ونتقرب إلى الله بخدمتهم ورعايتهم والنظر في أحوالهم، لكن حديثنا الآن عن مسارات العمل وما تحتاجه من كفاءات.[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2017/11/b...]
5. تربية إيمانية مكثفة لهذه النخبة المختارة من الرجال، تربية تستهدف الارتقاء بأرواحهم وعقولهم بما ينزع عنهم شوائب الجاهلية ويجعلهم خالصين لهذا الدين. فَرَضَ الله على المسلمين قيام الليل كله أو نصفه أو ثلثه سنة كاملة (أربع ساعات قيام ليل بحد أدنى، يوميا، لمدة سنة، ثم نزل التخفيف). لا بد للحركة من برنامج إيماني قاسٍ لكوادرها الأساسية. إن أولئك الذين خاضوا هذه التجربة الإيمانية صاروا أعمدة الإسلام، أسقطوا ملك فارس والروم، وجاءت كنوز المملكتين بين أيديهم فلم يغتروا ولم ينهزموا ولم يتحولوا، كان رصيد الإيمان الذي امتزج بروحهم قد رفعها عن هذا، وكم رأينا في التاريخ وفي حياتنا من تخطفته أنواع الترهيب وشدة التكاليف، ثم رأينا من صمد في الشدة ولكن زل في الرخاء فزاغ وضل وبدَّل الدين حرصا على سلطة ومال بعدما صمد للسلخ والتعذيب. نسأل الله لأنفسنا ولجميع المسلمين الثبات على طريقه.
6. حماية سياسية، مثل التي وفَّرتها بنو هاشم وزعيمها أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم، وكان النبي يُبعث في "ثروة" (مَنَعة) من قومه، وذلك حتى تقوى الدعوة ويشتد عودها وتستقل بحماية نفسها، وسيرة الدعوات أنها تستفيد من واقع المجتمع الذي تريد تغييره، وتوظفها لمصلحتها، فيجب أن تقصد الدعوة مواضع الحماية وعصبيات القبائل ومراكز القوى لتحتمي بقوتها ومكانتها، ولهذا يجب عليها أن تعرف خريطة مجتمعها جيدا قبل أن تبدأ الحركة. وفي الوقت الحاضر ربما يجب الاجتهاد في مسألة مراكز القوى العالمية، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منها، وكيف يمكن ذلك؟.. هذا عملٌ نضعه بين أيدي السادة العلماء.[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2013/12/b...]
7. عاصمة مؤثرة، إن العمل في الأطراف والهوامش أسهل كثيرا، ونتائجه أسرع كثيرا، ولكنها أيضا: أضعف كثيرا، بينما العمل في العواصم أصعب كثيرا، ونتائجه أبطأ كثيرا، ولكن النجاح فيها يغير التاريخ. لقد بُعِث النبي في مكة وهي عاصمة العرب، وظل فيها عشرة أعوام يحاول أن يهتدي سادتها لكي يتبعهم العرب، فلما أبوا ولم يعد من أمل، ذهب إلى العاصمة الثانية: الطائف، ولما وجد صدودا لا إمكان معه لمحاولة أخرى، بدأ بعرض نفسه على القبائل حتى وجد الأنصار، ثم كانت المرحلة المدنية صراعا مع العاصمة المكية نفسها، حتى فُتِحت، ولما فُتِحت أقبلت جزيرة العرب مسلمة! تنجح الثورة طالما سيطرت على العاصمة، ينجح الاحتلال إن سيطر على العاصمة، يبقى النظام طالما سيطر على العاصمة، يفشل الاحتلال طالما لم يدخل العاصمة، العاصمة قادرة على استعادة الأطراف مهما ضعفت زمنا ولو طال، وبعض الثورات والتمردات استمرت خمسين سنة ثم ذبلت لما لم تنجح في السيطرة على العاصمة.[اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2016/08/b...][اقرأ أيضا: http://melhamy.blogspot.com/2018/02/b...]
8. خطة واضحة، خطة البحث عن أرض تكون أرضا للدعوة، خطة تحول الدعوة إلى دولة، لقد كانت الفترة المكية فترة البحث عن دولة، استمرت المحاولة في مكة ما بقيت حماية بني هاشم وأبي طالب، فلما كُسِرت هذه الحماية بموت أبي طالب، و/أو لما بدا أن أهل مكة لن يؤمنوا، ذهب النبي إلى الطائف، ثم عرض نفسه على القبائل، وقبل من هذه القبائل حمايتها ولو داخل البلدة فحسب كما كانت بيعته للأنصار "وأن تحموني مما تحمون منه أنفسكم وأبناءكم"، ولو لم يؤمن الأنصار لطاف النبي على قبائل أخرى وأخرى حتى يجد له أرضا تنصره ليبلغ منها رسالة ربه، ولتكون أرض الدعوة وليكون أهلها أنصاره وحزبه. إن الوصول إلى الاستقلال بأرض لإقامة الدولة من بعد الدعوة كانت خطوة في طريق كل حركة ناجحة، سواءٌ أكان ذلك بتنفيذ ثورة، أو انقلاب، أو الاستقلال بناحية، ويظل الصراع دائما حول السيطرة على العاصمة التي تعني نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد.
وهذه الخطة يجب أن يستخلص لها أهل كل مكان ما يناسب وضعهم، إذ هي حصيلة النظر في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والأمن والسياسة، وبدون وجود رؤية كهذه يستحيل أن تحقق الحركة نجاحا، لأنها تصير كالتائه الذي لا يدري ماذا يفعل، يتحرك بالانطباع الانفعالي اللحظي، تحت ضغط الظرف والضرورة، يوظفه الأقوياء من حوله في صراعاتهم، ويدفع هو ثمنها كاملة دون أن يربح شيئا.[اقرأ: http://melhamy.blogspot.com/2015/05/b...][اقرأ: http://melhamy.blogspot.com/2018/02/b...]
9. كفاح مرير مستمر، وتلك سنة الدعوات والحركات والدول والإمبراطوريات، نشاط لا يهدأ وجهاد لا ينقطع، وتحديات يتلو بعضها بعضا، ولا تستقر الدنيا لأحد، ولا تستقر على حال، ولقد كان هذا الأمر معلنا منذ اللحظة الأولى للدعوة (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، وقالها النبي لزوجه "مضى عهد النوم يا خديجة"، فمن كفاح لزرع الدعوة وغرسها في مكة، إلى كفاح لإيجاد الأرض والأنصار لها، إلى كفاح لإنشاء الدولة في المدينة، إلى كفاح لحمايتها وتثبيتها، إلى كفاح للفتح ونشر الدعوة، وراحة المؤمن –كما يقول الإمام أحمد- عند أول قدم يضعها في الجنة، لن تصل الحركة إلى مرحلة تتنسم فيها عبير الراحة، صراع يتصل فيه العدو من الشرطي الذي يراقب المسجد في القرية إلى رأس النظام العالمي الذي يراقب "التهديد الإسلامي" القادم، ومن نوازل زماننا أن هذا الخط بين شرطي القرية ورأس النظام العالمي قد صار متصلا ومتينا وسريعا، حتى كأنه عدو واحد في جسد واحد، إذا تهدد شرطي القرية تداعى له جسد النظام العالمي بالحمى والسهر. وتلك نازلة تحتاج اجتهادا في النظر ثم اجتهادا في العمل، تحتاج فوق مجرد الذكاء والحكمة واقتناص الفرصة، قوة أعصاب فولاذية في الصبر والتحمل وترتيب الأولويات وتحييد الأعداء وتسكين هذا وترغيب ذاك وتهدئة ذلك وتطمين أولئك. صراعٌ ما أصعبه على الضعيف المقهور.
لهذا فالواقعية شعار المراحل كلها، والواقعية ضد التهور وضد التنازل، وهي في الواقع تكاد تكون شعرة لا يدركها غير الحكيم الحصيف الذي جمع إلى الذكاء القوة، ولم يختر نبينا أن يتصارع مع جهتين في وقت واحد أبدا، فإذا اجتمعوا سعى في تفريقهم، ولو ببذل بعض المال وبعض التنازل.[اقرأ: https://www.fb.com/mohammad.elhamy/po...]
وفي النهاية فإن مهمتنا –على صعوبتها الشديدة- أسهل كثيرا فنحن لا نبعث أمة، ولا نبنيها من جديد، بل ننفض عنها الغبار ونزيل طبقة الصدأ، إنما نُذَكِّر بمعاني الدين التي هي عميقة في النفوس وفي الأرواح، فوق أننا إذا أحسنا الفقه في الدين علمنا أنه الرحمة للعالمين، وبقي أن نحسن عرضه والدعوة إليه، فكم من مظلوم مقهور لا يعرفه، فإذا عرفه آمن به وأخلص له.الحركة الإسلامية ليست بديلا عن المجتمع، هي له كالمغناطيس لبرادة الحديد، تجمع طاقاته وتنظمها، ليست جزءا متعاليا على الناس، فكم في الناس من هو أحسن وأفضل من أفراد الحركة الإسلامية، إلا أنهم لظرف ما كانوا خارجها، الحركة الإسلامية ليست بديلا عن المؤسسات الدينية ولا وظيفتها أن تقدم العلم الشرعي، بل وظيفتها أن تجد الطريقة لتحريك هذه المؤسسات الدينية والاستفادة منها وبعثها واستثمار طاقتها. الحركة الإسلامية بنت الأمة والأمة حاضنتها، نمط التعالي والعزلة بل والتكفير نمطٌ مدمر للحركة الإسلامية نفسها. وقد كانت الأمة أسبق من الحركات إلى الثورات، وبذل الأمة في الثورات أوسع وأعظم من بذل الحركات. الحركة الإسلامية روح تسري في الأمة لتعيد تنشيط ما خمل منها.[اقرأ: https://www.fb.com/mohammad.elhamy/po...]
نشر في مجلة كلمة حق، أغسطس 2019
Published on August 05, 2019 08:25
August 1, 2019
أيهما أقدس: السعودية أم الحرمان الشريفان؟
"لا يوجد قداسة لأي وطن عندي سوى المملكة العربية السعودية. ولا قداسة لأي مسجد سوى بيت الله الحرام في مكة المُكرّمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة. أما القُدس فقداسته أدبية كبيت من بيوت الله، مثله مثل مسجد حارتنا. لا يخدعونكم بشعارات شرعية خاطئة يتم تسويقها لتكبيل العقول والقلوب".
بهذه التغريدة طالعنا الكاتب السعودي كساب العتيبي، الذي يكتب من داخل السعودية، وكونه يكتب من داخل السعودية معلومة مهمة ومؤثرة، ففي أي أمر يتعلق بالسياسة يمكن القول باطمئنان بأن ما يُكتب من داخل السعودية يمثل الرأي الرسمي الحكومي، ومن فكروا في الكتابة بما قد لا يوافق (ولا أقول: يخالف) المسار الحكومي فمصيرهم بين قتيل وأسير وطريد! وهذا الشيخ سلمان العودة سمع خبرا باتصال بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والأمير القطري تميم بن حمد فظنَّ أنه بداية تفاهم، فتعجل الصلح وكتب يدعو الله، فهو الآن منذ عاميْن في السجن يواجه قائمة من التهم التي تستوجب إعدامه!
لكن أمرا مهما ينبغي التوقف عنده، وذلك هو البناء الفكري لهذه الرسالة، لقد صارت المساحة التي سيطر عليها عبد العزيز آل سعود "وطنا له قداسة"، فيما نُزِعت القداسة عن المسجد الأقصى الذي ذكره الله في كتابه وبارك فيه وفيما حوله، والذي أسرى إليه رسول الله وحث المسلمين على زيارته، والذي حجَّ إليه المسلمون أكثر من ألف سنة!!
هذا هو دين "الدولة"، وفيه تكون "الدولة" هي الإله الذي يمنح معنى القداسة، ومعنى الولاء والانتماء، ومعنى البراء والعداء والمفاصلة، الدولة لم تعد جهاز خدمة وتنظيم إداري لتدبير مصالح الناس ومعاشهم، بل تحولت إلى معنى روحي، يُطلب من الناس تحمل الفقر والألم والموت من أجل "ترابها"، والدولة بهذا المعنى أمر مفهوم في سياق العلمانية الغربية التي تخلت عن الدين وعن الإله وعن أي شيء غير مادي، كما أن شعور الغرب بدولته متجه نحوها كمؤسسات ووجود تاريخي سياسي، بينما يريد العلمانيون العرب سحب معنى الدولة هنا ليندمج في حاكمها، فيكون معنى الولاء للدولة الولاء للحاكم، وعلى سياسته تدور معاني الولاء والانتماء، والبراء والعداء، ولأجله تكون التضحية والفداء.
وإذا دخلنا إلى صفحة كساب العتيبي على تويتر، فستطالعنا تغريدته المثبتة، وهي التغريدة التي عادة ما توضع لإظهار الموقف الأهم والمبدأ العام، تقول التغريدة: "أجمل القناعات: الوطن خط أحمر.. القيادة خط أحمر"، وهذا كما هو واضح موقف سلطوي توثيني تترفع عنه العلمانية الغربية التي تأسست أصلا ضد اندماج السلطة في الشخص وتفرق بوضوح بين الرئيس وبين الدولة، فضلا عن موقف الإسلام الذي لم يجعل الأمير سوى وكيل عن الأمة، حتى قال خير الأمة بعد نبيها "وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
والدولة بهذا المعنى العقائدي المتعالي الذي هو مرجع ومعيار ما سواه نقيضٌ مباشر للإسلام، إذ هي تناقض ثوابته، وقد كان الكاتب الصحافي المصري عادل حمودة منسجما مع هذه الفكرة حين استنكر –قبل سنوات- أن يدافع المصريون عن النبي محمد، لأن هذا عمل ينبغي أن تقوم به السعودية!!
ولم يكن غريبا فهم موقفه، فطالما أن الدولة المصرية هي الأصل والمعيار، فإن محمدا –صلى الله عليه وسلم- جزءٌ من التاريخ السعودي، وعلى ذات القياس جرى كساب العتيبي، فالقداسة الممنوحة للحرمين إنما لكونهما يقعان داخل المساحة التي سيطر عليها عبد العزيز وجعلها دولة باسمه! وليست القداسة لكونهما خير أرض الله وفيهما نزل كتاب الله وعاش محمد –صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وحيث لم تمتد جيوش عبد العزيز المباركة حتى بيت المقدس فلم يشرف البيت بهذه القداسة!
وكان تركي الحمد، وهو سعودي، ويغرد من السعودية أيضا (ورجاء ألا تنسى هذه المعلومة حين تتعامل مع المغردين السعوديين) قد كتب تغريدة صريحة (18 ديسمبر 2017م) في ذات السياق ولكنها أقل فجاجة، يقول فيها: "كم أمقت أحدهم حين يصف السعودية ببلاد الحرمين.. السعودية كيان سياسي اسمه المملكة العربية السعودية، أما الحرمين فهما مكة والمدينة..."، وبهذا فبعدما عاشت السعودية عمرها السياسي الذي لم يكمل ثمانين سنة تستمد مكانتها من رعاية الحرمين، صِرنا إلى المشهد الذي يراد فيه أن يستمد الحرمان مكانتهما من السعودية!!!
هذا التأسيس الفكري لمعنى الدولة في السعودية، يطرح لتحقيق غرض سياسي مباشر، فالسياسة السعودية مشغولة هذه الأيام بتوصيل رسالة تريد حذف قداسة المسجد الأقصى وجعله كأي مسجد آخر، وهذه الرسالة لا تصدر للمرة الأولى، فقد سبق إليها الإعلامي السعودي فهد الشمري، إذ اعتبر في فيديو مشهور له أن مسجدا صلى فيه في أوغندا أكثر بركة من المسجد الأقصى! وكان هذا ضمن كلام طويل في تحقير وتسفيه الفلسطينيين وقضيتهم! وفيه تساءل الإعلامي ببراءة الأطفال: ما الذي جاء بالمسجد إلى جوار الكنيسة والمعبد اليهودي؟!.. وهذا سؤالٌ كافٍ في توضيح مستوى الجهل أو التجهيل الذي يراد أن ينشر في الشعوب العربية.
تمثل تغريدة كساب العتيبي واحدة من نماذج التراجع المخيف الذي لا يقف عند حد، فهذا الذي كان معارضا سابقا وعمل من لندن ضمن مجموعة المعارضة السعودية: سعد الفقيه ومحمد المسعري، ما لبث أن عاد إلى السعودية، عاد تائبا منيبا يتبرأ من ذنب المعارضة ويصف نفسه بالتهور والاندفاع والحماسة، ويصف أصحابه الذين رافقهم في المعارضة بأسوأ الأوصاف، لقد تاب الرجل لكن ليس إلى الله، بل تاب إلى "الوطن"، أو بالأحرى: تاب إلى القيادة! فلو أنه تاب إلى الله لم يكن ليسعى لنفي القدسية عن الأقصى المبارك، ولكان الخط الأحمر عنده هو الله، لا الوطن ولا القيادة!
ترى هل كان حين عاد إلى السعودية يظن أنه سيصل –راغبا أو مضطرا- إلى هذه المرحلة التي ينفي فيها قدسية المسجد الأقصى؟!
الحقيقة أن هذا المستوى من التهاوي والتنازل والخوض في المقدسات هو ما يُكَتِّل المعارضين لهذه الأنظمة ويزيد من يقينهم بأنهم على حق، فالمساومة عمليا على الدين وثوابته، وبقدر ما يبدي المرء استعدادا لهذا التخلي واستعدادا لتقديس وتوثين الحاكم وسياسته بقدر ما يكون أقرب إلى السلطة الحاكمة ومتمتعا بمزاياها.
حين يتغزل المعارض السابق في سجن الحاير وخدماته الفندقية ومستشفياته التي تقدم خدمة التدليك (المساج)، فهو يشهد على نفسه بالتحول إلى جزء من المسرحية الكاذبة، يقسم على هذا بالله و"بكل أمانة"، وهو يكذب، ويعرف أنه يكذب، والمذيع الذي يحاوره ويستنطقه يعرف أنه يكذب، والجمهور الذي يستمع يعرف أنه يكذب، وليس يمنع سقوط المسرح إلا الحاكم المسلح المخيف المرعب! فلو كان في سجن الحاير خدمات فندقية حقا لكان هو نفسه قد استمر معارضا فذاق نعيم السجن الذي سيفوق حتما شقاء الحرية في خارجه!
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تتعامل السعودية فعلا مع الحرمين كما ينبغي لمكان مقدس لجميع المسلمين؟!!.. هذا ما نؤجل عنه الكتابة للأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في الخليج أون لاين
Published on August 01, 2019 02:07
July 25, 2019
عن كتاب "المحدثون والسياسة"
قبل أشهر وقع أمامي سفر عظيم بعنوان "المحدثون والسياسة: قراءة في أثر الواقع السياسي على منهج المحدثين"، تأليف د. إبراهيم بن صالح العجلان. وأصل هذا الكتاب أطروحة للدكتوراة، ثم طبعت في تسعمائة صفحة وصدرت عن مركز البيان للبحوث والدراسات عام (2017م).
شغلتني أمورٌ أخرى عن الكتاب، حتى بدأت في كتابة بحث يتعلق بالأثر السياسي على تدوين بعض الأحاديث، ضمن دعوة جاءتني لمؤتمر علمي، وضعت خطة الورقة البحثية، وشرعت فيها، وأنهيت ثلثيْها، ثم تذكرت فجأة هذا الكتاب الذي وضعته جانبا منذ أشهر! فهرعت إليه من جديد.
تروي القصة المشهورة التي تنسب للأصمعي مع المنصور، أن المنصور كان يحفظ الشعر إذا سمعه لأول مرة، وعنده خادم يحفظه إذا سمعه مرتين، وجارية تحفظه إذا سمعته ثلاث مرات، فإذا جاء الشاعر يمتدح المنصور اتهمه بأنه يقول قصيدة قديمة مكرورة محفوظة، حتى إنه يحفظها، ويحفظها خادمه وجاريته، فيفاجأ الشاعر الذي قضى أياما أو شهورا يدبج القصيدة أن ثلاثة يحفظونها قبله!! فيخيب أمله ويخسر ما كان يرجوه من الجائزة.
هي قصة طريفة وإن كان المؤرخون يرفضونها والأدباء يبرئون الأصمعي منها، لكن الذي يهمنا الآن أني كنت أسير في الكتاب أحمل نفس هذا الشاعر، إن الخطة التي وضعتها وكثيرا مما كتبته وسطرته وظننت أني لم أسبق إليه، وجدته في هذا الكتاب.. لا، بل الحق أني وجدته بأوفى وأعظم وأوسع وأكمل وأجود مما فعلت، وإذا بي أسابق الصفحات متأملا أن يكونَ بعضُ ما كتبتُه لم يخطر للمؤلف على بال، والحمد لله وجدتُ من ذلك قليلا، وإلا كنت مزَّقتُ بحثي كله!
لكني أعدت صياغة البحث، فصرت أحيل إلى الكتاب وأستفيد منه في سدِّ بعض النقص عندي، وأجتهد في الزيادة على ما قرأت.. ولا أخفيكم يا معشر القراء، أنها لحظة من لحظات التنازع بين الإخلاص والتجرد وبين التحسر على الفوت، وأن النفس يداخلها التمني أن لم يكن سبقها إلى ما طمحت إليه أحد.. حظ النفس الذي نسأل الله أن يحفظنا منه.
على أن المهم الذي هو موضوع المقال هو التعريف بهذا البحث العظيم للدكتور إبراهيم العجلان: المحدثون والسياسة.ولهذا الكتاب قصة فيها موعظة بليغة كشف عنها مؤلفه في البداية، وذلك أنه كتب رسالة الماجستير تحقيقا لكتاب "الفوائد المنتخبة" للآجري، وبعد أن أهلك المؤلف وقته وجهده فيه لم يتزحزح الكتاب عن موقعه في رفوف المكتبة كمرجع مهم للباحث المتخصص. ولما رأى المؤلف ذلك عزم أن يكون موضوع رسالته للدكتوراة موضوعا معاصرا.
نعم، كلٌّ ميسرٌ لما خُلِق له، والتحقيق عمل عظيم وهو كما قيل: من حقق مخطوطة كمن أحيا موؤودة، والمحققون يفتحون أعيننا كل يوم على تراثنا العظيم الذي لا يزال كثير منه مجهولا مغمورا، ومع ذلك كله فإني أحسب أن الذي آتاه الله قدرة على معالجة الموضوعات المعاصرة فهي بالنسبة له أولى بل أوجب، وذلك أن الهجمات المعاصرة على الإسلام وثوابته عاتية، وتحتاج كل مجهود في صدها.
وبينما المؤلف في تفكيره إذ وقع له مسودة رسالة كتبها أحدهم فيها طعن في أهل الحديث، واتهام عام بأن الحديث النبوي تأثر في روايته وتدوينه بضغوط السياسة، وأن السلطتين الأموية والعباسية كان لهما من القوة والهيمنة على المحدثين –بالإغراء والتهديد- ما جعل عملية رواية الحديث وتدوينه تنتج ما تريد السلطتان إنتاجه، ومن ثَمَّ فإن الحديث الذي بين أيدينا ليس هو النقل الصادق عن النبي بل هو نقل محرف مشوه، ولئن كان صادقا فهو صادق في التعبير عن رغبة السلطتين الأموية والعباسية.
كانت تلك هي الشرارة التي أخرجت هذا التأليف الممتاز، الذي هو أوسع وأعمق وأجود ما رأيت في مناقشة الموضوع، بل لست أتذكر تأليفا آخر ناقش هذه المسألة على هذا النحو من الاتساع والشمول أو على نحو قريب منه.
وأصل هذا الطعن وأوله كان من الشيعة الذين رأوا أن أحقية علي بالإمامة بعد رسول الله ثابتة، وأن اغتصاب أبي بكر وعمر وعثمان للخلافة قد جرى التغطية عليها بالكثير من التزوير والتدليس والاختلاق، وهو العمل الذي جعلهم يتناولون بالطعن جملة الصحابة وخصوصا رواة الحديث المكثرين كأبي هريرة وعائشة وابن عمر، وتعد المؤلفات الشيعية هي المعين الأول الذي خرجت منه هذه التهمة. ثم اتكأ على هذا المعين المستشرقون في حقبة الاستعمار فاستفادوا من هذا كله ثم أضافوا إلى ذلك مناهجهم التشكيكية في قراءة النص وتحليله وتفسيره في ضوء نظريات إنتاج الخطاب ودور السلطة في ذلك وهو أمرٌ بارز في المسيرة الفكرية الغربية التي كانت الكنيسة والسلطة السياسية تحتكران فيها عملية إنتاج المعرفة تقريبا حتى عصر النهضة والإصلاح والتنوير. ثم اتكأ على تراث المستشرقين العلمانيون العرب المعاصرون فأعادوا إنتاج هذه الطعون باللغة العربية وفي أثواب مختلفة.
ذهب المؤلف لتتبع هذه الطعون، فبدأ بتمهيد تناول فيه: موقف المحدثين من الكذب وأثره في الجرح والتعديل، ومنهجهم في نقد الروايات سندا ومتنا. يلقي بذلك الضوء على موضوع الكذب عموما وكيف نظر إليه المحدثون في منهج نقدهم للروايات.
ثم يبدأ الباب الأول عن العلاقة بين المحدثين والسلطة السياسية، فيثبت بالتفصيل أن المحدثين كانوا جماعة من البشر ولم يكونوا كتلة سياسية أو مذهبا سياسيا، فمنهم من تعاون مع السلطة في المصالح العامة للأمة، ومنهم من اعتزلها، ومنهم من نصح وأنكر، ومنهم من رفض الأعطيات والمناصب، ومنهم من ثار على السلطة وحمل السيف. ومن جهة أخرى فإن السلطة أحيانا حاولت مسالمتهم والاستعانة بهم وأحيانا أخرى صادمتهم واضطهدتهم. ومن ثَمَّ فلم تكن العلاقة بين كتلتين أو تنظيمين أو مؤسستين تملك أحدهما التحكم في الأخرى والتأثير في عملها، كما لم تكن ثمة علاقة منتظمة مستقرة مضطردة بين السلطة والسياسة يمكن من خلالها الوصول إلى تعاون في إنتاج الحديث.
وناقش المؤلف في الباب الثاني: الأثر السياسي في الرواية، فتناول مسألة الكذب لصالح السلطة والكذب لمناهضة السلطة، وكيف قد يختلط الدافع في الكذب لدى البعض أن يكون سياسيا أو غير ذلك، واستعرض في هذا الباب طعون الشيعة والمستشرقين والعلمانيين المعاصرين للمحدثين من جهة السياسة.
وناقش في الباب الثالث: المتون والمسائل الحديثية المتصلة بالسياسة، واقتصر على الصحيحين كنموذج لهذه المتون، فاستعرض الأحاديث التي تتصل بالسياسة: ما قيل منها أنها مؤيدة للسلطة وما قيل أنها معارضة لها، ثم ناقش مناهج المحدثين في الرواة والرجال الذين كانت لهم علاقة بالسلطة السياسية أو شاركوا في المعارك السياسية أو ثاروا على السلطة.
ثم جاء الباب الرابع الذي هو أوسع أبواب الكتاب، وهو صلب البحث وقلبه، وهو وحده بلغ ثلثي الكتاب، وفيه المناقشة التفصيلية للطعون في السنة والمحدثين من جهة السياسة، فناقش في الفصل الأول الطعون والدعاوى العامة، ثم ناقش في الفصل الثاني مناقشة تفصيلية للطعون الموجهة إلى مرويات الصحيحين، ثم ناقش في الفصل الثالث: الرواة الثقات الذين طُعِن فيهم بالتهمة السياسية.
تسعمائة صفحة تمثل علامة على المجهود المضني الكبير الذي بذله المؤلف حفظه الله، وعلم الحديث كما هو معروف من أصعب العلوم الشرعية وأدقها لما يحتاجه من سعة الحفظ والدقة، فضلا عن أن المؤلف طوَّف بين الكتب القديمة والمعاصرة، وتتبع الطعون في كتب الشيعة والمستشرقين والعلمانيين المعاصرين، وهذا مجهود ضخم يعرفه من يمارس البحث.
وقد أوتي المؤلف نفسا طويلا في الرد على الشبهة وتصنيفها، وقد تناول بعض الشبهات التي ردَّ عليها سابقوه، فاستوعب ردودهم ثم زاد عليها ردودا، ثم صاغ ذلك كله في نفس هادئ وروية رصينة.
ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذا الكتاب مادة دراسية في معاهد وكليات العلوم الشرعية قسم الحديث، يتدرب به الطلاب على معالجة هذه الشبهات، ويعيشون أجواء الشبهات المعاصرة ويعرفون مداخلها، ويتهيؤون بممارسة البحوث المتينة لترتقي مهارتهم وملكتهم.
نشر في الخليج أون لاين
شغلتني أمورٌ أخرى عن الكتاب، حتى بدأت في كتابة بحث يتعلق بالأثر السياسي على تدوين بعض الأحاديث، ضمن دعوة جاءتني لمؤتمر علمي، وضعت خطة الورقة البحثية، وشرعت فيها، وأنهيت ثلثيْها، ثم تذكرت فجأة هذا الكتاب الذي وضعته جانبا منذ أشهر! فهرعت إليه من جديد.
تروي القصة المشهورة التي تنسب للأصمعي مع المنصور، أن المنصور كان يحفظ الشعر إذا سمعه لأول مرة، وعنده خادم يحفظه إذا سمعه مرتين، وجارية تحفظه إذا سمعته ثلاث مرات، فإذا جاء الشاعر يمتدح المنصور اتهمه بأنه يقول قصيدة قديمة مكرورة محفوظة، حتى إنه يحفظها، ويحفظها خادمه وجاريته، فيفاجأ الشاعر الذي قضى أياما أو شهورا يدبج القصيدة أن ثلاثة يحفظونها قبله!! فيخيب أمله ويخسر ما كان يرجوه من الجائزة.
هي قصة طريفة وإن كان المؤرخون يرفضونها والأدباء يبرئون الأصمعي منها، لكن الذي يهمنا الآن أني كنت أسير في الكتاب أحمل نفس هذا الشاعر، إن الخطة التي وضعتها وكثيرا مما كتبته وسطرته وظننت أني لم أسبق إليه، وجدته في هذا الكتاب.. لا، بل الحق أني وجدته بأوفى وأعظم وأوسع وأكمل وأجود مما فعلت، وإذا بي أسابق الصفحات متأملا أن يكونَ بعضُ ما كتبتُه لم يخطر للمؤلف على بال، والحمد لله وجدتُ من ذلك قليلا، وإلا كنت مزَّقتُ بحثي كله!
لكني أعدت صياغة البحث، فصرت أحيل إلى الكتاب وأستفيد منه في سدِّ بعض النقص عندي، وأجتهد في الزيادة على ما قرأت.. ولا أخفيكم يا معشر القراء، أنها لحظة من لحظات التنازع بين الإخلاص والتجرد وبين التحسر على الفوت، وأن النفس يداخلها التمني أن لم يكن سبقها إلى ما طمحت إليه أحد.. حظ النفس الذي نسأل الله أن يحفظنا منه.
على أن المهم الذي هو موضوع المقال هو التعريف بهذا البحث العظيم للدكتور إبراهيم العجلان: المحدثون والسياسة.ولهذا الكتاب قصة فيها موعظة بليغة كشف عنها مؤلفه في البداية، وذلك أنه كتب رسالة الماجستير تحقيقا لكتاب "الفوائد المنتخبة" للآجري، وبعد أن أهلك المؤلف وقته وجهده فيه لم يتزحزح الكتاب عن موقعه في رفوف المكتبة كمرجع مهم للباحث المتخصص. ولما رأى المؤلف ذلك عزم أن يكون موضوع رسالته للدكتوراة موضوعا معاصرا.
نعم، كلٌّ ميسرٌ لما خُلِق له، والتحقيق عمل عظيم وهو كما قيل: من حقق مخطوطة كمن أحيا موؤودة، والمحققون يفتحون أعيننا كل يوم على تراثنا العظيم الذي لا يزال كثير منه مجهولا مغمورا، ومع ذلك كله فإني أحسب أن الذي آتاه الله قدرة على معالجة الموضوعات المعاصرة فهي بالنسبة له أولى بل أوجب، وذلك أن الهجمات المعاصرة على الإسلام وثوابته عاتية، وتحتاج كل مجهود في صدها.
وبينما المؤلف في تفكيره إذ وقع له مسودة رسالة كتبها أحدهم فيها طعن في أهل الحديث، واتهام عام بأن الحديث النبوي تأثر في روايته وتدوينه بضغوط السياسة، وأن السلطتين الأموية والعباسية كان لهما من القوة والهيمنة على المحدثين –بالإغراء والتهديد- ما جعل عملية رواية الحديث وتدوينه تنتج ما تريد السلطتان إنتاجه، ومن ثَمَّ فإن الحديث الذي بين أيدينا ليس هو النقل الصادق عن النبي بل هو نقل محرف مشوه، ولئن كان صادقا فهو صادق في التعبير عن رغبة السلطتين الأموية والعباسية.
كانت تلك هي الشرارة التي أخرجت هذا التأليف الممتاز، الذي هو أوسع وأعمق وأجود ما رأيت في مناقشة الموضوع، بل لست أتذكر تأليفا آخر ناقش هذه المسألة على هذا النحو من الاتساع والشمول أو على نحو قريب منه.
وأصل هذا الطعن وأوله كان من الشيعة الذين رأوا أن أحقية علي بالإمامة بعد رسول الله ثابتة، وأن اغتصاب أبي بكر وعمر وعثمان للخلافة قد جرى التغطية عليها بالكثير من التزوير والتدليس والاختلاق، وهو العمل الذي جعلهم يتناولون بالطعن جملة الصحابة وخصوصا رواة الحديث المكثرين كأبي هريرة وعائشة وابن عمر، وتعد المؤلفات الشيعية هي المعين الأول الذي خرجت منه هذه التهمة. ثم اتكأ على هذا المعين المستشرقون في حقبة الاستعمار فاستفادوا من هذا كله ثم أضافوا إلى ذلك مناهجهم التشكيكية في قراءة النص وتحليله وتفسيره في ضوء نظريات إنتاج الخطاب ودور السلطة في ذلك وهو أمرٌ بارز في المسيرة الفكرية الغربية التي كانت الكنيسة والسلطة السياسية تحتكران فيها عملية إنتاج المعرفة تقريبا حتى عصر النهضة والإصلاح والتنوير. ثم اتكأ على تراث المستشرقين العلمانيون العرب المعاصرون فأعادوا إنتاج هذه الطعون باللغة العربية وفي أثواب مختلفة.
ذهب المؤلف لتتبع هذه الطعون، فبدأ بتمهيد تناول فيه: موقف المحدثين من الكذب وأثره في الجرح والتعديل، ومنهجهم في نقد الروايات سندا ومتنا. يلقي بذلك الضوء على موضوع الكذب عموما وكيف نظر إليه المحدثون في منهج نقدهم للروايات.
ثم يبدأ الباب الأول عن العلاقة بين المحدثين والسلطة السياسية، فيثبت بالتفصيل أن المحدثين كانوا جماعة من البشر ولم يكونوا كتلة سياسية أو مذهبا سياسيا، فمنهم من تعاون مع السلطة في المصالح العامة للأمة، ومنهم من اعتزلها، ومنهم من نصح وأنكر، ومنهم من رفض الأعطيات والمناصب، ومنهم من ثار على السلطة وحمل السيف. ومن جهة أخرى فإن السلطة أحيانا حاولت مسالمتهم والاستعانة بهم وأحيانا أخرى صادمتهم واضطهدتهم. ومن ثَمَّ فلم تكن العلاقة بين كتلتين أو تنظيمين أو مؤسستين تملك أحدهما التحكم في الأخرى والتأثير في عملها، كما لم تكن ثمة علاقة منتظمة مستقرة مضطردة بين السلطة والسياسة يمكن من خلالها الوصول إلى تعاون في إنتاج الحديث.
وناقش المؤلف في الباب الثاني: الأثر السياسي في الرواية، فتناول مسألة الكذب لصالح السلطة والكذب لمناهضة السلطة، وكيف قد يختلط الدافع في الكذب لدى البعض أن يكون سياسيا أو غير ذلك، واستعرض في هذا الباب طعون الشيعة والمستشرقين والعلمانيين المعاصرين للمحدثين من جهة السياسة.
وناقش في الباب الثالث: المتون والمسائل الحديثية المتصلة بالسياسة، واقتصر على الصحيحين كنموذج لهذه المتون، فاستعرض الأحاديث التي تتصل بالسياسة: ما قيل منها أنها مؤيدة للسلطة وما قيل أنها معارضة لها، ثم ناقش مناهج المحدثين في الرواة والرجال الذين كانت لهم علاقة بالسلطة السياسية أو شاركوا في المعارك السياسية أو ثاروا على السلطة.
ثم جاء الباب الرابع الذي هو أوسع أبواب الكتاب، وهو صلب البحث وقلبه، وهو وحده بلغ ثلثي الكتاب، وفيه المناقشة التفصيلية للطعون في السنة والمحدثين من جهة السياسة، فناقش في الفصل الأول الطعون والدعاوى العامة، ثم ناقش في الفصل الثاني مناقشة تفصيلية للطعون الموجهة إلى مرويات الصحيحين، ثم ناقش في الفصل الثالث: الرواة الثقات الذين طُعِن فيهم بالتهمة السياسية.
تسعمائة صفحة تمثل علامة على المجهود المضني الكبير الذي بذله المؤلف حفظه الله، وعلم الحديث كما هو معروف من أصعب العلوم الشرعية وأدقها لما يحتاجه من سعة الحفظ والدقة، فضلا عن أن المؤلف طوَّف بين الكتب القديمة والمعاصرة، وتتبع الطعون في كتب الشيعة والمستشرقين والعلمانيين المعاصرين، وهذا مجهود ضخم يعرفه من يمارس البحث.
وقد أوتي المؤلف نفسا طويلا في الرد على الشبهة وتصنيفها، وقد تناول بعض الشبهات التي ردَّ عليها سابقوه، فاستوعب ردودهم ثم زاد عليها ردودا، ثم صاغ ذلك كله في نفس هادئ وروية رصينة.
ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذا الكتاب مادة دراسية في معاهد وكليات العلوم الشرعية قسم الحديث، يتدرب به الطلاب على معالجة هذه الشبهات، ويعيشون أجواء الشبهات المعاصرة ويعرفون مداخلها، ويتهيؤون بممارسة البحوث المتينة لترتقي مهارتهم وملكتهم.
نشر في الخليج أون لاين
Published on July 25, 2019 03:02
July 18, 2019
الوطن الأول!
تزوج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه من امرأة بدوية، فنقلها من شظف العيش إلى دار الإمارة في عاصمة الدنيا: دمشق، ولكن المرأة البدوية اشتد بها الحنين إلى موطن البدو، فأنشدت بضعة من الأبيات الرقيقة التي صارت من عيون الشعر العربي، وبها خلد اسمها في عالم الأدب. قالت:
لبيتٌ تخفق الأرواح فيه .. أحب إلي من قصر منيفوأصوات الرياح بكل فجٍّ .. أحب إلي من نقر الدفوفوبكر يتبع الأظعان صعب .. أحب إلي من بلغ ذفوفوكلب ينبح الطُرَّاق دوني .. أحب إلي من قطٍّ ألوفولبس عباءة وتقر عيني .. أحب إلي من لبس الشفوفوأكل كسيرة من خبز بيتي .. أحب إلي من أكل الرغيفخشونة عيشتي في البدو أشهى .. إلى قلبي من العيش الظريف
وقد ملك عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، وأقام فيها دولة قوية فتية، جددت شباب الإسلام، ومع ذلك لم ينس الشام، ويسميها أرضه وبعضه، ولم تنس كتب التاريخ والتراجم أن تذكر لوعته وهو ينشد قائلا:
أيها الراكب الميمم أرضي .. أقرئ من بعضي السلام لبعضيإن جسمي كما علمت بأرضٍ .. وفؤادي وساكنيه بأرضِقُدِّر البيْن بيننا فافترقنا .. وطوى البيْن عن جفوني غمضيقد قضى الدهر بالفراق علينا .. وعسى باجتماعنا سوف يقضي
لم تستطع لذة الملك ولا منازل السلطان أن تنسي لذة البلد ولا أن تذهب بالحنين إلى البلدان!
وقد كانت معاناة الاغتراب والحرمان من القوة والقسوة بحيث أنطقت الشعراء بأعذب الشعر، وليس هذا من المواطن التي يصدق فيها قولهم: أعذبه أكذبه، بل أعذبه –هاهنا- أصدقه!
وما لنا نذهب بعيدا، وهذا بلال بن رباح قد أنشد مشتاقا إلى مكة، مع أنه في خير دار وخير جوار، في المدينة المنورة، في جوار الأنصار (وهل في الناس ناس كالأنصار حفاوة وإيثارا ونبلا وكرما؟!)، وفي جوار رسول الله.. كل هذا معه وأنشد ملتاعا مشتاقا لبلد مسَّه فيها العذاب:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة .. بوادٍ وحولي إذخر وجليلوهل أردن يوما مياه مجنة .. وهل يبدون لي شامة وطفيل
نعم، لطالما استغربت واستبشعت بيت القائل:
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام
بل وحاولت أن أنسج ردا عليه، فقلت:
بلادي لئن جارت عليَّ لئيمة .. وأهلي لئن ضنوا عليَّ لئام
على أني بعد أن ذقت الاغتراب أجد لذلك القول مذهبا، وأجد له في صدري متسعا.. وصرتُ إذا هجا بلاده مقيم فيها عذرته، وإذا امتدحها مغترب عنها عذرته، فإذا مدحها مقيم فيها توقفتُ فيه فإن كان مرتاحا فيها فالأغلب أنه منافق، وإن كان يعاني فالأغلب أنه صادق، وكذا إذا هجا بلده مغترب عنها توجستُ منه، فإن كان طريدا مظلوما عذرته، وإن كان غير ذلك لم أستسغ منه هذا ورأيتها شعبة من اللؤم!
ولقد تعلمنا في المدرسة قصيدة شوقي في حب مصر: سلوا مصرَ هل سلا القلب عنها، وتعلمنا أنه قال فيها بيتا فيه مبالغة غير مقبولة، وذلك قوله:
وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه .. نازعتني إليه في الخلد نفسي
واستنكرنا مع من درسونا هذه المبالغة المذمومة، رجلٌ في جنة الخلد ثم يرى أنه سيشتاق وهو فيها إلى قطعة في الأرض!! ربما هنا يصدق في بيته قولهم: الشعر أعذبه أكذبه!
وما علينا من ذلك، سواء أكان صادقا في هذا أم لم يكن، إلا أن جوهر الإشكال هنا لم أفهمه إلا مع ابن القيم رحمه الله..
كتب ابن القيم كتابا عجيبا رقيقا مثيرا للأشواق فيه وصف الجنة، وسمَّاه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، وكان هذا الكتاب قرينا لأصحابنا أيام المراهقة، حيث كنا نغالب المراهقة والفتن بحديث الصبر وحديث الحور العين، وفي هذا الكتاب نظم ابن القيم قصيدته الشهيرة وقال فيها:
فحيِّ على جنات عدنٍ فإنها .. منازلنا الأولى وفيها المخيمولكننا سبي العدو فهل ترى .. نعود إلى أوطاننا ونسلم
في غربتي انتبهت لأول مرة إلى لفظ (أوطاننا) في أبيات ابن القيم رغم أنه قد مضي على حفظي لهذا البيت أكثر من عشرين سنة، وبهذا اللفظ انحل الإشكال الذي نشأ في بيت شوقي!
أولئك الصالحين عندهم من الإيمان واليقين وقوة الروح ما جعلهم يصلون إلى الحقيقة الأولى الكبرى، حقيقة أن منازلنا الأولى وأوطاننا الأصلية إنما كانت في الجنة، الجنة التي أُخْرِج منها أبونا آدم عليه السلام، ولذلك لا يزال دأب الصالحين أن يتشوقوا للجنة تشوقهم للوطن الأول والمنزل الأول!
نَقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى .. ما الحب إلا للحبيب الأولكم منزل في الأرض يألفه الفتى .. وحنينه دوما لأول منزل
لم ينس الصالحون أول القصة الكبيرة، قصة الجنة التي كانت أول الأمر ومبتداه، لم تبدأ قصتهم مع الأرض في لحظة المولد، لذا كان تعلقهم واشتياقهم بالمنزل الأول: الجنة التي أسكنها الله آدم عليه السلام!
لهذا يكثر في كلامهم حديث السفر والغربة، لا عن الدار والبلد التي هي في الأرض، بل الغربة في هذه الأرض، ولذا لما سُئل الإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة!
ولما حضرت بلالٌ الوفاة تهلل وجهه وقال: غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه!
ولما خُيِّر رسولنا الأعظم –صلى الله عليه وسلم- بين أن يخلد في الدنيا ملكا أو أن يتوفاه الله، اختار الوفاة، وقال: بل الرفيق الأعلى.. بل الرفيق الأعلى!
وترك لنا قبل وفاته –صلى الله عليه وسلم- وصايا حافلة بمعنى الغربة والصبر فيها، فأمسك يوما بمنكبي عبد الله بن عمر وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"!
ولما رآه الصحابة يوما ينام على حصير قاسٍ ترك أثره في جنبه –صلى الله عليه وسلم- قالوا له: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءًا، فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
ومما سمعته من مشايخنا أن الرجل إذا ركب مواصلة فرأى في كرسيه قطعا أو خرقا، لم يأبه له كثيرا، ولم يقض وقته يحاول إصلاح الخرق ورتق الفتق، ولم ينفق على ذلك من ماله ولم يبذل فيه همَّه، ذلك أنه يعلم أنها مجرد مواصلة لن يلبث أن ينزل منها، قال الشيخ: فكذلك الدنيا!
ثم مما قرأناه على صفحات شبكات التواصل أن أرقى ما تكون الأخلاق بين المسافرين، يتبادلون الابتسامات ويتحلون بالذوق ويتجملون، يعرف كل منهم أنه لقاء عابر ولحظات سريعة، كان زهدهم في العلاقة دافعا لهم إلى التجمل فيها، فكذلك الدنيا أيضا!
لئن كان المرء بطبعه وفطرته يشتاق إلى بلد لم يخرج منها إلا مطاردا مضطرا، مهما كانت حالة بلده من البؤس والسوء، فكيف ينبغي أن يكون الشوق للموطن الأول والمنزل الأول وهو منزل الراحة والسرور، وهو موضع رضا الله ونعمته على عباده؟!
اللهم ارزقنا يقينا نعلم به أن وطننا الأول هو الجنة!
نشر في الخليج أون لاين
Published on July 18, 2019 03:43
July 15, 2019
مذكرات الشيخ رفاعي طه (16) محاولة الإخوان الهيمنة على الشباب الإسلامي
مذكرات الشيخ رفاعي طه (16)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
هكذا حاول الإخوان الهيمنة على الشباب الإسلامي بجامعة أسيوط
· ورث أسامة حافظ زعامة صلاح هاشم بعد تخرجه، وصار أمير الجامعة واقعيا!· كان النزاع والتنافس أقرب إلى الشيخين الكبيرين: درويش والسماوي من التعاون!· اسم "الجماعة الإسلامية" أطلقه الإخوان، وهذه شهادتي للتاريخ!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة – (14) بيعتي للشيخ السماوي – (15) بداية زعامة صلاح هاشم
ترسخت بيني وبين صلاح هاشم أخوة عميقة، كانت بذرة نشأة الجماعة الإسلامية المصرية، وبعد ذلك بقليل بدأ يظهر في المشهد الشيخ أسامة حافظ.
كان ظهوره أيضا في معسكر من تلك المعسكرات، كان يدير حلقة فيه وأعجبني حديثه مع الإخوة في هذه الحلقة، فذهبت أتعرف عليه، وكان طالبا في كلية الهندسة، وكان في ذات سني هذه المرة وليس أكبر مني كما كان صلاح هاشم، فكلانا مواليد 1954، ولئن كان من فارق في العمر فهو في نحو الثلاثة أشهر بيننا.
في تلك الفترة بدأ يحدث تراشق بين الشيخ مصطفى درويش والشيخ عبد الله السماوي، وقد ذكرت فيما سبق أن الشيخ مصطفى درويش كان أميرا لـ "جماعة الحق"، وقد كان قبل ذلك ينضوي تحت جميعة أنصار السنة المعترف بها رسميا من قبل الدولة، إلا أنها ضاقت بطاقته وطموحه وآفاقه فتركها وأسس جماعة الحق هذه، لتمثل همَّه كرجل من التيار السلفي المقاوِم العامِل، وقد ذكرتُ أن من أهم ما أخذناه عنه الالتزام بالهدي الظاهر كاللحية والثياب. وكان هو والشيخ السماوي صنويْن، مع أن الشيخ مصطفى أسنُّ منه بكثير، بل كان الشيب يخط خطوطا في لحية الشيخ مصطفى بينما لم يجد الشيب طريقه إلى لحية الشيخ عبد الله السماوي!
فيما بعد سارت الشهرة في ركاب الشيخ السماوي أكثر بكثير من سيرها في ركاب الشيخ مصطفى درويش، ولعل جيل الشباب الذين هم الآن في الثلاثينات يعرفون اسم السماوي لكن لا يعرفون اسم مصطفى درويش، بينما في ذلك الوقت كان كلاهما علمٌ من أعلام العمل الدعوي، ولكل منهما في جيلنا بصمات لا تنسى.
كلاهما سلفيٌّ، وكلاهما من أهل العمل والالتزام والمقاومة لا الخمول والاستسلام للواقع أو للحاكم، وكلاهما صاحب تأثير ونفوذ واسع على أتباعه ويجيد تكوين وتجميع الشباب من حوله، ومع هذا فبدلا من أن يجد التعاون مدخلا ليجمع بينهما فقد سبقت إليهما المنافسة والمنازعة على النفوذ والمناطق. كانت سوهاج مركز الشيخ مصطفى درويش وهي بهذا الاعتبار محرَّمة على الشيخ السماوي، وهكذا.
وقع بينهما التراشق اللفظي، وشهدناه معشر الشباب، فساءنا كما يسوء شباب كل جيل أن يشهدوا خلافات مشايخهم، ولأن الشباب من طبيعته الحماس والحسم فقد سبق إلى الأذهان سؤال الشباب المعتاد: من منهما على صواب ومن منهما على خطأ؟ وقد يتطور السؤال إلى أن يقال: من منهما على حق ومن منهما على باطل وضلالة؟
فأسررت لصلاح هاشم بهذا فقال: إنني أعرفهما، ولعل الشيخ مصطفى درويش يكون أقرب إلى الحق من الشيخ السماوي، إنني أعرفه من سوهاج، لكن على كل حال لن ندخل بين الرجلين ولن نخوض في خلافاتهما.
كان الشيخ صلاح هاشم شخصية مسالمة توافقية مع الجميع، ولم أكن كذلك، إنما كنت أتوق إلى اتخاذ موقف من أحد الرجلين، والانحياز إلى الآخر، فسؤال من منهما على صواب أو من منهما على الحق لم يكن سؤالا نظريا أطرحه لممارسة الثرثرة الفكرية، بل كان سؤال عمل وحركة يستتبعه انحياز وتعسكر وتخندق وراء أقربهما للحق.
كان صلاح هاشم يُجِلُّ الشيخ مصطفى درويش لمعرفته به، فهما من سوهاج، ولسبق سنه وقدمه في خدمة الإسلام، وكان يرى أن الخلاف لا يأتي إلا بشر، وأنه يسعنا أن نعمل في الدعوة بعيدا عن الخلافات بين الرجلين الكبيرين.
وخلاصة القول أنه إلى نهاية هذا العام الدراسي توثقت العلاقة بين ثلاثتنا: صلاح وأسامة وأنا، ثم حمل العام الدراسي الجديد ظرفا فارقا في تاريخ الحركة الإسلامية كلها.
لقد خرجت قيادات الإخوان المسلمين من السجون الناصرية وشرعوا في التعرف على هذه الحالة الشبابية الإسلامية المتنامية في الجامعات، وساروا في هذا سيرا حثيثا يستطيع الذين كانوا في جامعة القاهرة أن يسردوا تفاصيله أحسن من غيرهم. وقد وصل إلينا هذا السير الحثيث في أسيوط متمثلا في معسكر دعت إليه قيادات الإخوان في مسجد عمر مكرم الشهير والقريب من محطة القطار. كان هذا بين سنتي 1976، 1977.
لم أحضر هذا المعسكر، ولا أتذكر الآن ما سبب تغيبي عنه، ربما كنت خارج أسيوط أو غير ذلك، إلا أني سأذكر أبرز ما حصل فيه، لأنه كان لحظة فارقة في العمل الدعوي الجامعي عندنا.
كانت أبرز قيادات الإخوان المسلمين في أسيوط حينئذ الدكتور محمد حبيب الأستاذ بكلية العلوم وهو الذي وصل إلى نائب مرشد الإخوان فيما بعد، ومحامي اسمه محمد الغزالي، وآخر اسمه دسوقي شملول وكان معيدا في كلية الهندسة، وآخر اسمه عبود وكان في العقد السادس أو السابع من عمره ذا لحية بيضاء. أولئك هم وجوه الإخوان في أسيوط، وهم الذين إليهم مرجع الشباب الذي انضم للإخوان في ذلك الوقت، وكانوا يُنَظِّمون الفعاليات التي يُحضِرون فيها الدعاة من أمثال الشيخ محمد الغزالي والحاجة زينب الغزالي رحمهم الله الجميع، وأولئك هم الذين نظَّموا هذا المعسكر وأنفقوا عليه.
فماذا فعلوا في هذا المعسكر؟
اقترحوا أن تختار كل مجموعة من الشباب المتدين في كل كلية "أميرا" لها، وذلك أن "الأمير" هو اللفظ الشرعي لمعنى الرئيس أو المسؤول، ونحن بطبيعة الحال منقادون للشرع. وهكذا اجتمع أبناء كل كلية واختاروا لهم أميرا، وبدأت تتهيكل الجامعة، فهذا أمير كلية الطب وهذا أمير كلية التجارة وهذا أمير كلية الهندسة... وهكذا.
وبعد هذا اقترح هؤلاء الإخوة قيادات الإخوان الأربعة أن يختاروا أميرا لكل الجامعة، يكون أميرا فوق أمراء الكليات.. وسأقف بالمشهد هنا لتوضيح بعض أمور، ثم أعود إليه.
كان شباب الجامعات ينظرون لقيادات الإخوان باعتبارهم قيادات دعوية قديمة لها احترامها وإجلالها لا سيما من له منهم محنة طويلة، فلذا يقبلون عليهم ويستمعون لهم كما يستمعون إلى أي شيخ كبير مرموق، فشباب هذه الفترة رغم حماستهم وطاقتهم الجبارة لم يكونوا يأنفون أن يتعلموا ويستمعوا بل ويخضعوا للكبار طالما رأوا في هذا مصلحة الدين والدعوة. ولهذا فلم يكن يستنكف الشباب المتدين من غير الإخوان المسلمين بل وبعض الذين في نفوسهم شيء من الإخوان، لم يكونوا يستنكفوا أن يحضروا فعاليات الإخوان الدعوية ولا أن يجيبوا دعواتهم إلى معسكر ينظمونه ولا أن يسمعوا لهم في أمر يقترحونه.
في سياق آخر كان صلاح هاشم قد تخرج في كلية الهندسة ولم يعد زعيمها، وإنما آلت الزعامة من بعده إلى أسامة حافظ، وكان هو بحكم الواقع أمير كلية الهندسة وإليه يرجع الشباب فيها وعن رأيه يصدرون، ولهذا لم يكن اختياره أميرا لهذه الكلية في ذلك المعسكر إلا أمرا سهلا وتحصيل حاصل.
لكن زعامة أسامة حافظ لم تتوقف عند حدود كلية الهندسة، لقد ورث زعامة صلاح هاشم التي تكونت في العام الماضي، وهي زعامة الشباب الملتزم في الجامعة كلها، فهو على الحقيقة زعيم الشباب الإسلامي بالجامعة.
وكان لأسامة حافظ صديقٌ معيدٌ بكلية الهندسة اسمه عبد المتعال، وكان صديقه هذا مسجونا مع الإخوان في الفترة الناصرية، إلا أنه كان يُكِنّ كراهية شديدة للإخوان، وكان كثير الحديث عن ضلالتهم وبدعهم، فألقى هذا بظلاله في نفس أسامة حافظ، لم يصل الحال إلى أن يكرههم كما كان حال صديقه، لكنه وصل إلى قناعة تقول: لا يجب أن نكون مع الإخوان ولا تابعين لهم. وإذا كانت هذه قناعة أسامة حافظ فهي قد تسربت إليَّ أيضا بالتبعية. ولا يزال هذا كله أمر في القلوب وحديث عابر على اللسان لا يترتب عليه عداوة ظاهرة أو عمل أو تنافس.
أعود إلى المعسكر:
اختير أسامة حافظ أميرا لكلية الهندسة ببساطة، فلما جاء دور اختيار أمير الجامعة لم يكن ثمة أحد يستطيع أن ينافس أسامة في هذا الموقع، فإنه في واقع الأمر أمير الجامعة وزعيم شبابها الإسلامي. إلا أن إرادة قيادات الإخوان اتجهت إلى اختيار طالب صغير في السنة الأولى من كلية الطب اسمه أسامة سيد، بالكاد نبتت لحيته، ثم إنه حليقٌ، وهذا أمر حساس عند الشباب في ذلك الوقت.
وهكذا تضاربت إرادة شباب الجامعة وإرادة قيادات الإخوان، فجاء دور الدبلوماسية، فأخذ المهندس دسوقي شملول –أحد القيادات الأربعة- دفة الكلام وقال: يا شباب الشيخ أسامة حافظ أهل لهذا بلا شك ولكن المشكلة أنه الآن في السنة الأخيرة من كلية الهندسة، والمصلحة تقتضي أن يتولى الأمر شاب صغير فيمارس الأمر وتتراكم خبرته ويفيد ويستفيد، بينما الذي سيتخرج لن يستطيع مراكمة خبرة ولن يستفيد منه إخوانه وسيكون الأمير في العام القادم جديدا بلا خبرة ويتعلم من الصفر مرة أخرى. ومن هنا فمصلحة العمل الدعوي في أن يتولى الأمر من كان في السنة الأولى أو الثانية.
كان بهذا الكلام يريد أن يحث الشباب على اختيار أسامة سيد. ولهذا فكلما طُرِح اسم آخر غير اسم أسامة سيد لم يصلوا إلى نتيجة، ولم يكن أسامة أمير كلية الطب حينها بل كان أميرها في ذلك الوقت سيد العربي. وقد رفضوا أيضا أن يكون سيد أمير الجامعة لذات السبب: أنه سيتخرج العام المقبل.
ونجحت دبلوماسية القيادات الإخوانية آخر الأمر، وصار أسامة السيد، الطالب بالفرقة الأولى بكلية الطب أميرا للجامعة.
من هنا صار لقب أسامة السيد "أمير الجماعة الإسلامية في أسيوط".
ولهذا فإن أول من وضع اسم "الجماعة الإسلامية" في جامعة أسيوط كانوا هم الإخوان المسلمين، فمن قبل هذه اللحظة كان الشباب يعملون بغير اسم محدد، فربما سمينا أنفسنا أو سمانا أحدهم جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كان بعضنا من جماعة الشيخ السماوي، أو كان بعضنا الآخر من جماعة غيره، لكن بعد هذه اللحظة صار اسم الشباب الإسلامي "الجماعة الإسلامية".
هذه روايتي للتاريخ وان خالفها من خالفها!
وهنا لا بد أن أكرر وأؤكد: لقد كان أسامة حافظ قادرا على أن يفسد مشهد اختيار أمير الجامعة، وله من الدوافع ما هو جدير بالأخذ به، من أول قناعته بأن الإخوان ليسوا الجماعة التي يجب اتباعها بل لديهم من البدع والضلالات ما ينبغي لأجلها الانصراف عنهم، وانتهاء بقناعته بأنه أسامة سيد لا يصلح لهذا الموقع. لكن الشباب كما ذكرتُ لم يكن ينطلق في العمل إلا متجردا لله ومُقَدِّمًا مصلحة الدين والدعوة على مصلحة نفسه، ومُوَقِّرًا للسابقين في العمل والدعوة وإن لم يكن تابعا لهم، وبعيدا عن المناكفات المبنية على حظوظ النفس. فإذا اقترح شيخٌ فكرة ولم يكن لدينا فكرة تضادها فلا مشاحة ولا نزاع، وإذا كان لدى أحدهم رؤية وليس لدينا ما يقابلها فليكن ما يرى.
هكذا قيل: الجماعة الإسلامية! ما رأيكم في هذا الاسم؟
لا مانع؟ لا مانع. فانتهى الأمر وثبت الاسم.
وانتهى المعسكر على تسمية أمراء الكليات، وتسمية المجموع، وتسمية أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط.
بعض إخواني في "الجماعة الإسلامية" يخالفني في هذه الرواية، وربما يأتي فيما بعد ما يجعلنا نسرد آراءهم. لكن النتيجة التي انبثق عنها هذا المعسكر رغم مروها بسهولة فإنها أسست فيما بعد لنزاع بدأ ولم ينته، وهو النزاع الذي انتهى بالانشقاق بين اسم وكيان ما صار يعرف بعدئذ بـ "الجماعة الإسلامية"، وبين اسم وكيان "الإخوان المسلمين".. وهو ما نرويه إن شاء الله في اللقاءات القادمة.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on July 15, 2019 01:49
July 10, 2019
كيف صارت حانة اليوناني استاد كرة؟!
منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت مصر في واحدة من أشد لحظاتها بؤسا ومرارة، كانت أسرة محمد علي قد فتحت أبواب مصر للأجانب حتى صار لهم فيها السيادة العظمى، وصار الشعب عندهم كالعبيد، وكان الشحاذ في أوروبا يتعلق بالسفينة السائرة إلى مصر في رحلة هجرة غير شرعية محفوفة بالمغامرة، فإذا وصل إلى الشواطئ المصرية وجد البلاد تفتح له ذراعيها وتقدم له أبناءها عبيدا وجواري!
كان الأجانب يهيمنون على السياسة والاقتصاد والقانون، قصر الخديوي حافل بالأجانب، الهيئات الحكومية الكبرى وقادة الجيش وبعض الوزارات يتولاها الأجانب، امتيازات المشاريع تأتي بقروض أجنبية ويتولى تنفيذها أجانب ويسخرون فيها العمال المصريين كعبيد ثم يجنون أرباحها، والنظام القانوني في مصر كان محاكم قنصلية ثم مختلطة يهيمن عليها الأجانب، ما على الأجنبي إلا أن يفتعل مشكلة مع أي مصري، فيسحبه إلى محكمة قنصيلة بلاده فتقضي له المحكمة بما شاءت من أموال المصري وعقاراته، وبهذا يفتقر المصري ويغتني الأجنبي.
سنأخذ من بين هذا المشهد كله مشهدا واحدا متكررا..
شحاذ يوناني أو مالطي أو غير ذلك، غامر بنفسه في البحر حتى وصل إلى مصر، وجد طريقه إلى قرية أو مدينة ما، فتح فيها حانة خمر وقمار، استجلب فيها راقصة أو عاهرة (ولا بأس أن تكون ابنته أو أخته أحيانا)، يأتيه الفلاح أو العمدة أو ما بينهما، يسكر ويشرب ويطرب ويلعب، فينزف أمواله بالقمار أو بالخمر أو لعيون الفتاة اليونانية المليحة المتحررة، فإن كان فلاحا لا يقوى على سفك المال دفعة واحدة فهو يشرب ويطرب ويقترض بالربا الفاحش.
وفي غضون سنوات يتحول الشحاذ اليوناني إلى مركز تدوير المال في القرية، ويمكنه أن يُقرض الأعيان بالربا، ثم في مرحلة لاحقة يستولي على أطيانهم ودورهم إن لم يستطيعوا السداد، والقانون في صفه والشرطة في خدمته!
لنترك كل هذا المشهد ونركز في مشهد الفلاح الفقير.. يبدو مثيرا للاشمئزاز أن ينفق الفلاح الفقير أمواله في الخمر والقمار حتى بعد يومه الطويل المنهك الحافل بالكدح والمرارات، ويصعب أن تجد من يدافع عن فعله هذا بأنه حق له في اللذة والراحة والغياب عن الهموم. وذلك أن العزم فيمن كان هذا حاله أن يكبح جماح شهوته ويمسك زمام نفسه ليحول نفسه بتوفير هذه الأموال التي حصَّلها بالعذاب في تغيير حاله وحال أولاده. هكذا يقول داعي العقل إن لم يكن داعي الدين!
هذا المشهد السابق يتكرر في مصر الآن، لكن مع تعديل طفيف وغير مؤثر في المشهد العام..
الهيمنة الأجنبية على مصر لا تخطئها العين، البلد حافلة بالأجانب في مواقع شديدة الحساسية، ومن الوزراء من هو مزدوج الجنسية، الشركات الأجنبية تملك نصيب الأسد من حصة الأسواق، بما في ذلك الشركات التي تبدو بأسماء وطنية ولكن أسهم ملاكها تشير إلى حقائق أخرى، بل إن عقود الحكومة مع الشركات الأجنبية والتي تتم في السر محصنة من المحاسبة بقانون أقره برلمان السيسي في أول دورته التشريعية، وهذا قانون شراء الجنسية المصرية بعشرة آلاف دولار سيأتينا بموجة من الأجانب يدفعون هذا المبلغ التافه لا حبا في مصر ولكن حبا في التمتع بخيراتها. وكذلك القانون والقضاء لم تعد به شبهة استقلال لا سيما بعد التعديلات الدستورية الأخيرة التي تضعه كله في جيب السيسي، على أن هذا القضاء نفسه حين كان يبدو مستقلا كان يُضرب به عرض الحائط وقد أُفرج عن جواسيس رغم أنف الحكم القضائي أيام مبارك، وجاءت طائرة نقلت محكومين أجانب إلى بلادهم أيام مجلس طنطاوي العسكري، ويكفينا أن نذكر ماذا حدث لقضية وقاضي تيران وصنافير.
المشكلة أننا نحتاج أن نذكر بعض التفاصيل لأن الصورة الحاضرة أكثر تشوشا وغبشا من صورة الماضي، لأن التزوير ينصبّ على الحاضر بفعل التضليل الإعلامي والمجهود الثقافي، بينما ذهب رجال الماضي وتزويرهم وبقيت الحقائق لا تحتاج كثيرا من ذكر التفاصيل.
لكن الذي يهمنا الآن من هذه الصورة، وهو مقصود المقال، هو تكرر ذات الصورة: صورة الفلاح الفقير المنهك الذي تواطأت عليه السلطة والقوانين والأجانب، وهو يذهب فينزف ماله في حانة اليوناني متمنيا أن يحظى بنظرة الإعجاب من ابنته الفاتنة!
هذه الصورة ذاتها تتكرر أيضا، تفعل الشعوب الفقيرة المقهورة ذات هذا السلوك، حين تهلك ما بقي من طاقتها في متابعة كرة القدم، متابعة مجموعة من الميلونيرات يلعبون بالكرة، إن انتصروا زادت أرصدتهم وإن انهزموا لم تنقص. يهلك الناس أعصابهم وأموالهم وأوقاتهم وطاقتهم وحماستهم في الصراخ على هذا أو ذاك، يفرح لهم أشد مما يفرحون لأنفسهم ويحزن عليهم أشد مما يحزنون على أنفسهم!!
لن نسأل الآن لماذا؟ إذ لا يُسْأل المخمور السكران عن أفعاله حال سكرته.. لكن المثير للدهشة والاشمئزاز معا، أن يخرج متفلسفون يتحدثون عن هذا المشهد باعتباره: الحق في اللذة والخروج من الهموم ونسيان الأحزان ولو لساعتين، ربما يصلح هذا كنوع من التفسير لكن لا يصلح أبدا كنوع من التبرير، يمكن أن يُقال على سبيل الوصف والقراءة: إنهم يفعلون هذا لهذا السبب، لكن لا يصح بحال أن يقال: دعوهم وارحموهم وكفوا ألسنتكم عنهم واتركوهم فليتمتعوا هذه الدقائق المعدودة!
هذا ما لم أعرف أنه قيل لفلاح فقير يرتاد حارة اليوناني على سبيل الجدّ، ويبدو أن الفلاحين القدماء كانوا يفتقدون لفلاسفتنا المعاصرين!
لست مهتما هنا بلم محبي الكرة أو معاتبتهم أو تقريعهم، بل مهتم بهدم هذا البناء الفلسفي المتهافت الذي يتحدث عن حق المقهور في أن يستمر سكرانا مخمورا ذاهلا عما يراد به ويراد له، ولئن كان يمكن التماس العذر لعاشق الكرة فهو كالتماس العذر للمذنب المخطئ المنصرف عن رشده إلى اللهو، هو نوع من الشفقة والتعاطف وليس أبدا إقرار له أو رضا بما يفعل.
كرة القدم يستعملها الطغاة في تخدير الناس وإلهائهم، لا سيما حين يصبغون على مباراة الكرة معنى الملحمة الوطنية وعلى اللاعبين سمات البطولة. هذا تخدير يجب على كل عاقل أن يقاومه، والهزيمة في كل مباراة هي حقيقة نصر ووعي ويقظة لعموم الناس، وإنا لنسأل الله من فضله أن يزيد في هزائمنا الكروية لتقل جرعات المخدر اللذيذ الذي يصرف طاقتنا عما هو واجب وعما هو أولى.
وليس فرقا أن يكون اللاعبون مجموعة من الساجدين أو مجموعة من المنحلين أخلاقيا، الفارق هنا ليس كبيرا، ربما هو كالفارق بين أن يقدم اليوناني في حانته خمرا معتقة أو خمرا مغشوشا، كلاهما خمر في نهاية الأمر!
ولو أن يونانيا في ذلك الزمن بعث في زماننا هذا، لما فكّر في أن يتخذ له حانة، بل لاتخذ له ملعبا وفتح إلى جواره فضائية تعمل أربعا وعشرين ساعة في التحليل الكروي.. لقد صارت بلادنا المحتلة وشعوبنا المهزومة تعرف من خطط الكرة ما لا تعرف شيئا منه من خطط الحرب، وتعرف من أسماء اللاعبين ما لا تعرفه من أسماء المحاربين، ومن سياسات المدربين ما لا تعرفه من سياسات الأمن القومي!
وحين يستفيق الفلاح على استلاب أرضه وداره، سيجد زميله الفيلسوف يحاول أن يخترع له نظرية أخرى تسكره جيلا آخر!
نشر في الخليج أون لاين
Published on July 10, 2019 02:24
July 9, 2019
الآثار الاجتماعية للأوقاف العثمانية في القاهرة
أقوى ما يدل على سياسة الدولة هو ما تفعله في حال قوتها وعنفوانها، ولهذا السبب اخترنا أن ننظر في سياسة الدولة العثمانية في ولاياتها العربية لننظر: هل كانت سياسة دولة أجنبية محتلة كما هي النغمة التي تسود وتتصاعد في الحالة السياسية والإعلامية العربية؟ أم كانت سياسة دولة إسلامية تجاه رعاياها المسلمين؟
من هاهنا توقفنا أمام موضوع الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة، كنموذج للأوقاف العثمانية في مصر، التي هي نموذج من التعامل مع الولايات العربية، وذلك في الفترة التي شهدت ذروة قوة الدولة العثمانية: في عصر سليم الأول ثم سليمان القانوني، وهي فترة نصف القرن الأول من حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية.
وقد كنا في المقالات السابقة قد استعرضنا تاريخ أوقاف الولاة العثمانيين في القاهرة، وكيف انعكست آثارها على القاهرة اتساعا عمرانيا ونموا اقتصاديا، ثم نلقي في هذا المقال الأخير في هذا الموضوع الضوء على الآثار الاجتماعية لهذه الأوقاف في مجتمع القاهرة.
تعددت الفئات والطبقات الاجتماعية التي استفادت من الوقف، بل شكلت تلك الأوقاف عماد حياتها في كثير من الأحايين.
1. الصوفية: في بحث إحصائي وُجِد أن الزوايا والتكايا قد حصدت نصيب الأسد من نسبة المباني المنشآة في العصر العثماني بنسبة (27%) ثم المساجد بنسبة (18.9%)، وقد "يرجع ذلك إلى اهتمام الدولة العثمانية بتشجيع التصوف والصوفية، وتمثل ذلك في التوسع في الأوقاف المرصدة على منشآت الصوفية وإعفاء أراضيها من الضرائب، ومن ثم ساعد ذلك في انتشار هذا الفكر، وقد رغب كثير من الناس في الانضواء تحت لوائه فرارا من شظف العيش"2. العلماء: منذ أوائل العصر العثماني حظي العلماء برعاية الدولة، فقد أصدر السلطان سليم الأول مرسوما يقضي بعدم التعرض لرزق العلماء، والأوقاف المرصدة على المؤسسات التعليمية سواء أكانت موقوفة من قبل أمراء المماليك أم من الرعية، وبالنظر لمتوسط مرتبات تلك الفئة (العلماء) المخصصة لهم من الأوقاف نجد أن المدرس كان يحصل على 118.75 نصف شهريا، بينما بلغ دخل مؤدب الأطفال 18.22 نصف شهريا، وهذا المتوسط تحكمت فيه شروط الواقف والريع المخصص من الوقف الذي كان متفاوتا بالنسبة لكل شريحة3. الفقراء: وهم المعنيون بالأساس من عمل الخير الذي توقف له الأوقاف عادة، أو هم المستفيدون منها بطريق غير مباشر، حيث يمكن لهم الالتحاق بالمدارس والكتاتيب والتفرغ للتعلم دون دفع أجرة بل وربما أخذوا أجرا على هذا ليغنيهم وقت تفرغهم، كذلك فلقد كانت التكايا والزوايا من الأماكن التي يمكن لهم أن يقيموا بها، وللعابرين منقطعي السبيل أن ينزلوا فيها، وكان الطعام في التكايا والمياه في الأسبلة يقدم مجانا للفقراء.
ولقد كانت مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة على بعض المنشآت الخدمية بالقاهرة (المدارس والكتاتيب والأسبلة...) في أوائل القرن السادس عشر قد "بلغت 3823.26 فدانا، وذلك في البحيرة والقليوبية وغيرها من ولايات مصر"جاء في حجة وقف إسكندر باشا: "وجعل لعشرين من الفقراء يقيمون بالتكية في الشهر مائة وخمسين نصفا وفي اليوم عشرين رطلا من الخبز، ولبوابها في الشهر ثلاثين نصفا وفي اليوم رطلين خبزا، ولطباخها خمسة عشر نصفا وفي اليوم رطلين خبزا، وكل يوم يُشترى أربعة ارطال من اللحم تجعل سبعة عشر جزءا، منها خمسة عشر لشيخ التكية وفقرائها، وجزآن للواردين، وفي جمعة يطبخ أرز بالسمن والفلفل، وفي جمعة يطبخ زردة بعس النحل ويفرق ذلك على التكية والواردين، وكل يوم أربعة أرغفة للواردين، وجعل في الشهر خمسة وأربعين نصفا ثمن الحطب، وثلاثة أنصاف ثمن الخضروات، وفي السنة مائتين وأربعين نصفا لشراء بقرة وثلاثة خرفان تذبح في الضحية، وفي السنة ما يحتاج إليه من ثمن أرز أبيض خمسة أرادب وقمح عشرة أرادب وعدس خمسة أرادب وحمص أردبين وبصل اثني عشر قنطارا وفلفل خمسة أرطال وملح أردبا واحدا وسمن ستة قناطير وعسل قطر خمسة قناطير ثمن القنطار ثمانون فضة..."وانتشر في حجج الأوقاف الاهتمام بالفقراء في أوقات معينة، حيث خصص ريعها "لإطعام الطعام للفقراء والمساكين والأرامل والمحتاجين في الجُمَع والمواسم والأعياد وأوقات المزاحم"، وبعضها اشترط أن يؤول ريع أوقافهم بعد انقراض نسلهم إلى مصالح فقراء القاهرة4. ذووا الأرحام: كان الوقف وسيلة للبر بالأقربين، فقد اشترط بعض الواقفين توظيف أهله أو أبنائه، ومن هذا القبيل شرط خسرو باشا أن يوظف عُتَقَاؤه في وظائف مهمة من وقفه، وكانت تورث وظائف الأوقاف كما في حجتي وقف خاير بك5. أبناء السبيل: لعبت الأسبلة "دورا في تزويد سكان المدينة بالمياه دون مقابل، حيث تبارى الخيرون في إنشاء الأسبلة، لأجل توفير ماء النيل طول العام بمختلف أرجاء المدينة، وقد تركزت بشكل عام في المناطق الآهلة بالسكان والأسواق والأحياء التجارية، بالإضافة إلى إنشاء بعضها في المناطق التي تتسم بالضعف العمراني، وقد كانت هذه الأسبلة جارية ضمن أوقاف خصص جزء من ريعها للعناية بمثل تلك المنشآت، وحمل الماء إليها حتى لا تتعرض للجفاف، كما شملت فكرة توفير المياه أيضا للحيوانات حيث أنشأت بعض الأحواض لسقي الدواب، والتي أرصدت لها أوقاف لضمان القيام بمهمتها"6. السجناء: "نال السجناء قدرا من اهتمام أعيان القاهرة بهم، وذلك عن طريق تخصيص جزء من ريع أوقافهم على السجون ومن بها، فقد كان مخصصا بوقفية الأمير جايم الحمزاوي 81.5 بطة دقيق، يتم خبزها وتوزيعها يوميا على الجامع الأزهر وحبس الديلم وغيرهم، كما خصص الحاج شهاب الدين أحمد أبي بكر الجبيلي في وقفيته عام 968هـ = 1560م نصفين من ريع وقفه في ثمن خبز يتصدق به على المسجونين بسجن الرحبة والديلم، وفي عام 968 هـ = 1560م تم نقل وقف محب الدين محمد بن محمد المؤذن إلى سجن الرحبة والديلم، وذلك بعد زوال الجهة التي أرصد عليها الوقف، فقد أرصد بهذا الوقف 20 نصفا شهريا ثمن ماء عذب يسبل بالسجنين... كما أوصى بعض التجار بجزء من ثروتهم لبعض المساجين، وخاصة أصحاب الديون على أن يسدد ما عليهم من ديون من هذه الأموال الموصى بها ويتم إطلاق سراحهم"7. الطبقة الوسطى: لضمان أداء حقوق الأوقاف فقد اشترط الواقفون أمورا منها ما جاء في وقف سليمان باشا حيث يقضي بعدم تأجير شيء منها لظالم ولا لذي شوكة ولا لصاحب جاه ولا لحاكم ولا لمن يُخاف منه استيلاؤه عليه مجانا8. أهل الحرمين الشريفين: فقد كان وقف سليمان باشا يدر ريعا أساسيا مقداره في العام 22 ألف بارة، وقد خصص منه عشرة آلاف بارة لأهالي مكة، واثني عشر ألفا لأهالي المدينة المنورة. وقد توسع وقف إسكندر باشا الذي كان يدر عشرة آلاف بارة في العام فصار يدرّ 126 ألف بارة، ثم انخفض في وقت لاحق حتى وصل إلى 21.600 بارة، فكان يخصص منه لأهالي مكة 10.800 بارة ولأهل المدينة مثله9. الأتراك في القاهرة: فقد اشترط سليمان باشا في وقفه تعيين واعظ رومي يجيد اللغة التركية في جامع القلعة لكي يعظ بها الأتراك الذين صاروا جزءا من أهل البلدوهكذا نرى أن تأثير الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة قد امتد إلى الفئات المتعددة والمتنوعة، وإلى أنشطة متعددة، فكان لها آثار عميقة وبليغة في مجتمع القاهرة آنذاك.
وإذا أردنا أن نجمل خلاصة الموضوع كله في نقاط فإننا نقول:
1. رغم أن الوالي في النظام الإسلامي ليس من مهماته الأصيلة إنشاء أوقاف جديدة، إلا أن معظم الولاة العثمانيين أنشأوا أوقافا كبيرة ذات أنشطة متعددة وأغراض متعددة كذلك.
2. دفعت هذه الحركة كثيرا من الأمراء ومن الطبقة الغنية على إنشاء أوقاف أخرى ورصدها على وجوه الخير.
3. ساهمت حركة الأوقاف هذه مساهمة كبرى في دعم وتنشيط اقتصاد القاهرة، وساهمت في توسعها العمراني بالذات في الجهة الشمالية والغربية، وكانت لها آثارها الواسعة على مجتمع القاهرة بسائر فئاته وشرائحه.
4. كانت الفئات الأهم التي استفادت من إنشاء هذه الأوقاف هي: الفقراء الذين وجدوا موردا لحاجياتهم الأساسية، والعلماء الذين وجدوا موردا يعتمدون عليه في التعليم والتدريس وطلب العلم، والطبقة الوسطى التي وجدت في حركة الأوقاف الواسعة وظائف كثيرة تستطيع أن تؤمن بها حياة جيدة.
5. أن السلطة العثمانية لم تكن سلطة احتلال أجنبي لمصر، إذ لم تكن سياساتها الاقتصادية سياسة امتصاص الموارد لحساب المركز، وإنما كانت سياسة سلطة إسلامية تحكم بلادا إسلامية، ولم يكن المصريون يعتبرون أنها سلطة احتلال أجنبي، ولا كانوا يتعاملون معها على هذا الاعتبار.
وفي النهاية فإن ثمة مسؤولية على عاتق الباحثين في التاريخ والآثار لبيان حقائق التاريخ الإسلامي والعلاقة بين شعوبه، وفي هذا الموضوع الذي كنا بصدده فإن ثمة ضرورة لدراسة حجة أوقاف الولاة العثمانيين كلٌّ على حدة، ورصد آثارها على المجتمع المصري في فترة الوالي نفسه ضمن غيرها من الظروف والأوضاع السياسية والعسكرية والإدارية، فدراسة من هذا النوع هي التي تضمن الكشف عن تفاصيل مهمة في آثار أوقاف الولاة العثمانيين، وهي التفاصيل التي تغيب في خضم الدراسة العامة التي تتناول تتضمن قطاع الأوقاف العثمانية في فترة زمنية أوسع، وهي كفيلة بإلقاء الضوء بقدر أعمق على العلاقات بين الولاة العثمانيين والمجتمع في مصر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يوليو 2019 = ذو القعدة 1440
Published on July 09, 2019 12:11
July 4, 2019
نزيفنا المستمر وقادتنا الراحلون
رحم الله الرئيس الشهيد محمد مرسي، نحسبه شهيدا والله حسيبه، مات أسيرا مظلوما محروما، فعسى الله أن يجزيه أجر الصابرين الثابتين.
كان رحمه الله مثالا في الثبات والصلابة، أرادوه أن يستسلم ويتنحى فأبى، وبإبائه هذا تغيرت صورة المشهد في مصر وفي سائر العالم الإسلامي، فلو أنه أطاعهم لما أرادوه لكانت الثورة كالموءودة التي قتلها والدها وصاحبها، ولما وجدت أحدا يتعلق بها ويدافع عنها ويبذل لها، ثم لوجد لنفسه ووجد من خلفه جيوشا من المبررين الذين يخونون الله ورسوله والمؤمنين ويخونون أماناتهم ويطمسون معالم الدين ويهذبونه ليكون بردا وسلاما للظالمين المجرمين.
لو تنازل مرسي لكان كل ثائر وكل متمسك بالثورة من بعده إرهابيا متطرفا منبوذا، ولو تنازل لبقيت صورة العسكر في مصر كأنهم حماة رأي الشعب والعاملون لصالحه، ولكان الغطاء قائما مسدولا على أنظمة الإمارات والسعودية. وقفة مرسي جعلت الثورة حقا شعبيا وإسلاميا، وجعلته رئيسا شرعيا مظلوما، وجعلت الخائن انقلابيا يبحث في كل خطاب عن مسوغات تثبيت شرعيته، وجعلت العسكر يظهرون على حقيقتهم: أبناء السفاح الذين وضعهم المحتل ورباهم على عينه ونصَّبهم في البلاد ليحلبوها له، لا دين ولا شرف ولا حتى أخلاق الجاهلية!
ثم لست أنسى في هذا المقام الأسير البصير الذي مهد الطريق لمرسي وللرئيس الإسلامي، أعني به الحبيب الغالي حازم صلاح أبو إسماعيل، فمن قبله كان الإسلاميون مجتمعون على ترك السلطة للعلمانيين وإنما يبحثون عن أيهم أقل سوءا، ثم بجهده وما أثاره من الوعي والحماسة وما رفعه من السقوف والطموحات والحدود تمهَّد الطريق للإسلاميين ليترشحوا، ثم وقعت الثمرة في يد مرسي، وقد كان مثالا في الإخلاص لها وإن لم يكن مثالا في استثمارها والحفاظ عليها.
يستحق الرئيس الشهيد مدحا كثيرا لصلابته ووقفته، ولكن بقي ما ينبغي أن نستفيد منه..
ونبدأ من السؤال البسيط: أيهما خير للأمة، أن يموت الرئيس هذه الميتة أم أن يموت في قصره بعد أن تستتب له الأمور؟!
ما أحسب أن عاقلا يشك في أن ميتته في قصره، بعد أن تستتب له الأمور هي الخير للأمة. ولكن دون ذلك حرب ضارية مع الفاسدين في العسكر والمخابرات والشرطة، وحرب ضارية مع أنظمة السعودية والخليج والأردن، وحرب ضارية مع إسرائيل والغرب والأمريكان.. حروب بكل معنى الكلمة: النفسية والقتالية، ومحاولات انقلاب واغتيال وتفجيرات وفوضى واضطرابات.. كل هذا لكي لا يتمكن مرسي من تحرير مصر ولكي لا يتمكن الشعب المسلم من امتلاك إرادته وإنتاج غذائه ودوائه وسلاحه.
حروب تحتاج اليقظة والجسارة والذكاء والسياسة والمبادرة ولا يكفي فيها مجرد النبل والإخلاص والصلابة والثبات والاستقامة.
حروب تحتاج تجييش الأمة وتثوير طاقتها وتحويل الشعوب إلى كتائب فعالة، وآخر ما ينفع في هذه الحروب محاولة إرضاء النخب السياسية والشخصيات اللزجة الباردة الثرثارة على الشاشات أو في الصحافة والإعلام.
هل تحررت أمة بغير هذا الثمن؟!
هل نجح مؤسس دولة في بناء دولته وهو يسترضي خصومه السياسيين أو يهتم بآراء المثقفين الباردين الثرثارين الذين غرقوا في الجدل وتبطلوا عن العمل؟!
لقد امتلأ القرآن خطابا وجدالا وإقناعا وهداية، ثم لم يؤمن به إلا الأفذاذ المخلصون، فأما إذا تحول القرآن إلى أمة تتدفق منها الكتائب فتفتح الفتوح، فقد دخل الناس في دين الله أفواجا، ليس قهرا ولا إجبارا، وإنما النصر يزيح الغشاوة عن العيون وينسف أوهام الباطل!
والذين يستطيعون تحويل الأفكار إلى عمل نادرون، أولئك هم الأبطال المؤسسون الذين يؤسسون الدول ويصنعون النهوض ويقبضون على لحظة الزمن حتى يحولونها إلى صالحهم، أولئك الذين يستطيعون استثارة الهمم وحشد الأتباع وصناعة الطليعة وامتلاك الشوكة وخوض حروب المغالبة.
وأولئك لا يموتون في الزنازين..
أولئك يموتون في مقرات الحكم أو على الأقل في ساحات الحرب..
هل كان خيرا للأمة أن يُقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة أو بعدها، فيكون مثالا في الزهد والصبر والتضحية، أم الخير أن يموت في فراشه بعد أن أسس لهذه الأمة حكما ونظاما؟!
نحن من أمة هذا النبي.. وبه أُمِرْنا أن نقتدي ونتأسى!
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أبو بكر أكثر من صاحب، كان حارسه الخاص، يمضي أمامه حينا وخلفه حينا وعن يمينه حينا وعن شماله حينا، يدخل قبله الغار ويؤمن له المأوى.. وهذه هجرة بعد خطة محكمة للإفلات من محاولة الاغتيال، ومحاولات المطاردة.
ولما تسامع الأنصار بقدومه خرجوا في السلاح يستقبلونه! وظل للنبي حرسه الخاص في الليل والنهار حتى نزل قول الله تعالى (والله يعصمك من الناس) فصرف النبي حرسه.
وكان الصحابة يهلكون أنفسهم ويقاتلون حتى الموت كي لا يصل إلى النبي سهم ولا رمح ولا سيف! فإما قُتِل الصحابي وإما ذهب من جسده عضو أو أعضاء حماية ودفعا عن رسول الله.
وحال الدول اختصرتها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فالجاهلية لا تقبل أدنى مراتب التسفيه والتحقير لنظامها الحاكم: السياسي والاجتماعي والثقافي، فيُنزلون العذاب على الدعاة والمستجيبين لهم. فإن لم يستطيعوا صرفهم عن دعوتهم وفكرتهم وانتشارهم عادوا مرة أخرى لحديث المناورة والخداع والتخدير، ثم لحديث الإغراء والمساومات، فإن لم يفلحوا في هذا كله أنزلوا أشد ما يستطيعون من العذاب والبلاء والحصار ولو كان فيه هدم لقيمهم ونظامهم هم.
ثم يبذلون قصارى جهدهم لكي لا تتحول الدعوة إلى دولة، ولا يقوم لها كيان، فدون ذلك اغتيالات وانقلابات! [وهذه لحظة الهجرة إلى المدينة]
فإذا صارت الدعوة دولة بدأت مرحلة الحروب، الحروب الصغيرة المحدودة أولا [وهذه لحظة بدر].. فإن فشلت وأخفقت تجمعت أحلاف الجاهلية لتستأصل هذه الدولة ولا تسمح لها بالوجود [وهذه لحظة الخندق].
فإن أخفقت بدأ حديث المعاهدات والهدنة والاعتراف الدولي [وهذه لحظة الحديبية].
لا تعطي الجاهلية شيئا من نفسها ولا تسمح يدها بشيء تتنازل عنه، إنما يُنزع منها انتزاعا.. وعند لحظة المعاهدات والاعتراف الدولي يبدأ انقلاب ميزان القوى الحقيقي في حركة التاريخ..
لكن الذي يهمنا هنا أن هذه الرحلة الطويلة حافلة بفصول الأسى والكفاح والعذاب والتضحية والفداء والحروب ومحاولات الاغتيال والانقلابات والخيانات، ولا يجتازها إلا قائد موهوب كان دائما على أهبة الاستعداد، يستطيع تجييش الطاقات من حوله ونفث الروح في أنصاره وأخذ زمام المبادرة من أعدائه ويجيد صناعة الأحلاف وتسكين الأعداء واختيار وقت المعارك.
لذلك قال القائل: الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله..
وقد صدق، فإن أمتنا تقدم يوميا شهداء في سبيل الله ولا يكافئ تضحياتها قادة موهوبون يستطيعون مكافأة هذه التضحيات بمكاسب.
لهذا فالحرب بين الحق والباطل هي في واحدة من أهم وجوهها حرب على القادة، الذي يسبق إلى تصفية قادة الآخر يملك زمام المعركة زمنا طويلا، وقد صار التخلص من القيادات فرع من فروع العلوم الأمنية وله دراساته المتخصصة في التخلص من القيادات وأنتج معادلات لحساب تأثير اغتيال الشخصية المستهدفة (وهنا ينصح بقراءة: تقييم برامج الاغتيالات النوعية التي أصدرتها المخابرات الأمريكية، دليل الجيش الأمريكي لمكافحة التمرد الذي أصدرته لجنة مشتركة من عدة وزارات ومؤسسات أمريكية، كتاب: فعالية قطع رأس القيادة للباحث باتريك جونستون، كتاب: انهض واقتله أولا للصحفي الإسرائيلي رونين بيرجمان.. وهذا الأخير نقدمه مختصرا ومترجما كهدية لهذا العدد من مجلة كلمة حق).
إن تأمين القيادات والكفاءات المسلمة واجب في المرتبة الأولى، وهو في زمن الندرة أوجب، وفي زمن الاستضعاف أوجب وأوجب.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on July 04, 2019 15:08