محمد إلهامي's Blog, page 21

February 5, 2019

عن أوقاف السلاطين


يؤثر واقع الدولة الحديثة على فهم التاريخ فيما قبل الحداثة، ومن أهم تلك الفوارق التي تجب الإشارة إليها أن النشاط الاقتصادي والتعميري لم يكن موكولا إلى السلطة فيما قبل الحداثة، وكان تدخل السلطة فيه محدودا يقتصر على الحفاظ على الأمن اللازم لاستمرار النشاط الاقتصادي وتوفير القضاء الذي يتدخل لحل المنازعات، بينما يدير الناس هذا النشاط الاقتصادي دون توجيه ملزم أو تحكم وسيطرة من قبل السلطة. بينما في عصر ما بعد الدولة الحديثة تحول الموقف إلى النقيض، إذ تتولى السلطة إدارة النشاط الاقتصادي وتحديد نظامه وطبيعته وتتحكم في مراحله جميعا، والسلطة هي التي تسمح بحدود الحرية التي يمكن للناس أن يحظوا بها في إطار النظام الاقتصادي.
لذلك فيمكن أن نبصر الانهيار الاقتصادي في صفحات التاريخ مع ضعف نظام السلطة الذي يؤدي إلى انهيار الأمن أو ضعف القضاء أو زيادة الظلم والمصادرات، بينما في الواقع المعاصر يمكن أن يكون نظام السلطة قويا ومتحكما بكفاءة لكن الوضع الاقتصادي ضعيف أيضا بفعل الفساد داخل جهاز السلطة نفسه.
وما يهمنا في هذا السياق أن مسألة الأوقاف لم تكن بالأساس عملا سلطويا،  فالحديث عن "الأوقاف العثمانية" يشير أساسا إلى نشاط الأوقاف في العصر العثماني وليس إلى نشاط السلطة العثمانية في إنشاء الأوقاف، فلم يكن رصد الأوقاف ضمن مهمات السلطة في النموذج الإسلامي، وإنما هو يحدث من قبيل مشاركة السلطة في نشاط اجتماعي خيري وليس هو من مهماتها بالأصالةلكن حيث كانت ظاهرة الأوقاف ظاهرة كبيرة وشاملة وراسخة في المجتمعات الإسلامية فكان من النادر ألا توجد سلطة إلا وترصد أوقافا على جهة ما من وجوه الخير، وهو تخصيص موارد جزء من بيت المال كأوقاف، تلك الأوقاف هي التي يقع عبء إدارتها على عاتق السلطة، إضافة إلى الأوقاف التي صارت مجهولة الصاحب مع تقادم العهد أو لأسباب أخرى أو الأوقاف التي هجرت وخربت أو التي غاب عنها أصحابها غيابا متصلا أو التي كانت أهلية وانقرض المستفيدون منها ونحو ذلك.
لم يكن غريبا أن تكون الموارد الموقوفة هي معظم موارد البلاد، وقد أورد المؤرخ المصري الإسحاقي أن السلطان سليم الأول العثماني حين دخل مصر وأمر بمسح أراضيها وجد نحو 40% منها موقوفةلذلك فحين نتحدث عن وقف أنشأه سلطان أو والٍ في سلطنته الكبيرة أو في ولايته الصغيرة فإنما نتحدث عن نشاط سلطوي في إرصاد الأوقاف، ولا بد من فهم مسألة أن الوالي إذا لم يوقف وقفا فلا يُعَدُّ هذا تقصيرا منه طبقا للنموذج الإسلامي وطبقا لمفاهيم ذلك العصر، بخلاف عصر ما بعد الحداثة الذي تضخمت فيه مسؤوليات السلطة وشملت النشاط الاقتصادي. ومن هنا، فنحن حين نتحدث عن أوقاف ولاة أو سلاطين فإنما نتحدث عن جانب طوعي خيري يقوم به الوالي العثماني في مصر فوق مهماته الأساسية. ويجب أن يكون واضحا أن نشاط الوقف هو نشاط مجتمعي وليس نشاطا سلطويا.
لكن ها هنا يجب الانتباه أيضا إلى أن أوقاف الولاة والسلاطين ليست كلها فعل خير خالص، وإنما وفَّر نظام الوقف الإسلامي بابا كبيرا لأمور وَجَدَ فيها الولاة والسلاطين ما يحقق مصلحة لهم فاستثمروه. ذلك أن جوهر الوقف أن الإنسان يُخرج شيئا من ملكه ليصير ملكا لله تعالى، فبهذا يحرم التصرف فيه والاعتداء عليه، فمن أوقف ريع أرض على وجه من وجوه الخير الذي يحدده فقد حرم التصرف فيها على أي نحو آخر، ويمكن للواقف أن يوقف شيئا على أهله وأولاده فيمتنع عليهم التصرف فيه واقتسامه كالإرث، وإنما يستفيدون منه كما تركه، وهذا ما يسمى الوقف الأهلي أو الذري (من الذرية)، وهذا النوع الأخير من الوقف أدَّى إلى منع تقسم الملكيات الكبيرة كالبيوت والأراضي ونحوها كما يحدث مع الميراث.
لا يمكن إغفال العامل الديني الذي نزع بالولاة والسلاطين إلى إرصاد الأوقاف تدينا ورغبة في التوبة وخدمة الدين، ولكن نظام الوقف كان طريقهم لعدد من المصالح الأخرى منها: التقرب للرعية والعلماء بإرصاد الأوقاف على الفقراء والمساكين ومصالح الناس وعلى العلماء والمدارس والمساجد، ومنها: التنافس مع غيرهم من الولاة السابقين والمعاصرين رغبة في الشهرة والذكر الحسن بين الناس وعند الخليفة، ومنها: تجنب ما قد يمكن أن يقع على أملاك الوالي إذا تغير الحال وانقلب الوضع السياسي وصار هو قتيلا أو طريدا ففي هذه الحالة تبقى أملاكه موقوفة على ذريته لا يمكن مصادرتها ونزعها منهموقد أفتى الفقهاء بأن أوقاف الملوك والسلاطين لا يُراعى شرطها ويجوز نقض ما لم يوقف منها على مصالح الأمة لأنها من بيت المال، وأول ما وقع هذا بحسب ما نعلم ما كان من العلماء حين واجهوا رغبة السلطان برقوق الذي احتاج لنقض الأوقاف لتمويل مواجهة المغول المهاجمين لديار الشام، فتصدى له العلماء وقال سراج الدين البلقيني وبرهان الدين ابن جماعة وأكمل الدين الحنفي، ولم يجيزوا له إلا نقض ما أوقفه السلاطين على الذراري فحسب، وعن أولئك نقله السيوطي، وعن السيوطي نقله ابن عابدين في الحاشية، وذكر ابن عابدين رأي شيخ الإسلام أبي السعود أفندي مفتي السلطنة العثمانية زمن السلطان سليمان القانوني، وخلاصة قول ابن عابدين أن أوقاف السلاطين إرصادات لا أوقاف حقيقية لذا لا يُراعى شرطها. وهذا التحقيق عن ابن عابدين سرى في كتب المتأخرين كما في حاشية المكي على الفروق للقرافي وكما في قواعد الأوقاف لمفتى الشام وناظر أوقاف دمشق محمود أفندي الحمزاوي وغيرهموالشاهد المقصود أن مثل هذه الأمور فارقة في تصورنا للتاريخ وفهمه حين نطالع كتبه، ولذا يجب علينا أن نفسهم الفوارق التي كانت بين مجتمعاتنا الإسلامية قبل دخول الدولة الحديثة والسلطة المركزية وبينها بعد هذا الزمان، وبدون التنبه لمثل هذا لا يمكننا فهم وتقييم الأوضاع التاريخية القديمة ومن ثَمَّ فلا يمكننا تطوير أوضاعنا المعاصرة نحو خير أمتنا وشعوبنا.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، فبراير 2019
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 05, 2019 12:44

February 2, 2019

الإلحاد والجهاد.. هل يستويان، وهل يتقابلان؟


بثت قناة الجزيرة فيما وثائقيا بعنوان "في سبع سنين"، يروي الفيلم قصة تغير المسارات لدى الشباب واختار أن يتحدث عن تطرفين متقابلين، فكان نصف الفيلم حديثا عن شباب من الإسلاميين تحولوا إلى الإلحاد، ونصفه الآخر شباب لم يكن متدينا بالأصل وهو الآن يقاتل في سوريا.
ويمكن أن نعدّ هذا الفيلم مدخلا مناسبا للحديث عن بعض أمور:
1. تنطلق فكرة الفيلم من أن الذهاب إلى الإلحاد كالذهاب إلى الجهاد، كلاهما رد فعل متطرف على الأزمات التي عاشها الشباب، والواقع أن هذا التصور نفسه بحاجة إلى نقد ونقض أساسي، وهو تصور ينطلق أساسا من رؤية تعودت وتآلفت وتصالحت مع مشهد الدين المقهور تحت الدولة العلمانية، ومن ثَمَّ فهو يستنكر ويستبشع الخروج من الدين إلى الإلحاد بنفس القدر الذي يستنكر به ويستبشع الخروج عن الدولة إلى الجهاد. وإذا شئنا الحق فإن الخروج عن دين لا يجيب عن الأسئلة الجوهرية أو الخروج عن الدولة التي لا تقوم بوظائفها الأساسية هو رد الفعل الطبيعي الفطري التلقائي المتوقع، بينما المُستغرب حقا هو الولاء لدين مهما بدا أنه لا يحقق الاطمئنان الفكري والإيماني أو الولاء لدولة تعمل بنقيض وظائفها. إنما الذي ينبغي أن يُستغرب كيف يستطيع أحدٌ بعد هذه الزلازل أن يعتنق ذات الموقف الذي يجمع بين دين ودولة كلاهما فارغ من مضمونه!
2. لم يكن الذين قدَّم الفيلم قصصهم على أنهم جهاديون متطرفون من "تنظيم الدولة" (داعش)، فغاية ما يمكن أن يكونوا هو أنهم من هيئة تحرير الشام التابعة للقاعدة والتي انفصلت عنها مؤخرا سعيا لبناء توافق داخلي فصائلي سوري، يدل على ذلك عدد من الشواهد ليس هذا محل التفصيل فيها. وإنما كانت هذه الإشارة مهمة لكي نقول بأن الذين ظهروا في هذا الفيلم لا يمثلون "داعش" التكفيرية، وإنما يمثلون الحالة الجهادية التي هي في سوريا حالة ثورية بالأساس آلت إلى حالة جهادية. وهذا أمر مهم في التأسيس للحوار حول "التطرف" الذي سوَّقه الفيلم.
والذهاب للجهاد في سوريا ضد نظام بشار الأسد هو في الأصل –ومهما خالطه من أخطاء عملية وتفصيلية- عملٌ ثوري نبيل في ميزان الشرائع الأرضية وتاريخ حركات المقاومة، والمناضلون اليسار –وأشهرهم: جيفارا- هم النموذج غير الإسلامي لما يسمى "الجهاد العالمي"، لكن الأدبيات اليسارية تسميه "الثورة العالمية"، فضلا عن كونه واجبا دينيا إسلاميا بفتوى كثير من العلماء المعاصرين يوم أن كانوا يملكون النطق والفتوى كما فعلوا في زمن مرسي فك الله أسره. فلو أن الفيلم كان صادقا في رصد حالة التطرف والتكفير لكان عليه أن يلتقي بداعشي ليتحدث عن تطور فكره إلى التكفير واستحلال الدماء.
3. كان متدينا ثم ألحد.. لم يكن متدينا ثم ذهب للجهاد
لو حاولنا تحليل هذه الثنائية التي يمكن أن تكون خلاصة الفيلم الوثائقي، فيجب أن يلفت انتباهنا أن الإلحاد هو موقف من الإله ومن الكون ومن الناس عموما.. بينما الجهاد موقف من الدولة ومن النظام! فالإلحاد هو خروج من المعركة بينما الجهاد هو دخول فيها. الإلحاد هو نفض اليد من كل التكاليف بينما الجهاد هو تحمل أشق وأشد أنواع التكاليف.. فمن منهما أصلب عودا وأقوى نفسا وأعظم هما وأعلى همة؟!
لا يستوي من استثقل تكاليف المعركة فنفض يده منها، ومن لم يكن يعلم بها فلما رآها عزم على خوضها مهما كانت التكاليف!
ولو تأملتَ لرأيت الذين ذهبوا للجهاد يُغَطّون وجوههم ويحرصون ألا يُعرفوا، بينما الذين ألحدوا يتحدثون ويعيشون مكشوفي الوجوه ببساطة، وما ذلك إلا لأن الأولين يخوضون المعركة ضد الواقع الظالم وأنظمته الجبارة، بينما الآخرون لا يمثلون خطرا على أنظمة الظلم والقهر.. هذا بنفسه دليل فارق في أنهما لا يستويان ولا يتقابلان، ويجب ألا يُقدَّما باعتبارهما وجهان للتطرف!
4. في ثنايا هذه الثنائية معنى مهم، وهو أن الدين المغشوش الذي تشربه بعض الناس أسوأ من بقائهم بغير تدين.. الجهل خير من الأفكار المسمومة كالجوع خير من الطعام المسموم، وفي حالتنا هذه فالمسألة ليست جهلا بقدر ما هي البقاء على الفطرة. إن تحرك الإنسان نحو الجهاد والمقاومة والثورة حين يرى المظالم والمذابح هو رد الفعل الإنساني الطبيعي، وأعرف بعض الأصدقاء ألحد أو كاد يلحد حتى سمع عما في الإسلام من مقاومة للظلم ورفض له وجهاد ضده فدُهِش لأن الإسلام فيه هذه الأمور، فوافق هذا فطرته فكان من بعد ذلك متدينا صبورا متحملا لتكاليف المقاومة ومضحيا في سبيل هذا الدين.
وقد عبَّر بعض الذين ظهروا في الفيلم عن هذا المعنى ببساطة: "لا يمكن أن يكون هذا الخنوع في الإسلام، ولو كان الإسلام فيه هذا الخنوع فصالحوا النظام واخضعوا له"، وهذه العبارة مع بساطتها ووضوحها تمثل ما يشبه المعضلة الفكرية العويصة التي يتجادل حولها وحول مقتضاها كثير من الموصوفين بأنهم نخبة ومفكرون، ويهيمون في أودية محاولات الجمع والتوفيق بين حقائق الدين وحقائق الواقع، ولأنهم أضعف وأعجز وأقل رغبة في تغيير الواقع فإنهم يمارسون مجهوداتهم في تأويل وتمييع وتفكيك حقائق الدين، حتى يريدون أن يجعلوا من الإسلام مسيحية تعطي الدنيا لقيصر وتستسلم للعلمانية وتنزوي في الشعائر والطقوس!
أمثال هذه المحاولات التي تنتج خطابا دينيا مقهورا على مقاس السلطة الحاكمة من جهة بينما تعد أتباعها بالخلافة وأستاذية العالم من جهة أخرى، هي التي تنتج في النهاية هذه المحاولات الارتدادية عن الدين كله، إن آخر ما يحتاجه جندي في معركة أن يُشَنَّف سمعه بعبارات النصر والتمكين بينما لا يدري ماذا يفعل في ظل قرار حائر مضطرب مرتبك! ولقد قيل كثيرا على لسان الذين شاهدوا المذبحة "لم نكن نظن أن الله لن ينصرنا"، "ما معنى هذا؟ هل فعلا سنغادر رابعة قبل عودة الرئيس؟!"، "أين نصر الله؟!"، وكتب أحدهم مقالا عنوانه "الله الذي لا ينصرنا".. وبغض النظر الآن عن مآل كل واحد من هؤلاء (إذ ليس بالضرورة أن يصل المسار دائما إلى الإلحاد) فإن أصل هذه الحيرة هو ذلك الظن الكبير في أن النصر يتنزل بمجرد الدعاء والتضرع، أو لمجرد وجود الظلم، أو لمجرد وجود الحق.
من أين جاء هذا الظن؟!
من خطاب ديني مسموم مزيف، خطاب يريد تمكينا بلا تكاليف، نصرا بلا جهاد، عزة بغير تضحيات.. خطاب يتحدث عن الاعتصام باعتباره صمودا، وعن المسيرات باعتبارها جهادا، خطاب يسوق أن "سلميتنا أقوى من الرصاص"، فلما جاء الرصاص انقشع الوهم وظهر الزيف، وسالت الأفكار مع مسيل الدم!
وهنا يجب أن يستشعر العلماء والدعاة وقادة الحركات الإسلامية حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وحجم ما يمكن أن يسببوه من الخراب والضلال في نفوس الناس، وأن تزييف الدين أو إهمال فهم الواقع وحسن الإعداد له ينقلهم من كونهم أئمة هداية إلى كونهم أئمة ضلالة! وبئس الانتكاس!
5. ومع هذا فإن موقف الإلحاد هنا هو نتيجة صدمة نفسية وليست ناتجة عن فحص وقراءة ودراسة وتشبع بشبهات فكرية، وهو أهم ما ينبغي التأسيس عليه في تحليل ظاهرة الإلحاد في زمن ما بعد الانقلاب العسكري، وهذه ظاهرة لن يكون علاجها على يد المتميزين في المجادلة والحجاج والتمكن العلمي، بل يكون على يد أهل التربية والفراسة والذكاء، وإن كان يلزم في كل الأحوال حدا أدنى من العلم، إن الذين صدمتهم الحياة بعنفها وقسوتها ومضادتها لمسيرتهم الحالمة ورأوا سقوط أفكارهم وقناعاتهم تحت عجلاتها الجبارة لن يستمعوا ولا يحتاجون لحجاج منطقي متقن كحاجتهم إلى تفسير، وقد قال الشهيد سيد قطب "تظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتُسْكِت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا"، وإنها لمهمة ثقيلة وطويلة.
ولو فقه أهل العلم والدعوة شأن الواقع لعلموا أن مكافحة الظلم والطغيان والوقوف في اللحظات الفاصلة موقفا مشرفا خير من معالجة الآثار الوخيمة له، وأن ملاحقة الظالمين الفاجرين في لحظة ثورة وقوة خير من ملاحقة بقايا الدين في نفوس الضائعين والتائهين في زمن الذل والهزيمة، وأن كلمة حق في وجه الجائر تعصم من آلاف الحوارات التي تقنع الملحد، وأن معارك السياسة في بلادنا إنما هي معارك دين، لأن الصراع في بلادنا على أصل الهوية وأصل التوجه وأصل الشريعة وأصل الولاء والبراء.
6. بقيت ملاحظة أخيرة وضرورية، لئن كان مفهوما أن الفيلم الوثائقي ليس عملا بحثيا، ولا يتسع وقته لمناقشة ظاهرة معمقة، فعلى الأقل لا بد من الحد الأدنى من الاتساق والتفسير، وهذا ما لم يكن.. إن عددا من الشواهد التي روى بعض الشباب أنها كانت سببا في تحولاتهم غير صحيحة بيقين:
فالفتاة التي تحدثت عن أن مظاهرات محمد محمود لم يكن فيها إسلاميون، وأن هذا كان بداية شكها وتخليها، هذه الفتاة لا تخلو من أحد احتماليْن: إما أنها تكذب أو أنها كانت هناك ولم تنظر إلا في جزء صغير من الميدان ثم سَلَّمت عقلها للإعلام، ذلك أن مظاهرات محمد محمود كانت تزخر بالإسلاميين، حتى من الإخوان المسلمين رغم القرار الرسمي من الجماعة بعدم النزول (لتخوف الجماعة من أن تكون هذه فوضى تعطل مسيرة انتقال السلطة، حيث كانت انتخابات البرلمان مقررة بعد أيام)، وهذا فضلا عن الحضور المميز والواضح للشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره، ولأطياف الشباب الإسلامي المتعددة، وقد سجلت بنفسي شهادتي على ما حدث في هذه الفترة في هذا المقال، وكنت الصف الأول للمعارك في شارع محمود محمود صبيحة يوم 20 فبراير فالتفتُّ ذات مشهد فرأيت الصف الأول جميعه من الشباب الملتحي (الإسلاميين) وخطر لي وقتها في هذه الأجواء أن هذا يحتاج تسجيلا للتاريخ، فانتحيت جانبا وكتبت هذه التغريدة من هاتفي
والفتاة التي تحدثت عن  أنها كانت سلفية وأنها لا تدرس سوى عن المسلمين غير المسلمين (الشيعة والصوفية والإخوان ونحوهما)، وذكرت أنها كانت تداوم سماع قناة الناس، وأنها تشبعت من ألفاظ: زنديق، خرج عن الملة، كفر، منافق.. إلخ!
وهذا الكلام غير صحيح، فهذه المدرسة السلفية لا تكاد تستعمل لفظ "كفر" و"زنديق" و"خرج من الملة"، كما لا يكثر في خطابها لفظ "منافق"، بينما الذي يكثر في خطابها لفظ "مبتدع، عاصي".. فلا أدري هل هذا مما اختلط عليها أو مما نسيته مع طول البعد والعهد.
ثم إنها ذكرت موقف التحرش بها باعتبارها من الإخوان وهو ما تسبب في خلعها النقاب، ثم لفتة سريعة حول زوج سيئ يعاملها معاملة قاسية تقوم على الخوف منه، وهي المعاملة التي شبهتها بالمعاملة مع الله: الخوف منه!
وهنا افتقدنا كمشاهدين فهم تفسير هذا التحول، فلو كان مفهوما ببعض الصعوبة خلع النقاب للنجاة من التحرش، فليس مفهوما موقف الإلحاد لوجود الزوج القاسي!! وهذا يعد عيبا كان على الفيلم أن يتلافاه لكي يقدم الحد الأدنى من صورة متماسكة مفهومة للحالة.
نشر في مجلة كلمة حق، فبراير 2019
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 02, 2019 12:49

January 10, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية عند أول عقبة


مذكرات الشيخ رفاعي طه (10)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةأخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية عند أول عقبة
·      أول أيامي في الجامعة كان هو يوم 6 أكتوبر 1973م.·      لم نصدق أننا عبرنا القناة إلا حين أذاعت الخبر الإذاعات الأجنبية·      انتبه اليسار مبكرا إلى أن حرب أكتوبر كانت حرب تحريك لا تحرير
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومالالحلقة السادسة: قصتي مع التصوفالحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسةالحلقة الثامنة: كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكيالحلقة التاسعة: كنا البديل لما لا يعجبنا
وقعت حرب أكتوبر في أول أيامي بالجامعة..
ولكن قبل أن أنتقل إلى هذا اليوم، ينبغي أن أذكر مصير المجموعة التي كوَّنْتُها في المدرسة والتي سمَّيْناها "جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، تلك المجموعة التي رويت سابقا كيف أننا بنيناها على حلم بسيط واضح: أن ندخل إلى الكلية الحربية، لننفذ فيما بعد انقلابا عسكريا ونقيم الدولة الإسلامية، مثلما فعل عبد الناصر لما أسس دولته بانقلاب على الملكية ولم يكن إلا مجرد ضابط!
بلغت هذه المجموعة خمسة عشر طالبا، وبمجرد ظهور نتيجة الثانوية العامة نفذنا جميعا بلا استثناء الخطوة الأولى: التقدم بطلبات الانتساب للكلية العسكرية: الكلية الحربية والكلية الفنية العسكرية وكلية الشرطة، كنتُ أنَسِّق وأتابع، لكن اختيار هذه الكليات كان متروكا لكل شخص بحسب ما يرى من مواهبه وميوله.
لكن لم يفلح إلا واحد فقط في الانتساب للكلية الحربية!! وتفرق البقية، اثنان دخلا كلية الطب، أحدهما هو د. منصور عبد الحميد الذي يشغل الآن رئيس جامعة أسوان، وقد استمر الرجل متدينا وإن لم يكن "إسلاميا" بالمعنى الحركي. والآخر هو عبد الحميد لا يحضرني اسمه كاملا وهو الآن عميد لكلية الطب جامعة أسيوط، والتحق أحمد سالم –رحمه الله- بكلية العلوم وصار فيما بعد رئيسا لقسم الجيولوجيا بالكلية، وكان قد أَمَّل أن يدخل قسم الرياضيات ولكن لما قضى الله بافتراقنا الدراسي دخل الجيولوجيا، وثمة أخ أيضا اسمه سمير التحق بكلية الهندسة وانقطعت عني أخباره، والبقية لا أذكرهم الآن.
كان خروج الجميع لاعتبارات تتعلق بالطول أو بقوة النظر أو باختبارات في كشف الهيئة، والأهم من ذلك أن دخول مثل هذه الكليات كان يتوقف على قوانين أخرى غير مكتوبة، وهي الأقوى والأولى: تلك هي قوانين الوساطة والمحسوبية، ولم يكن لنا من وسائط بطبيعة الحال.
وهكذا تعطلت خطتنا الطموحة في إقامة الدولة الإسلامية عند المطب الأول، ومن هنا تفرقت السبل بالمجموعة بين الكُلِّيَّات، ومرَّت السنة الأولى علينا وقد أخذتنا رهبة الكلية ودَوَّامتها، وكان أولئك الذين دخلوا إلى الطب والهندسة هم الأكثر انشغالا، وقد انشغلت أنا في مسألة إعادة الثانوية العامة بالإضافة لأمور الكلية التي التحقت بها. لقد كان أولئك الشباب متفوقين، والجامعة في سنواتها الأولى تطرح تحديا على المتفوق، الذي يختبر تفوقه حقا بين أقرانه ونظرائه المتفوقين الذين دخلوا معه إلى نفس الكلية، وعادة ما تكون الاستجابة لدى المتفوق أن ينغمر في هذا التحدي الجامعي!
لم يكن لأيٍّ منا في هذه السنة نشاط جامعي يُذكَر، ولا خطر ببالنا أن نكون عناصر قيادية، وإنما كنا نشارك فيما هو موجود، ولم يزل اليسار في تلك الفترة هو صاحب اليد العليا في الساحة الطلابية.  ظل التفكير في قلب نظام الحكم حاضرا في عقولنا وقلوبنا لكن السنة الأولى بأحداثها –التي سأذكرها لاحقا- شغلتنا.
وأما الذي التحق بالكلية الحربية فقد انفصل عنا فيما بعد، وآخر اتصال بيني وبينه كان وهو في رتبة الملازم أول، وكنت متابعا لأخباره، وغالب ظني أنه لم يخرج إلى المعاش بعد، إلا أنه على أبواب الستين الآنلم نستفق من غمرة السنة الأولى إلا في إجازة منتصف السنة، عقدنا أول اجتماع فيما بيننا، بمن فيها هذا العضو الوحيد الذي استطاع الالتحاق بالكلية الحربية، وشهد هذا الاجتماع تحولا في مسار الحلم الطموح، فقد طرح أحمد سالم فكرة تقول: لئن كنا أخفقنا في الدخول للكليات العسكرية فيجب أن تكون مهمتنا القادمة التفوق في الكلية حتى الوصول إلى رتبة الأستاذ الجامعي، فيجب علينا جميعا أن نكون أساتذة جامعيين، لكل منا دوره المؤثر في التغيير من خلال موقعه المرموق، ومهما يكن فإن الأستاذ الجامعي لا يقل أهمية عن ضابط الجيش أو ضابط الشرطة.
تداولنا النقاش حول هذه الفكرة، وكان ثمة ميل عام إليها، أو نستطيع أن نصوغ الأمر بعبارة أخرى: كان هذا الاجتماع هو الذي تحولنا به من المنهج الثوري التغييري إلى المنهج الإصلاحي المهادن، ثم سارت بنا أودية الزمان فانتهى معها المشروع الإصلاحي أيضا.
أستطيع القول الآن أن هذه كانت المحاولة الأولى غير الناجحة في تجربتي الحركية.
وأعود من ذلك الاجتماع في منتصف العام الدراسي الأول إلى بداية العام الدراسي، ومن المجال الخاص إلى المجال العام.. لقد كان أول أيامي الجامعية هو اليوم المشهود في التاريخ المعاصر: 6 أكتوبر 1973م.
ذهبت إلى الجامعة يوم 3 أكتوبر، حصلت على سكن خارج المدينة الجامعية، ضمن "رابطة أبناء قنا" في محافظة المنيا، وذلك لأن سني أكبر من من الصف الدراسي، وقد ذكرتُ سابقا أنني دخلت الصف الثاني الابتدائي وكان من المفترض أن أدخل إلى الصف الثالث الابتدائي، فبَقِيَتْ فترة الأشهر الستة الزائدة حتى منعتني من التسجيل في المدينة الجامعية كما كان النظام المتبع في ذلك الوقت.
أنهيت إجراءات الالتحاق بالجامعة، ثم حضرنا حفل الافتتاح في يوم السادس من أكتوبر 1973م، وكان هذا الحفل تقليدا تتبعه جامعة أسيوط، يتجمع الطلاب الجدد في صالة الألعاب الرياضية ويخطب فيهم رئيس الجامعة وبعض الأساتذة، وكان رئيس الجامعة في ذلك الوقت محمد حمدي النشار وكان خريج كلية التجارة، وانتهى الاحتفال، وأثناء رجوعنا إلى البيوت كنا نرى حالة غليان في الشارع عند الساعة الثانية وعشر دقائق، يصيح بعض الناس: قامت الحرب! ونسأل: أي حرب قامت؟! وكنت حينها في أتوبيس خاص بالجامعة ينقل الطلبة بين مباني الجامعة القديمة ومبانيها الجديدة، حتى إذا مررنا على كُشْكٍ صغير كنا نشتري منه الجرائد والمشروبات الغازية نزلتُ من الأوتوبيس وتوجهت إليه حيث اجتمع الناس عنده، وكان صوت المذياع بدأ يصدح بالبيان الأول بعد حرب أكتوبر.
كبَّر الناس جميعا، وكبَّرْنا، وكان أغلب هذا الجمع من الطلاب، وفورا وبتلقائية كنا نقول: يجب ألا تنتهي هذه الحرب إلا بتحرير فلسطين،  وسرعان ما تطور هتافنا وهتاف الناس معنا: إلى فلسطين إلى فلسطين. وفي اليوم التالي كانت الخطابات الإعلامية الرسمية تتجاوب مع هذه المشاعر وتتحدث عن فلسطين وتحريرها، وكانت من أروع لحظات ارتفاع الروح المعنوية لدى الشعب المصري، بل ربما لا تشبهها لحظة أخرى، وبلغت الثقة بالجميع أن هذه المعركة هي معركة تحرير فلسطين.
كان كبار السنّ أكثر ترددا وإحجاما عن مشاركتنا هذه الفرحة، لم تزل ذكرى نكبة يونيو 1967 راسية في صدورهم، يتذكرون حين سمعوا أنباء إسقاط الطائرات المتكررة ثم استيقظوا من الوهم اللذيذ على الواقع المر، كان لسان حالهم ومقالهم: وما يدريكم لعل إسرائيل هي التي هاجمت ونحن الذين نندحر. لكن هؤلاء انضموا إلينا حين بدأت الإذاعات العالمية –مثل: بي بي سي ومونت كارلو وصوت أمريكا، وهي الإذاعات الثلاث التي كانت مشهورة في ذلك الوقت- تنقل خبر المعركة وتؤكد أن القوات المصرية ضارت في الضفة الشرقية من قناة السويس، وهكذا كان اليوم التالي يوما اجتمعت فيه مشاعر الناس صغيرهم وكبيرهم على الفرحة العارمة والأمل الكبير.
ما لبثت أن جاءت الأخبار بما لا تشتهي السفن، ليست إلا أياما حتى صدر قرار وقف إطلاق النار واستجابت له الحكومة المصرية، كان وقف إطلاق النار طامّة نزلت على الناس في مصر، لم يكن منهم من يؤيده، ولم يكن منهم من يتوقعه.
ومما يُحسَب لليسار هنا، والذي كان غالبا على الساحة الطلابية وعلى مجمل الحالة الثقافية والإعلامية في مصر، أنه أعلن أن حرب أكتوبر بهذا الشكل إنما هي حرب تحريك لا تحرير، وقد كان السادات بعد عشرة أيام من بداية الحرب قد أعلن في خطابه الشهير (16 أكتوبر 1973م) عن استعداده للسلام ولحضور مؤتمر دولي للسلام سيُقنع القادة العرب والفلسطينيين بحضوره، وقد حاول السادات أن يبدو في هذا الخطاب كالمتحدث من موقع القوة وبدا أنه مصدوم من الموقف الأمريكي وألمح إلى خطورة الوضع بعد الجسر الجوي والبحري الأمريكي المتدفق لدعم إسرائيل. وقد شكَّل هذا الخطاب صدمة للجماهير في مصر التي لم يكن منها أحد مستعدا لسماع قبول وقف إطلاق النار فضلا عن الحديث عن سلام بين العرب وإسرائيل. لكن أحلام الشعوب كانت في واد وحركة السياسة كانت في واد آخر، فقد عملت سائر القوى الدولية بما فيها الاتحاد السوفيتي على وقف إطلاق النار، وفيما بعد حدثت الثغرة وبدأ انقلاب الموقف العسكري لصالح إسرائيل التي بدا أنها قد استوعبت المفاجأة وامتصت الصدمة وبدأت في التقدم من جديد.
نشر في مجلة كلمة حق 
سجلت هذه المذكرات في صيف 2015م.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 10, 2019 23:57

January 6, 2019

هل انهار الوضع المالي لمصر في العهد العثماني؟


يجب التنبيه بداية إلى أمرٍ لا يُذكر عادة في السجال العربي الدائر حول العهد العثماني، وهو أن العثمانين لم تحركهم أطماع اقتصادية لاحتلال الولايات العربية التي كانت خاضعة في ذلك الوقت للدولة المملوكية، بل إن العثمانيين منذ نشأتهم لم يتحركوا في توسعهم إلى الشرق وإنما إلى الغرب حيث فتحوا البلاد البيزنطية فيما ظلت ولايات الأناضول المسلمة منقسمة بين عدة إمارات شبيهة بعصر ملوك الطوائف، وهو العصر الذي بدأ مع ضعف ثم انهيار دولة سلاجقة الروم.
إلا أن أخطر ما تعرض لهم العثمانيون إنما جاء من الشرق، وابتدأ ذلك منذ العاصفة المغولية التي قادها تيمور لنك وتسببت في انتكاسة كبرى للدولة العثمانية التي كادت وقتها تفتح القسطنطينية فإذا بتيمور لنك يهزم بايزيد الأول سلطان العثمانيين بل يأسره مما عطل فتح القسطنطينة نصف قرن بل وشتَّت الدولة لأكثر من عقد حتى تمكن ابنه محمد الأول من إعادة توحيدها، ثم جاء الخطر الكبير الثاني المتمثل بالصفويين وأولئك الذين اضطر سليم الأول إلى التوسع شرقا لمحاربتهم، وهي الحرب التي تحالف فيها المماليك مع الصفويين فما إن انتصر سليم الأول على الصفويين حتى استدار ليحارب المماليك. وفي أثناء استدارته تلك وجد رسائل من أهل حلب تدعوه فيها لتخليصهم من المماليك، وهي الرسالة المشهورة المحفوظة في الوثائق العثمانية، ومن هنا ابتدأت الحرب التي أسفرت عن التوسع العثماني الكبير وعن نهاية دولة المماليك في مصر والشام والحجاز.
كانت علاقة المماليك مع العثمانيين علاقة صداقة وتحالف أول الأمر، ثم توترت مع دخول دولة المماليك على خط النزاعات في البيت العثماني ثم التحالف مع الصفويين، ومع ذلك شهدت العلاقات تحالفات ضد البرتغاليين الذين كانوا يهددون سواحل البحر الأحمر وخليج عدن، حتى انتهت إلى هذا العداء المستحكم الذي جاء بالعثمانيين إلى الشام ومصر.
والشاهد المقصود أن توسع العثمانيين في الولايات العربية لم تحركه الدوافع الاقتصادية وإنما الدوافع السياسية، وهذا تاريخ ينبغي ذكره أمام حملة الكتابات العربية التي تحاول سحل التاريخ لحساب الصراعات السياسية المعاصرة حتى تصور العثمانيين على أنهم كالجراد المنتشر الذي جاء على الواحات الخضراء المزهرة في الدول العربية فسكنها حتى غادرها يبابا!!
لنأخذ مصر على سبيل المثال..
منذ الفتح الإسلامي عبَّر عمرو بن العاص عن مصر بقوله: "ولاية جامعة تعدل الخلافة"ومن هنا استفادت الدولة العثمانية بضم مصر ثروات اقتصادية هائلة بما احتوت عليه مصر من موارد طبيعية وكثافة بشرية وموقع جغرافي تتحكم به في طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وانفتحت الدولة العثمانية على سواحل البحر الأحمر ومن ورائه خليج عدن والخليج العربي والمحيط الفارسي، وصار شرق المتوسط بحيرة عثمانية خالصة. وكان خراج مصر الذي يُحمل إلى الخزينة العثمانية ثمانية أحمال في كل سنة، واستطاع الوالي خسرو باشا أن يجعله اثنا عشر حملا في إحدى السنوات إلا أن السلطان سليمان القانوني عزله معتقدا أنه لا بد من أن تكون تلك الزيادة ناتجة عن قهر وظلم للرعيةكذلك استفادت الحركة التجارية في مصر من انضوائها تحت السلطنة العثمانية مما "وفر لها وشجعها على إقامة علاقات تجارية قوية مع المراكز التجارية في حوض البحر المتوسط، وبخاصة مع اسطنبول. وتزايد نشاط مصر التجاري في تلك الفترة"من الطريف الذي ينبغي إثباته أيضا أن الدفاع عن سمعة العثمانيين في حكمهم على البلاد العربية إنما سبق إليه المستشرقون، الذين بدؤوا التنقيب في التاريخ العثماني وقت أن كانت الحالة العربية والتركية تعيشان عصر القومية الطاغية التي لا تسمح ولا تغفر لمن يفكر في الحديث بموضوعية عن العرب أو الأتراك، ولا يمكن اتهام أولئك المستشرقين بطبيعة الحال بالتعصب للعثمانيين، ويمكن أن نضرب مثلا على هذه الدراسات بمؤلفات المستشرق الفرنسي أندريه ريمون ومن أهم أعماله: "المدن العربية الكبرى في العصر العثماني" و"القاهرة: تاريخ حاضرة" و"فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة العثمانية"، ونيللي حنا التي كتبت عن "تجار القاهرة في العصر العثماني" وعن "مصر العثمانية والتحولات العالمية" وعن "بيوت القاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر" وعن "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية" وعن "قصة القاهرة في 1300 سنة"، وغيرهم مثل مايكل ونتر في كتابه "المجتمع المصري تحت الحكم العثماني" وبيتر جران في كتابه "الجذور الإسلامية للرأسمالية"، ثم تكاثرت الأبحاث فيما بعد في السنوات الأربعين الأخيرة وساهم فيها العديد من المؤرخين العرب، ومن أبرزهم: سيد محمد السيد وعبد الجليل التميمي وعبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ورؤوف عباس ومحمد عفيفي وهدى جابر وغيرهم.
يفسر المؤرخ المتخصص بالدولة العثمانية محمد شعبان صوان هذا النشاط الاستشراقي في الكشف عن حقيقة التاريخ العثماني بأن ذلك إنما يعود لكون الدولة العثمانية قد انتهت وصارت من صفحات التاريخ، فلقد كان الاستشراق هو المسؤول الأول عن رسم هذه الصورة البشعة الشائهة للدولة العثمانية كجزء من توظيف طاقته العلمية البحثية في خدمة المشروع الاستعماري ضد الدولة العثمانية، ولكن بعد أن قُضِي على الدولة العثمانية وصارت تحفة تاريخية أمكن أن تعمل تلك الطاقة البحثية على دراسة هذه التحفة التاريخية لتقديم صورة أقرب إلى صورتها الحقيقية بعد التحرر من الوظيفة السياسيةولكن يبدو أن الحالة العربية الآن تُقْدِم على مرحلة قومية جديدة تحاول إدخالنا من جديد في عصر الظلام المعرفي والغيبوبة التاريخية!
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يناير 2019

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 06, 2019 23:09

January 5, 2019

لن ينفعكم الفرار!


لا أستطيع أن أحصي الحوارات التي دارت منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، بل من قبلها، حول الثورة والإصلاح والتغيير والحل المتاح والقوى الدولية ومخاوف النجاح والفشل... إلخ! لكن الخيط الذي أستطيع تَبَيُّنَه بوضوح هو وجود جمهرة من النخبة الإسلامية التي تمارس دائما نوعا من الفرار من الأسئلة الخطيرة المطروحة بقوة.
(1)
قبل الثورة في مصر كانت فكرة حصول ثورة أو تغيير أشبه بالمستحيل لدى جموع النخبة الإسلامية من المشايخ والعلماء والمنتسبين إلى الحركة الإسلامية، ومع هذه الاستحالة عندهم فإن مجالسهم تفر دائما من سؤال: ما الحل؟ ما الحل بعد الانغلاق التام للمسار السياسي الإصلاحي، وقدرة السلطة على عرقلة وتشويه وتوظيف واختراق المسار الدعوي؟
عند هذا السؤال تسمع مصمصة الشفاه، التأسف، الحوقلة، الرجاء في الله (بمعنى أن ينزل نصر من السماء، لا بمعنى أن نعمل ونحن نرجو الله).
(2)
فيما بعد الثورة كانت نفس هذه المجالس تناقش كل الأمور تقريبا، إلا أن يُطْرَح فيها الأسئلة المهمة الجادة التي يترتب عليها العمل، فلم يحدث على حد ما أعلم أن انعقد مجلس طُرِح فيه الحديث عن الخطر القادم الذي هو خطر انقلاب عسكري على الرئيس مرسي –فك الله أسره- وإذا حاول أحدٌ من الشباب وضع هذا الموضوع للنقاش، تبدأ المراوغات وحديث التفاؤل والتشاؤم، والحيود عن الموضوع، مع ميل شديد نحو حديث الطمأنينة ورصد مؤشرات الاستقرار.
أتذكر أنني بعد عدد من النقاشات، كتبتُ هذا المقال (بتاريخ 13 مارس 2013م. أي: قبل الانقلاب بنحو أربعة أشهر)، وفيه:
"خلاصة هذا المقال طلب الفتوى في هذه النازلة:
1. ما حكم الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب شعبيا؟
2. وما طرق مواجهته شرعا إذا كان متترسا بالجنود -البسطاء- وبالسلاح؟
3. وماذا إذا غلب على الظن أن هذا الانقلاب بدعم من طوائف علمانية (تعادي الشريعة وترفض الحكم الإسلامي عن عقيدة) وبإذن من أعداء الأمة: اليهود والنصارى؟
4. وماذا لو أضفنا إلى هذا خبرتنا الحديثة مع الأنظمة العسكرية عبر ستين سنة والتي رأينا آثارها في طول وعرض بلاد العرب والمسلمين؟
الإجابة على هذه الأسئلة فقهيا ستمثل:
1. الحد الأدنى والإطار العام والخطوط الحمر التي يضعها المسلمون لأنفسهم في بناء النظام السياسي، وهل يقبلون مرة أخرى بإمارات التغلب في زمن تيسر فيه اختيار الحاكم ولم تعد ثنائية (التغلب أو الفتنة) قائمة.
2. والأهم من ذلك أنه سيمثل لحظة اليقظة الأخيرة بدل أن تُعاد طرح هذه الأشئلة وقت وقوع الكارثة حيث سيختلفون ويتنازعون وتعميهم حسابات اللحظة القريبة ورسائل الغرف المغلقة العاجلة عن المصلحة الكبرى. أي أن الإجابة على هذه الأسئلة ستوضح الموقف العملي قبل أن يأتي تخبط آخر كتخبطهم في لحظة الثورة.. وهو التخبط الذي أنتج تلك الفوضى المريعة في المشهد السياسي الإسلامي.
وأما تجنب هذه الأسئلة وعدم مناقشتها قبل وقوعها يعني:
1. غفلة كارثية
2. هدر فقهي ونسيان الأولويات
3. أو خوف من مجرد التفكير.. وهو ما إن تحقق فلا يليق بمن هذا حاله أن يوضع في جملة قادة الأمة ونخبتها.فإذا وقعت الواقعة، فاعلموا أن "المؤمن" هو من "لا يلدغ من جحر واحد مرتين"! (انتهى)
وها قد وقعت الواقعة، وعلى حد ما أعلم فإنه لم يُثمر شيئا، وفوجئت الحالة الإسلامية بالانقلاب بعد حصوله، واضطربوا في تكييفه والتعامل معه أيضا.
(3)
يحدث هذه الأيام حوار شبيه بذات هذه الحوارات، وقد بدأت مع انتفاضة المدن السودانية، وقد شهدتُ حوارا في مجموعة بين عدد من المشايخ وطلبة العلم ونحوهم في هذه المسألة، وقد جرى الاختلاف المعهود بين من لا يجيز مثل هذه الانتفاضة لأنه يترتب عليها من المفاسد أضعاف ما يترتب عليها من المصالح، وبعضهم لا يجيزها لخصوصية حال السودان وحال عمر البشير ويرى أنه ليس كغيره من الطغاة وأن له من الدين حظا وأنه لا بديل له إلا من هو أسوأ منه، وبعضهم، وبعضهم لا يحري رأيا.
وفي محاولة من أحدهم لدفع الحديث نحو المستقبل وتكوين رؤية عامة بدلا من أن تتكرر نفس المفاجأة والأسئلة عند كل نازلة، طُرِحَت هذه الأسئلة، لكن حصل عندها نفس السلوك من المراوغة والتهرب والسكوت، قال السائل:
1. هل رحل حاكم مستبد دموي بالسلمية؟ أم أن دمار الأوطان أهون عليه من ترك عرشه؟
2. هل رحل محتل مهيمن على بلد صنع نظامها واحتجن ثرواتها بأي وسيلة غير المقاومة المسلحة العنيفة والمريرة والطويلة؟
3. لئن فرضنا (جدلا) أن ثمة حاكم مستبد رحل بمجرد السلمية، أو أن ثمة محتل رحل بمجرد السلمية.. فكم نسبة هذه الحالات من التاريخ؟ هل هي الشذوذ النادر الذي لا حكم له أم هو الأصل المضطرد الذي ينبغي أن نعتمد عليه؟
4. ثم.. هل حالة بلادنا العربية وأنظمتها المعروفة التي هي صنيعة الاحتلال الأجنبي والتي ينزل الاحتلال ليدافع عنها إن أخفقت بنفسها، هل هذه الحالة ينطبق عليها الرحيل بالسلمية (إن فرضنا أن هذا حدث في مكان ما وزمان ما) أم الحالة الأخرى؟
5. ما هو السبيل الذي ينبغي أن نفكر له ونخطط له كي نتأهل له، ونؤهل له الناس ونقودهم إليه.
6. ثم ما هو السبيل إن لم يسمحوا لنا بالوصول السلمي؟! هل نجلس بانتظار سماحهم لنا أم أن هناك طريقا أخرى؟
7. إذا قيل نجحت تركيا وماليزيا بالتغيير السلمي من داخل النظام.. أليس في هذا بنفسه دليل الندرة على من استطاعوا تحقيق تغيير سلمي؟.. ثم هل نستطيع بعدما حدث في الانقلاب التركي أن نجعل نموذج تركيا مندرجا ضمن التغيير السلمي أم أن محاولة الانقلاب والتصدي لها (بالعنف المسلح) دليل على أن السلمية لم تكف وحدها حتى في النموذج التركي؟
8. أليس العدو يقرأ التجارب كما نقرؤها نحن، هل العدو الذي انخدع بطريقة أردوغان فسمح له بالوصول مستعد لينخدع مرة أخرى إذا قلنا له: سنفعل مثلما فعل أردوغان؟! أليس قد حاول مثل هذا الغنوشي ومرسي ثم لم يُسمح لهما بالاستمرار؟
9. هل الحساب الصحيح للمصالح والمفاسد هو ما يقتصر على هذه اللحظة وهذا المكان؟ أم الأصل أنه يمتد للنظر في العواقب المتعلقة باستمرار وبقاء هذه النظم التابعة للغرب وتحكمها في بلادنا والذي يعود على الأمة بحرب الدين ونكبة الدنيا؟ ماذا لو فضَّل أردوغان حقن دماء شعبه ليلة الانقلاب.. ماذا كان سيحدث في العالم الإسلامي كله؟.. الرجل ضحى ببضعة مئات وبقي الملايين محفوظين من ضياع الدين والدنيا. ثم ماذا لو فضَّل الإخوان حسم المواجهة مع عبد الناصر وهو ضعيف.. ما الثمن الذي كان سيُدفع وقتها؟ وهل يقارب الثمن المدفوع عبر ستين سنة من استمرار حكم العسكر في مصر وفي العالم الإسلامي كله؟
10. هل تحررت أمة في الدنيا وامتلكت قرارها بغير ثمن فادح رهيب خسرت فيه ملايين الضحايا قبل أن تصل إلى ما هي فيه من التمكين؟
11. حيث لن يكون ممكنا توقع حركة الشعوب ومتى تنتفض (لحظة اندلاع الثورة ما زالت حتى الآن تحير علماء الاجتماع) ولن يكون ممكنا السيطرة عليهم إذا انتفضوا وإرجاعهم بمجرد النداءات إلى البيوت (فهذه حالة فوق التحكم بطبيعتها) فلا مناص من امتطاء صهوة الثورة وإعادة توجيهها في المسار الصحيح.. وهنا يتصارع الفاعلون الأقوياء على امتطاء هذه الصهوة وتوجيهها، وأذكاهم وأقواهم هو من يغلب.. فماذا ينبغي أن تكون سياسة الإسلاميين في الإعداد للحظة الثورة؟
12. هل الحسبة التي نقيسها بالمصالح والمفاسد هي حسبة سفك الدماء مقابل حقنها؟ أم هي على الحقيقة بين سفك الدماء على طريقة الأندلس وبورما وإفريقيا الوسطى والبلقان وبين سفكها في جهاد موصل إلى التحرر؟
مثل هذه الأسئلة لا تجد حتى الآن حوارا حقيقا ونقاشا جادا ومعمقا من أهل الحل والعقد في هذه الأمة، ولو أنهم اتفقوا على نقاشها لأثمروا ثمارا عظيمة، حتى لو وقع بينهم خلاف في فروع وجزئيات، لكن اتفاقهم في الأصول والكليات سيعصم كثيرا من الناس وسيعدل كثيرا من المسارات. وإن تَخَلِّي العلماء عن هذه الأمور سيتركها لا محالة للجُهَّال والمتحمسين وهؤلاء هم من ينشأ عنهم الغلو، ولا يُلام الذي نزع إلى الغلو ما دامت الساحة فارغة من علماء يؤصلون القضايا التي تحتاجها الأمة ويتحمس إليها المخلصون من أبنائها.
(4)
قبل كتابة هذه الأسطر بساعات شهدت مجلسا فيه بعض من هذه النخبة الإسلامية، وكان صاحب المحاضرة رجل خبير بالوضع الأوروبي لطول مقامه هناك، وأحسبه رجلا فاضلا. وجرى حديث طويل ومفصل عن التغيرات التي تحدث في أوروبا، والمشكلات التي تظهر وارتفاع شأن التيارات اليمينية واليسارية المتطرفة، وانهيار التماسك المجتمعي الأوروبي وتوتر العلاقات مع الأمريكان ونمو الشبح الروسي وأمور أخرى.. وأمور أخرى!
وعلى كثرة وأهمية ما طُرِح من قضايا، إلا أن السؤال الخفي في حديث المتكلم  كان كيف ننقذ أوروبا من هذا الخطر، وهو سؤال نطق عنه لسان الحال لا المقال. وقد أحببت أن نزداد في المصارحة فسألته: أرى أنك تتحدث كمواطن أوروبي، ويمكنني أن أفهم هذا، لكن إذا وسَّعنا الصورة: أليس كل ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا كأمة؟ على الأقل من جهة تخفيف الضغط عنا.
أجابني بما يخالفني، وكانت مختصر إجابته كالآتي: من قال بأن أي ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا بالضرورة؟ قد يكون العكس.. حتى إني أسأل أحيانا: هل سقوط نظام السيسي في مصر في مصلحة مصر؟ لقد دعا بعض إخواننا بسقوطه فترددت في أن أقول: آمين. إن أوروبا فيها ما يتغير نحو الإسلام، وهناك بعض من المسلمين يصلون تدريجيا إلى مفاصل صناعة القرار.
كانت خلاصة إجابته، التي فهمتها من مجمل كلامه: لا تتمنوا شرا لأوروبا فإنها قد تحمل المشروع الإسلامي يوما ما.
ومع أني تعودت على كثير من الصدمات، إلا أني صدمت أيضا، كنتُ أحسب النموذج الأوروبي آخذ في الذبول من بعد ما حدث في موجة الثورات العربية، وأن الدعاة الذين حلموا يوما بأن يكون فتح روما بالبيان واللسان قد عادوا أدراجهم مع ضربات الواقع، ولعلي أتفهمه أكثر مما ألومه، ذلك أن الرجل الذي كان مشروعه نشر الإسلام في أوروبا لعقود والدفاع عن حقوق المسلمين فيها ليتعذر عليه أن يرى خلاف ما قضى فيه عمره. وإني أكرر في هذا أني لا أتهم الرجل بشيء وأحسبه فاضلا عاملا للدين..
لكن الخيط الناظم في سائر هذه الحوارات والنقاشات، أن الفرار من الأسئلة الجوهرية في أي نقاش يُفضي إلى الفوضى والتخبط حين تقع الواقعة، ثم تقع الواقعة فيُفضي الفرار من نقاش أسئلتها إلى واقعة أخرى.. وهكذا نظل نتدرج في الحال، حتى نفقد قدرتنا على الأسئلة والإجابة لنبقى مجرد رد فعل، ثم ننتقل من رد الفعل إلى تبرير الواقع، ثم من تبريره إلى تحسينه وترويجه باعتباره أحسن المتاح إن لم يكن باعتباره الغاية المنشودة!
الخيط الناظم هو الرغبة في تغيير ينقل الأمة من الاستضعاف إلى التمكين بغير تكاليف، بالدعوة، بالسلمية، بالدبلوماسية، بالإقناع، بإسلام صناع القرار.. مهما كانت سنة التغيير تخالف وتناقض هذه الأماني! لذلك يحدث الفرار من هذه الأسئلة لأنها أسئلة ينبني عليها تكاليف!
وصدق الله تعالى إذ يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تُمَتَّعون إلا قليلا).
نشر في مجلة كلمة حق 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 05, 2019 11:09

December 19, 2018

قناة السويس كخط جيوسياسي استراتيجي لإسرائيل


مقدمة
بعد أكثر من مائة وخمسين عاما من إنشاء قناة السويس يبدو مستغربا الحديث عنها باعتبارها مشكلة سياسية جغرافية استراتيجية اقتصادية أيضا، ولا يعرف الكثيرون أن التفكير في إنشاء قناة السويس تزامن مع التفكير في إنشاء دولة إسرائيل في الوقت المعاصر، رغم أن جذور الفكرتين تمتد لآلاف السنين، وفي تلك السنين رفضت جميع القوى المسيطرة على مصر والشام حفر القناة الواصلة بين البحرين كما رفضت تحقيق الحلم اليهودي.
يبدو الربط بين القضيتين غريبا للوهلة الأولى، لكن الواقع أن قناة السويس مثلت إسنادا في غاية الأهمية للدولة الإسرائيلية العازلة، ويعزو بعض السياسيين والمؤرخين أن إسرائيل نفسها كانت إسنادا لقناة السويس كما في القول الشهير المنسوب لكامبل بضرورة وجود دولة عازلة قرب قناة السويس لحماية المصالح الغربية، وأيا ما كان الأمر فالواقع أن كلا القضيتين دعم وجود الأخرى، فإسرائيل لم يكن لها أن تستطيع احتلال سيناء لولا وجود المانع المائي الذي وفر لها حماية جغرافية وخطا أمنيا متقدما منع تدفق المقاومة المصرية الشعبية إلى سيناء، وأعاق عبور الجيش المصري حتى صار الإنجاز العسكري في أكتوبر هو "عبور القناة".
ومنذ وقعت معاهدة السلام حرصت إسرائيل والسلطة المصرية على مضاعفة العازل المائي وتوسيعه وزيادة تفريعاته وهو ما يستحيل معه تحقيق عبور ثان، فضلا عن التفريغ السكاني المستمر لسيناء والحفاظ عليها كمنطقة عازلة خالية من السكان والقوات العسكرية، وهو ما يعطي إسرائيل عمقا استراتيجيا واسعا كما يعطيها مساحة فارغة ألهمت الكثير من المخططين أن تكون هي الحل لتفريغ فلسطين.
ولا تزال قناة السويس تمثل أساسا جغرافيا وخطا استراتيجيا وعمقا أمنيا للكيان الإسرائيلي، وهو جزء حساس من عقيدته الأمنية العسكرية. كما تمثل معضلة أمنية وسياسية كبرى أمام أي حكومة وطنية مصرية.
التشابه والارتباط بين قضيتي: إسرائيل وقناة السويس
ثمة ثلاثة تشابهات وارتباطات كبرى بين قضيتي إسرائيل وقناة السويس؛ أولها: العمق التاريخي، فكلاهما مشروعان ضاربان في عمق التاريخ، فحلم الربط المباشر بين البحر الأحمر والأبيض يعود لعصر الفراعنة، وحلم إعادة إنشاء إسرائيل يمتد لثلاثة آلاف سنة! وثانيها: الإرادة الاستعمارية الأجنبية التي عملت على إنشاء كليهما، فعندما استطاع الغرب احتلال الشرق على يد نابليون ظهر المشروعان معا، فنداء نابليون لإنشاء إسرائيلوباعتبار أن قصة إسرائيل معروفة ومشتهرة، وكذلك باعتبار أن قناة السويس هو موضوع الورقة الرئيسي، فإننا سنركز في معالجة تلك العناصر الثلاثة على مشروع قناة السويس.
1. العمق التاريخي
كانت فكرة ربط البحرين الأبيض والأحمر قديمة، إلا أنه لم يوافق عليها أحد ممن حكموا مصر طوال تاريخها، بينما كانت الفكرة البديلة المعتمدة منذ عصر الفراعنة هي ربطهما عبر النيل، بقناة تمتد من البحر الأحمر إلى النيل  الذي يصب في البحر المتوسط. وقد تكرر طمر تلك القناة وتجديدها في عصور الفراعنة والبطالمة وبعيْد الفتح الإسلامي جدد عمرو بن العاص تلك القناة وسمَّاها "خليج أمير المؤمنين"وفي عصر هارون الرشيد، في ذروة التاريخ الإسلامي طُرحت فكرة الربط المباشر بين البحرين، إلا أن وزيره ومستشاره يحيى بن خالد البرمكي حذَّره من خطورتها، حيث ستسمح تلك القناة بدخول أسطول الروم من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر، فتهدد الحجاز والحرمين، فأحجم عنها الرشيدوتكشف هذه النصيحة بوضوح الفارق بين إنشاء قناة تربط بين البحرين مباشرة، وإنشاء قناة تربط بينهما عبر النيل، ذلك أن أي غزو عسكري يحاول الوصول إلى الحجاز سيكون مضطرا إلى العبور في الدلتا من أحد فروع النيل حيث الكتلة البشرية الضخمة ذات القدرة الكبيرة على المقاومة، فضلا عن تعدد التضاريس والمسالك، بينما الربط المباشر بين البحرين يمرّ من منطقة صحراوية مفتوحة قليلة السكان ضعيفة المقاومة. كما يكشف هذا النص أن الدولة الإسلامية في عصر تفوقها الدولي الكاسح امتنعت عن تنفيذ الفكرة لشعورها بالتهديد الاستراتيجي البعيد المدى.
وفي زمن الدولة العثمانية، وهي أعظم فترة سيطرة إسلامية على البحر المتوسط، في عهود: سليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني، برزت فكرة شق قناة السويس لتسهيل عبور الأسطول العثماني إلى البحر الأحمر للقيام بواجب الجهاد في الخليج العربي وخليج عدن والمحيط الهندي ضد البرتغاليين والإسبان، وثمة وثيقة عثمانية يطلب فيها سليم الثاني (930 - 982هـ/1524-1574 م) دراسة وافية عن تكاليف المشروع وفوائده، إلا أن الفكرة لم تنفذوقد حاول الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، في النصف الثاني للقرن السادس عشر، ثلاث مرات مع السلاطين العثمانيين لحفر قناة السويس، إلا أنه أخفق فيها جميعا، رغم أنه كان معتمدا في مطلبه على فكرة مهندس تركي، أي أن الفكرة كانت معروضة في أروقة العثمانيين ولم ينفذوها ولا استجابوا لإلحاح حلفائهم في تلك الفترة بتنفيذها2. الإرادة الاستعمارية
بدأت أول محاولة تنفيذ جادة مع أول تمكن أجنبي من احتلال مصر إبان الحملة الفرنسية، فقد سعى نابليون لتنفيذ المشروع إلا أن مهندسي الحملة الفرنسية قدَّروا أن البحر الأحمر مرتفع عن مستوى البحر المتوسط مما يعني أن شق القناة قد يؤدي لغرق مصر، فتوقف المشروع. إلا أن مهندسين فرنسيين آخرين ممن ملأوا مصر في عصر محمد علي أعادوا الدراسة وتوصلوا إلى أن البحريْن مستويان وأنه يمكن إنشاء القناة، لكن محمد علي رفض الفكرة متعللا بالرفض البريطاني القاطعثم بلغ اليأس الفرنسي من تنفيذ المشروع غايته في عهد عباس الأول الذي كان يكره الفرنسيين، ورفض تماما شق قناة السويس، وأنفذ مشروعا بديلا يحفظ المصالح المصرية ويُرضي البريطانيين، وهو تمهيد الطريق بين القاهرة والسويس وإنشاء خط سكة حديد الإسكندرية القاهرة، وهو ما يسهل نقل البضائع والبريد والسياحة البريطانية إلى الهند، ويحفظ لمصر الاستفادة من الحركة التجارية العابرة فوق أراضيها. إلا أن عباسا اغتيل ولم يكمل السنوات الثلاث في منصبه، وجاء سعيد باشا عاشق فرنسا والفرنسيين وربيب الرجل الخطير المشهور: فريدناند دي ليسبسكان فريدناند دي ليسبس ابنا لماتييه ديليسبس القنصل الفرنسي الذي مهد لمحمد علي حكم مصر، وبعد سبع وعشرين سنة من ولاية محمد علي جاء فريدناند كنائب للقنصل الفرنسي في الإسكندرية فاستقبله محمد علي بحفاوة بالغة وأولاه رعاية سابغة وعهد إليه بتربية ابنه الصغير سعيد! ومن هنا نشأت علاقة متينة بينهما أثمرت فيما بعد أن يتولى عرش مصر أول حاكم غربي الروح والهوى والمزاج، فكانت لهذا آثار بعيدة على العالم الإسلامي كله3. التنفيذ الأجنبي عبر الحكومات التابعة
أثمرت العلاقة بين دي ليسبس وسعيد عن واحدة من أبشع قصص التاريخ: قصة قناة السويس، لقد استطاع الثعلب الفرنسي إقناع ربيبه الغر بالإقدام على ما رفضه كل من حكموا مصر من قبله، ومن فرط ثقة سعيد به تركه يكتب بنفسه عقد الامتياز الممنوح له لحفر القناة، فكتب عقدا مدهشا وفريدا في تاريخ التعاقدات استلب به موارد مصر من الأرض والأموال والرجال مقابل ثمن ضئيل مؤجل، بل الواقع أنه عقد إنشاء دولة (شركة قناة السويس) داخل دولة (مصر)وهكذا كان أول حاكم رباه الغرب هو أول حاكم يوافق على حفر تلك القناة.
حاول خلفه إسماعيل باشا، وهو أيضا فرنسي الروح والهوى والمزاجكان يستحيل إنشاء قناة السويس دون مجهود السلطات المحلية وتسخيرها الموارد البشرية والمالية لحساب المشروع، وهو الأمر نفسه في حال إسرائيل التي كان يستحيل تأسيسها بدون مجهود السلطات في الدول المحيطة، والتي كانت جيوشها وسياستها تمهد لإسرائيل وتوفر لها أسباب الانتصار والاستمرار، وتكبح محاولات المقاومة.
آثار حفر قناة السويس على المنطقة قبل إنشاء إسرائيل
تحقق ما خشي منه كافة من رفضوا حفر القناة في العصور السالفة، وانفتحت المياه العربية الإسلامية للسفن والأساطيل الاجنبية دون توفر أدنى قدرة على مواجهة تهديداتها، واتصلت مستعمرات الغرب في الشرق والغرب عبر طريق أقصر من رأس الرجاء الصالح فاشتد ساعد الاستعمار بارتباط شبكة مواصلاته لا على المنطقة الإسلامية وحدها بل على سائر الشرق الأدنى والأقصى، وازدادت الأطماع الاستعمارية في المنطقة فوق ما كانت لأنها تحولت إلى مغنم ضخم وطريق مفتوح إلى مغانم أخرى.
لكن أخطر وأبرز ما عزَّزَتْه ورَسَّخَتْ له فكرةُ القناة في العقل الاستعماري هو ضرورة الحفاظ عليها بإنشاء دولة تابعة لهم على مقربة منها، كقاعدة عسكرية واستعمارية متقدمة، فقد تحدث بالمرستون في منتصف القرن التاسع عشر عن ضرورة هجرة اليهود إلى فلسطين "بقصد إيجاد حاجز بشري استعماري للحيلولة دون قيام دولة موحدة تجمع مصر والمشرق العربي"وهكذا كانت القناة بحد ذاتها وسيلة استعمارية، ثم كانت الدولة العازلة وسيلة أخرى ودعما وحماية للوسيلة الاستعمارية الأولى، وهما نقطتان نلقي الضوء عليهما في هذا المبحث:
قناة السويس كمركز للشبكة الاستعمارية
تطور علم الجغرافيا حتى استطاع رسم خريطة دقيقة للقارات وسواحلها والطرق البحرية، وكانت القوتان العُظْمَيان في القرن الثامن عشر هما بريطانيا وفرنسا، وبقدر ما تكون القوة البحرية لدولة أوروبية تكون قدرتها على احتلال مناطق بعيدة وجمع ثروات أكبر. وإذا نُظِر للخريطة من وجهة نظر بحرية ستكون بريطانيا أفضل في الموقع الجيوسياسي من فرنسا بقربها من السواحل الأمريكية ومن طريق رأس الرجاء الصالح.
وفي ظل التنافس الاستعماري كان طبيعيا أن تنبثق فكرة قناة السويس ومشروعها في العقل الفرنسي الذي يبحث بكل وسيلة عن تحسين موقعه الجيوسياسي، إن "مصر تهيمن على الطرق البرية إلى بلاد العرب والهند، وقد لقي مشروع شق قناة من السويس إلى البحر المتوسط من اهتمام لويس الرابع عشر ما حمله على أن يقترحه على الباب العالي في ثلاث مناسبات دون الوصول إلى نتيجة في واحدة منها"وقبل حفر قناة السويس كان الرحالة الإنجليزي الشهير ريتشارد بيرتون في مصر، وسجل في رحلته –الغامضة الأهداف- جملة استعمارية واضحة: "فلو وقعت مصر في أيدي الغرب سهلت السيطرة على الهند، ومَكَّنت من فتح إفريقيا الشرقية كلها بشق قناة للسفن تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر عند السويس"بهذا صارت فكرة قناة السويس فكرة استعمارية مركزية، حيث باتت قناة السويس مركزا للشبكة الاستعمارية الممتدة حول العالم، تصل بين الاستعماريين في الغرب والشعوب المستعمرة في الشرق، ومن سيسطر عليها سيضاعف من قوته ونفوذه وفارق قوته عن المنافسين.
يقول المؤرخ البريطاني جورج يانج: "من الوجهة السياسية فربما كان يكون خيرا لمصر لو أن سعيدا أنفق تلك الأموال كلها في زخرفة حجرة الاستقبال. لأن امتياز قناة السويس قد ترتب عليه أن مصالح بريطانيا في مصر بعد أن كانت مجرد إحساس معنوي غامض بما يُحتمل أن يكون لمصر من الأهمية في نظر سياسة الإمبراطورية البريطانية، قد تحولت إلى اعتبارات مادية جدا لها ارتباط بالمسائل العسكرية والتجارية مما يؤثر أكبر تأثير في قوة بريطانيا البحرية وسيادة إنجلترا في الهند. ثم إن بريطانيا كانت إلى هذه اللحظة قانعة بمنع الفرنسيين من أن تكون لهم السيطرة على القاهرة كما منعت من قبل سيطرة الروس على الآستانة. ولكن مصلحتها الحيوية صارت من الآن فصاعدا تتطلب انفرادها بالسيطرة على القاهرة دون سائر الدول الأخرى"وهكذا بات على المنطقة عموما، وعلى مصر خصوصا، أن تدفع الثمن الاستعماري كاملا!
أخطار وأضرار قناة السويس على مصر
يرى عبد الرحمن الرافعي أن حفر القناة نكبة استعمارية على مصر تساوي في ضررها الحملة الفرنسية، ويقرر "مصر لم تستفد شيئا من فتح قناة السويس، بل كانت القناة شؤما عليها"، وأن مصر بعد حفر القناة صارت "ضحية قناة السويس، تلك حقيقة واقعة"، وأنها "أكبر غلطة" في تاريخ سعيد باشا قصير النظر المخدوع الذي توهم أنه سيدخل التاريخ بهذه الخدمة للإنسانية بينما الحقيقة الواقعة أن الأمم لا تضحي باستقلالها ومصالحها في سبيل "وهم" خدمة الإنسانية، الذي هو على الحقيقة خدمة للدول الاستعمارية فحسبلقد تحملت مصر تكاليف إنشاء القناة، بشريا واقتصاديا وعسكريا وسياسيا:
1. فأما بشريا: فقد ساهم في حفر القناة مليون مصري سيقوا بالسخرة إلى الحفر في ظروف مأساوية مات منهم مائة وعشرون ألفا من الجوع والعطش والمرض وسوء المعاملة في قصة مريرة ليس هنا محل بيانها.
2. وأما اقتصاديا فقد "كان حفر قناة السويس ضربة قاضية لتجارة الترنزيت في القاهرة"3. وأما عسكريا فمنذ اللحظة الأولى ولتوفير أعداد للحفر قضى الخديوي سعيد على الجيش فأنقص عدده من ستين ألفا إلى ثمانية أو عشرة آلاف، وكانت القناة حاضرة في كل كارثة حربية نزلت بمصر، فهي السبب الأهم في هزيمة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر (1882م) الذي كاد يردم القناة لمنع نزول القوات الإنجليزية القادمة من البحر الأحمر لولا أنه خُدِع بتأكيد دي ليسبس أن القناة ممر محايد محمي بالقانون الدولي يُحْظَر استخدامه في الأمور الحربية4. وأما سياسيا فمنذ حُفِرَت القناة صار يُنظر إلى المسألة المصرية كأنها "هي مسألة قناة السويس، فكأنها اندمجت فيها، وتبدلت أوضاعها تبعا لهذا الاندماج"ولا يزال نزيف الخسائر مستمرا على تلك المستويات الأربعة حتى لحظة كتابة هذه السطور، بل ولا تبدو آفاق لنهاية ذلك النزيف.
قناة السويس كخط جيو سياسي – استراتيجي لإسرائيل
وجدت إسرائيل عند قيامها وضعا أمنيا لم يتمتع به محتل نزل تلك المنطقة من قبل، لقد صنعت قناة السويس حاجزا طبيعيا بين وادي النيل ذي الكثافة السكانية التي لطالما أمدت الشام بالجيوش التي حررتها من الصليبين وتصدت للمغول، وبين سيناء القليلة السكان، ثم إن قناة السويس نفسها تتمتع بحماية القوى العظمى بما يجعل منها مسألة دولية. ومنذ نشأة إسرائيل وحتى الآن مثَّلت القناة دعما لا يقدر بثمن لإسرائيل وخسارة فادحة لا توازيها خسارة بالنسبة لمصر والمنطقة.
وليس من شك في أن السياسة المصرية منذ نشأة إسرائيل وحتى الآن كانت في سياق الدعم للوجود الإسرائيلي، ومكافحة أية حركة مقاومة ضدها، إلا أننا في سياق بحثنا هنا لن نتعرض للمشكلة السياسية بقدر ما يهمنا إلقاء الضوء على الوضع الجديد الذي مثلته القناة جغرافيا وعسكريا. فحتى لو افترضنا وجود حكومات وطنية فستكون النتائج أفضل بكثير لكن مع صعوبة واضحة يفرضها وقع القناة، تلك الصعوبات هي ما سنركز عليها الحديث في هذا المبحث.
حرب 1956: قناة السويس كتهديد خلفي للقوات المصرية
لم يكن عبد الناصر يفكر في حرب إسرائيل بشهادة صديقه وأمين أوراقه هيكلتكشف مباحثات الدول الثلاثة أن إسرائيل لم تكن تريد أن تبدأ الحرب خوفا من سلاح الجو المصري المتفوق –وقتها- على سلاح الجو الإسرائيلي، ولم تكن بريطانيا وفرنسا تريدان بدء الحرب تخوفا من الموقف الأمريكي الداعم لعبد الناصر والرافض لعودتهما إلى المنطقة، فأرادتا أن تبدأ إسرائيل الحرب لتتوفر لهما الذريعة للتدخل، وانتهى الأمر على أن تخوض إسرائيل المغامرة وتبدأ الحرب قبلهما معتمدة على أن الجيش المصري لن يرد ولن يهاجم فتأتي قوات بريطانيا وفرنسا فتحطمان سلاح الجو المصري، وهو ما كان!
لا ريب أن القرار السياسي والعسكري كان مثالا في السوء، لكن وضع قناة السويس ضاعف من صعوبة الموقف، فهي قد وفرت للدولتين نزولا بحريا في بور سعيد ودخولا إلى القناة فتكون جيوشهما تهديدا خلفيا وحصارا حربيا للقوات المصرية في سيناء والتي تواجه الاجتياح الإسرائيلي، فصنعت القناة ممرا بحريا عازلا بين القوات في سيناء وما يمكن أن يدخل إليها من خطوط الإمداد ثم تحول هذا العازل إلى خط مواجهة مواجهة خلفي.
خسرت مصر سيناء والقناة معا في أيام، ولولا أن الموقف الدولي -والأمريكي بوجه خاصحرب 1967: قناة السويس كحدود متقدمة لإسرائيل
بعد أحد عشر عاما نفذت إسرائيل توسعها الجغرافي الأكبر، وكانت أول قوة احتلال تستطيع أن تدخل من جهة الشمال الشرقي لمصر دون أن تتكلف المغامرة بمواجهة القوة المصرية، فقد صنعت قناة السويس حاجزا جغرافيا يُمكنها من الاحتفاظ بسيناء وإقامة خطوط دفاعية على طولها، كذلك إقامة ساتر ترابي يمنع محاولة عبورها، وصارت المهمة الإسرائيلية في الاحتفاظ بحدودها حتى القناة تتمثل في المراقبة الجيدة للقناة، وتفوق السلاح الجوي الذي يُمكنها من التعامل مع أي محاولة عبور لها.
لو أنه لم توجد قناة السويس لما خاطرت إسرائيل باحتلال مصر؛ فإما أنها ستكون مجبرة على التوغل في عمق الأراضي المصرية، (وهذا في وقته في حكم المستحيل عليها بشريا وماليا وعسكريا) وإما توقفت قبل الحدود المصرية لئلا تجر مصر إلى الحرب، أو في أسوأ الأحوال توقفت عند منطقة المضايق في سيناء التي توفر لها نوع حماية طبيعية ولكنها لا تُقارن على الإطلاق بالمزايا التي وفرتها قناة السويس كمانع مائي سهل أتاح لها إنشاء ساتر ترابي وخط دفاعي على حدوده، وهو ما لا يمكن حدوثه في منطقة المضايق.
وصارت القوات المصرية بدورها في وضع هو الأول من نوعه في التاريخ، إذ لم تعد سيناء ممرا بريا واصلا بين آسيا وإفريقيا، بل تحولت بوجود قناة السويس إلى شبه جزيرة تحيطها المياه من ثلاث جهات وممرها البري الوحيد تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، وشريط القناة (أضعف جهاته البحرية) تحول إلى خط حربي متعدد الموانع، وصفه السادات بقوله "أكبر عائق مائي في تاريخ الحروب لأن شواطئ القناة مصنوعة من الحجر وهناك أيضا الساتر الترابي الذي يبلغ ارتفاعه 17 مترا"حرب 1973: قناة السويس كعائق منيع للقوات المصرية
كان التفكير العسكري المصري منصبا وللمرة الأولى حول "كيفية عبور قناة السويس"، والسبق إلى تحطيم أو السيطرة على الوسائل الدفاعية الإسرائيلية الممتدة على طول القناة. فالعبور هو الجزء الأهم في كل المعركة، وهو مفتاح استرداد سيناء.
هنا يبدو واضحا كيف تحولت قناة السويس إلى مشكلة حربية عويصة، يسجل قائد حرب أكتوبر سعد الدين الشاذلي في مذكراته "كانت قناة السويس –بما أضافه العدو إليها من موانع صناعية كثيرة- تقف سدا منيعا آخر بين قواتنا وقوات العدو"وهي مشكلة لم يواجهها جيش مصري من قبل، لقد قام عائق حربي في قلب الأرض المصرية يمنعها من تحريك الجيوش، بل وتتحصن خلفه القوات المعادية.
ومن هنا كان الإنجاز العسكري المصري في حرب أكتوبر هو "عبور القناة"، أو ما يسميه صحافي السلطة الأشهر محمد حسنين هيكل "اجتياز حائط الخوف" المتمثل في "عبور قناة السويس وفي اقتحام خط بارليف: القناة نفسها حاجز مائي من أصعب الحواجز، وخط بارليف على حافتها سلاسل متصلة من المواقع الحصينة"ولو تصورنا عدم وجود القناة لكان المجهود العسكري والموارد الهائلة التي هلكت في تحقيق هذا الإنجاز قد أنفق في معركة حقيقية.
لقد كانت كل الخطة العسكرية هي تغيير خط المواجهة من خط القناة إلى خط آخر، والفكرة الأساسية التي اعتمد عليها سعد الدين الشاذلي هي أن إسرائيل بطبيعتها لا تتحمل حربا طويلة، فمجرد تغيير خط المواجهة إلى شرق القناة سيجعلها غير قادرة على الحياة في سيناء، ولا على تحمل حرب طويلة لارتفاع نسبة التعبئة من بين صفوفها، فالحرب الطويلة "ترهق اقتصادها القومي وتصيب خدماتها وجميع نشاطاتها الأخرى بالشلل الكامل"اتفاقية السلام: قناة السويس كخط "سلام" فاصل
لكن السياسة التي يديرها العسكر لم تكن وفية للدماء، وإنما ساقت المشهد في إطار تحقيق السلام، وما يهمنا في الحديث هنا هو وضع قناة السويس التي كسبت إسرائيل حق الملاحة فيها، وهو الهدف القصير السهل، أما الأثر الاستراتيجي الطويل فهو الاتفاق على بقاء سيناء معزولة خالية من القوات العسكرية ومن المشاريع العمرانية، كمنطقة عازلة لضمان أمن إسرائيل. ومن ثمَّ عانى سكان سيناء من الإقصاء والتهميش والظلم لنحو نصف قرن (منذ 1967). ولو لم توجد هذه القناة لما كان ممكنا بقاء سيناء بهذه العزلة والانفصال عن الجسد المصري، ولما كان ممكنا حرمانها من التعمير والتنمية والانتقال الطبيعي بين سكان سيناء وسكان وادي النيل.
الخطة الدائمة: زيادة التفريعات
رغم ما يبدو من الاختلاف الظاهري بين عهود الحقبة العسكرية: عبد الناصر، السادات، مبارك، السيسي، إلا أن مما اتفقوا فيه جميعا هو مضاعفة وتوسيع قناة السويس! وهو في ذاته دليل على أن الرؤية السياسية والأمنية والاستراتيجية لم تتغير بين تلك الأنظمة، والفترة الوحيدة التي نُظِر فيها إلى محور قناة السويس برؤية أمنية واستراتيجية مخالفة كانت هي الفترة القصيرة للرئيس محمد مرسي،  وهو الرئيس الوحيد المنتخب من الشعب المصري بعد ثورة 25 يناير.
زيدت سبعة تفريعات على قناة السويس:
1. في عصر الملك فاروق أضيفت تفريعة البلاح بطول عشر كم عند منطقة البلاح شمال الإسماعيلية (1951م).
2. في عصر عبد الناصر أضيفت تفريعتان: تفريعة البحيرات بطول 11.8 كم (1955م)، وتفريعة كبريت بطول 7.0 كم (1955م).
3. في عصر السادات أضيفت ثلاث تفريعات: تفريعة بورسعيد بطول 40.1 كم (1980م) وازداد طولها أكثر من مرة في عصر مبارك، تفريعة التمساح بطول 4.3 كم (1980م)، تفريعة الدفرسوار بطول 8.4 كم (1980م).
4. وفي عصر السيسي حُشِدت حملة إعلامية هائلة لاجتذاب تبرعات شعبية واسعة لإنشاء أكبر تفريعة جديدة "قناة السويس الجديدة"، مع إغراءات ووعود هائلة، ونُفِّذ المشروع في سنة واحدة فقط، ليكون أطول مضاعفة لقناة السويس منذ نشأتهاوهكذا تقوم الحكومة المصرية على زيادة توسيع وتعميق قناة السويس التي كانت المشروع المرفوض من كل من حكموا مصر قبل سعيد باشا، ومن بعد ما ظهر بجلاء عبر الحروب المتعددة الخطر الكبير الذي تمثله القناة أمنيا وعسكريا واستراتيجيا. هذه المضاعفة في المانع المائي تجعل تكرار عبور القناة لمواجهة أي اجتياح إسرائيلي لسيناء في حكم المستحيل، أي أن السياسة المصرية ترسخ عمليا لعزلة سيناء وتقدمها كهدية لإسرائيل.
وبعد عامين من افتتاح المجرى الملاحي الجديد تبخرت الوعود المبذولة بالرخاء الاقتصادي، وصرح السيسي مؤخرا بأنه كان مشروعا لرفع الروح المعنوية مراحل زيادة طول وعمق القناة – المصدر: موقع هيئة قناة السويس على الانترنت مراحل زيادة طول وعمق القناة – المصدر: موقع هيئة قناة السويس على الانترنت
الخاتمة: الحلول المطروحة لملف قناة السويس
قبل نحو ثلث القرن حاول رئيس بنما عمر توريخوس أن يستعيد سيادة بلاده على قناة بنما الواصلة بين المحيطين الأطلسي والهادي، والواقعة تحت السيادة الأمريكية، فخاض معارك سياسية مع الأمريكان وصل فيها أن هدد بتفجير سد جاتون الواقع على القناة ليوقف الملاحة فيها، ثم أفضت إلى اتفاق مع إدارة كارتر يقضي باستعادة القناة، إلا أن ريجان -الذي خلف كارتر- لم يَرُقْ له الاتفاق وأَصَرَّ على عودة الأمور كما كانت، وهو ما كان مستحيلا توريخوس، ففجَّرت المخابرات الأمريكية طائرته (31/7/1981م)، ونُصِّب العميل "نورويجا" الذي لم يستطع أيضا تحقيق كل مطالب الأمريكان ولا النزول الكامل من السقف الذي وصل إليه توريخوس، فلم يتردد ريجان عن قصف بنما بالطائرات واختطاف نورويجا ومحاكمته في أمريكا في مشهد يكون به عبرة لكل من يفكر في الوقوف أمام الغول الأمريكي.
لم يجادل أحد في أن تهديد توريخوس بإيقاف الملاحة في قناة بنما عمل ثوري ووطني! فما من بلد وما من حركة تحرر إلا وهي تنظر لمواردها في ضوء انتفاعها بها، فإن اقتصر نفعها على عدوها لم تبال بتدميرها وهذه سنة مضطردة لا تتخلف لدى حركات التحرر، وقد مرَّت بنا سخرية عبد الرحمن الرافعي من نظرية أن الأمم تفرط في استقلالها ومصالحها خدمة للإنسانية!! فكيف وحقيقة الأمر أنها خدمة للأجانب الأعداء وليس للإنسانية؟!!
في ضوء أزمة قناة السويس نرى أن الحل يمر بثلاث مستويات:
1. التوعية
يجب إزالة التراكم التاريخي الزائف حول منافع قناة السويس لمصر، وإبراز الحقيقة التاريخية التي تنطق بها صفحات التاريخ وحقائق الواقع، وهو ما شهد به مؤرخون لا شك في وطنيتهم بل ومؤرخون أجانب؛ فالقناة تحرم البلاد اقتصاديا من مركزها كمقر للتبادل التجاري والخدمات والصناعات الوسيطة فضلا عن كلفة حمايتها وتأمين الملاحة فيها. وتحرم البلاد عسكريا من اتصالها الجغرافي الذي سبب أضرارا هائلة ونتجت عنه ثلاثة حروب على الأقل (1956، 1967، 1973) حتى صار الإنجاز العسكري المصري الوحيد في تاريخ جيشها هو النجاح في "عبور القناة"، ويزيد هذا الخطر العسكري أضعافا في ظل وجود إسرائيل وحاجتها لمنطقة عازلة وخط دفاعي وأمني متقدم. وتحرم البلاد سياسيا من استقلالها بزيادة حرج موقعها كمركز تنافس استعماري وهو ما عانت منه البلاد من اللحظة الأولى لولادة قناة السويس حتى الآن، إضافة إلى القيود السياسية التي تلزم بمرور السفن وإن كانت عسكرية في مهمات تهدد مصالح مصر أو عمقها العربي والإسلامي أو كانت تحمل مواد ضارة بالبيئة أو بالثروة المصرية.
لا يليق بحال أن تتشرب الصفوة المصرية خدعة فائدة القناة وأن تتمسك بها باعتبارها مقدسا وطنيا، بل يجب أن يكون الشعب وقادته على وعي بخطورة هذه القناة وأضرارها حتى وإن عجزوا عن الحل الشافي أو النهائي لمشكلة القناة. وأن ينتشر الوعي بين عموم الجماهير.
2. التنمية
وذلك ما سعى إليه الدكتور محمد مرسي أثناء فترة رئاسته القصيرة، فلئن لم يكن ممكنا إزالة القناة فلا بد من تعظيم وتكثيف الوجود البشري والعمراني والاقتصادي حولها، فهذا ما يقلل أضرارها كعازل ويعيد الاتصال بين الجغرافيا المصرية، وهو ما يلقى معارضة قوية من جهات كثيرة ليس أولها إسرائيل التي تستشعر في هذا التعمير والتكثيف تهديدا أمنيا لسيناء كمنطقة عازلة، وليس آخرها العسكر المصري الحالي المرتبط والخادم للمصالح الأمريكية والإسرائيليةبينما تتعاظم الخشية من مشروعات توسيع القناة أو زيادة تفريعاتها، فهذا يضاعف المانع المائي ويزيد الانفصال بين الأراضي المصرية، ويجعل إمكانية عبور القناة مستحيلا في أي وقت قادم، وهو ما فعله عبد الفتاح السيسي، بل هو مشروعه الوحيد الذي اكتمل في وقته القياسي.
3. إزالة القناة
وهذا حل تسوق إليه المعطيات التاريخية، وأول وآخر تفكير فيه كان لأحمد عرابي، آخر قائد عام وطني قوي للجيش المصري، فكل من تولى القيادة العامة بعده كان تحت النفوذ والسيطرة الأجنبية، وإزالة القناة لا تعني مجرد إزالة ممر مائي، بل هو:
1. على مستوى الدائرة الإقليمية، إزالة أهم الخطوط الجيو - استراتيجية للدولة العازلة، وهي إزالة لنظرياته الأمنية والعسكرية، وإقامة وضع جديد يعيد اتصال الأرض المصرية والشعب المصري بما له من آثار واسعة تتجاوز الأمنية والعسكرية إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية.
2. على مستوى الدائرة الدولية، هو إزالة لمركز الشبكة الاستعمارية التي نشأت في القرن التاسع عشر، والتي لا تزال قائمة حتى الآن، وهو ما يفرض أوضاعا جديدة على كل المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية، ويزيح مركز الصراعات إلى حد ما من قلب العالم العربي إلى مواقع أخرى.
ولا شك أن هذه الحلول الثلاثة: التوعية، التعمير، الإزالة تتوقف على امتلاك الشعب المصري خصوصا والمنطقة العربية عموما لقراره وإرادته، وهو أمر دونه ملاحم ومصاعب هائلة، فالثقل الاستعماري الراسخ منذ قرون لن يسمح بالتحرر ولن يعطيه إلا أن يُجبر عليه ويُنتزع منه.
يقول الرافعي: "لو سلم عهد سعيد من القروض الأجنبية، ولم يمنح امتياز القناة. لكان محتملا أن تتغير المصاير وتتبدل النتائج في تاريخنا القومي"نشر في مجلة دراسات بيت المقدس، العدد 18 (2)، ديسمبر 2018
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2018 10:58

December 11, 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (9) كيف انقلب مساري الدراسي


مذكرات الشيخ رفاعي طه (9)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةكنا البديل للذي لم يكن يعجبنا.. أما أنتم فماذا تفعلون؟
·      كيف انقلب مساري الدراسي، وكيف فشلت في دخول الطب أو الهندسة·      كانت الدولة ترغب في نشر التدين الصوفي، ويمكنك أن تكون صوفيا واشتراكيا معا!!·      قبل حرب أكتوبر لم يكن أحد يفكر في تحرير سيناء.. كان التفكير في تحرير فلسطين وسوريا!سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومالالحلقة السادسة: قصتي مع التصوفالحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسةالحلقة الثامنة: كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي
لم يكن ثمة شك في أني سألتحق بكلية الطب، لقد كنت من المتفوقين طوال حياتي الدراسة، وقد التحق رفاقي السبعة بالفعل بكلية الطب، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن..
كان صديقي أحمد سالم هو رفيقي في مقعد الدراسة أيضا، وكانت صداقتنا قوية ومنعقدة على التفوق والحب أيضا، وقد بلغنا من التفوق –ولا بأس أن نقول هنا: من الغرور- أننا فكَّرنا في اختراع قوانين رياضية لحل المسائل، فإن كنا نحلُّ المسائل وفقا لقوانين وضعها آخرون فلسنا بأقلَّ منهم شأنا لنضع نحن أيضا قوانين تُحَلُّ بها المسائل. كنت أنا وهو نكمل بعضنا البعض في هذا الجانب الدراسي، وقد جاء اليوم الذي وضعنا فيه قانونا لحل المسائل الرياضية (فرع الجبر) بعد أن هدانا تفكيرنا إليه، وجربناه على ثلاثين مسألة فكانت النتائج صحيحة، فقلت لصديقي: لا يمكن لقانون أن يكون خطأ بعد حل ثلاثين مسألة، وبدا أننا قد وصلنا سريعا إلى ما نصبو إليه، فهرعنا إلى الأستاذ عبد الوهاب أستاذ مادة الرياضيات وعرضنا عليه القانون الذي وضعناه فجرَّبه على عشر مسائل أخرى فإذا بها تنحل وتعطي النتائج الصحيحة، ودهش الأستاذ، ساعتها لم يخامرنا شكٌّ في أننا وضعنا قانونا جديدا في علم الرياضيات، ثم أخذنا إلى أستاذ آخر كان مدرسا أول لمادة الرياضيات، وعرضنا عليه القانون الجديد فجربه على مسألتين فلاحظ شيئا خاطئا مركبا في القانون وفي تطبيقنا له، وهذا الخطأ المركب هو الذي كان يفضي في النهاية إلى خروج الحل الصحيح للمسائل التي نجربها عليه. للأسف لم تعش فرحتنا إلا أمدا قصيرا، لكني أسرد هذه الحكاية هنا وصفا لما كنا فيه من التفوق ومن علاقتنا ومن إكمالنا لبعضنا، وهو ما له متعلق بسؤال: لم لم أدخل كلية الطب؟
كانت خطتي في المذاكرة والامتحانات أن أحصل على الدرجات النهائية في مواد العلوم والرياضيات ولا أسمح لنفسي بالنقصان ولو درجة واحدة، إذ أن مواد اللغة العربية والإنجليزية مما يصعب الحصول فيها على الدرجات النهائية فلتكن هي وحدها المواد التي سأنقص فيها بعض الدرجات. وجاء اليوم الأول في الامتحانات وكان فيه امتحانان: اللغة العربية والجبر. وقد أديت أداءا حسنا في امتحان اللغة العربية ثم دخلت إلى مادة الجبر التي لن أسمح لنفسي فيها بنقصان درجة واحدة!
من مفارقات الأقدار أن واضعي امتحان الجبر في تلك السنة أخطؤوا ووضعوا سؤالا خاطئا، لكن الطلاب لم يعرفوا أنه خاطئ وإنما تصوروا أنها مسألة صعبة، وكانت هذه المسألة هي السؤال الثاني من بين أربعة أسئلة يتكون منها الامتحان، وقد تكهرب الطلاب لهذا السؤال العسير إلا أن معظمهم فعل ما هو طبيعي منطقي، أنهم تجاوزوه ليحلوا باقي الامتحان، أما أنا فلن أفعل! إذ كيف لمتفوق مثلي كاد أن يضع قانونا في الجبر أن يتوقف أمام مسألة؟! لقد كنت مشهورا بأني لا تقف أمامي مسألة أبدا حتى إن مدرسا استعان بي يوما لحل مسألة تعسرت عليه، ثم كيف لمثلي أن أمام مسألة في امتحان عزم على أنه لن ينقص فيه درجة واحدة؟! وتحول الأمر إلى ما يشبه المعركة الشخصية والتحدي الخاص، ظللت أمام المسألة (الخاطئة أصلا) أقلبها يمنة ويسرة وأدور حولها أماما وخلفا وهي لا تنحل، وهكذا حتى مرَّ نصف وقت الامتحان أمامها، ولما شعرت بالأزمة والاختناق هرعت إلى إكمال بقية الأسئلة لكنني لم أدرك الحل، وانتهى الوقت وأُخِذَت الورقة مني وقد تركت سؤالين كاملين.
انتهى يوم الامتحانات الأول بصدمة غير متوقعة ترتب عليها إحباط شديد، كما ترتبت عليها نتيجة أسوأ وهي سوء سلوكي في المواد الأخرى بعد أن أدركت ضياع حلمي على يد مادة الجبر، ولم ألبث أن عرفت صباح اليوم التالي أن المسألة خاطئة من الأصل وأن درجاتها ستوزع على أسئلة الامتحان الأخرى فزاد همّي وغمّي، ولهذا السبب حصلت في الثانوية العامة على 71 بالمائة.
لم تكن هذه الدرجة سيئة، بل كانت تؤهلني لدخول المعهد العالي الصناعي في المنيا، ولم يكن هذا بعيدا عن طموحي في دراسة الهندسة، إذ لن يلبث المعهد أن يتحول إلى كلية الهندسة، وهو التحول الذي حصل في نفس هذه السنة، إلا أن رغبتي في كلية الطب كانت أقوى وكانت تهيمن علي بشدة، فقررت أن أدخل كلية التجارة لاعتقادي أنها سهلة، وأنني سأتمكن من أن أعيد الثانوية العامة بالتوازي مع دراستي فيها، فلقد عزمت على أن أعيد سنة الثانوية العامة لأتمكن من دخول كلية الطب من جديد.
إلا أن رياحا أخرى أشد جاءت بما لا تشتهيه السفن! لقد كنت أجهل إجراءات إعادة القيد في الثانوية العامة، لقد ظننت أن بإمكاني الالتحاق بالامتحانات في نهاية السنة، ولم يكن لي علم بضرورة التسجيل في المدرسة لهذا الغرض حتى فات وقت إعادة القيد وانتهى، لم أكتشف هذا إلا حين تحدثت مع صديقي عبد الجواد الذي كان رفيقا في سكن الرابطة (تشبه المدينة الجامعية) في قنا، حين سألني: في أي مدرسة سَجَّلت لإعادة امتحان الثانوية العامة؟ فقلت ببساطة: حينما أنهي امتحانات كلية التجارة سأذهب لأمتحن في إدفو، فسألني: هل أعدت قيدك في إدفو؟! فقلت: لا، فقال: كيف؟!.. لقد انتهى وقت التسجيل وإعادة القيد!!
وقعت الصدمة فوق رأسي، وبكيت بكاء شديدا في تلك الليلة، وحاولت من الصباح أن أعيد تسجيلي لامتحان الثانوية العامة وبذلت كل ما أستطيع إلا أنني لم أنجح، وزاد همِّي وغمِّي أضعافا مضاعفة، لقد فاتني حلمي في الطب حين توقفت أمام هذه المسألة التي كانت أصلا خاطئة، ثم لم أدخل كلية الهندسة لكي أحفظ لنفسي إمكانية إعادة امتحان الثانوية العامة، ثم ها أنا أكتشف أن امتحان الثانوية العامة نفسه قد ضاع أيضا!! وتذكرت يومها صديقي ورفيق الدراسة أحمد سالم الذي التحق بكلية العلوم وألحَّ علي أن أدخلها معه لنتفوق معا ولنكون من بعدها أساتذة بالكلية، إلا أنني واجهت إلحاحه بإلحاح مقابل: أني إنما دخلت كلية التجارة لإعادة امتحان الثانوية العامة!
تحطمت آمالي، وصرت في موقف لم يمرّ علي مثله من قبل، وكرهت كلية التجارة التي صارت سجني من بعد ما كنتُ أظنها وسيلتي ومعبرا لي إلى ما أحب، فلم أهتم بأن أذاكر، ونجحت بصعوبة في السنة الأولى، ووجدتني أنجح بصعوبة بينما صديقي أحمد سالم الذي طالما ألحَّ على أن أكون معه قد نجح بتقدير جيد جدا في كلية العلوم، وبقية أصدقائي بين الطب والهندسة، وهكذا انتهى مساري الدراسي أسوأ نهاية: لا أنا تفوقت في الثانوية العامة، ولا دخلت الطب، ولا دخلت الهندسة، ولا استطعت العودة إلى الثانوية العامة، ولا تفوقت في كلية التجارة!
حصل هذا كله في أول عهد السادات، أو كما كان يقول "دولة العلم والإيمان"، وقد كنتُ حتى ذلك الوقت في الاتحاد الاشتراكي، فكنتُ مع التيار اليساري ضد السادات، لا سيما وقد كانت الأخبار تنقل أخبار التوتر في العلاقات بين السادات والاتحاد السوفيتي وأن السوفيت لا يعطون الأسلحة الضرورية التي يحتاجها السادات وأن هذا ما يؤخر التحرك العسكري، ولهذا فلن يكون عام 1971 هو عام الحسم كما كان يقال لنا.
مر عام 1971، ثم وراءه 1972، ولا حسم ولا حرب، فشرع اليسار المصري بتنظيم مظاهرات كثيرة، وكنت أشارك فيها كطالب عادي أو كمواطن مصري، مجرد مشاركة ليس فيها تزعم، ففي ذلك الوقت لم تكن قضايا الشأن العام تشغلني كثيرا، وسائر ما كان مني قبل هذا إنما كان بسبب إغراء تجربة عبد الناصر في الانقلاب العسكري، وكان دخولي الاتحاد الاشتراكي لطبيعة تفوقي الدراسي، ولذلك فقد كنت حتى تلك اللحظة عضوا في الاتحاد الاشتراكي وعضوا في الطريقة الصوفية.
ولم يكن الجمع بين عضوية الاتحاد الاشتراكي والصوفية عملا متناقضا آنذاك كما قد يبدو الآن، بل إن كثيرا من قيادات الدولة كان يغلب عليها الطابع الصوفي، حتى في أمن الدولة، وكان رئيس مجلس المدينة صوفيا، ومأمور القسم صوفيا. والجمع بين ذلك بسيط: فالتدين على الشكل الصوفي تدين مرغوب فيه من جانب الدولة، وأستطيع أن أشهد على هذا من واقع ما رأيته وعاينته، بل لقد كان جزءا من الدعاية الإعلامية لعبد الناصر أنه مدعوم من الأقطاب الصوفية الأربعة، ومما كان ينتشر في زماننا أن بريطانيا ألقت قنبلة ذرية على القاهرة فصدَّها عن القاهرة شيخ الصوفية الأكبر في مصر، وذلك أنه صعد في السماء وأمسك بالقنبلة ثم أراحها على قبة الجامع الأقمر فلم تنفجر، ولا تزال موضوعة فوق القبة حتى الآن. فمن هاهنا كانت الهالة الإعلامية حول جمال عبد الناصر تحتوي طيفا صوفيا فلم يقع التناقض في نفوس الكثيرين بين عضوية الاتحاد الاشتراكي وعضوية الصوفية.
بل كان المُوَجِّهون في الاتحاد الاشتراكي يغلب عليهم الطيبة، بل كان المُوَجِّه العام على مستوى أسوان واسمه الأستاذ سعد وكان مُصَعَّدًا من الطبقة العمالية، ودخل لانتخابات حتى صار الأمين العام على مستوى أسوان، وكان شابا في الثلاثينات من عمره، وكان يتحدث عن إصلاح الدولية وكيفية بنائها، وهو هو نفسه كان يؤمنا في الصلاة. إلا أنهم أخذوا من الاشتراكية ما وافق شهوة الشباب، فكانوا يأخذون منها العلاقات المحرمة مع الفتيات وأن يكون بينهم علاقة خارج الزواج، وتلك من الأمور التي دفعتني لترك الاشتراكية والتوجه للتيار الإسلامي الذي كان يتشكل في أعوام 1974، 1975م.
وفيما قبل حرب أكتوبر كانت تسود حالة من الغليان تشمل جميع الشباب بلا استثناء، وكان التفكير السائد هو التفكير في تحرير فلسطين، لم يكن أحد ينادي بتحرير سيناء بل ولم نكن نشعر أن سيناء هي المحتلة بقدر ما كنا نشعر أن المعركة حول فلسطين بل وسوريا أيضا.
لكن قبل الذهاب إلى وصف ما حصل في حرب أكتوبر أحب أن أتوقف هنا في نبذة مهمة عن العلاقة بيننا وبين آبائنا وأهالينا في هذه الفترة:
ليس ثمة شيء متميز في أسرتي، كانت أسرة عادية، متوسطة أو حتى أقل من المتوسطة، وفيما يخص –مثلا- أني لم ألتحق بكلية الطب أو الهندسة كان أبي يشعر بأنني طالب متميز ومتدين وكان يشعر أن هذا حدث بقدر الله، لم يكن متدينا بل مسلما عاديا ولكنه كان متوكلا على الله للغاية، فكان يقول: هذا قدر الله، وأنت على كل حال ستذهب إلى الجامعة. كانت ثقافة الناس وقتها أن الطالب طالما سيدخل الجامعة فالفارق ليس كبيرا بين الكليات. وكان يعزز من شعوره هذا أن أصدقائي حين كانوا يزورونني في البيت كانوا لا يتحرجون من إظهار اعترافهم بتفوقي وتميزي وأن المسألة حظوظ في نهاية الأمر. نعم، كان هذا يزيد من حزنه ولكن كان يزيد أيضا من تعاطفه وتشجيعه لي، وهكذا كانت أمي وكان إخوتي.. لقد كانوا يتخذونني قدوة!
وتلك على الحقيقة لم تكن مزية خاصة بي، وهذا هو ما أريد التركيز عليه هنا، لقد كان جيلنا هذا من الشباب هو الجيل الذي قاد آباءه وأثَّر فيهم أكثر بكثير مما قادوه وأثروا به، إن قصتي مع أهلي هي قصة مكررة لإخوة الجماعة الإسلامية مع أهاليهم، وأتذكر هاهنا مثلا معبرا:
كنت أذهب مع أبي لشركة بيع المصنوعات المصرية، والتي كان عُمَّال المصنع يأخذون منها حاجتهم، فكنت أقف مع أبي في الصف، وكان يريد أن يتقدم الناس لأولوية أنه عامل، وكان الذي يبيع يتحرج من نهره كما ينهر غيره من الناس إن تجاوزوا أدوارهم لكونه من عمال المصنع، فكنت أنا الذي أقول له: يا أبي لا بد أن نلتزم دورنا، وإذا أحببت ألا تقف لطول الوقوف فاجلس وأنا أقف مكانك في الصف حتى يأتي دورك. وحين يقع مثل هذا الكلام أمام الناس والعاملين كانوا يأذنون لنا في أن نتقدم عليهم ونأخذ أولا.
هكذا كان الآباء يشعرون تجاهنا بشعور الاعتزاز والفخر، لم نكن مثل أبناء اليوم مع آبائهم، أولئك الذين يغلب عليهم التمرد، وإني حين أقارن بين علاقتي مع أبي وعلاقتي مع ابني عمار مثلا أرى أن أبي كان ينصحني بألا أتهور وألا أواجه السلطة، وكان يُذَكِّرني دائما بأننا لا نستطيع مواجهة الحكومة، يقول: لدي أبناء غيرك وأريد أن أربيهم وأرعاهم كما ربيتك ورعيتك. وعندما أطلقت لحيتي قال لي: ليست لدي مشكلة في هذه المسألة لكن إن اعتقلوك فمركز ادفو بعيد عنا ولن أستطيع حتى أن أساعدك. ومن المواقف الطريفة المتعلقة بهذا الأمر أنني عندما اعتقلت سنة 1982 جاءني لزيارتي في معتقلي بالقاهرة، فذكّرته بهذا وقلت: جئتي إلى مصر (القاهرة) وليس ادفو؟! فقال: ألا زلت تذكر؟! وهل هناك من يترك ابنه، وبكى! فقلت له: ما رأيك يا أبي أني إذا خرجت من المعتقل فسأحلق لحيتي، فقال: إن فعلتَ فلست ابني. لم أكن جادًّا بطبيعة الحال وإنما كنت أحاول اختبار موقفه!
أما بالنسبة لابني عمار فإني أقنعه أن يخرج في المظاهرات فيشارك إخوانه والشباب فيرفض، ويجادلني قائلا: لم نفعل شيئا في الجماعة الإسلامية طوال عشرين سنة، ثم يقول: اترك لي اختيار الطريق الذي أريده. وهكذا، كنت أحث أبي على الفضيلة، ثم إني أحث ابني على الفضيلة، كأن الموضوع قد انعكس تماما. لقد أثبتت التجربة أننا كنا ثوريين أكثر من أبنائنا!
شباب جيلنا أنشأ الجماعة الإسلامية من لاشيء، فإذا قلنا الآن أننا فشلنا وأن الإخوان فشلوا فأين الجيل الجديد؟ أين الذي ينشيء تنظيما جديدا يكون بديلا لهذه التجارب التي يراها فاشلة؟! نحن في جيلنا كنا البديل لما نراه قد فشل، كنا بديلا للإخوان حين لم يعجبنا سلوكهم، كانت ردة فعلنا إنشاء جماعة جديدة، كنا نطمح ونتحفز ونخطط لنقوم بانقلاب عسكري ولنقود ثورة شعبية ولنحكم مصر، وكنا ساعتها في العشرينات، أما شباب العشرينات اليوم فنحن نحاول أن نقنعهم بالعمل!
كانت وقفة لا بد منها، قبل أن أدلف إلى ما حصل في حرب أكتوبر..
نشر في مجلة كلمة حق

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 11, 2018 00:40

December 4, 2018

إعدامات في مصر وتبديل للدين في تونس، ألا من مراجعة لفقه الانسحاب والتنازل بدعوى المصالح والمفاسد؟!


أكثر الأسئلة التي كان يطرحها الإعلام العلماني على أي سياسي إسلامي: ماذا ستفعلون في النساء العاريات على الشواطيء، في النساء غير المحجبات واللاتي لا يردن أن يرتدين الحجاب، في مصانع ومحلات بيع الخمور، في السينما والمسرح، في رياضات السباحة وفن الباليه... وهكذا!
في المقابل فإن سائر الإجابات التي يبذلها الإسلاميون في هذه الأبواب تفيد بث الطمأنينة لهذه القطاعات، حتى إن أكثرها وضوحا و"تشددا" هي الإجابة التي تتحدث عن التدرج والرفق في تغيير هذه الأمور، وتتفق الإجابات الإسلامية على أن هموم الأمة أوسع وأكبر من هذه الأشياء، هموم في الاقتصاد والسياسة والطاقة والتعليم. وبالرغم من هذا فإن الحملات الإعلامية العلمانية وحديث المثقفين العلمانيين يأخذ هذه الصورة: هؤلاء خطر على الحريات، هؤلاء خطر على الفن والثقافة والسياحة والرياضة والمسرح، هؤلاء لا يفكرون إلا بغرائزهم ولا ينتبهون إلا للمرأة وحجاب المرأة ويتركون هموم الوطن الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية، هؤلاء طلائع الظلام القادم من العصور الوسطى الرجعية!
ثم حين يكون العلماني في موقع السلطة، بانقلاب أو توريث، مدعوم بالدول الأجنبية بطبيعة الحال، فإنه لا يفعل شيئا في أبواب الاقتصاد والسياسة والإنتاج والطاقة والتعليم، أبدا.. بل هو يتوجه من ناحيته لمحاربة دين الناس وعقيدتهم وأخلاقهم، لا حرية متاحة إلا حرية الانحلال والإباحية، ولا تقدم إلا على مستوى انتشار الخمور والفجور، ولا قوانين تصدر إلا التي تزيد من سطوة الحاكم العلماني وهيمنة الأجنبي ومحاربة الدين. وهاهو الباجي قايد السبسي لم يجد شيئا ينبغي أن يهتم به سوى إصدار قانون يُسَوِّي بين الرجل والمرأة في الميراث رغم امتلاء تونس بالمشكلات! ومع هذا فالنخبة الثقافية العلمانية بامتداد العالم العربي لا تحدثه عن هذه المشكلات المزمنة بل تصفق له على هذه المشكلة الجديدة التي يصنعها في بلده.
هذه هي أولويات العلمانيين..
وإنها لأولوياتهم منذ وُجِدوا في بلادنا، فهم أبناء الاستعمار الأجنبي وربائبه، وما كان لهم أن يصلوا إلى السلطة ويحكمونا إلا بقوة الاستعمار المسلحة ودعمه، وبقدر ما أنهم رسَّخوا وعَمَّقوا ما نحن فيه من التخلف على سائر المستويات بقدر ما أنهم نشروا في بلادنا الكفر والانحلال والتهتك.
المشكلة الحقيقية أن كثيرا منا لا يفهمون ذلك، يرونهم شركاء الوطن لا صنائع الاستعمار، يحسبونهم أصحاب فكر مختلف لا أصحاب عداوة أصيلة، يتوهمون أن هدفا مثل "تقدم الوطن" أو "استقلال الوطن" يمكن أن يجمع بيننا وبينهم. بعضنا جاهل بهم وهو جهل فادح فاضح لا يُعذَر صاحبه به، وبعضنا من ضعفه وعجزه يريد أن يتوهم هذا لئلا يواجه الحقيقة التي تزيده شعورا بحجم التكاليف والمسؤولية، وبعضنا من أخطائه وفشله وخياناته أيضا يُسَوِّق هذا الوهم لئلا يقال عنه: أخطأ وفشل وخان.
هؤلاء الذين هم منا، هم من يجبروننا على إعادة التكرار والثرثرة في الكلام المعروف المملول عن عداوة هؤلاء وكونهم صنائع الاستعمار وممثلوا مصالحه في بلادنا.. أولئك يقطعون الطريق حول تطور الكلام والأفكار لتبحث في "كيفية التخلص منهم" لنظل نراوح مكاننا في إثبات أنهم خصوم وأعداء.
وهم من ناحيتهم لا يُقَصِّرون في إظهار عداوتهم، فما إن تلوح لهم فرصة حتى تكون منازلنا بين القبور والسجون والمنافي، بين من قضى نحبه ومن ينتظر، من لم يمت بالرصاص مات بالتعذيب، ومن لم يمت بالمشنقة مات من أمراض السجن، ومن لم يمت بهذا كله مات بباب من أبواب الفساد الذي ينشرونه في بلادنا: تحت ركام عقار بُني بخلاف مواصفات الأمان، أو في حرقا في قطار، أو غرقا في سفينة، أو تحت عجلات سيارة على الطريق العام.
إن أي حساب لتكلفة بقاء هذه الأنظمة على أمتنا سيؤدي مباشرة إلى نتيجة تقول: إن كل فوضى ناتجة عن الثورة عليهم وإسقاط أنظمتهم هي بكل تأكيد أهون وأقل ضررا، فحجم ضرر هذه النظم على الأمة لمدة ستين سنة لا يمكن حصره، بينما لا يمكن أن تستمر فوضى في مكان ما لستين سنة مثلا، الناس يستطيعون تدبير أمرهم وحكم نفسهم والتكيف مع أوضاعهم أفضل كثيرا من حالهم تحت أنظمة قاهرة تتفنن في قتلهم وسلب أموالهم وتمكين الأجنبي في بلادهم.
وقد ثبت من سيرتهم التي كتبوها بدمائنا، ورسموها بسياطهم فوق لحومنا، أنهم لا يؤمنون بشيء، إذ ليس من مبدأ أو قاعدة يمكن التفاهم معهم عليها، لا هم يؤمنون بالديمقراطية ولا بالحريات العامة ولا بحق الشعب في المتابعة والمراقبة فضلا عن المحاسبة.
فمن هاهنا كانت لحظات الثورات العربية لحظات فارقة ذهبية لقلب هذا الوضع، والتخلص من هذه الأنظمة، ذلك أن الشعوب لا تنفجر متى أردنا ذلك، بل ولا تزال تحير علماء الاجتماع في تحديد توقيت وأسباب انفجارها، إلا أن أولئك الجاهلين المغفلين منا سارعوا لامتصاصها وتبريدها، بل وظفت الأنظمة بعضا منهم لتداركها قبل وقوعها، حدث هذا في مصر وتونس والمغرب واليمن والأردن.
في تلك البلاد، كان الإسلاميون وسيلة امتصاص وتبريد الثورات وتداركها، رغم أنهم أكثر الكاسبين من نجاح الثورات، وأول الخاسرين إذا أخفقت، بل وهم من قبلها مضطهدون ومن بعدها مضطهدون. فالإسلاميون في اليمن هم من شلُّوا حركة الثورة وأدخلوها في دهاليز اللقاء المشترك والمبادرة الخليجية وترتيبات المبعوث الأممي حتى أكل الحوثي اليمن، وقد كانوا قادرين –فقط لو تجاسروا وقرروا- أن يُجَنِّبوا اليمن مصيره المريع الذي يلقاه اليوم بين طرفين مجرمين: الحوثي ممثل إيران مقابل السعودية والإمارات، ولا يدفع الثمن إلا أهل اليمن.
والإسلاميون في المغرب قبلوا أن يشاركوا مشاركة شكلية في الحكومة التي هي بلا صلاحيات ليكونوا درع القصر في الالتفاف حول الثورة الوشيكة، وليكونوا أيضا سيفه في طعنها والقضاء عليها في مهدها، وقد فعلوا، ثم وجدوا أنفسهم بلا صلاحيات ولا قدرة، بل إذا نجحوا فالمدح متجه لجلالة الملك وإذا فشلوا فالسب والشتم متوجه إليهم! ومثل هذه التجربة تقال عن الأردن أيضا مع تغيير تفاصيل غير مؤثرة!
والإسلاميون في مصر كانوا الأسرع إلى تهدئة الشارع وتبريد الثورة، ولولا ظهور شخصية ثورية مثل حازم أبو إسماعيل مع وجود رغبة دولية في "تجريب" الإسلاميين في الحكم لكانت قد تكررت تجربة 1954 بحذافيرها، لكن هذه المتغيرات أفسحت المجال لسنة في السلطة منزوعة الصلاحيات، ومع هذا فإن أداءهم في هذه السنة كان أداء من امتلك الدولة وسيطر عليها، فسيطر عليهم الحرص على الدولة ومؤسساتها وتغييب الشعب عن الصراع الدائر في الدهاليز بل والحرص على تهدئته وتبريد روحه الثورية، فكان أن انقلبت هذه الروح الثورية بفعل مؤسسات الدولة وإعلامها لتكون ضد الإسلاميين أنفسهم، لم يفكر أولئك في مواجهة هذه الدولة العميقة لحظةَ أن كانوا قادرين ووراءهم ثورة شعبية رفعتهم –رغما عنها- إلى السلطة، كما لم يفكروا في مواجهتها وهم مهددون، ثم لم يفكروا في مواجهتها بعد الانقلاب.. حالة عجيبة من حالات الانكسار النفسي والهزيمة المعنوية! وصار الذي هتف "سلميتنا أقوى من الرصاص" نزيلا في الزنزانة بتهمة الإرهاب!
تجربة تونس فريدة جدا في بيان نكبتنا ونكستنا العربية الإسلامية، وواحدة من أهم الشواهد الضخمة المنتصبة على ما نحن فيه من التيه. يقولون عن راشد الغنوشي مفكر، رغم أن سلوكه السياسي نموذج من السذاجة والضعف والارتباك ثم الفشل. ولا يمكن تفسير مساره إلا أنه آمن بالديمقراطية أكثر من إيمانه بالله وبكتابه وبرسوله، فإن كلام الله وسيرة رسوله ضد الغنوشي على طول الخط.. والغنوشي الذي تأسف قديما وأدان الحركة الإسلامية لأنها لم تهتم بعلوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد ظهر أنه لم يعتبر من هذه العلوم ولم يستفد منها شيئا! فمختصر مسار حركة النهضة التونسية أنها لم ترد إقامة الإسلام الذي هو مبرر وجودها كحركة إسلامية فتنازلت عن كل تأسيس إسلامي في الدستور أو هياكل الدولة، بل ولا احترمت الديمقراطية كوسيلة لبيان إرادة الشعب التي رفعتها إلى السلطة فتنازلت عن السلطة، إنما احترمت رغبة الأقوياء –وهم في أشد حالات ضعفهم، في لحظة الثورة- وسمَّت ذلك "البحث عن التوافق، الصيغة المشتركة للتعايش..." ونحو هذه الألفاظ النخبوية السفيهة الكفيلة باستجلاب الهزيمة في أي لحظة صراع فارقة. فانتهى هذا إلى أنها أسلمت الثورة إلى نظام بن علي نفسه مرة أخرى، وبشرعية كاملة، وهي الآن لا تملك أن تحمي نفسها من أن تنزل نفس السجون إن قررت السلطة أن تفعل هذا. وبالموازاة مع هذا كله أسهلت حركة النهضة في التنازل عن الإسلامي وتكييفه وتأويله وتطويعه وتعديله ليتفق مع رغبات الحداثة الغربية العلمانية الغالبة. ثم لا يأتينا من الغنوشي إلا مقالات تبريرية وتراجعات وتعديلات على أفكاره القديمة حتى صار الغنوشي نموذجا مثاليا للتأصيل "الشرعي" للعلمانية!
سيقولون: كل هذه البلاد وفَّرت على نفسها الصراع والدماء الذي انطلق في مصر وليبيا وسوريا.
ونقول: الاستسلام حلٌّ يجيده كل أحد، ويملكه كل أحد، ولا يُعدَّ ذكاء ولا حكمة أنك تنسحب من المعركة، تنسحب منها في أفضل فرصة ممكنة (فرصة ثورة شعبية).. ولا يُمدح أحدٌ بأنه انسحب من كل معركة فوفَّر على نفسه وجنوده الحياة! هذا يسمى انسحابا واستسلاما وضعفا وجبنا ويسمى أيضا خيانة!.. ولا يُعدّ الانسحاب حكمة إلا من قائد تتواصل انتصاراته لكنه انسحب من واحدة أو اثنتين لظروف رآها، أما من يقضي حياته في الانسحاب وتجنب المعارك فلا يسمى حكيما بل جبانا!
نعم، مرسي لم يكن رئيسا جيدا، لم يخض المعركة بحقها في الوقت الذي كان الشعب فيه معه، لكن صمود اللحظة الأخيرة هو ما جعل صورة الحق والباطل واضحة في مصر حتى الآن، وهذا ما يُحسب له، لا يزال السيسي عسكريا منقلبا.. بينما لا يستطيع أحد أن يقول مثل ذلك عن السبسي في تونس! فإنه يتمتع بشرعية كاملة!
وهكذا ماذا تكون الثورة قد حققت من النتائج، إن نحن أخذت حركة النهضة بناصيتها فأعادتها إلى النظام القديم ومعها الشرعية التي تنقله من مغتصب إلى ديمقراطي؟! هذا مع أنه لا ضمانة أبدا أنه سيحترم هذه الديمقراطية ولن ينقلب عليها، إذ لسنا نعرف من أخلاقهم ولا من أخلاق داعميهم الإيمان بالديمقراطية، كما ليس بأيدي النهضة والغنوشي من الضمانات الواقعية والاستعدادات العملية ما يجعلهم يتخوفون من الانقلاب على الديمقراطية.
إذا أردنا إجمال الحقائق في عالم البشر والسياسية فسيكون من بينها هذه الأمور:
1.    لا تنهض الأمم إلا حين تمر بمخاضات عسيرة مؤلمة تفقد فيها كثيرا من الخسائر حتى يتحقق لها التحرر والاستقلال الذي يؤهلها لتكون قوى كبيرة وعظمى فيما بعد.2.    الاستبداد المعاصر هو صنيعة الاحتلال، والاحتلال داعمه وكفيله، فمعركة التصدي للاستبداد الداخلي هي جزء من معركة التحرر من الاحتلال الأجنبي، وهؤلاء الحكام وهذه الأنظمة ليسوا مجرد وطنيين وقع بيننا وبينهم الاختلاف في الرأي والنظر وطريق النهضة، بل هم وكلاء الاحتلال الذين يحاربون هذه البلاد وأهلها أشد مما كان يحاربها أسيادهم.3.    ليس من مستبد ولا محتل يرحل من مكانه ويفرط في سلطانه لمجرد احترام الرغبة الشعبية، بل لا يرحل مستبد ولا محتل إلا كارها مقهورا مجبرا بعد استنفاد وسائله في التشبث والبقاء.4.    الثورات لحظات فارقة ونادرة ولا تتكرر كلما شئنا.
حين يفقد العلماء وقادة الحركات الإسلامية الوعي بهذه الأمور وتنحصر رؤيتهم في حقن الدماء "هنا" و"الآن" فإنهم لا يصنعون خيرا للبلاد والعباد، بل على العكس، هم يسلمونها لحقبة قادمة بعشرات السنين لا تحصى فيها الخسائر من الدين والدماء والأموال والهيمنة الأجنية والتخلف العلمي والحضاري. ومن هنا فإن إفشال الثورات بتبريدها وتسكينها وتخديرها قبل تحقيق التمكين الحقيقي لممثلي الشعب –وهم في بلادنا الإسلاميون- ليس إنقاذا للأوطان من الفوضى، بل هو إنقاذ للأجنبي من الورطة التي قد تنفجر في وجهه وتُخرجه من البلد.
وحينئذ فالموازنة بين المصالح والمفاسد لا ينبغي أن تكون مقتصرة عن اللحظة "الآن" والمكان "هنا"، بل ينبغي أن تتسع لتشمل المستقبل –الذي نعرفه بخبرة الماضي- وأن تتسع بحجم الأمة لنرى كيف يمكن أن يؤثر الاستسلام هنا أو الانتصار هنا على الأمة كلها في معاركها الدائرة شرقا وغربا. وساعتئذ سنرى أن احتمال الألم في المخاض حتى الاستقلال والتحرر من الاستبداد والاحتلال أهون كثيرا كثيرا كثيرا من أخذ جرعة المخدر اللحظية المُسَكِّنة والتي سرعان ما تنتهي لنجد ألما طويلا مستمرا لا ينتهي أيضا إلا بمخاض آخر تكاليفه أشد وأقسى!
سل الذين مَكَّنوا لعبد الناصر في مصر حين لم يواجههوه أول أمره: دماء من حقنتم؟! ودماء من أرقتم؟!.. وهل كانت مواجهة عبد الناصر قبل أن يستبد ستؤدي مهما بلغت تكاليفها إلى هذه النكبة التي نحياها ستين سنة؟!
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 04, 2018 10:19

December 1, 2018

الصحة والهواء.. كناشة من تاريخنا الحضاري


واحدةٌ من أهم أسباب وظواهر ضعفنا الحضاري انقطاعُنا عن تراثنا الحضاري الثري، ولذلك فكثيرا ما يندهشون الباحثون في التاريخ والحضارة الإسلامية حين يصادفون أمورا كانوا يظنون أن الحضارة الإسلامية لم تعرفها أو تكتب عنها شيئا!
في هذه السطور القادمة إشارات واقتباسات في أمر الصحة والعلل والأمراض من تراثنا الحضاري العريق، في مسألة تلوث الهواء وآثاره على الصحة العامة:
1. عاش علي بن العباس المجوسي -الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري في بغداد عاصمة العلوم واتصل بعضد الدولة البويهي أقوى أمراء الدولة البويهية، وألف بطلب منه "كامل الصناعة الطبية" الذي يعد من أهم كتب الطب في التراث الإسلاميويقول في أسباب نشوء الوباء: "ولما كانت الأمراض الوبائية قد تحدث أيضًا من قبل بخارات عفنة تخالط الهواء بمنزلة البخارات المتحللة من جثث الموتى من الناس والبهائم، والتي تتحلل من الماء الذي تقع فيه البقول، والفاكهة الكثيرة تتعفن، وَجَبَ -مع ما ذكرنا من تنقية الأبدان والتدبير المضاد لما يحدث في البدن- أن يتنحى عن ذلك البلد وعن المواضع التي قد اتفق ذلك فيها إن أمكن ذلك، وإلاَّ فليكن المأوى فوق الريح التي تمر بتلك العفونات، أو في السراديب القليلة الندى والبيوت التي لا يدخلها هواء كثير وتُرش بالخل وتفرش بالآس والرياحين الباردة، وتبخر المواضع التي تأويها بالبخورات الطيبة كالعود والصندل والكافور والمسك... ويكثروا من استخدام الرياحين الباردة الطيبة، فعلى هذا المثال ينبغي أن يتدبر من أراد أن يتخلص من الأمراض الوبائية"ومن هنا أوصى بالبعد مسافة رمح عن المصاب بالأمراض المعدية "كالجذام والجرب والسل والبرسام والجدري والرمد، فإن هذه الأمراض تُعدي من يجالس صاحبها؛ فينبغي أن لا يجالس الإنسان أمثال هؤلاء، ولا يأوي مع من هذه حالته في بيت واحد، وأن يتباعد عنهم إلى مواضع تكون فوق الرمح"2. ومنذ أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كان ابن سينا –وهو أشهر من أن يُعرَّف- يقسم التلوث إلى نوعين: تلوث طبيعي أو عادي أو بسيط، وتلوث خارج العادة وفوق الطبيعي، وهو التقسيم الذي لا يزال معتمدا في علم البيئة المعاصر. يقول ابن سينا بأن "الأسباب المغيرة لأحوال الأبدان والحافظة لها إمَّا ضرورية لا يتأتى للإنسان التفصيويُعَرِّف الهواء النقي بأنه "الهواء الجيد" الذي "ليس يخالطه من الأبخرة والأدخنة شيء غريب، وهو مكشوف للسماء غير محقون... فهذا الهواء الفاضل نقي صافٍ لا يخالطه بخار بطائح وآجام وخنادق وأرضين نزه ومباقل، وخصوصًا ما يكون فيه مثل الكرنب والجرجير وأشجار خبيثة الجوهر مثل الجوز والشوحط والتين وأرياح عفنة، ومع ذلك يكون بحيث لا يحتبس عنه الرياح الفاضلة... ولا أيضًا محقونًا في جدران حديثة العهد بالصهاريج ونحوها لم تجف بعد تمام جفافها، ولا عاصيًا على النفس كأنما يقبض على الحلق"ويقسم تلوث الهواء إلى نوعين: "والهواء يعرض له تغيرات طبيعية، وتغيرات غير طبيعية أو تغيّرات خارجة عن المجرى الطبيعي مضادة له. والتغيرات الطبيعية هي التغيرات الفصلية، فإنه يستحيل عند كل فصل إلى مزاج آخر"4. وفي ذات عصر ابن سينا، ولكن في مصر، كان رئيس أطباء مصر في عصره علي بن رضوان المصري –وهو رياضي وفيلسوف كذلكوهو يقسم تلوث الهواء إلى نوعين، كما فعل ابن سينا، يقول: "الهواء تتغير كيفيته على ضربين، أحدهما تغيره الذي جرت به العادة، وهذا لا يُحدث مرضًا وافدًا ولست أسمِّيه تغيرًا ممرضًا، والثاني تغيره الخارج عن مجرى العادة، وهذا هو الذي يحدث المرض الوافد، وكذلك الحال في الباقية5. وقد وصف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي –في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري- مسار دخول الفيروسات إلى جسم الإنسان وإضرارها به وحدوث العدوى، فذكر كيف يبقى الميكروب في الجسم زمنا دون أن يظهر أثر المرض على الإنسان، وهي ما يعرف بفترة الحضانة، يقول: "الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق، فيَصِل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبًا مما استحكم به"6. ومن الإنجازات كذلك ما نراه في بيتي شعر في غاية الطرافة يعودان للطبيب العباسي هبة الله بن التلميذ –الذي عاش في القرن السادس الهجري وخدم لدى الخليفة العباسي المستضيئ بنور الله- يتحدث فيهما عن خطورة وقوع الذبابة على الجرح المفتوح، فيقول:
لا تــحقرن عدوًّا لان جـانبـه ... ولـو يكون قليل البطش والجلـدفللذبابـة في الجرح الممد يَدٌ ... تنال مـا قصـرت عنه يد الأسـد7. وقد تعرض المؤرخ الكبير ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون لموضوع تأثير الهواء على صحة الإنسان، وذلك حين تعرض للفوارق بين بيئات الحضريين والبدويين، وكيف تكثر الأمراض في البيئة الحضرية بينما تقل في البيئة البدوية، يقول: "إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات، والأهوية منشطة للأرواح، ومقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم، ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصاروأما أهل البدو "أهويتهم فقليلة بالعفن لقلة الرطوبات والعفونات إن كانوا ظواعنوقد كانت لهذه المعارف العلمية تطبيقاتها المتنوعة في عالم الإسلام من خلال المستشفيات والمدن والبيوت والحدائق وغيرها مما فصَّلناه في مقالات أخرىنشر في مجلة المجتمع الكويتية - ديسمبر 2018

الزركلي: الأعلام 4/297.  علي بن العباس المجوسي: الكامل في الصناعة الطبية ص4.  علي بن العباس المجوسي: الكامل في الصناعة الطبية ص65. علي بن العباس المجوسي: الكامل في الصناعة الطبية ص64، 65 لا يتأتى التفصي: أي لا يمكن للإنسان الانفصال عنها.  ابن سينا: القانون في الطب 1/113.  ابن سينا: القانون في الطب 1/118.  ابن سينا: القانون في الطب 1/114.  ابن سينا: القانون في الطب 1/125. الزركلي: الأعلام 4/289.  الموتان: الأمراض إذا عمَّت كثيرا من الناس وكانت مهلكة سميت "موتان" بمعنى: الوباء أو الجائحة بالتعبير الطبي الحديث.  ابن رضوان المصري: رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر، تحقيق: د. رمزية الأطرقجي، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 1988، ص46. أي الماء والغذاء والعوامل النفسية.  ابن رضوان المصري: رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر، ص46، 47.  ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/189. ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 1/248.  أي: المدن والحواضر.  تاريخ ابن خلدون 1/416، 417.  ظواعن: أي كثيرو التنقل.  تاريخ ابن خلدون 1/417. انظر: محمد إلهامي، مراعاة البيئة في بناء المدينة في الحضارة الإسلامية http://islamonline.net/18823؛http://islamonline.net/18942 ؛ محمد إلهامي، مواقع المستشفيات في الحضارة الإسلامية، http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=5195 ؛ محمد إلهامي، الحدائق الإسلامية،  مجلة الوعي الإسلامي، شعبان 1435هـ = مايو2014م.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 01, 2018 10:30

November 15, 2018

مذكرات الشيخ رفاعي طه (8) كنت عضوا في طلائع الاتحاد الاشتراكي


مذكرات الشيخ رفاعي طه (8)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةكنت عضوا في طلائع الاتحاد الاشتراكي
·      كان الاتحاد الاشتراكي ينبي تنظيما أخطبوطيا يمنع الدولة من الانهيار لمئات السنين·      كان خطاب السادات ضعيفا ومستكينا لكنه صار بالتدريج يجد له أنصارا بين الشعب!سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومالالحلقة السادسة: قصتي مع التصوفالحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسة
عندما كنا صغارا في المدرسة الإعدادية كانوا يختارون الطلاب الخمسة الأوائل على كل فصل، ويُحفِّظونهم خطب جمال عبد الناصر، ويحدثونهم عن الاشتراكية، ويشرحون لهم الميثاق، ثم كانوا يعقدون لهم لقاءات دورية –لا أتذكر الآن إن كانت شهرية أم نصف سنوية- بالإضافة إلى معسكرات صيفية في الإسكندرية ورأس البر، وأما بالنسبة لنا في مركز إدفو فقد كان معسكرنا في أسوان، ننزل هناك في نزل الشباب، التي كانت ضمن ما كان يسمى "بيوت الشباب" وهي تتبع وزارة الشباب والرياضة، وكان لها في ذلك الوقت أنشطة ضخمة. وهذه المعسكرات مختلطة بين الأولاد والبنات، لكن الأنشطة نفسها منفصلة حيث ينزل الذكور في مكان والإناث في مكان آخر. لم يبلغ الأمر كما كان في تركيا –مثلا- حيث يبيت الشباب والفتيات في مكان واحد. واستقر الوضع على هذا الشكل في المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية.
وبموازاة هذا، كانت ثمة مسابقات في ذلك الزمن تسمى مسابقات أوائل الطلاب، وكان يتسابق فيها الطلاب الخمس الأوائل الذين هم بطبيعة الحال أعضاء البراعم والطلائع في الاتحاد الاشتراكي، وفيها يتعارف ويتنافس أولئك الطلاب الذين يجري إعدادهم ليكونوا نخبة الدولة. وللحق، فلقد كان الاتحاد الاشتراكي يعمل جيدا على هذا الملف، فحين يستخلص من كل فصل –لا من كل مدرسة- أفضل خمسة طلاب فيه، ثم يتعهدهم بالتكوين والإعداد والدعم، ثم يفتح لهم بعد التخرج أبواب الوظائف المهمة في مناصب الدولة.. فعندئذ فإن النخبة الجديدة الحاكمة ستكون قد جرى إعدادها وتربيتها منذ أول النشأة، وسيكونون قد تعارفوا عبر هذه السنين من خلال اللقاءات الدورية والمعسكرات والمسابقات، هنا سيكون الناتج نخبة حاكمة ذات نظام أخطبوطي يضمن للدولة أن تستمر على هذا لمئات السنين دون أن تنهار.
كانت هذه صورة ونظام الاتحاد الاشتراكي كما رأيتها، وكانت تلك الفترة حافلة بالمشاعر الوطنية الملتهبة المرتبطة بجمال عبد الناصر الذي هو في روحنا "الزعيم"! ولم تتفكك هذه البنية العقدية القوية إلا حين طرح السادات فيما بعد فكرة تطوير الاتحاد الاشتراكي، فطُرِحت ورقة بهذا العنوان "تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي"، وقد حضرتُ مناقشات هذه الورقة.
وبهذا أستطيع أن أُجْمِلَ صورة أيامي في المرحلة الثانوية في هذه المسارات: الصوفية، وزعامة المدرسة ونشاطها الطلابي، وعضويتي في طلائع الاتحاد الاشتراكي، والاستدعاءات المتتالية لقسم الشرطة وحديثي المتكرر مع ضابط المباحث الذي كان يحرص على أن يكون حديثه وديا وأخويا وفي مكان غير المدرسة أو قسم الشرطة.
وأما المشهد العام في تلك المرحلة فأول ما فيها أني لم أعِ جيدا حرب الاستنزاف، ربما لكوني وقتها في السنة الثالثة الإعدادية أو لأننا لم نكن نشعر بها، كذلك لم يشغلنا كثيرا مبادرة روجرز سنة 1969 في أواخر حكم عبد الناصر والتي كانت قبل وفاته بشهور، إلا أن الحدث الذي لا يُنسى من تلك الفترة هو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وكان ذلك في مارس 1969، فقد كان لهذه الحادثة تأثير ضخم، وكان له جنازة حافلة مهيبة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وحضرها جمال عبد الناصر وبكى فيها، وقد أخرجونا نحن –طلابَ المدارس- في مظاهرات وجنازات رمزية.
كذلك فقد نفذت القوات الإسرائيلية عدة ضربات في العمق المصري، ومن أشهر هذا قصف مدرسة بحر البقر التي استشهد فيها عدد من الأطفال في مدرستهم، وعندنا في جنوب مصر وقع قصف أيضا لكوبري (جسر) إدفو في أسوان، وكان هذا الجسر يبعد عن مدرستنا كيلو مترا واحدا فقط، وقد ذهبنا إلى هنا ورأينا آثار القصف والقنبلة وما أحدثته من دمار.
وهنا بدأ ينتشر في مصر نظام المدارس العسكرية، وكان يجري تدريبنا عسكريا في المدرسة، كما انتشرت التعليمات ببناء جدران أمام المداخل والأبواب، وخصوصا أبواب المدارس بعرض 3 أمتار وارتفاع 3 أمتار أيضا، وكانت لا شك مهمة باهظة التكاليف، ولم أكن أدري حينها لماذا يبنون هذه الجدران؟ كذلك فقد تم تحديد عدد من الأماكن بمثابة المخابئ والملاجئ التي ينبغي على الناس الذهاب إليها وقت حدوث الغارات.
لم يكن الشعب يخشى الحرب مع إسرائيل، بل كان يفور حماسة حقيقية، وكان مشحونا بأثر القوة الإعلامية المتواصلة، وفي الواقع لقد صنعت هذه القوة الإعلامية من جمال عبد الناصر زعيما حقيقيا، وإذ كان يحتكرها وليس ثمة صوت غيره فقد مَكَّنَتْه بحق من أن يكون محبوب الجماهير، ولقد رأيتُ أبي يبكي بكاء حقيقيا يوم إعلان عبد الناصر تنحيه، ورأيته يبكي مثل ذلك يوم وفاته، ولم يكن أبي إلا رجلا بسيطا فلم يكن مؤدلجا ولا صاحب فكر وتوجه، إنما هو كعموم الناس، ومع هذا فقد كان في غاية الانفعال والتأثر.
بينما كان الأمر على العكس من هذا حين جاء السادات، لقد بدا السادات ضعيفا مهزوزا لا يستطيع أن يكرر زعامة عبد الناصر القوية ولا أن يملأ ثوبه المهيب، خصوصا في السنوات الثلاث الأولى (1970 – 1973م) حتى قامت الحرب. ولم يكن الناس يرونه صالحا ليكون رئيسا للجمهورية، وعلى ما يبدو فإن طاقم الرجال الذين أداروا هذا الملف تعمدوا توصيل هذه الصورة عنه، وإن كنا عرفنا فيما بعد أنها لم تكن صورة صحيحة، وأنه تعمد أن يكون بهذا المظهر الضعيف ليعالج بها معاركه الداخلية في أروقة الدولة التي يتنفذ فيها رجال عبد الناصر الأقوياء. كان عبد الناصر يخطب بقوة وعنده ذلك الحس الجماهيري الذي يجذب به الأسماع والأنظار فيؤثر فيها، بينما كان خطاب السادات هادئا مستكينا، تكثر فيه اللهجة العاطفية ولغة القرية، يتحدث كثيرا بالعامية.
لكن الذي يلفت النظر هنا أن هذه اللهجة في الخطاب بدأت بالتدريج تجذب بعض الناس وتجد لها أنصارا، كان السادات ضمن هذه الصورة الهادئة المستكينة يتحدث عن مبادرات سياسية تتجنب دخول الحرب (على العكس من موقف وسياسة عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل)، فقد حاول البناء على مبادرة روجز ووافق على مدِّ الهدنة ووقف إطلال النار، ثم طرح مبادرة عام 1971م، وكان يبرر هذا بأنه إنما يفعله ليحافظ على أبنائه لأقصى درجة وليحافظ على البلاد ويجنبها متاهات الحرب. وقد وجد هذا النوع من الخطاب أنصارا وبدأ يتشقق الموقف في المجتمع المصري من خوض حرب التحرير مع إسرائيل، فخصوصا كبار السن كانوا يقدرون هذا الشعور الأبوي ويتعاطفون مع السادات، ويتحدثون عن الحرب التي لا تأتي بالخير. فيما بعد عرفنا أن هذه اللهجة نفسها كانت من وسائل السادات التي استعملها لإيهام إسرائيل بأننا لن ندخل الحرب أبدا.
فيما قبل الحرب لم تكن الجماهير مع السادات أو ضده، حتى ما سماه ثورة التصحيح (مايو 1971م) والتي أقصى فيها رجال عبد الناصر لم يتعامل معها الشعب بالحفاوة أو بالإنكار، كأن هؤلاء المغلوبين لقوا جزاء طبيعيا، فحيث لم يكونوا من اختيار الشعب فليس للشعب منهم موقف، ولعل قائلهم يقول أيضا: وحيث كانوا من رجال عبد الناصر وقد رحل كبيرهم فلا تثريب أن يرحلوا مثله، ثم لم يكن منهم أحد معروفا بزعامة ولا له في قلوب الناس مكانة. ولو شئنا أن نقول إلى أي الجانبين كان الشعب يميل فسنقول بوضوح: إلى جانب السادات، ولعلها كانت عند بعض الناس من حسناته ومن بشائر عهده.
إلى هنا تنتهي المرحلة الثانوية، ليبدأ الحديث عن المرحلة الأكبر والأخطر: مرحلة الجامعة..
نشر في مجلة كلمة حق 
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2018 14:54