محمد إلهامي's Blog, page 19

May 15, 2019

اللاجئون: قصة عذاب صنعتها الحضارة الغربية


لم تكن مشكلة الهجرة والنزوح الإنساني تمثل مشكلة كبرى قبل عصر الدول القومية، لم تكن ثمة حدود وسياجات فاصلة، ولم تكن السلطة ترى نفسها مكلفة بحماية الحدود من اللاجئين الداخلين إليها هروبا من أزمة طبيعية أو من حرب طاحنة، ولم يكن الشعب حينها يستمد تعريفه من الحدود المرسومة سياسيا بحيث يعتبر أن النازحين يمثلون تهديدا لهذه الهوية أو منافسين على موارد البلد وفرص العمل فيها. والأهم مما سبق أن السلطة التي تحرص على مدِّ نفوذها السياسي والحفاظ عليه لم تكن تفكر في اللاجئين كعبء إضافي عليها لأنها لم تكن بالأساس سلطة هيمنة متغولة ومتدخلة ومشرفة على كل التفاصيل كما هو الحال في الدولة الحديثة.
إن عملية تقسيم العالم إلى دول قومية كانت في حقيقتها عملية تحويل العالم إلى مجموعة من السجون الكبرى للشعوب، بحيث صارت عملية ضبط الشعوب وإدارة شؤونهم مسؤولية لجهاز الإدارة السلطوي الذي واصل تضخمه والاستزادة من أدواته الكتابية والرقابية لتحقيق السيطرة التامة على الشعوب. ومن هنا صار الانتقال الإنساني المستمر بطبيعته عبر التاريخ محتاجا بعد هذا التطور السياسي الجديد إلى عدد من التصاريح والموافقات السلطوية: دولة تسمح بالخروج وأخرى تسمح بالدخول وربما ثالثة تسمح بالمرور كذلك. أي أن مجرد الهروب من الأزمة صار رفاهية قد لا يتيسر الحصول عليها!
تقسيم العالم إلى دول قومية هو أحد منتجات الحضارة الغربية التي استطاعت إلزام العالم بها تدريجيا عبر سلسلة الحروب التي انتهت بالحرب العالمية الأولى حيث سقطت الإمبراطوريات، ثم أسفرت الحرب العالمية الثانية عن وضع نظام عالمي يُلزم المجتمعات بإطار وشبكة الدول القومية، مهما كانت الحقائق والأوضاع الجغرافية والطبيعية والإثنية لا تعبر حقيقةً عن هذه الصورة؛ بحيث أن أي أمة معاصرة لا تستطيع أن تكون ضمن نظام العالم لو لم تكن دولة قومية بالمفهوم الغربي للدولة.
وحيث أن العلمانية هي منتج غربي بالأساس، فإن الأنظمة التي تكونت في الاتحاد السوفيتي والصين هي أحد النتائج الحضارية الغربية، وإن فارقتها بعد ذلك في الخيار الليبرالي حيث اتجهت إلى الشيوعية الشمولية، وقد قَدَّمت هذه الأنظمة الشمولية نماذج متوحشة في الحصار الجماعي والإبادة الجماعية والعقاب الجماعي للشعوب الواقعة تحت سلطتها، بينما كانت الليبرالية تطرح نموذجا مقابلا في الاستيعاب وحقوق الإنسان وحريته في التنقل، إلا أنها –مع ذلك- نجحت نجاحا جزئيا ومنقوصا في حل مشكلة اللاجئين والمهاجرين، يعود ذلك بالأساس إلى المشكلة الأصيلة وهي هيمنة الفكرة العلمانية التي تنتج بطبيعتها سياسةً وخطابا نفعيا وتوظيفا سياسيا للمبادئ والأخلاق.
ومع مراحل هذا التشكل التاريخي ارتبك الخطاب الصادر عن الغرب تجاه مسألة الهجرة واللاجئين وتعددت أساليب توظيفه، ذلك أن واحدة من أهم ثمار الهيمنة العلمانية على الحضارة الغربية هو انتفاء النص المقدس وبالتالي انتفاء المبدأ المقدس والأخلاق الثابتة، ومن ثَمَّ استُبْدِل بهذا سيادةُ مبدأ المصلحة الذاتية (اللذة والمنفعة) التي تعتبر هي الحقيقة الصلبة الوحيدة بين عالم من السيولة في التصورات والمعاني.
من هنا نستطيع أن نرى ارتباكا واضطرابا واسعا في الخطاب الأساسي الصادر عن الحضارة الغربية تجاه قضية اللاجئين وأزمات النزوح الإنساني، يمكن أن نبصر منها ثلاثة وجوه أساسية:
1. أزمة ضرورية لا مفرَّ منها
إذا أرادت السياسة ومصالحها المتوحشة اللا أخلاقية تحطيم أمة ما وتغيير جغرافيتها، فإن الحروب المستعرة يرافقها خطابٌ تبريري يرى أن عمليات التهجير وتفريغ الشعوب من أراضيها ضرورة لا بد منها لصناعة السلام وحماية المدنيين وترتيب الوضع السياسي الجديد ورسم "الخرائط المستقرة" التي تعبر عن شعوب "متجانسة". وبطبيعة الحال فإن الساسة هم من يحتكرون تفسير هذه الألفاظ وفرض هذه المبررات، لقد كانت هذه الشعوب متجانسة ومتعايشة بالفعل من قبل أن يولدوا لكن من يستطيع أن يردَّ على السياسي الذي يملك الأساطيل والطائرات ويملك فرض مصالحه.
لذلك سنرى خطا طويلا يبدأ من اتفاقيات سيفر ولوزان التي قَنَّنَتْ تفريغ شعوبٍ في البلقان وشرق الأناضول لتكوين دول قومية على أنقاض الخلافة العثمانية، ويمر هذا الخط بكل مآسي القرن العشرين لينتهي عند الثورة السورية التي كانت عمليات التفريغ والتهجير فيها تتم برعاية الأمم المتحدة والباصات الخضراء لتتغير الديمغرافيا السورية، وبدلا من أن تسعى الأمم المتحدة والقوى الكبرى في فرض إيقاف القتال على بشار الأسد أو فرض مناطق حظر جوي (كما فعلت في العراق بعد حرب 1990م)، بدلا من أن تسعى الأمم المتحدة والقوى الكبرى في هذا سعوا في تهجير الشعوب إلى مناطق خفض التصعيد، وهي المناطق التي تتآكل كل حين لتنتج تهجيرا آخر!
2. المهاجرون أدوات بناء
في لحظات أخرى نَظَّر الخطاب الغربي باعتبار المهاجرين مددا مجتمعيا وأدوات إضافية في بناء الدولة أو في المساهمة في التشكل الحضاري الجديد، وهذه اللحظة تكون عادة في مرحلة ما بعد الحروب وإعادة بناء الأوطان واستقطاب العقول والكفاءات المهاجرة.
لقد امتصت الدول الغربية الكفاءات المهاجرة من بلاد العالم كله، وعلى أكتاف هؤلاء أعيد بناء الدول الغربية التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، كما ساهم أولئك في التفوق الأمريكي المعاصر، ووضعت لهذه المهمة قوانين نظَّمت احتواء المهاجرين ومنحهم الحقوق القانونية والجنسيات كذلك. وأعيد توظيف هذه العملية لا باعتبارها سرقة عقول مهاجرة بفعل سياسات غربية أساسا في البلاد الأصلية لأولئك، بل باعتبارها احتضانا واحتواء إنسانيا ونموذجا فريدا في تقبل التنوع والاختلاف والتعددية الثقافية ومثالا متميزا في تحقيق مفهوم المواطنة.
3. المهاجرون تهديد حضاري خطير!
وفي لحظات أخرى صدَّرَ هذا الخطاب المهاجرين باعتبارهم تهديدا حضاريا ووجوديا، وخطرا على هوية أوروبا وأمريكا، وهو الخطاب الذي أنتج ذروته في نظريات العداء للمهاجرين التي تتبناها الأحزاب اليمينية والتي أسفرت عن أحداث متعددة أبرزها العملية الأخيرة التي وقعت في نيوزيلاندا، وقد أظهرت موجة الانتخابات الأخيرة في أوروبا واستطلاعات الرأي في أمريكا تزايدا لمعدلات الإسلاموفوبيا بل وتزايدا لـ "معاداة الإسلام"، حتى إن بعض العبارات التي كان يُحاسب عليها قانونا بتهمة العنصرية قبل سنوات معدودة، تُقال الآن في خطابات رسمية وتحت قبة البرلمانات.
وفي عدد من المؤتمرات والندوات التي جرت في الأشهر الثلاثة الماضية أتيح لي اللقاء بعدد من المسلمين في أمريكا، وهم من الجيل الثاني والثالث، والذين لا يجيدون العربية أصلا، وتوافقت آراؤهم على أن أمريكا الآن في أجواء أشد سوءا من أجواء الحادي عشر من سبتمبر، وأن أبناءهم (الجيل الرابع) يشعرون أنه يجب عليهم أن يختاروا حتما بين الإسلام وبين أمريكا.
هذه الأوجه الثلاثة من الخطابات التي تصدرها البيئة السياسية والأكاديمية والإعلامية الغربية تجاه قضية واحدة هي قضية المهاجرين، لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء التوظيف السياسي، وهو توظيف سياسي نفعي برجماتي لأنه علماني أساسا، لا يستند إلى نص مقدس أو أخلاق ثابتة، إن مفهوم القداسة نفسه هو ضد مفهوم العلمانية، ومفهوم الأخلاق لا معنى له إذا لم تكن الحياة إلا ظاهرة مادية.
يحتاج الأمر مقالا آخر لفهم مسألة اللاجئين والنزوح الإنساني في تجربة الحضارة الإسلامية، لكن لكي تكتمل الصورة فنحاول إيجاز القول إلى أن يأذن الله بتفصيل هذا الموضوع.
منذ الإخاء بين المهاجرين والأنصار في المدينة كانت تجربة الحضارة الإسلامية في التعامل مع المهاجرين متميزة، وذلك لأن الأساس الذي استندت عليه هذه التجربة هو أساس ديني يكتسب القداسة من خلال النصوص الدينية المقدسة لدى معتنقيه، مما يُضَيِّق كثيرا جدا إمكانية التوظيف السياسي ضد المهاجرين والنازحين، ويُثَبِّت قضيتهم باعتبارها قضية إنسانية أخلاقية سابقة على أي اعتبار آخر (انظر هنا لمزيد بيان لهذه النقطة).
كذلك فإن التجربة الإسلامية الحضارية في تنظيمها الاجتماعي أنتجت توازنا بين السلطة والمجتمع، بحيث لم تعد السلطة مسؤولة وحدها عن إدارة الأزمات وتقع عليها حصرا أعباء استيعاب المهاجرين، بل إن النشاط الاجتماعي الوافر ومؤسسات المجتمع التقليدية الفعالة بطبيعتها تسارع إلى تحمل هذه المسؤولية بدوافع دينية أخلاقية مبدئية، وهذا أيضا يُضَيِّق إمكانية التوظيف السياسي لورقة المهاجرين باعتبارها أداة للضغط والمساومات.
لهذا فقد كانت التجربة الحضارية الإسلامية -منذ الإخاء الأول بين المهاجرين والأنصار مرورا بأزمات النزوح من الأندلس والبلقان والهند والاتحاد السوفيتي وانتهاء بالنازحين السوريين والروهينجا وغيرهم- متميزة في القدرة على استيعاب المهاجرين والإحسان إليهم وسرعة اندماجهم في المجتمعات البديلة، وربما نستطيع القول بأن أية صعوبات معاصرة في هذا الملف فإنما هي حصرا مسؤولية التنظيم الدولتي السلطوي الذي يتعلق بأداء السلطة لا بأداء المجتمعات.
بل إن التجربة الإسلامية شهدت العديد من حالات استيعاب غير المسلمين النازحين، بل والمحاربين، وتحتفظ وثائق الحروب الصليبية بنماذج متميزة لأوروبيين قدموا محاربين وفشلت الإمارات الصليبية في استيعابهم فلم ينقذهم من المجاعة والمرض إلا المجتمعات المسلمة مما أدى بكثير منهم إلى الدخول في الإسلام، وهو ما سجلَّته نداءات الآباء في الشرق "لقد أعطوهم الخبز وسلبوهم دينهم".
ولعل هذا الموضوع يكون حديثا مستقلا فيما بعد إن شاء الله.
نشر في الخليج أون لاين 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 15, 2019 07:10

May 13, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (14) بايعت الشيخ عبد الله السماوي بعد أول خطبة


مذكرات الشيخ رفاعي طه (14)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
بايعت الشيخ عبد الله السماوي بعد أول خطبة سمعتها له
·        ضابط أمن الدولة في الجامعة يتنكر في صفة طالب وعضو بالجماعة الدينية بالجامعة!·        كان الشيخ عبد الله السماوي لنا مثلما كان الشيخ حازم أبو إسماعيل لكم!·        لم يكن للجماعة الدينية نشاط في الجامعة، اللهم إلا صلاة الجماعة!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة  (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار – (13) قصتي مع اليسار في الجامعة
وأما تعرفي على الجماعات الدينية في الجامعة فقد كان اجتهادا مني، وكان البحث عنهم أمر يغلب عليه الظن لا اليقين، أو كما يسمونه الاجتهاد الغالب، لقد كانت هذه المجموعات الدينية كما يبدو تابعة للجامعة أو لأمن الدولة، أو لا بد أن يكون بعض عناصرهم على الأقل موجودا في هذه المجموعات الدينية لسبب ما، ولست أدري على وجه اليقين الآن ما إن كانت الفكرة الرائجة يومها أن الجماعات الدينية مُشَكَّلة أصلا بيد إدارة الجامعة أو الأمن أم أنها تتشكل لكن لا بد أن تكون مخترقة أو مُوَجَهَّةً بيد هؤلاء؟!
وقد كنتُ ذكرتُ أن هذه المجموعة الدينية كان يغلب عليها النمط الصوفي، وهو اتجاه لا مشكلة عنده في التعامل المباشر المفتوح مع إدارة الجامعة أو أجهزة أمن الدولة، بل إني تعرف على ضابط مهم في أمن الدولة من خلال هذه المجموعات، كان اسمه الحركي: عادل، وقد اكتشفت أنه ضابط فيما بعد، أتذكره جيدا كان يربي مقدمة لحيته (نسميها في مصر: سكسوكة) وكان يأتي إلى الجامعة كأنه طالب في كلية التجارة، وأتذكر نقاشا جرى بيننا بشأن وقف الحرب أو السلام الذي يروج له السادات، وقد كنا ساعتئذ نهاجم هذا السلام ونهاجم السادات أيضا، وكان أصل النقاش قد ابتدأ بينه وبين أحمد كمال، وأحمد كمال هذا زعيم طلابي يساري مشهور وقتها، ومن كان في مثل سني الآن فهو يتذكره قطعا إذ كان واسع الشهرة في ذلك الوقت، وقد احتد الجدل بينهما حتى دخل إلى تبادل الشتائم، ثم ما لبث أن صاح فيه أحمد كمال: من أنت أصلا؟ أخرج لي هويتك؟ أغلب الظن أنك ضابط أمن دولة أو ما شابه..
ولما انتهى الحوار بينهما قلت لأحمد كمال: كلامك غير منطقي، كيف تتهم زميلنا الطالب بأنه ضابط أمن دولة؟! فأشار إلي إشارة من يريد إسكاتي وفي عينيه نظرة رثاء لسذاجتي وقال: اسكت.. اسكت يا حاج! (وكلمة "حاج" في هذا الموقف تعبير عن التدين الساذج).
لكن لم يلبث أن صحَّت فراسة أحمد كمال (أو صحَّت معلوماته) إذ ما هي إلا أسابيع أو أشهر إلا وأُخِذْت مع مجموعة اليساريين إلى أمن الدولة، ولا أتذكر الآن ما السبب الذي لأجله جرى اقتيادنا، لكني أذكر أني وجدت هذا الضابط هناك، وبادرني بالقول: كيف حالك يا رفاعي؟!.. أنت رجل طيب!
فسألته: حيث أنك ضابط أمن دولة فما حكاية عادل هذه؟ فضحك وقال: ها أنت قد عرفت الحكاية! بل ورأيتها رأي العين!!
واكتشفت في تلك الزيارة أنه ذو ثلاثة أوجه، وجه الطالب في كلية التجارة، ووجه عنصر الجماعة الدينية الصوفي الطيب الذي يراقبها ويتابعها ويوجهها، ووجه الطالب المشاكس للتيار اليساري في الجامعة.
اقتصر النشاط مع الجماعة الدينية على مجرد الصلاة جماعة، والتعارف فيما بيننا، لم يكن ثمة نشاط يذكر، فليس ثمة رحلات أو نزهات أو حتى جلسات قرآن أو طلب علم، وكنت بطبعي نافرا من نشاط الرحلات هذا، ولقد قضيت السنوات الخمس في الجامعة فلم أخرج إلا مرة واحدة في رحلة، وإنما غاية ما قد يُسَمَّى نشاطا أن ننظم معرضا للكتاب في الجامعة، نأتي بكتب إسلامية ونبيعها، وما سوى ذلك خمول.
لكن الذي استهواني أولئك الوافدون على الجامعة مثل الشيخ عبد الله السماوي.. ولهذا قصة!
ذات يوم في الإجازة بين السنة الأولى والثانية نَظَّم اتحاد الطلاب في كلية التربية بجامعة أسوان معسكرا طلابيا في الصيف، مثله مثل سائر المعسكرات التي توسعنا فيها فيما بعد، تكون فعالياتها أنشطة تربوية، الصلاة والصيام ودروس يلقيها بعض المشايخ الذين يأتون بهم إلينا، وفي هذا المعسكر تعرفت على طالب معنا في كلية التجارة جامعة أسيوط، اسمه عبد التواب طه أحمد وكان هو من أسوان، واندهشت لأنه معي في الكلية ولست أعرفه ثم اتضح أنه كان يسبقني بسنة.
وفيما نحن في التعارف قلت له: أنا صوفي. فتجهم قليلا وقال: لا، دعك من الصوفيين، إنهم سيئون.
ثم تعرفت في نفس هذا المعسكر على أخويْن آخريْن سيفيدان كثيرا فيما بعد في العمل الإسلامي، الأول: أبو بكر محيي الدين بلال، والثاني: أحمد الزيات، وهذا الأخير هو أخو منتصر الزيات (المحامي الإسلامي المعروف)، والأول نسيبهما، وهكذا ابتدأت علاقة ستتطور بيني وبين هؤلاء الثلاثة من ذلك الوقت.
حين ابتدأت السنة الثانية وعدت إلى أسيوط، بدأت أصلي في مسجد الجمعية الشرعية، ولم أتذكر أو أفكر في أن ألقى عبد التواب، ولكني في هذه الجمعة وجدت على المنبر خطيبا جديدا، طويلا جسيما، أبيض ذا شعر أسود جميل ولحية سوداء جميلة، وثيابه بيضاء جميلة، وكان خطيبا مفوها، أذكر من خطبته تلك قوله: تقولون نأكل عيشنا؟! ألا فلتأكلوا برسيما!
فتعجبت منه، أعجبني أولا شكله ثم خطابته وأسلوبه، وما إن انتهت الصلاة فجلست حتى تحلق حوله بعض الشباب، فذهبت إلى هذه الحلقة فإذا بي أجد فيها عبد التواب طه رفيق المعسكر في أسوان! فسَلَّم علي بحرارة فسألته: هل تعرف هذا الشيخ؟
فقال يتيه عليّ: أعرفه وأعرف كذا وكذا، ثم أخذني من يدي فسلَّمنا عليه وعرفني به، ثم قال: لا بد أن تأتي هنا عصر اليوم، سنكون معا في بيت أخ طبيب يجتمعون في بيته، وسأذهب معهم، وقد كان، وفي هذا المنزل وهذا اللقاء بايعتُ الشيخ عبد الله السماوي!
كان الشيخ في ذلك الوقت شابا نشطا لا يزيد عمره عن الثلاثينات أو حتى في أواخر العشرينات، كان قويا شديدا صلبا، وكان شاعرا متميزا لا يشق له غبار، وكان خطيبا فصيحا مفوها آسرًا، أقوى ما يميزه قوة شخصيته التي تأسر سامعه، فلو أني أردت أن أقربه لك لقلت: كان الشيخ السماوي لنا مثلما كان الشيخ حازم أبو إسماعيل لكم!
كنا منبهرين به، ملتفين حوله، وقد كان دائب الحركة واسع النشاط دائم التجوال على كل جامعات مصر تقريبا، يدعو فيها إلى الله، فما هو إلا أن يرتب له بعض الطلاب حتى يحضر ويحاضر، سواء أكانت الدعوة من اتحاد الطلاب أو الطلاب النشطين، وكانت الجامعة يومذاك في حرية تسمح للطلاب باستقدام واستضافة المشايخ، فما هو إلا أن تُكَوِّن أسرة وباسمها تستقدم الشيخ، ولم تكن ثمة قيود كما صار فيما بعد.
فمن هاهنا صرت واحدا من مجموعة الشيخ عبد الله السماوي، بايعته ثم كنت عضوا فاعلا في هذه المجموعة، ولم يحتج الأمر مني إلا هذه الخطبة الأولى وهذا الزمن بين صلاة الجمعة وصلاة العصر حتى أنتقل من كوني أجهله تماما إلى بذل البيعة له!!
لقد كانت خطبة جليلة مؤثرة، كان يخطب في مسألة الدولة والمقاومة، لماذا الخوف؟ لماذا يقول الناس: نخاف لنأكل العيش؟ ما أشبه هذا بحال البهائم إلا أن البهائم تأكل البرسيم، بل إن هذه المرتبة أحط من مرتبة البهيمة إذ ليس مطلوبا من البهيمة فوق أنها مسخرة للخدمة، أما الإنسان فمؤهل لما هو فوق ذلك ومُكَلَّف بما هو فوق ذلك، وتلا قوله تعالى {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل}، وكيف نخشى الناس ونخشى أعداء الله والله أحق أن نخشاه، وهو الذي يجب أن نتوكل عليه ونعتصم به.. وهكذا!
لمست هذه الخطبة قلبي، قد كانت مثل هذه المعاني قديمة الرقاد في قلبي –كما حكيت سابقا عن مرحلة الثانوية- وأحببت هذا الأسلوب، شعرت به يعبر عما في نفسي، إنني أريد قول هذه المعاني لكن لا أستطيع التعبير عنها في ألفاظ، نعم، لماذا لا يثور الناس؟ لماذا لا يُغَيِّرون ما هم فيه؟ لم الناس هكذا وهكذا... إلخ!
ويمكن أن نمدّ الخط على استقامته، إذا نشدنا التغيير فلا بد من جماعة بل وجماعة قوية، ولكي تكون الجماعة قوية فلا بد لها من بيعة، بيعة كالتي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من الأصحاب ومن الأنصار، ولما كان ميثاق البيعة قويا كان هذا سر قوة هذه الجماعة وسر بسالتها ومقاومتها الظلم والاستعباد، وهكذا دخلنا في المجموعة!
إلا أننا ما لبثنا أن خرجنا منها.. أما لماذا؟ فهذا ما نتركه للحلقة القادمة إن شاء الله.
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 13, 2019 14:08

May 10, 2019

طبيعة ودوافع الأوقاف العثمانية بالقاهرة


استعرضنا في المقال الماضي كيف أن الأوقاف العثمانية في البلاد العربية (والتي اتخذنا مصر كمثال لها) هي أبرز الأدلة على أن الحكم العثماني لم يكن احتلالا أجنبيا كما تريد بعض القطاعات أن تُرَوِّج في هذه الأيام، وضربنا المثل على ذلك بالأوقاف التي أنشأها الولاة في نصف القرن الأول من الحكم العثماني، وفي هذه السطور نحاول فهم خريطة الأوقاف التي أنشأها أولئك الولاة.
كانت أوقاف الولاة العثمانيين ضمن الأوقاف التي تشرف عليها السلطة، إذ "كانت تخضع حساباتها لإشراف من القضاة أو من ديوان محاسبة الأوقاف الكبرى، كما كان الغالب أن ينصب الناظر على هذه الأوقاف بتذكرة ديوانية من الديوان"وبالنظر في تواريخ الأوقاف وطبيعتها تتبدى لنا بعض الملامح العامة التي تكشف عن طبيعتها ودوافعها، من أبرزها:
1. يبدو بأدنى نظر أن أوقاف الولاة كانت ظاهرة عامة، ذلك "أن معظم ولاة مصر قد شيدوا لهم أوقافا، وسواء كان ذلك من أجل زيادة الهيبة الاجتماعية أو لتخليد الذكرى أو لنفع اقتصادي، فالمُلاحَظ عظم أوقاف الولاة بصفة عامة، حتى أن بعض أوقاف الولاة كوقف خاير بك كان أكبر من أوقاف بعض السلاطين، وكذلك التنوع في موقوفات الولاة وتوزعها بين الحضر والريف باستثناء وقف سليمان باشا، وبين الوجه القبلي والبحري، للحفاظ على سيولة واستمرارية عائد الوقف"2. تقل الأوقاف التي أنشأها الولاة في زمن الاضطراب الذي وقع بعد وفاة خاير بك، ثم في آخر عهد السلطان سليمان القانوني، بينما تكثر وتزدهر بقوة ووضوح في عموم عهد السلطان سليمان، ويتضح هذا في الوصف المتكرر للوالي بأنه كان محبا للعمارة أو كان محبا للخير ومن أهل الصلاح، ونحو هذا من الأوصاف كما مرَّ آنفا.
وهنا يبدو واضحا العلاقة القائمة بين الأحوال السياسية وأحوال الأوقاف التي تشرف عليها وتنشئها السلطة، وتتميز الفترة التي نبحثها في هذه الورقة باستقرار الوضع السياسي وقوته، وهو ما انعكس على قوة الأوقاف واتساعها، حتى أطلق عليها البعض "الفترة الذهبية لهؤلاء الولاة" حيث لم تكن "تنقصهم القوة أو السيطرة على مجريات الأمور"ونجد هذه فرصة لتوضيح إشكالية جاءت في وصف لعلي مبارك عن الأوقاف العثمانية، فقد قال عن الولاة العثمانيين: "اهتم بعضهم في عمارة بعض الجوامع وبنى بعضهم وكائل في القاهرة وبولاق وبنى داود باشا مدرسة في سويقة اللاله سنة خمس وخمسين وتسعمائة وبنى إسكندر باشا جامعا وأنشأ عمارة عظيمة في باب الخرق (باب الخلْق)... وأوقف كل منهم أوقافا دارَّة على عمارته لأجل بقائها عامرة، لكن كان من عادتهم أن كل من أراد وقف شيء أخذ من وقف غيره ووقفه باسمه أو نهب ما بأيدي الناس ووقفه، فلذلك لم تستمر بعدهم بل أخذت تلك الأوقاف في التقهقر والخراب حتى صارت بعضا من كل وقلّ إيرادها فاختل لذلك بعض تلك العمائر"في هذه الفقرة إجمالٌ يُفضي إلى توهم بأن الولاة المذكورين هنا كانوا من أولئك الذين استولوا على أوقاف سابقيهم ونهبوا ما كان بأيدي الناس، والواقع أن هذا فهم خاطئ جاء من الاختصار، ذلك أن البحث في التفاصيل يؤدي إلى أن ذلك إنما كان في فترة ضعف السلطة العثمانية، وهي فترة تالية للفترة التي نتناولها في بحثنا هذا، فبالتنقيب في مصادر أوقاف الولاة العثمانيين الذين نتعرض لهم هنا اتضح الآتي: "جزء كبير من الموقوفات قد آل إلى الولاة نتيجة الشراء من أطراف أخرى مما يوضح مدى ثراء هؤلاء الولاة حتى قبل مجيئهم إلى مصر، ولكن جزءا لا يستهان به من أوقاف الولاة ولا سيما الأطيان الزراعية قد آل إليهم بطرق أخرى مثل حق الوالي في الرصد من بيت المال على جهة ما، بصفته نائب الإمام، وتوسع بعض الولاة في هذا الحق مثل خاير بك الذي بلغت مساحة إحدى الرزق التي رصدها من ضمن ما رصد 400 فدان قطعة واحدة"3. حصلت العمارة الدينية على معظم الأغراض التي أوقف الولاة لأجلها أوقافهم، فهي بين المساجد والزوايا والتكايا والقباب للأولياء الصوفية، وهذا مفهوم من ولاة يُحاولون التقرب إلى الرعية وإحراز الذكر الحسن بعد وفاتهم، ومن أبلغ ما يُقال في هذا ما ذكره ابن أبي السرور البكري عن خاير بك حيث قال: "ومُحَصِّله مساويه أكثر من محاسنه، وليس له من المحاسن غير وقفه المعلوم بباب الوزير ووقفه على المحيا بالجامع الأزهر"وينبغي أن نذكر أن ذلك العصر كان من عصور ازدهار التصوف وكثرة الطرق والأولياء المتصوفين، وقد شاع في كتب التراجم والطبقات لتلك الفترة الحديث عن الكرامات والخوارق التي تحدث للأولياء، وذكرت بعض تلك المصادر المكانة التي حازها بعض الأولياء عند العامة وعند رجال الدولة4. كذلك فقد انتشر في أوقاف الولاة أن يوقف الوالي على نفسه طيلة حياته ثم بعد وفاته لجهات خيرية أو بصفة غالبة على ذريته، ويشترط في الوقف أنه إذا انقرضت ذريته أن يؤول ريع الوقف إلى عتقائه ثم عتقاء ذريته، أو يشترط اشتراك ذريته مع جهات خير في ريع الوقف5. ومن أهم ما ينبغي إيراده هنا أن بعض الموارد التي أوقفت على المنشآت في مصر كانت في الحجاز أو اسطنبول، كما في أوقاف خاير بك وسليمان باشا. أي أن مصر كانت تستفيد من أملاك أولئك الولاة التي هي خارجها، وهذا بحد ذاته أهم ما يَرُدُّ على فكرة الاحتلال العثماني وأنه أراد استصفاء مصر لحساب المركز في الآستانة، كما يرد على مسألة الشعور القومي في العصر العثمانيولئن شاء الله وقدَّر، فسنرى في مقال قادم كيف كانت آثار هذه الأوقاف على أحوال القاهرة وكيف أثرت في توسعها العمراني وفي تقوية نسيجها الاجتماعي وغير ذلك من آثار حميدة افتقدناها مع عصر دول التفرق والتمزق المعاصرة.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991م)، ص84. محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص217. حمزة عبد العزيز بدر، أنماط المدفن والضريح في القاهرة العثمانية (1517 – 1805م)، رسالة دكتوراة في قسم الآثار الإسلامية بكلية الآداب جامعة سوهاج، 1989م، ص23. علي مبارك، الخطط التوفيقية، 1/56. محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص218. محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص218، 219. ابن أبي السرور البكري، الكواكب السايرة في تاريخ مصر القاهرة، مخطوط بمكتبة الإسكندرية، رقم 1 0045، (alkwakeb alsa2era) لوحة 41. (رابط المخوطة) انظر: المناوي، الكواكب الدرية، 3/397. انظر: المناوي، الكواكب الدرية، 3/314. محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر العثمانية، ص220. محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر العثمانية، ص132.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 10, 2019 06:37

May 9, 2019

محنة العلماء ومحنتنا في العلماء.. كيف نفعل؟


قال عمر بن الخطاب لزياد بن حدير: أتعرف ما يهدم الدين؟ قال: لا. قال عمر: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحُكْم الأئمة المضلين.
وقد شهدت السنوات الماضية من المحن والزلازل العامة في الأمة ما جعل كثيرا من الرموز تتساقط من بعد ظهور، وتنطفيء من بعد إشراق، وتصير موضع الذم والنقمة من بعد ما كانت تُفدى بالأرواح والأموال، حتى صار من أكثر ما يصلني من الأسئلة سؤال: لمن نسمع من المشايخ؟
ومع أن كثيرا ممن سقطوا لديهم من العلم والمعاني ما لا غنى عنه إلا أن عموم الناس لا يستطيع أن يفرق بين مقام الاستفادة ومقام الاقتداء، فالغالب على الناس أنهم ينتمون لمن يثقون به، ولا يحبون ولا يقبلون له أن يسقط فيما يسقط فيه غيره، ومن هنا كانت مكانة العلماء ومقامهم إنما تُسْتَحَقّ بما هم عليه من العمل بما لديهم من العلم.
ولذلك كانت مواقف العالِم أشهر وأظهر وأذكر من أكثر علمه، وإن أغلب العلماء المشاهير في تاريخنا الإسلامي الذين خلد علمهم إما كانوا في مواجهة ظلم السلطة ومنهم من قضى قتيلا أو أسيرا، وإما كانوا منصرفين عن أبواب السلاطين مستغنين عن الورود عليهم وحضور مجالسهم، حتى صار من عادات كتب التاريخ أن تشيد بالعالِم وتذكر موقفه من السلطان، وأن تزري بمن كان على غير ذلك.
وقد لاحظ المستشرق الأمريكي مايكل كوك، صاحب أوسع دراسة عن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي" أن مؤرخي التراجم يهتمون بإيراد وقائع مواجهة السلطان أكثر من اهتمامهم بتفصيل واقعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي بدأت بها هذه المواجهة، ذلك أن "المواجهات مع السلطان عند كُتَّاب السِّيَر وقائع جديرة بالاهتمام في ذاتها، تُضفي علي شخصياتها هالة ساطعة"وصرت إذا سُئلت: لمن نسمع بعد هذا السقوط المريع؟ أجيب: إن هذه المحن بقدر ما أسقطت كثيرا بقدر ما كشفت عن معادن أخرى أصيلة، أولئك الذين ستجدهم في الشهداء أو الأسرى أو المنافي، وكان أول ما يخطر على البال منهم: الشيخ الكبير الجليل والأسير البصير حازم أبو إسماعيل.
من الناس من عرف الشيخ حازما داعية وحسب، ومن الناس من عرفه سياسيا فحسب، وقليلٌ من عرفوه في وجهيه: الداعية السياسي، والواقع أنه من الظلم أن يُقتصر في معرفة هذا الرجل الكبير على أحد هذين الوجهين، إذ لا تكافئ عبقريته في فهم السياسة وألاعيبها ومشهدها الحافل بالمخادعات والمناورات إلا عبقريته في استخلاص المعاني الروحية والإيمانية والفكرية من القرآن والسنة، وهو من الدعاة النادرين الذين يتوازن في خطابهم مطلب العقل والفكر مع مطلب النفس والروح، ثم هو يصوغ هذا كله في عبارة بسطية سلسلة مفهومة لأبسط الناس، وبهدوء يُغبط عليه!
لقد كان للشيخ حازم اليد العليا في تغيير مسار الثورة المصرية، فمن قبله كان أقصى طموح الإسلاميين أن يحوزوا ثلث مقاعد البرلمان فلا هم سينافسون على رئاسة ولا حتى على أغلبية برلمانية، ثم سارت بهم ألاعيب العسكر نحو تطويل الفترة الانتقالية التي أوشكت أن تُصَفِّي الثورة، ولولا حازم وما حققه من شعبية كاسحة في وقت مذهل ما أمكن إلزام العسكر في مصر بموعد تسليم السلطة (التي حددوها بعد تهديده الشهير في أحداث محمد محمود الذي كانت شرارتها مظاهرة دعا إليها بعنوان: جمعة المطلب الوحيد تسليم السلطة)، ثم إنه بترشحه للرئاسة وشعبيته الجارفة التي لم يكن له فيها منافس إنما كان السبب في تمهيد الطريق للرئيس الإسلامي، ولولا ذلك لكان مصير ثورة مصر كمصير ثورة تونس: إعادتها من جديد للنظام القديم وبشرعية كاملة!
اجتمع في حازم أبو إسماعيل ما تفرق في غيره، حتى كان كل طيف إسلامي يرى فيه شبها منه، إذ لديه العقل الحركي الإخواني، والسمت الظاهر السلفي، والروحانية الصادقة الصوفية، والرقة الدعوية، والثورية الجهادية، مع دقة قانونية وعقل نخبوي منظم، وكان فوق ذلك كله حصيفا يمزج كل هذا ببعضه فلا ينفر منه أحد من هؤلاء على ما بينهم من الخلافات ومناطق الاحتكاك.
ولئن كان هذا قد ظهر بقوة في مساره السياسي القصير بعد الثورة، فإن هذا نفسه لا زال حاضرا في مواده الصوتية والمرئية، وقد قامت مجموعات من الشباب بجمع تراثه المسموع والمرئي فأنجزوا بهذا عملا جليلا، وزادوا على ذلك خدمةَ بعض المواد بتفريغها كتابة وتحويلها إلى جرافيكس ونحوه (اضغط هنا)، وأزعم أن الذي سيستمع إلى هذا الإنتاج فإنه سيجد كلاما جديدا ومعاني لم يسبق أن وجدها عند أي داعية آخر.
ومن هذه النافذة فإني أحب أن أوجه نداء لمن يستطيع من الشباب، أن تنشأ منصة إلكترونية تجمع أعمال العلماء والمشايخ الأسرى، وكم في سجوننا العربية من أفذاذ كبار، وهذه السجون تحبس أجسادهم كما تحبس علومهم أن يُنتفع بها. وأحسب أن هذه المنصة ستوفر غناءً لأغلب الشباب وعموم الناس الذين يعانون من الصدمة في كثير من المشايخ، حتى إن كثيرا منهم انزلق وانحرف كثيرا.
لئن كان بعض أولئك المشايخ سببا في انحراف كثيرين بما كان لهم من الشهرة والتصدر، فيجب أن يكون ثمة مجهود مقابل يشير إلى أولئك العلماء والمشايخ الثابتين الصامدين الذين لم يبيعوا دينهم وفضَّلوا أن يقاسوا التعذيب والسجن، فأولئك هم أسباب الثبات والصمود لعموم الناس وللشباب الذين لم يفقدوا بعدُ إيمانهم.
هذه المنصة قد ينبثق عنها مجلة إلكترونية، وإذاعة على الانترنت، وربما قناة فضائية أيضا (فلا تعدم الأمة منفقين في وجوه الخير ومتطوعين لحمل هذا العبء) ستمثل بابا من أبواب الحفاظ على الدين وتثبيت الشباب وهداية الناس وإظهار الوجه الحقيقي لعلماء الإسلام، كما ستمثل نافذة لأصوات العلماء الأسرى الذين لا يملكون أن يتكلموا!
وهي في النهاية حديقة غناء باسقة مثمرة، فكيف ببستان يجتمع فيه حازم أبو إسماعيل وصلاح سلطان وعبد العزيز الطريفي وإبراهيم السكران وسفر الحوالي وسلمان العودة ومحمد موسى الشريف وعوض القرني ووليد الهويريني وعلي العمري وحسام أبو البخاري وغيرهم ممن حيل بينهم وبين الأمة؟!
أسأل الله أن يجد هذا النداء من يستجيب له فيكون عملا صالحا في ميزان صاحبه أبد الدهر.
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 09, 2019 02:28

May 1, 2019

قصة قسطنطين صروف


روى الطبيب السوري إياد الأسعد قصة سجنه الطويل في سجن تدمر السوري الرهيب الذي هو رمز السجون العربية المعاصرة، والسجون العربية هي الشاهد الأمثل الأوضح على هذه الحقبة العربية السوداء. وقصة إياد الأسعد خرجت للجماهير في رواية "يسمعون حسيسها" للروائي الأردني أيمن العتوم الذي تولى هذا الأمر.
ومن بين مشاهد القصة لا أحسب أن قارئا قد ينسى قصة قسطنطين صروف!
إنه مسيحي شيوعي، وكان قياديا بالحزب الشيوعي، إلا أن أباه كان قد أيقن أن اللغة العربية ترفع صاحبها، فأرسله إلى الكُتَّاب صغيرا فحفظ القرآن، ولما كبر درس العربية فأتقنها، فإذا هو فصيح اللسان حاد الذهن فضلا عن طبع مرح وروح متعاونة!
وحيث كانت المصاحف والأقلام والدفاتر ممنوعة في السجون، تولى حُفَّاظ القرآن تحفيظ من شاء من المساجين، ولم يكن في ذلك المهجع (الزنزانة الكبيرة) من يستطيع منافسة قسطنطين صروف ولا حتى مقاربته، وكان يعرض خدماته قائلا: "مين بدّو ياخد السند مني؟!".
وفيما تحرج كثيرون من المسلمين أن يحفظوا القرآن على يد غير مسلم، اضطر آخرون أن يأخذوه عنه لقلة البدلاء ولكفاءته، وكان أشهر تلاميذه: عامر الزعيم. وعامرٌ هذا له قصة أخرى، إذ هو من عتاة المجرمين وقد كان عريقا في الإجرام: قتل وسرق وزنى وسكر وتاجر في المخدرات، إلا أنه وبدافع الحمية حاول تهريب برميل مازوت إلى داخل حيِّه المحاصر ليعين المخبز الوحيد الذي يتعيش عليه الناس الذين يتضورون جوعا ويشرفون على الموت، فاعتقل واتُّهم بأنه قائد تنظيم الإخوان في هذا الحي، ونزل سجن تدمر.
كان عامر بليدا لا يستطيع الحفظ، لم يتمكن أن يحفظ خمس آيات من سورة طه (وآياتها قصيرة) حتى صار يحفظ آيتين فآيتين، وبدأ الطريق ينفتح له حتى أتم حفظ سورة طه بعد ثمانية أشهر (وهو زمن طويل بالنسبة لهذه السورة السهلة لا سيما لمسجون يكاد أن يكون متفرغا)، وربما احتاج ليردد اللفظ الواحد مائة مرة كي يستقيم في لسانه، إلا أنه مع الصبر والدأب والإصرار أتم حفظ القرآن كله، على يد شيخه المسيحي الشيوعي: قسطنطين صروف.
ثلاثة آخرون من الحُفَّاظ في المهجع استنكروا أن تكون له حلقة، إذ كيف يؤخذ القرآن عن مسيحي شيوعي، لكن لم يكن ثمة رفاهية لتطوير الخلاف في السجن الرهيب، فحَكَمَت ظروف القهر والاضطرار أن يبقى رابعهم في تحفيظ القرآن، وكان مما يتميز به على سائرهم أنه –وياللعجب!- يحفظ القرآن بأكثر من قراءة، ما دفع صاحبنا الراوي أن يعتقد أنه مسلم في السر! سيظل لغز إسلام قسطنطين صروف بلا حل، حتى لحظة وفاته، فقد كان يتهرب من الجواب فلا هو يثبت ولا هو ينفي.. لا هو يحضر الصلاة مع المصلين ولكنه يحرك شفتاه عند الصلاة كهيئة الذي يصلي! اللهم إلا مرة واحدة: وقف إلى جوار الصف في صلاة الجنازة على شقيق صاحب التجربة: إياد الأسعد، فقد كان أخاه معتقلا أيضا في تدمر ثم أُعْدِم ولم يستطع أحدهما أن يقابل أخاه رغم تجاورهما في الزنازين!!
بعد قليل كان قسطنطين قد زاد أصحابه مفاجأة أخرى: إنه يحفظ المُعَلَّقات (وهي قصائد طويلة من الشعر الجاهلي تزيد الواحدة منها عن مائة بيت، وهي في صدر البلاغة العربية). هذا وهو في السبعين من عمره!!
كانت له حلقتان في اليوم، الأولى بعد الفجر حتى الإفطار والثانية من السادسة حتى موعد النوم، وقد حافظ عليهما بلا كلل ولا ملل طوال السنين التي قضاها مسجونا، وبعد خمس سنوات حفظ القرآن كاملا أربعة على يد قسطنطين، فضلا عن خمسين حفظوا منه، وهذا مع استنكاف عدد من الإسلاميين أن يأخذوا القرآن عنه إذ كيف يكون في سندهم إلى النبي وجبريل رجل مسيحي شيوعي؟!
كان هارون تلميذا لقسطنطين، قضى ليلته في قراءة سورة البقرة غيبا على شيخه المسيحي، حتى وصل إلى قوله تعالى (ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتا، بل أحياء ولكن لا تشعرون)، فما هو إلا أن طرق الباب جندي فنادى اسمه، ثم ساقه إلى الإعدام في ساحة تدمر!! شَعَر قسطنطين بالفجيعة، ذلك أنه هو الذي ألزمه بالقراءة عليه في هذه الليلة، فحسب في لحظة الهول والذهول أنه قد يكون مسؤولا بذلك عن اختيار لحظة موته!
في مرة أخرى كان تلميذه وليد يقرأ عليه سورة المؤمنون، لقد حفظ عليه يديه ثمانية عشر جزءا إذن، إلا أن وليدا ما إن وصل إلى قوله تعالى (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) حتى توقف ولم يستطع مجاوزة الآية! استغرب قسطنطين وسأله، قال وليد: الآية تقول لي أن الموت صار قريبا مني. وما هي إلا ساعات حتى نودي اسم وليد للإعدام!.. بقي قسطنطين بعدها عشرة أيام صامتا لا يُكَلِّم أحدًا!
فيما بعد، ونظرا لظروف السجن القذرة، أصيب قسطنطين بالتيفود، وأخذ يذبل ويذوي ويضمر وينحف وتأكله الآلام رويدا رويدا حتى مات كأول مصاب بهذا المرض وهو في الثمانين من عمره، عمَّ الحزن على الجميع لكن وقع معه آخر خلاف في شأنه: هل نصلي عليه أم لا؟ ثم صلى عليه خمسة كان إمامهم صاحب الرواية الذي كان يرجح أنه مسلم.
إنها قصة واحدة من ملايين القصص التي تُكتَب في أدغال الزنازين وكهوف القهر وأقبية الذل، وشبيهاتها كثير، ولأن سجون بلادنا في هذه الحقبة مُعَدَّةٌ للصالحين فكم ضمَّت بين جدرانها علماء وفقهاء ومفسرون وحفظة، إلا أني لم أقصد من إيراد هذه القصة إضافة مقال جديد في بيان نكبتنا وحسرتنا الحالية، بل قصدت إلى غرض آخر.
هذا الإنسان مكنوز بالطاقات، إلا أنها لا تتفجر إلا تحت إلحاح قوي من الرغبة أو الرهبة، فلقد قصد والد قسطنطين أن ينيل ابنه مقاما رفيعا في الدنيا بتعلمه القرآن والعربية، كانت رغبته قوية حتى جعلت ولده مثالا في حفظ القرآن على مسيحيته وشيوعيته، كذلك كانت رغبة "الزعيم" في الحفظ مع بطء حفظه وعسرة لسانه واعتياده على حياة لا موضع فيها للقرآن.
هذه أيام شهر رمضان قد أقبلت، وهي أيام القرآن التي يكثر فيها تلاوته وإذاعته وسماعه، والجدير بالمسلم الذي يرجو ثواب الآخرة أن يكون له من الرغبة والطموح والهمة ما يجعله حريصا على القرآن حفظا وتلاوة وسماعا، وفهما أيضا.. بل هذا الفهم والتدبر هو المقصود الأول من كتاب الله، فإنه كتاب هداية.
وهذه أيام عصيبة عسيرة على الأمة كلها، ففي أقصى الشرق يُعذَّب المسلمون في تركستان الشرقية، وحتى الغرب يواجه المسلمون مؤامرة على ثورتهم في الجزائر، وما بين المشرق والمغرب طيف متصل من المآسي والعذاب، وتوشك هذه الأيام أن تطالعنا بصفقة القرن المنتظرة، ومن ثَمَّ فليس للمسلم في أيام المحن القادمة إلا أن يمتلئ عقليا ونفسيا، فكريا وروحيا، من كتاب الله تعالى، عسى الله أن يهديه به في ظلمات الفتن فلا يسقط فيها ولا يضل.
وأولى بالمسلم أن يستفزه ويثير حميته أن قد حفظ القرآن قبله رجل مسيحي شيوعي لغرض من أغراض الدنيا، ورجل كان عريقا في الإجرام لا يعرف للقرآن طريقا بل يعسر عليه التلفظ به. وما تيسر لهما هذا إلا بصدق الهمّ وعلو الهمّة.
نشر في الخليج أون لاين
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 01, 2019 02:41

April 25, 2019

الجيوش والشعوب وعلم نفس الطاعة


كان عالم النفس الاجتماعي ستانلي مليجرام من أتباع مدرسة عالم النفس سولومون آش، تفسر هذه المدرسة السلوك الإنساني من خلال تأثره بالضغط الاجتماعي الواقع عليه، بمعنى أن البيئة والحالة والموقف المسيطر على الإنسان أشد تأثيرا على سلوكه من دوافعه ونزوعه وقيمه الداخلية.
وضع سولومون آش تجربة بسيطة، خلاصتها أن يتواطأ هو ومجموعة من الممثلين على الإنسان المراد إجراء التجربة عليه، كأنهم جميعا في اختبار تعليمي، وتعرض على الجميع أسئلة إجابتها الصحيحة واضحة وبديهية، لكن سيتواطأ الجميع على تقديم الإجابة الخاطئة، وأسفرت التجربة عن أن الإنسان يستجيب للمجموع المحيط به، ويختار بدون أي إكراه مباشر الإجابة الخاطئة انسياقا وراء المجموع، مع أن هذا السؤال إذا طُرِح عليه منفردا فلن يتردد في تقديم الإجابة الصحيحة. ثلاثة أرباع الحالات التي أجريت عليها التجربة فعلوا هذا!
طوَّر ستانلي مليجرام هذا النموذج فأضاف إليه معنى "السلطة"، وإن كان بشكل مخفف للغاية، حيث صَمَّم نموذجا يعتقد فيه الإنسان محل البحث أنه يُجرِّب تجربة لأثر العقاب على تحسن التعليم، فيُعطى صلاحية أن يُعاقب شخصا مُسِنًّا بالصعق الكهربائي لتنشيط ذاكرته، كان هذا الشخص المُسِنّ جزءا من التجربة، عليه أن يُمَثِّل الألم، ويفصل بين المعاقِب والمتعلم عازل زجاجي. وإلى جوار الشخص الذي يقوم بالمعاقبة رجل يرتدي ثوب الطبيب يعمل كمستشار، يؤكد له دائما أن يستمر في الصعق بشحنة كهربية أعلى ولا يخشى شيئا!
قبل التجربة استطاع مليجرام آراء خبراء ومختصين بالطب النفسي: كم من الحالات قد تصل إلى درجة الصعق العظمى (القاتلة)؟ وكانت تقديراتهم أنها لا تزيد عن 2%، لما أجريت التجربة وصل 65% من الحالات إلى درجة الصعق العظمى. وكان الاستنتاج المباشر من التجربة قويا في أن أثر السلطة على الطاعة أكبر مما نتصور، إذ خالف أغلب الناس طبائعهم وقناعاتهم وقيمهم، وخرجوا عن سويتهم النفسية، لمجرد أن رجلا يرتدي زي الطبيب يؤكد لهم أنه لا ضرر على المُعاقَب. فإذا كان هذا وهو في موقع المستشار قد استطاع فعل ذلك، فكيف يمكن أن يفعل رجل يمتلك سلطة حقيقية ويملك الثواب والعقاب المادي إذا أصدر الأوامر؟!
كرر مليجرام تجربته بأشكال مختلفة، فوجد أن نسبة الطاعة للأوامر المخالفة للأخلاق تزيد حين تكون المسافة واسعة بين المُعاقِب وبين من يعاقبه، وكلما اقتربا من بعضهما كلما توقف العقاب عند مرحلة مبكرة. وجد كذلك أن العقاب إذا كان باليد (تحدث الملامسة) يوقف الطاعة مبكرا عما إذا كان العقاب باستخدام جهاز من بعيد أو أداة من قريب. مما يدل على أن عامل القرب الإنساني ورؤية الوجه والملامح وحصول المعايشة يُعَطِّل الاستمرار في تعذيب الضحية.
هذه الملاحظة الأخيرة مع ملاحظات من تجارب أخرى تسوق إلى أن الذي يقصف بالطائرات أو الصواريخ أقل تألما من الذي يمارس القتل قنصا، والذي يمارس القتل قنصا أقل تألما وشعورا بالذنب ممن يمارسه بالسكين.. وهكذا!
وهي ملاحظة تفيد أيضا في أن تقسيم الوظائف يجعل عملية القتل والتعذيب أكثر كفاءة وأقل ألما، فالقاضي الذي يكتب حكم الإعدام ثم لا يباشر الإعدام أكثر اجتراءا على هذا منه لو أنه نفسه سيكتب حكم الإعدام وينفذه، والجندي الذي سينقل المحكوم عليه إلى السجن وهو لا يفهم ولا يعرف ما إن كان سيُحكم عليه بالإعدام أم بالسجن، وحتى لو عرف أنه يأخذه إلى الإعدام فهو لا يعرف لماذا قد حُكِم عليه بالإعدام هو أقل ألما منه لو أنه عرف وفهم وكانت عنده الفرصة ليقول رأيه، وكذلك الجندي الذي سينفذ الإعدام من الأفضل (لكي يقوم بوظيفته بلا ألم) أن ينفذ دون أن يعرف، ولو أنه أتيح له أن يختار العقوبة فالأغلب أنه لن يفعل. وتم إثبات هذه الأمور من خلال تجارب أخرى في مواقف متعددة.
وهناك تجارب أخرى تزيد من وضع التفسيرات التي تجعل أناسا عاديين يقومون بارتكاب الجرائم التي لا يرتكبونها عادة، يمكن الاستزادة منها في كتب علم النفس السياسي خاصة أو علم النفس الاجتماعي عامة، من أبرزها ما نشره فيليب زمباورد في كتابه الشهير "تأثير الشيطان: كيف يتحول الأسوياء إلى الشر" الذي حاول فيه تفسير ما حدث في سجن أبو غريب العراقي، وكان من بين أهم تفسيراته أن نزع صفة الإنسانية عن الضحية وتحويله إلى رقم أو إلى حشرة أو إلى حيوان يُسَهِّل ارتكاب الجريمة ضده ويزيل شعور الألم، كما أن ثمة علاقة جديدة تنشأ بين الذين أصبحوا فجأة في موقع السلطة مثلما تنشأ علاقة جديدة بين من أصبحوا في موقع المقهور، وتختفي العلاقات السابقة بسرعة شديدة، ثم ما يلبث أن يتصرف الأولون بسادية وعنف ضد الآخرين.
هذه التجارب تنطلق في العادة من سؤال يحاول فهم حوادث القتل الجماعي والتعذيب والاغتصاب، أي أن هذا الميدان يكاد يكون حكرا على ممارسات الجيوش والأجهزة الأمنية، ذلك أنه يصدر من عناصر هذه الأجهزة ما لم يكن مُتَصَوَّرًا ولا مُتَخَيَّلاً رغم أن عناصر هذه الأجهزة ليست بالضرورة من غير الأسوياء نفسيا، وهو ما يستدعي فهما وتفسيرا لهذا التحول.
لكن الأزمة هنا أن المجهود العلمي المبذول في فهم هذه الأمور لا يصل بالضرورة إلى الهدف النبيل المرفوع كشعار: ماذا يجب أن نفعل لكي لا يتكرر هذا الإجرام. بل على العكس يستخدم السياسيون هذه النتائج العلمية لتحقيق مزيد من السيطرة والتحكم والهيمنة على عناصر هذه الأجهزة الأمنية والعسكرية، بحيث تقوم بالهدف الذي يريده السياسي بأفضل نتائج ممكنة، ومن أَشْهَرِ ما قيل في هذا كلمة كيسنجر: "العسكر ما هم إلا حيوانات غبية يحركها الساسة كقطع الشطرنج"!! ذلك أن العلم وحده لا يكفي، لا بد من أخلاق تحدد مساره ليصب في نفع الإنسانية، ولكن كيف للعلمانية أن ترعى الأخلاق وهي بنت المادية [وهذا مما يميز الجندية الإسلامية كما رصدها مؤرخون غير مسلمين].
ولئن كان العالم يعيش عصر العلمانية، ويجني بعضا من ثمراتها المرة بجيوش وأجهزة أمن لا تعرف الأخلاق ولا تُوَظَّف المعارف العلمية إلا بما يزيدها توحشا (أو كفاءة! فحيث لا أخلاق لا يبقى فرق بين التوحش والكفاءة)، فإن مشكلتنا في عالمنا الإسلامي المقهور أكبر من هذا وأشد!
المشكلة التي تخصنا نحن أن هذه التجارب تُطَبَّق في بلادنا ضِدَّنا كشعوب محكومة بنظم أمنية عسكرية شمولية، يتوغل فيها النمط الأمني العسكري حتى يشمل كل شيء، ويتحكم في كل شيء.
فإذا كان الأسوياء يمكن أن يتحولوا إلى عناصر عريقة في الشر فكيف إذا كان الانتقاء في بلادنا يقوم في جانب منه على اختيار غير الأسوياء أصلا؟!
ثم إذا كان المرء تحت ضغط السلطة المخففة يرتكب ما يخالفه قيمه، فكيف يمكن أن يفعل إذا كانت برامج التربية والتدريب مُصَمَّمَةً بالأساس على نزع الدافع الأخلاقي وغرس الدافع الإخضاعي السلطوي التراتبي الذي يجعل طاعة الأوامر مقدسة وفوق كل مبدأ؟!
ثم إذا كان المرء يسهل عليه ارتكاب القتل لمن يبتعد عنهم ولا يراهم بشرا، فكيف إذا كانت عناصر الجيوش وأجهزة الأمن تتحول فعليا إلى طبقة متمايزة عن الجمهور، في الملابس والمساكن والنوادي والمنتجعات والمستشفيات وحتى قاعات الأفراح والمساجد؟!
بالإمكان ضرب الكثير من الأمثلة، لكن السؤال الأخطر والأهم هو: إذا كان المرء يطيع السلطة التي تقهره، حتى يخرج عن طبائعه خضوعا لها، فهل تبقى الجيوش وأجهزة الأمن وطنية خادمة للشعب ونحن نعرف جميعا أن سيدها الحاكم لها والقاهر عليها والمُنَظِّم لعقائدها وبرامج تسليحها وتدريبها هم الأمريكان والإنجليز والفرنسيس؟!
نشر في الخليج أون لاين 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 25, 2019 04:02

April 19, 2019

الماضي الحاضر: معركة الهوية في ساحة التاريخ


نتيجة بحث الصور عن البيان التقرير الارتيادي الأمة وتحديات الهوية
*نشرت هذه الورقة في التقرير الارتيادي "الأمة وتحديات الهوية"، الإصدار السادس عشر، 1440هـ
كان باتريك بوكانان مستشارًا لثلاثة رؤساء أمريكيين، وكاد يكون مرشحا لرئاسة أمريكا عن الحزب الجمهوري مرتين في الأعوام (1992، 1996م) ثم ترشح للرئاسة عن حزب "الإصلاح" عام (2000م)، ورغم شهرته الطاغية بين صفوف الحزب الجمهوري إلا أن اسمه لم يعرف بقدر ما ارتبط بكتابه "موت الغرب" الذي كان واحدا من أوسع الكتب مبيعا بعد صدوره، وذلك أنه يناقش المشكلات التي تواجه الغرب وتهدد بموته، في هذا الكتاب لوعة وحسرة ونقاش متوتر للمشكلات التي تهدد الحضارة الغربية، والتي تنحصر في شيخوخة السكان وقلة عددهم في مقابل تكاثر غير الغربيين وهجراتهم المتزايدة إلى الغرب، وكيف أن شيخوخة السكان راجعة إلى الثقافة "المسمومة" والأفكار "المسرطنة" التي تبيح -تحت عنوان الحرية- الإجهاض واللواط والعزوف عن الزواج والإنجاب وتحارب المسيحية.
ما يهمنا من هذا الآن هو ذلك الفصل الذي كتبه بعنوان "الحرب على الماضي"، ففيه يشُن هجوما عنيفا ضد من يتحدث عن جرائم الرجل الأبيض وتاريخه في المجازر والمذابح، ويقول بأن هذه "الحرب على الماضي" هي المسؤولة عن إنتاج أجيال لا تؤمن بنفسها ولا تنتمي إلى حضارتها، ولا بأس لديه في طمس كل هذا تجنبا لتفكك أمريكا. لم يحاول الرجل أن يكون غامضا أو متواريا، لقد كان صريحا للغاية في أن التاريخ الذي يكتبه المؤرخون الناقدون في أمريكا يشيطن الشخصيات التي لطالما كانت أبطالا لامعة في الذاكرة الأمريكية، وهذا –كما يقول- خطرٌ مؤذن بانهيار الشعب الأمريكي وتحلل مشاعره الوطنية، وكان طوال الفصل يحوم حول المعنى القائل: "الخطوة الأولى في تصفية أي شعب هي أن تمسح ذاكرته، دمِّر كتبه، وثقافته وتاريخه. ثم اجعل شخصا ما يكتب كتبا جديدة، واصنع ثقافة جديدة، واخترع تاريخا جديدا"ها هو السياسي الأمريكي ينزعج من كتابة تاريخ حقيقي، يقوم به مؤرخون أمريكان، ليسوا مدفوعين من قِبَل دولة أخرى ولا هم متأثرين بثقافة غالبة عليهم، ولا يتعرضون لمحنة احتلال أو منافسة حضارية أخرى، إلا أنه منزعج من أن نشر هذا التاريخ الحقيقي سيدمِّر الهوية التي بُنِيَت على الأمجاد التي تتهدد الآن بأنها زائفة!
صراع الهوية في ساحة التاريخ
لعل أفضل تعريف للتاريخ هو أنه "ما يحتاج الناس إلى تذكره من أحداث الماضي"إن "الخلاف حول تفسير التاريخ ليس ترفًا فكريًّا، ولا ظاهرة أكاديمية، بل هو في الحقيقة خلاف حول تفسير الحاضر واختيارات المستقبل"ولذلك، ففي الأمم التي تعيش صراعا على الهوية، يشتد الخلاف حول الأحداث والشخصيات المؤثرة في تأسيس الهويات أو في الدفاع عنها. فبعد خمسة قرون لا يزال الجدل مشتدا حول ما إن كان الحكم العثماني للبلاد العربية احتلالا؟ وما إن كان الغزو الغربي هو بداية خروجنا من التخلف والظلام؟، وإذا أردنا ضرب المثال على شخصيات مؤسسة أو فارقة، سنجد أنه في مصر يشتد الصراع الثقافي حول شخصيات: عمرو بن العاص، صلاح الدين الأيوبي، محمد علي باشا، جمال عبد الناصر. وفي تركيا يشتد الصراع الثقافي حول شخصيات: السلطان عبد الحميد الثاني، مصطفى كمال أتاتورك، عدنان مندريس. وفي الجزيرة العربية والشام يشتد الصراع الثقافي حول: محمد بن عبد الوهاب، عبد العزيز آل سعود، الشريف حسين بن علي... وهكذا!
ليست الخلافات حول هذه الشخصيات وغيرها مجرد خلافات أكاديمية بين مؤرخين في قاعات الدرس، وإنما هي خلافات بين توجهات واتجاهات حية فاعلة في الواقع، تمتلك كلٌّ منها رؤية عامة لهويتها وماضيها وطموحاتها وتحاول كلٌّ منها نشر نفسها وفرض هيمنتها أو الدفاع عن وجودها، وحيث كان الصراع صراع هوية فهو تعبير عن امتلاك كل طرف قوة حقيقية في المجتمع.
الصراع على الهوية في بلادنا الإسلامية
تتمثل الصورة العامة في بلادنا المسلمة في الصراع بين هويتين: الإسلامية والغربية، الإسلامية التي تتمتع بعمق اجتماعي ضارب في أعمال الشعوب والغربية التي تمتلك قوة السلطة وأدواتها، صراع حضاري بين غالب ومغلوب، غالبٍ يريد إخراج الأمة من نفسها وهويتها لتلتحق به وتكون على وِفْقِهِ ومِثالِه، ومغلوبٌ يدافع عن بقائه ويمارس الرفض بما استطاع من يد ولسان وقلب لحركة استلاب هويته، وهو صراع تلخصه الآية الكريمة (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
وفي إطار هذا الصراع يُعاد نقاش سائر ما كان ثابتا مستقرا من الأفكار والمعاني، فيثار السؤال: هل كان هذا الذي جرى قبل أربعة عشر قرنا فتحا إسلاميا أم احتلالا عربيا؟ ويثار معه السؤال المقابل: هل كان الذي جرى قبل نحو قرنين احتلالا غربيا أم هو بداية عصر التنوير والحضارة الذي أخرجنا من ظلمات العصور الوسطى؟
إن توصيف حدث ما على أنه فتح أو احتلال إنما هو فرع عن الهوية التي تفسر التاريخ، وهذا بغضّ النظر عن السياسة التي سلكها الحاكمون في هذه الفترة؛ ذلك أن وجود الظلم أو سوء الإدارة أو غير ذلك من المساوئ لا يؤدي إلى الوصف بالاحتلال، ولا العكس أيضا يؤدي إلى العكس: أي أن وجود الإدارة المحترفة والكفاءة التنفيذية لا يؤدي أيضا إلى الوصف بالفتح أو الترحيب بالغزاة، إنما يتعلق الأمر في الأصل بتعريف الأمة لنفسها وللقاهر عليها، فقد توجد الإدارة المحترفة التي تعبر عن منظومة احتلالية بشعة تعمل بكفاءة لتصفية موارد البلد في خدمة العاصمة الاحتلالية، وقد يوجد الظلم والعسف في الحكم المحلي الداخلي، فلا يرتفع بهذا وصف الاحتلال عن الإدارة الأولى ولا يلحق وصف الاحتلال بالإدارة الثانية.
إن المؤرخ الموالي للاحتلال والمؤمن بحضارته سيسعد بلحظة الاحتلال وإدارته مهما رافقها من ظلم ودموية وسيعتبر أن هذا كله من ضرورات الانتقال الحضاري ومن تكاليف الدخول إلى مرحلة التنوير والرقي، وهو نفسه يستبشع مرحلة ما قبل الاحتلال مهما أبدى حُكَّامُها بسالة وتضحية في الدفاع عن البلاد باعتبارها المرحلة المظلمة المتخلفة التي يدافع أصحابها عن مصالحهم المرتبطة بالتخلف في مواجهة النور والحضارة القادم على يد المحتل. ومن هنا فإن الحوادث التاريخية ذاتها تتلون وتصطبغ بالهوية والانحياز الحضاري المهيمن على كاتبها والتي تملي عليه تفسيرها.
نعم.. التاريخ ليس سائلا إلى هذا الحد الذي يمكن فيه تلوين كل شيء بالمعنى ونقيضه، فالتاريخ يحمل من الحقائق الصلبة والوقائع الثابتة ما يستعصي على الاستجابة والتطويع لصالح الأهواء المختلفة والمتضاربة، ويمكن لتلك الحقائق والوقائع أن تشكل عثرة كبرى تتكسر عليها المقولات الكاذبة والأهواء الضالة وإكراهات الثقافة الغالبة. لكن المقصود هنا أن الخلاف في الهوية هو خلاف أصلي رئيسي كبير يُنتج التفسيرات المتعددة لنفس الحدث التاريخي الواحد!
وحيث لم يكن بإمكان أحد من البشر تغيير التاريخ الذي وقع وكان وانقضى، فإن الصراع الواقعي في عالم البشر هو صراع التفسير والتوصيف والتأويل والتزوير وإنتاج المعاني، ومن هنا فإن الغالب يبذل وسعه في تشكيل التاريخ وفق الهوية التي يسعي لترسيخها وتكوينها، وكلما توفرت القدرة على التحكم في مصادر التعليم والإعلام والثقافة كلما كانت رواية الغالب أقوى وأشهر وأغلب. وذلك هو موجز قصة الاستعمار في بلادنا الإسلامية، وإليك بعض وسائله:
المتحف: أداة الاستعمار في تشكيل التاريخ وفق الهوية المصنوعة
في نظريته الشهيرة "الجماعات المتخيلة" يتحدث عالم الاجتماع الشهير بندكت أندرسون عن أن هذه الهويات التي تشكلت في العالم الحديث ليست سوى هويات "مُتَخَيَّلة"، ذلك أنها غير مستمدة من أي حقيقة طبيعية كالدين واللغة والعرق، وإنما هي مصنوعة بأدوات السلطة، والمختصر الموجز لنظريته يفيد بأن السلطة التي امتلكت وسائل مثل الإعلام والجهاز الإداري تمكنت بهذا من أن تصنع هوية للذين تحكمهم، فهي قد صنعت الحدود التي تفصل بين الناس فيكون من بداخل هذه الحدود مواطنا ورعية لها، تقدم له خطابا إعلاميا يُرَسِّخ هذه الهوية عبر وسيلة الإعلام (منذ الطباعة وحتى التليفزيون) وعبر الإحصاء وعبر المتحف.
ما يهمنا في سياقنا الآن: الإعلام والمتحف، وسنبدأ بالمتحف لأنه الوسيلة التي تعاملت حصرا مع التاريخ، ومن هنا فلقد كان المتحف هو صورة التاريخ الذي تطالعه الأمة لنفسها، فهل كان المتحف مجرد مخزن أو صورة محايدة للآثار التاريخية؟ يجيب بندكت أندرسون بالنفي، ويقرر أن المتحف إنما كان وسيلة أنشأها الاستعمار الغربي في البلاد المستعمرة، ومن خلالها حدَّد هوية هذه الأمة المستعمرة، يقول: "الآثار التي أعيد بناؤها غالبا ما كانت تُحاط بمروج خضراء حسنة التنسيق وتوضع لها لوحات شارحة هنا وهناك، مشفوعة بالتواريخ... وبتحويلها إلى متحف على هذا النحو، فإن هذه الآثار كان يُعاد تحديد موقعها بوصفها عُدّة دولة كولونيالية علمانية وزينتها"لقد نشأت المتاحف في بلادنا في ظل الاستعمار الغربي الحديث، وأكثر الآثار التي استخرجت من أراضينا إنما كانت على يد الفرق الاستكشافية الأجنبية، وكان لها اهتمام خاص بتواريخ ما قبل الإسلام: كالفراعنة في مصر والآشوريين والبابليين في العراق والفينيقيين في الشام، ومن ثَمَّ أعيد تشكيل الهوية التي تجعل المسلمين أمما مستقلة على ذات النمط الذي كان قديما قبل الإسلام، نمط الحضارات السابقة التي تجعل المصريين أمة مستقلة عن العراقيين عن الشاميين عن المغاربة، وكل أمة من هذه الأمم لها تاريخ يمتد حتى أولئك الأقوام، والمتحف هو الدليل القائم الشاهد على هذا.
في مصر مثلا أنشئت عدد من المتاحف، جُمِعت الآثار الإسلامية في "المتحف الإسلامي" (1903م)، وجُمِعت الآثار القبطية في "المتحف القبطي" (1910م)، وجُمِعت الآثار الفرعونية في "المتحف... المتحف المصري" (1902م)، تأمَّل! لم يُسمَّ متحف الآثار الفرعونية بـ "المتحف الفرعوني"، بل سُمِّي "المتحف المصري".. كذلك لم يُسَمَّ "المتحف الإسلامي" بـ "المتحف المصري" رغم أن معظم آثاره مصرية وُجِدت في مصر. هذه التسميات هي التي تصنع "الهوية"، وتبين كيف نظر الذين بنوا هذه المتاحف إلى أنفسهم وكيف عرَّفوا هويتهم! وقد أنشئت جميع هذه المتاحف في زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر، وكان أولها إنشاءً: المتحف "الفرعوني/ المصري"، وقد كان صاحب فكرته فرنسيا، وهو أوجوست مارييت الذي كان رئيس مصلحة الآثار المصرية، واقترح فكرة إنشائه منذ (1858م) وكانت مصر وقتها قد دخلت عمليا في النفوذ الغربي.
وقد نقل محمد المويلحي، الأديب المصري المعاصِرٌ لهذه الفترة، أثر هذه المتاحف في تكوين جيلٍ جديد يستبدل الهوية المصرية بالهوية الإسلامية، عبر حوار بين ابن وأبيه في متحف الجيزة بينما هما يتأملان التماثيل والآثار المجموعة، جاء فيه:
"الابن: أشَهِدْتَ مشاهد عزنا ورأيت معاهد فخرنا؟ وعلمت كيف كان مقدار مجدنا؟ وإلى أية رتبة بلغت بنا صناعة أجدادنا؟ لله درهم ما كان أرقاهم في الفكر وأبدعهم في العمل! ولو أن نوابغ الأمم اجتمعوا اليوم اجتماع مفاخرة، ونزلوا إلى ميدان المناضلة والمناظرة، لما سبق المصري منهم سابق، ولا تعلق بأثره لاحق، ولكان له من بينهم الكعب الأعلى، والقدح المعلى...
الأب: لا أجد في نفسي شيئًا مما تشعرون به في هذا الباب، وما أراه من هذه الأحجار والتماثيل لا يساوي في نظري إلا أنقاض بيوت عفت، أو طلول درست، وإن صح ما يقال عن هذه التماثيل إنها أشخاص قديمة نزل بها السخط والمسخ، كان التعلق بها والتمجيد لها مما يغضب الخالق ولا يرضي المخلوق، وأما قولك: إن فيها منتهى فخرنا ومجدنا؛ لأنها من صنع آبائنا وأجدادنا، وإن آباءنا وأجدادنا هم من نسل هذه الرمم الفرعونية، فإنه إثم ونكر أستعيد بالله منه ﴿كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا﴾ ما كان أجدادنا وآباؤنا إلا أولئك العرب الكرام، أهل الدين والإسلام، لا نفاخر إلا بمفاخرهم، ولا ننتسب لغير أصلهم، وأما من جهة الصنعة في كل ما أراه هنا، فإن صبيان الفلاحين اليوم يشتغلون بصنع مثل هذه الآثار والأحجار، ويتفننون في تقليدها فتخرج من أيديهم وهم بين الروث والطين أتقن صنعًا من هذه المُحَجَّبَة في القصور المصونة في البلور"هكذا يتبين الأمر: لم يكن المتحف مجرد وسيلة محايدة ولا هو مجرد مخزن علمي لتراث الأمة، بل كان وسيلة مصبوغة بأغراض وأهداف الغرب الاستعماري المهيمن، وأداة من أدواته لتشكيل التاريخ وفق الهوية المصنوعة.
الجامعة: آلة إنتاج التاريخ الجديد
لم يكن الاهتمام بآثار الفراعنة شعورا للمصريين ولا رغبة منهم بل هي رغبة واهتمام الأجانب المحتلين ومن اتبعوهم من المتغربين، وقد أورد المويلحي في رائعته "حديث عيسى بن هشام" في ذات الحوار المشار إليه آنفا أنه: "إن كان من وراء هذه الآثار والأشلاء قيمة عند الغربيين، فإنما هي كما تقول لتعلقها بمباحثهم في أخبار الأوائل وفلسفة التاريخ، وزد على ذلك حبهم للاقتناء وولوعهم بالاختصاص بالنادر، ولذلك علت قيمتها عندهم وارتفع قدرها بينهم، وليس للمصريين منها أقل فائدة سوى الشهرة بأن في مصر آثارا تفوق في القدم مثلها من بقية المتاحف، ولو أنك عرضت أهل مصر على هذه الآثار واحدا واحدا لما استفادوا منها شيئًا، ولا أفادوك عنها شيئًا، ولما وجدوا لها قيمة تُذكر سوى النزر اليسير من المقلدين للغربيين، ولم تجد بين عشرة الملايين اليوم سوى شخص واحد يفقه لغة الهيروغليف، أعني لغة آبائهم وأجدادهم كما يزعم الزاعمون مع كثرة الخبيرين بها من الأمم الغربية، والله أعلم بمقدار علمه بها"يروي طه حسين في مذكراته أنه حين كان طالبا في الأزهر لم يكن يعرف شيئا عن تاريخ الفراعنة، فتاه عليه ابن خالته الذي يدرس في دار العلومكان طه حسين نموذجا لجيل الاحتلال، ففي حياته كانت تغرب شمس الأزهر وتشرق شمس الجامعة، تغرب شمس الأمة الإسلامية وتشرق شمس القومية والوطنية، تغرب شمس الشيخ المعمم وتشرق شمس الأفندي المطربش، وإن سيرته التي كتبها لا تبخل علينا بوصف عمق هذا التحول، لكن الذي يهمنا هنا الآن هو مسألة الجامعة التي صارت أداة التعليم في الدولة المستعمرة، وهي الوسيلة التي قضت عمليا على التعليم التقليدي المستمر منذ العصور الإسلامية.
كان المستشرقون الأجانب هم رواد التدريس في الجامعة، وكان المستشرقون يدرسون العلوم الإسلامية أيضا، فرأى فيها طلاب الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي لونا آخر من التعليم، فوقع في أنفسهم موقع الإعجاب والتعظيم، يقول أحمد أمين: "فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي، وكنت أحضر هذه المحاضرات لماماً في غير انتظام ولا التزام، لثقل العبء علي بمدرسة القضاء. ولكن على كل حال رأيت لونا من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك"ويقول طه حسين عن نفسه: "لم يكد صاحبنا يتصل بالجامعة حتى رثت الأسباب بينه وبين الأزهر، فأصبح لا يمنحه من الوقت إلا أقصره، ولا يعطيه من الجهد إلا أيسره"، ولم يتوقف الأمر عند الأزهر كمعهد علمي بل صار نفورا من الأزهر كمعهد ديني أيضا، هكذا وصف درسه الأول في الجامعة وآثاره: "كان غريبا كل الغرابة، جديدا كل الجدة، مَلَك على الفتى عقله كله وقلبه كله، فشُغِل عن صاحبيه وشُغِل عمن كان حوله من الطلاب، وما كان أكثرهم!... لم ينم الفتى من ليلته تلك، وسمع المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر فلم ينهض من فراشه، وإنما تثاقل وتثاقل، ولم يخرج من غرفته إلا حين ارتفع الضحى"ثمة اهتمام أنشأته الجامعة بتواريخ الشرق القديم واللغات الشرقية القديمة، فضلا عن المنهج الجديد في العلم، وهو المنهج الغربي بطبيعة الحال، والمنهج الغربي نفسه إنما هو نتاج بيئته، والبيئة الغربية منذ عصر العلمانية لا تعترف بالإله ولا بالمصدر الرباني للمعرفة كما أنها تتشكل ضمن هويات قومية تأسست منذ صلح وستفاليا. فبينما يبدأ المنهج الإسلامي في التعليم بفهم نصوص الوحي وتعظيمها والسعي في فهم العالم والأشياء من منظورها يبدأ المنهج الغربي في التعليم باستبعاد الإله والمقدس واكتشاف العالم والأشياء ضمن النظريات والفلسفات الوضعية. وبينما يصنف المنهج الإسلامي الناس إلى أمم بحسب معتقداتها يصنف المنهج الغربي الناس إلى أقوام بحسب أعراقها. في الرؤية الإسلامية: يمكن للإنسان في الغرب أن يكون من الأمة الإسلامية بمجرد نطقه للشهادتين وليس ذلك للعربي إن اختار دينا آخر، وفي الرؤية الغربية: الشرقي شرقي والغربي غربي ولا يمكن لأحدهما أن يكون من قوم الآخر ولو اجتهد فإنما جرى التصنيف بأصل الخلقة والتي لا فكاك لأحد منها.
كان الأمير أحمد فؤاد –الملك فؤاد فيما بعد- أول رئيس للجامعة المصرية، وبدأت آلة التعليم الجامعي تُخرج ما عُرف فيما بعد بالمدرسة التاريخية المصرية، وهي المدرسة التي كان من أعمدتها كثير من غير المصريينوقد نشأ في هذا الجيل الذي تربى في ظل الاحتلال من كان أكثر اندفاعا في الانسلاخ عن الرابطة الإسلامية ليستبدل بها الرابطة الوطنية، مثل أحمد لطفي السيد الذي يُلَقَّب في مصر بـ "أستاذ الجيل"، فقد اقترح على الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر (وذلك سنة 1912م) أن تنفصل مصر عن الدولة العثمانية وأن تتخذ لها علما غير علم الخلافة ويعلن الخديوي ملكا مستقلا ويدعم الإنجليز هذا الاستقلال بالاعتراف به المفاجأة هنا أن الخديوي قبل الفكرة مسرورا ولكن الذي رفضها كان اللورد كتشنر المندوب السامي البريطاني، والذي قال: "لقد بسطنا يدنا لتركيا، فبصقت عليها، وولت وجهها شطر ألمانيا، ولو أنها كانت قبلت مودتنا لتغير الموقف كثيرًا، ومع هذا فإني لا أجد الوقت مناسبًا لقبول فكرتك"الإعلام والثقافة: تكوين الهوية باللغة الشعبية
يتمثل الفارق الرئيسي بين الحداثة وما قبل الحداثة في القدرات الضخمة التي توفرت للسلطة للتحكم في الشعوب، كان التطور العلمي يوسِّع الفارق بين السلطة والمجتمع ويضيف في رصيد السلطة قدرات أخرى لم يتمتع بها حاكم قديم، وما يهمنا في هذا السياق هو قدرة السلطة على التحكم في التعليم والإعلام، وفي إنتاج وتعميم الخطاب العام ومراقبة وإقصاء أي خطاب آخر.
وحيث كانت الجامعة وسيلة السلطة الجديدة في غرس هويتها، فلم تكن الجامعة مجرد منافس "حديث" للتعليم التقليدي، بل كانت صوت السلطة وسوطها أيضا، ويمكن ضرب المثال هنا بأستاذ جامعي كان تعبيرا عن هذا المثال.. ذلك هو جرجي زيدان.
لم يكن مصريا وإنما هو من نصارى الشام، لكن مصر تحت الاحتلال الإنجليزي كانت معقلا للمعارضة النصرانية والقومية للدولة العثمانية التي كانت ممثل الهوية الإسلامية والجامعة الإسلامية، فكثر فيها نصارى الشام الذين رأى فيهم الاحتلال الإنجليزي أقلية دينية وقومية فأكثروا من استعمالهم لضمان الولاء لهم، فكانوا عند حسن ظن الاحتلال، وكثرت النخبة النصرانية الشامية في سائر المواقع الإدارية والعلمية المصرية. وقد تبوأ جرجي زيدان منصبه في الجامعة المصرية فكان أول أستاذ غير مسلم يدرس التاريخ الإسلامي في مصر.
لكن زيدان لم يكن مجرد أستاذ جامعي كغيره من المستشرقين الذين تولّوا صناعة عقول الجيل الجديد، لقد كان فوق ذلك صاحب ومؤسس دار الهلال الصحفية، التي نشأت في (1892م)، وعنها صدرت مجلة الهلال وغيرها من الإصدارات، ولم يكن زيدان يكتب بحوثا فحسب كغيره من أساتذة الجامعة بل لقد كتب العديد من الروايات والأعمال الأدبية.
لقد أعجب حسين توفيق، وهو من تلاميذ الشيخ اللغوي حسن المرصفي ودرس في ألمانيا، بطريقة المستشرق الألماني كارل بروكلمان في تأليف "تاريخ الأدب العربي"، فاستلهمها في كتابه "تاريخ أدب اللغة العربية"، ثم أطلقت الجامعة المصرية مسابقة لتأليف كتاب في هذا المجال فألف جرجي زيدان "تاريخ أدب العرب" في أربعة مجلدات، وبالتزامن معه ألف مصطفى صادق الرافعي "تاريخ آداب العرب" في ثلاثة مجلدات. إلى هنا والمعركة علمية بحتة، لكن الأمر على الحقيقة لم يكن هكذا، فلقد انطلق زيدان مدفوعا بقوة السلطة وأموالها ليكون زعيم الحالة الثقافية في وقته، فإن كتابه يُدرس على طلاب الجامعة، ثم كان يعمم على نطاق واسع في الصحافة مثل مجلة زيدان الشهرية "الهلال"، ثم إنه لما ألف رواياته التي يتناول فيها تاريخ الإسلام صارت توزع كهدايا مجانية مع أعداد مجلة الهلال للمشتركين فيها، وكانت "الهلال" أوسع دوريات الشرق الأوسط انتشارا في زمنهاكانت تلك الطريقة هي طريقة التغلغل الاستعماري الذي لم يكن مجرد منتصر تكتسب أفكاره قوتها من مجرد انتصاره ولا كان انتصاره يُلهم المغلوبين استلهام تجربته، لا.. لم يكن هذا فحسب، لقد امتلك الاستعمار الآن السيطرة على "أدوات" و"وسائل" و"منافذ" إنتاج المعرفة، وذلك "من خلال المراجع السياسية، معلمي المدارس، والجامعات، والصحف، والروايات، والمجلات"في مثل هذه الأوضاع لا يستغرب أن يخرج مفكر وسياسي مصري بارز مثل محمد حسين هيكل، ليكتب بوضوح هذه العبارة الصارخة الكاشفة عن هوية جديدة تترسخ في مصر: "من حق المصريين ومن الواجب عليهم أن يستثيروا دفائن الفراعنة جميعا، وأن يربطوا حاضرهم وماضيهم رباطا ظاهرا لكل عين، وإنهم إذًا ليضيفون إلى قوتهم قوة، وليضاعفون من مجدهم أضعافا، وليزدادون لذلك بالحياة استمتاعا ولها تذوقا"شخصية العام: السلطان عبد الحميد الثاني
جرى في سائر العالم الإسلامي مثل ما جرى في مصر مما عرضنا له، كانت البلاد الإسلامية ساحة ضغط للمحتل المستعمر، وكانت سلطة الاستعمار وما بعد الاستعمار متسلحة بإمكانيات الحداثة تحاول تبديل هوية الأمة وإلحاقها بالغالب المتفوق. ولا يزال الصراع مستمرا حتى الآن! وقد نشبت معركة دبلوماسية قصيرة بين تركيا والإمارات، حين غرَّد وزير خارجيتها مُعَرِّضًا بفخر الدين باشا حاكم المدينة المنورة، وهو ما ردَّ عليه الرئيس التركي بعنف، لم يكن الأمر في حقيقته إلا صراع هوية يستخدم التاريخ في معركة حاضرة وبتوجهات مختلفة حول المستقبل.
في تركيا نفسها لا يزال صراع الهوية مستمرا، ولقد كان عام (2018م) هو عام السلطان عبد الحميد الثاني في تركيا، فعبد الحميد الثاني هو آخر الخلفاء الفعليين في الدولة العثمانية، فعليه وعلى تاريخه ينشب صراع التفسير والتقييم، وهذا صراع يتجاوز حدود تركيا ويمس الصراع الإسلامي العلماني في الأمة كلها، فأقيم في عموم تركيا عشرات المؤتمرات عن السلطان عبد الحميد الثاني فضلا عن عدد غير محصور من البرامج والندوات والوثائقيات والدراسات والمقالات الصحافية.
يمثل عبد الحميد نموذج الخليفة المخلص لأمته والذي حاول الدفاع عنها ما استطاع، وسائر أنصار الخلافة والرابطة الإسلامية ووحدة الأمة ينفون عنه أو يبررون له أو حتى يغفرون له سائر ما يُتَّهم به: بداية من الضعف ونهاية بالاستبداد، فهو الخليفة المظلوم المخلوع من عرشه على يد العناصر العسكرية الموالية للغرب والعلمانية. بينما يحمل عليه خصوم الخلافة والرابطة الإسلامية والهويات القومية والوطنية حملة قاسية ويسعون لتجريده من أي فضيلةوالمعركة حول عبد الحميد الثاني هي في ذاتها معركة ضد مصطفى كمال أتاتورك، وهذا أمر يفهمه الطرفان وإن منعت بعد الظروف من التصريح به، فمصطفى كمال هو نقيض عبد الحميد، وهو مؤسس الجمهورية على أنقاض الخلافة، ومؤسس الهوية القومية التركية على أنقاض الهوية الإسلامية، وكل رفع من شأن عبد الحميد الثاني هو خصم من شأن مصطفى كمال، والعكس صحيح.
وحين بدأ أتاتورك في تأسيس هويته، سعى لكتابة تاريخ جديد لتركيا وعُهِد بالأمر لابنته بالتبني عفت عنان والتي كانت تلميذة في جنيف للمؤرخ الأنثروبولوجي يوجين بيتارد صاحب نظرية أن التاريخ هو صراع الأجناس العليا مع الأجناس الدنيا، فصدر عنها تاريخ عنصري يرى الترك جنسا أعلى موجود منذ قديم الزمان في منطقة الأناضول وله لغة عليا قديمة أخذت منها سائر اللغات، وصارت المهمة تنقية اللغة مما دخلها من العربية والفارسيةوالآن تسعى السلطة الحالية إلى العودة نحو الهوية الإسلامية، وواحد من أهم وسائلها في ذلك إعادة إحياء هذا التاريخ.
الخاتمة
يتحدث المؤرخ اللبناني المسيحي المعروف عن الأزمة بين المؤرخين والفلاسفة، ذلك أن الفلاسفة يُشيِّدون التصور العام للحياة دون أن يكون لهم من العدة التاريخية ما يدعم نتائجهم، إلا أنهم مع هذا يسردون التاريخ ويفسرونه بما يدعم تصورهم هذا مما يستثير المؤرخين، يقول: "ولا يزال رجال الفلسفة حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر فيما يقرأون أو تروٍّ في الاستنتاج. وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الاستشارة، فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه"ومن هنا فإن من مفاخرنا –نحن المسلمين- وجود العلوم الهائلة التي محصَّت الحوادث التاريخية وفهرست الرجال والطبقات ووضعتهم في أماكنهم من الجرح والتعديل، حتى استقامت لنا مصادر التشريع، وتكونت الهوية الإسلامية بأصح وأوثق وأضبط وأرسخ ما تكونت به هوية أمة. ومن مفاخرنا كذلك أن هويتنا هذه هوية إنسانية عامة مفتوحة لكل الناس، ولحظتها التاريخية التأسيسية هي لحظة خلق آدم أبي البشر جميعا، فالمسلمون لا يرون أنفسهم أبناء لحظة تاريخية أرضية صنعها بشر أو أبناء هوية أرضية حكمت بها الجغرافيا أو التاريخ، ولذلك فإن رسولنا إنما بعث رحمة للعالمين.
وإن كان من توصيات نقدمها للساحة العلمية في هذا الموضوع فإن أهمها يتخلص في:
1. ضرورة ترسيخ الهوية الإسلامية وتعظيم مصادرها الأولى: القرآن والسنة، فهي التي تشكل الحاسة والمعايير الحاكمة لفهم وتفسير التاريخ، وتقف حائط صد أمام التأويلات المتلونة والمصبوغة بالثقافة الغالبة.
2. ضرورة انتباه المؤرخين والباحثين في حقل التاريخ إلى آثار الثقافة الغالبة في المظاهر التي تبدو حيادية وموضوعية ومتجردة، وضرورة عملهم على تصحيح ومقاومة هذه الآثار الكامنة.
3. ضرورة كتابة التاريخ الإسلامي، لا سيما الحديث المعاصر، برؤية إسلامية تتخلص من آثار الهيمنة الغربية وقيمها الظاهرة والكامنة، من خلال البحث العلمي أولا ثم من خلال المواد الفنية المصورة والمسموعة والمرئية، ولا سيما ما كان موجها إلى الأطفال والناشئة.
4. ضرورة انتباه السياسيين والمسؤولين وصناع القرار في البلاد الإسلامية وانتباه رجال المال والأعمال إلى خطورة العبث في التاريخ الإسلامي الذي سيترتب عليه إشعال صراعات ومعارك كبرى، وسيترتب عليه مزيد تمزيق للأمة المسلمة الواحدة، ومن ثَمَّ فإن الواجب عليهم تجنيد الطاقات العلمية والمالية لتصحيح الوضع وتحفيز العلماء والباحثين على تعزيز الهوية الإسلامية عبر تصحيح العبث في التاريخ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
نشر في التقرير الارتيادي "الأمة وتحديات الهوية"، الإصدار السادس عشر، 1440هـ


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 19, 2019 12:07

April 17, 2019

من الذي يُمَثِّل ثوراتنا؟


سرعان ما أفرزت الآلة الإعلامية صورة الفتاة السودانية التي تقف في الجمع تغني للثورة لتفرضها كرمز للثورة السودانية، بالأمس قرأنا في الأخبار أنها تزوجت من ضابط بالجيش السوداني، وهو ما دعا بعض الظرفاء للقول: قد الجيش سرق الثورة!!
لماذا كانت صورة الفتاة التي تغني من بين سائر الصور، وسائر التضحيات والدماء، هي التي تختارها الآلة الإعلامية لتكون رمزا للثورة؟! لماذا تكون عهد التميمي من بين سائر الفتيات في فلسطين الرمز المعبر عن المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني؟! ولماذا تكون توكل كرمان من بين سائر النساء في اليمن هي الرمز الذي يُرَوَّج له للثورة اليمنية وتمنح جائزة نوبل في لحظة دقيقة تساوي فيها الجائزة دفعة ترميز هائلة؟!
المسألة قديمة.. فقبل مائة عام من هذه اللحظة جرى اختزال ثورة الشعب المصري 1919 في مظاهرات النساء، ثم اختزال مظاهرات النساء في هدى شعراوي، حتى إن المؤرخ البريطاني المعاصر يوجين روجان حين تحدث عن ثورة 1919 في كتابه "العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر" عبر على كل ثورة 1919 في سطور معدودة لا قيمة لها، وجعل التركيز كله على سيرة هدى شعراوي وقصة "تحرير المرأة"!
السبب قالته ببساطة وتلقائية والدة عهد التميمي نفسها في مقطع فيديو شهير: "كل أولاد النبي صالح هما موجودين وبيواجهوا الاحتلال، يمكن عهد حظيت بكاميرا في لحظات، وبصراحة بصراحة بصراحة: عهد يمكن شكلها شوي هو اللي خلى العالم تتضامن معها، وهذا على فكرة شيء عنصري، لإنه كذا طفل فلسطيني في نفس منظر عهد، لم يُتَعامل معه هكذا. حتى في صحفية في هاآرتس مرة كتبت: ليش احنا تضامنا مع عهد التميمي، لما مرة كان بدهم يعتقلوني، اعتقلوني كانت تبكي، ليش احنا تضامنا معها، لإنه حسينا إنه هي بتشبهنا، فيمكن تضامن العالم معها أكثر لأنه هي بتشبه شبه أولادهم، ولكن كل أطفال فلسطين هما عهد التميمي".
في لحظة خروج عهد التميمي من باب السجن، كانت تخرج معها أسيرة أخرى لم يسمع بها أحد، تلك هي ياسمين أبو سرور.. لم تكن تشبههم.
إن موازين القوى السائدة في بلادنا تفرض –من بين ما تفرض علينا- رموزا لتفسير وتوصيف وتوظيف حركة الشعوب، وقد رأيت بنفسي في الثورة المصرية كيف أن الذين يبذلون دماءهم في الشوارع لا يستطيعون التعبير عما في أنفسهم، إنما يحتكر التعبير عنهم من امتلك مقعدا في الفضائيات، أو فتحت له السفارات والمؤتمرات الدولية أبوابها واختارتهم من بين حشود الشباب في الشوارع، وبطبيعة الحال: قد اختاروا من كان يشبههم!
في دراسة جويل بينين وزخاري لوكمان عن الحراك العمالي في ثورة 1919، ضمن كتاب "الشرق الأوسط الحديث" بإشراف المؤرخ الشهير ألبرت حوراني، تصريح بأن عصب الثورة كان في الأزهر حيث الشعب، وفي المنازل الفخمة لأعضاء الوفد، الأولون يحركون الشارع والآخرون يحتكرون تمثيله، وبينما الأولون يمثلون الهوية الإسلامية كان الآخرون يُوَظِّفون ويُوَصِّفون ويُفَسِّرون حركتهم ضمن هوية أخرى وطنية ليبرالية تعبر عنهم، إذ هم "البورجوازيون والزعماء الوطنيون الذين يحتذون مثال الأوروبيين"!
ولا تزال النخبة التي تحكم بلادنا حتى هذه اللحظة أقرب في أفكارها وقناعاتها ودراستها وتعليمها وملابسها وعاداتها إلى الأوروبيين منها إلى عموم الشعب، ولا تزال تمسك بمفاصل الإعلام والأموال، وتحتكر توصيف وتفسير حراك الشارع. بل إنه يقع منهم نفس الاشمئزاز والرفض والتأفف من حركة الجماهير العفوية التلقائية الثورية، يريدون ثورة نظيفة راقية أنيقة ملساء ناعمة –وهذه كبيضة الديك أو كالزئبق الأحمر، لم توجد من قبل- ويحسبون أن الخروج عن هذه الحدود إنما هو تعطيل لمسار الثورة وتشويه لها وإحراج لهم أمام الرأي العام العالمي.
ومن اللافت للنظر أن أكثر من ناقش مسألة ثورة 1919 من الباحثين الغربيين المهتمين بالتاريخ المصري أو بمعضلة الحداثة كان تفسيرهم لحراك الشعب أقوى وأنصف من توصيف النخبة المصرية في ذلك الوقت، يتحدث أولئك عن عنفوان الثورة وعبقريتها في قطع الطرق وأسلاك البرق والهاتف والسكة الحديد لتعطيل وصول الجنود الإنجليز إليهم أو استنزافا لممتلكات الإنجليز التي يمتصون بها أموال الناس، بينما يتحدث هؤلاء عن أن القائمين بهذا هم الزعانف والرعاع "والغوغاء وأبناء الدروب وأحلاس الأزقة وحثالة الناس". لم يكن عند الأولين العقدة النفسية والانهزام الحضاري الذي كان يسكن أبناء النخبة.
كان الاحتلال الإنجليزي منذ البداية قد قرر من أين تؤكل الكتف، أو بالأحرى: من أين تُحْكَم البلد، فمن قبل نزول الاحتلال الإنجليزي قرر أوكلاند كلفن أن يتصدى للثورة المصرية التي مثلها عرابي بهذه الطريقة: "لا أعتقد مطلقا أن مهمتي تتمثل في معارضة الحركة الشعبية وإنما تتمثل في توجيه هذه الحركة وإعطائها شكلا محددا"، ولما لم ينجح في هذا المسعى وكانت نخبة ثورة عرابي أصيلة نابعة من الشعب لا من طبقة الحكم الملتصقة بالنفوذ الأجنبي جاء الاحتلال بنفسه، لكن أول تقرير للحالة في القاهرة بعد الاحتلال حمل هذه العبارة للورد دوفرين: "لا يمكن المحافظة على النظام في القطر المصري إلا بتأديب أهله بواسطة أستاذ من الأجانب وبالسوط الوطني"، وبعد أكثر من ربع قرن كان اللورد كرومر –الذي تولى تنفيذ المهمة- يخرج من مصر تحت ضغط ثوري نفذه الحزب الوطني، لكنه قبل أن يخرج أقام له ستة من هذه "النخبة الجديدة" حفل توديع، فكان مما قال فيه: "إن المصريين عموما ناكرو جميل ما عدا البعض مثل مصطفى فهمي، بطرس غالي، سعد زغلول"!! والأخير صِهْر الأول، والأول من أعمدة الحكم "الوطني" التابع للإنجليز، والأخير هو الذي تصدر قيادة ثورة 1919 بعد تصفية قيادة الحزب الوطني بالنفي والاعتقال.
ومن يطالع مذكرات كرومر سيجد كلاما كثيرا مفيدا في مسألة النخبة التي تكونت في ظل الاحتلال ومَثَّلَت الأقلية التي تحكمت في البلاد والعباد، وجوهها محلية وقلوبها ومصالحها أجنبية، أو بعبارة كرومر نفسه: "النتيجة الطبيعية تمثلت في إنتاج طبقة من الأفراد، الكثيرون منهم عبارة عن مسلمين بعيدين عن الإسلام، وإن شئت فقل: أوروبيون تعوزهم القوة أو الحيوية".
كان سعد زغلول، كما وصفه الشيخ محمد رشيد رضا، قد "اشْتُهِر بالتساهل الديني بما لم يشتهر به غيره من الوزراء وكان هو الوزير الذي أدخل تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة في عهد وزارته للمعارف فجاء بعمل لا نظير له في حكومة من حكومات أوربة نفسها دع غيرها، والقبط يعرفون ظاهره وباطنه، ويعتقدون أنه إذا تم الاستقلال لمصر على يده وكان صاحب النفوذ اللائق به في حكومتها المستقلة فإن حظهم منها سينيلهم ما لم ينالوا في عهد الاحتلال".. فهل كان هذا هو القائد الطبيعي لثورة المصريين؟!
في دراسته "الاتجاه الإسلامي في الثورة المصرية سنة 1919م" أورد المؤرخ زكريا سليمان بيومي خمسة أسباب أدت إلى صبغ الثورة بالصبغة العلمانية الليبرالية الوطنية (المضادة لمعنى الأمة والهوية الإسلامية) هي: الصحافة العلمانية التي احتكرت التوصيف والتعبير عن الثورة، هزيمة دولة الخلافة وانحسار فكرة الجامعة الإسلامية، تراجع المؤسسات التقليدية في مصر وفي مقدمتها الأزهر، غياب القيادات الأصيلة من رجال الحزب الوطني، دعم الاحتلال للتمثيل العلماني والقيادة المتمثلة بسعد زغلول لهذه الثورة.
السؤال هنا: كم سببا من هذه الخمسة لا يزال قائما في حاضرنا الآن؟!
إجابة هذا السؤال هي بداية طريق معرفة مصائر ثوراتنا المسروقة، التي وصفها أحد نخبة 1919 بقوله: كانت ثورة ضد الإنجليز يقودها بعض المتنورين، وثورة ضد الثروة يقودها الأشرار الفقراء!
نشر في الخليج أون لاين 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 17, 2019 12:11

April 16, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (13) قصتي مع اليسار في الجامعة


مذكرات الشيخ رفاعي طه (13)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
قصتي مع اليسار في الجامعة
·        ذهبت لصديق يحضر الجن كي أقنع صديقي الملحد بعالم الغيب·        كنت أعدّ مجلة حائط وحدي، ومن هنا استقطبني اليساريون·        صديقي اليساري كان ينكر وجود الله ويأمل في دخول الجنة!!
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه – (1) طفولة بسيطة في قرية مغمورة  (2) أول الطريق إلى المسجد، وإلى السياسة – (3) أول تفكير في إقامة دولة إسلامية – (4) فهمت الحديث النبي من ضابط أمن الدولة (5) أحرقَ كتاب سيد قطب في الصومال – (6) قصتي مع التصوف – (7) ثورة في المدرسة - (8) كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي - (9) كنا البديل لما لا يعجبنا - (10) أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية - (11) انكسار الأحلام في حرب أكتوبر – (12) انضمامي لليسار
كان العمل العام عندي طبعا وجبلة، لم يعلمني إياه أحد ولم آخذه عن أحد سبقني، منذ نعومة أظافري وجدتني توّاقًا لخوض هذا الغمار العام، وهكذا كان حالي في المدرسة الابتدائسة والمدرسة الإعدادية والمدرسة الثانوية، لدي الجرأة لأبادر وأقول وجهة نظري، ولهذا لم يكن الاهتمام بالشأن العام أمرا غريبا علي في مرحلة الجامعة، لكنني كنت أبحث عن الباب، وعن الأصحاب، لقد كنت أبحث عمن أعمل معه، إلا أني لم أجد!
كانت الجامعة يومئذ تكاد تكون خالصة لليساريين، هم أصحاب النشاط والصوت العالي، وهم أصحاب العمل العام، فلم أجد مجالا للعمل مع آخرين، وبينما لا زلتُ جديدا في الجامعة ولم أتعرف جيدا على الوسط المحيط، قررتُ أن أنفذ مجلة حائط وحدي! لا أتذكر الآن ماذا كان اسمها لكن الذي يهمّ هو أنها كانت خارج سياق النشاط العام في الجامعة، ولم يساعدني فيها إلا بعض الشباب أو الزملاء العاديين ممن ليس لهم اتجاه سياسي، ولقد كنتُ حريصا أن تكون هذه المجلة شهرية وأحيانا نصف شهرية. كنتُ خطاطا جميل الخط، كما كنت ذا قراءة ونظر فكنت صاحب المجلة مادة وتصميما، وربما جمعت لها المقالات وربما شاركني شابٌ في عدد منها.
من هاهنا لفتُّ أنظار الذين كانوا يُعَلِّقون مجلات الحائط، أنا أُعَلِّق مجلتي الوحيدة وهم يعلقون أربعا أو خمسا، ومعهم من يتولى شرح ما في مجلاتهم وترويج فكرها بين الطلاب القارئين، وأنا وحدي لسان مجلتي وشارحها، ومن هاهنا كانت بداية التعارف!
-      من أنت؟-      رفاعي طه
وبعد التعارف سألني:-      لماذا لا تعمل معنا؟-      من أنتم؟-      نحن طلاب، ونحن معارضون للنظام.
ثم أخذ يتحدث عن توجهاته، أنا أسأل وهو يجيب، ثم قال:-      يمكنك أن تعمل معنا بدلا من عملك منفردا، ويمكن لك أن تكتب في مجلاتنا-      موافق.
كانت مجلتي ذات نفس سياسي ولكنها ليست متخصصة في السياسة، ولا كان لها ذات السقف العالي المعارض المعروف لليساريين، كانت متنفسي ونشاطي، فكنت أكتب فيها ما يعنّ لي في السياسة أو في غيرها، أعبر فيها عن نفسي ورأيي أولا وأخيرا، كما يتضح فيها النفس الديني الواضح، لتديني الشخصي، ولما تكوَّن لدي في فترات حياتي السابقة.
عرفت فيما بعد أن محدثي هذا لم يكن يساريا فحسب، بل كان شيوعيا أيضا! وعرفت أن هذه المجموعة التي كان يحدثني عنها هي التي نعرفها باسم "مجموعة العمال المصريين" وهم مجموعة شيوعية، تابعة لحزب "العمال المصريين الشيوعي"، فسألته:
-      أنتم طلاب، فلماذا تسمون أنفسكم بالعمال؟-      نحن امتداد لحزب العمال المصريين-      وما هي أنشطتكم؟-      هذا الذي تراه، البلد كما ترى ينتشر فيها الظلم والاستبداد ونحن ضد الظلم والاستبداد، وهؤلاء كما ترى تقاسموا البلد وقَسَّموا الأمة وأفقروا الشعب، وهذا الظلم الاجتماعي الذي لا بد أن نستبدل به العدالة الاجتماعية.-      هذا شيء حسن، ولا خلاف عليه، ولا يسعني إلا أن أشارككم فيه.
في هذا الوقت لم أكن أستعمل لفظ "العدالة الاجتماعية"، ربما تكلمنا عن تقاسم الثروة وتوزيع الثروة ونحو ذلك، وأن الناس سواسية، وأن الله عز وجل خلقهم كأسنان المشط، ونحو هذا من المقولات، وكان هذا القدر المتفق عليه بيننا هو القدر الذي نتعاون فيه.
مع مرور الأيام بدأت أنتبه إلى أن هؤلاء الشباب ليسوا متدينين، وفي ذلك الوقت كانت الجامعات المصرية تشهد قدرا هائلا من الانحلال الأخلاقي، كانت مصر كلها لا تزال في سطوة الأفكار الشيوعية واليسارية التي هي ضد الدين أساسا، ولعل تسعين بالمائة من شباب ذلك الوقت لم يكن متدينا أصلا، وينتشر بينهم الزنا والمخدرات، والحمد لله الذي عصمني وكرَّه إلي هذه الأشياء، فلم أقترف بحمد الله شيئا من هذا.
كان الزنا في ذلك الوقت أسهل منه الآن في الجامعات، بل ولم يكن عيبا لدى العديد من الشرائح، وكانت العلاقة بين الفتاة وزميلها في الحزب تشهد من التبسط والانفتاح ما يجعل ممارستهما الزنا أمرا طبيعيا باعتبارهما زملاء في الحزب أو في الفكرة، ولا بأس أن يسافر معها وتسافر معه، ولقد كان اغتراب البنات في دراستهن الجامعية مما يتيح لهن حرية واسعة وكنَّ يستغللن ذلك أسوأ استغلال أحيانا! فذلك الأب الذي أرسل ابنته للجامعة لا يتاح له شيء من الرقابة عليها.
ومهما قيل في الرقابة التي تفرضها إدارة المدن الجامعية إلا أنها في النهاية يمكن التنصل منها والالتفاف عليها، فهذه التي ستسافر –مثلا- في رحلة جامعية، لن تملك إدارة المدينة لها شيئا وليس بيدها أن تمنعها، أو حتى يمكن للفتاة أن تقول بأنها عائدة لبيتها فيما هي تنوي شيئا آخر، غاية ما في شأن الرقابة بمساكن المدينة الجامعية هو ضبط وقت الدخول مساءا، لكن أين كانت الفتاة طوال النهار؟ فهذا ما لا يتدخل فيه أحد.
كان الشباب في تلك الفترة على هذا النحو من الانحلال الذي رسَّخت له دولة عبد الناصر: ثقافتها وإعلامها وأفلامها ونخبتها الاجتماعية، لكن الشاهد هنا أن هؤلاء الشباب لم يكونوا متدينين لا بمعنى أنهم غير ملتزمين بالدين كسائر الشباب، لقد اكتشفت أن انحلالهم هذا هو علامة على الكفر! إنهم ليسوا شبابا تغلبه شهوته أو يساير التيار مع علمه بأن هذا حرامٌ دينيا أو لا يصح أخلاقيا أو لا يُقبل اجتماعيا.. لا! هؤلاء في هذا الحزب كانوا غير متدينين بمعنى أنهم لا يؤمنون بالدين أصلا!!
عرفت هذا يوم دخلت نقاشا مع أحدهم، كان اسمه سعيد، فقال لي: ليس الخلاف بيننا كبيرا يا رفاعي، أنت عندنا ممن نسميهم "المثاليين"، ثمة مثاليون وغير مثاليين (كان يُطلق على غير المثاليين اسما آخر ذهب عني الآن)، ومن ثَمَّ فليست لدينا مشكلة معك.
تطرق الحوار بيننا حتى وصلنا لقضية الإله: هل هو موجود أو غير موجود؟ فقلت له: هذه قضية لا يمكن أن أتشكك فيها، فقال: إنما ذلك لأنك لا زلت محصورا في اعتقاد قديم مسيطرٍ عليك، وهو اعتقاد لا تملك عليه دليلا، ما الذي يجعلك ترى الإله حقيقة؟!
قلت: بالعكس، كيف تثبت أنت أن الإله غير موجود؟ فإن كل ما حولنا يثبت وجوده، مجرد وجودنا هنا وكلامنا الآن معا دليل على وجوده، إننا ننطق ونتكلم ونرى، وغدا سنموت.. ما معنى هذا كله؟ معناه البسيط المباشر أن ثمة قوة أكبر منا موجودة وقائمة هي التي مَكَّنَتْنا من النطق والرؤية وهي التي تميتنا.. أنت، ماذا تسمي هذه القوة الكبرى؟ هيا.. ضع لها اسما!
قال: إنها الطبيعة، تنتج كل هذا و... و... إلخ هذا الحديث الذي كانوا يحفظونه ويُحَفِّظونه لأنفسهم.
قلت: الطبيعة لا يمكن أن تخلق كائنات حية بهذه الكثافة الموجودة في كل مكان. لكني دعني أُسَلِّم لك أنه لا إله، ولا آخرة، ولا جنة ولا نار ولا شيء على الإطلاق.. هب أننا متنا الآن أنا وأنت ثم صحونا يوم القيامة فاكتشفنا أنها قيامة وأن ثمة جنة وثمة نار، ماذا ستفعل حينئذ؟!
قال: لن أفعل شيئا، ولم قد يُدخلني النار؟ ألست تقول بأن ربنا عادل؟ لئن كان عادلا فسيدخلني الجنة!
أجبته مندهشا: حقا؟!!!
ربما لن يصدق القارئ مثل هذا الحوار، إلا أنه كان يجري فعلا على هذه الطريقة، كان يظن أنه يستحق الجنة طالما أنه لم يفعل شيئا يؤذي البشرية! يقول: منذ أن عرفت نفسي لم أؤذِ البشرية، وعليه فيجب أن يدخلني الجنة.
قلت له: كيف هذا؟! إنني الآن لو سببتك مرتين أو ثلاثة فسيثير هذا غضبك وربما لم تتحمل فعاجلتني بالضرب والعراك، فما بالك وأنت تشتم الذات الإلهية، تقول: ليس إلها، وليس موجودا، وليس يدبر الكون.. كيف تريد بعد هذا ألا يدخلك النار؟! هل بعد هذه النار من عدل؟! لئن كنتَ تقول بأن الله عادل فأبسط مقتضيات العدل أنه يُدخل الصالح الجنة ويُدخل الطالح النار، أما إن كان الصالح والطالح يدخلان الجنة أو يدخلان النار فليس من عدل هنا على الإطلاق! هذا أمر ضد العدل نفسه!
انتهى هذا الحوار عند هذه النقطة.
كانت حواراتنا تسير على هذا النمط الذي نجتهد فيه في هذه المرحلة المبكرة، لكن أبرز مظاهر الخلاف كانت تتجلى في المسائل الأخلاقية. وبقيت معهم هذه السنة الأولى ثم الثانية من كلية التجارة.
مما أتذكره أيضا حوارا آخر مع أحدهم، واسمه جمعة، وكنا نتكلم ذات يوم عن الجن والملائكة والغيبيات والسحر، ونحو هذه الأمور، ولم يكن هو مؤمنا بأيٍّ من هذه الغيبيات، قلت له:
-      ألست لا تؤمن بهذه الأشياء: السحر والجن والملائكة لأنها غيبيات؟-      بلى-      فهل إذا ثبت لك شيء منها، هل تؤمن بالبقية؟!-      نعم!-      حسنا، لن أستطيع أن أثبت لك الجن والملائكة، لكني أستطيع أن أثبت لك وجود السحر، ولي عليك أنه إذا ثبت هذا أن تؤمن بالجن والملائكة وعالم الغيب.. اتفقنا؟-      اتفقنا.
تركته ومضيت إلى رجل أعرفه كان يتعامل مع الجن، وذكرت له أن صديقا لي يقول كذا وكذا، وطلبت منه أن يدبر شيئا ما، أيَّ شيء، يخرج من بعدها صاحبنا هذا وقد آمن. وافق وقال:
-      انتظروني يوم الثلاثاء القادم، سآتيكم.-      ماذا ستفعل؟-      لا تشغل بالك-      لا.. لا أدخل في رهان خاسر، يجب أن تخبرني ماذا ستفعل؟-      سأجعله يضع يده اليسرى على فخذه الأيسر، ثم أقرأ بعض التعاويذ، وسترتفع يده غصبا عنه.-      وماذا إذا قاوم؟-      لن يستطيع.. ولو قاوم فستُكْسَر يده!-      متأكد؟-      متأكد.. ما رأيك أن تجرب؟-      (في خوف ورهبة) لا.. لا أجرب، أنا مؤمن والحمد لله!
مع أني لا أؤمن بخرافاتهم هذه إلا أني وجدت فيه وسيلة لكي آخذ صديقنا جمعة إلى الإيمان بالغيب، وكان صاحبنا صاحب التعاويذ هذا اسمه عبد السلام، وحضر إلينا حسب الاتفاق. وعبد السلام هذا –بالمناسبة- لم يكن متدينا، ولكي نعرف مقياس التدين فأنا كنت أصلي وأصوم فحسب ومع هذا كنت متدينا بمقاييس هذا العصر!
جاء عبد السلام وجاء جمعة، وضع يده على فخذه، وقال له: إذا شعرتَ أن يدك ترتفع فلا تقاوم حتى لا تتضرر، وبينما جمعة يضع يده ويراقب ألا ترتفع فعبد السلام يقرأ تعاويذه وينظر بقوة إلى عينيه، ثم يقول له: لا تقاوم.. قد أخبرتك ألا تقاوم، لا تحاول..
في النهاية ارتفعت يده فعلا..
هل كان هذا نوع من التأثير النفسي؟ أم نوع من تسخير الجن.. لا أعلم!
المهم أني كسبت الرهان، وهتفت في جمعة: ها؟ آمنت بالملائكة والجنة والنار أم ماذا؟!
تمتم وتلعثم ولم يحر جوابا: لأ.. هو.. أكيد أنتم... لأ.. لأ، يجب أن أتكلم مع آخرين. ثم لم يؤمن!!
هكذا كان الحال مع التيار اليساري في ذلك الوقت.. ثم نترك الحديث عن الجماعات الدينية إلى اللقاء القادم إن شاء الله.
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 16, 2019 11:34

April 11, 2019

ويسألونك عن الجيش الوطني والدولة الوطنية


حاول الإخوان في مصر بعد نجاحهم في برلمان ما بعد الثورة ضمن خططهم الإصلاحية أن يتعرفوا على الخريطة الاقتصادية لمصر، بحيث تكون البداية لرسم السياسات الاقتصادية فيما بعد وحجر الأساس في اتخاذ القرارات. نظَّمَ أحدهم –كما أخبرني هو بنفسه- اجتماعا دعا فيه عددا من الوزراء السابقين والخبراء وأساتذة الجامعة والنافذين، ثم فوجئ هو نفسه أن البلد ليست فيها خريطة اقتصادية، وقال له وزير سابق: "أنت تحاول فعل شيء لم يحدث من قبل، كان مبارك يحكم البلد بطريقة أن الوزارات هي دوائر فساد خاصة يمكن للوزير وفريقه أن يستفيدوا منها، لكن السياسات العامة لا تؤخذ في الوزارة ولا مجلس الوزراء وإنما تأتينا بها تعليمات رئاسية ولا نعرف على وجه التحديد لماذا اتخذ هذا القرار ولا ما هي تأثيراته وأبعاده".
بعد هذا الاجتماع بشهور، والكلام لا يزال للقيادي الذي حدثني بهذا، فوجئ بطلب من رجال أعمال في دولة إسلامية يريدون الاستثمار في قطاع المحاجر لأنهم يعملون في صناعات الرخام، فسألهم: وكيف عرفتم أن محاجر مصر فيها هذه الأنواع التي تعملون فيها؟ قالوا: اشترينا المعلومات من مؤسسة أمريكية (تتاجر بالمعلومات)! (انتهى النقل عن القيادي الإخواني).
وكانت الخلاصة أن المؤسسات الأمريكية التي تتاجر بالمعلومات وتبيعها لديها خريطة مصر الاقتصادية التي ليست موجودة في الوزارات المصرية نفسها. وأن طبيعة الحكم في مصر كالصندوق الأسود لا يُعرف من يديره ولا من يتخذ قراراته.
في سياق آخر، كان نموذج الجزائر هو النموذج المثالي الذي ندلل به على أن نظام الحكم في بلادنا العربية صندوق أسود مجهول، ذلك أن الجميع يعرفون أن بوتفليقة لا تسمح له صحته أن يحكم، إذن فمن الذي يحكم؟ هنا تختلف وتضطرب الإجابات.. فبعضهم يُسَمِّي الحاكمين ترجيحا وتوقعا وظنونا، وبعضهم يعترف بأن الإجابة مجهولة، وبعضهم يتوقع أن الذين يحكمون هم مجموعة وليس واحدا، ثم يقع الخلاف في تسمية هذه المجموعة بطبيعة الحال.
وهكذا، كان الشعب يعرف بنفسه أن رئيسه لا يحكم ولكنه لا يعرف من يحكم.. والجميع يعرفون أن فرنسا وأمريكا يعرفون جيدا من يحكم!.. تلك هي الصورة النموذجية لحالة معاصرة من الاحتلال بالوكالة التي تمثلها الدولة العربية المعاصرة.
الغريب المثير للدهشة وللخوف أيضا أن لحظة الثورة المصرية وما بعدها –وهو ما يتكرر الآن بحذافيره في الحالة الجزائرية- تحفل بالعارفين الذين يزعمون قدرتهم على رسم المشهد السياسي وتحديد مواقع أطرافه وأجنحته وتصور النزاعات التي بينهم، وأخطر هؤلاء من تنتهي خلاصاته إلى الثقة بالجيوش أو بالأجهزة الأمنية باعتبارها أجهزة وطنية، هؤلاء لا يخرج الظن فيهم عن احتمالين: أنهم أدعياء أو خبثاء.
من وجهة نظر علمية بحتة فالدولة العربية المعاصرة ليست دولة بالمعنى المفهوم في كتب العلوم السياسية، فهي ليست تعبيرا عن حقيقة طبيعية جغرافية ولا عن عرق ولا عن دين، ولا هي نتيجة صراع داخلي بين شعوب هذه المنطقة أسفر عن اتفاقية مثل وستفاليا الأوروبية التي رسمت دُوَلَها استنادا لتقاسيم قومية وجغرافية.. على العكس، دولنا المعاصرة هي خرائط رسمها الاحتلال الأجنبي بصراع النفوذ واتفاقيات التقسيم. ولذلك يُمكن أن توجد دولة لا تعبر حتى عن القبيلة بل القبيلة أوسع منها، كما توجد شعوب تتقسم بين دول مختلفة. ومن ثَمَّ فمحاولات تفسير سياسات الدولة العربية المعاصرة وفقا لما في كتب العلوم السياسية هي فاشلة بالضرورة لأن الحالة التي تعالجها هذه الكتب لم توجد في واقعنا.
ومن وجهة نظر سياسية بحتة فإن النظم التي تحكم هذه الدول لم تكن إفرازا لهذه المجتمعات، بل كانت من مخلفات الاحتلال الأجنبي أيضا، وأكثر الدول العربية المعاصرة تحكمها الأقليات، التي وصلت إلى هذه المواقع ضمن السياسة العامة للاحتلال بتمكين الأقليات، ولهذه فهي ليست تعبيرا صادقا عن هذه الشعوب ولا لها انتماء حقيقي لهذه الأمة. كما أنها محكومة باتفاقيات علنية وسرية تنظم التصرف في الموارد والثروات وتحتكر الخطوط العامة للسياسات. ومن ثَمَّ فتعريف "الدولة الفاشلة" أو الناجحة كما هو في كتب العلوم السياسية يعتبر تعريفا معكوسا في نموذجنا العربي المعاصر، ويمكن مراجعة هذه النقطة هنا.
ولهذا فإن الذي يبدو مُحَيِّرًا لأول وهلة يبدو طبيعيا جدا مع ملاحظة هذه الفروق، إذ أن اجتماع الدول العربية في اللغة والدين والثقافة والاتصال الجغرافي لم ينجح، كما هي طبيعة الأشياء، في صناعة أي نوع من التقارب فيما بينها، بل تأسست صيغ أصغر كالاتحاد المغاربي ومجلس دول التعاون الخليجي، ثم لم تفلح هذه الصيغ الأصغر أيضا في صناعة أي نوع من التكتل! وقد كان يُقال عن حق: الاجتماعات الوحيدة التي تنجح عربيا هي اجتماعات وزراء الداخلية. فإلى أي شيء يشير هذا؟!
يشير إلى حقيقة أن هذه الدول تعمل ضد الشعوب. وهذه الحقيقة هي التي تفسر سائر وجوه التعاون والتقارب بينها.هل هذا اكتشاف جديد؟!
في الواقع: لا، هذا أمر ظاهر للكافَّة إلا لأولئك الذين يتعاطون مخدرات الإعلام الرسمي الحكومي، أو يقتصرون في فهمهم للواقع على النظريات الأكاديمية التي تشرح حالة الدولة في صيغتها التي انبثقت عن وستفاليا وتطورت أوروبيا، (ومن نافلة القول أن الثقافة التي نتعاطاها وندرسها هي بالضرورة غربية لأن الغرب هو الذي احتلنا والذي لا يزال غالبا علينا عسكريا، ومن ثَمَّ: ثقافيا). بل هو أمر يُصَرِّح به ساسة وباحثون غربيون وباحثون عرب أيضا، وإن كان العرب أقل بطبيعة الحال.
إن تكوين الدولة العربية المعاصرة هو في أساسها تكوين مُشَوَّه، بل ليس يُطلق عليها مصطلح الدولة القومية لأن العرب لا يتجمعون في دولة واحدة، بل هي دول شبه قومية (subnation) ولهذا ابْتُكِر لها مصطلح "الدولة الوطنية" وهو مُصطلح لا يعبر عن معنى أو عن انتماء، لأن كل أرض مهما صغرت يمكن تسميتها بالوطن.
ولذلك فإن التحدي العظيم القاهر أمام الشعوب الثائرة يتمثل في أن هذه الدولة المعاصرة أقرب لأن تكون إدارة استعمارية محروسة بحامية محلية تابعة للجيش الأجنبي، هذه هي الصورة التي يُفَسَّر بها سلوك الدولة المعاصرة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ومع أن هذه النُظُم قد مَزَّقت العقد الاجتماعي الذي صاحب تأسيسها (الأمن مقابل الحرية، أو بعض الثروة مقابل الحرية، أو بعض الدين مقابل الحرية... إلخ) إلا أن الشعوب لم تستطع بعد الخروج من سيطرتها، ذلك أن المعركة ليس مجرد معركة شعب ضد حاكم مستبد، بل هي معركة شعب ضد نظام قاهر متغول، ثم هي معركة شعب ضد الاحتلال الأجنبي الداعم له، فيجتمع فيها معنى الثورة السياسية والثورة الاجتماعية وحرب التحرير ضد المحتل.
حَفَّزَني إلى كتابة هذا كله دعوى تسري بين أهلنا في الجزائر عن الجيش الوطني الجزائري الذي أنشأته الثورة وليس الاحتلال الفرنسي، وعن الأجنحة الوطنية المخلصة التي تسعى الآن جاهدة للتخلص من رموز دولة بوتفليقة، وأن الجيش الجزائري ليس كالجيش المصري. والواقع أن هذا المشهد هو مشهد مصري خالص تكرر بالحرف قبل ثماني سنوات، فقد قيل عندنا:
- جيشنا ليس علمانيا ولا عقائديا كالجيش التركي- جيشنا زاخر بالمتدينين لأنه من عموم الشعب (فالتجنيد إجباري) وليس مرتزقا كالجيش الأمريكي- جيشنا لا تزال عقيدته القتالية ضد إسرائيل ولكنه كجيش محترف لا ينفذ انقلابات عسكرية ضد القيادة السياسية كما فعلت الجيوش التركية والباكستانية والسورية
بل المفارقة أنه قد قيل في جيشنا المصري ما يجعل الاطمئنان إليه أكثر من الاطمئنان إلى الجيش الجزائري، فقد قيل أيضا:
- جيشنا بناه المصريون بعد يوليو ولم تبنه فرنسا كالجيش الجزائري- جيشنا لم يرتكب مذبحة ضد الشعب كما فعل الجيش الجزائري في التسعينات- جيشنا يتكلم العربية لا الفرنسية، وثقافته عربية إسلامية لا فرنسية غربية كالجيش الجزائري
واستعمل كل طرف ما في جعبته من المعلومات والظنون والأوهام لتسويق وطنية الجيش وأن طنطاوي كان معارضا لمبارك، فلان يستخرج وثيقة من ويكي ليكس برفض طنطاوي لاقتراح أمريكي ما بشأن الحدود أو التسليح.. كتاب كان يسب الرئيس وكاد يُسحب من الأسواق لكن طنطاوي مرره.. بل قال أحد الثوريين المعروفين: طنطاوي قد يكون مؤمن آل فرعون.. حديث عن زوجة طنطاوي المحجبة.. حديث عن طنطاوي وحفاظه على الصلاة.. وهكذا!
كلام وحقائق وإشاعات وخليط من الحكايات عن طنطاوي وقيادة الجيش تصب كلها في أن الجيش وطني وأنه فقط كان ينتظر لحظة خروج الشعب ليتحرك.. كلام تدفعه الرغبة في الانتقال السلس للسلطة بلا تكاليف ولا صدام.. وتنتجه الحالة التي يبدو فيها العلمانيون (أنصار مبارك) ضد الجيش!
يجب ألا يغتر الجزائريون بالهجوم العلماني على الجيش الجزائري، فقد حدث هذا نفسه في مصر أيضا حتى ظن الإسلاميون أن قيادات الجيش متدينون ومخلصون، وكانت قيادات الجيش تدعم هذا التصور في اللقاءات الخاصة مع الإسلاميين وتشتكي من العلمانيين الذين يريدون تحويل مصر إلى ليبرالية لا أخلاقية! فيما نفس هذه القيادات تلبس الوجه الآخر في لقاءاتها بالعلمانيين وتحذرهم من صعود الإسلاميين الذين سيأتون للبلد بالخراب ويغرونهم بالضغط لتطويل الفترة الانتقالية تحت الحكم العسكري. لذلك كان العلمانيون في مصر يعيشون واحدة من أغرب التناقضات، فهم يهاجمون العسكر ويتهمونهم بصفقة سرية مع الإسلاميين لتسليمهم البلد، وفي نفس الوقت يطالبون بتطويل الفترة الانتقالية تحت حكم العسكر لأن الأحزاب "المدنية" غير مستعدة بعد!!!
لو أن قائد الجيش الحالي قضى سنينه الأخيرة في تصفية رجال فرنسا –كما يُسَوَّق الآن في الجزائر- لما بقي في موقعه، لأن فرنسا لم تكن لتقف متفرجة عليه، وهو يُصَفِّي نفوذها في أهم وأخطر مؤسسة حكم في النظام السياسي.
أعرف أن كثيرا مما قلته هذا معروف، ولكنها ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين..
كما أعرف أن أهلنا في الجزائر يعرفون أكثر من هذا بكثير بكثير بكثير، ولكن التيار العام يجرف العارف، على نحو ما جرف دريد بن الصمة وهو ينصح قومه فخالفوه، ثم تابعهم، ثم قُتِلوا جميعا، فترك قبل مقتله بيته الخالد:
أمرتهمُ أمري بمُنْعَرَج اللِّوَى .. فلم يستبينوا النُّصح إلا ضحى الغدفلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى .. غوايتهم، أو أنني غير مهتديوهل أنا إلا من غُزَيَّة إن غوت .. غويتُ، وإن ترشد غزية أَرْشُدِ
نشرت في الخليج أون لاين
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 11, 2019 03:14