محمد إلهامي's Blog, page 20

April 8, 2019

تاريخ الأوقاف العثمانية في القاهرة


أبرز ما نسوقه في الدلالة على أن الحكم العثماني للبلاد العربية لم يكن احتلالا هو النظر في طبيعة هذا الحكم وسياسة ولاته، لا سيما في الجانب الحضاري، وفي هذا المقال نسوق طرفا من الأوقاف التي أنشأها العثمانيون في مصر في نصف القرن الأول من الحكم العثماني، والذي هو أبلغ تعبير عن طبيعة العلاقة بين الدولة العثمانية وولاياتها العربية، وقد كان نصف القرن الأول هذا تحت حكم السلطانيْن: سليم الأول وسليمان القانوني.
ولطبيعة الموضوع واتساعه، سنقصر الحديث على الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة فحسب، بمعنى أننا لن نتناول ما أنشأته النخبة العثمانية الحاكمة من غير الولاة كالنواب وقادة الجند ورجال البلاط، كما لن نتناول إلا ما كان في القاهرة فحسب دون ما كان في بقية الأنحاء.
لقد زخرت القاهرة بالأوقاف في الحقبة العثمانية، وكان ذلك امتدادا لازدهار الأوقاف في العصرين الأيوبي والمملوكي، وفي هذا العصر الأخير بلغت القاهرة ذروتها السياسية والاقتصادية، وعلى غير ما شاع في الكتابات الاستشراقية والدراسات التاريخية القديمة من صورة انحدارٍ وضعفٍ هَوَتْ إليه القاهرة، فقد قدمت الدراسات الحديثة التي اعتمدت على الأرشيف والوثائق صورة أخرى أكثر وثوقية ومصداقية تثبت أن القاهرة واصلت نموها وازدهارها، هذا النمو والازدهار الذي كانت الأوقاف جزاء منه وسببا فيه في نفس الوقت.
عيَّن السلطان سليم أميرَ حلب خاير بك، وهو مملوكي انحاز إلى العثمانيين، ولاية مصر فكان أول ولاتها العثمانيين، ولما مات السلطان سليم بعد فتح مصر بثلاثة أعوام أقرَّه السلطان سليمان على الولاية كما هو، وظل بالمنصب إلى وفاته، فقضى في الولاية خمس سنواتوبعد وفاته وقع اضطراب لخمس سنوات في ولاية مصر، حيث فوجئ المماليك بأن السلطان سليمان قد عيَّن أميرا من رجاله وليس منهم فحاولوا التمرد عليه، ثم هُزِموا، ثم تولى مصر أحمد باشا وكان طموحا فنزع إلى الاستقلال بها فوقعت مواجهات مع العسكر انتهت بمقتله، ثم استقرت أحوال الولاية بمقدم إبراهيم باشا صهر السلطان، والذي رتب الأحوال في مصر ووضع نظامها الإداري ليبدأ فيها عهد استقرار طويل. لقد "كان معظم الحكام الذين أُرْسِلوا لمصر أقوياء وأكفاء، والمعطيات التاريخية القليلة المتاحة عنهم تتحدث عن أعمالهم أو عن الأثر الذي تركوه في نفوس رعاياهم"كان سليمان باشا الخادم أول ولاة مصر في هذه الحقبة، وظل فيها عشر سنوات (931 – 941هـ)، نجح خلالها في توطيد الأمن، وأولى اهتماما كبيرا بضبط الأمور فأعاد تعيين المساحة لضبط الأقاليم، كما اهتم كثيرا بالفعاليات التجارية في البحر الأحمر ومع الهند، وانبسط به أهل مصر في ولايته الأولىثم اسْتُدْعِيَ سليمان الخادم للمشاركة في حملة بغدان فصارت ولاية مصر إلى خسرو باشا، الذي أرسل خراج مصر اثني عشر حملا بدلا من ثمانية، فرأى سليمان أن هذه الزيادة جاءت بظلم الرعية، فعزله وأنفق الزيادة في وجوه الخيروبعد انتهاء الحملة تولى سليمان الخادم منصب الوزارة في الآستانة ثم أعيد مرة أخرى إلى مصر، وكانت ولايته هذه المرة أقل من سنتيْن (943 – 945هـ)، وعُرِفَ سليمان الخادم بكثرة العمارة في مصر وأشهر آثاره جامعه المعروف بجامع سارية الجبل في القلعة، أنشأه في ولايته الأولى (935هـ) وهو أول جامع يشيد على الطراز العثماني، "وله أوقاف دارّة وشعائره الإسلامية مقامة"ثم تولاها داود باشا لنحو اثني عشر عاما (945 - 956هـ)، وأثنى عليه المؤرخون بالحلم والكرم ومحبة العلماء والكتب والعدل والأمنثم صارت ولاية مصر إلى علي باشا السمين (علي باشا الوزير)، وكان حاكما عادلا صالحا محبا للعلماء والفقراء محسنا لهم، وقد عُرِف بالعمران أيضا، إذ رمَّم وبنى عدة مبانٍ في القاهرة كمقام السيدة زينب ومبان أخرى بفوة ووكالة عظيمة برشيد، وجدد قلعة العريشثم تولاها محمد باشا (961هـ) فكان على عكس سلفه محبا للخلاعة، قضى في مصر ثلاث سنوات (961 – 963هـ) فكرهه الناس وتكررت منه الشكاوى وزاد البلاء بأن وقع في زمنه غلاء عظيم وشَحَّتْ المحاصيل، فلما وصلت قبائحه إلى السلطان سليمان عزله ثم قتله خنقا (963هـ)ثم تولى إسكندر باشا فحكم ثلاث سنوات وأشهر (963 – 966هـ)، وكان من أهل الخير والصلاح، وأحبه الناس محبة عظيمة، وزاد النيل في ولايته فقلَّتْ الأسعار، وهو أشهر الولاة العثمانيين وأكثرهم عمارة في تلك الفترة، فهو صاحب الوقف الشهير المعروف بوقف إسكندر باشا، وفيه المدرسة والسبيل والتكية والمنشآت الكثيرةثم تولى على باشا الخادم (966هـ) لمدة ستة عشر شهرا، وكان من أهل الدين والخير، عادلا محبا للعلماء والفضلاء كثير الإحسان لهم، ولما مات لم يكن لديه إلا سبعة دنانير، وخمسة عشر قطعة من الملبسثم تولى مصطفى باشا شاهين (مصطفى الثاني) (967هـ) فقضى في الولاية ثلاث سنوات وأربعة أشهر، "فجعل الرشوة شعاره والظلم دثاره مع عدم إنصافه للرعية"، ومع ذلك فإنه كان من أصحاب العمارة حيث عمَّر الرُّبْع الذي بمصر القديمة، وجعله وقفا على أعمال خير، ولما وصلت أخبار ظلمه وجوره عزله السلطان سليمان عن مصرنتوقف هنا لأن المساحة المتاحة لا تسمح بأكثر من هذا، وفي المقال القادم إن شاء الله نعرض تحليلا لدوافع هذه الأوقاف وخصائصها، لكن القدر الذي يهمنا في هذا المقال وهو الشاهد منه أن هذا لم يكن بحال سلوك محتل للبلد كما فعلت الدول الأوروبية بعدها بثلاثة قرون في بلادنا، وهي القرون الثلاثة التي حُفِظَت فيها الديار العربية بالسيوف العثمانية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، إبريل 2019

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 08, 2019 10:23

April 3, 2019

الدولة الإسلامية أم الدولة النيوزيلاندية؟!


أبدأ بالإقرار والاعتراف أن تعامل الحكومة النيوزيلاندية مع مذبحة المسجدين كانت فوق المتوقع، وأنها تعاملت مع الموضوع كما ينبغي لحكومة علمانية ليبرالية تؤمن بالتعدد والتنوع، أي كما ينبغي للصورة العلمانية الليبرالية كما ترسمها وتتمناها التنظيرات المعجبة بها والمؤيدة لها.
وقد أثار هذا مزيدا من الجدل حول الدولة التي نأملها وننشدها في واقعنا، إن مما يتمناه الإنسان السويِّ أن يعيش الناس بأمان وسلام وأن يجد المتطرف منهم رفضا عاما من الناس ومن السلطة، وأن يجد الضحايا تعاطفا عاما من الناس والسلطة معا.. فهل هذه الصورة الجميلة الحافلة بالمشاعر الإنسانية موجودة في الدولة الإسلامية التي تُبَشِّرون بها وتسعون إليها؟
بعضهم زاد في إحراجنا فطرح أسئلة من عينة: هل يمكن للخليفة أن يرفع الصليب أو يلبس الطاقية اليهودية إذا وقع اعتداء على الأقليات المسيحية واليهودية كما رأينا رئيسة الحكومة هناك ترتدي الحجاب ويذيعون الآذان في وسائل الإعلام ويفتتحون البرلمان بالقرآن الكريم؟
سيحتاج توضيح الموقف الإسلامي إلى عدة أمور أحاول سردها في هذه السطور، سائلا الله التوفيق والإعانة.
1.   نيوزيلاندا استثناء علماني
لو كانت سيرة البلاد العلمانية مع الشعوب ومع الجرائم ضد الأقليات كسيرة هذه الحكومة النيوزيلاندية، فلربما كنا اقتنعنا أن العلمانية تستطيع التعبير عن نفسها بهذه الصورة الجميلة المشبعة بالتنوع الإنساني واحترام الأقليات وإعلاء قيم التسامح، بينما الواقع غير ذلك، لقد كانت هذه الصورة نموذجا استثنائيا كما يشهد الجميع، وكما تابع الجميع بانبهار وإعجاب. إن حوادث المساجد خبر أسبوعي تقريبا في أوروبا وأمريكا ولم يحدث شيء مما فعلته الحكومة النيوزيلاندية، ويمكن ببساطة متابعة تقارير المنظمات الإسلامية أو المنظمات المهتمة بالتنوع وحقوق الأقليات لتتبع هذه الأحداث.
وبناء عليه، وكما تقرر في سائر العلوم، النادر لا حكم له، والاستثناء لا يُبنَى عليه ولا يُستدَلُّ به. فليس لأصحاب مذهب العلمانية أن يفخروا باستثناء خالف الأصل.
2.   نيوزيلاندا بعيدة عن الصراع بينما تظهر حقيقة الأخلاق في الصراع
من المعروف المتقرر الذي شهدت له قرون التاريخ أن الغرب يتعامل في بلادنا بازدواجية أخلاقية، وعلى سبيل المثال، فلو كنتَ مصريا معارضا واستطاع النظام أن يسجنك فستُعَذَّب بآلات تعذيب مصنوعة في بلاد الغرب وستُقْتَل برصاصة انطلقت من سلاح غربي، أما إذا استطعت الإفلات لنفس هذه البلد الغربية فربما تحصل على حق اللجوء الإنساني وربما على إعانة شهرية باعتبارك لاجئا هاربا من منطقة تعاني من انتهاكات حقوق الإنسان، وفي كلا الحاليْن فإن رئيس هذا البلد الغربي سيكون قد دعم الانقلاب العسكري الذي صنع بك كل هذا، وهو يلتقي بشكل دوري بزعيم الانقلاب ويعقد معه الصفقات.
الازدواجية الأخلاقية الغربية ليست غريبة علينا، ولهذا فإن الجريمة التي تقع هناك في أرضهم تُعامَل بشكل مختلف تماما عن الجريمة التي تقع في بلادنا، وقد تقرر منذ قرون "النهضة الأوروبية" وعصر الاستعمار العالمي الذي اجتاح إفريقيا وآسيا والأمريكتين أن معاملة أولئك للشعوب المختلفة لا علاقة لها بمعاملتهم لمن استطاع الإفلات من أرض الاحتلال إلى أراضيهم.
لو كنَّا نعرف الغرب من خلال سياساتهم الداخلية فحسب لكان إعجابنا بهم يتضاعف أضعافا مضاعفة، ولكن حيث أنهم احتلونا في بلادنا فقد ظهرت حقيقة أخلاقهم وحقيقة سياساتهم وحقيقة قناعاتهم الجميلة التي تخفي تحتها كل أنواع التوحش الاستعماري.
حسنا.. ما علاقة هذا كله بنيوزيلاندا؟
نيوزيلاندا بلد في أقصى الأرض، ليست قريبة من ديارنا وبلادنا، ليس لها ميراث استعماري نختبر فيه حقيقة أخلاقهم، ولهذا فيجب أن نعرف أن هذا المشهد الجميل الذي رأيناه إنما هو مشهد السياسة الداخلية، مشهد يشبه تهنئة أوباما للمسلمين بعيدهم وإفطاره مع وفد لهم في رمضان، بينما أنواع نيرانه تقصف المسلمين في أفغانستان وباكستان والعراق واليمن والصومال وغيرها.
إننا نرى نصف الصورة فقط.. ولا ينبغي لنصف الصورة أن تنسينا أن ثمةَ نصفٌ آخر يحكم عليها فيصدِّقَها أو يكذِّبَها، نصف الصورة الآخر هو السياسة الخارجية..
بالتفتيش ستجد أن قوات نيوزيلاندا مشاركة ضمن التحالف الدولي في العراق، ومن قبلها في قوات إيساف في أفغانستان، ولكن لكونها دولة صغيرة ومنزوية في أقصى الأرض فهي غير حاضرة في الذهن الإسلامي.
3.   نيوزيلاندا يمكن أن تتغير
نيوزيلاندا دولة ديمقراطية، لقد وقفت اليوم بقوة ضد سفاح المسجدين وعبَّر كثير من أطيافها عن تعاطفهم وتضامنهم مع المسلمين، لكن السؤال: من يضمن ألا تتغير نيوزيلاندا؟ أو يصعد فيها اليمين المتطرف ومن ثم يستحيل سفاح اليوم بطل الغد؟!
الدول العلمانية الديمقراطية تتأسس على أن الشعب هو مصدر السيادة، هو صاحب الأفكار النهائية التي يجب أن تعبر عنها الدولة وتنفذها السلطة، الفكرة النظرية للدولة العلمانية الديمقراطية أنها لا تستمد أفكارها وقيمها من مصدر خارجها كالدين الذي يعتمد على الغيبيات وله أفكاره المقدسة، الدولة العلمانية –كما هي في الحالة النظرية- تعبير عن رأي الشعب، الشعب يقرر كيف يُحْكَم عبر ممثليه الذين يضعون الدستور، والذين يملكون حق التشريع في البرلمان، والذين يشكِّلون الحكومة التي تنفذ القوانين، وهكذا.
هذه هي الصورة النظرية التي لا تحدث عمليا بمثل هذه الكفاءة، بل ثمة خروقات هائلة للديمقراطية تجعلها مسرحا يتحكم فيه أصحاب القوة والنفوذ والأموال.. لكن هذا حديث آخر لن نخوضه الآن.
الذي نخوضه الآن هو مسألة الأفكار الحاكمة لنيوزيلاندا كدولة ديمقراطية، إذا تغيرت أفكار الناس من الليبرالية التي ترحب بالتنوع والتسامح والتعدد إلى اليمين القومي العنصري، ماذا سيحدث؟.. يفترض بالديمقراطية التي تعبر عن رأي الشعب وعن توجه المجتمع أن تفرز حكومة وبرلمانا وقوانين في نفس هذا التوجه، وحينها سيتحول الموقف من المهاجرين والملونين إلى الموقف القانوني الديمقراطي السليم، إن أغلبية المجتمع لا ترحب بهؤلاء ولا تريد لهم البقاء فيه. احتراما للديمقراطية ولرغبة الأغلبية يجب أن يخرجوا طوعا أو كرها.
تشهد أوروبا الآن موجة من صعود التيارات اليمينية، الكلام الذي كان يُمكن أن يُدان قائله بتهمة العنصرية قبل سنوات يُقال الآن تحت قبة البرلمان وعلى ألسنة رؤساء حكومات أحيانا، ولكنها الديمقراطية يا صديقي.
وإذن، فليس يضمن أحد أن تكون هذه اللحظة الجميلة في تاريخ نيوزيلاندا مجرد لحظة تاريخ عابرة وستنتهي، ثم تأتي من بعدها لحظة أخرى يكون فيها سفاح المسجدين بطلا سابقا لعصره وصاحب بصيرة نافذة في توقع الخطر الذي لم ينتبه إليه المجتمع إلا متأخرا، كما حدث في كل البلاد التي تراجعت عن قوانين كانت سائدة ومستقرة فيها.
ربما يسأل سائل: لا أحد يضمن الغيب ولا يضمن المستقبل، ولا حتى في "الدولة الإسلامية" التي تبشر بها وتسعى إليها، فلماذا تريد أن تضمن الغيب في نيوزيلاندا ولا تريد لنا أن نطمئن على مصير الأقليات في "الدولة الإسلامية"؟أقول: الإجابة ستأتيك بعد قليل إن شاء الله. لكن يهمني الآن تثبيت أن حالة التنوع والتسامح التي أعجبنا بها جميعا لا تستند إلى حقيقة صلبة دائمة، وأرجوك: لا تنس أن شعب نيوزلاندا أصلا هو بقايا البيض الأوروبيين الذين أبادوا السكان الأصليين لهذه البلاد قبل ثلاثة قرون!
4.   هل خرجت نيوزيلاندا عن طبيعتها كدولة علمانية ليبرالية ديمقراطية؟
ذكرنا أن الدولة العلمانية الليبرالية تقوم في أساسها النظري على الحياد تجاه الأديان، إنها دولة تقف على مسافة واحدة من كل المعتقدات، ترى المسلم مثل المسيحي مثل اليهودي مثل الهندوسي مثل الملحد.. كلهم مواطنون!كلهم مواطنون خاضعون لنظام الدولة وقوانينها.. أرجوك انتبه لهذه النقطة جيدا!
كل أولئك مواطنون خاضعون لنظام الدولة وقوانينها، بمعنى: ليست ثمة مشكلة للدولة إذا عبد الهندوسي البقرة، لكن لا يجوز للهندوسي الاعتراض على ذبح البقر وسلخه وتقديمه طعاما لذيذا شهيا للآكلين، وليست ثمة مشكلة للدولة إذا امتنع المسلم عن شرب الخمر لكن لا يجوز له الاعتراض على بيع الخمر وتصنيعه وتقديمه شرابا حلوا سائغا للشاربين، ولا بأس عند الدولة أن يتزوج المسيحي في الكنيسة لكن لا يجوز للأب في الكنيسة الاعتراض على مسيحي أراد أن يتزوج زواجا مدنيا أمام موظف الدولة.
هنا الدولة صارت في حقيقتها دين آخر: عبادتها هو الخضوع للقانون واحترام الدستور وتحية العلم ودفع الضرائب والمشاركة في الجيش الوطني وأمورا أخرى.. فيما عدا ذلك فيمكن أن تمارس معتقداتك التي لا تتعارض مع نظام هذه الدولة.
من هنا ففي لحظة التعاطف العلمانية الليبرالية النموذجية يمكن لرئيسة الحكومة أن تلبس الحجاب الإسلامي وتذيع الآذان وتفتح البرلمان بالقرآن، تعبيرا عن تعاطفها مع الضحايا المسلمين، مثلما يمكن غدا أن ترتدي الطاقية اليهودية وتذيع التراتيل وتفتح البرلمان بالتوراة، مثلما يمكن أن تقف في احترام أمام بقرة وتستضيفها في البرلمان  وتذيع الأناشيد الهندوسية.. هذه لحظة مجاملة للضحايا! وهي مشهد إنساني جميل من منظور الرؤية العلمانية التي ترى الجميع مواطنين..
يشبه –مثلا- في بلادنا أن يرتدي الرئيس زيا شعبيا لمنطقة ما إذا زارها، أن يرتدي جلبابا فلاحيا وعباءة كما كان يفعل السادات، أن يرقص رقصة شعبية كما يفعل عمر البشير، أن يظهر رئيس في ثوب رياضي ضمن مناسبة رياضية.. وهكذا!
وعليه فلا ينبغي أن يحرجنا أحد بالحديث عن الخليفة المسلم ممثل الدولة الإسلامية: هل سيرفع الصليب أو يرتدي الطاقية اليهودية إن وقعت مثل هذه الجريمة ضد نصارى أو يهود في الدولة الإسلامية. مثلما نحن لا نفكر أيضا في أن نطلب من بابا الفاتيكان أو أحبار اليهود تقبيل القرآن الكريم أو أداء الصلاة الإسلامية من باب التعاطف مع المسلمين.. فتلك متناقضات دينية وسياسية معا!
تدري متى يمكن القول أن حكومة نيوزيلاندا خرجت عن طبيعتها العلمانية وتعاطفت مع المسلمين على نحو ما يطلبه البعض من الخليفة أن يرفع الصليب؟
يحدث هذا إذا غيرت نيوزيلاندا طبيعتها السياسية والقانونية، فأتاحت مثلا لأولياء الدم أن يقتصوا من القاتل عملا بالشريعة الإسلامية وتعطيلا للقانون النيوزيلاندي الذي يمنع العقوبة بالإعدام؟ أو أن تعطي للمسلمين كوتة في برلمانها يضمنون بها ألا يُشَرَّع قانون في نيوزيلاندا لا يتوافق مع شريعتهم؟
ساعتها نقول بأن نيوزيلاندا خرجت عن طبيعتها العلمانية بتعاطفها مع المسلمين..
ساعتها يمكن للبعض أن يحرجنا بالسؤال: هل يمكن أن يرفع الخليفة المسلم الصليب أو أن يحضر قداس الجنازة في الكنيسة تعاطفا مع الضحايا النصارى؟
الخلاصة: مسألة ارتداء الحجاب وإذاعة الآذان وافتتاح البرلمان والقرآن هي مجاملات طبيعية في السياق العلماني الليبرالي.
إذن، لماذا اندهشنا وأعجبنا بهذه المشاهد؟
الإجابة ذكرتها سابقا: لأن نيوزيلاندا كانت استثناءً حتى في هذا السياق العلماني نفسه الذي لم يجامل المسلمين من قبل بمثل هذه الأمور، وإن لم تكن متناقضة مع الرؤية العلمانية.
5.   فماذا عن "الدولة الإسلامية" التي تنشدها؟
رغم أن كثيرا من الكلام ينبغي قوله، لكن كي لا يطول المقال ويكون مملا، ندخل الآن في موضوع الدولة الإسلامية وكيف يكون موقفها إذا اقتحم مسلم متطرف كنيستين فارتكب فيهما مذبحة؟
يجب أن نقرر بداية أن المجتمع المسلم لا يُنتج خطابا استئصاليا للأقليات، لسبب بسيط ولكنه في غاية القوة والمتانة والرسوخ، أن حقوق الأقليات محفوظة بالنصوص المقدسة في الإسلام: القرآن والسنة، وعليهما بُني الفقه الإسلامي، وبهما عمل الخلفاء الراشدون وعامة الخلفاء والسلاطين في الدول الإسلامية المتعاقبة.
ليس من أحد يملك أن يغير قول الله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) ولا قول الله تعالى (لا إكراه في الدين)، ولا أن يبدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" (رواه البخاري) ولا قوله صلى الله عليه وسلم "من ظلم معاهَدًا أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة" (السلسلة الصحيحة: 445)، ولا أن يحذف تاريخ الخلفاء الراشدين وعامة تاريخ الخلفاء من بعدهم ولا أن يحرق كتب الفقه والأصول والتفسير والعقائد.
في هذه المصادر جميعا لا وجود لمعنى الاضطهاد والاستئصال والطرد للأقليات الدينية، وأبرز دليل على هذا أن عالمنا الإسلامي لا يزال يشهد وجود الأقليات الدينية الباقية فيه حتى الآن، ولا تزال الكنائس العريقة والكُنُس اليهودية العتيقة قائمة فيها، ولقد شهد لهذه الحقيقة التاريخية مستشرقون ومؤرخون غير مسلمين بما يطول المقام جدا لو اقتبسنا منه شيئا، ولكن ندعو الجميع لجولة في مثل هذه الكتب: الدعوة إلى الإسلام لتوماس أرنولد وحضارة العرب لجوستاف لوبون وشمس الله تسطع على الغرب لزيجريد هونكه وقصة الحضارة لول ديورانت وفضل الإسلام على الحضارة الغربية لمونتجمري وات والإسلام والمسيحية في العالم المعاصر لمونتجمري وات أيضا وإنسانية الإسلام لمارسيل بوازار. (وإذا أردت الاختصار فانظر: وشهد شاهد من أهلها – د. راغب السرجاني، الإسلام في عيون غربية – د. محمد عمارة).
هذا فضلا عن ازدهار أوضاع اليهود والنصارى في التاريخ الإسلامي بما يتضاءل معه كل مكسب لأقلية مسلمة في حكم ديمقراطي ليبرالي علماني معاصر.. وهذا أيضا موضوع يطول الحديث فيه، وسترى بعضا منه في الكتب السابق ذكرها.
لكن لماذا أبدأ بهذا التقرير: تقرير أن حقوق الأقليات محفوظة بالنصوص المقدسة وبالبناء الفقهي الطويل؟
لأن هذا أصل كل الإجابات على المشكلات:
أ. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة فإن الذي يعتدي على أهل الذمة والمعاهدين فهو يرتكب جريمة بميزان الدين نفسه، فيتصدى له المسلمون أنفسهم قبل غيرهم لا دفاعا عن أهل الذمة فحسب بل دفاعا عن دينهم بالمقام الأول. لن يكون المجرم ساعتئذ مجرما بميزان القانون وحده، بل مجرما بميزان الدين نفسه، الدين الذي يرى كل مسلم أنه مُكَلَّف بالدفاع عنه.. لن تكون المسألة هنا مسألة هنا مسألة تعاطف إنساني يمكن أن يقدمه البعض ويمتنع عنه البعض ويرفضه البعض (كما فعل السيناتور النيوزيلاندي فرايزر أنينج).
ب. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة فلن يكتب المجرم على سلاحه تواريخ انتصارات المسلمين على الروم والصليبيين، ولن يجد منظمة دينية تبارك عمله كما باركت منظمة فرسان المعبد عملية السفاح.. لأن الجماعة الإسلامية لا تجد في تراثها مبررا للانتقام من النصارى ثأرا لمعارك وقعت قبل مئات السنين، ولا تجد في تراثها مبررا للفتك بمسالمين ملتزمين بأحكام الإسلام في الدولة الإسلامية (دعنا نتذكر معا أن المسلمين المقتولين في مسجدي نيوزيلاندا كانوا ملتزمين بقوانين الدولة النيوزيلاندية).
جـ. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة لن تكون الدولة الإسلامية استثناء في السياق الإسلامي، كما هو حال نيوزيلاندا في السياق العلماني، لأنه لن يكون ثمة فقه خاص أو مخترع لدولة ما، بل سيكون تطبيق الإسلام هو اتباع النبي محمد وخلفائه الراشدين، هو النموذج الذي جرى في الشرق والغرب بطول التاريخ.
د. حين تكون الحقوق محفوظة بالنصوص المقدسة لن تكون أحوال أهل الذمة تابعة لأهواء الحكام، وتبدل المواقف والأحزاب السياسية، وتغير رغبات الجمهور.. هذه هي الإجابة التي كنتُ قلتُ لك سأتيك بعد قليل، وهنا افتراق ضخم ضخم ضخم بين النظام الإسلامي والدولة العلمانية الديمقراطية المعاصرة.
في النظام الإسلامي لا يملك أحد تغيير الشريعة، حق التشريع نفسه لله، نطق به القرآن والسنة، واستنبط منه الفقهاء وفي إطاره تكون الفتاوى المناسبة للنوازل المتجددة.. وهكذا لن يظهر في سياق نظام إسلامي أبدا من ينتهك حقوق الأقليات مستندا إلى الإسلام. ذلك أن الحاكم لا يملك أن يغير ويبدل في الشرع، ولن يتنافس حزب مع حزب آخر (هذا لو سَلَّمنا بأن نظام الحكم الإسلامي سيعتمد نظام الأحزاب في التنافس.. ولكن هذه نقطة هامشية الآن) في مسألة طرد الأقليات أو إجبارها على الإسلام أو التضييق على حقوقها ونزع ما كفلته الشريعة لهم.
لن يوجد في الإسلام رجل قتل أهل الذمة اليوم فصار مُدانًا ثم قد يأتي عليه زمن يكون فيه بطلا صاحب بصيرة بعدما تغيرت القوانين ونظرة الناس إليها. صلاحيات السلطة في النظام الإسلامي لا تتناول تغيير ما جاءت به الشريعة، وهذه هي الضمانة الأهم والأقوى والتي هي على شرط المستقبل.
كان ابن تيمية يستنقذ أسارى المسلمين من المغول فعرض عليه قائدهم أن يأخذ أسرى المسلمين فحسب فرفض ابن تيمية إلا أن يستنقذ معهم الأسرى من أهل الذمة. وبعده بخمسة قرون فكَّر عباس حلمي الأول في إبادة الأقباط أو نفيهم من مصر إلى السودان تقليلا لنفوذهم الذي تعاظم في عهد جده محمد علي باشا فوقف لهم شيخ الأزهر إبراهيم الباجوري قائلا: الإسلام يأبى عليك هذا، ولم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ.
هذان موقفان من سياق طويل للتعبير عن قوة الضمانة والحصانة الممنوحة للأقليات الدينية في نظام الإسلام. الحاكم لن يستطيع مغازلة الشعب باضطهاد الأقليات، ولا يتوقع أن الشعب المسلم نفسه يكون ذات يوم فرحا بهذا!
هل معنى هذا أني أقول بأن الأقليات في العالم الإسلامي لم ولن تشهد اضطهادا قط؟!
لم أقل هذا ولا أحد يقول به، وإلا فهو مجتمع الملائكة، وإنما نحن بشر.. لكن الذي أقوله بوضوح أن أي مقارنة بين تاريخنا الإسلامي وتاريخ أي أمة في شأن اضطهاد الأقليات سيذهب على الفور إلى الانتصار للتاريخ الإسلامي (وهذا أمر أثبته كثيرون من المؤرخين غير المسلمين)، ثم أقول: بأنه لا يوجد نظام قانوني معاصر ولا في المستقبل يحفظ حقوق الأقليات سيكون أثبت وأرسخ من النظام الإسلامي، ذلك أنه متعلق بالدين نفسه ومحفوظ بقوة النص المقدس في القرآن والسنة، بينما عامة النصوص الأساسية للنظم المعاصرة سواء أكانت دينية (كاليهودية والنصرانية وغيرها) أو وضعية (كالدساتير) يمكن تغييرها، إما للصلاحيات الواسعة الممنوحة للأحبار والرهبان لتغيير وتعطيل أحكامها أو للصلاحيات الواسعة الممنوحة لممثلي الشعب بالتعديل والتغيير والتعطيل بل وكتابة دستور جديد.
النظم القانونية هي مرآة واقع القوة، تتغير وتتبدل بحسب ما تفرض موازنات القوة. بينما النظام الإسلامي يتمتع بحصانة الدين وقوته في نفوس أتباعه. ولهذا بقيت الأقليات في بلاد الإسلام في ذروة قوة الإسلام وقدرته على استئصالها، بينما أبيد المسلمون من مناطق كثيرة مع غلبة عدوهم عليهم (كما في الأندلس وصقلية وكثيرا من شرق أوروبا وإفريقيا) بل وتتهدد الأقليات المسلمة في الأنظمة التي عناوينها العلمانية والتسامح والتعددية.
لقد أحصيت في كتاب "تاريخ الأقباط" للمقريزي، وهو كتاب يتناول ثمانية قرون من التاريخ المصري، تسعة فقط من الفتن التي وقعت بين المسلمين والنصارى، فهل يمكن لأقلية كهذه أن يوصف حالها بالاضطهاد؟! وهذا إحصاء بالمجمل بينما التفاصيل تزيد التأكيد على الوضع المتميز لأقلية الأقباط في مصر. وهم نموذج من الأقليات عبر تاريخ الإسلام.
والآن.. ألا ترون بعد هذا كله أن النموذج الإسلامي الذي نبشر به ونسعى إليه ونكافح لأجله أرقى من النموذج النيوزيلاندي الذي هو نفسه استثناء على أصل السياق العلماني؟!
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 03, 2019 10:49

April 2, 2019

إلى أهل الجزائر: وقفتم بين موت أو حياة


لأمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة ذاعت وشاعت وطارت كل مطار، وتعلَّمها الأولاد في المدارس، ثم حُذِفت من المناهج حتى صارت نسيا منسيا، تلك هي قصيدته الناصحة لأهل الشام، والتي تحثهم وتحرضهم على الجهاد والكفاح من أجل الحرية، كان مطلعها من أعذب المطالع، ثم كان بنيانها من أمتن المعمار، جاء مطلعها:
سلامٌ من صبا بردى أرقُّ ... ودمعٌ لا يُكَفْكَف يا دمشقُ
ثم كان من بديع أبياتها:وللمستعمرين وإن ألانوا ... قلوبٌ كالحجارة لا تَرِقُّ
وذلك أن الاستعمار الغربي الحديث جاءنا بالوحشية المُبيرة مع الابتسامة اللطيفة الساحرة، وكان لهم من وسائل المخادعة ما اغتر به كثير من قومنا، فحين احتل نابليون مصر أعلن إسلامه وولاءه للسلطان العثماني وحضر مجالس القرآن وتسمى عليًّا وتقرب للمسلمين بأنه دمر الفاتيكان! وهو هو نفسه الذي صب جام غضبه على أهل مصر حتى قتل منهم ما تبلغ به بعض التقديرات سدس سكان الإقليم، وهي أكبر عملية إبادة في تاريخ مصر كلها!المستعمرون قد يظهرون اللين، والتراجع، ولكن قلوبهم تنطوي على حجارة لا تلين ولا ترق!
بني سوريَّة اطَّرِحوا الأماني ... وألقوا عنكمُ الأحلام، ألقوافمِنْ خِدع السياسة أن تُغَرُّوا ... بألقاب الإمارة وهي رقُّ
أكتب هذه السطور في ليلة الأماني، ليلة الشعور بالنصر، وربما الشعور بالوهم.. ليلة عشتها من قبل في مصر، حين سقط مبارك فوالله لكأن الدنيا أشرقت في الليل، ووالله لكأني أرى الأشياء تشع بالنور، وما كان فينا وقتها إلا قلة ضاع صوتها تقول: ما زلنا لم نفعل شيئا!
ما على مبتهج حرج، ومن ذا لا يفرح بسقوط حاكم عربي في بلادنا المنكوبة هذه؟! إلا أن فرط الثقة والوهم الذي قرأته وسمعته ذكَّرني بتلك الليلة التي كنا فيها في مصر، وكنا قد رأينا مثلها في تونس "بن علي هرب.. الجيش التونسي حر"، وقد هتفنا في مصر –والحمد لله الذي عصمني من هذا الهتاف- "الجيش والشعب إيد واحدة"، ورأيت شابا مصريا يقول في غمرة الفرحة: هذا الشعب جبار لن يستطيع أن يحكمه بعد الآن أحد! وهتف كثيرون "ميدان التحرير موجود"!
أكتب إليكم من المنفى، بعد أن صار الثائرون في مصر بين القبور والسجون والمنافي والمخابيء، كتابة عربي مسلم لأهله وإخوانه، قد اتحدت المصائر إذ اتحد الدين واللغة والغاية:
نصحتُ ونحن مختلفون دارًا ... ولكن كلنا في الهمّ شرقُويجمعنا -إذا اختلفت بلادٌ- ... بيانٌ غيرُ مختلف ونُطْقُ
فما سقوط بوتفليقة إلا أول الخطوة الأولى، في طريق التحرر، وهو أسهل ما في المسيرة الطويلة نحو التحرر، وأنتم أدرى الناس بهذا، لقد قدمتم ملايين الشهداء في ثورة من أطول ثورات التاريخ، ومع هذا استطاعت فرنسا أن تلتف على ثورتكم وأن تعطيها لرجالها، فما هو إلا ربع قرن حتى نصبت المذابح مرة أخرى في الجزائر وانقلب جيش فرنسا على رغبة الشعب ووضع واحدا من رجال فرنسا، ثم ها هو ربع قرن آخر وقد تكرر التحدي!
إن الجيوش هي صلب الأنظمة العربية. وبعد الذي حدث في مصر وسوريا وليبيا واليمن يجب أن تقول الشعوب للجيوش: لا أمان لكم أبدا، وكل تصرفاتكم مشكوك فيها حتى يثبت لنا العكس. وأخطر الناس الآن من سيُعَظِّم جيش الجزائر ويُسَوِّق له ويتحدث كأنه عمود الخيمة وأبي الشعب ومسؤول المرحلة.
وإن عزل الجيش لبوتفليقة ليس دليل وطنية، بل ولا هو دليلٌ على شيء في صالح الشعب، كل الاحتمالات مفتوحة وواردة، بل أقوى تلك الاحتمالات أن قائد الجيش طامح للرئاسة، يغريه أن يكرر التجربة المصرية، وما أشد إغراء نموذج السيسي؟!
ولم لا؟! فصاحب التخطيط والهيمنة واحد، موجود خلف الستار يدبر لامتصاص الثورات وإعادة الشعوب إلى الحظيرة التي تتململ لتخرج منها
إن أخطر الناس الآن من سيجزم ويؤكد أن تصرف الجيش هذا تصرف وطني والتحام بالشعب وتحمل للمسؤولية وتقدير للموقف و... و... و... إلى آخر هذا الكلام الذي قيل لتسكين الناس وتبريدهم. نعم، ربما يضطر بعض الساسة والقادة الشعبيين للتحدث بلهجة فيها بعض اللين، لكن على غير السياسيين وغير الجزائريين أن يقولوا الحقيقة لئلا تتكرر الخدعة المصرية.
لكن هذا اللين يجب ألا يُبْذل إلا بقدرٍ محدود معدود، مشروط مضبوط بما يفعله الجيش في هذه المرحلة الانتقالية، التي يجب ألا تطول مهما كانت المخادعات والمناورات، فإن لحظة الثورة هي لحظة الشعب، والركون إلى الراحة الآن اطمئنانا لتصريحات العسكر هو أول الهلاك:
وقفتم بين موتٍ أو حياة ... فإن رُمْتُم نعيم الدهر، فاشقوا
لو أن رجلا لا يتابع شأن الجزائر أصلا فسيلفت نظره من بين كل الأخبار سياق مثير للشك، هذا قائد الجيش كان أول الأمر يهدد ويرغي ويزبد ويريد للناس أن لا تنساق وراء هذا، ثم ركل الناس كلامه وتهديداته فصار الآن يتحدث بالتقدير والتعظيم لإرادة الشعب.. هل مثل هذا يوثق فيه؟!
وكيف يوثق فيه وقد كان قبل أيام في ضيافة محمد بن زايد الذي لقبه بعضهم –عن حق- بشيطان العرب؟! هل لقاء كهذا يمكن أن يكون في صالح الجزائر وأهلها؟! ثم كيف يوثق فيه وهو يريد الآن تهدئة الأمور وانصراف الناس؟ وترك الأمر للجيش باعتباره الأمين على إرادة الشعب؟!
قبل أسبوعين كتبت "نصيحة الثائر لأهل الجزائر"، فمن شاء تكرم وراجعه، ومن شاء اكتفى بهذه الثلاث:
1. لا تثقوا في العسكر ولا في أي فرد من النظام القديم2. لا تتركوا الميادين أبدا واعملوا وسعكم على الاجتماع على من تعرفون أنه منكم وليس تابعا لأحد في الخارج3. استعدوا وأعدوا للانقلاب العسكري القادم
ولن يتراجع عسكريٌّ صاحبُ سلاحٍ، مسنود بقوى الاحتلال، عن انقلاب عسكري أبدا إلا إذا عجز عنه، وليس يكون ذلك إلا إذا رأى أمامه شعبا باسلا يضرب المثل في اليقظة والانتباه كما يضرب المثل في الشجاعة والفداء:
وللأوطان في دم كل حرٍّ ... يدٌ سلفت ودينٌ مُسْتحَقُومن يسقي ويشرب بالمنايا ... إذا الأحرار لم يُسقوا ويسقواولا ينبي الممالك كالضحايا ... ولا يُدني الحقوق ولا يُحِقُّففي القتلى لأجيالٍ حياة ... وفي الأسرى فدىً لهمُ وعتقُ
نسأل الله ألا يأتي علينا زمان نتذكر معا فيه هذه المعاني إلا من باب ذكرى المؤمن بنعمة الله عليه، لا ذكرى المنهزم لتفريطه وتقصيره، زمانٌ لا نحذف فيه من مناهجنا الدراسية بيت شوقي هذا بل نكرره فخارا:
وللحرية الحمراء بابٌ ... بكل يد مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
نشر في الخليج أون لاين
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 02, 2019 23:14

March 27, 2019

سفاح نيوزيلاندا لم يفهم قوانين القتل


كان من المثير في ذلك الكتاب الذي كتبه سفاح نيوزيلاندا أنه سأل وأجاب، فقال: "هل تعدُّه اعتداءًا إرهابيًّا؟ إنه هجوم إرهابي لكنني أعتقد أنه عمل متحيز ضد قوة محتلة". وقد صرَّح في كتابه هذا أنه تلقى مباركة فرسان المعبد على هذه العملية قبل تنفيذها! ومع هذا الاعتراف الواضح الصريح بكونه عملا إرهابيا، وبهذه المباركة، إلا أن أحدا لن يفكر في تصنيف "فرسان المعبد" كمنظمة إرهابية!
هذه ملاحظة نضعها في البداية كي تكون حاضرة، ذلك أن الذين يوصفون بالإرهاب ويوضعون على قوائم التصنيف الإرهابي الدولي إنما هم أناس في بلادهم يقاتلون العدو المحتل الصريح أو النظام الذي صنعه المحتل قبل رحيله ولا يزال يحفظ بقاءه بكل الوسائل والأساليب.
لكن كلمة فرسان المعبد تعود بنا رأسا إلى عصر الحروب الصليبية، وهو العصر الذي تكوَّنت فيه هوية أوروبا ككتلة مسيحية بيضاء، وشهد تشكل الأفكار الرئيسية التي تلتقي عندها الأطياف الأوروبية، لقد كانت الحملات الصليبية طريقة أوروبا للتعبير عن نفسها ولتحديد عدوها الرئيسي: الإسلام!
يتحدث ليوبولد فايس، الذي أسلم وسمَّى نفسه: محمد أسد، عن هذه الفكرة فيقول: "لقد أعطت تجربة الحروب الصليبية أوروبا وعيها الثقافي وكذلك وَهَبَتْها وحدتها. ولكن هذه التجربة نفسها كان مقضيا عليها منذ ذلك الحين فصاعدا بأن تهيئ اللون المزيف الذي كان على الإسلام أن يبدو لأعين الغربيين به، ليس فقط لأن الحروب الصليبية كانت تعني إراقة الدماء ... بل كان أولا، وقبل كل شيء، أذى عقليا نتج عنه تسميم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي عن طريق تفسير التعاليم والمثل العليا الإسلامية تفسيرا خاطئا متعمدا، لأنه إذا كان للدعوة إلى حملة صليبية أن تحتفظ بصحتها فقد كان من الواجب والضروري أن يوسم نبي المسلمين بعدو المسيح وأن يصور دينه بأكلح العبارات"، ويلاحظ أسد أن نشيد رولاند صار هو "النشيد الوطني" لأوروبا رغم أن موضوعه يصف ملحمة قبل ذلك العصر بثلاثة قرون، وأن هذه اللحظة كانت تمثل "بزوغ فجر الأدب الأوروبي تمييزا له من الآداب المحلية [الأوروبية] السابقة: لأن العداوة للإسلام إنما صاحبت ظهور المدنية الأوروبية"، ويخلص أسد إلى أن الشخصية الجماعية لأوروبا تشكلت على هذا النحو: "إن خيال الحروب الصليبية لا يزال يرفرف فوق الغرب حتى يومنا هذا، كما أن جميع اتجاهاتها وإرجاعها نحو الإسلام والعالم الإسلامي لا تزال تحمل آثارا واضحة جلية من ذلك الشبح العنيد الخالد"لم تكن المشكلة –كما يقرر المستشرق الألماني رود بارت- في نقص المعلومات، ذلك أن "العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، وكانوا يتصلون بها على نطاق واسع، ولكن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي نوعا ما، كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هذا الدين المعادي للنصرانية لا يمكن أن يكون فيه خير. وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم إلا لتلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى دين الإسلام"لم يكن الأمر مجرد سوء فهم أو نقص معلومات، بل كان اختيارا للعداء وتكوينًا للهوية، وعلى نحو ما يقول إدوارد سعيد: "زادت الثقافة الأوروبية من قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها لذاتها في مقابل الشرق باعتبارها ذاتا بديلة أو حتى دفينة"لهذا فكل من كان مسلما لا يعتبر لدى الغرب غربيا، كان هذا قديما وحديثا:
منذ محاكم التفتيش في الأندلس حيث جرى التعامل مع كل المسلمين باعتبارهم غزاة دخلاء وجميعهم إما أُجبر على التنصير أو على الطرد خارج أوروبا، مع أن الأندلسيين كانوا في عمومهم من أبناء هذه البلاد الذين اعتنقوا الإسلام. وحين غزا الغرب إفريقيا واستعبد شعوبها كانت الرسالة المعنوية التي بررت وفلسفت هذه الاحتلالات هي "عبء الرجل الأبيض"، حتى التعبير عنها بكلمة "عبء" ينبيء عن النزعة العنصرية التي تصف مهمة يقوم بها الرجل الأبيض وهو كاره! وكان هذا العبء متمثلا في نشر (3C) وهي: المسيحية والتجارة والحضارة! لكن اللافت للنظر هنا أن الإفريقي الزنجي الأسود كان يُغرى بالمسيحية لكي يحصل على التحرر، فإذا اعتنق المسيحية قيل له: المسيحية تحرر روحك، بينما يبقى الجسد في عبودية السيد الأبيض!
ويستمر ذلك حتى عصرنا الحاضر التي شهدت فيها أوروبا مذابح المسلمين في البوسنة ثم كوسوفا وقد حدثني مسؤول منظمة إغاثية عملت في كوسوفا أن مسؤولا إنجليزيا في اجتماع معهم قال: لن تسمح أوروبا لكيان مسلم داخلها! ثم ها هو الموقف المعاصر من تركيا ودخولها إلى الاتحاد الأوروبي الذي يرونه ناديا مسيحيا! بل حتى عهد بوش الابن -كما تروي كونداليزا رايس في مذكراتها- كانت المنظومة المدفعية الأمريكية الرئيسية المعدة لمواجهة السوفيت تسمى Crusader (صليبية)!
كنت أندهش قديما حين أقرأ قصص بعض الغربيين الذين اهتدوا إلى الإسلام، كثيرون منهم عبَّر عن موقفه بأنه لم يفكر من قبل في الإسلام باعتباره دينا إفريقيا أو آسيويا، كان يظنه دينا منغلقا على أتباعه لا يرحب بالأوروبيين. هذه النظرة إلى الدين هي ذاتها النظرة العنصرية البيضاء التي تجعل الأديان محصورة في أعراق بعينها أو جغرافيا محددة. سفاح نيوزيلاندا كتب في كتابه هذا أنه يحتقر على وجه الخصوص الرجل الأبيض الذي يدخل في الإسلام، وصفهم بقوله: "أولئك الذين ينتمون إلى شعبنا ويديرون ظهورهم لتراثهم ولثقافاتهم وتقاليدهم، ويصبحون خونة لدماء قومهم".
حتى بعد أن دخلت أوروبا في عصر العلمانية، وتحررت من الكنيسة، ظلت الروح العدائية ضد الإسلام فعَّالة بروح الحملات الصليبية، يُعَبِّر عن هذا المعنى أناس كثيرون باختلاف مواقعهم:
-      ليوبولد فايس الذي أسلم وصار محمد أسد يقول: "ما يفكر الغربيون فيه ويشعرون به نحو الإسلام اليوم متأصل في انفعالات وتأثيرات إنما وُلِدَت في إبان الحروب الصليبية"لم تكن فلتة لسان، إنما هو مسار واحد مضطرد، لكننا لا نقرأ التاريخ، فقبل أن تحتل بريطانيا مصر كان قد نادى عليها رئيس الحكومة الفرنسية جامبيتا أن تسارع باحتلال مصر لكي لا تنجح ثورة عرابي الإسلامية فمن واجب بريطانيا أن تقوم بدورها في الحملة الصليبية الحاضرة مثلما فعلت فرنسا في الجزائر وتونسالمواقف كثيرة، لكن أغرب وأعجب ما رأيته في هذا السبيل هو ما رواه الشيخ أمين الحسيني مفتي القدس في مذكراته، حيث كان يحاول مع الألمان إعلان دعمهم لوحدة الدول المغربية التي تقع تحت الاحتلال الفرنسي في ظل الحرب العالمية الثانية، ففوجئ بوكيل وزارة الخارجية الألماني للشؤون الشرقية يخبره بأن هذا ليس من مصلحة ألمانيا، فحاول أمين الحسيني التلويح بورقة لجوء تلك الدول للشيوعية طلبا للاستقلال، ففوجئ به يقول له: "هذه الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرا عليها من الشيوعية، لأن الشيوعية تمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب وتوزيع العدل الاجتماعي وغير ذلك من الوسائل، بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يُخْشَى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تألفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى ويعيد التاريخ نفسه".
هل كان سفاح نيوزيلاندا شذوذا عن الحالة الغربية؟
أبدا.. إنما كان متهورا لا يعرف كيف يتمم الذبح بشكل قانوني أنيق، وبعد حملة إعلامية تُتَمِّم شيطنة المقتولين، كان متهورًا وفجًّا، كان يمكنه أن يلتحق متطوعا بأي جيش غربي (بالجيش النيوزلندي نفسه المشارك في احتلال العراق) ليمارس القتل والقصف وينعم بالبطولة والأوسمة والنياشين، كان يمكنه أن يلتحق متطوعا بشركة أمن خاصة كمرتزق مرموق ليمارس نفس القتل والتعذيب منعما براتب فخم ومزايا عظيمة، كان يمكنه –كبعض أصدقائه الذين ذكرهم في كتابه- أن يلتحق بمؤسسة رسمية فيعمل من خلالها وتحت غطاء القانون فتكون أعماله مجرد أخطاء غير مقصودة من شرطي شعر بالتهديد فتصرف وفق ما يستدعيه الخطر!
كان متهورا.. لم يتعلم بعد فن صناعة العدو وفن قتله!
ومع هذا، فسيقضي أيامه في سجنه المهندم الأنيق، سينفق عليه من ضرائب الذين قتلهم، بينما ستعاني أسر المقتولين ضياعا حقيقيا إن ظلوا في تلك البلاد بلا عائل، أو عادوا إلى البلاد التي خرجوا منها بحثا عن حياة كريمة.
نشر في الخليج أون لاين

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 27, 2019 13:01

March 20, 2019

عزيزة جلود ومريم المصري

أنهيت قبل أسابيع قراءة مذكرات المجاهدة السورية عزيزة جلود، وهي مذكرات مؤلمة مريرة تثير الغضب بعد أحداثها بأربعين سنة، ترى كيف كان وقعها على صاحبتها التي عايشتها حقيقةً قاهرة على نفسها وأعصابها ومشاعرها وأهلها؟!
إن كنتَ تدقق في التفاصيل فستعرف اسم عزيزة جلود إن كنت مهتما بتاريخ سوريا أيام حافظ الأسد، فهي زوجة الشهيد إبراهيم اليوسف صاحب عملية المدفعية الشهيرة، والبطل الحلبي الذي بنى عليه أهل سوريا آمالا ضخمة، والرجل الثاني في تنظيم الطليعة بعد مسؤولها العام عدنان عقلة، وهو التنظيم الذي اجتذب الشباب الإسلامي في ثورة الثمانين التي لولا خذلانها من قِبَل القيادات "الإسلامية العريقة" لكان تاريخٌ آخر.
ستعرف عزيزة جلود أيضا إن كنتَ من هواة أدب السجون وقرأتَ مثلا رواية هبة الدباغ "خمس دقائق فحسب"، وهبة الدباغ طالبة بكلية الطب أُخِذت في ليلة باردة من ديسمبر وقيل لها "خمس دقائق فحسب" فإذا بها يُسلخ من عمرها تسع سنوات في سجون حافظ الأسد، وقد فوجئت هبة الدباع في أحد السجون بوالدتها وقد سُجِنت معها، ثم أفرج عن الأم وبقيت هي، ثم جاءها نبأ استشهاد أهلها جميعا في مجزرة حماة: الأب والأم وجميع الإخوة، وهي رواية أخرى مريرة مؤلمة ذابحة تحكي قصة أمتنا المقهورة تحت هذه الأنظمة. لكن الشاهد منها في سياقنا الآن أنها روت كيف أفرج عن جميع السجينات إلا عزيزة جلود التي قضت فوقهن عاميْن آخرين.
الغريب في شأن عزيزة جلود، وهو الذي من كثرته لم يعد غريبا، أنها اعتقلت قبل زوجها إبراهيم اليوسف كرهينة كي يُسَلِّم نفسه، ولما لم يفعل أُفْرج عنها لتكون كمينا لاصطياده، لكنه استطاع تنفيذ عملية تهريبها من بيت أهلها وقضت معه أيامه الأخيرة قبل استشهاده، ثم استشهد، ثم اعتقلوها بعد استشهاده.. لماذا؟ لا شيء! فقط ينتقمون من البطل الذي أخافهم وأذلهم.. وقد ظلوا أحد عشر عاما يسجنون زوجته انتقاما منه!!
في هذه المذكرات روت عزيزة جلود أخبار زوجها وتعرفها عليه ثم زواجها منه وأخلاقه وطبائعه وقصة انضمامه للطليعة وقصة عملية المدفعية وأغراضها وقصة المطاردة والاختباءات والبيوت الآمنة واحتياطات الثائرين، ثم فصول السجن الطويل وتغير الرجال (كان سبب الإيقاع بأهم مجموعات الطليعة رجل منهم كان مجاهدا فانتكس وصار عميلا لنظام الأسد.. وبئس المصير!)، وحكايات السجن كما تراه امرأة وحيدة بيدها طفل رضيع ظل معها في السجن حتى خشيت عليه أخلاق السجانين ففارقته، ثم إنها خرجت بعد سنين قضتها في زنزانتها وحيدة بلا أنيس (والسجن بلا أنيس سجن فوق السجن، وضعف فوق الضعف)، ثم قضت سنين أخرى تعاني فيها قهر النظام العام الذي تروج روايته الرسمية تشويه زوجها الشهيد ومع أبناء يتمزقون بين رواية الأم والبيت وبين رواية المدرسة والتلفاز، فهم أبناء البطل في بيتهم الضيق ودائرتهم المحدودة وهم أبناء الإرهابي في الشارع والمدرسة والمجتمع! ثم ما كادت تأتي الثورة السورية فيتنفسون بعض الحرية حتى جاءت داعش فخرجت المرأة المجاهدة تحت جنح الليل عبر مسالك التهريب فرارا من القتل ردة.. وأمور أسأل الله أن يعين على تناولها في مقال منفرد إن شاء الله، إلا أن كل مقال لا يُغني عن قراءة الكتاب نفسه.
لكنما جاءت ذكرى المجاهدة عزيزة جلود والتعريف بها لأن ثمة أخرى مصرية تعايش الآن ذات هذه الفصول، تلك هي مريم رضوان المصري أرملة عمر رفاعي سرور.
بعد الانقلاب العسكري في مصر اضطر عمر رفاعي سرور، وهو نجل الشيخ المصري المعروف رفاعي سرور، إلى الخروج إلى ليبيا، وهناك كان من جملة المجاهدين ضد قوات حفتر الذين شكلوا مجلس شورى مجاهدي درنة. اصطحب معه في خروجه زوجته مريم رضوان المصري، ثم قُتِل في قصف لقوات حفتر في درنة صيف 2018م.
ترك عمر رفاعي أرملته مريم رضوان (25 عاما) وثلاثة أطفال صغار: فاطمة (5 سنوات) وعائشة (3 سنوات) وعبد الرحمن (8 شهور)، ولا يعرف عنهم شيء!
بعد أربعة أشهر، في أكتوبر 2018 أعلنت قوات حفتر أنها ألقت القبض على أسرة عمر رفاعي، وفي نفس الشهر نشرت وسائل إعلام مصرية وليبية أن قوات حفتر سلمتهم إلى السلطات المصرية، ومن ذلك الوقت (أي منذ خمسة أشهر) ولا شيء يُعرف إطلاقا عن مصيرهم!
حاولت أسرة عمر رفاعي في مصر، كما حاول بعض القانونيين والحقوقيين، معرفة مصير الأم وأطفالها الثلاثة وقدَّموا البلاغات إلى الجهات الرسمية التي لم تحرك ساكنا ولم تسكن متحركا!
عند أنباء اعتقال الأسرة كشفت بعض المواقع المقربة من الجهات الأمنية المصرية وبعض المواقع الكنسية المصرية أن مريم رضوان المصري كانت مسيحية قبل إسلامها، وذلك قبل أن تتزوج من عمر رفاعي، فأشعل هذا تخوفا آخر كبيرا بأن اختفاءها هذا قد يكون معناه: تسليمها وأولادها إلى الكنيسة. والكنيسة المصرية الآن تعيش أزهى عصورها قاطبة في عصر السيسي، وقد كانت في عصر مبارك تتسلم المسلمات من جهات الأمن المصرية وتخفيهن ولا يُعثر لهن على أثر، وقد وقعت حالات شهيرة أبرزها: وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة وماري زكي عبد الله وغيرهن، فلئن كان هذا حدث في زمن مبارك فكيف بما قد يكون قد حدث في زمن السيسي؟!
هذا التخوف دفع المهندس خالد حربي إلى إعلان إضرابه عن الطعام وهو في محبسه بسجن العقرب، وسجن العقرب هو أسوأ السجون المصرية قاطبة، يضعون فيه من يظنونه خطيرا ومهما، وفيه الآن القيادات الكبرى لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن خالدا ليس من الإخوان، إنه من أشهر الشباب في مصر، وهو قرين حسام أبو البخاري إلا أن الأخير أشهر، وذلك لنشاطه الوافر في التصدي للتنصير في زمن مبارك، وقد سُجِن خالد وهو طفل وظل لفترات عديدة مطاردا من الأمن المصري، وضمن مجهوداته هذه كان هدفا دائما للكنيسة المصرية التي تطالب بإسكاته واعتقاله. لقد كانت مريم رضوان واحدة من ثمار المجهود الدعوي لخالد حربي.
أعلن خالد حربي إضرابه عن الطعام لحين ظهور مريم رضوان وأطفالها، الذين هم شرعا ثم قانونا مسلمون، ثم هم شرعا وقانونا غير متَّهَمين بشيء، ثم هم شرعا وقانونا وإنسانية لا يجوز أن يبقوا في حبس السلطة المصرية ولو كانوا مُتَّهمين لظروف هؤلاء الأطفال الصغار.
وقد أصدر ثلاثون من العلماء بيانا طالبوا فيه بالإفراج الفوري عن مريم رضوان وأطفالها وأفتوا بأن تسليمها للكنيسة –إن كان قد حصل- فهو ردة عن الإسلام وخروج عن شرائعه.
لكن السلطة المصرية لم تحرك ساكنا ولم يصدر عنها شيء، ثم المثير للتخوف أن المواقع الكنسية أيضا تشاركها الصمت المطبق من بعد ما شنُّوا في الأيام الأولى حملة على عمر رفاعي وأسرته، وهو ما يزيد من المخاوف أن تكون قد سُلِّمَت فعلا للكنيسة.
لن نمضي الآن مع احتمال تسليمها للكنيسة رغم قوة شواهده، وسنبقى في الحد المتيقن منه، وهو كونها سجينة أسيرة مع أطفالها لدى جهة تابعة للأمن المصري، لا لشيء إلا انتقاما من زوجها بعد مفارقته هذه الحياة كلها، امرأة وحيدة مع أطفال ثلاثة ترى كيف تعيش كل هذا الظلم وكل هذه القسوة؟
كيف تهدهد أطفالها الذين يفقدون الأمن والطمأنينة وحق الطفل في اللعب والمداعبة والانتقال بين الأهل والأقارب والجيران؟
ماذا تفعل إذا نزل بطفل لها مرض أو وجع أو عنَّت لها أو لطفلها حاجة؟
من تنادي وإلى من تلجأ؟
وإلى متى تستمر في بلادنا حكايات النساء في السجون المظلمة المخيفة؟!
إلى متى تتصل حكاية زينب الغزالي بهبة الدباغ بعزيزة جلود بمريم المصري؟!ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هممٌ .. أما على الخير أنصار وأعوانُ؟يا من لذلة قوم بعد عزِّهمُ .. أحال حالهمُ جورٌ وطغيانُ
نشر في الخليج أون لاين
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 20, 2019 03:21

March 17, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (12) قصة انضمامي لليسار


مذكرات الشيخ رفاعي طه (12)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةبعد حوار دافعت فيه عن الشريعة الإسلامية انضممت للتيار اليساري
·      قال لي عميد الحقوق: أنا مثل مالك والشافعي وأحمد ولا تقرأ في الكتب الصفراء·      كانت الجماعة الدينية في الجامعة أوائل السبعينات ضعيفة متهالكة تجمع الصوفيين والأمنجية·      كان الخطاب اليساري جذابا يمس المشكلات اليوميةسجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومالالحلقة السادسة: قصتي مع التصوفالحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسةالحلقة الثامنة: كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكيالحلقة التاسعة: كنا البديل لما لا يعجبناالحلقة العاشرة: أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية عند أول عقبةالحلقة الحادية عشرة: هكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه
أول ما أتذكره من أيام الجامعة ذلك النقاش الذي اندلع مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية، وقد كان من محاسن الجامعة ذلك التقارب الذي يكون بين الطالب والأستاذ الجامعي، فإنه أفضل من العلاقة الأبوية التي بين تلميذ المدرسة والمُدَرِّس، وذلك أنك تستطيع الحديث مع أستاذ الجامعة في أي وقت، تطرح وجهة نظرك، تجادل فيها، تناقش المادة نفسها ومعلوماتها ولا تتعامل معها كأنها مقدسة كما هو الحال مع المادة في المدرسة، وذلك هو ما شجعني لبدء هذا النقاش.
غاب عني الآن اسم الأستاذ، لعل اسمه كان "محمود سلام زناتي"، وكان عميدا لكلية الحقوق، لكنه كان يُدَرِّس لنا مادة "مبادئ القانون" في كلية التجارة، وكانت تشتمل على جزء من القانون البحري أو القانون التجاري، لا أتذكر الآن بدقة، على أن مقدمة هذه المادة جاء فيها أن "الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع" أو نحوا من هذا، فاستفزني هذا الكلام، فذهبت إليه في الاستراحة التي تكون بين جزئي المحاضرة، وفيها كان الطلاب يذهبون فيسألون الأستاذ، وقد كانت شخصيته لطيفة فكان يجيبهم ويبش لهم، فعمدت إليه ومعي الكتاب، وانتظرت حتى فرغ الطلاب من حوله، ثم دار بيننا هذا الحوار، قلت له:
-      لو سمحت حضرتك، أريد أن أسأل سؤالا-      تفضل يا بني-      أنت تقول في المذكرة أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع.. هذا صحيح؟-      نعم، صحيح!-      الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع؟!!-      نعم!-      الشريعة الإسلامية!! المصدر الثالث!!! للتشريع؟!!!
زاد استغرابه، وصار لا يفهم ما أقول، فقال بنوع جدية وصرامة:-      أين السؤال؟!
فقلت له وأنا سادر في أسلوبي:-      يعني لم تدرك السؤال بعد؟!-      عيب يا بني.. عيب! ما هذه اللهجة وما هذه الطريقة في الكلام.. من أين أنت؟-      من أرمنت، قنا (وأنطقها بلهجتي الصعيدية التي تُنطق فيها القاف كأنها جيم قاهرية)-      أين أرمنت قنا هذه؟!-      ألا تعرفها.. لا تعرف أرمنت، قنا؟!-      لا، لا أعرف-      مركز أرمنت، محافظة قنا.-      آها، نعم، محافظة قنا معروفة.. المهم، أين السؤال، عم تريد أن تسأل؟-      حضرتك تقول: الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع، هل هذا صحيح؟!-      نعم، هذا صحيح، أنا أقول هذا فعلا، ما الذي يعسر عليك في فهم هذا؟!-      أنا معترض على قولك: إن الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع.-      حسنا، فماذا تريدني أن أقول؟ هل تحب أن أقول إنها المصدر الأول؟-      نعم، يجب أن تقول: المصدر الأول-      ولكنها ليست كذلك، ليست المصدر الأول-      ليكن، ليكن أنها الآن ليست المصدر الأول، لكن هل أنت مقتنع أن مكانها الطبيعي أن تكون المصدر الثالث؟! هل يليق بالشريعة أن تكون المصدر الثالث برأيك؟ أم أنك تسير مع الوضع الحالي الذي جعلها المصدر الثالث؟-      رد بتجهم: أنت تكثر القراءة في الكتب الصفراء!
لم أفهم إشارته وتلميحه، ولم أكن أعرف أن الكتب الصفراء مصطلح يطلق على كتب التراث الإسلامي، وتصورت أنه يقصد الكتب التي ورقها أصفر كالكتب القديمة المطبوعة على الورق الأصفر، وقع في ذهني المعنى المباشر للألوان، وهو ظاهر الكلام، فأجبته ببراءة ولهجة دفاعية:
-      لا والله العظيم، أنا لا أقرأ أبدا في كتب صفراء.. أنا...
وجد الدكتور نفسه أمام طالب بينه وبينه فجوة في التواصل! فقال بلهجة ودود:
-      الشريعة الإسلامية يا بني لا تصلح أن تكون مصدرا مستقلا في التشريع-      لكن هذا الكلام غلط يا دكتور-      أين الغلط يا ابني؟-      هذه الشريعة الإسلامية أنزلها الله تعالى-      من قال لك: أنزلها الله؟! الشريعة الإسلامية هذه هي أقوال الفقهاء، مجرد اجتهاد بشري، مجرد فهم للنص، وأنا فقيه.. أنا من فقهاء الأمة! وأنا أفهم النص مثلما كان يفهمه الإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام مالك وهؤلاء الفقهاء-      لا طبعا.. كيف؟ كيف تُسَوِّي نفسك بهؤلاء الأئمة؟-      وما أدراك أنت بهؤلاء؟ هل تعرفهم؟ هل تعرف أنت مالك والشافعي وأحمد؟ هل قرأت لهم شيئا؟ هل إذا أعطيتك الآن مجموعة من كتبي مثل كتبهم.. هل تشهد أني أفهم مثلهم؟!
أصابني الارتباك، كان موقفا غريبا وغير متوقع، رجل يقول إنه مثل مالك وأحمد، ويفهم مثلهم.. لكني مع ذلك تماسكت وقلت:
-      لا، حضرتك لديك علم في القانون الوضعي الذي تُدَرِّسه، لكن لا يمكن يكون لديك من علم الشريعة مثل أحمد ومالك وهؤلاء الأئمة، هؤلاء أخذوا علمهم من القرآن والسنة.-      نحن أيضا مصدر علمنا الكتاب والسنة، كيف تتخيل العلم الذي لدينا؟ القانون الفرنسي نفسه مأخوذ عن الشريعة الإسلامية، ثم نُقِل إلينا بهذه الكيفية، ففي الواقع فإن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية حين يحتكم إلى القانون الفرنسي.
هنا أصابني الانبهار، وأخذني مسار الكلام لأعجب به، لقد رسم لي أن العالم كله يحتك إلى الشريعة الإسلامية، وكفى بهذا فخرا ومصدر سعادة.. ومع ذلك فقد كان شيئا ما في نفسي يرفض هذا، ويراه تلفيقا أو تزويرا أو كلاما غير مقبول، فعاودت أقول وأرد:
-      لا.. لا يمكن أن يكون هذا القانون هو القانون الإسلامي-      يا بني، أنا عميد كلية الحقوق، وعندما أقول لك: إن القانون الفرنسي مأخوذ من الشريعة الإسلامية، فأنا أعلم ما أقول!
في هذه العبارة الأخيرة احتد عليَّ، وارتفع صوته في النقاش، وما كنتُ لأستغرب هذا، فمثل هذا الحوار والجدال لم يكن ممكنا أن يدور مع مُدَرِّسٍ في المدرسة، وها هو يدور بين طالب وعميد لكلية الحقوق، ومع أن الرجل أفحمني وأسكتني، ومع أني لم أعد أعرف بم أجيب ولا كيف أرد، إلا أنني بقيت على انبهاري بالرجل وإعجابي به. ثم مع ذلك فقد كرهت مادة القانون، وعزمت ألا أحضر هذه المحاضرة!
كنت مبهورا نعم، لكن أيضا لم أبتلع قوله أن تكون الشريعة هي المصدر الثالث للتشريع، ثم إن له فلسفة تُعْجِزُني، والعجز يضيق الصدر ويسبب أزمة، ما هذا الرجل؟! هل يمكن أن يكون فعلا كالإمام أحمد أم أنه يريد بهذا تشويه علماء الشرع حين ينزل بهم إلى نفسه؟! هل له فعلا مثل إنتاجهم؟! هل يمكن أن يكون له مثل فهمهم وعلمهم بالدين؟!.. أمور لم أستطع أن أبتلعها وإن أسكتني حواره، وكان الحل الأسهل أن أتجنب هذه المادة وصاحبها.. وقد كان! ثم كانت بعد ذلك آثارها، لقد ظللت أرسب في هذه المادة ثلاث سنوات متتاليات!
ويبدو أن ذلك الحوار قد طبع صورتي في ذهنه، فقد شاهدني ذات يوم وأنا داخل إلى المدرج فنادى عليَّ، ثم سألني: لم لا تحضر معنا؟ فأجبته باقتضاب وأنا أتملص من الموقف: سأحضر سأحضر، ثم سارعتُ منصرفا.
ومن المفارقات، أني وبعد هذه المحاورة التي أبدو فيها كإسلامي متشدد، ما لبثت أن انخرطت في صفوف التيار اليساري، ناشطا طلابيا!
ومن المفارقات أيضا أني لم أحاول فيما بعد هذا الحوار أن أعود إلى الكتب فأقرأ لأردَّ عليه، استمر شأني في القراءة كما هو، القراءة المتنوعة غير الموجهة، لكن لم أقرأ بغرض الردّ عليه، كأن الحوار لم يستفزني للرد رغم أنه أعجزني وأضاق صدري، لقد وقر في نفسي أنه أستاذي وكيف أردّ عليه؟!
أتذكر أني كنت في تلك الفترة اقرأ في الكتب الإسلامية عموما، وأقرأ تفسير القرآن لابن كثير، ومقدمة ابن رشد التي هي بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكتاب أصول الفقه الصغير الذي ألفه الشيخ محمد خلاف. كانت هذه الكتب الثلاثة تلازمني في المرحلة الثانوية، ثم في أول سنة بالجامعة كنت أقرأ فيهم فيتحسن فهمي، ثم اشتريت كتاب "الأم" للإمام الشافعي، وبمرور الوقت بدأت تتكون ملكة القراءة في كتب السلف، لا سيما في المعسكرات الطلابية ومعارض الكتاب الإسلامية، ولقد أعطى نشاط التيار الإسلامي في السبعينات دفعة هائلة لمثل هذه الميول.. لكن هذا سيأتي فيما بعد!
أما قصة انضمامي إلى التيار اليساري فكان السبب فيها أني بطبعي شخص نشط، ولا أستطيع الخمول والسكون، وفي ذلك الوقت لم يكن قد بدأ النشاط الإسلامي في الجامعات، بل كان النشاط يكاد يكون حكرا على اليساريين، نعم.. كان هناك ثمة جماعة ضعيفة اسمها "الجماعة الدينية" إلا أنه يغلب عليهم التوجه الصوفي والتوجه الأمني كذلك، كان معظمهم صوفية وتابعين للأمن! كنت أعرف الصوفيين بما لدي من تجربة قديمة في الصوفية، لكن التابعين للأمن كان تصنيفا جديدا أخذته من الرفاق الشباب اليساريين الذين كنا نعمل معا.
ومع هذا فلم يكن أولئك التابعون للأمن عتاة أو دهاة، إنما كان توجههم الصوفي ينزع بهم إلى ذلك كما ذكرت سابقا من أن التدين في عصر عبد الناصر كان ذا مسحة صوفية وأن هذا كان مطلب السلطة لتوظيف الدين ضمن سياستها، ولقد كان مألوفا أن يكون المرء اشتراكيا وصوفيا معا كما سبق الحديث. ثم إن هذه الجماعة الدينية ضعيفة وخاملة ولا نشاط لها، إنهم يُعرفون بالتزامهم الصلاة وبمجلة حائط ضعيفة متهالكة لا تسمن ولا تغني من جوع. وهو ما يخالف طبعي ويجعلني نافرا من حالة السبات هذه!
أما اليساريون فأصحاب نشاط وحركة، يصدرون عددا من مجلات الحائط، بل لقد كنتُ أصدر مجلة حائط وحدي، إعدادا وتنفيذا، وقد شاركوا فيها وكانوا يدعمونني، وكانت الجامعة تشهد حرية طلابية، وقد كان الطلاب اليساريون يُجَهِّزون معرضا ويتكلمون فيه عن السادات والحرب والحق في الخبز والعدالة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية والبلد التي تعاني من المجاعة والشعب الذي يعضه الفقر، يتكلمون أحيانا أخرى عن الطالب المصري، وأزمة الكتاب لدى الطالب المصري، أزمة التعليم لدى الطالب المصري، ما الذي يتلقاه الطالب في مصر من المناهج الضعيفة غير العلمية غير المركزة.. إلخ!
كان اهتمامهم منصبا على المشاكل التي تمس الحياة اليومية، إضافة إلى البعد السياسي، وقد كان للسادات نصيب الأسد من نقدهم وهجومهم. وكان هذا ما يجذب إليهم، وهو من جملة ما جذبني كذلك.
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 17, 2019 15:23

March 13, 2019

نصيحة الثائر إلى شعب الجزائر


لا يزال هتاف ابن باديس يبعث الحمية ويثير الفخر بعد كل هذه العقود، فقد حملت الكلمات روح صاحبها لما هتف:
شعب الجزائر مسلمٌ .. وإلى العروبة ينتسبْمن قال: حاد عن اصله .. أو قال: مات. فقد كذبْ
وتلك هي معركة الجزائر التي لم تنته بعد، معركة الشعب العربي المسلم، مع النظام المتفرنس الذي يريد قهره وقسره على خطة خسف وحيد وموت وضلال! كما تلك هي معركة الأمة كلها، فالأمة منذ عصر الاستعمار وهي ترزح تحت الأنظمة المجرمة، ثم رحل الاستعمار وترك صنائعه وغلمانه يديرون البلاد على وفق ما كان يفعل لكن بغير أن يدفعوا تكاليفها من أموالهم وجنودهم، وبغير أن يستثير وجوده حفيظة الناس وروح المقاومة فيهم.
ولقد علم شعب الجزائر كيف التفتت إليه أنظار الأمة كلها ترقب وتشاهد، ثم كيف تطوع كل صاحب رأي أن ينصح ويناصح، ويسأل ويتابع. وتلك سيرة أمتنا فهي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وسواء أكانت حالة الجزائر الآن حالة ثورة أم هي تباشير ثورة، فقياما بهذا الحق أسوق إلى إخواني هذه الأسطر وفاء بحق أخوة الدين.
1. المعركة في غاية الشراسة، وأي محاولة لتهوينها تضليل وتزييف وتخدير، وهذا أمر لا يحسن فيه التوسط وادعاء العقل، فأدعياء العقل والتهوين من مثل هذه الحقائق إما مخدوع مغفل أو منافق خبيث، فإن كان الأول فمصيره بين القبور والسجون والمنافي، وإن كان الثاني فمصيره في أروقة السياسة والإعلام يمارس نفاقه الخبيث.
إن الظالم الغاصب إذا اغتصب قطعة ذهب أو عقارا من طابقين لا يتركه إلا مضطرا مجبورا مقهورا، فكيف يُتَوَقَّع من احتلال أجنبي أن يفرط في بلد امتلك ثرواتها ومواردها وأجواءها وموانيها وصنع طبقة حكمها على يديه؟!
قالت العرب: لا يُجنى من الشوكِ العنبُ ولا تلد الحية إلا حيية. وأولى الناس بالشك فيهم وإساءة الظن بهم وتقديم العداوة لهم من أراق من دمائكم ملايين الشهداء يوم حكم بنفسه، ومئات الآلاف يوم حكم بصنائعه وغلمانه.
قد كان إخوانكم في مصر يجتهدون أن لا يروا المعركة كما هي، استحبوا العمى على الهدى، فروا من الحقيقة القاسية كي لا يتعرضوا لسؤال الواجب، رضوا من عدوهم بالخداع وأحبوا أن يصدقوه لئلا يُضطروا للتفكير في تبعات ما إن كان كاذبا، وسارت الأيام وهو يحفر لهم الأخدود ويُسَعِّر لهم الحطب وهم من فرط التفكير بالتمني يظنونه يُمَهِّد لهم، ظن الإسلاميون أنه يمهد لهم بعد أن قدَّم نفسه لهم كمؤمن آل فرعون، وظن خصومهم أنه يمهد لهم بعد أن قدم نفسه لهم كوطني زاهد في الحكم حريص عليهم.
فلا يخدعنكم ملمس الأفعى الناعم، ولا ينطليَّن عليكم مشهد التمثيل العاطفي، ولا تذهب بأبصاركم شعارات الوطنية، فلو كان فيهم خير لأصلحوا أنفسهم وأصلحوا من تلقاء أنفسهم قبل أن تنزلوا إلى الشوارع.
2. لا تحرر بلا تكاليف مريرة، وانظروا كيف يجتهد امرؤ غُصِبت منه قطعة ذهب أو عقار حتى يستردها، ترى كيف يجتهد شعب قد سُرق منه البلد؟!
إنه لا يُعطى السلم إلا القادر على الحرب، وقد قال كيسنجر يوما: لا تُعْطى السمكةُ الطُّعمَ بعد صيدها، وقد صرَّح في كتابه "النظام العالمي" بضرورة دعم الأنظمة المعتدلة، المعتدلة له بطبيعة الحال!
إنما هي حربُ نظامٍ عالميٍّ يستفيد من هذه الأنظمة ويجعلها خط هجومه الأول، فما من نظام في بلادنا العربية إلا وهو تحت حماية المحتل الأجنبي، وينزل المحتل بنفسه ليحميه إن ضعفت قوته واهتزت منه الأركان.
ولهذا فكل خطوة تهدئة فهي مكر وخداع، وكل خطوة تخويف هي تهديد حقيقي، ستبذل هذه الأنظمة وأسيادها كافة ما استطاعوا من آلة قتال وقتل إذا أعجزهم المكر والحيلة، ثم سيبذلون كافة ما استطاعوا من المكر والحيلة إذا أعجزهم القتل والقتال، يزاوجون بين هذا وذاك لإعادة الشعب إلى الحظيرة.
وفي المقابل فإن التعامل مع هذا الوضع هو أصعب وأشد وأعظم ما يمكن أن تبتلى به أمة من الأمم، فذلك هو ابتلاء المستضعفين والمقهورين، أن يخوضوا معركة تحرر ضد غالبهم والقاهر عليهم، ولولا أن التحرر فطرة في النفوس ما أقدم أحد على معركة كهذه أبدا، ولولا أن الإسلام عميق في النفوس لكان اختيار الكفر هو الاختيار العقلي النفعي "الحكيم"، فليس يخوض معركة كهذه إلا أصيل النفس أصيل الدين.
وهي معركة لا تُخاض بمجرد الشجاعة والجسارة، ولا ينفع فيها مجرد التضحية والبذل واسترخاص النفس والمال.. نعم، سيبذل كل هذا لا محالة كما هي سيرة معارك التحرر، لكنه لن يكون كافيا، وكم من ثورات فشلت وحروب تحرير أخمدت أو اختُطِفَت وسُرِقَت وانحرفت وجهتها، فضاع كل هذا هباء منثورا، لم يضع في ميزان الله طبعا لكنه ضاع في ميزان الواقع.
ونعم، لا بد أن نعترف أن أمتنا المسلمة برغم كل ما بذلته في القرنيْن الأخيريْن من أثمان فادحة تنتصب دليلا باهرا على أصالتها وبسالتها، فإنها لم تنجح في جني ثمرة ذلك، وأبطالنا الذين نفتخر بجهادهم لم يستطيعوا أن ينتصروا حتى الآن نصرا حقيقيا على الآلة الجبارة للاحتلال: يستوي في هذا الخطابي والبشير الإبراهيمي وابن باديس وعمر المختار وعمر مكرم ومصطفى كامل وعرابي وحسن البنا والقسام وأقوام قبلهم وأقوام بعدهم، كل هذه المشاريع لم تصل إلى غاياتها التي نشدتها، لاختلال في القوة أو لاختلال في الدهاء أو في كليهما، وهو ما يجب على الموجة المعاصرة أن تستدركه وتجتهد فيه وهي تنتج تجربتها.
ولهذا فكل الكلام عن المقاومة والجهاد والشجاعة يجب ألا يُحمل على معاني الحماسة والاندفاع والتهور، وإنما التدبير والتخطيط واصطناع الحلفاء وتسكين الأعداء يجب أن يكون حاضرا قبل العمل ومعه وبعده.
3. الثورة لحظة فارقة، الشعوب لا تثور بالطلب، ولا تزال لحظة الثورة لحظة محيرة في توقعها، ولهذا فإن الثورة لحظة وزمن.. إذا ذهبت لا تعود!
السلطة دائما أقوى من الشعب، لحظة الثورة هي الوحيدة التي تنقلب فيها المعادلة ويكون الشعب فيها أقوى من السلطة، ولهذا فإن أهم سعي السلطة يكون في تبريد هذه الهبة الشعبية وتهدئتها وتخديرها وتسكينها وإطالتها وتمديدها بحيث تنتهي دون أي تنازلات أو بتنازلات وهمية، ومن ذات هذا الباب قيل بحق "إذا أردت إماتة أمر، فشَكِّل لجنة"!
ومن هنا فلا بد للحالة الثورية أن تفرز قيادتها، بدون القيادة التي تستطيع تحويل حركة الجماهير من حالة عامة إلى حركة فعالة، تبدو الشعوب في بداية الثورة كالماء السائل الكثير يُخيف ويُرعب لكن يمكن التعامل معه بتحويل مساره وفتح البثوق في جوانبه ووبناء السدود أمامه، بينما إذا وُجِدت القيادة تحول هذا الماء لقوة خارقة مسددة تصيب هدفها فتحطمه تحطيما!
لو ظهر الزعيم بعد أو قبل لحظة الثورة فلربما قضى عمره كله يحاول استيلاد حالة ثورية ولا ينجح، والأغلب أنه يُسحق تحت أقدام السلطة أو يضطر لمهادنتها تجنبا لهذا المصير. فقط لحظة الثورة هي التي تجعل عبقريته في البناء والقيادة ذات أثر وثمر، يعطيها من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسها، أمران يلتقيان على قدر.
ومعضلة القيادة في تجاربنا معضلة عظيمة أخرى، فالقادة بطبيعتهم ندرة، والأدعياء كثرة، وفي أزمنة الاستضعاف وأحوال أمتنا هذه فالقادة هم هدف العدو: الاغتيال أو السجن أو النفي أو التشويه، أو صناعة البديل وتلميع الزائفين.
فإذا وُجِدت القيادة الصادقة فإن حمايتها أوجب الواجبات، وسيعرف القائد بذكائه وبصيرته وحسن اختياره لأهل مشورته وقوة اعتماده على الجماهير التي من خلفه كيف يستثمر هذه اللحظة الفارقة.
وليس أولى من دعم قائد ينتهز اللحظة الفارقة وحمايته، سوى الابتعاد عن قادة مزيفين مصنوعين يمتطون صهوة الحركة الشعبية ليعيدوها من جديد إلى ما قبلها، ومثلهم في هذا قادة –ربما كانوا مخلصين وصالحين في أنفسهم- لكنهم ضعفاء أو جبناء، يرتضون بأنصاف وأثلاث وأرباع الثورات، فأولئك مثل المزيفين المصنوعين في النتيجة النهائية، هؤلاء الذين ستستهولون التكاليف ويرضون بالفتات وينخدعون بالوعود ثم يعيدون التبشير بها بين الجماهير كي يخذلونهم عن الاستمرار في الثورة. حتى إذا نحجوا أو فات الوقت كانوا معهم من الهالكين.
إنه لا بد للثورة أن تصطدم بالنظام الحاكم، هذه طبيعتها، كما هي طبيعة النظام الحاكم.. فإما أن يكون هذا في زمن الثورة والفوران الشعبي، وإما أن يكون هذا بعد خمود الثورة وبرودها، فإن كانت في الأولى كانت الثورة أقرب إلى النصر، وأما الثانية فالثورة حتما مهزومة، والثوار الذين داعبت خيالهم أحلام المجد هم الذين سيكون أغلى ما يتمنونه مجرد العيش بأمان!
نشر في الخليج أون لاين 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 13, 2019 10:23

March 6, 2019

وأذن في الناس بالثورة


بات النظام المصري مذعورا في الأيام الأخيرة، بلغت معدلات الغضب حدًّا دفع بقطاعات واسعة من الشعب المصري للتفاعل مع الدعوات لفعاليات ثورية "آمنة" أطلقها المعارضون في الخارج، فضلا عن التصرفات والمبادرات الفردية التي كان أشهرها وقوف شاب وحيدا في ميدان التحرير يحمل لافتة "ارحل يا سيسي"، ثم لم تكن إلا دقائق معدودة حتى كان هذا الشاب يُصَوِّر نفسه بعد اعتقاله من داخل سيارة الشرطة.تبدو الحالة المصرية منذ لحظة انقلاب 3 يوليو 2013 أشبه بساحة من البنزين التي تنتظر الشرارة، لكن مساحة البنزين تزداد اتساعا مع ظهور الوجه الحقيقي للنظام العسكري تدريجيا، وما أحدثه من أزمات قاسية شملت عموم الناس في مصر حتى فرغ معسكر السيسي من داعميه إلا رجال الدولة نفسها والجماعات الوظيفية في الصحافة والإعلام. فقد فوجئت حتى القطاعات العلمانية بالسيطرة العسكرية التامة على الساحة السياسية وفوجئ رجال الأعمال بالتغول الاقتصادي العسكري وفوجئ الوطنيون ببيع جزر مصرية والتخلي عمليا عن أراضي سيناء المتاخمة لخليج العقبة، كما طُحِن الشعب المصري عموما تحت موجة هائلة من الغلاء.إلا أن كل هذا الوضع القابل للاشتعال ظل مكتوما بنظام أمني حديدي لا يفكر في الرحمة ويمارس توسعا غير مسبوق في القتل والاغتيال والخطف والتعذيب، وينشر موجة هائلة من الخوف، استطاعت إخماد الاحتجاجات السلمية ثم العمليات المسلحة، وصارت مساحة البنزين تتسع لكن الشرارة مكتومة لا يمكنها أن تنفجر.في الخارج أطلق فريق من المعارضة فكرة الفعاليات الآمنة، تعود الفكرة حسب تتبعي للسياسي الإسلامي محمود فتحي رئيس حزب الفضيلة وأحد أعضاء تحالف دعم الشرعية، ولكن الفكرة اكتسبت زخما كبيرا ورافعة ضخمة حين تبناها الإعلامي المعروف معتز مطر على قناة الشرق. الفكرة البسيطة لهذه الفعاليات هي إعادة بث روح الثورة في الجماهير واستخراج صوتها عبر أشياء لا تمثل تهديدا خطيرا لفاعليها، وهي مرحلة أولى في تفعيل الطاقات المكتومة ومحاولة بعث الشرارة في مساحة البنزين المؤهلة للاشتعال، ثم هي قبل ذلك وبعده تكوين لحاضنة شعبية واسعة.تعلق الأمر في البداية بإطلاق صافرات إنذار أو القرع على الأواني في أوقات محددة، ثم الكتابة على الأوراق النقدية، ومن خلال تتبع خطابات محمود فتحي ومعتز مطر فإنهم يخططون لفعاليات قادمة على نفس النمط.في تقديري لم يكن أحد يتوقع التفاعل الواسع مع هذه الدعوات، لكن نجاحها واتساعها أغرى الجميع بالانخراط في الفعاليات، وفي خطوة غير متوقعة أذاع التليفزيون المصري خبرا أن البنك المركزي أصدر قرارا بمنع تداول العملات الورقية المدون عليها عبارات نصية، وذلك بعد انتشار الكتابة عليها ضد السيسي، وهو قرار غريب ومدهش ولا يمكن تفسيره إلا في ظل ردة الفعل المجنونة للنظام المصري!
ذلك أن تعطيل تداول عملات ورقية في السوق المالي له آثار بالغة الضرر على حجم السيولة الموجود بالسوق، وعلى ارتباك هائل في التبادل النقدي اليومي، لا سيما أنه لو فرضنا امتناع البنوك والمؤسسات الرسمية عن تداول هذه الأموال فإن توريدها من خلال ماكينات الصرافة لن يمكن التفطن له بحال (فالماكينة لن تقرأ العبارات النصية)، ومن ثَمَّ فستدخل هذه الأموال إلى البنوك التي تمثل شرايين التعامل النقدي.
كذلك فإن هذا القرار وإن استهدف مواجهة الكتابة ضد النظام، فإن الواقع أن الكتابة على الأموال عادة منتشرة في مصر، أحيانا يفعلها شاب عاشق يكتب على أمواله اسم حبيبته كنوع من إعلان مشاعره، وكثيرا ما يفعلها صرافون لضبط العد، وأحيانا لأغراض أخرى تتعلق بحركة الصرف والتبادل وضبط العدد ونحوه، فحجم الكتابة على الأوراق النقدية منتشر في مصر، وهو ما يعني أن منع تداول هذه الأوراق لم يكن إلا قرارا مجنونا في لحظة غضب، وأغلب الظن أنهم سيتراجعون عنه قريبا.
على فرض أنهم لم يتراجعوا عنه، أتصور أن قرارا كهذا قد يكون مقدمة لتداول هذه الأموال فيما يشبه السوق الموازية، وفي هذه الحال فإما أن تضطر السلطات لطباعة أوراق مالية أخرى مما يزيد من التضخم المالي، أو أنه ستنكمش حصيلة الأموال التي تحصلها مما ينتج أزمة نقدية! وساعتها فلو فكَّرت المعارضة في دعم حملة لسحب الأموال من البنوك فإنها ستزيد من أزمة النظام.
امتد جنون النظام إلى تهديد معتز مطر في أهله، اقتحموا البيت على والدته المسنة، واعتقلوا عددا من إخوته مع زوجاتهم وأولادهم، دلَّ هذا أيضا على الهيستريا التي عاودت رجال الدولة من إمكانية أن يعود الشعب مرة أخرى للشوارع:فإن النار بالعودين تذكو .. وإن الحرب مبدؤها الكلام
والجيل الذي عايش الثورة ولا تزال كل الظروف تسوق إليها يتشوق لإعادتها مرة أخرى، والمعركة دائرة حول حلم الثورة، ما بين من يتمسك به ولا يريد أن يفلته، وبين من يريد انتزاعه ودفنه وتجاوزه كأن لم يكن. ومن تأمل في صور التفاعل الشعبي الأخير فسيلفت نظره حضورٌ واضح للشباب في أعمار السابعة عشرة والثامنة عشرة، وأولئك شريحة لم تشهد الثورة الأولى نفسها (2011م) لكن غُرست أحلام الثورة في أرواحهم وقلوبهم.
ومهما أُشِيد بأصحاب الفكرة وداعميها من الخارج فإن البطولة حقا منصرفة إلى أولئك الشباب الذين حولوا هذه الأفكار إلى واقع والدعوات إلى فعاليات، وتعرضوا لهذا القدر من المخاطرة، وحملوا عبء أن يكون صوت التطمين الأول لبقية أصحابهم "اطمن انت مش لوحدك"، وعهدنا بأمتنا أنها لم تعانِ أبدا من نقص في البسالة والتضحية والفداء بل كانت المعاناة في ندرة الزعامات والقيادات التي تُحَصِّل ثمرات التضحية وتحولها إلى مكاسب سياسية.
وفي كل الأحوال فإن تكرار مشهد يناير مرة أخرى لن يكون مفيدا، كما أن الاكتفاء بالفعاليات الآمنة لن يكون تهديدا حقيقيا للنظام، كلا الطرفين –النظام والمعارضة- يعرفان أن هذه مرحلة تمهد لما يليها، وسيكون رهان النظام على نظامه الأمني وعلى عامل الوقت، بينما تحتاج المعارضة إلى نجاحات متكررة ولو صغيرة لتعيد بعث الحاضنة الثورية مرة أخرى، ثم ستبقى المشكلة الأكبر في القدرة على تمثيل حركة الشارع وخوض المعركة السياسية لتحصد عمل الميدان.
ليس هذا وقت طرح هذه الأسئلة، فالثورة وأهلها الآن كغريق يقاوم الموت ويحاول النجاة، فليس يشترط شيئا على خشبة يجدها أو على يد تمتد إليه، مع العلم بأن هذه الخشبة قد تكون خادعة أو أن هذه اليد قد تكون غادرة. إن حركة الشعوب ترتبط بالأمل ووجود القيادة (ولو القيادة الرمزية في لحظات الاحتجاج)، وأي سعي لإحياء الثورة لن يتوقف الآن عند ما لم يتوفر بعد أو ما لم يكتمل بعد. مجرد تحرك الناس يوفر فرصا عظيمة لما بعده، وهذا هو واجب الوقت.
ليس ثمة ثورة كانت تمتلك خطتها ومشروعها كاملة قبل أن تنطلق، بل حركة الثورات بطبيعتها هي حركة فوق التوقعات وحافلة بالمفاجآت، وإنما تنجح الثورات إذا تهيأ لها القادة القادرون على استثمارها وتولي زعامتها وتوجيهها بين معارك الميدان ومعارك السياسة.
بنى إبراهيم –عليه السلام- بيت الله في واد غير ذي زرع، ثم أمره الله بالآذان، فقال: يا رب ما يبلغ صوتي؟، فقال الله: عليك الآذان وعلينا البلاغ! وإن الكلمة الطيبة يُنميها الله حتى تصير شجرة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وليس من كلمة طيبة في أمة محتلة مقهورة ككلمة الثورة والجهاد. فعلى كل مسلم وعلى كل مخلص أن يستجيب للنداء: وأذِّن في الناس بثورة! عسى الله أن يأتي بهم من كل فج عميق.
نشر في الخليج أون لاين
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 06, 2019 09:59

March 5, 2019

تراثنا الإسلامي: الكنز الكبير الخالد


حين كان رفاعة الطهطاوي يصف باريس في كتابه الذائع الصيت "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، ذكر من بين وصفه أحوال الأطباء وتخصصاتهم الطبية التي ينصرفون إليها بعد المعرفة العامة بالطب عموما، وأطال في وصف التخصصات وأهلهافمع قوة وغزارة علم الطهطاوي إلا أن كثيرا من المظاهر الحضارية التي أثنى عليها في باريس، كنا قد سبقنا إليها، وترد فيها الأخبار والكتب من الأندلس غربا إلى بلاد ما وراء النهر شرقا، فلئن كان مثل الطهطاوي لم يعلم بها فإن من دونه أولى بهذا.
بعد نحو قرن ونصف القرن من الطهطاوي، حاول د. نصر عارف القيام بمسح إحصائي حول المؤلفات المعاصرة المكتوبة في الفكر السياسي الإسلامي، ونسبة رجوعها إلى تراث الفقه السياسي الإسلامي، ثم توصل إلى نتيجة مؤسفة تقول: "جميع من كتب عن الفكر السياسي الإسلامي أو التراث السياسي الإسلامي أو إحدى ظواهره لم يطلع على أكثر من 6% من المصادر المباشرة لهذا التراث"والمهتم بأبواب التاريخ والحضارة الإسلامية يشاهد مع كل بحث جديد مستوى الانقطاع الحضاري الكبير بين المسلمين وبين تراثهم، وكيف يؤثر هذا تأثيرا قاسيا على حُسْن تصورهم للتاريخ الإسلامي، وعلى أسلوب تلقيهم وتفاعلهم مع التحديات الثقافية والفكرية، وعلى تصورهم لطبيعة النموذج الذي ينشدونه ويسعون لبنائه في المستقبل.
التراث وتشكيل الهوية الحضارية
تَكَوَّنَ التراث الإسلامي انطلاقا من القرآن والسنة، فهو مجموع الاجتهادات والأفكار التي تنمو حول النص القرآني والنبوي كاستجابة لتحديات الحياة ومستجداتها، بينما تأسست النهضة الغربية المعاصرة على العلمانية التي تصارعت مع الكنيسة وسارت في طريق نفي وجود الإله وإنكار الغيبيات، وكان لهذا أثره على طريقة تشكيل المنهج العلمي في كلا الحضارتين. ففي الحضارة الإسلامية -كما تشهد الراهبة السابقة والباحثة في تاريخ الأديان كارين أرمسترونج- "لم ينشأ في يوم من الأيام أي صراع بين البحث العلمي العقلاني وبين الدين في التراث الإسلامي"في الحضارة الغربية، كمثال، جرى الانحياز المباشر إلى كل نظرية علمية تفسر الكون باستبعاد وجود الإله، فحين تأسس التراث المسيحي على أن الله تجسد في صورة الابن فوق هذه الأرض، كان أي اكتشاف علمي يجعل الأرض ليست مركزا للكون كأنما هو ضربة قاسية في صميم العقيدة المسيحية، واستدعت الحضارة الغربية تراثها الوثني اليوناني ومنه أسطورة برومثيوس التي تجعل العلم صراعا بين الإنسان والإله، فكل علم للإنسان هو خصم من رصيد الإله ومشاركة له لأن الذي يعلم هو الذي سيتمكن من التحكم في الكون. ومن هنا فحين اكتشف نيوتن قوانين الحركة الثلاثة لم تذهب الحضارة الغربية نحو اتجاه "سبحان من خلق الكون وأبدع قوانينه" بل ذهبت باتجاه "هذا دليل على أن حركة الكون ومن فيه لا تخضع لإله بل تخضع لقوانين صارمة اكتشفنا بعضها وسنكتشف المزيد منها"، وحين أطلق داروين نظريته التطورية وجدت احتفاءا هائلا ولا تزال هي النظرية الأثيرة للحضارة الغربية إذ تتمسك بها مهما انهارت دلائلها، بينما جرى إهمال أبحاث يورهان مندل (أبو الهندسة الوراثية) التي كانت في نفس وقت أبحاث داروين مع أنها ضد نتائج داروين لحديثها عن التحسن السلالي لا عن تطور المخلوقات، إذ أبحاث مندل لا تخدم المعركة الفلسفية القائمة ضد الإله.
بينما كان التراث العلمي للحضارة الإسلامية مزيجا بين العلم والدين، بل إن تدقيق النظر فيه يعود علينا بخمسة ملامح رئيسية تمثل هذا الفارق في الهوية الحضارية والثقافية، وتصبغ الكتب العلمية، وهي:
1.    أنها تبدأ بحمد الله والثناء عليه والتماس حكمته في هذا الباب من أبواب العلم2.    أنها تفسر الظواهر من منطلق محاولة فهم الحكمة، لا من باب الصدفة أو الصراع: الصراع بين الله وخلقه أو الصراع بين أجناس الكائنات.3.    أنها هَذَّبَتْ عددًا من العلوم الموروثة من الحضارات السابقة وخلصتها من الخرافات والأساطير4.    أن مؤلفيها كانوا علماء دين ودنيا معا، ويستعين الواحد منهم بعلمه في أبواب الدين على فهم علوم الواقع.5.    أنها قدَّمت حق الإنسان على البنيان ومنفعة المجموع على القلة انطلاقا من مبدأ الاستخلاف في الأرض، ومن مبادئ المرحمة والعدل، بخلاف المنهج العلمي المنطلق من رؤية مادية وصراعية للعلاقات بين أجزاء هذا الكون.
كان الجاحظ، مثلا، يتحدث في القرن الثاني الهجري عن مبدأ التوازن البيئي، بينما لم تكتشف الحضارة الغربية المعاصرة هذا المبدأ إلا حينما فسدت البيئة وظهرت آثار التلوث المدمرة، بعد ألف سنة من الجاحظ. لم يكن الجاحظ بحاجة إلى أن يرى آثار التلوث وإفناء بعض المخلوقات ليكتشف هذه الحقيقة، ذلك أنه كان يؤمن ابتداء بأن الله خلق كل شيء بقدر وحكمة، ولم يكن بحاجة إلى أن يفسر مشهد الكائنات تفسيرا صراعيا بل فسره تفسيرا يراقب حكمة الخلق. قال: "ومن العجب في قسمة الأرزاق أنّ الذّئب يصيد الثّعلب فيأكله، ويصيد الثّعلب القنقذَ فيأكله، ويُريغ القنفذ الأفعى فيأكلها، وكذلك صنيعُه في الحيَّات ما لم تعظُم الحيَّة، والحيَّة تصيدُ العصفور فتأكلهُ، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يلتمس فِراخَ الزّنابير، وكلّ شيء يكون أفحوصُهُ على المستوي، والزُّنبور يصيد النّحلة فيأكلها، والنَّحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيدُ البعوضة فتأكلها"وقد قسم الجاحظ كتاب الحيوان إلى سبعة فصول، يتناول الجزآن الأول والثاني المناظرة بين الديك والكلب، مدعما رأي كل منهما بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو الحكايات والحكم، ويتناول في الفصلين الثالث والرابع الحمام وأنواعه وطبائعه، والذباب والغربان والجعلان والخنافس والخفاش والنمل والقرود والخنازير والثيران، وفي الخامس والسادس يواصل البحث عن الثيران، ثم ينتقل إلى أجناس البهائم والطير الأليف، ويعقد مقارنة بين الإنسان والحيوان، ثم يتكلم عن الضب والهدهد والتمساح والأرنب، وفي الفصل السابع يتحدث عن الزرافة والفيل وذوات الأظلاف. والذي يهمنا في هذا السياق هو الانطلاق من القرآن والحديث والاسترشاد بهما في صدر كتابٍ علمي، وهو أمر يستنفره الطبع العلمي الغربي الحديث لتأثره بالانفصال التام بين العلم والدين.
وهاهنا مسألة تتعلق بدور التراث في تشكيل الهوية الحضارية، فقد ناقش الأصوليون موضوع ما إذا اختلف السلف فيما بينهم على قولين، هل يجوز إحداث ثالث؟ أو على ثلاثة أقوال، هل يجوز إحداث رابع؟ وجمهور العلماء على أن ذلك لا يجوز، إذ مقتضى وجود قولين أنهم أجمعوا على بطلان القول الثالث، كما أن إحداث قول ثالث هو رمي لمجموع الأمة بأنها كانت على ضلالة في تلك الأزمان. ومجال هذه القاعدة التي ذكرها الأصوليون هو فيما لم يكن من النوازل والمستجدات، لكن المعنى المقصود الذي يهمنا الإشارة إليه في سياقنا هذا هو أن تشرب التراث وكثرة الاطلاع عليه هو ما يورث تشكل الهوية الحضارية ويصبغ قارئه بالبصمة الحضارية المميزة، ويعصمه من الذوبان والغرق في النماذج الحضارية المغايرة.
هذا هو ما جعل أسلافنا الأوائل يهضمون علوم العالم القديم دون أن يُسْتَلَبوا لها، ويستوعبوها دون أن يُسْتَوْعبوا فيها، فيعيدون تشكيل الحالة العلمية وفق المثال الحضاري الإسلامي المميز، ويمارسون انتقاء المبصرين العقلاء من بين بحر المادة الحضارية الثرية المعروضة عليهم. وقد انتبه لهذا المعنى كثير من المؤرخين الغربيين، مثل إدوارد بروي الذي قال: "وانجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مدنية ولا أروع، عوَّل عليها الغرب في تطوره الصاعد ورقيه البناء، بعد أن نفخ الإسلام في قسم موات من التراث الإنساني القديم روحا جديدة عادت معه إليه الحياة، فنبض وشعّ وسرى"التراث الثقافي غير المادي
يفرق علي عزت بيجوفيتش بين مصطلح الحضارة ومصطلح الثقافة، يرى بأن الحضارة تعبير عن الإنتاج المادي بينما الثقافة تعبير عن الإنتاج المعنوي والروحي والقيميفي كتابه المهم "الدولة المستحيلة"، طفق المستشرق الأمريكي من أصل فلسطيني وائل حلاق يرصد أبعاد التناقض بين التصور السياسي الإسلامي والتصور السياسي الغربي المتمثل بالدولة الحديثة، ومع أن فكرة الكتابة نفسها ليست بجديدة بل يجري الحديث عنها منذ أكثر من قرن، إلا أن مجهوده في الجمع والحشد كان متميزا، وانتهى بعد دراسته إلى القول بأن النظام الدولي الحديث لا يمكنه أن يقبل نشأة دولة إسلامية، لأن أصل التصورات متناقضة.
ومن أوجه ذلك التناقض عدم وجود ملك أو دولة يتحكمان في التشريع اختلافًا أساسيًّا يميز النموذج الإسلامي، والتشريع في الإسلام هو الذي يبرر وجود الحاكم ووجود واقع سياسي معين، لكنه ليس نتاجًا للسياسة أو السياسي. فالسلطة السياسية المطلقة التي عاشتها أوروبا وسخرة الإقطاع التي لا تعرف الرحمة، وتجاوزات الكنيسة، وحقائق الثورة الصناعية القاسية، وكل ما جعل الثورات ضرورية في أوروبا لم يكن للمسلمين فيه حظ، وعمومًا فعلى الرغم من قسوة الحياة الإنسانية ومآسيها التي لا مفر منها عاش المسلمون مقارنة بالأوروبيين ولأكثر من ألف عام في نظام أكثر مساواة ورحمة تحت حكم قانون لا تستطيع الحداثة أن تقلل من شأنه وتبقى منصفة، وهذه النقطة الأخيرة هي الأكثر أهمية بالنسبة إلينا. كذلك لم يعرف الحكم الإسلامي -أيضًا- شيئًا شبيهًا بمستوى المراقبة التي أنتجها البوليس والسجون الخاصة بالدولة الحديثة، كما أن الحكم الإسلامي لم يتدخل كثيرًا في مجال التعليم، حتى المدارس التي أنشأها الحكام لم يكن لهم تأثير على ما كان يدرس وكيف يدرس، وظلت موضوعات التعليم التي تدرس في الأغلب خارج المدارس الرسمية للحكام، هي تلك الضرورية للشريعة ولإشباع حاجات المجتمع، أي التي تحقق متطلبات الحياة الفاضلةوبغض النظر الآن عن مقصود حلاق الذي تجادل حوله كثيرون، إلا أن إثباته التناقض هو ما يعنينا وهو جزء يكاد أن يكون مجمعا عليه بين دارسي المجال، غير أن الخلاصة التي نريدها أنه إذا لم نكن على معرفة عميقة بتراثنا فلن نعرف النموذج الذي نريد أن نحققه، ولن نستوعب الفوارق بين الواقع الذي نحن فيه والأمل الذي ننشده، سنذوب في النموذج الحضاري المهيمن علينا مهما كان تناقضه مع ديننا وأخلاقنا وضرورات حياتنا. فمعرفة التراث أصل في معرفة ذواتنا وفي تصور التحديات المطروحة علينا وفي فهم آمالنا وأحلامنا، ومكامن قوتنا وضعفنا.
التراث الخالد والأثر الدائم
يكفي لكي نتصور ثراء التراث الإسلامي وغزارته أن نقول بأنه إنتاج أمة امتدت بين مجرد التصور بأن التراث الإسلامي هو تراث أمة امتدت من الصين إلى الأندلس، ومن شمال البحر الأسود إلى وسط إفريقيا، وأنها أمة استمرت ألف سنة على قمة الحضارة الإنسانية، وهي أمة استوعبت وهضمت تراث الحضارات القديمة ثم تأسست عليها النهضة الغربية المعاصرة، يقول الفيلسوف الألماني هبمولد: "العرب كانوا ذوي نشاط منقطع النظير، وهذا النشاط هو آية دور ممتاز في تاريخ الدنيا"إن مجرد جمع أسماء الكتب والرجال في بعض العلوم والفنون صار يشغل عشرات المجلدات، وهي محاولات بدأت قبل كارل بروكلمان ولم تنته بفؤاد سزكين، لا بل إن محاولة فهرسة المخطوطات في مكتبة أو بضع مكتبات قد خرجت في مجلدات فاقت العشرة أحيانا، حتى إن المؤرخ الأمريكي الشهير ول ديورانت بعدما استعرض موجزا سريعا للحضارة الإسلامية في موسوعته "قصة الحضارة" أردف هذا بالقول: "ليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي في تلك القرون الثلاثة إلا جزءًا صغيرًا مما بقي من تراث المسلمين، وليس هذا الجزء الباقي إلا قسمًا ضئيلاً مما أثمرته قرائحهم؛ وليس ما أثبتناه في هذه الصحف إلا نقطة من بحر تراثهم، وإذا كشف العلماء عن هذا التراث المنسي فأكبر ظننا أننا سنضع القرن العاشر من تاريخ الإسلام في الشرق بين العصور الذهبية في تاريخ العقل البشري"إنه لا يمكن حصر الشهادات التي اعترفت لهذا التراث بقيمته الكبرى في النهضة المعاصرة، من حيث حفظ العلوم القديمة أولا، وتطويرها والإضافة عليها وابتكار علوم جديدة ثانيا، ثم بذل ذلك كله في المراكز الحضارية الإسلامية التي امتدت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من بلاد ما وراء النهر في آسيا الوسطى إلى الأندلس في غرب أوروبا. ولا بأس أن نشير إلى فرع واحد في عصر واحد، وهو القانون، فلقد قام العالم الأزهري سيد عبد الله علي حسين بتأليف كتابه "المقارنات التشريعية" وفيه يقارن بين نصوص الفقه المالكي ونصوص القانون الفرنسي في زمن نابليون، وكان ينسب المادة القانونية إلى أصلها في متون المالكية، وجاء عمله في ثلاث مجلدات كبيرة جليلة ثرية.
وهذا الأثر الخالد مما يتفق عليه بين من عنده الحد الأدنى من العقل والإنصاف، يقول المستشرق البريطاني مونتجمري وات: "ومتى ألَّم المرءُ بكافة جوانب مواجهة المسيحية للإسلام في العصور الوسطى، وضح له أنَّ تأثير الإسلام في العالم المسيحي الغربي هو أضخم مما يُظَنُّ عادةً؛ فلم يقتصر دور الإسلام في العالم المسيحي الغربي على تعريف أوربا الغربية بالكثير من منتجاته المادِّية، واكتشافاته التكنولوجية، ولا على إثارة اهتمام الأوربيين بالعلوم الفلسفية، بل إنه دفع أوربا -أيضًا- إلى تكوين صورة جديدة لذاتها، وقد أدَّت مواجهة الأوربيين العدائية للإسلام إلى تهوينهم من شأن أثر المسلمين في حضارتهم، ومبالغتهم في بيان أفضال التراث اليوناني والروماني عليها، ومن ثَمَّ فإنَّ من أهم واجباتنا معشر الأوربيين الغربيين -والعالمُ في سبيله لأنْ يُصبح عالمًا واحدًا- أن نُصَحِّحَ هذه المفاهيم الخاطئة، وأن نعترف اعترافًا كاملاً بالدَّيْن الذي نَدِين به للعالم العربي والإسلامي"نشر في مجلة المجتمع

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 05, 2019 01:47

February 18, 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (11) هكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه في التحرير


مذكرات الشيخ رفاعي طه (11)من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصريةهكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه في التحرير
·      هتفنا في أول لحظات الحرب: لا وقف للحرب إلا بعد تحرير فلسطين·      لم نكن في غمرة الانتصار نصدق وسائل الإعلام المصرية·      كان الانتقال من القرية والمدرسة إلى المدينة والجامعة صدمة كبيرةسجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولةالحلقة الخامسة: عندما سمع أستاذي خبر إعدام سيد قطب أحرق كتابه وهو في الصومالالحلقة السادسة: قصتي مع التصوفالحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسةالحلقة الثامنة: كنت عضوا بالاتحاد الاشتراكي الحلقة التاسعة: كنا البديل لما لا يعجبنا الحلقة العاشرة: أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية عند أول عقبة
حين أتذكر اليوم الأول من حرب أكتوبر أتذكر أن أول بيان صدر من القيادة العسكرية المصرية يقول: قامت طائرات من العدو الإسرائيلي بضرب قواتنا شرق (!) وغرب القناة، وأن طائراتنا المصرية قد تصدت لهذا العدوان وطاردت الطائرات الإسرائيلية حتى فوق سيناء.
كانوا فيما يبدو قد بدأوا يتعلمون فن صياغة البيانات التي تمهد للفكرة أو التي تجعل الموقف العسكري يبدو قانونيا منطلقا من حق الدفاع عن النفس، فكانت الصياغة تحمل معنى أن الأمر بدأ دفاعا لكنه تطور إلى مطاردة الطائرات الإسرائيلية حتى شرق القناة فوق سيناء، وبعد زمن جاء البيان الثاني الذي يتحدث عن نجاح قواتنا في ضرب قوات العدو، وأنها الآن موجودة في سيناء وأنها تمكنت من عبور قناة السويس. هذا البيان هو الذي كان بمثابة الإعلان عن اشتعال الحرب وهو الذي أشعل الروح المعنوية في صفوف الشعب المصري، وانطلقت الحناجر تهتف باسم القدس ولرفض إيقاف الحرب قبل تحرير فلسطين.
سرى هذا النداء الفطري التلقائي بين الناس في اللحظات الأولى، كأن ثمة شعورا خفيا يجمع بينهم في أن هذه الحرب ستتوقف قبل القدس!! ربما يعود الأمر إلى الثقة المفقودة بين الشعوب العربية وحكامها وهو الأمر الذي يدفعهم لئلا يصدقوا حتى في لحظة الحرب أنها حرب صادقة وحقيقية وستستمر إلى بلوغ هدفها، وربما لهذا الأمر تفسيرات أخرى نتركها لعلماء الاجتماع وعلم النفس السياسي.
لكن المهم هنا أنني وجدتني مع ثلاثة أو أربعة من الطلاب من كليات مختلفة: هذا في كلية العلوم وهذا في كلية التجارة وهذا في كلية الهندسة، وجميعنا في اليوم الأول من الجامعة، وفي لحظة المعنويات المرتفعة، ومع ذلك، فسرعان ما اتفقنا على أن ننظم غدا مظاهرات بالجامعة تطالب باستمرار الحرب، لكن وقفت أمامنا مشكلة غير متوقعة: أن الحرب مستمرة بالفعل! جاء اليوم التالي والحرب مستمرة، ثم اليوم الثالث والحرب مستمرة.. وهكذا لم يعد للمظاهرات التي تطالب باستمرار الحرب أي معنى لأن الحرب مستمرة بالفعل!
طفق الناس يفكرون فيما ينبغي لهم فعله خلاف التظاهر، ومن نافلة القول أن الهبة الشعبية فعلت في الساعات الأولى ما كان ميسورا لها، لقد تدفق الناس كالسيل على المستشفيات للتبرع بالدم، كان الناس يتبرعون بدمائهم بانهمار غريب يمكن حتى وصفه بالجنون، إن التهاب المشاعر جعل الذين لم يحاربوا يسارعون في "سفك" دمائهم –إن صحَّ التعبير- تضامنا مع أولئك الذين يجاهدون الآن في سيناء.. ومع مرور الأيام الثلاثة والحرب مستمرة والناس تتبرع بالدم ظهرت وانتشرت وسادت أفكار التطوع للقتال ومساندة الذين على الجبهة!
ومع هذا كله فلقد كان جدار الثقة لا يزال غير مكتمل، كان الناس يتابعون الأخبار عبر الإذاعات الأجنبية، يتأكدون من حقيقة العبور وانتشار القوات المصرية من إذاعات لندن وأمريكا ومونت كارلو، بعضٌ من أثر الخديعة الإعلامية في 1967 لا يزال حيًّا في النفوس، لكن الأمر يبدو وكأنه حقيقي هذه المرة، ها هي القوات المصرية تتوغل بعمق عشر كليومترات في شرق سيناء، وها هي الجولان تتحرر ويتقدم فيها الجيش السوري، وتفيد الأنباء أن القوات المصرية تستعد لمواصلة زحفها إلى ممرات متلا!
رغم أن القوات المصرية –كما عرفنا فيما بعد- لم تخطط ولم تنو أن تتقدم بعد هذه الكيلومترات العشر، ولم يكن في خطتها أصلا الوصول إلى ممر متلا إلا أن الإذاعات الأجنبية نقلت أحيانا خبر الزحف أو الوصول إلى ممرات متلا، حتى تلك المصادر لم تكن دقيقة، أو لعلها أرادت إعطاء المبرر والزخم لمعركة الدبابات التي كانت إسرائيل تحشد لها. فالصورة التي كانت تصلنا أن قواتنا في تقدم إلى وسط سيناء وأن إسرائيل تحاول عرقلتها ومدافعتها.
وقد عرفنا فيما بعد أن مصر لم تكن تمتلك أكثر من أربعمائة دبابة، لكن الأخبار والإذاعات كانت تتحدث عن أكبر معركة دبابات تدور الآن، عن ألف دبابة مصرية تواجه ألف دبابة إسرائيلية في سيناء، وكل هذا كان يعطي مزيدا من الزخم للمعنويات المرتفعة في الشعب المصري، والتي تسكب عليها الشعوب من نفسها مبالغات أخرى. ثم تنتهي معركة الدبابات هذه بأسر القائد الإسرائيلي عساف ياجوري والذي عُرضِت صورته وصورة بعض جنوده على الصحف والشاشات في مصر مما بلغ بمعنويات الناس عنان السماء، وأثبت لهم أن الأمور تسير على ما يرام أو حتى تسير بأفضل من المُتَوَقَّع.
لا شك أنه سقطت من ذاكرتي أشياء مهمة عن هذه المرحلة، لكن الذي أتحقق منه أن معنويات الناس ظلت في ارتفاع حتى خطاب السادات الذي ألقاه في مجلس الشعب (16 أكتوبر) بعد عشرة أيام من الحرب، وفيه طرح مسألة السلام وعقد مؤتمر سلام. هنا انكسرت معنويات الناس ودخلنا في مرحلة أخرى جديدة، مرحلةٌ صرنا نسمع فيها قول الناس: سنخسر دماء الشهداء ونحوها من العبارات التي تصب في نفس المعنى.
لم يلبث الأمر إلا ساعات بعد خطاب السادات إلا وبدأت تتسرب أنباء الثغرة، وبأن القتال صار عند حافة قناة السويس بعدما كانت الآمال تتابع تقدمه من وسط سيناء إلى ما وراءها، وبدأت الإذاعات تنقل أنباء استعادة الإسرائيليين لمناطق الجولان مرة أخرى، بدأ ميزان المعركة ينقلب وبدأت إسرائيل تستعيد زمام المعركة، ثم جاءت الأنباء بأن القتال يحدث في السويس، ونقلت الشاشات والإذاعات أن جولدا مائير تزور قواتها في الجبهة وتعلن أنها تقاتل من قارة إفريقيا!!
خرج السادات مرة أخرى على الإعلام وقلَّل من أهمية الثغرة، والإذاعات تنقل أن قوات مصرية شرق القناة في سيناء ولكن ثمة قوات إسرائيلية أيضا غرب القناة، إذن فعلى الأقل لم نعد منتصرين والأمر ليس محسوما، برر السادات هذا الوضع وقال بأنه تكتيك وأن ما حققه الإسرائيليون ليس انتصارا استراتيجيا وأنهم محاصَرين أكثر مما هم مُحاصِرين، وأكد على الوضع المتفوق للقوات المصرية.
لكن الذي أستطيع تأكيده أن البيانات العسكرية كانت مهتزة بوضوح في أيام 22 و23 و24 أكتوبر، وكان يتضح فيها استصراخ العالم لوقف إطلاق النار، كان الشاب منا في تلك الفترة يستطيع أن يميز بسهولة حالة الهلع التي كان عليها الإعلام المصري آنذاك، ولست أدري ما إن كانت هذه هي الحالة العامة الموجودة في الجيش آنذاك أم لا، إلا أنها على كل حال –وكما عرفنا فيما بعد- كانت تعكس الحالة على الأرض، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد استطاعت التقدم على طريق السويس واستطاعت حصار الجيش الثالث في جنوب غرب سيناء، وكان النظام المصري ملهوفا على وقف إطلاق النار. وبدا بشكل لا ريب فيه أن إسرائيل امتصت الضربة الأولى وأنها استعادت زمام الموقف.
ذلك ما أتذكره بوضوح من تلك الأيام، بالإضافة إلى الحالة النفسية العامة التي تدهورت بعد قبول وقف إطلاق النار، وبعد تسرب الخلافات التي كانت موجودة في قيادة الجيش كما عرفنا تفاصيلها بعد ذلك مما كان بين رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي وبين وزير الحربية أحمد إسماعيل والسادات، وما سوى ذلك لا أستطيع الآن تذكره بوضوح.
منذ لحظة وقف إطلاق النار، بل منذ لحظة بدأ السادات الحديث عن السلام، وبدأت المعارضة تتصاعد ضده، وكانت الجامعة واحدة من أهم المسارح التي شهدت المعارضة الشرسة للسادات.
قاد التيار اليساري حملة ضخمة تنكر أن يكون السادات بطل حرب أو حتى بطل سلام، وأنه إنما سيبيع القضة للأمريكان، وقد دُعِم هذا الكلام حين خرج السادات فيما بعد وصرَّح قائلا بأن 99% من أوراق اللعبة بيد الأمريكان، ثم دُعِم أكثر حين زار نيكسون الرئيس الأمريكي القاهرة في ربيع عام 1974م كنوع من الدعم والتأييد لموقف السادات، لكنها الزيارة التي أثبتت أن مصر قد تحولت إلى المعسكر الأمريكي وتخلت تماما عن المعسكر السوفيتي، وأن حرب أكتوبر التي استبشر بها الجميع قد انتهت إلى النتيجة التي لم يتوقعها أحد، وهنا تختلف التفسيرات: هل كانت من البداية حرب تحريك لا تحرير وكان مصيرها هذا مخطط سلفا عند قادة السياسة الكبار؟ أم أنها بدأت حرب تحرير ثم انتهت حرب تحريك وتمهيد لإنهاء ملف الصراع مع إسرائيل بل ولفتح ملف التطبيع والسلام معها؟.. هذا أمر نتركه للمؤرخين.
والشاهد أن دخولي إلى الجامعة ارتبط بهذه الحرب، وارتبطت أيامي الجامعية بالمعارضة التي انبثقت في أرجائها اعتراضا على سياسة السادات، ولقد كان ذلك يمثل لي تطورا دراميا شديدا، لقد كان خروجا من عصر عبد الناصر الذي كانت معارضته تكلف كثيرا في قرية نائية إلى عصر السادات الذي كانت معارضته ممكنة وصاخبة في ساحة ضخمة ومركزية كالجامعة.
وقد ترافق هذا مع تطور درامي آخر على مستواي الشخصي، فهذا ابن القرية النائية المغمورة وجد نفسه فجأة في مدينة ضخمة مثل أسيوط، نقلة أشبه بالصدمة الحضارية، وهذا ابن المدرسة الصغيرة المحددة الحصص والمحكومة النظام وجد نفسه في الجامعة الفسيحة المتراخية النظام والقيود، وهذا ابن الفصل الصغير يجد نفسه في المدرج الواسع المهيب، وهذا التلميذ الذي قد اعتاد التعامل مع أستاذ الفصل في المدرسة يجد نوعا آخر من الأساتذة في شخصية وأسلوب وطباع أستاذ الجامعة، وهذا ابن القرية المنضبطة أخلاقيا والتي ينتصب فيها حاجز واضح بين الرجال والنساء يجد هذا الاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة وفي ظل انعدام رقابة أبوية لطالما اعتاد عليها حتى شكَّلت جزءا من نفسيته وتفكيره وإذا هي الآن غائبة مفقودة.
لولا وجود "السيكشن" لانتفى كل شبه بين المدرسة والجامعة، لكن هذه "السكاشن" ذَكَّرتنا بفصول المدرسة الصغيرة وأعداد الطلاب المحدودة.
كنت أحتاج وقتا حتى أستوعب هذا التغير في حياتي وأتعرف على هذا المجتمع الجديد كليا على تصوراتي، لكن الحياة لا تترك لأحد وقتا، وسرعان ما دخلت في المعمعة، ووجدتني في أيام الجامعة الأولى أخوض اشتباكا مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية!
نشر في مجلة كلمة حق
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 18, 2019 11:23