محمد إلهامي's Blog, page 23
August 20, 2018
سطر من موسوعة المظالم في مصر
ليس شيئا غريبا أن تسير في شوارع اسطنبول فتسمع أو تلقى صاحب حكاية عربية مأساوية، قد اجتمع في اسطنبول أبناء العرب على نحو ما قيل "ألقت إليكم العرب أفلاذ أكبادها"، ولقد ثقلت الحكايات على القلوب حتى لقد آمنتُ حقا أنه لا عدل إلا في الدار الآخرة، التي هي في ذاتها نعمة عظمى لا يشعر بها كالمظلومين.
في المستشفى..
ميَّزتُ لهجة مصرية تحاول أن تنتهي معاملة مولود صغير قد جاء للدنيا حديثا، سرعان ما دفعتنا الظروف إلى تبادل الحوار الذي طال وحمل قصة جديدة من موسوعة المظالم المصرية..
"هذا الولد هو أول فرحة تدخل بيتنا منذ ثلاثين سنة"!
تلك هي العبارة التي أثارت انتباه حواسي جميعا حتى تحول حديثي مع صاحبها من المجاملة العابرة إلى محاولة الفهم والاستزادة.. فكانت هذه القصة، التي سأرويها على لسان صاحبها:
حين كنتُ في السجن وكنت أرى بعض إخواننا يضجر أو يسخط كنت أقول له: مهما بلغت حكايتك لن تكون أبدا أصعب من حكاية أمي، ومع ذلك فأنت تراها إذا زارتنا راضية صابرة لا يظهر منها جزع ولا سخط. فما إن أحكيها لها حتى يسكت ويذهب بعض ما عنده ولسان حاله يقول: الحمد لله!
فلعلك تريد الآن أن تعرف قصة أمي؟!(أجابت كل حواسي بلهفة: نعم.. بالطبع)!
هي الآن في الخامسة والسبعين من عمرها، من عائلة أصولها من مكة المكرمة، حرص أبوها على تعليمها في ذلك الزمن الذي كان يندر فيه اهتمام الآباء بتعليم بناتهم، وهي تحفظ ثلث القرآن، ولا يفتر لسانها عن الذكر والدعاء، وتستطيع القراءة والكتابة، وتُعْرَف بين جيرانها بحسن الخلق وطهارة اللسان، فإذا كانت في مجلس فقد حلَّت فيه أجواء الإيمان وغابت منه الغيبة والنميمة وما يكون عادة في مجالس النساء.
لكنها منذ ثلاثين سنة لم تر فرحا.. فقد مات عنها زوجها وقد أنجبت منه ولدين وبنتا، فتكفلت برعاية أولادها حتى شبَّ الولدان، فكان أكبرهما يعمل ويدرس بالجامعة في نفس الوقت، فحمل عنها إصر استجلاب المال وبقي عليها إصر رعاية البيت وإدارته!
وما كادت تتكئ على أبنائها حتى اقتحمت عليها قوات الأمن البيت بحثا عن الابن الأصغر، كان هذا في عصر مبارك أواسط التسعينيات، ولما لم يكن هذا الابن موجودا فقد اعتقلوا أخاه ليجبروه على تسليم نفسه، فلما سلَّم الأصغر نفسه لم يفرجوا عن الأكبر، بل سُجِنا معا.. حُكِم على الأصغر بخمس عشرة سنة سجنا، وحُكِم للأكبر (الذي أُخِذ أول أمره لمجرد الضغط على أخيه) بالبراءة، إلا أن جهاز الأمن كان يُفرج عنه ورقيا ثم يعيد اعتقاله ورقيا وهو لا يزال في سجنه!
وهكذا فقدت الأم فجأة ولديْها كليهما.. ولم يبق لها إلا البنت الوحيدة التي كانت قد تزوجت وأنجبت! ففرغ عليها البيت ونزل عليها البلاء فجأة وبكل ثقله..
وهنا انتقل هم رعاية الأم التي فرغت من السند والولد إلى أبناء بنتها، وكانت ابنتها في ذلك الوقت قد أنجبت ثلاثة ذكور وبنتيْن، فقام الابن الأكبر لبنتها على رعاية أمه ورعاية جدته بعد سجن أخواله، لكن لم تمض سنتان حتى جاءت عاصفة اعتقالات أخرى فاعتقلت ولديْن من الذكور الثلاثة في نفس القضية التي سُجِن فيها خاليْهما، ولم يبق في البيت من رجل إلا هذا الفتى الثالث الذي يخطو نحو سن المراهقة.. وأي مراهقة؟!
وجد الفتى نفسه مسؤولا عن رعاية بيته وأمه وإخوته الذكور وجدته المسنة بعد سُجن أخواه وخالاه، فكان يسعى على ذلك، فيجمع بين العمل والدراسة، ويجور العمل على الدراسة فيتركها تحت ضغط الواقع، وما هي إلا سنوات حتى كان قادرا على الزواج.. تزوج! وبعد شهور من زواجه توفي في حادثة وقد ترك ابنا له في رحم زوجته.. ففرغ بيته وبيت أمه وبيت جدته من الرجال جميعا!!
مرت السنون على الأم المسنة وعلى ابنتها كأثقل ما تمر السنون على الناس، التفاصيل التي يتحملها الرجال صارت على أكتاف النساء والبنات، ولا رحمة عند أحد في تلك السلطة.. فلقد قضى الابنان ست عشرة سنة في السجن، وقضى الحفيدان أحد عشر سنة.. ولولا أن ثورة يناير قد وقعت فما كان أحد يدري كم في السجن يلبثون؟!
كانت ثورة يناير فرجا على مصر، وفرجا مخصوصا على هذه الأسرة الصغيرة التي استردت أبناءها ورجالها الأربعة من السلطة وسجنها.
قال لها ابنها يوما وهما يتذاكران الأيام: لقد كان ثباتك يستفزهم، هل يعقل أن تقتحم القوة الأمنية عليك البيت فلا تنهضين من مكانك، بل تجابهينهم بالدعاء عليهم؟! فكانت تقول: لم يكن ثباتا، إنما كان رعبا.. لقد نزل بي من الهم ما أقعدني، إلا أنه كذلك أنطقني!
فقال: لا، لا تقولي هذا.. قد كنتِ حين تأتين لزيارتنا في السجن كأنك ثائرة من الزمان القديم، لا يرهبك شرطي ولا ضابط ولا مأمور السجن، وكم دخلتِ معهم في شجارات عنيفة وأسمعتِهم ما يكرهون.. فقالت: لم يكن خوفي على نفسي، بل كنت أخاف عليكم أنتم، فأما حيث قد سُجِنْتُم وانتهى الأمر فلم يعد يرهبني منهم شيء!
كانت ثورة كنسمة الصيف العابرة، تنفيس داعبت فيه روائح الحرية أنوف المشتاقين.. وما هو إلا أن اكفهر الجو مرة أخرى، وجاء الانقلاب العسكري، وجاءت معه الأعاصير..
أعيد اعتقال ابنها الكبير لكن الصغير تمكن من الهرب، وأعيد اعتقال ابني بنتها مرة أخرى، ثم اعتقل زوج ابنتها كذلك.. وحكم على ابنها الكبير بالإعدام ثم خُفِّف إلى المؤبد في مرحلة النقض، وحُكِم على الصغير الهارب بالإعدام، ولا يزال البقية ينتظرون..
لكن السلطة وصلت إلى الجيل الثالث من هذه الأسرة.. فقد انضم إلى قائمة المسجونين زوج ابنة بنتها!.. وهكذا اجتمع لهذا البيت في سجون السلطة المصرية خمسة رجال، ومُطارَدٌ!
هذا المطارَد كان هو صاحبي في المستشفى! وهو الذي قصَّ علي حكايته..
نظر إلى ولده الذي وُلِد قبل ساعات، أعطى له اسم أخيه الذي سُجِن بسببه خمس عشرة سنة، ولا يزال ينظر إليه فيردد: أول فرحة منذ ثلاثين سنة!
ترى كم كان في تلك المستشفى من قصص مدفونة في صدور أصحابها لم يسعني أن أستمع لها.. أنظر في الوجوه أحاول أن أقرأ فيها قصة مدفونة كأن الملامح تخبر عن المكنون.. وبعد أن تركته صرت أسير في اسطنبول أحسب كل عربي –كما تخبرني ملامحه- يجرُّ قصته وراءه.. آه لو كنت أستطيع النفاذ إلى العقول فأجمع تلك القصص، إذن لكتبتُ منها موسوعة ضخمة.. ولعلي كنت سأسميها: موسوعة المظالم الكبرى!
ولكن.. حسبي أن الله يعلم، وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا..
وحسبي، وحسب هؤلاء، أن يأتي يوم تُردُّ فيه المظالم لأهلها حتى لينظر المجرم في موسوعته فزعا وهو يقول "مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"؟!!
نشر في مدونات الجزيرة
Published on August 20, 2018 02:46
August 16, 2018
مذكرات الشيخ رفاعي طه (5) هتفت في ذكرى عبد الناصر: لقد مجدنا صنما!!
مذكرات الشيخ رفاعي طه (5)هتفت في الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر: لقد مجدنا صنما!لما أُعدِم سيد قطب أحرق أستاذي كتاب "معالم في الطريق" وهو في الصومالكان عصر عبد الناصر بوليسيا تتجسس فيه الزوجة على زوجها والابن على أبيه
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولة
عند نهاية الصف الأول الثانوي كان مدرس اللغة العربية في مدرستنا، واسمه "جمعة"، قد كلفنا بكتابة موضوع تعبير عن "دولة العلم والإيمان"، لقد جاء السادات بهذا الشعار في أول عهده، وكتبتُ موضوعا أهاجم فيه السادات، قلت فيه: إن السادات ينافق الشعب، وشعار "دولة العلم والإيمان" مجرد كلام خال من المضمون، فليس في البلد لا علم ولا إيمان.
تفاجأ الأستاذ جمعة حين قرأ موضوع التعبير هذا حتى أنه قرأه على بقية الطلاب، ثم هرع إلى الأستاذ عيد الرافعي فعرض عليه ما كتبت، ونصحه أن يتكلم معي لينصحني ألا اتهور كي لا أتعرض للسجن أو شيء من هذا، وجاء إلي الأستاذ عيد فحمل لي مع نصيحته قصة أخرى كان يخفيها في طيات ذاكرته.
حدثني أنه حين أُعْدِم سيد قطب (1966م) كان هو في مقديشيو (عاصمة الصومال)، وما إن سمع في الإذاعة خبر إعدامه حتى هرع إلى النسخة التي كانت معه من كتاب "معالم في الطريق" فأحرقها فورا.. أحرقها في الصومال من شدة الخوف والبطش. وختم قصته بالنصيحة: "يا بني، الجدار له آذان! ولا يغرنك أن عبد الناصر مات فنحن لا نزال في دولة الخوف".
تداعى إلى ذهني كلام الأستاذ محمد الشاهد، ها هو نفس الكلام يتكرر، كأنما وجدتها فرصة لأستبين وأستوثق من الصدمة، سألته:- هل تعني أن عهد جمال عبد الناصر كان فيه بطش وظلم؟- بالطبع يا بني، لقد كنا نخشى الحديث حتى مع زوجاتنا في البيوت، كان الواحد يتجسس على أبيه وزوجته وأخيه وأخته.. كل الناس كانوا يتجسسون، أنا لم أكن أضمن ولا أجرؤ أن أقول شيئا في بيتنا!
وطفق يحدثني عن العهد البوليسي الذي لم يأمن فيه أحد على نفسه، وأن الله قد رفع عن الشعب عبئا ثقيلا بموت عبد الناصر، وأنه يمكن حقا أن يكون السادات صادقا في شعاره "دولة العلم والإيمان" فما يظهر منه يدل على هذا، على الأقل صار المرء يستطيع أن يتكلم ويتنفس، وأخبرني في لهجة المتأثر: لو كنتَ كتبتَ موضوع تعبيرك هذا في عهد عبد الناصر لما كان أحد ليراك ثانية.. وعند تلك العبارة أخذ في البكاء.
عند تلك اللحظة اجتمعت عندي الروايات، رواية الرجل البسيط: الشيخ محمود عسران، مع الأستاذ محمد الشاهد، مع الأستاذ عيد الرافعي.
نعم.. نسيت أن أحكي ما قاله لي قديما محمود عسران!
لقد حدثني الشيخ عسران مرة فقال: يا بني، لقد كان الملك فاروق رجلا صالحا حتى إن الناس لقبوه بـ "الملك الصالح"، وإنما العسكر شوهوا صورته حتى يُقال للناس كان فاسدا ونحن أفضل منه.
كان حديث الشيخ عسران حديث المتوجس الخائف، يحوم حول المعنى لا يريد أن يصرح به، لكن الصريح الواضح هي لهجته ومشاعره المُنْكِرة المستنكرة للعسكر وأفعالهم. أما أصرح الجميع فقد كان محمد الشاهد.
وليس من شك في أن حقبة عبد الناصر كانت سوداء قاتمة خصوصا على أهل العلم والفكر والمبدعين، إلا أن كثيرا من الشعب المصري لم يشعر بهذا لقوة الضغط الإعلامي وبريق الشعارات المرفوعة التي تعلن الانحياز للفقراء. ولقد استفاد كثير من الفلاحين والعمال في فترة جمال عبد الناصر، لا سيما من قانون الإصلاح الزراعي، فبعد أن كان هؤلاء من المعدمين أصبح لديهم فدادين من الأرض الزراعية فكانت نقلة لهم، صحيحٌ أنه لم ينقلهم إلى مرحلة الرفاهية كما حدث في عهد السادات لكنهم استفادوا على الأقل: صاروا ملاكا من بعد ما كانوا أُجَراء!
وهكذا.. بدأت الحكاية بموضوع تعبير وانتهت إلى رسوخ فكرة سطوة وبطش وظلم عبد الناصر في عقلي وقلبي.
جاءت الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1971م)، كنت في بداية الصف الثاني الثانوي، وكانت المدارس تبدأ في أول سبتمبر أو في منتصفه، وأقيم في المدرسة حفل تأبين لعبد الناصر استمرت لأسبوع! فظل الطلاب والأساتذة يتبارون في مديح عبد الناصر وتمجيده في كلماتهم وخطبهم. لم يكن السادات قد كشر عن أنيابه بعد لجمال عبد الناصر، كانت السياسة لا تزال تخطب وده وود إرثه.
أزعم أني من أوائل من هاجموا جمال عبد الناصر، لقد بدأ حفل التأبين والتمجيد يوم الاثنين فيما أذكر، وكان الترتيب يضع كلمتي يوم السبت، فجاءني الأستاذ عيد الرافعي وقال: اكتب الكلمة التي ستلقيها واعرضها علي أولا. قلت له: يا أستاذ عيد، إني سأرتجل الخطبة كعادتي، أشعر بالخجل إن قرأت كلمتي من ورقة، وأنت أستاذي وقد عودتني الثقة بالنفس، ولن تسمع مني إلا ما يسرك.
لم تطمئنه كلماتي تلك، فلما جاء يوم السبت، وقف –دون أن أدري- من خلفي، وكان -كما أخبرني فيما بعد زميلي سيد محمود عبد الرحمن- قلقا ومضطربا، يحرك رجلا ويضع أخرى.
تقدمت خطيبا فقلت:"الحمد لله وكفى، وأصلي وأسلم على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فقد تقدم كثيرون وامتدحوا جمال عبد الناصر، لكن لي رأي آخر. نحن كشباب وكأبناء هذه البلاد بل وكأبناء لهذه الثورة، فكلنا وُلِد بعد 1952، وأنا قد وُلِدت 1954 وترعرت في ظل حكم جمال عبد الناصر، وأنا مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو لمنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي التابعة للاتحاد الاشتراكي، ومع ذلك يؤسفني أن أقول: كل هذا كذب.. كذب وافتراء! لقد مجَّدنا رجلا صنما..."
عندها انتفض الأستاذ عيد الرافعي واختطف مني الميكروفون، وصاح: "ابننا رفاعي لا يقصد هذا، لكن خانه التعبير.. هو قصد أن جمال عبد الناصر معبود الجماهير فكل الناس تحبه، ولا يعني أنه صنم بمعنى الصنم...".
انتهى الطابور، واستدعاني الناظر إلى مكتبه، "يا ابني انت مش عايز تجيبها البَرّ (لا تريد أن ينتهي الأمر على خير)، ويبدو أنك لن ترتاح إلا حين تُفصل من المدرسة.. لم تنتهِ كلمتك إلا واتصل بي جهاز الأمن يريدونك أن تذهب إليهم.. من أين تأتي بهذا الكلام؟.. نحن لا نقوله هنا.. وإذا سألوك فقل لهم إنك لم تسمعه من أحد هنا.. انت ولد طيب و"غلبان".. وأبوك رجل "غلبان".. انت كده بتودي نفسك في داهية (تلقي بنفسك إلى الداهية).. وهتودينا معاك كلنا في داهية.. والمفترض بي الآن أن أصدر قرار فصلك من المدرسة"!
ظل الأستاذ عيد الرافعي يترجاه ويتوسل إليه ألا يتخذ قرار الفصل من المدرسه، طفق يقول: اعذرة يا حضرة الناظر، إنه ابننا، مثل ابني علي، ومثل ابنك.. ورفاعي متفوق، ولا نريد أن يضيع مستقبله.. إلخ!. كان موقف الأستاذ رفاعي أبويا وصادقا، وكان من رجاءاته أن يؤجل أمر الفصل إلى حين نرى ما سيصنع في أمن الدولة، فلربما الأمر لن يستدعي.
ولم تنته الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on August 16, 2018 13:53
مذكرات الشيخ رفاعي طه (6) هتفت في ذكرى عبد الناصر: لقد مجدنا صنما!!
مذكرات الشيخ رفاعي طه (5)هتفت في الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر: لقد مجدنا صنما!لما أُعدِم سيد قطب أحرق أستاذي كتاب "معالم في الطريق" وهو في الصومالكان عصر عبد الناصر بوليسيا تتجسس فيه الزوجة على زوجها والابن على أبيه
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسة الحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلاميةالحلقة الرابعة: عندما فهمت معنى حديث النبي من ضابط أمن الدولة
عند نهاية الصف الأول الثانوي كان مدرس اللغة العربية في مدرستنا، واسمه "جمعة"، قد كلفنا بكتابة موضوع تعبير عن "دولة العلم والإيمان"، لقد جاء السادات بهذا الشعار في أول عهده، وكتبتُ موضوعا أهاجم فيه السادات، قلت فيه: إن السادات ينافق الشعب، وشعار "دولة العلم والإيمان" مجرد كلام خال من المضمون، فليس في البلد لا علم ولا إيمان.
تفاجأ الأستاذ جمعة حين قرأ موضوع التعبير هذا حتى أنه قرأه على بقية الطلاب، ثم هرع إلى الأستاذ عيد الرافعي فعرض عليه ما كتبت، ونصحه أن يتكلم معي لينصحني ألا اتهور كي لا أتعرض للسجن أو شيء من هذا، وجاء إلي الأستاذ عيد فحمل لي مع نصيحته قصة أخرى كان يخفيها في طيات ذاكرته.
حدثني أنه حين أُعْدِم سيد قطب (1966م) كان هو في مقديشيو (عاصمة الصومال)، وما إن سمع في الإذاعة خبر إعدامه حتى هرع إلى النسخة التي كانت معه من كتاب "معالم في الطريق" فأحرقها فورا.. أحرقها في الصومال من شدة الخوف والبطش. وختم قصته بالنصيحة: "يا بني، الجدار له آذان! ولا يغرنك أن عبد الناصر مات فنحن لا نزال في دولة الخوف".
تداعى إلى ذهني كلام الأستاذ محمد الشاهد، ها هو نفس الكلام يتكرر، كأنما وجدتها فرصة لأستبين وأستوثق من الصدمة، سألته:- هل تعني أن عهد جمال عبد الناصر كان فيه بطش وظلم؟- بالطبع يا بني، لقد كنا نخشى الحديث حتى مع زوجاتنا في البيوت، كان الواحد يتجسس على أبيه وزوجته وأخيه وأخته.. كل الناس كانوا يتجسسون، أنا لم أكن أضمن ولا أجرؤ أن أقول شيئا في بيتنا!
وطفق يحدثني عن العهد البوليسي الذي لم يأمن فيه أحد على نفسه، وأن الله قد رفع عن الشعب عبئا ثقيلا بموت عبد الناصر، وأنه يمكن حقا أن يكون السادات صادقا في شعاره "دولة العلم والإيمان" فما يظهر منه يدل على هذا، على الأقل صار المرء يستطيع أن يتكلم ويتنفس، وأخبرني في لهجة المتأثر: لو كنتَ كتبتَ موضوع تعبيرك هذا في عهد عبد الناصر لما كان أحد ليراك ثانية.. وعند تلك العبارة أخذ في البكاء.
عند تلك اللحظة اجتمعت عندي الروايات، رواية الرجل البسيط: الشيخ محمود عسران، مع الأستاذ محمد الشاهد، مع الأستاذ عيد الرافعي.
نعم.. نسيت أن أحكي ما قاله لي قديما محمود عسران!
لقد حدثني الشيخ عسران مرة فقال: يا بني، لقد كان الملك فاروق رجلا صالحا حتى إن الناس لقبوه بـ "الملك الصالح"، وإنما العسكر شوهوا صورته حتى يُقال للناس كان فاسدا ونحن أفضل منه.
كان حديث الشيخ عسران حديث المتوجس الخائف، يحوم حول المعنى لا يريد أن يصرح به، لكن الصريح الواضح هي لهجته ومشاعره المُنْكِرة المستنكرة للعسكر وأفعالهم. أما أصرح الجميع فقد كان محمد الشاهد.
وليس من شك في أن حقبة عبد الناصر كانت سوداء قاتمة خصوصا على أهل العلم والفكر والمبدعين، إلا أن كثيرا من الشعب المصري لم يشعر بهذا لقوة الضغط الإعلامي وبريق الشعارات المرفوعة التي تعلن الانحياز للفقراء. ولقد استفاد كثير من الفلاحين والعمال في فترة جمال عبد الناصر، لا سيما من قانون الإصلاح الزراعي، فبعد أن كان هؤلاء من المعدمين أصبح لديهم فدادين من الأرض الزراعية فكانت نقلة لهم، صحيحٌ أنه لم ينقلهم إلى مرحلة الرفاهية كما حدث في عهد السادات لكنهم استفادوا على الأقل: صاروا ملاكا من بعد ما كانوا أُجَراء!
وهكذا.. بدأت الحكاية بموضوع تعبير وانتهت إلى رسوخ فكرة سطوة وبطش وظلم عبد الناصر في عقلي وقلبي.
جاءت الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1971م)، كنت في بداية الصف الثاني الثانوي، وكانت المدارس تبدأ في أول سبتمبر أو في منتصفه، وأقيم في المدرسة حفل تأبين لعبد الناصر استمرت لأسبوع! فظل الطلاب والأساتذة يتبارون في مديح عبد الناصر وتمجيده في كلماتهم وخطبهم. لم يكن السادات قد كشر عن أنيابه بعد لجمال عبد الناصر، كانت السياسة لا تزال تخطب وده وود إرثه.
أزعم أني من أوائل من هاجموا جمال عبد الناصر، لقد بدأ حفل التأبين والتمجيد يوم الاثنين فيما أذكر، وكان الترتيب يضع كلمتي يوم السبت، فجاءني الأستاذ عيد الرافعي وقال: اكتب الكلمة التي ستلقيها واعرضها علي أولا. قلت له: يا أستاذ عيد، إني سأرتجل الخطبة كعادتي، أشعر بالخجل إن قرأت كلمتي من ورقة، وأنت أستاذي وقد عودتني الثقة بالنفس، ولن تسمع مني إلا ما يسرك.
لم تطمئنه كلماتي تلك، فلما جاء يوم السبت، وقف –دون أن أدري- من خلفي، وكان -كما أخبرني فيما بعد زميلي سيد محمود عبد الرحمن- قلقا ومضطربا، يحرك رجلا ويضع أخرى.
تقدمت خطيبا فقلت:"الحمد لله وكفى، وأصلي وأسلم على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فقد تقدم كثيرون وامتدحوا جمال عبد الناصر، لكن لي رأي آخر. نحن كشباب وكأبناء هذه البلاد بل وكأبناء لهذه الثورة، فكلنا وُلِد بعد 1952، وأنا قد وُلِدت 1954 وترعرت في ظل حكم جمال عبد الناصر، وأنا مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو لمنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي التابعة للاتحاد الاشتراكي، ومع ذلك يؤسفني أن أقول: كل هذا كذب.. كذب وافتراء! لقد مجَّدنا رجلا صنما..."
عندها انتفض الأستاذ عيد الرافعي واختطف مني الميكروفون، وصاح: "ابننا رفاعي لا يقصد هذا، لكن خانه التعبير.. هو قصد أن جمال عبد الناصر معبود الجماهير فكل الناس تحبه، ولا يعني أنه صنم بمعنى الصنم...".
انتهى الطابور، واستدعاني الناظر إلى مكتبه، "يا ابني انت مش عايز تجيبها البَرّ (لا تريد أن ينتهي الأمر على خير)، ويبدو أنك لن ترتاح إلا حين تُفصل من المدرسة.. لم تنتهِ كلمتك إلا واتصل بي جهاز الأمن يريدونك أن تذهب إليهم.. من أين تأتي بهذا الكلام؟.. نحن لا نقوله هنا.. وإذا سألوك فقل لهم إنك لم تسمعه من أحد هنا.. انت ولد طيب و"غلبان".. وأبوك رجل "غلبان".. انت كده بتودي نفسك في داهية (تلقي بنفسك إلى الداهية).. وهتودينا معاك كلنا في داهية.. والمفترض بي الآن أن أصدر قرار فصلك من المدرسة"!
ظل الأستاذ عيد الرافعي يترجاه ويتوسل إليه ألا يتخذ قرار الفصل من المدرسه، طفق يقول: اعذرة يا حضرة الناظر، إنه ابننا، مثل ابني علي، ومثل ابنك.. ورفاعي متفوق، ولا نريد أن يضيع مستقبله.. إلخ!. كان موقف الأستاذ رفاعي أبويا وصادقا، وكان من رجاءاته أن يؤجل أمر الفصل إلى حين نرى ما سيصنع في أمن الدولة، فلربما الأمر لن يستدعي.
ولم تنته الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on August 16, 2018 13:53
August 14, 2018
مصر قبل وبعد الحداثة (4) الأجانب والفنادق والشرطة
نختم في هذا المقال السلسلة التي افتتحناها عن أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة (راجع: المقال الأول، الثاني، الثالث)، حيث رصدنا ذلك من خلال رحلتي حج قام بهما أجنبيان استطاعا الوصول إلى البيت الحرام وسجَّلا رحلتيهما، بين الرحلتين مائتي عام فارقة في تاريخ مصر، إذ كانت الثانية في منتصف القرن التاسع عشر بعد استقرار حكم أسرة محمد علي الذي أدخل الحداثة والعلمنة والتغريب، وعلى غير ما يتوقع الكثيرون فإن هذا لم يعد على مصر بالخير، بل إن حالها بعد الحداثة كان أسوأ وأردأ من حالها قبل الحداثة.
في هذه السطور القادمة نرى كيف تطورت أوضاع الأجانب، والوكالات والفنادق، وأحوال الشرطة.
أوضاع الأجانب
في كلا العهدين كانت مصر زاخرة بالأجانب، فقد كانت مركزا للتجارة بين الشرق والغرب في أيام المماليك، ثم كانت مركزا للنشاط الاقتصادي الأجنبي الذي وجد في مصر فرصة سانحة بعد اتفاقية لندن 1840م، لكن النفوذ الأجنبي في عهد بيرتون كان عظيما جدا، إذ كان الأجانب عمليا دولة داخل الدولة أو على الحقيقة فوق الدولة.يذكر بتس أن اللغات المستخدمة في القاهرة لا تقل عن اثنين وسبعين لغة، ومما يلزم الأجانب –اليونانيون مثالا- ألا يرتدون شيئا من اللون الأخضر في ملابسهم، فإن فعلوا هاجمتهم العامة فمزقت ما كان لونه أخضر في ملابسهم، وذلك لخصوصية هذا اللون إذ يرتديه المسلمون وحدهم، ولا يرتدي العمامة الخضراء إلا من هم من سلالة النبي ولا تشير رحلة بتس إلى عداء أو تحفز تجاه الأجانب، على عكس الحال بعد قرنين، فقد كان المصريون يتوجسون من كل أوروبي ولا يثقون فيهم ويحتقرونهم، بل يعتبرون أن من يعلن إسلامه منهم إنما يفعل ذلك لؤما وحيلة ليتمكن من التجسس عليهم وجمع المعلومات والإحصاءات عن بلادهم، ولهذا فإن بيرتون نفسه اجتهد ألا يُكشف أصله الأوروبي، وادعى أصلا فارسيا وهنديا وأفغانيا لكي يُطْمَأَنَّ إليه. وفي زمن بيرتون كان قد غلب الأجانب على بعض الأحياء التي صارت أجنبية وصارت تغص بالسكارى، وكان الأجانب يتمتعون بالحماية القنصلية التي يُمكن الحصول عليها بالرشاوى وبعض التحايل ثم يُساء استخدامها فتغتصب بها الحقوق ولا يمكن للقضاء المصري أو لأي جهة استعادة الحق من متمتع بالحماية الأجنبية، ذلك أن "شعار الحماة الطبيعيين للحاصلين على الحماية هو انتهاك القانون لإرضاء غرور موظف إنجليزي تافه"، وكان الفرنسيون أقرب الأوروبيين إلى المصريين بينما الإنجليز واليونانيون والنمساويون والمالطيون هم أكثر الشعوب المكروهة والمحتقرة في مصر، وإن غُلِّف هذا كله بقشرة من المجاملاتوبالرغم من الحظر الصارم للسلاح فقد كان بيرتون يحمل دائما سلاحه سواء أكان خنجرا أم مسدسا، وكان متمتعا بالحماية البريطانية، فمع أن الأجانب يتمتعون بامتيازات قانونية واسعة إلا أنه باستطاعتهم أيضا مخالفة القانون القائم، وقد ذكر أن الحكومة تحرم على الأجانب سب أهل البلاد ومع هذا قرر أنه يستطيع استعمال العنف، بل وذكر أنه كان يمكن لليوناني أن يسب بأشنع الألفاظ عجوزا مصريا إذا لمسه بعكازه لمسة غير مقصودة، وفسَّر هذا بأن "الخميرة القديمة" لا تزال كامنة في اللاشعور، إذ المصريون يعلمون نفوذ الأجانب والأجانب لا يقصرون في استعماله وإساءة استعمالهومثله يتحدث بيرتون عن مثل هذا من ضعف التأثيث أو انعدامه، وسوء نظافة الغرف، إلا أن الأسعار صارت مرتفعة للغاية، ودخلت فيها الأنواع المقنعة من الرشا، فقد كان مضطرا أن يدفع أجرة شهر "حلاوة المفتاح" وأجرة شهر آخر للإقامة ومبلغا ثالثا لمن يكنس المكان ويمسحه. لكن الخانات دائما تغص بالتجار والمسافرين، وفيها كل ما يحب أن يراه الرسامون من مشاهد تستثير عيونهم وريشتهمومما يلفت النظر أن بتس يتحدث عن المساجد الداخلية في الخانات لأنها تُغلق بالليل لمن يصلي المغرب والعشاءبينما كان للشرطة حضورها الطاغي الوافر في رحلة بيرتون، وهو أمر لا يُستغرب في مجتمع تحول إلى "الدولة الحديثة" وكُسِرت فيه الروابط القبلية والمجتمعات الوسيطة ومُنِع حمل السلاح على الناس؛ لقد كانت الشرطة –بتعبير بيرتون- تمثل عذابا في مصر لما تتسم به من التطفل، وتضاعفت عقوب الجرائم عما كانت عليه أيام المماليك خصوصا الاعتراضات السياسية ولو كانت بسيطة، ووصف بيرتون مشهدا لشرطي يسوق فلاحا لقسم الشرطة وهو يتوسل إليه ويترجاه، والنساء تهتف خلفه "يا خراشي، يا حسرتي، يا ندامتي"، وإذا أرادات السلطة جمع الناس للتجنيد فإن الشرطة تهاجم التجمعات في المساجد والأسواق فتغلق عليهم الأبواب ثم تسوقهم للتجنيد، ولذلك فإن أجواء الحرب كانت تثير الذعر في الناس وتجعلهم يخشون التجمع حتى من نوى منهم الحج لئلا يقعوا في "فخ" الشرطة، وتبلغ القسوة أن السلطة في عهد محمد علي كانت تمنع النساء من الولولة والندب خلف الرجال المختطفين للتجنيد. وروى بيرتون كيف يمكن للشرطة الليلية أن تعتقل بالشبهة والمزاج من يسير لا يحمل فانوسا مهما كانت معاذيره، وكان الضرب على القفا سلوك اعتيادي يتلقاه كل من دخل قسم الشرطة ولو كان بريئا، والناس لدى الشرطة درجات فمن كان أوروبيا لا يُحبس ومن كان أجنبيا –كالهندي أو الفارسي- متمتعا بحماية قنصلية أحسنت معاملته، بينما المصري هو المُهان المهضومة حقوقه. ومع هذه القسوة فإن تساهل الشرطة كان ممنوحا للعاهرات المتهتكات، اللواتي كن يدفعن للدولة ضرائب عالية إلى عهد قريبهكذا مثلت رحلات الحج سجلا تاريخيا للمجتمعات المسلمة، فلولا أن هؤلاء الرحالة قصدوا الحج ما كانت رحلاتهم قد حظيت بمثل ما حظيت به من الاهتمام، لقد نالوا قبسا من شرف المكان وشرف الشعيرة إذ توجهوا إليها، وإن اختلفت أغراضهم. وقد قال علماؤنا: اصحب أهل التقوى تنل من شرفهم فإن كلبا صحب أهل الكهف فذُكِر في كتاب الله معهم!
وعلى الجهة الأخرى فقد حظيت البلاد التي أسهمت في شرف رحلة الحج بمصادر عن تاريخها لم تحظ به تلك البلاد التي لم يسعفها حظها بهذا الشرف، وبهذا رفع الحج أقدار بلاد بقدر ما أسهمت في التوصيل إليه.
وتظل رحلة الحج تؤتي ثمارها في كل حين بإذن ربها، وتظل بابا مفتوحا للشرف ينهل منه من أراد نصيبا، فخلود الأثر والذكر بقدر الاقتراب من الشرف الخالد! وهكذا كتب الله لمكة والمدينة شرفا خالدا تمتازان به على سائر البلاد، حتى تقوم الساعة!
نشر في مجلة المجتمع
Published on August 14, 2018 02:39
August 12, 2018
في مسألة الليرة التركية: بعض أمور غائبة
1. بداية يجب علي أن أعترف بأن أمر الاقتصاد هذا مما أشعر أنه لم يُيَسَّر لي رغم بذلي المجهود في فهمه واستيعابه، وإني أقرأ فيه منذ أكثر من عشرين سنة، ودرست فيه دبلوما مهنيا مكثفا ومطولا وتخرجت فيه بامتياز، ثم إني أدرس ماجستير الاقتصاد الإسلامي وحصلت في فصله الدراسي على المركز الأول.. كان يجب علي قول هذا لكي يُعامل الكلام الآتي بعده في ضوء هذه المقدمة.
2. من نافلة القول أن الاقتصاد مرتبط بالسياسة، وأن الاقتصاد أداة من أدوات السياسة.. وعبر التاريخ كانت القوة السياسية تتحكم بالقوة الاقتصادية، وكانت القوة الاقتصادية تعرف أنها خادم للقوة السياسية.. حتى بدأ الحال يختلف مع عصر النهضة الأوروبية.
3. باختصار شديد جدا، كان نمو القوة الأوروبية مع ضعف الممالك الإسلامية مع تقدم علم صناعة السفن وتقدم علم الخرائط قد أنتج وضعا جديدا خلاصته: يمكن أن نرسل سفينة محملة بالبضائع ومعها جنود أيضا في رحلات بعيدة مع احتمال أن تعود سالمة ببضائع جديدة ومكاسب وفيرة.. هذه المكاسب الوفيرة مع قلة المخاطر بتقدم صناعة السفن وعلم الخرائط أغرت العقول التجارية والأموال.. فخاضوا المغامرة واستطاعوا تحقيق مكاسب هائلة.
4. أهم أسباب المكاسب الهائلة:
- أنهم استطاعوا الحصول على البضائع من بلادها الأصلية دون مرور بحركة التجارة الوسيطة
- أن السفن حين كانت تجد البلاد ضعيفة فإنها كانت تحتلها وتغتصب مواردها بلا مقابل، أو بتعبير كريس براون "كانت السفن تجوب البحار للتجارة إن وجدت قوة وللقرضنة إن وجدت ضعفا"
- أن كثيرا من البلاد لم تكن تعلم أن لديها موارد مهمة لآخرين أو أن مواردها مهمة، كما هو الحال في الأمريكتين.
5. أنتجت هذه المكاسب طبقة تجارية ذات رؤوس أموال، ومع النمو المستمر فيها، بدأت هذه الطبقة تسعى لموقع سياسي لها بين عناصر النظام القديم: الملكية والكنيسة والإقطاع.. ومن يعتنقون مدرسة التفسير المادي للتاريخ يرون كل التاريخ الأوروبي هو نتيجة صعود هذه الطبقة (البورجوازية) وصراعها مع النظام القديم (الثورات المتعددة).
6. لا يهمنا من هذا الكلام كله إلا ما حصل في بلادنا منذ مائتي سنة فقط.. وهو دخول بلادنا وأمتنا ضمن "الاقتصاد العالمي".. لقد تطور التاريخ الأوروبي بما أنتج إمبراطوريات استعمارية تستعمل قوتها الحربية في احتلال البلاد البعيدة من إندونيسيا شرقا وحتى القارتين الكبيرتين (الأمريكتين) غربا.. وتمتص كل هذه الموارد لتتضخم ويزيد تضخمها وتدخله في منظومة تجعلها أقوى وأقدر على احتلال وضم المزيد من البلاد.
ومن يعتنقون مدرسة التفسير القومي للتاريخ يرون كل تاريخ السلام الأوروبي لم يكن ليوجد بينهم لولا أن أوروبا اكتشفت "أقواما" آخرين وبلادا أخرى فقرروا نقل صراعهم من بلادهم إلى بلاد الأقوام الآخرين.. أولئك الأقوام الآخرين هم الذين لما اكتشفتهم أوروبا اكتشفت أنها يمكن أن تكون "قوما" ذات شخصية وهوية جديدة.
7. كانت هذه البلاد الأخرى هي بلادنا في أغلب الأحوال، لأن أمتنا تمددت من إندونيسيا حتى الأندلس مع أعمق آسيوية وإفريقية وأوروبية تجعل أية حركة في العالم.. وفي رأي كثيرين فإن تغير الاحتلال الأوروبي من احتلال إفناء وإبادة واستئصال (كما في الأندلس والأمريكتين وعصر استعباد الافارقة) إلى احتلال هيمنة وسيطرة وإقامة أنظمة تواليها في بلادنا، إنما يرجع هذا إلى هذه الضرورة الاقتصادية.
فالعداء الحضاري -في العقلية الأوروبية- يستلزم الإفناء والإبادة والإنهاء.. بينما لما دخل الدافع الاقتصادي على هذه العقلية جعلها تفكر في الشعوب الأخرى كعبيد وخدم وطبقة لا بد منها لتستمر النهضة الزراعية والصناعية.. فهنا كان الأمثل بالنسبة لهم أن يحتلوا بلادنا ويجعلوننا عبيدا وخدما نستخرج لهم الموارد ونبيعها لهم ونعمل في مصانعهم ومزارعهم..
ثم في النهاية نشتري منهم منتجاتهم لتستمر النهضة التجارية فنكون بالنسبة لهم كأسواق تحافظ على بقاء نظامهم في بلادهم.. فلو أنهم أبادونا وأفنونا (وهم بميزان القوى العسكرية قادرون) فلن يجدوا عبيدا، ولن يجدوا أسواقا، وبالتالي ستشتعل الحروب بينهم هم أنفسهم.. فمن الخير لهم أن نبقى، وتبقى الأمم الأخرى.. تبقى كعبيد وكخدم وكأسواق تحافظ على استمرار دورة نهوضهم.
8. هذه الحكومات التي أنشأها الاستعمار في بلادنا سواء بالاستعمار المباشر (كما فعل الفرنسيون والإنجليز وغيرهم) أو غير المباشر كما في تركيا والسعودية والأردن وحكومات ما بعد الاستعمار في بقية البلدان.. هذه الحكومات هي التي كسرت استقلال بلادنا الاقتصادي وأدخلتنا في منظومة "الاقتصاد العالمي".. فصارت بلادنا خدما لهذه المنظومة
9. سأضرب مثالا مختصرا للغاية بالحالة المصرية.. كان الفلاحون في مصر ينتجون ما يستطيعون بيعه في السوق المصرية، فيزرعون البقول والفاكهة والخضروات وغيرها.. وهناك من يزرعون المنتجات التي ستصدر للخارج بعد أن تكتفي منها السوق المصرية بطبيعة الحال!
لما جاء محمد علي باشا قرر أن يصنع "الدولة الحديثة" في مصر، أو بمعنى أوضح: أن يكون الزارع الوحيد والصانع الوحيد والتاجر الوحيد (وهو تعبير الشيخ محمد عبده الذي هو أوضح وأدق مليون مرة من تعبير الدولة الحديثة الغامض والمائع والموهم والمضلل).. فقرر أن تزرع البلاد القطن.. لماذا؟ لأن هذا سيحقق مكاسب وفيرة ببيعه للسوق العالمي..
عند هذه اللحظة ارتبط الاقتصاد المصري بالسوق العالمي، صارت البلد تزرع القطن لا لأن مصر تحتاجه بل لأن هذه هي رغبة وحاجة السوق العالمي، وقد أتى هذا بالسلب على مساحات المزروعات الأخرى الأساسية كالبقول والخضروات والزيت ونحوه.. لكن السوق العالمي يرد على مثل هذه الحالة بأنه يمكنك استيرادها من دولة أخرى تنتج البقول والخضروات والزيت.
هنا حصل التحول، من أمة تكفي نفسها ثم تصدر الفائض عنها لغيرها، إلى دولة عضو في تجارة عالمية.. فأي أزمة تقع في مكان ما خلف البحار يمكن أن تؤثر فيها وتسبب لها أزمة عنيفة..
إذا أضفت إلى هذا الوضع الاستبداد والتغول الأوروبي فالوضع ينتج أن مزارعي مصر هم على الحقيقة عبيد وخدم للقوى العالمية.. أي أنه لم يعد عليهم أن يشبعوا طمع وجشع المستبدين المحليين (المماليك مثلا) بل والمستبدين العالميين (أباطرة المال والأعمال في المنظومة العالمية).
10. هنا لم يعد الاقتصاد المحلي خادما للحاكم المحلي.. لقد صار الحاكم المحلي والاقتصاد المحلي جزءا من صورة أكبر ومنظومة أكبر، هي المنظومة العالمية.. لذلك كان طبيعيا للغاية أن ترى تجارا أجانب لهم امتيازات هائلة في بلاد المسلمين، ولديهم القدرة على مضادة ومقاومة الحاكم المحلي حتى لو كان الخليفة العثماني نفسه.. لقد صار للاقتصاد العالمي ممثلون ومندوبون في البلاد التي لا تقع بالضرورة تحت حكمه العسكري.. ولهذا تكرر في تاريخنا الحديث ظاهرة وجود مستعمرة ولو لم يوجد الاستعمار (والتعبير للمؤرخ جوان كول)
11. النظام العالمي ربوي.. ويقوم في أساسه على الربا، والربا ببساطة شديدة هو أن المال ينمو ويتكاثر بنفسه.. وهذا ضد النظام الإسلامي الذي يجعل الربا من أكبر الكبائر فالمال في النظام الإسلامي مجرد تعبير وتمثيل وصورة عن الإنتاج لأنه مجرد وسيط للتبادل.. فعلى قدر ما في البلد من إنتاج على قدر ما سيكون فيها من المال..
بينما النظام الاقتصادي الربوي يجعل المال نفسه بضاعة، أي أنه ينمو بنفسه، يمكن المتاجرة فيه.. فالذي يُقرض عشرة دراهم ليأخذها فيما بعد خمسة عشر فهو هنا قد تاجر في المال نفسه كأنه بضاعة نَمَتْ وتكاثرت.. في حين أن الإنتاج لم يزدد في هذا البلد.
هذا النظام ينتج بطبيعته التضخم وارتفاع الأسعار المستمر، لأن نمو الأرقام مستمر بينما ليس بالضرورة أن ينمو معه الإنتاج.. وهذا النظام هو بطبيعته يؤول في النهاية لمصلحة أصحاب الأموال ضد الفقراء، ولمصلحة المغامرين والأذكياء ضد من لا يتمتعون بمواهب المغامرة والذكاء..
ولو أتيح لي تلخيص الاقتصاد الإسلامي فهو أنه ضد أي معاملة ليس فيها نفس القدر من المخاطرة بين الطرفين، بمعنى أنه لا يكاد يجوز في فقه المعاملات معاملة تضمن الربح لطرف على حساب طرف.. بينما هذا الوضع هو أساس النظام الاقتصادي الربوي المعاصر.
12. حيث أن المال نفسه منفصل عن الإنتاج وعن الثروة، ويمكن المتاجرة فيه.. وحيث أن الوضع السياسي والعسكري آل في النهاية إلى الرأسمالية التي تقودها أمريكا، فمن هاهنا كانت أمريكا هي راعية النظام الاقتصادي العالمي.. فهي تحكم به كما تحكم بالسلاح، وتستخدمه لتنمية مواردها لتزيد به أسلحتها لتستخدمها في جلب موارد جديدة.. دائرة كلما تضخمت في أمريكا كلما دهست مسحوقين في البلاد الأخرى.
ما قد يتفاجأ له كثيرون أن لهذا النظام العالمي مندوب في كل دولة، اسمه "رئيس البنك المركزي".. البنك المركزي الذي هو بنك البنوك في كل دولة.. رئيس البنك المركزي هذا شخصية مستقلة لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يعزله.. بل ويستطيع رئيس البنك المركزي أن يعمل ضد سياسة الرئيس والحكومة الاقتصادية..
لا يظهر هذا كثيرا في العالم لظروف الانسجام بين السياسة والاقتصاد في الدول عادة.. لكنه يظهر في الدول التي تريد الخروج من الهيمنة.. ومن كان متابعا للوضع في تركيا فهو لا شك يتسرب له منذ أعوام أنباء الخلاف العلني بين أردوغان ورئيس البنك المركزي.
13. ما تراه في عالم السياسة من حروب دموية تترك القتلى والجرحى والمشوهين والمُقَطَّعين هو نفسه يجري في عالم الاقتصاد.. لكن الفضائيات لا تلتقطه ولا تتابعه، من أهم أسباب هذا أن النظام العالمي (الحضارة الغربية) استطاعت أن تجعل المنظومة الاقتصادية كأنها حقيقة كونية.. كأنها من طبائع الأشياء.. شيء مثل شروق الشمس وغروبها، أمر لا يُدان ولا تجدي مصادمته والتمرد عليه..
فمن الطبيعي أن تنشأ الشركات، وتنمو، وتتضخم، وتعمل وفق السوق، تسعى لتضخيم المكاسب، لإنقاص الخسائر، تستغل ثغرات القوانين، تخفض العمال، تزيد الآلات.. منطق الربح والخسارة نفسه هو منطق يبدو طبيعيا مهما تخلى عن الإنسانية والرحمة ومصلحة الناس.. لا بأس إطلاقا أن يكون بين الناس من ثروته ملايين أضعاف آخرين.. أن يكون في العالم 10% يمتلكون 90% من ثروته..
تبدو هذه الأمور طبيعية ومفروغ منها.. لهذا لا تلتقط الفضائيات ملايين المسحوقين المدهوسين تحت عجلة المكسب والخسارة.. فلو أنهم أذكياء لصعدوا في سلم المكسب والخسارة.. وقانون العالم لا يرحم المغفلين والبلهاء والكسالى والخاملين.. بل تلك عقوبة خمولهم وكسلهم (هكذا يقولون.. لتبدو الأمور من طبائع الأشياء وحقائق الكون).
14. أحد الآثار المترتبة على ما سبق أن يخرج رئيس أمريكا يوما ليقول: نحن سنطبع الدولار بلا غطاء، ولكن قيمته ستظل كما هي لأن أمريكا دولة قوية.. هذا ما يُعرف بـ "صدمة نيكسون".. والعالم كله يخضع لهذه الصدمة التي سرقت منهم ثرواتهم وستسرق منهم ثرواتهم ومواردهم ومجهوداتهم مقابل أوراق خضراء مطبوعة.
وهكذا يصير الدولار مطلوبا مرغوبا مسنودا بقوة السياسة والسلاح والصناعة ولو كان مجرد ورقة خضراء.. بينما يمكن ببساطة أن تنهار عملة أخرى فجأة رغم أن الإنتاج لا ينهار ولا يتراجع لأن المنظومة الاقتصادية العالمية تتعامل مع هذه "الأوراق المالية" في سوق ضخم يجعل لها قيمة في نفسها، وليست مجرد تعبير عن الإنتاج.
15. أمريكا تفرض النظام الرأسمالي على الجميع، وذلك لأنها تتحكم فيه، ولأنه يؤول إليها ويقويها.. وصنعت لأجل هذا منظمات عالمية تتحكم في رسم السياسات الاقتصادية للدول الأخرى، لكي تبقيها دائما ضمن سجن التحكم الكامل والامتصاص الكامل.. (ولا بأس أن نحيل هنا لكتاب: الاغتيال الاقتصادي للأمم للخبير الاقتصادي جون بركينز.. فهو يشرح طرفا من هذا عن تجربته الشخصية).. وهذا فضلا عن عدد من الاتفاقيات الدولية التي تجعل الدولة التي لا توقع عليها في حال عزلة اقتصادية على الحقيقة.
ومن هاهنا فإن كل سعي لتولي الحكم في دولة نامية يجب أن يقدم أهله للأمريكان ضمانات قاطعة بأنهم يعتنقون الرأسمالية الأمريكية وسيطبقونها.. هكذا فعل الجميع، بمن فيهم الإسلاميون.. وبمن فيهم أردوغان طبعا.
16. أردوغان اتخذ طريق المناورة في ظرف عالمي يسمح بمثل هذا (وقد فصَّلت الكتابة فيه سابقا) ولم يزل منذ 16 عاما في صراع مع أهم مراكز النفوذ: العسكرية والأمنية.. إلى هذه اللحظة يبدو ناجحا، فيما تُوِّج بفشل الانقلاب الماضي في يوليو 2016..
وهذه النجاحات التي حققها في الاقتصاد هي نجاحات ضمن منظومة الاقتصاد العالمي نفسه.. وسيظل اقتصادا ناجحا بالأرقام ما دامت المنظومة نفسها مستمرة، والتي من أهم ملامحها: توفير بيئة استثمارية قوية تجذب الأموال وتقيم الصناعات وتزيد التجارة الخارجية (وطبعا فرص العمل الداخلية) وترفع الدخل وتستثمر الموارد الذاتية وتبحث عن الفرص ... إلخ!
لكن الزعيم الوطني ذي الهوى الإسلامي (والذي هو أصلا اقتصادي، وخريج كلية الاقتصاد) يعرف في النهاية أن المستفيد الأكبر من هذا النجاح هو المنظومة العالمية وحيتانها الكبار.. وأن مضادة هذا النظام لا بد أن يبدأ من تخفيض الفائدة الربوية حتى إنهائها ليعتدل توزيع المال والثروة.
هذه هي النقطة الحساسة التي أثارت الحيتان الكبار من الطبقة الاقتصادية التركية المتغربة، ومن الطبقة الاقتصادية المرتبطة بالغرب.. وعندها لا بد أن تبدأ الحرب ولو تعرضوا هم أنفسهم للخسائر تماما كما كان رجال الأعمال في مصر على استعداد للخسارة الكبرى الاقتصادية مقابل إسقاط مرسي.. لأن مرسي -ولو كان نظيفا وفي منظومة اقتصادية رأسمالية لا يفكر في تهديدها، فإنه بمجرد غلق منافذ فساد فإنه يضربهم في مقتل- يهدد المنظومة نفسها.. وهكذا، لا بأس عند كثيرين من رجال الأعمال أن يخسروا كثيرا مقابل بقاء المنظومة التي لو استمرت فستعيد لهم أموالهم أضعافا مضاعفة.. ولو من دماء المسحوقين.. فأكل أموال الناس أهون عندهم من إنشاء منظومة عادلة بطبيعة الحال.
17. أردوغان يدرك هذا كما يدركه أصغر طالب اقتصاد.. والصراع صراع عقول وخطوات ومحاولة تغيير هذه المنظومة بأقل قدر من الخسائر.. تركيا قوية اقتصاديا لكن هذه القوة مرهونة في جانب منها للأجانب، خصوصا في أمرين:
الأول: العملة النقدية التي تخضع لسوق الأوراق المالية في العرض والطلبالثاني: المستثمرون ذي الهوى الغربي من الأتراك، أو الغربيون أنفسهم
في الأمر الأول تجري المضاربة على العملة في هذه الأسواق لتفقد قيمتها.. أرجوك لا تنسى أن العملة في نفسها في ظل المنظومة الاقتصادية هي بذاتها بضاعة يُتاجر فيها.. فحين يركد سوقها ويقل عليها الطلب فإنها تنخفض قيمتها.. هذه العملية لا تمس الإنتاج لا بالزيادة ولا بالسلب ولكنها تضعف قيمة العملة. (في بعض الأحيان يمكن للدولة نفسها الاستفادة من نقصان قيمة عملتها لترويج بضائعها التي ستكون أرخص أو سياحتها التي ستكون أرخص... إلخ)
وفي الأمر الثاني تهرب رؤوس الأموال وتحول ثرواتها إلى العملة الأجنبية فيزداد الطلب على العملة الأجنبية كما يقل الطلب على العملة المحلية.
وأرجوك تذكر أن هذه العملة الأجنبية التي يزداد الطلب عليها هي الدولار الذي هو بلا قيمة، مجرد ورقة مطبوعة كما يعرف العالم كله.. إلا أن قوته مستمدة من قوة السلاح والسياسة التي تجعله مخزنا للقيمة والثروة وبه تشتري الموارد والمجهود.
أي أن انهيار الليرة لا يساوي بحال ضعف الإنتاج التركي .. كما أن صعود الدولار لا يعني بحال زيادة الإنتاج الأمريكي.. إنما هي معركة قوة والاقتصاد جزء منها.
18. الحلول التي يطرحها الاقتصاديون المعاصرون هي في عمومها حلول من نفس بيئة المنظومة الاقتصادية الربوية.. فهي في أحسن أحوالها حلول تسكينية وهي في أغلب أحوالها حلول لإعادة البلاد إلى المنظومة الاقتصادية نفسها.. التي هي احتلال حقيقي.
وكنت ذكرت في منشور منذ فترة أن هناك ما أسميه "المثلث الحضاري" وهو: المال، العلم، السلاح.. وأن الأمم تبقى قوية ما كان كل ضلع منها يخدم الآخريْن، فإن اختل واحد منها بدأت الأمة في الانحلال والوقوع تحت الاحتلال.
والمقصود هنا أن الحلول الاقتصادية للأزمة التركية الحالية لا تكون بحال اقتصادية.. بل الواقع أنه بقدر ما يستطيع السلاح التركي الحفاظ على استقلال البلد بقدر ما تستطيع أن تنجو من هذه الأزمة ومما وراءها.. وبقدر ما سيستطيع العِلْم التركي اختراع أسلحة دفاعية وهجومية وإحسان استثمار الموارد وتنميتها بقدر ما تستطيع تركيا أن تنجو من هذه الأزمة.
محاولة المساس بالنظام الاقتصادي العالمي لا بد أن يسبب حربا في نهاية المطاف.. لكن الطرف الأضعف سيحاول تأجيلها (تركيا) كما سيحاول الطرف الأقوى الاستباق بها (أمريكا) لإخماد هذه المحاولة.
19. وفي الحروب لا بد من استثارة الهوية والروح الدينية والقومية، وهو ما يفعله أردوغان الآن.. لأن الحقيقة أن نقطة ضعف هذا النظام الاقتصادي العالمي هو أنه في حاجة دائمة لأسواق ومستهلكين.. والاستقلال يبدأ من أمور بسيطة كالمقاطعة والزهد والاكتفاء بالضروري دون الكمالي والترفيهي والإقبال على المنتج المحلي.
وفي هذا الوضع لابد من أن يتأثر كثيرون سلبا، أولئك الكثيرون هم الذين ارتبطوا بشكل ما بالمنتجات الغربية، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءا من معركة الاستقلال لو لم يضحوا بمصالحهم الآنية لصالح استقلالهم وروحهم الدينية والقومية والحضارية..
بقدر ما سيُجَيَّش الناس للحرب، وبقدر ما سيستعدون للتضحية، وبقدر ما سيبذلون من المجهود العلمي والنفسي للصمود في الحرب الحقيقة القادمة بقدر ما ينتصرون..
والأهم، بقدر ما ستحقق دولة ما اكتفاءها الذاتي بقدر ما تنخلع من منظومة الاقتصاد العالمية.. وهذا أمر لا يتحقق بغير مجهود هائل من الدعاية والإقناع واستثارة هذه المشاعر الحضارية ومعاني العزة والكرامة.
20. ومن نافلة القول أيضا أن هذه ليست معركة تركيا، بل هي معركة الأمة الإسلامية كلها.. وأنها أيضا من المعارك التي تقسم الناس إلى فسطاطين: مع الأمة أو ضدها.. والمشهد واضح منذ ثورات الربيع العربي، الطرف الذي مع الأمة واضح، والطرف الذي ضدها واضح.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on August 12, 2018 08:11
August 6, 2018
عزائم العظماء
على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارموتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم
هكذا قال المتنبي..
"لا أرى مغادرة هذه البلاد مهما لقيت من الأذى، وأرجو أن يصبرني االله عليه، ولست بأفضل ممن نُشروا بالمناشير، ومُشطوا بأمشاط الحديد، ومع أنني آخذ نفسي بالعزيمة، وأنصح بها كل قادر، ولا اعتبار عندي بما يقال أو يُكْتَب بالإكراه، لا أنكر على من أخذ نفسه بالرخصة... وأضرع إلى االله أن يثبتني على الحق دائما، ويعينني على نفسي وشيطاني".
وهكذا قال الشيخ سفر الحوالي..
هكذا قاله في كتابه الأخير "المسلمون والحضارة الغربية" الذي طاشت له عقول آل سعود فاعتقلوا الشيخ وأولاده وإخوته، وبهذا الكتاب اتخذ الشيخ لنفسه موضعا في سلسلة العظماء الآخذين بالعزيمة، فقال في كتابه هذا ما لا يجرؤ أغلب الناس أن يتفوه به من مأمنه خوفا من بطش نظام السعودية، لم يمنعه من هذا أنه في الشيخوخة وأنه في المرض وأنه بين أيدي الطغاة المجرمين الذين لا يتورعون عن البطش بالساكتين فكيف يفعلون بالمتكلمين الذين يُسمعونهم ما يكرهون؟!
وبمثل هذا العزم تأتي العزائم، فإن ثمن السيادة هجر الوسادة، وقد قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ... الجودُ يُفقر والإقدام قتَّال
وتلك السلسلة الذهبية من الصادعين بالحق في وجه الطغاة، الطامحين لمنزلة سيد الشهداء، إنما هي سلسلة طويلة موغلة في أيام تاريخنا، انتظم فيها من نُشِروا بالمناشير وقُرِّضوا بالمقاريض وألقوا في الأخدود وافترستهم السياط ووسائل التعذيب حتى تبقى كلمة الله واضحة ساطعة كما نزلت من السماء، وتلك مهمة العلماء العدول الذين يحملون الأمانة حقا، فينفون عن هذا العلم ما يُدخله فيه عُبَّاد السلاطين وأتباع الشهوات وأهل الضلالات.
ولأنها مكانة سامقة فلا يحزها إلا الأفذاذ النادرون، أولئك الذين ذاقوا مشقة تحصيل العلم أولا، ومشقة فهم الواقع ثانيا، ثم مشقة مصادمة الجبارين ثالثا.. فأما عامة المنتسبين إلى العلم فإما ارتضوا من هذا بمشقة أو مشقتيْن فسكتوا وتحايلوا وتجنبوا المشقة الثالثة التي هي ثمرة كل ما فات، وإما جعلوا علمهم في خدمة دنيا غيرهم، فحطُّوا بهذا من شأن أنفسهم ومن شأن العلم الذي حملوه، حتى قال فيهم أبو الحسن الجرجاني قصيدته السائرة الباهرة التي منها:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجماأرى الناس من داناهمُ هان عندهم ... ومن أكْرَمَتْه عزة النفس أُكْرِماولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمعٌ، صيَّرْتُه لي سُلَّماولم أبتذل في خدمة العلم مُهْجَتي ... لأخدمَ من لا قيتُ، لكن لأُخْدماأأشقى به غرسا وأجنيه ذلة ... إذن فاتباع الجهل قد كان أحزماولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّماولكن أهانوه، فهان، ودنسُّوا ... مُحيَّاه بالأطماع حتى تجهما
ولقد جاءني خبر اعتقال الشيخ سفر الحوالي فلاح لي وقتها خبر الشيخ محمد عليش، شيخ المالكية في مصر زمن الخديوي توفيق، وشيخ الثورة العرابية، وشيخ الأزهر على الحقيقة، وصاحب فتوى خلع الخديوي وعصيانه لتحالفه مع الإنجليز، وهو الرجل الذي ألهب الأزهر فأشعله وجعل شيوخه وطلبته في صفِّها، حتى ما اجترأ في ذلك الزمن أن يخالف أحدٌ منهم إلا أربعة ثم صاروا واحدا، وكان صاحب خطابة وفصاحة وهيبة وجلال، جدَّد موقف شيوخ الأزهر العظام من أهل الجهاد والتحريض عليه.. وقد وُصِف بأنه صنو الشوكاني باليمن وكنون بالمغرب وله مؤلفات عديدة أشهرها عند المالكية شرحه "منح الجليل شرح مختصر خليل" وهو مطبوع في تسع مجلدات.
أقول: ذكرني اعتقال الشيخ سفر على هذه الهيئة بالشيخ عليش رحمه الله وقدس روه، وذلك أن الرجليْن تشابها في أمورهما، فلقد كان الشيخ عليش في كهولته وهو يجابه الخديوي الذي نزل لمناصرته الإنجليز بأساطيلهم وجيوشهم إذ كان في الثمانين من عمره، ثم إنهم حين احتلوا البلاد وانتصروا اعتقلوه من بيته محمولا من شدة ما هو فيه من المرض، ثم إنهم اعتقلوا معه ولده عبد الرحمن أيضا، ثم إنهم اعتقلوه في نفس هذه الأيام تقريبا، في مطلع شهر ذي القعدة (1299هـ).
وقد قيل له: تملق الخديوي فأنشد يقول:الزم باب ربك ... واترك كل دونواسأله السلامة ... من دار الفتونلا تكثر لهمك ... ما قُدِّر يكون
وخُتِم له بالحسنى إذ توفي في سجنه ليلة يوم عرفة، ومنع الإنجليز من حمل جثمانه إلى البيت نكاية فيه، ثم إنهم عاقبوا ولده عبد الرحمن بالنفي خمس سنوات خارج مصروإنا لنسأل الله السلامة والعافية والعمر المديد للشيخ سفر الحوالي، ونسأله أن يرى بعينه ما أمَّل من تغير الحال في بلاد الحرمين وزوال ملك الطغاة المتجبرين المجرمين.
***
إن شأن المتنبي عجيب، ما إن يلتمس المرء معنى إلا ويجد منه في شعره شيئا يكفيه.. ونحن الآن عند معناه الذي رثا به أم سيف الدولة الحمداني فقال بيته الشهير الذائع الصيت:
ولو كان النساء كمن فقدنا .. لفضلت النساء على الرجالفما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخر للهلالوأفجع من فقدنا: من وجدنا ... قبيل الفقْد مفقود المثال
ومناسبة هذا الكلام أنه في أثناء التحضيرات الأخيرة للمجلة طالعنا خبر اعتقال الأخت الكاتبة الفاضلة الباسلة أم أسامة لمى خاطر، بنت مدينة الخليل، على يد الاحتلال الصهيوني..
وفي لمى خاطر من سفر الحوالي شبه كبير.. إلا أنها امرأة، وهذا في ميزانها ومن دلائل سموّها..
هي قلمٌ يعرفه كل من يعرف قضية فلسطين، ولقد كنت أتابعها منذ أربعة عشر عاما على الأقل، لقد كانت تكتب وهي تحت الاحتلاليْن –احتلال إسرائيل، واحتلال سلطة فتح- مقالات لا يجرؤ عليها أغلب الكاتبين وهم آمنون بعيدا.. ولم تفلح معها الضغوط والتهديدات والتحقيقات ومساومتها بالزوج والتحريض عليها، ولقد كانوا يحرضون عليها حينا بالفاحش الساقط من القول والزعم، وحينا بدعوى الغيرة والرجولة التي تكبت النساء.
وكانت لمى معدنا أصيلا لا تزيده الضغوط إلا توهجا ونورا وصلابة..
وأتذكر أني طلبت منها بحثا عن موضوع تتخصص فيه، فأرشدتني إلى غيرها، فسألتها: لم لا تقومين به أنتِ؟ فقالت: أرى أن الحديث في هذا الموضوع ضرره أكثر من نفعه أو لم يحن وقته، لكن غيري يرى غير ذلك، فأنا أرشدك إليه.. فكان هذا الجواب منها جامعا لعلم وأدب واتساع نظر وخلق حسن.
وقد تشرفنا بمقال لها على صفحات مجلتنا "كلمة حق" في عدد سابق، وكان من سوء حظنا أن لم نتشرف بالمزيد..
***
مَثَل الشيخ سفر في شيخوخته ومرضه وضعفه وأنه تحت يد العدو، كَمَثَل لمى خاطر المرأة تحت الاحتلالين، كَمَثَل الشيخ أحمد ياسين في عجزه وضعفه وتعطل عدد من حواسِّه.. كمثل كثيرين بعرض الوجود وطول الخلود..أولئك الذين يصنعون معنى الرمز والقدوة والمثل..
القدوة التي تثبت للناس أن الناس ما زال فيهم من يقول كلمة الحق ولو كان في ذلك هلاكه، وفيهم من يعمل للحق على سرير المرض وفوق كرسي العجز وتحت سلطة الاحتلال، مهما كان ضعيفا أو مستضعفا أو لا يملك سوى لسان وقلم..
تلك هي المعاني التي تتجسد بشرا فيحيي الله بها القلوب..
حين يرى المرء ذو الصحة والجلد، المقيم في أمن وسعة، المتمتع بالطيبات.. حين يرى المرء أمثال هؤلاء يعرف حقا مقامه، ويعرف أنه يملك أن يفعل الكثير، تزول أعذاره التي يتعلل بها أمام نفسه، أو قل: تذوب أعذاره أمام شموس هؤلاء حين تشرق عليه..
بمثل هؤلاء نعرف أن تاريخنا لم ينقطع، فلقد كان في الجيل الأول من حرص على أن يجاهد فيطأ بعرجته الجنة، ومن حرص على أن يجاهد وهو أعمى ليكثر سواد المسلمين، ومن حرص على أن يجاهد وهو لا يملك مالا ولا دابة، ومن سار مسيرة الجهاد لا يجد ما ينتعله حتى تقلعت وسقطت أظافره من السير فسمُّوا ذلك اليوم "غزوة ذات الرقاع"..فالحمد لله أن لا زال في أجيالنا من يجدد السيرة ويستكمل المسيرة.. والموعد الله!
الموعد الله.. والجنة!
نشر في مجلة كلمة حق
Published on August 06, 2018 04:44
July 16, 2018
مذكرات الشيخ رفاعي طه (4) فهمت الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة
مذكرات الشيخ رفاعي طه (4)أول تحقيق في أمن الدولة حين كنت بالصف الأول الثانويعندما فهمت معنى الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسةالحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير فيإقامة دولة إسلامية
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
كان مقياس الدولة الإسلامية عندي منحصرا في ثياب النساء وفي الرشوة وفي المحسوبية، ففي تلك الفترة كانت هذه الثلاثة شائعات جدا، فلا يمكن أن تقضي حاجة لك دون أن تدفع رشوة، أو يكن لك واسطة. كان تقديري حينذاك أن الدولة الإسلامية ستقضي على هذه الأمور، وقد كنت حينئذ قد حفظت خمسة عشرة جزءا من القرآن من التزامي بالكُتَّاب، وكنت أقرأ كذلك في كتب الحديث، وأتذكر قراءتي في صحيح مسلم.
يرجع الفضل في قراءتي كتب الحديث المختصرة إلى الأستاذ عيد الرافعي، كان مدرسا أول للغة العربية، وكان حافظا لكتاب الله، ولاحظ أنني شاب متدين فكأنه كان يتبناني، وكان لي زميل في المدرسة الثانوية اسمه علي، فكنا أنا وهو نجلس كثيرا إلى الأستاذ عيد الرافعي، وكان يطلب مني تحضير حديث الصباح في الإذاعة المدرسية، ولم تكن حينها إلا ثلاث فقرات: حديث شريف، كلمة قصيرة، نشرة أخبار.
في كل يوم سبت أجهز برنامج الإذاعة، أختار الطالب الذي سيلقي نشرة الأخبار، وأختار الحديث، وأعد الكلمة. كان لدى الأستاذ عيد نسخة من صحيح مسلم، وكان يعطيني منها بعض الأحاديث لأحفظها، أو يحفظني إياها أحيانا، وربما طلب إلي أن أختار حديثا ثم أقرؤه عليه كي يصحح لي فلا أخطئ فيه، ومن هنا صارت لدي ثروة أحاديث في مرحلة يمكن فيها أن أتفكر وأتدبر ويتشكل عندي من حصيلتها رؤية وأفكار.
ذات يوم وقعت عيني على الحكمة القائلة: "سُئل فرعون: من فرعنك؟ قال: حين لم أجد من يردني ويصدني"، فأعجبتني للغاية فوضعتها من فوري على مجلة حائط المدرسة. وفي اليوم التالي اخترت لحديث الصباح حديثا لم أكن أفهم إلا نصفه فقط، ولم يكن الأستاذ عيد يعلم أني سأقوله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة.. الحديث". كنت أفهم نصف الذي ينهى عن التبرج لكن لم افهم نصفه الأول، وقد كان غرضي من إلقائه هو مسألة التبرج، حيث كانت كل نساء المدرسة متبرجات.
غير أن كلامي أصاب منهن واحدة بعينها دون أن أقصد.. تلك هي: الأستاذة إكرام.
كانت إكرام مدرسة الدراسات الاجتماعية لصفنا "الأول الثانوي"! وكانت مغرقة في التبرج، والأهم من ذلك أنها كانت زوجة ضابط مباحث قسم الشرطة في المركز، فإذا بها تُنْزل كلامي على نفسها، وتحسب أنها المقصودة به.
ومن عجائب اليوم أن حصتها علينا كانت في نفس اليوم وشهدت اشتباكا بيننا لم أقصده ولم يخطر ببالي أيضا، لقد قالت في أثناء الشرح بأن اللغة العربية هي المسؤولة عن نشر الإسلام في الوطن العربي، فلفت نظري ما تقول، ولم أكن قرأت شيئا في الموضوع من قبل، لكن وجدتني أرد عليها قائلا:
- أعتقد يا أستاذة أن الإسلام هو سبب نشر اللغة العربية وليس العكس فالعرب أنفسهم لم يكونوا معروفين قبل الإسلام.- من قال لك هذا الكلام؟ - لم يقله لي أحد، ولكن هذا ما أفهمه.
ظلت تجادلني وأجادلها في الموضوع، فتأكد لديها أنني أتقصدها وأشاكسها، ومن ثم ترسخ عندها أني أقصدها بالحديث الذي ألقيته عن التبرج صباح اليوم. ثم لا أدري إن كانت هي أم غيرها من ربط هذا بالحكمة التي كتبتها في مجلة الحائط عن الفرعون الذي لم يجد من يرده ولا من يقومه. في اليوم التالي وجدتني مطلوبا لأمن الدولة!!
حضر إلى المدرسة المخبر سيد وقال لي "عايزينك في كوم امبو"، حيث مقر أمن الدولة إذ لم يكن لهم مقر في مركز ادفو، فتفجر في صدري خوف شديد، لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ وما الذي حصل؟.. ثم إني ذهبت.. ذهبت وحدي، فقد كان أبي -رحمه الل رحمة واسعة- يتخوف من تلك الأشياء.
تركوني أربع ساعات منتظرا، وتلك فترة طويلة، طويلة على المنْتَظِر، وهي أطول منها على المنتظر الخائف المترقب، وهي أطول وأطول إن كان هذا غلام يافع صغير لم يخبر من الدنيا مخوفاتها! ثم أدخلوني إلى التحقيق:
- من قال لك حديث فرعون الذي كان على مجلة الحائط؟ وماذا تقصد به؟ - لا أتذكر أين قرأته ولكنه أعجبني. - وماذا تقصد به؟- لم أقصد به شيئا معينا، فقط أعجبتني الفكرة: الحاكم اذا لم يعترض عليه أحدا يكون فرعونا.- كيف تعرف أنت هذه الأمور؟ من قال لك هذا الكلام؟- لا تحتاج إلى من يعرفني، أي حاكم إذا لم نعترض عليه يكون مثل فرعون! (كنت خائفا، لكني كنت أتماسك وأكابر).- وحديث النساء العاريات؟!- هذا حديث عن البنات التي تمشي متبرجة في الشارع، وسبحان الله، لقد وصف النبي حالهن تماما كأنه معنا الآن!- هل قصدت به أستاذة إكرام زوجة ضابط المباحث؟! أنت لا تحترم أستاذتك، ولا تحترم الرجل الذي يجتهد لحماية البلد.. ضباط المباحث يقاومون الجريم،ة ويحمون البلد من السرقة.- لم أقصد هذا المعنى أبدا.. لكن الحقيقة أنك الآن شرحت لي النصف الذي لم أفهمه من الحديث، سبحان الله! حقا ضباط المباحث هم كما وصف النبي بيدهم سياط كأذناب البقر ويضربون بها الناس!!
شعر الضابط من التحقيق أنني أتكلم من تلقاء نفسي، وأنه ليس ثمة أحد يؤثر علي أو يوجهني، وأنني غير مندرج في أي نشاط جماعي أو ما شابه.. كنت أتحدث معه ببراءة الغلام الذي يتعرف على الحياة ويستقبلها بفطرته السليمة، ويتفهم ما فيها من المعاني والأحداث بنفسه رويدا رويدا. عندما أيقن من هذا قال لي: أنت طيب يا رفاعي، وهذا رقم هاتفي، وإذا أردت أي شيء اتصل بي.
رجعت إلى البيت، ولم أهتم بما قال، لكن المهم أن الخوف المهيمن على أجواء الأسرة انقشع حين وصلتُ، وبدأ يتسرب إليها من جديد الشعور بالأمان.
صباح اليوم التالي في المدرسة أقبل على الناظر فسألني: ماذا فعلوا معك بالأمس؟ فقصصت عليه ما كان، فقال لي: يا بني أنت متفوق، وأنت ابننا، ونحن نحبك، لا تدخل نفسك في مثل هذه الأمور. فقلت له: لم يحدث شيء، فقط سألوني من أين جئت بهذا الحديث وأجبته وأنتهى الأمر. ولقد كان اللافت للنظر أن الأستاذ عيد الرافعي لم يمنعني من الحديث في الإذاعة.
في المدرسة الثانوية شكلت مجموعة من الطلاب، كنا أحد عشر طالبا وكنت زعيمهم رغم أني في الصف الأول الثانوي وبينهم من هو في الصف الثاني والثالث الثانوي، فكنت أجمعهم في وقت الراحة بين الحصص الدراسية ونجلس في المسجد لنقرأ ما نجده مفيدا من كتب في مكتبة المدرسة: رياض الصالحين، وأتذكر كتابا أعجبني للغاية وقتها هو "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، فكنت أقرأ منه على المجموعة. لكن الغرض الخفي الذي جَمَعَنا واتفقنا عليه هو أننا سندخل الكلية العسكرية لنكون ضباطا في الجيش، وننفذ انقلابا عسكريا نقيم به الدولة الإسلامية المنشودة.
لم يعرف أحد نيتنا هذه، لكن الأستاذ عيد الرافعي خشي علينا من مجرد الاجتماع والقراءة في كتب دينية، فأرسل إلي ابنه علي أن لأذهب إليه ببيته، وقال لي بأني أعرض نفسي للمشكلات بمثل هذه الطريقة، واقترح إنقاذا للموقف أن يتقدم هو بصفته مدرس اللغة العربية للمدرسة لتحويل تلك المجموعة إلى "أسرة مدرسية" يكون هو مقررها، واقترح أن نسميها "مجموعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فهكذا يُسبغ على المجموعة صفة شرعية رسمية وتكون مندرجة ضمن نظام الأسر المدرسية بإشراف مدرس وبإذن الناظر، ورحبت لا شك بالفكرة والاقتراح التي لم تخطر لي على بال، ولم أطلعه على غرضنا منها بدخول الكلية الحربية.. وهكذا صار لنا غرض معلن وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المدرسة".
نشر في مجلة كلمة حق
لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: موجز سيرة رفاعي طه كما أملاهاالحلقة الأولى: طفولة بسيطة في قرية مغمورة بالصعيد المجهولالحلقة الثانية: أول الطريق إلى المسجد، وأول الطريق إلى السياسةالحلقة الثالثة: أول صدمة فكرية، وأول تفكير فيإقامة دولة إسلامية
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
كان مقياس الدولة الإسلامية عندي منحصرا في ثياب النساء وفي الرشوة وفي المحسوبية، ففي تلك الفترة كانت هذه الثلاثة شائعات جدا، فلا يمكن أن تقضي حاجة لك دون أن تدفع رشوة، أو يكن لك واسطة. كان تقديري حينذاك أن الدولة الإسلامية ستقضي على هذه الأمور، وقد كنت حينئذ قد حفظت خمسة عشرة جزءا من القرآن من التزامي بالكُتَّاب، وكنت أقرأ كذلك في كتب الحديث، وأتذكر قراءتي في صحيح مسلم.
يرجع الفضل في قراءتي كتب الحديث المختصرة إلى الأستاذ عيد الرافعي، كان مدرسا أول للغة العربية، وكان حافظا لكتاب الله، ولاحظ أنني شاب متدين فكأنه كان يتبناني، وكان لي زميل في المدرسة الثانوية اسمه علي، فكنا أنا وهو نجلس كثيرا إلى الأستاذ عيد الرافعي، وكان يطلب مني تحضير حديث الصباح في الإذاعة المدرسية، ولم تكن حينها إلا ثلاث فقرات: حديث شريف، كلمة قصيرة، نشرة أخبار.
في كل يوم سبت أجهز برنامج الإذاعة، أختار الطالب الذي سيلقي نشرة الأخبار، وأختار الحديث، وأعد الكلمة. كان لدى الأستاذ عيد نسخة من صحيح مسلم، وكان يعطيني منها بعض الأحاديث لأحفظها، أو يحفظني إياها أحيانا، وربما طلب إلي أن أختار حديثا ثم أقرؤه عليه كي يصحح لي فلا أخطئ فيه، ومن هنا صارت لدي ثروة أحاديث في مرحلة يمكن فيها أن أتفكر وأتدبر ويتشكل عندي من حصيلتها رؤية وأفكار.
ذات يوم وقعت عيني على الحكمة القائلة: "سُئل فرعون: من فرعنك؟ قال: حين لم أجد من يردني ويصدني"، فأعجبتني للغاية فوضعتها من فوري على مجلة حائط المدرسة. وفي اليوم التالي اخترت لحديث الصباح حديثا لم أكن أفهم إلا نصفه فقط، ولم يكن الأستاذ عيد يعلم أني سأقوله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة.. الحديث". كنت أفهم نصف الذي ينهى عن التبرج لكن لم افهم نصفه الأول، وقد كان غرضي من إلقائه هو مسألة التبرج، حيث كانت كل نساء المدرسة متبرجات.
غير أن كلامي أصاب منهن واحدة بعينها دون أن أقصد.. تلك هي: الأستاذة إكرام.
كانت إكرام مدرسة الدراسات الاجتماعية لصفنا "الأول الثانوي"! وكانت مغرقة في التبرج، والأهم من ذلك أنها كانت زوجة ضابط مباحث قسم الشرطة في المركز، فإذا بها تُنْزل كلامي على نفسها، وتحسب أنها المقصودة به.
ومن عجائب اليوم أن حصتها علينا كانت في نفس اليوم وشهدت اشتباكا بيننا لم أقصده ولم يخطر ببالي أيضا، لقد قالت في أثناء الشرح بأن اللغة العربية هي المسؤولة عن نشر الإسلام في الوطن العربي، فلفت نظري ما تقول، ولم أكن قرأت شيئا في الموضوع من قبل، لكن وجدتني أرد عليها قائلا:
- أعتقد يا أستاذة أن الإسلام هو سبب نشر اللغة العربية وليس العكس فالعرب أنفسهم لم يكونوا معروفين قبل الإسلام.- من قال لك هذا الكلام؟ - لم يقله لي أحد، ولكن هذا ما أفهمه.
ظلت تجادلني وأجادلها في الموضوع، فتأكد لديها أنني أتقصدها وأشاكسها، ومن ثم ترسخ عندها أني أقصدها بالحديث الذي ألقيته عن التبرج صباح اليوم. ثم لا أدري إن كانت هي أم غيرها من ربط هذا بالحكمة التي كتبتها في مجلة الحائط عن الفرعون الذي لم يجد من يرده ولا من يقومه. في اليوم التالي وجدتني مطلوبا لأمن الدولة!!
حضر إلى المدرسة المخبر سيد وقال لي "عايزينك في كوم امبو"، حيث مقر أمن الدولة إذ لم يكن لهم مقر في مركز ادفو، فتفجر في صدري خوف شديد، لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ وما الذي حصل؟.. ثم إني ذهبت.. ذهبت وحدي، فقد كان أبي -رحمه الل رحمة واسعة- يتخوف من تلك الأشياء.
تركوني أربع ساعات منتظرا، وتلك فترة طويلة، طويلة على المنْتَظِر، وهي أطول منها على المنتظر الخائف المترقب، وهي أطول وأطول إن كان هذا غلام يافع صغير لم يخبر من الدنيا مخوفاتها! ثم أدخلوني إلى التحقيق:
- من قال لك حديث فرعون الذي كان على مجلة الحائط؟ وماذا تقصد به؟ - لا أتذكر أين قرأته ولكنه أعجبني. - وماذا تقصد به؟- لم أقصد به شيئا معينا، فقط أعجبتني الفكرة: الحاكم اذا لم يعترض عليه أحدا يكون فرعونا.- كيف تعرف أنت هذه الأمور؟ من قال لك هذا الكلام؟- لا تحتاج إلى من يعرفني، أي حاكم إذا لم نعترض عليه يكون مثل فرعون! (كنت خائفا، لكني كنت أتماسك وأكابر).- وحديث النساء العاريات؟!- هذا حديث عن البنات التي تمشي متبرجة في الشارع، وسبحان الله، لقد وصف النبي حالهن تماما كأنه معنا الآن!- هل قصدت به أستاذة إكرام زوجة ضابط المباحث؟! أنت لا تحترم أستاذتك، ولا تحترم الرجل الذي يجتهد لحماية البلد.. ضباط المباحث يقاومون الجريم،ة ويحمون البلد من السرقة.- لم أقصد هذا المعنى أبدا.. لكن الحقيقة أنك الآن شرحت لي النصف الذي لم أفهمه من الحديث، سبحان الله! حقا ضباط المباحث هم كما وصف النبي بيدهم سياط كأذناب البقر ويضربون بها الناس!!
شعر الضابط من التحقيق أنني أتكلم من تلقاء نفسي، وأنه ليس ثمة أحد يؤثر علي أو يوجهني، وأنني غير مندرج في أي نشاط جماعي أو ما شابه.. كنت أتحدث معه ببراءة الغلام الذي يتعرف على الحياة ويستقبلها بفطرته السليمة، ويتفهم ما فيها من المعاني والأحداث بنفسه رويدا رويدا. عندما أيقن من هذا قال لي: أنت طيب يا رفاعي، وهذا رقم هاتفي، وإذا أردت أي شيء اتصل بي.
رجعت إلى البيت، ولم أهتم بما قال، لكن المهم أن الخوف المهيمن على أجواء الأسرة انقشع حين وصلتُ، وبدأ يتسرب إليها من جديد الشعور بالأمان.
صباح اليوم التالي في المدرسة أقبل على الناظر فسألني: ماذا فعلوا معك بالأمس؟ فقصصت عليه ما كان، فقال لي: يا بني أنت متفوق، وأنت ابننا، ونحن نحبك، لا تدخل نفسك في مثل هذه الأمور. فقلت له: لم يحدث شيء، فقط سألوني من أين جئت بهذا الحديث وأجبته وأنتهى الأمر. ولقد كان اللافت للنظر أن الأستاذ عيد الرافعي لم يمنعني من الحديث في الإذاعة.
في المدرسة الثانوية شكلت مجموعة من الطلاب، كنا أحد عشر طالبا وكنت زعيمهم رغم أني في الصف الأول الثانوي وبينهم من هو في الصف الثاني والثالث الثانوي، فكنت أجمعهم في وقت الراحة بين الحصص الدراسية ونجلس في المسجد لنقرأ ما نجده مفيدا من كتب في مكتبة المدرسة: رياض الصالحين، وأتذكر كتابا أعجبني للغاية وقتها هو "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، فكنت أقرأ منه على المجموعة. لكن الغرض الخفي الذي جَمَعَنا واتفقنا عليه هو أننا سندخل الكلية العسكرية لنكون ضباطا في الجيش، وننفذ انقلابا عسكريا نقيم به الدولة الإسلامية المنشودة.
لم يعرف أحد نيتنا هذه، لكن الأستاذ عيد الرافعي خشي علينا من مجرد الاجتماع والقراءة في كتب دينية، فأرسل إلي ابنه علي أن لأذهب إليه ببيته، وقال لي بأني أعرض نفسي للمشكلات بمثل هذه الطريقة، واقترح إنقاذا للموقف أن يتقدم هو بصفته مدرس اللغة العربية للمدرسة لتحويل تلك المجموعة إلى "أسرة مدرسية" يكون هو مقررها، واقترح أن نسميها "مجموعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فهكذا يُسبغ على المجموعة صفة شرعية رسمية وتكون مندرجة ضمن نظام الأسر المدرسية بإشراف مدرس وبإذن الناظر، ورحبت لا شك بالفكرة والاقتراح التي لم تخطر لي على بال، ولم أطلعه على غرضنا منها بدخول الكلية الحربية.. وهكذا صار لنا غرض معلن وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المدرسة".
نشر في مجلة كلمة حق
Published on July 16, 2018 02:26
July 11, 2018
بدائع وروائع الصين في التراث الإسلامي
في المقالات السابقة فتحنا ملف العلاقات الإسلامية الصينية، فتناولنا في الأول موجزا للعلاقات بين الأمة المسلمة والصينية، وفي الثاني تحدثنا عن منافذ التواصل بين الأمتين وكيف تكونت وكيف أثرت فيهما، وفي الثالث تحدثنا عن بعض عجائب الصين كما وُجِدت في التراث الإسلامي، ونستكمل اليوم حديث العجائب ليكون هذا هو المقال الأخير في هذه السلسلة.4. الأخلاقلأهل الصين "آداب حسنة للرعية مع الملك وللولد مع الوالد: فإن الوالد لا يقعد في حضور أبيه ولا يمشي إلا خلفه ولا يأكل معه""وليس في بلادهم خمر، ولا تُحمل إليهم ولا يعرفونها ولا يشربونها"وأما من يقدم عليهم من التجار المسلمين فلهم وضع مختلف، فإن سُنَّتَهم مع المسلمين أنه إن إراد التاجر المسلم التسري أعانه صاحب الفندق فاشترى له جارية، وإن أراد الزواج تزوج، "وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه! ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فإنّها أرض فساد"وعقوبة الزنا القتل للمحصن وغيره وللرجل والمرأة، إلا أن اغتَصَبَ الرجلُ امرأةً فيُقتل وحده. وعقوبة السرقة القتل في القليل والكثير، ويتزوج الرجل ما شاء من النساء، ولا يختنونلم تكن عملة الصين ذهبا أو فضة وإنما عملة ورق "كاغد" كالتي نستخدمها الآن، بينما الذهب والفضة واللؤلؤ وغيرها بضائع ومتاعوالدولة تكفل الفقراء والصغار والكهول، فمن لم يجد سعر الدواء أخذه من بيت المالومن الصورة العامة للصين يمكن القول بأن الاقتصاد قائم على الزراعة والتجارة، وعلى مهارات الصناع الفائقة.6. التعليموينتشر التعليم في الصين، وهو تعليم نظامي يشمل الجميع وتشرف عليه الدولة ويُنفق عليه من بيت المالومن أبلغ الأدلة على ما بلغه أهل الصين من مهارة الطب ما رواه المؤرخ الجغرافي ابن فضل الله العمري، فقد سأل شيخه الشريف السمرقندي عن أهل الصين، وما يحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال، فقال: هم أكثر مما يقال، ثم حكى له أنه اشتكى من ضرس في فمه فعالجه منه صيني استطاع بمهارة أن يخلع له ضرسا ونصف الضرس دون أن يشعر لها بألم، ثم أخرج الصيني مما معه أضراسا وأنصافا وأثلاثا، ثم صار يقيس موضع الضرس المخلوع، ويلتمس له مما معه نفس المقاس، ثم وضع عليها مادة ودهانا التأمت به في وقتها، وأمره ألا يشرب عليها الماء ليوم كامل، فانتهى ألمه. وقد رأى الجلساء أضراسه الجديدة فإذا هي واضحة لكنها على أحسن ما يكونيقرر النويري، صاحب موسوعة نهاية الأرب وفي مؤلفه اجتمع علم الكثير مما سبقه، أن "ملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك"ومن عاداتهم أنه "لا يتزوّج أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر"وأما أمر الصنائع ومهارتهم فيها فهو الأمر الجاري المشتهر الذي تفنن كل واصف فيه، فقد أخرجت دقة الصينيين وإحسانهم في صناعاتهم أوصاف البلاغة من المؤلفين العرب، حتى إنهم ليضربون بهم المثل فيه، بل يضربون بهم المثل في الشأن كله، حتى ليقال "نزلت الحكمة على رؤوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفرس، وأيدي الصين"فالصينيون "أحذق خلق الله كفًّا بنقشٍ وصَنْعَةٍ وكل عمل، لا يتقدمهم فيه أحد من سائر الأمم"وأسهب العرب في وصف مهارتهم بوصف ما يعملون من الصناعات، فمنها "أقداح في رقة القوارير، يُرى ضوء الماء فيه"ولا يكافئ مهارتهم في التصنيع إلا مهارتهم في الرسم والنقش، فلهم "الإبداع في خرط التماثيل وإتقانها، وعمل التصاوير والنقوش المدهشة كالأشجار والوحوش والطيور والأزهار والثمار وصور الإنسان على اختلاف الحالات والأشكال والهيئات، حتى لا يعجزهم شيء إلا الروح والنطق، ثم لا يرضون بذلك حتى إن مصورهم يفصل بين الشخص الضاحك من الغضب والضاحك من العجب والضاحك من سرور والضاحك من الخجل"وقد اضطردت في تراث العرب قصة الملك الذي أهديت إليه لوحة مرسومة لطائر يقف على غصن، فاستحسنها هو ومن معه، حتى مر بها رجل من العامة فأخرج منها عيبا بسيطا، أن الغصن لم يكن منحنيا بل مستقيما، فصح عندهم قوله وصارت من العيوب التي منعت الملك من شرائها ومنعت صانعها من المقام الرفيع.
واستخدموا مواهبهم الفائقة في الرسم في رسم من يمرون بهم من الغرباء فيكون نوعا من التوثيق الفني والثقافي وهو في نفس الوقت جزء من النظام الأمني كما أسلفنا الحديث عنه في خبر ابن بطوطة، ومن قبله في خبر ابن وهب القرشي.10. ما استقبح من أهل الصين
وأما ما عُرض في الرواية العربية على سبيل الاستنكار والرفض من أحوال الصين فهو ما تعارض مع الإسلام كعبادة الأوثان واعتناقهم تناسخ الأرواح وبيع الأولاد والبنات وشرعنة البغاء وأكل الميتة وتبرج النساء وإتيانهن في المحيض والتبول وقوفا وعدم الاستنجاء بالماء وبعض أمور أخرىويُستطاع في ظل التعاون المشترك لتحقيق المصالح المشتركة ومواجهة التحديات المشتركة أن يُزال كل ما من شأنه أن يعيق تأسيس علاقة راسخة بين الأمتين، فالأمة الإسلامية ليست مجرد مخزن للثورة والطاقة فحسب، وإنما هي قبل كل هذا وبعده مخزنا ضخما للطاقة الروحية والثروة الثقافية العميقة، والعالم الإسلامي هو الذي يقوم الآن في وجه المنظومة العالمية التي تريد فرض هيمنة ثقافية وحيدة على جميع العالم، وهو العالم الذي بإمكانه تقديم البديل الحضاري المتجاوز لمشكلات الحضارة المعاصرة التي أرهقت العالم وأثقلته. فالسابق إلى العالم الإسلامي من باب التعاون الحضاري يستطيع أن يعزز موقعه في المعادلة الحضارية القادمة فوق تعزيز موقعه ضمن خريطة الثروة المادية.
نشر في مدونات الجزيرة
Published on July 11, 2018 01:20
July 9, 2018
أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة (3) الاقتصاد والسياسة وأهل الذمة والمساجد والعبيد
قدَّمنا في المقاليْن السابقيْن أن رحلات الحج التي سجلها مستشرقون مرُّوا ببلادنا وحجوا متنكرين قد تركت لنا ثروة تاريخية لأحوال هذه البلاد، ومن ثَمَّ فقد كانت لنا فرصة نرصد فيها أحوال مصر قبل وبعد دخولها في الحداثة عبر المقارنة بين رحلتي جوزيف بتس وريتشارد بيرتون، وبينهما مائتي سنة. وذكرنا في المقال السابق ما بين الرحلتين والرحالتين من فروق في النظرة والمنهج وطبيعة الرحلة. وفي هذا المقال نرى كيف تغير وجه مصر بعد الحداثة، وسنفاجأ بأن الحداثة في مصر إنما قادتها إلى مزيد من الضعف والفقر وضعف الدين وتسلط الأجانب.
لقد تغير الكثير في مصر عبر مائتي سنة، ما بين عهد المماليك تحت السيادة الاسمية للعثمانيين وبين عصر الجبار محمد علي وأولاده، لقد شهدت مصر نظاما جديدا يدخل عليها مع محمد علي الذي استقل بها من السيادة العثمانية وقلب نظامها السياسي وميزانها الاجتماعي وخططها الاقتصاديةلم يتغير حال مصر في شأن الوفرة الاقتصادية بين القرنين، فتلك الأرض التي أطلق عليها "خزائن الأرض" و"مخزن المال والرجال" ظلت محتفظة بخيراتها.
يورد بتس أن القافلة المصرية الذاهبة إلى الحج كانت أحسن تسليحا وأحسن نظاما وأكثر أمنا، وهي التي تحمل كسوة الكعبة، ولهذا يفضلها الحجاج على غيرها من القوافل، والقاهرة وافرة العدد تغص بالناس وتزدحم بهم حتى إن بعض الناس يفقد حذاءه من الزحام، ويُطلب الحمار في مصر كما تُطلب العربات في بريطانيا لذلك الوقتويتحدث بيرتون عن الخانات التي تغص بالتجار في مصر، ويصف كثرة بضائعها، ويصفها بأنها في موقع وسط بين التخلف والتحضر، ومع هذا فإن دلائل الفقر والعوز والهزال تبدو على الناس والحيوانات التي تبدو "عجفاء هزيلة" سواء ما كان منها راقيا أو وضيعافكأن الرحالتين اتفقا على الوفرة الاقتصادية وعلى سوء توزيع الثروة في مصر.ثانيا: الضعف السياسي
وبالرغم من الوفرة الاقتصادية إلا أن الضعف السياسي كان هو حال السلطة في مصر خلال القرنين، لكنها وإن كانت ضعيفة في زمن بتس، إلا أنها وصلت إلى حال مزرية في زمن بيرتون، ففي زمن بيتس كان البنادقة يسلكون بسفنهم إلى مصب النيل في البحر المتوسط عند رشيد ثم يسرقون الماء في سفنهم، ما يترتب عليه اصطباغ البحر بلون الطمي وتحول المصب إلى ماء عذب لمسافة غير قليلة في البحر، "وهم يفعلون ذلك دون التعرض لأي خطر، فليس لدى الأتراك أساطيل للدفاع عن ساحل مصر"ولئن كان البنادقة يفعلون هذا تسللا أو حتى إغارة خاطفة، فإن الأمر في زمن بيرتون كان أشد سوءا، إذ أصبح هدف السيطرة على مصر يداعب أحلام الأوروبيين، وصار الرحالة البريطاني يفكر ماذا سيكسب الغرب من السيطرة على مصر، بل إن الغرب كان قد بدأ تنفيذ المشروع الأخطر الذي سيغير من جغرافية مصر والذي رفضه كل الحكام على مر العصور، وهو مشروع قناة السويسثالثا: المساجد
إن مشهد المساجد لا يمكن أن يفوت زائرا للقاهرة، فلقد غصت القاهرة بالمساجد في زمان المماليك وتنافس سلاطينهم في بنائها وزخرفتها ووقف الأوقاف عليها، ويتوقع بتس أن مساجد القاهرة بين الخمسة آلاف والستة آلاف مسجد، وفيها ما هو ضخم مشيد متين، ولكل منها من يرعى أحوالها ويقدم الماء للعابرينتحول هذا المشهد البهيج بعد قرنين إلى مشهد آخر، فيتحدث بيرتون عما حل بالمساجد من إهمال عندما رآها، وذلك بعد سنوات قليلة من نهاية عهد محمد علي وفي مطلع عهد ابنه سعيد، لقد بقيت المساجد كثيرة لكنها تعاني من قلة الرعاية، ويذكر أن مسجدي الأزهر والحسين كانا خالييْن من الزخارف، ثم يرصد أن النمط الذي بني مسجد محمد علي على مثاله يمثل انحطاطا وسقوطا لفن عمارة المساجد، وأن المصريين اعتبروا هذا الشكل "يبعث على الانقباض"، وذكر طرفا من الأحوال البائسة التي خيمت على الأزهر بعد ما كان فيه من مكانة رفيعةلاحظ بتس أن المسلمين يرتدون عمائم بيضاء بينما عمائم النصارى بيضاء مخططة بأزرق، وكلاهما يرتدون عباءات سوداء، بينما عباءات اليهود سوداء واسعة وغطاء الرأس عندهم ذو شكل شاذ، إلا أنه يعود فيقرر أنه لا يمكن التفرقة بين المسلمين والأقباط في مصر لتجانس الملامح والأزياء ووحدة اللغةولا يختلف الأمر عند بيرتون فهو يشير إلى العمائم الزرقاء التي يرتديها النصارى، كما يشير إلى شعور ديني عام واضح لدى المسلمين تجاه أهل الذمةوكان نساء أهل الذمة متحجبات في العهدين، فهذا مفهوم قول بتس الذي تحدث عن أنه حتى الجواري يُبَعْن في الأسواق متحجباتخامسا: أحوال العبيديتفق الرحالتان أن العبيد في مصر أفضل حالا من العبيد بل وحتى الخدم في أوروبا؛ فيذكر بتس أن الجواري يُعرضن للبيع محجبات، ولكن التاجر (وهو مالكهن في هذه الحال) هو من له الحق في التعرف على عيوبهن بتحسس الأسنان أو الوجه واختبار ما إن كن عذراوات أم لا "بطريقة غير متطرفة"، وأن العبيد لا يُجبرون على التحول إلى الإسلام لا في مصر ولا تركيا ولا الجزائر، وأن العبيد في مرحلة الشباب يتعلمون ويُلحقون بالمدارس وقد يتفوقون كأبناء سادتهم إن كانوا أذكياء، وإذا تحولوا إلى الإسلام تسير أمورهم على نحو أفضل، ويذكر أن العبيد الذين بيعوا في مصر يفخرون أنهم كيوسف عليه السلام الذي بيع في مصر أيضاويقرر بيرتون أن العبيد في مصر أحسن حالا من الخدم في أوروبا، بل "الرقيق في لاد الشرق عامة يأكل أفضل بكثير من الخدم أو حتى أفراد الطبقات الدنيا ممن هم ليسوا عبيدا (في بريطانيا) فالشريعة الإسلامية تلزم المسلمين بمعاملة رقيقهم برقة بالغة، والمسلمون –بشكل عام- حريصون على الأخذ بتعاليم نبيهم، فالرقيق يعد فردا من أفراد الأسرة"في المقال القادم إن شاء الله تعالى نقارن بين أوضاع الأجانب وأوضاع الشرطة وأوضاع الخانات أو الوكالات التجارية والفنادق.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
Published on July 09, 2018 12:21
July 4, 2018
عام على "كلمة حق"
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك..
هذا هو العدد الثاني عشر من مجلة "كلمة حق"، أي أن المجلة الوليدة قد أكملت من عمرها عاماً، وهذا بالنسبة لعمل تطوعي علامة من علامات الإنجاز، إذ الأعمال التطوعية بطبيعتها مهددة دائماً. كما أنه بالنسبة لعمل مُقاوِم علامة إنجاز أخرى؛ إذ المقاومة التي تنتمي للأمة جريمة في ميزان الفرعونية العالمية والفرعونية الإقليمية، وهذا العالم في هذه اللحظة يكاد أن يكون كله منظومة فرعونية قاهرة!
وأدل شيء على هذا أن المجلة ما كادت تصدر إلا وكُتِب عنها بعد ساعات تقريرٌ على موقع إخباري تابع لجهات الأمنية، وعلى كل حال فإنهم لم يُقَصِّروا في المتابعة الدقيقة للمجلة، وهي متابعة فاقت توقعاتنا حقاً.. ولئن كنا نسأل الله لهم الهداية –كما أسلم سحرة فرعون من بعد ما كانوا يبذلون المجهود لتحصيل القرب منه- فإننا نخشى أن يطمس الله على قلوبهم فيكونوا كجنود فرعون: عذبوا السحرة الذين أسلموا مع أنهم رأوا نفس المعجزة، وخاضوا البحر وراء فرعونهم رغم أنهم رأوا بأعينهم معجزة انشقاقه لموسى!
وهكذا ما أبعد ما بين الخاتمتين رغم أن المعجزة واحدة والمشهد واحد! فالأمر ليس متوقفاً على عظمة المعجزة بل على استقبال القلب لها، ولقد سمع القرآن عمر بن الخطاب وسمعه كذلك أبو جهل، فأسلم هذا وصار فاروق الأمة وكفر هذا وصار فرعون الأمة، ولقد وصف الله قرآنه فقال {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
وهذه فرصة نوجِّه فيها الكلام لأولئك الذين يعملون في جهاز الطغيان، إن أقصى ما يبلغه أحدكم أن يكون رئيسا كعبد الناصر أو السادات أو مبارك، فإما مات مسموما أو مقتولا أو خُلع، بل ولو أنه مات في السلطة لما أغنى عنه هذا من عذاب الله شيئا..
على أن هذا المنصب لا يصل إليه إلا النادر القليل، لقد اجتهد أن يصل إليه الأكثرون فماتوا دون ذلك، ماتوا بعد عزل وقهر أو نحر (سُمِّي انتحارا أو حادثة سير) فما بلغوا حظهم من الدنيا ولا نالوا نصيبا من الآخرة، خسروا الدنيا والآخرة.. ولقد كانوا مثلكم لا يتعظون بمصير الذين من قبلهم، فهم -كما وصفهم الله- {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
كانت فكرة المجلة بسيطة واضحة في أذهاننا وقد اجتهدنا أن تكون تطبيقاً لها.
إن القنوات والصحف ومواقع الانترنت والحسابات تفيض وتسيل بالكلام في كل اتجاه، ولا تشكو الأمة من قلة الكُتَّاب والمتحدثين ومن يتصدرون لموقع الفكر والتنظير والتوجيه، على أن الواقع أن أقل القليل وأندر النادر من أولئك الناس من إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ لم نحصل منهم على شيء ذي قيمة.. إغراق في التنظير وانشغال بالقيود الأكاديمية للكتابة، ودفق متصل من البلاغيات والزخارف والكلام الذي لا ينبني عليه عمل ولا يقترب من الأسئلة الحرجة.. وهذا حال من يتصدرون موقع التفكير والتنظير للثورات، وهم أنفسهم قلة وسط من انشغلوا بالمناطق الفكرية الآمنة: كدقائق الفلسفة وغرائب الفقه وعجائب العلوم وطرائف الحياة.. إلخ!
فكانت الفكرة بسيطة: يا معشر الذين تنصحون وتوجهون الثوار والمقاومين والمجاهدين: اكتبوا كلامًا إذا قرأه الثائر أو من يخطط لثورة استفاد منه، اكتبوا كلاما يمكن أن ينبني عليه عمل، اعتبروا أنكم تخططون لمن آمنوا بأهمية الرؤية والرسالة والتخطيط والعلم وقولوا لهم كلاما بعد تحقق هذا الإيمان! وهذا مجال واسع وفسيح أيضا لكنه يعاني ندرة المتكلمين فيه.. إنه لا قيمة لعلم ولا لتخصص إن لم يكن صاحبه يستطيع أن يصوغه في كلام مفيد ينبني عليه عمل، فلا فائدة لمن درس الإعلام إن لم يكن يستطيع أن ينصح ويوجه ويكتب كلاما مفيداً وعملياً في "كيف ينبغي أن يكون إعلام المقاومة"، ولا فائدة لمن درس السياسة إن لم يستطع أن يكتب كلاماً عملياً يحدد بها سياسة الثورة والمقاومة ويُشرح بها سياسة الخصوم والحلفاء وكيفية بناء العلاقة مع الأطياف المختلفة، لا فائدة للقانوني الذي لا يستطيع أن يحدد خطوات حركة المقاومة في لحظات إدارة الفراغ وإدارة النزاع أو في لحظات النصر الأولى... وهكذا في كل مجال، ومن المؤسف أن الثغور جميعاً تعاني الندرة والفراغ!
لذلك كتبنا في العدد الأول وكررنا في الثاني أن المجلة تستقبل المقالات من جميع القراء إذا اجتمعت فيها ثلاثة شروط: أن تكون علمية عاقلة لا عاطفية حماسية فإن الحماسة لا تنصر الحق ولا تفيد في بناء الوعي، وأن تكون في باب الثورة إذ هي قضية الأمة الراهنة وواجب الوقت، وأن تكون مفيدة لمن أراد العمل. وشرط رابع فني: أن ينشر باسم صاحبه لا باسم مجهول إلا إذا رغب كاتبها في الكتابة باسم مستعار وهو معروف لدينا بعينه، وأخيراً ألا تكون منشورة من قبل.
وبكل صراحة وشفافية نقول: إن العثور على مثل هؤلاء لم يكن سهلاً، كثير من المقالات التي جاءتنا لم تكن تنسجم مع هذا الخط، فإما غلب عليها الإغراق في التنظير أو اقتصرت على الدعوة للاهتمام بالتخطيط أو كانت تحلق بعيداً في مشارب لمعرفية أخرى، فضلاً عما رددناه من المقالات لأسباب فنية كأن يكون مقالاً مسروقاً أو ضعيفاً أو نشره صاحبه من قبل أو غير ذلك. كذلك فإن بعض المقالات قد دارت حولها نقاشات ساخنة بين فريق المجلة: هل تقع ضمن هذا الخط أم لا.. وكان رأي الشورى غالباً!
ونكرر الدعوة لكل صاحب قلم مميز أن يشاركنا بمقالاته ويراسلنا على بريد المجلة بهاklmtuhaq@gmail.com، فالمجلة ليست حكراً على أحد، وهي تركز في نشرها للمقالات على مناسبة الموضوع لخط المجلة آنف الذكر لا على اسم الكاتب وشهرته.
هنا أنتهز الفرصة لأشكر أخي الحبيب معتز زاهر، مدير التحرير، ومحرك المجلة ورجلها النشيط.. كما أشكر من يقف وراء هذا المجهود الراقي في تصميم المجلة ويتحمل سيل طلبات التعديل والتصحيح والاقتراحات، ثم الشكر الوافر للكتاب الأكارم الذين اقتطعوا من وقتهم وجهدهم ما لو صرفوه في الكتابة لغيرنا لعادت عليهم أموالاً وأجوراً فجعلوا أجرهم عند الله، وأخص بالذكر منهم من تابعوا الكتابة معنا حتى الآن: المهندس أحمد مولانا وهو من فرسان القلم وذوي اليقظة والنباهة والرشد، والدكتور عمرو عادل وقد عرفته مخلصاً غيوراً كان السجن والفصل من الجيش أهون عليه من كتم الحق الذي يعرفه ويؤمن به، والأستاذ الصغير منير من أحبابنا في الجزائر وهو صاحب تجربة كفاح قديمة وقد جمعتنا الأقدار في إسطنبول، والأستاذ عبد الغني مزوز الفتى الصغير الكبير وصاحب النشاط الوافر والمتابعة الجادة، والأستاذة يسرا جلال الأديبة ذات القلم الرشيق التي تحول المادة الجافة إلى قصة عذبة.. وآخرون انقطعوا عنا انقطاعاً نسأل الله أن يكون مؤقتاً، ولا تثريب عليهم فكل جهد في خير سيصب في نهر الأمة الكبير نهاية المطاف.
وبقي شكر خاص وافر لأساتذتنا ومشايخنا من أهل العلم والدين، أولئك الذين أفردنا لهم قسماً خاصا بالمجلة نستمتع فيه بجهادهم بالقرآن تحت شعار "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، فهم روح المجلة وريحانها ومستراحها، وفي واحتهم وظل دوحتهم نرى ونسمع من ديننا ما يطمسه علماء السلطة، نخص منهم بالذكر من استمروا معنا طول الوقت: أستاذي الدكتور عطية عدلان المتخصص بفقه السياسة الشرعية وصاحب المؤلفات المشهورة، وهو الرجل الطيب الرقيق الذي لا يجد في دينه ما يتحرج منه (وما أندر هؤلاء في باب السياسة الشرعية)، والشيخ الكريم الدكتور وصفي أبو زيد المتخصص بمقاصد الشريعة وصاحب الجهد المشكور المذكور في بيانها وتلمس تنزيلها على واقع الثورة والمقاومة.
ولقد خصصنا في كل عدد مختصر كتاب مفيد نشرناه على حلقات، فنشرنا أربعة كتب في الأعداد السابقة، ثم خصصنا في باب العلماء مقالاً لعالم أو داعية أو كاتب أسير.. ثم فتح الله علينا أن نجعل مع كل عدد هدية منفصلة: مختصر كتاب مفيد، وافتتحنا هذا الأمر بكتيب للشيخ الأسير البصير، حازم صلاح أبو إسماعيل، زينة مصر ومن مهَّد فيها للمشروع الإسلامي وعظمته تمهيداً عظيماً، اقتبسنا مادته من مقدمة سلسلته الصوتية في السيرة النبوية وجعلنا عنوانه: "ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، عازمين إن شاء الله أن يكون هذا عادة مع كل عدد قادم.
ثم قد بقي الشكر الكبير للقراء الكرام، من لا نستطيع أن نوفيهم شكراً يليق بهم، فإن القارئ نعمة الله على الكاتب، وهو باب دخوله الجنة إن أخلص وقال حقاً، فكيف يستطيع كاتب أن يشكر من كان باباً له إلى الجنة؟! هذا أمر فوق الطاقة ولا تسعه العبارة.. ولقد عوضنا الله من قلة الكُتَّاب كثرة القراء والحمد لله، وبلغت المجلة انتشارا لم نتوقعه كذلك.. وقد وصلتنا الرسائل بأن المجلة التي تصدر إلكترونية تُطبع في عدد من الأنحاء، كما أخبرنا الموقع وصفحة الفيس بوك أن المجلة لها قراء في روسيا وإندونيسيا وكذلك في أمريكا وكندا وما بينهما.. فالحمد لله رب العالمين.
في هذه المجلة عايشتُ حقاً معنى لم أعرفه من قبل، وهو معنى أن يكون العدد الحالي هو العدد الأخير، ولقد وجدتني حين أتخيل انقطاعها راضياً عما قدَّمتْ، إذ لم أدخر جهداً في خروجها على أفضل ما استطعت في ظل الظروف المحيطة، ولقد كنت كثيراً ما أشعر بتوفيق الله يظلل صدورها.. فالحق المحض أنها محض فضل من الله ونعمة، وما كان فيها من توفيق فمن الله وحده: كم ذلل لها سبلاً وفتح لها قلوباً، وما كان فيها من قصور وتقصير فمن أنفسنا ومن الشيطان ولا يزال عمل البشر دليل نقصانهم وقصورهم!
ونسأل الله تعالى أن يشرفنا بخدمته والعمل له، وأن يجعلنا ممن يستعملهم لنصرة دينه، وأن يجعل هذه الأقلام في سبيله، وأن يعصمنا من فتنة الذهب والسيف، فإن أراد بقومنا فتنة قبضنا إليه غير مفتونين.
نشر في مجلة كلمة حق
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك..
هذا هو العدد الثاني عشر من مجلة "كلمة حق"، أي أن المجلة الوليدة قد أكملت من عمرها عاماً، وهذا بالنسبة لعمل تطوعي علامة من علامات الإنجاز، إذ الأعمال التطوعية بطبيعتها مهددة دائماً. كما أنه بالنسبة لعمل مُقاوِم علامة إنجاز أخرى؛ إذ المقاومة التي تنتمي للأمة جريمة في ميزان الفرعونية العالمية والفرعونية الإقليمية، وهذا العالم في هذه اللحظة يكاد أن يكون كله منظومة فرعونية قاهرة!
وأدل شيء على هذا أن المجلة ما كادت تصدر إلا وكُتِب عنها بعد ساعات تقريرٌ على موقع إخباري تابع لجهات الأمنية، وعلى كل حال فإنهم لم يُقَصِّروا في المتابعة الدقيقة للمجلة، وهي متابعة فاقت توقعاتنا حقاً.. ولئن كنا نسأل الله لهم الهداية –كما أسلم سحرة فرعون من بعد ما كانوا يبذلون المجهود لتحصيل القرب منه- فإننا نخشى أن يطمس الله على قلوبهم فيكونوا كجنود فرعون: عذبوا السحرة الذين أسلموا مع أنهم رأوا نفس المعجزة، وخاضوا البحر وراء فرعونهم رغم أنهم رأوا بأعينهم معجزة انشقاقه لموسى!
وهكذا ما أبعد ما بين الخاتمتين رغم أن المعجزة واحدة والمشهد واحد! فالأمر ليس متوقفاً على عظمة المعجزة بل على استقبال القلب لها، ولقد سمع القرآن عمر بن الخطاب وسمعه كذلك أبو جهل، فأسلم هذا وصار فاروق الأمة وكفر هذا وصار فرعون الأمة، ولقد وصف الله قرآنه فقال {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].
وهذه فرصة نوجِّه فيها الكلام لأولئك الذين يعملون في جهاز الطغيان، إن أقصى ما يبلغه أحدكم أن يكون رئيسا كعبد الناصر أو السادات أو مبارك، فإما مات مسموما أو مقتولا أو خُلع، بل ولو أنه مات في السلطة لما أغنى عنه هذا من عذاب الله شيئا..
على أن هذا المنصب لا يصل إليه إلا النادر القليل، لقد اجتهد أن يصل إليه الأكثرون فماتوا دون ذلك، ماتوا بعد عزل وقهر أو نحر (سُمِّي انتحارا أو حادثة سير) فما بلغوا حظهم من الدنيا ولا نالوا نصيبا من الآخرة، خسروا الدنيا والآخرة.. ولقد كانوا مثلكم لا يتعظون بمصير الذين من قبلهم، فهم -كما وصفهم الله- {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
كانت فكرة المجلة بسيطة واضحة في أذهاننا وقد اجتهدنا أن تكون تطبيقاً لها.
إن القنوات والصحف ومواقع الانترنت والحسابات تفيض وتسيل بالكلام في كل اتجاه، ولا تشكو الأمة من قلة الكُتَّاب والمتحدثين ومن يتصدرون لموقع الفكر والتنظير والتوجيه، على أن الواقع أن أقل القليل وأندر النادر من أولئك الناس من إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ لم نحصل منهم على شيء ذي قيمة.. إغراق في التنظير وانشغال بالقيود الأكاديمية للكتابة، ودفق متصل من البلاغيات والزخارف والكلام الذي لا ينبني عليه عمل ولا يقترب من الأسئلة الحرجة.. وهذا حال من يتصدرون موقع التفكير والتنظير للثورات، وهم أنفسهم قلة وسط من انشغلوا بالمناطق الفكرية الآمنة: كدقائق الفلسفة وغرائب الفقه وعجائب العلوم وطرائف الحياة.. إلخ!
فكانت الفكرة بسيطة: يا معشر الذين تنصحون وتوجهون الثوار والمقاومين والمجاهدين: اكتبوا كلامًا إذا قرأه الثائر أو من يخطط لثورة استفاد منه، اكتبوا كلاما يمكن أن ينبني عليه عمل، اعتبروا أنكم تخططون لمن آمنوا بأهمية الرؤية والرسالة والتخطيط والعلم وقولوا لهم كلاما بعد تحقق هذا الإيمان! وهذا مجال واسع وفسيح أيضا لكنه يعاني ندرة المتكلمين فيه.. إنه لا قيمة لعلم ولا لتخصص إن لم يكن صاحبه يستطيع أن يصوغه في كلام مفيد ينبني عليه عمل، فلا فائدة لمن درس الإعلام إن لم يكن يستطيع أن ينصح ويوجه ويكتب كلاما مفيداً وعملياً في "كيف ينبغي أن يكون إعلام المقاومة"، ولا فائدة لمن درس السياسة إن لم يستطع أن يكتب كلاماً عملياً يحدد بها سياسة الثورة والمقاومة ويُشرح بها سياسة الخصوم والحلفاء وكيفية بناء العلاقة مع الأطياف المختلفة، لا فائدة للقانوني الذي لا يستطيع أن يحدد خطوات حركة المقاومة في لحظات إدارة الفراغ وإدارة النزاع أو في لحظات النصر الأولى... وهكذا في كل مجال، ومن المؤسف أن الثغور جميعاً تعاني الندرة والفراغ!
لذلك كتبنا في العدد الأول وكررنا في الثاني أن المجلة تستقبل المقالات من جميع القراء إذا اجتمعت فيها ثلاثة شروط: أن تكون علمية عاقلة لا عاطفية حماسية فإن الحماسة لا تنصر الحق ولا تفيد في بناء الوعي، وأن تكون في باب الثورة إذ هي قضية الأمة الراهنة وواجب الوقت، وأن تكون مفيدة لمن أراد العمل. وشرط رابع فني: أن ينشر باسم صاحبه لا باسم مجهول إلا إذا رغب كاتبها في الكتابة باسم مستعار وهو معروف لدينا بعينه، وأخيراً ألا تكون منشورة من قبل.
وبكل صراحة وشفافية نقول: إن العثور على مثل هؤلاء لم يكن سهلاً، كثير من المقالات التي جاءتنا لم تكن تنسجم مع هذا الخط، فإما غلب عليها الإغراق في التنظير أو اقتصرت على الدعوة للاهتمام بالتخطيط أو كانت تحلق بعيداً في مشارب لمعرفية أخرى، فضلاً عما رددناه من المقالات لأسباب فنية كأن يكون مقالاً مسروقاً أو ضعيفاً أو نشره صاحبه من قبل أو غير ذلك. كذلك فإن بعض المقالات قد دارت حولها نقاشات ساخنة بين فريق المجلة: هل تقع ضمن هذا الخط أم لا.. وكان رأي الشورى غالباً!
ونكرر الدعوة لكل صاحب قلم مميز أن يشاركنا بمقالاته ويراسلنا على بريد المجلة بهاklmtuhaq@gmail.com، فالمجلة ليست حكراً على أحد، وهي تركز في نشرها للمقالات على مناسبة الموضوع لخط المجلة آنف الذكر لا على اسم الكاتب وشهرته.
هنا أنتهز الفرصة لأشكر أخي الحبيب معتز زاهر، مدير التحرير، ومحرك المجلة ورجلها النشيط.. كما أشكر من يقف وراء هذا المجهود الراقي في تصميم المجلة ويتحمل سيل طلبات التعديل والتصحيح والاقتراحات، ثم الشكر الوافر للكتاب الأكارم الذين اقتطعوا من وقتهم وجهدهم ما لو صرفوه في الكتابة لغيرنا لعادت عليهم أموالاً وأجوراً فجعلوا أجرهم عند الله، وأخص بالذكر منهم من تابعوا الكتابة معنا حتى الآن: المهندس أحمد مولانا وهو من فرسان القلم وذوي اليقظة والنباهة والرشد، والدكتور عمرو عادل وقد عرفته مخلصاً غيوراً كان السجن والفصل من الجيش أهون عليه من كتم الحق الذي يعرفه ويؤمن به، والأستاذ الصغير منير من أحبابنا في الجزائر وهو صاحب تجربة كفاح قديمة وقد جمعتنا الأقدار في إسطنبول، والأستاذ عبد الغني مزوز الفتى الصغير الكبير وصاحب النشاط الوافر والمتابعة الجادة، والأستاذة يسرا جلال الأديبة ذات القلم الرشيق التي تحول المادة الجافة إلى قصة عذبة.. وآخرون انقطعوا عنا انقطاعاً نسأل الله أن يكون مؤقتاً، ولا تثريب عليهم فكل جهد في خير سيصب في نهر الأمة الكبير نهاية المطاف.
وبقي شكر خاص وافر لأساتذتنا ومشايخنا من أهل العلم والدين، أولئك الذين أفردنا لهم قسماً خاصا بالمجلة نستمتع فيه بجهادهم بالقرآن تحت شعار "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، فهم روح المجلة وريحانها ومستراحها، وفي واحتهم وظل دوحتهم نرى ونسمع من ديننا ما يطمسه علماء السلطة، نخص منهم بالذكر من استمروا معنا طول الوقت: أستاذي الدكتور عطية عدلان المتخصص بفقه السياسة الشرعية وصاحب المؤلفات المشهورة، وهو الرجل الطيب الرقيق الذي لا يجد في دينه ما يتحرج منه (وما أندر هؤلاء في باب السياسة الشرعية)، والشيخ الكريم الدكتور وصفي أبو زيد المتخصص بمقاصد الشريعة وصاحب الجهد المشكور المذكور في بيانها وتلمس تنزيلها على واقع الثورة والمقاومة.
ولقد خصصنا في كل عدد مختصر كتاب مفيد نشرناه على حلقات، فنشرنا أربعة كتب في الأعداد السابقة، ثم خصصنا في باب العلماء مقالاً لعالم أو داعية أو كاتب أسير.. ثم فتح الله علينا أن نجعل مع كل عدد هدية منفصلة: مختصر كتاب مفيد، وافتتحنا هذا الأمر بكتيب للشيخ الأسير البصير، حازم صلاح أبو إسماعيل، زينة مصر ومن مهَّد فيها للمشروع الإسلامي وعظمته تمهيداً عظيماً، اقتبسنا مادته من مقدمة سلسلته الصوتية في السيرة النبوية وجعلنا عنوانه: "ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، عازمين إن شاء الله أن يكون هذا عادة مع كل عدد قادم.
ثم قد بقي الشكر الكبير للقراء الكرام، من لا نستطيع أن نوفيهم شكراً يليق بهم، فإن القارئ نعمة الله على الكاتب، وهو باب دخوله الجنة إن أخلص وقال حقاً، فكيف يستطيع كاتب أن يشكر من كان باباً له إلى الجنة؟! هذا أمر فوق الطاقة ولا تسعه العبارة.. ولقد عوضنا الله من قلة الكُتَّاب كثرة القراء والحمد لله، وبلغت المجلة انتشارا لم نتوقعه كذلك.. وقد وصلتنا الرسائل بأن المجلة التي تصدر إلكترونية تُطبع في عدد من الأنحاء، كما أخبرنا الموقع وصفحة الفيس بوك أن المجلة لها قراء في روسيا وإندونيسيا وكذلك في أمريكا وكندا وما بينهما.. فالحمد لله رب العالمين.
في هذه المجلة عايشتُ حقاً معنى لم أعرفه من قبل، وهو معنى أن يكون العدد الحالي هو العدد الأخير، ولقد وجدتني حين أتخيل انقطاعها راضياً عما قدَّمتْ، إذ لم أدخر جهداً في خروجها على أفضل ما استطعت في ظل الظروف المحيطة، ولقد كنت كثيراً ما أشعر بتوفيق الله يظلل صدورها.. فالحق المحض أنها محض فضل من الله ونعمة، وما كان فيها من توفيق فمن الله وحده: كم ذلل لها سبلاً وفتح لها قلوباً، وما كان فيها من قصور وتقصير فمن أنفسنا ومن الشيطان ولا يزال عمل البشر دليل نقصانهم وقصورهم!
ونسأل الله تعالى أن يشرفنا بخدمته والعمل له، وأن يجعلنا ممن يستعملهم لنصرة دينه، وأن يجعل هذه الأقلام في سبيله، وأن يعصمنا من فتنة الذهب والسيف، فإن أراد بقومنا فتنة قبضنا إليه غير مفتونين.
نشر في مجلة كلمة حق
Published on July 04, 2018 12:37