بدائع وروائع الصين في التراث الإسلامي


في المقالات السابقة فتحنا ملف العلاقات الإسلامية الصينية، فتناولنا في الأول موجزا للعلاقات بين الأمة المسلمة والصينية، وفي الثاني تحدثنا عن منافذ التواصل بين الأمتين وكيف تكونت وكيف أثرت فيهما، وفي الثالث تحدثنا عن بعض عجائب الصين كما وُجِدت في التراث الإسلامي، ونستكمل اليوم حديث العجائب ليكون هذا هو المقال الأخير في هذه السلسلة.4. الأخلاقلأهل الصين "آداب حسنة للرعية مع الملك وللولد مع الوالد: فإن الوالد لا يقعد في حضور أبيه ولا يمشي إلا خلفه ولا يأكل معه""وليس في بلادهم خمر، ولا تُحمل إليهم ولا يعرفونها ولا يشربونها"وأما من يقدم عليهم من التجار المسلمين فلهم وضع مختلف، فإن سُنَّتَهم مع المسلمين أنه إن إراد التاجر المسلم التسري أعانه صاحب الفندق فاشترى له جارية، وإن أراد الزواج تزوج، "وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه! ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فإنّها أرض فساد"وعقوبة الزنا القتل للمحصن وغيره وللرجل والمرأة، إلا أن اغتَصَبَ الرجلُ امرأةً فيُقتل وحده. وعقوبة السرقة القتل في القليل والكثير، ويتزوج الرجل ما شاء من النساء، ولا يختنونلم تكن عملة الصين ذهبا أو فضة وإنما عملة ورق "كاغد" كالتي نستخدمها الآن، بينما الذهب والفضة واللؤلؤ وغيرها بضائع ومتاعوالدولة تكفل الفقراء والصغار والكهول، فمن لم يجد سعر الدواء أخذه من بيت المالومن الصورة العامة للصين يمكن القول بأن الاقتصاد قائم على الزراعة والتجارة، وعلى مهارات الصناع الفائقة.6. التعليموينتشر التعليم في الصين، وهو تعليم نظامي يشمل الجميع وتشرف عليه الدولة ويُنفق عليه من بيت المالومن أبلغ الأدلة على ما بلغه أهل الصين من مهارة الطب ما رواه المؤرخ الجغرافي ابن فضل الله العمري، فقد سأل شيخه الشريف السمرقندي عن أهل الصين، وما يحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال، فقال: هم أكثر مما يقال، ثم حكى له أنه اشتكى من ضرس في فمه فعالجه منه صيني استطاع بمهارة أن يخلع له ضرسا ونصف الضرس دون أن يشعر لها بألم، ثم أخرج الصيني مما معه أضراسا وأنصافا وأثلاثا، ثم صار يقيس موضع الضرس المخلوع، ويلتمس له مما معه نفس المقاس، ثم وضع عليها مادة ودهانا التأمت به في وقتها،  وأمره ألا يشرب عليها الماء ليوم كامل، فانتهى ألمه. وقد رأى الجلساء أضراسه الجديدة فإذا هي واضحة لكنها على أحسن ما يكونيقرر النويري، صاحب موسوعة نهاية الأرب وفي مؤلفه اجتمع علم الكثير مما سبقه، أن "ملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك"ومن عاداتهم أنه "لا يتزوّج أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر"وأما أمر الصنائع ومهارتهم فيها فهو الأمر الجاري المشتهر الذي تفنن كل واصف فيه، فقد أخرجت دقة الصينيين وإحسانهم في صناعاتهم أوصاف البلاغة من المؤلفين العرب، حتى إنهم ليضربون بهم المثل فيه، بل يضربون بهم المثل في الشأن كله، حتى ليقال "نزلت الحكمة على رؤوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفرس، وأيدي الصين"فالصينيون "أحذق خلق الله كفًّا بنقشٍ وصَنْعَةٍ وكل عمل، لا يتقدمهم فيه أحد من سائر الأمم"وأسهب العرب في وصف مهارتهم بوصف ما يعملون من الصناعات، فمنها "أقداح في رقة القوارير، يُرى ضوء الماء فيه"ولا يكافئ مهارتهم في التصنيع إلا مهارتهم في الرسم والنقش، فلهم "الإبداع في خرط التماثيل وإتقانها، وعمل التصاوير والنقوش المدهشة كالأشجار والوحوش والطيور والأزهار والثمار وصور الإنسان على اختلاف الحالات والأشكال والهيئات، حتى لا يعجزهم شيء إلا الروح والنطق، ثم لا يرضون بذلك حتى إن مصورهم يفصل بين الشخص الضاحك من الغضب والضاحك من العجب والضاحك من سرور والضاحك من الخجل"وقد اضطردت في تراث العرب قصة الملك الذي أهديت إليه لوحة مرسومة لطائر يقف على غصن، فاستحسنها هو ومن معه، حتى مر بها رجل من العامة فأخرج منها عيبا بسيطا، أن الغصن لم يكن منحنيا بل مستقيما، فصح عندهم قوله وصارت من العيوب التي منعت الملك من شرائها ومنعت صانعها من المقام الرفيع.
واستخدموا مواهبهم الفائقة في الرسم في رسم من يمرون بهم من الغرباء فيكون نوعا من التوثيق الفني والثقافي وهو في نفس الوقت جزء من النظام الأمني كما أسلفنا الحديث عنه في خبر ابن بطوطة، ومن قبله في خبر ابن وهب القرشي.10. ما استقبح من أهل الصين
وأما ما عُرض في الرواية العربية على سبيل الاستنكار والرفض من أحوال الصين فهو ما تعارض مع الإسلام كعبادة الأوثان واعتناقهم تناسخ الأرواح وبيع الأولاد والبنات وشرعنة البغاء وأكل الميتة وتبرج النساء وإتيانهن في المحيض والتبول وقوفا وعدم الاستنجاء بالماء وبعض أمور أخرىويُستطاع في ظل التعاون المشترك لتحقيق المصالح المشتركة ومواجهة التحديات المشتركة أن يُزال كل ما من شأنه أن يعيق تأسيس علاقة راسخة بين الأمتين، فالأمة الإسلامية ليست مجرد مخزن للثورة والطاقة فحسب، وإنما هي قبل كل هذا وبعده مخزنا ضخما للطاقة الروحية والثروة الثقافية العميقة، والعالم الإسلامي هو الذي يقوم الآن في وجه المنظومة العالمية التي تريد فرض هيمنة ثقافية وحيدة على جميع العالم، وهو العالم الذي بإمكانه تقديم البديل الحضاري المتجاوز لمشكلات الحضارة المعاصرة التي أرهقت العالم وأثقلته. فالسابق إلى العالم الإسلامي من باب التعاون الحضاري يستطيع أن يعزز موقعه في المعادلة الحضارية القادمة فوق تعزيز موقعه ضمن خريطة الثروة المادية.
نشر في مدونات الجزيرة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 11, 2018 01:20
No comments have been added yet.