حماس غزة: أزمة وتطور الفكر السياسي تحت إكراه الواقع المعقد
** قدمت هذه الورقة في المؤتمر العلمي الأول لحركة حماس، والمنعقد بغزة (18، 19سبتمبر 2018)
ليس لحماس إنتاج كثير في باب الفكر السياسي، لهذا فإن أغلب ما يكتب عنها إنما يستمد مادته من الوثائق والبيانات والسلوك السياسي في المواقف المختلفة أو من تصنيفها ضمن مدرسة إسلامية أوسع وهي في حالتنا هذه "الإخوان المسلمين" ليمكن فهم منطلقاتها السياسية، وفي هذا مخاطرة معروفة تؤثر في الدقة البحثية ووضوح التصور، فالاعتماد على تحليل السلوك السياسي لا يؤدي بالضرورة إلى فهم الرؤية الفكرية للحالة، إذ أن السلوك السياسي الواقعي هو نتاج عملية مركبة من ثلاثة عناصر: الفكر السياسي والإكراهات الواقعية الظرفية وكفاءة التنفيذ، وبإمكان العنصرين الأخيرين أن يُشَوِّها كثيرا العنصر الأول المتعلق بالفكر، وهنا موضع المخاطرة.
من هاهنا حاولت هذه الورقة رصد أزمة الفكر وتطور الفكر السياسي لحماس تحت إكراه الواقع المعقد داخليا وإقليميا ودوليا، واضطرت أن تعتمد على الوثائق والبيانات والكتابات المقربة من الحركة لتستخلص معالم هذه الأزمة وهذا التطور عبر السنوات العشر منذ ما بعد الحسم العسكري والانفراد بحكم غزة (2007م) حتى (2017م) عام صدور وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي اعْتُبِرَتْ –بحق- تعديلا على ميثاق حماس الأول (1988م) وهو أيضا عام آخر المحاولات الجادة في الوصول إلى مصالحة تُسَلِّم فيها حماس حكم غزة لسلطة محمود عباس.
وسعيا لبيان ملامح هذه المسيرة قُسِّمت الورقة إلى ثلاث محاور؛ الأول: عن إكراهات الواقع المفروض على حماس في التنظير والتطبيق وهو ما أنتج تجربة تزاوجت فيها الثورية اللائقة بحركة تحرر والمحافظة اللائقة بحركة محاصرة تحت ضغوط كبرى، فكان المحور الثاني عن الجانب المحافظ من تجربة حماس، والمحور الثالث عن الجانب الثوري من تجربة حماس. وهذه القسمة هي برأيي القادرة على بيان مناطق الثبات والتطور في التجربة لتكون كاشفة عن نتائج التدافع بين رغبة التحرر وضغط الواقع.
ومن نافلة القول أن هذه الورقة كُتِبت لا بغرض الثناء على حماس ولا بغرض الهجوم عليها، وكاتبها لا يتردد في الإعلان عن حبه واعتزازه وفخاره بحركة حماس كواحدة من حركات المقاومة والتحرر الإسلامية، ولكونها أنضج الحركات التي جمعت بين السياسة والقتال، ومع هذا فإن ما في هذه الورقة من الثناء لم يفارق الموضوعية المقصودة والمطلوبة من أي ورقة علمية، وليس فيها من الانتقاد إلا ما هو مقصود ومطلوب بغرض الاستفادة والنصح والتقويم، وفيها أيضا من حسن الظن والتماس الأعذار ما هو خليق أن يُقدَّم في شأن المجاهدين.
حماس غزة: صورة مصغرة مكثفة لتحديات إنتاج تجربة إسلامية
على نحوٍ ما، يبدو أن مشكلات الأمة الكبرى العامة تُخْتَصر في واقع الأزمة التي تعرضت لها حماس إثر توليها مسؤولية الحكم (2006م)، فلو حاولنا استعراض مشكلات الأمة الكبرى سنجد أنها خمسة، تلك هي:
1. الاحتلال الأجنبي المهيمن على الأمة والمتحكم في قرارها –رغم الاستقلال الشكلي الزائف- وما يتمتع به من فارق القوة الضخم الذي يجعل شأن مقاومته فادح التكاليف عظيم الخسائر، ومنذ دخلت أمتنا في طور الاستضعاف قبل قرنين من الزمان ولا يزال الزمن يؤول إلى ازدياد فارق القوة بين الأمة وعدوها، وقد وصلنا في الفترات الأخيرة إلى استطاعة قوى الاحتلال القضاء على القوى الخارجة عن هيمنتها بمجرد التفوق الجوي والأمني وأحيانا قبل نزول القوات على الأرض كما وقع في أفغانستان مع حركة طالبان (2001م)، وفي العراق مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (2017م) وفي سوريا مع مناطق الثورة في حلب والغوطة الشرقية وغيرها (2017، 2018م).
وفي حالة غزة تبدو نفس هذه الأزمة على المقياس المصغر، إذ الفارق ضخم بين القوة الإسرائيلية العسكرية وقدراتها الأمنية وبين فصائل المقاومة، وهو ما يتيح لها القدرة على إحداث دمار واسع تضغط به على المقاتل وعلى المُفاوِض أيضا في حال إرادة الوصول لإنهاء الحرب. إلا أن الحالة الغزاوية تشهد بعض المزايا مثل: قدرة حماس على ضرب شبكات أمنية مؤثرة للاحتلال داخل غزة، وعلى إنهاء الوجود الفتحاوي الذي يمثل الإسناد الأرضي المناظر للقوات العراقية الحكومية وقوات التحالف الشمالي الأفغاني وقوات نظام الأسد، مما يجعل المهمة الأرضية موكولة إلى جنود الاحتلال الذي هو شديد الحساسية والحرص على طاقته البشرية.
2. الاستبداد الداخلي والذي تمارسه النظم المحلية الوظيفية المسنودة بالاحتلال الأجنبي، والتي يمثل مجرد وجودها أحد أكبر التحديات لأي حركة مقاومة، ذلك أن مواجهة عدو أجنبي محتل أسهل على سائر المستويات –إلا العسكري- من مواجهة طرف من نفس الشعب ويتمتع بجذور سياسية وحواضن اجتماعية وخبرة محلية، فضلا عما يضفيه عليه الإسناد الخارجي من شرعية قانونية وحضور دولي وإمكانيات مالية ودعم مالي.
وفي الحالة الغزاوية ينتصب نموذج السلطة الفلسطينية كحالة مثالية للسلطة التي ترفع عن المحتل الأجنبي عبء إدارة الشؤون اليومية وتسخر مجهوداتها الأمنية ونفوذها السياسي لصالحه، وهي واحدة من أنجح تجارب التوظيف الاحتلالي لفئة محلية ضد حركات المقاومة.
3. الموقع الجغرافي الخطير، وذلك أن الأمة تتمدد جغرافيا في قلب العالم، حتى ليمكن القول بأنه ما من أمة في هذا العالم تستطيع إنشاء سياسة أو تجارة أو أي نوع علاقة مع أمة أخرى إلا واحتاجت إلى إذن الأمة المسلمة، وهذا الاتصال الجغرافي للأمة والممتد من أقصي الشرق حتى أقصى الغرب بقدر ما هو قوة عظمى للأمة في حال قوتها، بقدر ما هو نفسه أزمة مرهقة وخطيرة في حال ضعفها، وتلك أقدار الله التي تحتم على الأمة دائما أن تسعى للنهوض والقوة، فالموقع الحساس إما أن يكون مصدر القوة أو أن يكون مسرح صراع الأقوياء من حوله ونقطة جذب لأطماعهم، وهذا هو قدر الأمة، وهو بالذات قدر قلبها المصغر الذي يشمل الشام والعراق ومصر وتركيا.
وتبدو هذه الأزمة نفسها في حال قطاع غزة، لا سيما بعد أن حكمته المقاومة، إذ هو بها قطاع صغير متكدس معزول بلا عمق استراتيجي، محشور في كبد الكيان الصهيوني الذي هو القاعدة العسكرية الأمنية المتقدمة للنظام الغربي في قلب العالم الإسلامي، فـ "إسرائيل" هي ابنة الحضارة الغربية وربيبتها التي ولدتها وأنشأتها ورعتها في هذه البقعة، وسواءٌ ذهبنا مع من قالوا بأنهم فعلوا هذا حبا وكرامة وإخلاصا لدينهم وعقائدهم كما يقول من يُغَلِّب المُكوِّن الديني على قرار السياسة الغربية4. سيادة نمط الدولة الحديثة، وهو النمط الذي أنتجته الحضارة الغربية المعاصرة وبَنَتْ عليه نظامها الدولي، وخلاصته أن أحلَّ الدولة محل الإله، فالدولة هي المرجعية وهي صاحبة السيادة وهي المتصرفة في سائر الأنشطة الإنسانية ضمن البقعة الجغرافية التي تهيمن عليها، وسائر أوجه النشاط المجتمعي إنما هو محكوم بما تسمح به السلطة، فالمجتمع على الحقيقة أسير أمام الدولة التي لم تعد مجرد سلطة سياسية ذات قوة عسكرية وأمنية، بل صارت جهازا ضخما يدير ويتحكم في كل التفاصيل. هذه الحداثة لم تغرس في بلادنا إلا بقهر الاحتلال والاستبداد، ذلك أنها تخالف وتناقض النظام الإسلامي الذي شكَّل طبيعة بلادنا وصورة علاقاتها السياسية والاجتماعية عبر خمس عشرة قرنا، ولذلك فكل قصة "تحديث" في بلادنا كانت هي ذاتها قصة الاحتلال والاستبداد. وأسوأ ما في هذا النمط هو تعطيله الفاعلية الذاتية الشعبية بمصادرة مساحات حركة المجتمع، فحتى معلم المدرسة أو خطيب الجامع صار يحتاج تصريحا من الدولة لممارسة هذه المهمة، بل صار محتاجا إلى ورقة رسمية تعترف له بأنه معلم أو خطيب! لكل هذا كانت خلاصة قصة "الحداثة" في بلادنا أنها النظام الذي تمكَّن من شلِّ طاقة الأمة وتعطيل شعوبها، لطبيعته هو نفسه أولا ولكونه مفروضا علينا في زمن الضعف فمن ثَمَّ كان عمله في ترسيخ قوة الغالب الغربي وترسيخ ضعف المغلوب الإسلامي.
تلك هي المحنة الكبرى والنازلة العظمى على المستوى النظري والعملي، أي على مستوى إنتاج الاجتهاد الإسلامي الأصيل الرشيد، وعلى مستوى المقاومة الإسلامية التي صارت كأنها في قضية تحررها ضد نظام العالم كله.
تبدو مشكلة الأمة هذه متمثلة في غزة أيضا، فلقد استطاع نمط الحداثة هذا أن يجعل غزة تحمل مسؤوليات الحكم كأنما هي في دولة تتحمل فيها مسؤولية إدارة سائر التفاصيل، هذا مع أنها مُحاصَرة بنفس نظام الدول الحديثة الذي يمنع اتصالها بطاقة الأمة بل يجعل طاقات الأمة كلها محاصَرة ومعزولة وممنوعة من التواصل والإمداد لطاقة الغزيين، فبقدر ما تحملت المقاومة عبء إدارة دولة حديثة طبقا لمفهوم الدولة الحديثة بقدر ما مُنِعت من وسائل الحياة طبقا لنفس هذا المفهوم، وقد وجدت حماس نفسها أمام المعضلتين معا: معضلة أنها تتولى إدارة قطاع متكدس بالبشر (وهو عبء داخلي) وهو محاصر معزول (وهو عبء خارجي).
لا يمكن مطالبة حماس بإنتاج اجتهاد إسلامي لنازلة الدولة الحديثة، التي هي النازلة العامة التي اضطربت فيه آراء الإسلاميين من أقصى اليمين (هدم الدولة الحديثة ومن ورائها النظام العالمي) إلى أقصى اليسار (الذوبان فيها واعتبارها حتى بوضعها الحالي غاية إسلامية)، والغالب أن همّ مقاومة الاحتلال وتثبيت المكاسب الأمنية والعسكرية لم يتح أصلا فرصة طرح هذا التوجه الفكري على مائدة البحث في أي وقت.
لكن حماس عمليا بين اختياريْن، وإن لم يكن أمامها الوقت ولا الإمكانية لبحث المسألة في صورتها النظرية، وهما: أن تكون سلطة رشيدة ضمن مفهوم الدولة الحديثة أم تكون قيادة مقاومة ضمن مفهوم ما قبل الحداثة أو تصورات ما بعدها. وكل هذا ينعكس بقوة على طبيعة وحدود العلاقة بين السلطة والشعب ووظائف كل منهما.
5. افتقاد التنظير السياسي الإسلامي المعاصر، والانقطاع الكبير في هذا الباب نتيجة لغياب نظام الخلافة من جهة وانحدار شأن العلماء في المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى، وبهذين الأمرين صار أمر الاجتهاد المعاصر محتاجا إلى فقهاء يعرفون علم الشرع وعلم الواقع ولديهم القدرة على الاجتهاد الذي يحلون به معضلة لم تواجه القرون الأربعة العشر الماضيةهذا فضلا عن أن الجهة المؤهلة للاجتهاد، وهم العلماء، إنما كانوا أهم المستهدفين بالإقصاء والعزل عن المجتمعات، مع تدمير مكانتهم الاجتماعية ومحاضنهم العلمية العريقة، حتى لقد جرى إقصاؤهم عن قضايا الأحوال الشخصية التي صار الحكم فيها إلى قانونيين ومحاكم وضعية، مما كان من آثاره أن يكثر فيهم أنفسهم الجاهلون بأبواب السياسة الشرعية وأن ينصرف الكلام في هذه الأبواب إلى غيرهم ممن لا يحسنها فيكثر فيها الاضطرابوهذا في حالة غزة أشد عسرا حيث تجتمع عليها العديد من النوازل في الوقت الواحد.
يتفرع عن تلك المشكلات الخمس الكبرى ويدعمها مشكلات أخرى كثيرة، كالبيئة الدولية المضطربة والمعقدة بما تطرحه من محاولات التوظيف والإنهاء، وبروز تيارات الغلو أحيانا، والتيه في التوفيق بين ما يستحق التشدد وما يستحق المرونة، والعمل في ظل نظام سلطوي ثم نظام عالمي يتحسس ضد أي محاولة تغيير فيه أو مقاومة له، ويكافحها بلا رحمة، لا سيما والقرب الجغرافي من "إسرائيل" يجعل المعركة في قلب الصراع المحتدم بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وهو الصراع العالمي الطويل الممتد لأكثر من ألف سنة.
تمثل كل مشكلة من تلك الخمس الكبرى في حد ذاتها تحديا ضخما أمام الأمة، ولهذا يمكن تصور كيف يتحول اجتماعها معا في منطقة جغرافية صغيرة كغزة إلى محنة عظيمة، كان على حركة حماس أن تتعامل معها، في لحظة لم تتوقعها أو تستعد لها. لا سيما وأن قرار حماس ينتج في الداخل والخارج، وهو محنة أخرى لها تأثيرات داخلية عميقة على الحركة نفسها، إذ مهما قيل في الانسجام بين حماس في غزة والضفة والخارج فلن يغير هذا من حقيقة أن الأوضاع المختلفة تنتج فروقا في الرؤية وأسلوب العمل.
ومع التسليم بكل ما سبق سرده من المشكلات الخمس الكبرى، والتقدير التام لكون عملية الاجتهاد في منازلتها عملية صعبة ودقيقة وهي أشد كلفة على الطرف الأضعف، إلا أن هذه الورقة تمثل وجهة نظر ترى أن عامة سلوك الحركة في تجربة الحكم كان أقرب إلى المحافظة منه إلى الثورية، وأن هذا هو ما فوَّت عليها عددا من الفرص المهمة، مثل الموقف من الانقلاب في مصر والنأي بنفسها عن الدخول فيه حفاظا على "ثوابتها السياسية"، وعلى نحو مثير للنظر يبدو الجناح العسكري أكثر ثورية ومرونة إذ استطاع استنقاذ أسرى له في السجون المصرية في اللحظات الأولى من انهيار الشرطة (28 يناير 2011م) وقبلها كان قرار الحسم العسكري هو ردة فعل عسكرية لا قرارا سياسيا، وبدا فيه أن الجناح العسكري أيضا أكثر ثورية ومرونة في التعامل مع المستجدات، ويرى الباحث أنه لولا وجود السلاح بيد حماس فلربما شابهت مصير الإخوان في مصر، ذلك أن وجود السلاح والجناح العسكري جعل الحسم قرارا نابعا من إكراه واقعي وردة فعل ظرفية، وهو من أهم القرارات المؤثرة في مصير القضية الفلسطينية كلها، وبه صارت غزة قلعة مقاومة منيعة.
طبقا لهذه الرؤية، نستطيع أن نجمل مسار تجربة حماس السياسية في خطَّيْن: خط المقاومة والثبات (الجانب الثوري)، وخط القبول بالواقع (الجانب المحافظ)، فمن أهم معالم خط المقاومة: الموقف من الاحتلال، ومن فتح مفاوضات معه، واستهداف "المدنيين" منهم، والحفاظ على العلاقات مع إيران وتركيا وقطر رغم الضغوط لقطعها. ومن أهم معالم خط القبول بالواقع: الموقف من سلطة فتح ومنظمة التحرير، والقبول بنمط الحداثة في إدارة قطاع غزة وفي التعامل مع الوضع الإقليمي والدولي، والحرص المبدئي على عدم فتح أي نزاع مع الدول العربية والتحمل التام للسياسات المضادة والمعادية من قبلها.
ومن نافلة أن توزيع هذه المواقف ضمن خطي المقاومة أو القبول بالواقع هو باعتبار الغالب على الحال، وإلا فقد يقع في بعض المسائل وبعض الظروف ما يكون فيه نوع رضوخ كما في لهجة وثيقة المبادئ (1 مايو 2017م) فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من الاحتلال من جانب الخط المقاوم إلى خط القبول بالواقع، وقد يقع حسم عسكري ينهي وجود سلطة فتح في غزة فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من سلطة فتح من جانب خط القبول بالواقع إلى خط المقاومة.. وهكذا!
الجانب المحافظ من تجربة حماس
عملت عدد من الأسباب على أن تبدأ حماس تجربتها في الحكم بأسلوب محافظ غير ثوري، ومن أهم هذه الأسباب أربعة:
الأول: أن فرصة الحكم جاءتها على غير توقع فخاضته دون رؤية سياسية مسبقة، وفيما يُعتبر هذا الخوض نفسه عملا ثوريا مفاجئا استجابت له الحركة بمرونة تحمد عليها لكن هذا يجعله من "إكراهات الواقع"الثاني: كذلك فإن حماس باعتبارها من مدرسة الإخوان المسلمينالثالث: كذلك فإن تأسيس حماس حمل في بذوره أنها بديل لحركة فتح وحركات اليسار الفلسطينية، وهي الحركات التي تبنت المواجهة المفتوحة والعالمية مع الاحتلال مما جعل دول العالم بما فيها الدول العربية تتخذ منها موقفا معاديا كلَّف حركة الكفاح الفلسطينية خسائر فادحة، فاعتمدت حركة حماس نمط المواجهة المحدودة المحصورة داخل الأرض المحتلة ومن بين آمالها أن يوفِّر هذا لها دعما عربيا أو في أقل الأحوال ألا يستثير عليها عداءً عربيا.
الرابع: حرص حماس على تقديم صورة مطمئنة للوضع الإقليمي والدولي لتجربتها في الحكم، وهو الحرص الذي رافق كل تجربة الحركات الإسلامية السياسية والناتج عن شدة التشويه والتفزيع من كل تجربة إسلامية.
دفعت هذه الأسباب إلى تجربة حكمٍ محافظةٍ تَتَحَسَّس من التغيير ومواجهة الوضع السائد، وغاية ما ترجو أن تتمكن من إدارة الشأن الفلسطيني بأكبر قدر من التوافق والهدوء مع خصوم الداخل، وبأكبر قدر من التهدئة والطمأنة مع خصوم الخارج:
1. لم تسع حماس إلى إزاحة فتح أو غيرها من رفاق أو خصوم الدخل بل عملت جهدها على تكوين حكومات ائتلافية تتشارك في مهمة الحكم والإدارة منذ اللحظات الأولى2. لم تحاول حماس هدم شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بل كافة ما صدر عنها كان في إطار محاولات الإصلاح للمنظمة وتوسيعها3. قدَّمت حماس خطابا سياسا يبتعد ما استطاع عن الإشكاليات الفكرية4. لم تتزحزح حماس عن موقفها بعدم التدخل في شأن أي دولة ولو كان هذا التدخل يؤثر على مصالحها، وأوضح ما يبدو هذا في أنها فضَّلت أن تعاني أشد المعاناة من إغلاق معبر رفح دون أن تطور موقفا ضد النظام المصري الذي كان أهم الفاعلين في الحصار الخانق المفروض على غزة والمستمر منذ وصول حماس إلى الحكموقد ظلت هذه السياسة تُثْقِل القرار السياسي لحماس حتى في أوقات الفرص الكبرى مثل الثورة المصرية وفترة الاضطراب والارتباك التي سادت ثلاث سنوات على الأقل، منذ مطلع 2011 إلى مطلع 2014، ونزعم أنه كان بالإمكان إذا تحررت حماس من هذه السياسة المحافظة أن تحقق في هذه السنوات الثلاث مكاسب نوعية في الملف الداخلي والخارجي، بل ونزعم أن لحظة الانقلاب العسكري في مصر كانت تساوي بالنسبة لها معركة وجودية تستدعي أن تتدخل فيها بثقلها. وهي اللحظة التي أنتجت فيما بعد سياسات مصرية في غاية الشراسة تجاه حماس ألزمتها بالتراجع في الطموح والموقف حتى وصل الأمر إلى مصالحة تُسَلِّم بها قطاع غزة للسلطة الفلسطينية وهي المصالحة التي فتحت موضوع "سلاح المقاومة"!
ومن الآثار السلبية لهذه السياسة هو تضخم الروح الوطنية القومية لحماس على حساب الروح الأممية والإسلامية، وهذا مما قد يُعَدُّ في الميزان السياسي المعاصر نوعا من الرشد والنضج، إلا أنه وفق تقييم يعتمد ميزان حركة التحرر الإسلامية يعد نوعا من التراجع والتأثر السلبي بمفردات الواقع الضاغطة وإكراهات الحالة السياسيةكذلك فإن من الآثار السلبية لهذه السياسة أنه فيما يتعلق بالأنظمة العربية فقد ظلت حماس تتلقى الهجوم والضربات دون ردّ، وكان التقدير السياسي لحماس أن الدخول في معركة ولو إعلامية مع الأنظمة العربية يسرِّع من قطار التطبيع مع إسرائيل ويوفر الأجواء لهذه الأنظمة في شن الحملات عليها وعلى القضية الفلسطينية، ورأت أن هذه المعركة هي من مسؤولية الحركات السياسية والإسلامية العربية داخل هذه البلدان، وبالرغم من تحملها الضغط الهائل وضبط النفس إزاء ما يمارس ضدها في إعلام هذه القنوات إلا أن قطار التطبيع يمضي سائرا وتُشَنُّ الحملات الإعلامية الضارية ضد حماس بل والفلسطينيين وقضيتهم عموما لتمهد الطريق للتطبيع. ويرى الباحث أن الحركة لو اعتمدت سياسة الهجوم والفضح لهذه الأنظمة على الأقل فيما قبل موجة الثورات المضادة فإنه كان بالإمكان تحقيق نتائج أفضل ضد الأنظمة في تلك الفترة، وأن استفادة الأنظمة من سياسة حماس تجاهها جعلها تقدم على ما تريد باطمئنان، فهي قد استفادت من سكوت حماس وتثمينها لمواقف الأنظمة بأكثر مما استفادت حماس من هذه السياسة تجاه الأنظمة.
ومن الآثار السلبية لهذه السياسة أن استطاع خطاب تيارات الغلو أن يجد له موقعا في نفوس عدد ليس بالقليل من أبناء غزة بل ومن أبناء حماس نفسهاالجانب الثوري من تجربة حماس
والمقصود بالجانب الثوري هو قدرة حماس على مقاومة ما يُفرض عليها من ضغوط تريد تغيير مواقفها المبدئية، أو ضغوط تريد استعمالها كورقة ضغط أو استقطابها كحليف يتبنى المواقف السياسية في ظرف ما، وتُبْدي حماس حتى الآن قدرة متميزة على أن تكون نفسها وألا تسقط في فخ الاستقطابات والمعادلات المتشكلة والمتقلبة في المنطقة العربية الساخنة. ولا يمنع من هذا أن يقع شيء هنا أو هناك مرة أو مرات، فذلك لا يغير من المسار العام.
وأبرز المواقف الثورية لتجربة حماس هو موقفها من الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين، وعليه تركزت معظم الضغوط السياسية التي أرادت استخراج اعتراف من حماس بإسرائيل، أو في أقل الأحوال استخراج تصريح واضح بأنها تسعى لتحرير الأراضي المحتلة عام 1967 مما يعني اعترافها بحق إسرائيل في احتلال الأراضي قبل ذلك العام، وقد تمسكت حماس بهذا الموقف طوال هذه السنوات العشر، حتى أنها حين أصدرت وثيقة المبادئ والسياسات العامة (1 مايو 2017م) حرصت على صياغة هذا الموقف بعبارات قاطعة، ووضعت هدف تحرير الأرض المحتلة عام 1967 في قلب مادة تنص على عدم الاعتراف بإسرائيلومما يترتب على هذا موقف الحركة من "المدنيين الإسرائيليين"، وقد تمكست الحركة بموقفها القائل بأن هؤلاء محتلين وليس فيهم من يصدق عليه وصف "المدنيين"، فهم فوق كونهم قد احتلوا وسكنوا هذه البلاد بعد طرد أهلها والاستيلاء على أراضيهم وبيوتهم فإن التكوين العسكري لجيش دولة الاحتلال يجعل من سائر مواطنيها مجندي احتياط. على أن الحركة وجناحها العسكري عمدت إلى تجنب استهداف أولئك "المدنيين" عمليا ضمن تطور ونضوج عمليات المقاومة والقدرة على تحديد الأهداف العسكرية، وهي سياسة مفيدة على المستوى السياسي والإعلامي، وهذا الالتزام العملي دون الإعلان عنه كمبدأ أو التزامه كموقف يجعل من هؤلاء "المدنيين" ورقة ضغط.
ومن أبرز المواقف الثورية في تجربة حماس عملية الحسم العسكري في قطاع غزة، والذي كان منعطفا تاريخيا في مسار القضية الفلسطينية، ذلك أنه حجر الأساس في تحويل قطاع غزة إلى قلعة منيعة للمقاومة، وما كان بالإمكان أن يتحقق شيء من الإنجاز العسكري الكبير إذا بقيت أجهزة الأمن الفتحاوية التي تمثل شبكات تجسس إسرائيلية متقدمة فضلا عن مجهودها الضخم في إجهاض العمل المقاوم. ولو لم يكن الحسم العسكري على يد حماس فإن حسما عسكريا كان سيكون على يد السلطة الفتحاوية لا ريب في ذلككذلك من أبرز المواقف الثورية في تجربة حماس هو وقوفها إلى جوار الشعب الثوري في ثورته المشهودة، واضطرار مكتبها السياسي لمغادرة دمشق تبعا لهذا الموقف، وهو ما تأثرت به علاقتها مع الحليف الإيراني، وهذا من أثمن المواقف المشرفة لحركة حماس في وقتٍ لم يكن ليُغْتَفَر لها فيه الصمت والحياد فضلا عن مساندة النظام السوري، وهذا بالرغم من التبعات المتوقعة لهذا الموقف، وحاولت حماس اختطاط موقف توازن فيه بين علاقاتها بإيران وحزب الله من جهة، وعلى حاضنتها الشعبية الممتدة والمتعاطفة مع الثورة السورية خصوصا تجاه المذابح البشعة، ثم صار موقفها أكثر حرجا مع تعرض المخيمات الفلسطينية في سوريا لمذابح النظام واتخاذ منظمات فلسطينية (كالجبهة الشعبية – القيادة العامة) جانب النظام السوري، ثم ازداد الموقف حرجا بتحول الثورة السورية إلى الكفاح العسكري الذي برزت فيه الفصائل المتعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وعملت الآلة الإعلامية الدولية على توصيف المشهد باعتباره حربا أهلية أحد أطرافها الجماعات "الإرهابية" التي تنأى حماس عن أن توصف كمتعاطفة معها أو مرتبطة بها. لقد أدى هذا كله في ظرف تراجع موجة الثورات بالانقلاب العسكري في مصر إلى تراجعات متوازية في مواقف حماس، التي صارت أقرب إلى الصمت –إلا من تنديد بمذبحة هنا أو هناك- ثم بدأت تتالى تصريحات مسؤوليها التي تحاول إعادة ترميم العلاقات بينهم وبين النظام السوري، وقد كانت هذه العودة جزءا من عودة محاور ما قبل الثورات في المنطقة العربية التي تستعيد انقسامها إلى محور اعتدال مقابل محور ممانعةومن أهم المواقف الثورية لحماس هو موقفها من إيران، فبالرغم من الضغوط الكثيرة عليها لكي تفصم العلاقة مع إيران إلا أنها لم تفعل، وهذا موقف تُحْمَد عليه أيضا، إذ يجب أن لا ترهن حركة المقاومة نفسها ضمن معادلة إقليمية أو دولية ما تلبث أن تتغير، ولا أن تتخلى عن حليف مهموقد استفادت حماس من هذا الجانب الثوري من سياستها بقاءها في خط المقاومة وصمودها الذي خالفت به تقديرات "الخبراء والمحللين" السياسيينكذلك استفادت حماس من بقاء قرارها غير مرتهن لمحاور إقليمية، وتسليم الحلفاء بأنهم لا يتعاملون مع ورقة يتحكمون فيها ويصنعون سياستها.
وأهم هذه المكاسب قاطبة هي تحول غزة الصغيرة المتكدسة إلى قلعة منيعة للمقاومة، تعجز إسرائيل عن اجتياحها عبر أربعة حروب كلٌّ منها أكبر وأخطر من سابقتها، وهي التي استطاعت اجتياح أربعة دول عربية ذات جيوش نظامية في ساعات وأيام عبر تاريخها منذ نشأت، وبهذا تكون غزة قد حققت في مواجهة إسرائيل ما لم يتحقق في تاريخ المقاومة العربية الصهيونية منذ بدايته، ولم يكن هذا ليتم لولا انفراد حركات المقاومة بالحكم في غزة وبناء أجهزتها وشبكاتها الأمنية وأجنحتها العسكرية وفق العقيدة القتالية الإسلامية.
الخاتمة
تقر أدبيات حماس منذ ميثاقها الأول (1988م) وحتى لحظة كتابة هذه السطور أن حل القضية الفلسطينية هو مسؤولية لا ينفرد الفلسطينيون بحملها وإنما تقع أيضا على عاتق الأمة العربية والإسلاميةكان حريا بهذا المسار أن يدفع حركة حماس إلى التخلي عن سياستها هذه، مهما كان هذا التخلي حذرا وتدريجيا وسريا، لتتمسك بفرصة الثورات العربية فتعمل ما في وسعها لدعم الساحتين المصرية والسورية على وجه التحديد، والمصرية على وجه أخص، وكان يجب ألا يُكتفى بالتعويل على جهود الإخوان فحسب لا سيما بعد أن أظهروا ضعفا وترددا غريبا في السيطرة على مقاليد الأمور، ثم كان يجب ألا يُستسلم تجاه وقوع الانقلاب العسكري في مصر باعتباره شأنا مصريا.
وتعد المطالبة بمراجعة هذه السياسة هي الخلاصة الأساسية لهذه الورقة، إذ مهما أبدى الغزيون من البسالة والصمود فإنهم في هذا الضيق الجغرافي وتحت هذه الضغوط لا يملكون مفاتيح تغيير المشهد الذي يمكن له أن يتغير وينفتح على خيارات أخرى بتحول الأوضاع في القاهرة، مما يفرض على حركة المقاومة المعنية أن تفكر في هذا حتى لو لم تكن متضررة بشكل مباشر من سياسات النظام المصري، فكيف إذا كان الضرر الواقع عليها مباشرا وفادحا بل هو من أهم أولويات ومهمات ووظائف هذا النظام؟!
وبعد هذه الخلاصة الأساسية يمكن تقديم بعض خلاصتين أخريين:
1. ضرورة توسيع المشاركة الشعبية في تحمل أعباء الإدارة والاستفادة من قوى الروابط الاجتماعية: العائلية والجغرافية والتشجيع المستمر للمبادرات الفردية والأفكار المبدعة، فمن شأن هذا كله أن يخفف من أعباء الإدارة عن كاهل الحركة، وهذا التوجه يتأسس على إدراك أن الحداثة ونمط الدولة المركزية ليس مناسبا في عالمنا العربي والإسلامي، على الأقل هو غير مناسب تحت سلطة احتلال أجنبي متفوق وفي وضع مختنق، ومن ثم فينبغي أن تتوجه الجهود الفكرية والعلمية في الجامعة والمحاضن التعليمية والتربوية نحو نشر وتوثيق النمط المجتمعي التكافلي الذي يطلق طاقة المجتمع ويخفف الأحمال عن السلطة.
2. ينبغي لحماس ألا تتمسك بشرعيات مهترئة كما هو الحال في منظمة التحرير أو حتى شرعية السلطة الفلسطينية، فهذا ثقل إضافي يقيدها ويثقلها، بل ينبغي عليها هدم هذه الشرعيات ما استطاعت، مع التأسيس لشرعية شعبية أخرى أو لشرعية تنطلق من قيم الكفاح والجهاد، ويمكن أن تستلهم في هذا السبيل ما فعلته حركة فتح نفسها ضد منظمة التحرير الفلسطينية
وفي الختام نقول: هنيئا لحماس بهذه الأعوام الثلاثين، ونسأل الله تعالى أن تكون الثلاثون عاما القادمة هي أعوام العز والتمكين والنصر الكبير.
نشر في المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
Published on September 28, 2018 11:57
No comments have been added yet.