كيف تعرف المسلمون على الصين؟
ذكرنا في المقال السابق كيف بدأت العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية وإمبراطورية الصين، وفي هذا المقال سنرى ما هي المنافذ التي فتحت بين المسلمين والصين، وكيف تعرفوا عليها، وكيف تكونت صورتها في أذهانهم.
عمل التجاور بين الأمتين كواحد من أوسع منافذ الاتصال بين المسلمين والصينيين، وكان العنصر التركي واسطة كبرى بين الصينيين والمسلمين، فمن أسلم من الأتراك كان على اتصال مباشر بالصين جغرافيا، كما أن كثيرا من الأتراك انتقلوا إلى مركز الخلافة الإسلامية؛ فمنذ العصر الأموي تدفقت حركة الجواري والعبيد من بلاد الترك بأثر حركة الفتح الإسلامي، ثم ازداد الأمر قوة واتساعا عند نهاية عصر المأمون (الخليفة العباسي السابع) وأخيه المعتصم (الخليفة العباسي الثامن) حيث اعتمدت الدولة الإسلامية على العنصر التركي في قيادة الجيوش فاستكثرت من استجلاب الأتراك، وكان كثير من أمهات الخلفاء وزوجاتهن تركيات. فكان هذا من عوامل سعة التواصل الإسلامي الصيني، إذ أن كثيرا من هؤلاء كان يجاور الصين ويعرف لغتها وعاداتها.
لكننا نستطيع أن نعد ثلاثة من المنافذ الرئيسية الكبرى التي نقلت صورة الصين إلى المسلمين، تلك هي: التجارة، البحث العلمي، الرحلة.كان الخط البحري الرئيسي يمتد من سيراف، أهم المدن الساحلية الإسلامية، وينتهي إلى مدينة خانفو (كانتون، جوانج زو Guangzhou) الساحلية في الصين، وبقية المدن التجارية على الساحل هي في حكم المحطات الفرعية الخادمة لهذا الخط الرئيسي. وحفلت تلك المدن بالحركة التجارية حتى قيل في شأن ميناء عدن "لا يخلو أسبوع من عدّة سفن وتجّار واردين عليها (عدن)"وفي مدينة خانفو تكونت جالية إسلامية كبيرة من التجار وأصحاب الأموال وَجَدَتْ رعاية ومعاملة ممتازة من ملوك الصين، فالبضائع تُحمل إلى ملك الصين فما أعجبه منها أخذه بضعف الثمن في أقصر وقت ولم يظلم فيه، ويدفع التاجر ضريبة مقابل تكفل الدولة بحفظ ماله، وفوق ما لهم من الحقوق المكفولة للتجار كان لهم رئيس مسلم مُفوض من قبل ملك الصين فيحكم بين المسلمين بشريعتهم، ويخطب فيهم الجمعة، ويصلي بهم العيد، ويدعو للخليفة العباسيأسهم جميع هذا في ازدهار التجارة الإسلامية الصينية عبر الطريق البحري الذي ظل مستمرا حتى ظهور فاسكو دوجاما ودخول البرتغاليين على خط الاحتلال مع عصر الكشوف الجغرافية في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ولا تزال كثير من آثار السفن الغارقة أمام السواحل الممتدة بين اليمن والصين تشهد للثراء التجاري لهذا الخط البحري، وهي تمثل منجما للأثريين والباحثين في هذا البابأسفرت معركة طلخ (طالس) عن 1500 أسير صيني حُمِلوا إلى الكوفة، وظلوا بها أحد عشر عاما، علموا فيها المسلمين كثيرا من الصناعات، وقد ذكر الأسير الصيني (دو هوان) أنهم علموا المسلمين المنسوجات الحريرية وصناعة الورق والنقش على الذهب وعلى الخزف الصيني. وكان المعتصم معجبا بالمصنوعات الصينية فوَجَّهَ الصُنَّاع إلى تقليدها، فتعلموا طلاء الأواني بعجينة بيضاء مزخرفة تشبه الخزف الصيني، وهو ما مَكَّنهم من صناعة مواد عازلة استفادوا منها في صناعة الأدوية، وفي تصديرها إلى مناطق بعيدة وصلت حتى هولندا ولندن، حيث اكتشف في لندن ثمان جرار آتية من دمشقلم يكن أولئك الأسرى أول اتصال علمي بالصين، فالنهضة العلمية التي بزغت منذ العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي بلغت شمسها الصين بطرق متعددة، إذ حضرت الصين في التراث العلمي الإسلامي على تنوع مجالاته: فنجد للصين حضورا في كتب الأدب والشعر والجغرافيا والتاريخ والأديان والملل والنحل والفلسفة والرحلات والسياسة (أدب الملوك) وطبقات الأمم، بل وفي كتب النبات التي تستكشف عالم النبات وأدويته ومنابته وكتب الحيوان التب تبحث أنواعه وتوزعها وطرائق معيشته وطباعه.
ويبدو طبيعيا لأمة تجاور الصين أن تفيد من تراثها، فلقد " كان العلم يثب على قدميه وثبا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي"وقد نقل المسلمون عن الصين إلى سائر العالم صناعة الورق، وأصلها من أسرى صينيين بسمرقندأقدم رحلة في المصادر المتاحة هي وصول المسلمين إلى بلاد الصنف (فيتنام)، وهي داخلة في بلاد الصين عند الجغرافيين والرحالة المسلمين، في عهد عثمان رضي الله عنه، وإليها التجأ العلويون الفارون من سطوة الحجاج الثقفي في زمن الدولة الأمويةوكان الخليفة العباسي الواثق بالله من محبي الاستكشاف، فأرسل سلام الترجمان في رحلة ليستطلع له موضع السد الذي بناه ذو القرنين حاجزا على يأجوج ومأجوج، وكان المسلمون يظنون أنه بعد بلاد الصين، وكان سلام يجيد فيما يزعمون ثلاثين لغة، وزعم أنه وصل إلى موضع السد ووصفه، والأغلب أنه وصف شيئا رآه من حصون الممالك والحضارات القديمة على أنه السد المطلوبثم تبدأ صورة واضحة عن الصين برحلة ابن وهب القرشي، وكانت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وهو رجل ركب مع التجار إلى الصين، وهناك أصر على لقاء ملكها متذرعا إلى ذلك بأنه ابن عم نبي العرب، فتحقق ملك الصين من صدق ادعائه بسؤال التجار العرب في خانفو (كانتون)، ثم سمح له بلقائه، وجرت بينهما محاورة طويلة جرى فيها ذكر الأنبياء وأخبارهم، ونقل ابن وهب براعة الصينيين في الرسم والتصوير حيث عرضوا عليه رسوما للأنبياء تصور أحوالهم: موسى (عليه السلام) وعصاه مع بني إسرائيل في البحر، وعيسى (عليه السلام) مع حوارييه على البغلة، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) في لباس العرب وعلى الإبل. وكثير من تفاصيل رواية القرشي عضدتها الرحلات التاليةوقد وصل الرحالة الأشهر ابن بطوطة إلى الصين كسفير من سلطان الهند، ووصف كثيرا من أحوالها ومشاهدها، وبرغم قيمتها المهمة إلا أنه شوهها ما وقع فيها من مبالغات وأساطير، وقد اختلف الباحثون حول كونها أساطير نسبها ابن بطوطة لمشاهداته أو هو من خلط واختصار ابن جزي كاتب رحلتهوثمة العديد من الرحلات لم يكتب لنا معرفة شيء عنها كرحلة الرحالة العماني أبو أبايضة الصغير في القرن الثالث الهجريوأسهمت تلك الرحلات في تطور العلم والمعرفة فما من شك في أن المسلمين ساهموا في تعريف بالشرق الأقصى وأفريقية، فضلا عن آفاق دولتهم المتراخية؛ فالرومان كانوا يتخيلون وجود الصين، ولكن الرحالة المسلمين عرفوها وكتبوا عنها منذ بداءة العصور الوسطى أخبارا أيدتها رحلة ماركوبولو البندقي في القرن الثالث عشر الميلادي"نشر في مدونات الجزيرة
Published on May 09, 2018 04:25
No comments have been added yet.