أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة (2) رحلتان إلى مصر


ذكرنا في المقال السابق أن الحداثة برغم ما تلاقيه من نقد في الغرب إلا أنها تُقابَل بالتسليم في عالمنا العربي، ويسود الاعتقاد بأن عصور الحداثة هي بالضرورة أفضل من عصور ما قبلها، وأن الأوطان مع الحداثة تتقدم وتتطور وتزدهر. وفي إطار تفنيد هذه الصورة الخادعة نحاول في سلسلة المقالات هذه أن نرى أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة من خلال مصادر تاريخية جديدة، تلك هي الرحلات التي سجلها غربيون تمكنوا من الوصول إلى الحج ومرُّوا في طريقهم بمصر فكتبوا عن أحوالها، واخترنا من بين تلك الرحلات رحلتي جوزيف بتس وريتشارد بيرتون، ويفصل بينهما قرنان من الزمان، وكانت الثانية منهما بعد عصر محمد علي مباشرة في زمن ابنه سعيد باشا.
في هذا المقال نلقي نظرة على الرحلتين والفوارق بينهما:
الموضوعية والذاتية
كانت رحلة بتس أكثر موضوعية بينما رحلة بيرتون أكثر ذاتية، فالأول يصف المدينة وآثارها والبحر والنهر والأهرام والأسماك والطيور والبط الذي يسبح في النيل وكيف يُصاد والخانات والأزياء والأسواق والبضائع والمباني وقطعان الماعز التي تدخل القاهرة وصاحبها الذي يحلبها مباشرة لمن يشتري منه اللبن كدليل على أنه لبن طازج وآبار المياه وكيف يُسحب منها الماء بالسواقي التي تجرها الثيران، يصف بتس كل هذا وَصْفَ المُشاهد المحايد الذي يرسم صورة موضوعية لما يراهبينما الثاني يصف مشاعره ووقع المشاهد على نفسه ويمزج الصورة الخارجية بانعكاسها في نفسه وما يؤلفه خياله منها، لذا تأتي عباراته في الوصف على هذا النحو: "لنستمتع بالمشهد"، "فيعطي سحرا وفتنة تعجز اللغة في التعبير عنهما"، "كأنما كنا نستقبل هذا القفر بودٍّ شديد"، "وكأنها أرواح سلاطين تحرس رعايا من الأشباح في سلطنة من ظلال"، "الحرارة المنعكسة تصفعنا بشكل محسوس والوهج المنبعث من حصباء الطريق يكيل لنا مزيدا من الحرارة"... وهكذاسائح ومستعمر
وفيما كانت رحلة بتس رحلة سائح يصف ناظرا ومشاهدا، كانت في رحلة بيرتون لهجة استعلاء على الشرقيينانفرادات الرحلتين
وحيث كانت رحلة بيرتون أكثر توسعا وتفصيلا فقد انفرد فيها بأشياء كثيرة لم يأت بتس على ذكرها مطلقا، فمن ذلك حديثه عن البقشيش وتدخين الشيشة والقهوة، وعن الدراويش والسحرة، والمذاهب الفقهية، وشهر رمضان واحتفالات العيد، وعن كرم الضيافة، وأنواع الخدم وصفاتهم، وعن العطارين وطلب العلم، وعن الطب وممارسته والمرضى وأحوالهم وتعاملهم مع الطبيب ونظرة الناس إلى الطب الأوروبي وكيف يحتقرونه مقابل تقديرهم للطب الهندي والصيني، ونظرتهم وعلاقتهم مع العجم (الذين هم: الفرس الشيعة) وكيف تعودوا على التقية وإخفاء حقيقة آرائهم وكيف يفهم المصريون هذا عنهم، وشهد بيرتون تنادي الناس بالجهاد ضد الروس في حرب القرم وهو مشهد لم يرد مثله عند بتسومع هذا فأن الاختصار الشديد في رحلة بتس والتوسع في رحلة بيرتون لم يمنع أن ينفرد بتس بذكر أمور لم يذكرها بيرتون كحديثه عن الخصيان وهطول الأمطار –مصححا بذلك خطأ شائعا في وقته عن قلة الأمطار في مصر- والفيضان السنوي للنيل وأثره في الزراعة، والوصف الجغرافي لمصب النيل ورسو السفنلكن أهم ما يفرق بين الرحلتين هو آثار "التحديث" التي تبدو في رحلة بيرتون، فعلى غير ما يبدو للوهلة الأولى من أن التحديث عاد على البلاد بالقوة والرفاه والاستقلالية، نجد أن التحديث الذي أسس له محمد علي عاد بمزيد من الضعف السياسي والتبعية للغرب، ولم تكن القوانين في مصلحة الشعب بل في مصلحة تقوية السلطة ونفوذ الأجانب، فزاد بطش السلطة وتغولها، وتقوض الأمان الاجتماعي إذ صارت السلطة مصدر رعب بانتهاجها أسلوب خطف الشباب والرجال للتجنيد، وفرضها حظرا للتجوال ليلا لمحاصرة أي ردود فعل شعبية، ، كما لم توفر مؤسسة الشرطة الحديثة أمنا من اللصوص بل كان الخوف والتحرز منهم قائما، كذلك فقد أهملت أوضاع المساجد باستيلاء الدولة على أوقافها، وكُسِرت القبائل والزعامات الأهلية، ولم تتحقق العدالة بنظام التقاضي الجديد بل صار يعاني من البطء الشديد، ولم توفر الإدارة الحديثة تسهيلات في الخدمات العامة بل غلب الكسل على الموظفين وتلقي الرشا لضعف –أو انعدام- جهة الرقابة، وتعقدت أمور أخرى كإجراءات السفر والحصول على تذكرة.. إلى غير هذا من المظاهر السلبية التي ترصدها بوضوح رحلة بيرتونفي المقال القادم إن شاء الله ننظر ونقارن بين أوضاع مصر: أهلها ومساجدها والأجانب فيها وأسواقها وتعامل الشرطة مع الناس وغيرها.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية - العدد 2120، رمضان 1439هـ = يونيو 2018

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 17, 2018 15:11
No comments have been added yet.