محمد إلهامي's Blog, page 92
August 20, 2011
الإسلاميون أمل الوطن!
في اللحظات الفارقة يجب أن نضع أنفسنا أمام الحقائق..
الوضع في مصر الآن جد مقلق، والمسؤولية تقع على عاتق الإسلاميين بشكل أساسي لأكثر من سبب؛ منها أنهم القوة الحقيقية الوحيدة في مصر، ومنها أن مبارك إن كان انتصر على الثورة وأخمدها لكانوا هم أول ضحاياها، وهو الحال نفسه إن فشلت هذه الثورة، وساعتها سيكون الذي تغير هو اسم المستبد فحسب، وعلى المستبد الجديد أن يسحق الإسلاميين مرة أخرى ليستقر له كرسي الحكم.
لا مجال لأنصاف الثورات، إما انتقال ديمقراطي يدخل بالبلاد في مرحلة جديدة، وإما انتكاسة جديدة تصاف إلى رصيد ثوراتنا المسروقة وأعمارنا المسحوقة وأمتنا التي تدفع الثمن من دمائها وأموالها وأبنائها ومقدساتها.
***
خاطرة رمضانية لاحت لي قبل سنوات تقول الآتي:
لقد امتن الله على هذه الأمة أن جعل لها مواسم خير تنقلب فيها حياتها، وذلك كي لا يحدث لهم ما أصاب بني إسرائيل، فبنو إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون).
وفي هذه المواسم نفحات ربانية تستطيع غسل القلوب وإحيائها كما تحيا الأرض الميتة (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها، قد بيَّنَّا لكم الآيات لعلكم تعقلون).
هذه النفحات عبر عنها الحديث الشريف (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).. ذلك أن الصلوات بمثابة التوقف اليومي من بين الحياة المادية المرهقة فتحفظ حياة الإنسان من سيطرة المادية القاسية وتفك ارتباطه بالدنيا، وكذلك الجمعة التي تعد وقفة أسبوعية، وكذلك رمضان الذي يعد وقفة سنوية طويلة نوعا ما، يستهدف أن يخرج الإنسان به من ذنوبه كلها ليدخل عاما جديدا بروح جديدة!
بهذه المواسم حفظ الله لهذه الأمة حيويتها وتجددها، ومنعها من الدخول في طول الأمد الذي يقسو به القلب، وتنكسر فيه النفس!
***
لقد كانت مصيبة بني إسرائيل عظيمة جدا، فأولئك القوم قد انكسرت نفوسهم وأرواحهم من ظلم فرعون وقهره حتى ما عادوا يملكون الأمل ولا الثقة في النفس ولا يفكرون في المقاومة، وقد كان هذا يغري فرعون بالمزيد والمزيد.. حتى إنه لما قتل أبناءهم استسلموا لهذا فلم يثوروا ولم يقاوموا بل قدموا أبناءهم للذبح، وكانت حسرة القلب أهون عليهم من مقاومة الظلم.
على أن القصة لم تنته هاهنا، بل ما زالت فصولها تأتي بالأعاجيب..
لقد ظهر موسى محررا منتظرا وقائدا مخلصا ورجلا كبيرا وقف في مواجهة فرعون، فلم يؤمن معه إلا مجموعة من الشباب الذين لم تهزم نفوسهم طول الحياة في الظلم وكانوا على استعداد لمواجهة الخوف (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم).
ثم كانت ذروة الدهشة حين أنجاهم الله بمعجزة خارقة رهيبة هائلة، لقد انشق لهم البحر جسرا صلبا من تلقاء نفسه حتى عبروا ثم عاد إلى طبيعته المائية فأغرق فرعون وجيشه، وكل هذا أمام عيونهم المبصرة، لقد كانت لحظة كونية كبرى إذ تتغير قوانين الدنيا ليغرق الجبار الأعظم في الأرض، ولتنهار أسطورة فرعون الذي حكم البلاد أكثر من ستين سنة فبدا وكأنه لا يموت ولا يهلك ولا ينهار حتى قال (أنا ربكم الأعلى).
إلا أن النفوس التي طال عليها أمد القهر والظلم والخوف وتعظيم غير الله، ما كادوا يخرجون من هذا المشهد الهائل حتى عبروا على قوم يعبدون أصناما من البقر، فقالوا.. وأمسك قلبك (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة).
وكل علامات الدهشة والذهول لا تكفي لتفسير الموقف، إنهم يطلبون صنما يعبدونه وهم الذين رأوا معجزة كونية صارخة قبل قليل!! وعلى رغم أن موسى قد نهرهم إلا أنه ما كاد يتركهم للقاء ربه حتى عاد إليهم فوجدهم قد صنعوا عجلا وعبدوه!! وقد عبدوه عبادة مخلص له متمسك به حتى كادوا أن يقتلوا هارون (نائب موسى- عليهما السلام) في سبيل عبادة العجل!!
هذا هو ما يفعله طول الأمد!! تنتصر النفس على العقل، وتنهزم الروح أمام العادة، ومهما ظهرت المعجزات والخوارق فإن القناعات العقلية تظل على حالها كأنما لم تر معجزة قط!!
***
نعوذ بالله أن نكون كبني إسرائيل، ولكن.. هل طال علينا أمد الظلم والقهر والسجون والمعتقلات؟ فصرنا لا نستطيع التفكير والتفاعل مع جو الانفتاح!
أين الروح الثورية الإسلامية، وهم أحق بها وأهلها؟
ولماذا يمتلك الإسلاميون هذه الطاقة البشرية الهائلة التي تربت على التضيحة والفداء بل والشهادة في سبيل الله، ثم هم لا يصنعون شيئا، ولا يزالون في خانة المنتظر المترقب المتمني.. ولا أحب أن أقول في خانة المفعول به؟؟
لو أن شابا من حركات الثورة مثل 6 إبريل أو غيرها كان يمتلك تحريك الطاقة البشرية التي يملكها الإسلاميون لكان هو رئيس مصر بلا منافس ولا منازع، غير أنهم يملكون طاقة ثورية تخونها الطاقة البشرية، فيم يملك الإسلاميون طاقة بشرية تعوزها طاقة ثورية!
لست أحب أن أرمي قيادات العمل الإسلامي بما يسوء، وأعلم أن فيهم من يستحق، غير أن خلوّ هذه القيادات من الشباب شيء مؤسف، وهو يوحي بأن طول الأمد قد يكون ترك آثارا في النفس والروح تمنع من استثمار الحالة الثورية والتقاط اللحظة الراهنة للدخول بالبلاد إلى تحول ديمقراطي حقيقي يمتلك الشعب فيه حرية التعيين والمحاسبة والعزل!
ما زال يسيطر عليهم الخوف من الإعلام والرد عليه وتفويت الفرص على من يريد بهم شرا، وما زال يرعبهم ألفاظ "الصدام والمواجهة" وما زالوا ينفرون من محاولات "تريد الوقيعة بين الجيش والإسلاميين".. ولو أنهم أبصروا لعلموا أنها ليست مؤامرة ولا محاولة وقيعة.. بل إن الذي يحدث الآن يثبت أنهم يُدفعون نحو القبول بما هو مطروح وإلا فالتهديد بالعودة إلى السجون والمعتقلات قائم مطروح!
يجب أن ننطلق من أن هذا العهد القديم كان وانتهى، وأن دون رجوعه مرة أخرى أن نذهب جميعا شهداء، وأن إقرار الحرية في هذا الوطن قصة حياة أو موت، وإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا! وأن احتمال العودة إلى السلطة التي تملك أكثر مما يجب فتتجاوز في الحكم والحق إلى البغي والجور هو احتمال مستحيل إلا أن نفنى من هذه الدنيا!
إن واجب الوطن والأمة بل والإنسانية تقتضي أن تخرج مصر من مرحلة التيه والظلام والظلم هذه إلى مرحلة الحرية والعدل واحترام الحقوق، وهذا الواجب هو مقدمة كل الواجبات الأخرى، أو هو واجب الوقت، والتنازل عنه يعني انتهاء الأمل والقدرة لهذا الجيل وانتظار نصف قرن آخر يكون قد طال الأمد فيها مرة أخرى على الأبناء والأحفاد.
إن حياتنا الحقيقية ليست في هذه الدنيا.. بل هي في الآخرة، ولا حاجة بنا إلى حياة نؤثر فيها الهدوء حتى تسال الدماء في السجون والمعتقلات والحروب المزاجية كما حدث في عهد عبد الناصر، وهو العهد الذي جدد الظلام ستين سنة حتى ظهر شباب لم تعتد نفوسهم طول أمد الظلم فثاروا.. هؤلاء الشباب لا طاقة بهم وحدهم على إحداث هذا التغير، وما لم تنزل الحركة الإسلامية بثقلها وراء مطالب الحرية وإنجاز مهمات الثورة فهو العار الكبير الكبير الكبير!!
***
(وكأيِّن من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)
(الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)
نشر في: شبكة رصد الإخبارية
August 16, 2011
قصة كتاب "بحرية" من تراثنا الجغرافي البحري
ذلك هو كتاب "بحرية" الذي يعد موسوعة جغرافية بحرية فريدة، ومؤلفه هو محيي الدين بيري ريس (أو رئيس)، قائد الأسطول العثماني في عصره، وهو في ذات الوقت علامة البحر والجغرافيا، وهو الذي رسم أقدم خريطة معروفة للأمريكتين.
ولولا أن وصلتنا هذه الأعمال من تراث بيري ريس لما كان لهذا الرجل الكبير ذكر في التاريخ، فإن صفحات التاريخ التي وصلتنا تجاهلت ذكر هذا الرجل إلا من شذرات لا تكاد تشفي أدنى درجات المعرفة. فاستدركت أعماله العلمية ما فات صفحات التاريخ وأكملت قدرًا مهمًّا من صورة الرجل.
ومن أسف فإن بيري ريس لا يزال في حكم المجهول، وكثيرًا ما تخيب ظنونك إذا طالعت التآليف التي يفترض أنها مظان الحديث عنه، فعلى سبيل المثال يختفي بيري ريس من كتاب "الجغرافيا عند المسلمين" لجمال الفندي، ومن كتاب "رواد علم الجغرافيا في الحضارة العربية والإسلامية" للدكتور علي عبد الله الدفاع مع ما هو مشهور عنه من تقصٍ وحماسة لعلوم الحضارة الإسلامية، ومن كتاب "علماء العرب وما أعطوه للحضارة" للدكتور قدري طوقان وهو من رواد الكشف عن الكنوز العلمية في التراث الإسلامي، ومن كتاب "أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم"
August 13, 2011
بيان الحكومة ضد الثورة!
البيان الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ (11/8/2011) كان صادما للغاية، فهو من ناحية كان نذير حرب تصدره السلطات على فصيل بعينه، وهو الفصيل الإسلامي. وهو من ناحية أخرى بدا وكأنه بيان صادر عن حزب منافس لا عن حكومة يفترض أنها فوق الفصائل. وهو من ناحية ثالثة بيان يتجاوز كون هذه الحكومة حكومة تسيير أعمال مؤقتة، فهي تعطي لنفسها صلاحيات أخرى، مما يوحي بأن مدتها ستطول، وهو ما يعني في النهاية أنها ضربة جديدة لمسار التحول الديمقراطي في مصر.
***
بدأ الهجوم من السطر الأول في البيان الذي صرح بأنه صادر بخصوص ما أثاره الإعلام (ويسميه: "الساحة الوطنية") عن مليونية الإرادة الشعبية في 27/9، وتحدث عن اللافتات والشعارات "البعيدة عن روح الثورة"، ومحاولات "البعض التفرد بالساحة"!!
ثم يوضح المجلس موقفه من هذا بالرفض الكامل، ويؤكد على "انحيازه التام إلى تأكيد الهوية المصرية المرتكزة إلى تماسك النسيج الوطني للمصريين جميعاً يعيشون في ظل دولة ذات طبيعة مدنية أساسها الدستور وسيادة القانون والمساواة بين جميع أبناء الوطن، ودعائمها المواطنة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان".
وحيث أن المجلس قد عبر عن هذا الانحياز في إطار الرفض لما تم، فهو يسبغ على الإسلاميين أنهم ضد كل هذه المبادئ، ومن ثم فهو يقول صراحة بأن الإسلاميين يريدونها دولة بهوية غير مصرية لا تحفل بتماسك النسيح الوطني وتؤسس لدولة ثيوقراطية –بالمعني الغربي في العصور الوسطى- ولا يهمها سيادة القانون ولا المساواة، ولا تلقي بالا للمواطنة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان.
إنها ذات الثنائية التي يطرحها بغباء عميق – أو استغباء ماكر- فريق الإعلام العلماني من خلال صحافته وإعلامه، وهو الفريق الذي انتقل بعض أعضائه إلى مجلس الوزراء الذي لم يتسع لصوت إسلامي واحد!!
***
ثم تحدث المجلس عن بعض "إنجازاته" التي لسنا في معرض تقييمها الآن، ولكن المقطوع به أن لهجة الحديث عنها هي ذات لهجة صفوت الشريف أيام كان وزيرا للإعلام! ولا ينسى المجلس أن يحدث المصريين عن ترك التظاهرات والاعتصامات والانصراف إلى العمل!! هذا على رغم أن هذا المجلس نفسه لم يأتِ إلى مكانه هذا إلا كنتيجة للمظاهرات والاعتصامات!!
ما كنا نتوقع هذا العقوق المبكر للتظاهرات والاعتصامات بمجرد الجلوس على كرسي الوزارة.. إن هذه التحولات في خلال الأيام هي أكبر ما يثبت ضرورة التحول لحالة ديمقراطية يعرف فيها المسؤول أنه يجب أن يغازل الشعب لا السلطة الحاكمة!
***
ثم يعود المجلس ليؤكد تمسكه بفكرة المبادئ فوق الدستورية والتي يريد المجلس أن تكون معبرة "عن توافق الشعب كله على أن يحقق نظاماً ديموقراطياً يؤكد حقوق الإنسان المصري ويضمن مدنية الدولة وسيادة القانون والتوازن بين السلطات، ويوفر ضمانات تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وصيانة القيم وتأكيد أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع وأن الشرائع السماوية للمصريين من غير المسلمين هي المرجعية فيما يخص أحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية".
والقول بهذا لا معنى له إلا أن الخوف من أن الاختيار الشعبي الحر النزيه لن يؤدي إلى كل هذه القيم، بل سيؤسس لنظام حكم ديكتاتوري دموي عنصري لا يهمه تكافؤ الفرص ولا العدالة الاجتماعية ولا خقوق الأقليات.
على أية حال يجدر أن نؤكد هنا: أن الذي يضع وثيقة فوق دستورية، يمكنها بكل بساطة أن "يبلها ويشرب ميتها" كما يقول المثل المصري، وأن هذه الحكومة بكل أعضائها، لا تتمتع بأي شرعية شعبية لا هي ولا المجلس العسكري الذي عينها، وشرعية المجلس العسكري متوقفة فقط على إدارة المرحلة الانتقالية وأي تجاوز لصلاحيات إدارة هذه الفترة فلا شرعية لها، كذلك فإن اللجنة التأسيسية التي تضع الدستور ستكون لجنة منتخبة تعرف أنها تمثل الشعب وأنها تعلو على إرادات الحكومة والعسكر، ولا يحتاج أفرادها إلا للحد الأدنى من الشجاعة لإلقاء كل مبادئ طرحها أحد في أقرب مزبلة.
***
على أننا نعرف أيضا أن الحكومة لا تفعل هذا من تلقاء نفسها، وأنه لابد من وجود ضوء أخضر من المجلس العسكري، ومن يحسنون الظن بالمجلس العسكري يقولون بأنه لا يريد رئيسا مثل مبارك أو أسوأ منه يحاول مرة أخرى تغيير عقيدة الجيش المصري وهيكلته لتحويله من جيش نظامي إلى وحدات مهمتها مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي كشفت بعض تسريبات ويكيليكس أن الجيش المصري ظل رافضا له ومتحديا مبارك وأمريكا وإسرائيل. ولعل المجلس يخشى من شخصية كالبرادعي الذي صرح للأهرام في حوار قبل شهور بقريب من هذا!
فإذا كان هذا الظن هو الحقيقة، فنحن نطمئن المجلس بأن الشعب المصري مخلص لنفسه ولقضيته ولوجوده، وأنه لا يمكن أن يفرز هذا الشعب عبر اختيار حر نزيه عن مرشح له رؤية تتوافق مع الأمريكان أو غيرهم! ويصعب جدا الظن بأنهم لا يعرفون هذا!
على أن الظن الآخر موجود، وهو أن المجلس العسكري يريد أن يكرر تجارب تركيا والجزائر، وأن يكون سلطة فوق الدولة ووصيا عليها، وهو الأمر الذي لا يخشاه الإسلاميون فحسب بل يخشاه كل مخلص للوطن، ذلك أن تجارب البلاد التي يحكمها العسكر كلها سيئة السمعة، من أقصى الغرب في أمريكا اللاتينية حتى أقصى الشرق في كوريا الشمالية مرورا بالعالم العربي وبلدان وسط آسيا وأدغال إفريقيا!
***
بقي الجزء الأخطر في هذا البيان، وهو ما يؤشر لقتل الثورة كلها، وهو الجديد الذي لم يطرحه أحد قبل ذلك.. فالحكومة تؤكد على "ضرورة التزام الأحزاب السياسية بالشروط الواردة في قانون الأحزاب وخاصة عدم قيام الحزب في مبادئه أو برامجه أو في مباشرة نشاطه أو في اختيار قياداته أو أعضائه على أساس ديني، أو طبقي، أو طائفي، أو فئوي، أو جغرافي، أو بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة. وسيعمل المجلس على متابعة مدى التزام الأحزاب بتلك الشروط لضمان سلامة الممارسة السياسية في مرحلة بناء الديمقراطية".
وبعد ترك هذه الوسوسات وسجعات الكُهَّان فإن المقصود منها بصريح العبارة هي الأحزاب الإسلامية، وإعطاء الحكومة لنفسها صلاحية متابعة الأحزاب وتحديد مدى التزامها بالشروط الواردة في قانون هو أصلا مجرد قانون لفترة انتقالية صدر عن غير شرعية شعبية- إعطاء الحكومة لنفسها هذه الصلاحية يعني أنها تعيد إنتاج لجنة شؤون الأحزاب التي رأسها صفوت الشريف غير المأسوف عليه!
وهذا يعني أن تتدخل الحكومة، ومعها الأجهزة الأمنية الخفية، كما كان يحدث في السابق تماما، لمحاولة صناعة أي مشكلة في أي حزب ثم يتم تجميده أو قل: تفجيره فعليا، وإنهاء وجوده.
هذه الفقرة الأخطر يمكن أن تنسحب على كل الأحزاب الموجودة، وبالذات تلك التي تريد أن تمتلك حرية حقيقية وتعبر عن معارضة حقيقية، فيما لن يستفيد منها إلا من تعودوا على المعارضة الأليفة أو أولئك الذين أنشأوا أحزابا لأغراض أخرى غير مصلحة الوطن مثل المظهر الإعلامي أو تلقي التمويلات أو ما إلى ذلك.. فأولئك سترضى الحكومة عنهم وترضيهم!
***
ربما يكون عصام شرف قد خان الثورة، وربما يكون لا حول له ولا قوة.. ربما يكون هو الفاعل وربما يكون المفعول به.. إلا أن لنا الظاهر، ولن نفتش في هذه الخفايا، فإن كان فاعلا فهو المستحق للنقد والهجوم وإن كان مفعولا به فلقد رضي أن يبقى في هذا الموقع، ولا يلومن إلا نفسه.
إن الوجوه الوادعة واللهجة الهادئة والكلمات المتلعثمة هي أمور لا تعفي أحدا من المسؤولية لا سيما إذا كان الموضوع هو الوطن.
نشر في: شبكة رصد الإخبارية
August 12, 2011
الإسلاميون.. ينتظرون!!
ما هو الوطن الذي يريده الإسلاميون؟!
يبدو السؤال ساذجا، وتبدو الإجابة واضحة: الوطن الذي تطبق فيه شريعة الله، أوبعبارة أخرى: الوطن الذي يملك أبناءه حقهم وحريتهم وإرادتهم ويعبرون عن آرائهم دون خوف أو رعب أو سجون أو تعذيب.
حسنا، فماذا يفعلون من أجل الوصول إلى هذا الوطن؟
لست أرى شيئا غير أنهم.. ينتظرون، ينتظرون، ينتظرون..
ما الذي غَرَّهم يا ترى؟
أهي الثقة في أناس هم في أحسن الأحوال كان الشيطان الأخرس طوال العقود الماضية؟ أم هي الخطوات التي تحققت على طريق التحول الديمقراطي؟ لو أن ثمة خطوة واحدة عملية قد حدثت لكنا أكثر اطمئنانا وأقل خوفا، ولكنهم لا يفعلون غير أن يطالبوننا بثقة لا يستحقونها وبانتظار قد يكلفنا نصف قرن آخر في أقل تقدير!!
ما الذي فعله المجلس العسكري حتى الآن يثير الاطمئنان؟ وأقصد الاطمئنان على مسار التحول الديمقراطي لا على مسار التخلي عن رجال العهد السابق، الحقيقة لا شيء: لا جدول زمني واضح، ولا أحد يعرف ما الذي يقال للخارج ولا ما الذي يدبر للداخل، وفي كل يوم أخبار عن تعذيب المقبوض عليهم، وهو أمر لو سُكت عليه فسيشمل الجميع.. الجميع.. الجميع.. وأولهم أولئك الذين ليس لهم سند من شرق أو غرب!
ثم يخرج علينا نائب رئيس الحكومة ليؤكد المضي في وضع المبادئ فوق الدستورية، والله ما كان يجرؤ أن يفعلها لو كان الأقباط قد حشدوا ضدها أربعة ملايين! ولكنهم ذهبوا بيحيى الجمل وأتوا بشبيهه في ذات مكانه!.. فكرر ذات الإهانات!
***
إذا لم يكن شيء مطمئن يجري أمامنا، فمن أين استقى الإسلاميون منهج الانتظار هذا؟ من القرآن أم من السنة؟
إن القرآن الذي بين أيدينا، والسنة التي نقرأها في كتب الصحاح، والسيرة التي نعرفها، كل هذا يدفع بالمؤمن لكي يكون في موقع الفعل دائما لا في رد الفعل، وسيرة النبي كلها شاهدة على أنه لم يكن أبدا في موقع المنتظر بل هو الفاعل الذي يسير في طريقه، وقد ناقشت هذا تفصيلا في مقالات سابقة (انظر مثلا: الهجرة ومنهج البحث عن حل)
فإذا لم يكن في ديننا منهج الانتظار والانتظار ثم الانتظار المنتظر، والأمل المأمول، والرجاء المرجوّ.. فما الذي يقعدهم؟
خوفا على الدماء والفوضى؟!
أحب في هذا السبيل أن أبشركم أنكم إن لم تتحركوا وتدافعوا عن الثورة فإن دماءكم ستكون أول الدماء المسالة ولكن في السجون والمعتقلات، وأرواحكم ورواح أهلكم ومعها ما تيسر من أرواح الشعب ولكن على المشانق وفي المقابر الجماعية، كذلك فإن الوطن الذي تخشون عليه من الفوضى سيصير تحت الاستبداد الجديد إلى فوضى أكثر من التي كان فيها.. ومن رأى هذا تشاؤما فليأت على تفاؤله بسلطان مبين! فإن لم يجد ولن يجد، فلعله يعود إلى عقله فيقرأ كيف انحدرت البلاد من سيئ إلى أسوأ بعد كل ثورة..
***
بعدما كان المصريون أهل مقاومة ولهم زعماء ووجهاء وأعيان يمثلونهم لدى الوالي العثماني، بل لقد قاموا بثورة طردوا فيها الوالي العثماني، سُرقت منهم ثورتهم ثم أُذِلّ زعماؤهم وأعيانهم حتى صاروا عبيدا في حضرة "ولي النعم"! وعاد توريث الحكم فيهم بعد انقطاع ستمائة سنة، ليستمر قرنا ونصف القرن مرة أخرى!
وبعدما كانت البلاد نهبا للمماليك الذين –مهما بلغ فسادهم- لا يعرفون غير أرض الإسلام وأمة الإسلام أولياء، جاء إليهم من باع ثروات بلادها للأجانب حتى استصفاها، ثم خلفه من باع البلاد كلها إليهم حتى احتلوها.
فإلى هذا انتهت ثورة عمر مكرم بعد ثلاثة أرباع قرن من اشتعالها!
لقد استطاع محمد علي وخلفاؤه تدجين المصريين الذين عذبوا الفرنسيس حتى أسلموهم مسالمين طيبين إلى الإنجليز فظلوا في بلادهم سبعين عاما أخرى!!..
هل كان يخطر ببال أحد من أعيان المصريين في أول القرن التاسع عشر أن هذه هي نتائج ثورتهم؟ ألم يكن خطأهم الأكبر أن فشلوا في حراسة الثورة ووثقوا بمحمد علي، حتى صار الجندي باشا وليا للنعم؟!!
فمن لم يعجبه الحديث عن ثورة المصريين على خورشيد باشا، فلينظر في ثورتهم بعدها بأكثر من مائة عام، وهي الثورة التي استطاع فيها الإنجليز تصنيع قيادة شعبية متمثلة في سعد زغلول، ثم أدخلوها في نفق المفاوضات والاتفاقيات والمعاهدات حتى سرقت الثورة وأعطي المصريون استقلالا اسميا، بل سميت معاهدة الاحتلال بمعاهدة "الشرف والاستقلال"!!
واستمرت القضية المصرية في أورقة المنظمات الدولية والحكومات المعنية، ترفعها الأحوال الداخلية وتضعها الأحداث العالمية، والاحتلال موجود ومتحكم ومسيطر، والأحزاب يفرحون بديمقراطية شكلية بلهاء يتنافسون فيها على الكراسي والألقاب والتشريفات.. وكلهم داخل حظيرة الاحتلال لا يستطيع أن يرد له قولا!
حتى انبعثت صحوة إسلامية جديدة، غيرت وجه الحياة في مصر والعالم العربي، وكادت تتمخض عن ثورة شعبية هائلة، أدركتها عيون المخابرات الأمريكية فصنعت لها قائدا يسحبها إلى تياره كما صنع الإنجليز من قبل سعد زغلول الذي امتص ثورة 1919 فأدخلها في نفق المفاوضات حتى ماتت!
كان بطل المرحلة هو جمال عبد الناصر، غير أن جمال عبد الناصر لم يكن ليستطيع شيئا لولا أن وفرت له سذاجة القيادات الإسلامية وقتها الفرصة الكاملة الهائنة لسحقها، وهو الأمر الذي يطول فيه الحديث ويمتلئ بعلامات الاستفهام، غير أن الذي يهمنا في هذا السياق هو أن الثورة الشعبية الهادرة تم اختطافها على يد مجموعة العسكر التي لعبت بذكاء الخارج في ضرب الحركة الإسلامية التي ساعدتهم بدورها بما امتلأت به من سذاجة وتخبط وارتباك.. فسرقت ثورة الشعب لتصبح انقلابا عسكريا ثم عادت فأكلت الشعب وزرعت فيه الجبن والرعب والخوف ستين سنة!!!
***
ليس وقت اجترار الأحزان.. إنما هو وقت التعلم!
في كل مرة تم الوثوق بمن أبدت الأيام أنه ليس أهلا لهذه الثقة، وتم السكوت في موضع الكلام والبيان والاحتجاج، وكان الانتظار هو السائد في مواقف الفعل والحركة والتقدم!
فإلى متى يا قومي نثق بأمثالهم، ونسكت عن أمثالهم، وننتظر أن نُعطى حرية نعرف أنها تنتزع ولا توهب!
متى ننشد "أول الغيث"؟
متى نقول:
يا أمة الإسلام فَجْرك نَوَّرا ... والروض في ساحات مجدك أزهرا
سُحُب المعالي في سمائك أمطرت ... غيثا، وأجرت في رحابك أنهرا
نشرت رياحك في جوانب كوننا ... أمنا، وإيمانا، وفكرا نيرا
لبست بها الأشجار ثوبا مورقا ... وغدت بها الصحراء روضا أخضرا
***
قبل أن يخرج هذا المقال إلى النشر قرأه أخ كريم فاضل فنصحني بألا أكتفي برصد السلبيات، بل ينبغي تقديم مسارات للحل، لا سيما وقد يُفهم من المقال أنها دعوة للعنف مثلا، واستجابة له أضيف ما سبق أن ذكرته في مقالات سابقة:
إن أضعف الإيمان أن تتكون جبهة إسلامية واحدة تجمع الحركات الإسلامية الفاعلة والشخصيات الإسلامية المستقلة التي تمثل رموزا للمدارس الفقهية والحركية الإسلامية، هذه الجبهة ستكون النواة التي يتجمع حولها الشباب الإسلامي بشتى توجهاته التفصيلية سواء كان منتميا لحركة أو جماعة أو لم يكن، وهي التي تقرر بعد تداول الرأي كيف ينبغي أن نتصرف حيال المواقف المطروحة، ومتى يكون التصعيد وكيف يكون!
وينبغي أن تعلم هذه الجبهة أن الله قد أناط بها دورا تاريخيا في لحظة حاسمة من التاريخ الإنساني، فإن نجاح الثورات العربية يعني تغير المعادلة العالمية لقرون، ويعني عودة الأمة العربية الإسلامية قوة عظمى كما كانت.
ولتعلم هذه الجبهة أنها تمتلك طاقات هائلة من الشباب والعاملين للإسلام لا ينتظرون منها إلا أن تعطيهم الثقة في أنها على مستوى المرحلة، ثم تشير إليهم بإشارة لتجد سيلا من البشر مستعدا لبذل كل ما أمكنه في سبيل نهضة هذا الوطن وعزة هذه الأمة.. فهل هذا أمر عسير؟!!
نشر في: مفكرة الإسلامAugust 9, 2011
رأيت النخبة في سورة البقرة!!
القرآن حياة..
ليس يشعر بهذه الحياة إلا من أدمن تلاوة القرآن، مع بعض من التأمل والتفكر والتدبر، ثم حاول استكشاف الحياة به ومنه وفيه، بحسب ما اقترب العبد من قراءة كتاب الله بعين من يريد أن يفهم لكي يهتدي بحسب ما فتح الله عليه من نور الهدايات..
ولذلك يخطئ كثير من "الإسلاميين" إذا لم يكن لهم ورد يومي من القرآن الكريم، لأن الحياة التي تغشاه ويغشاها تمتلئ بمواقف الالتباس، وقد قال الله أنه جعل هذا الكتاب (تبيانا لكل شيء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين) [النحل: 89]
وبقدر ما في الكون من عجائب تثير الدهشة من بديع صنعتها ولطائف دقتها، فإن في القرآن مثل ذلك، فلقد صدرا عن إله واحد، وبحسب ما أخلص العبد في القراءة والفهم والعمل بحسب ما أعطاه الله من فيضه العميم!
***
تعترف النخب العلمانية في بلادنا الإسلامية بإيمانها الكامل بالإسلام: إيمان بالله واليوم الآخر والقرآن والرسالات، وبأن الإسلام دين عظيم طاهر مقدس.. ولا يجد الرجل الذي يعلن نفسه علمانيا حرجا في أن يزايد على إيمان الناس، فهو "مسلم مثلهم، بل وأحسن منهم"..
على أنه حين يتحدث في التفاصيل يكشف عن إيمان لا كإيمان الناس، ويخبرنا عن إسلام لا نعرف من أين استقاه، ويتحفنا باستنباطات لم يأت بها الأولون من الصحابة والتابعين وأجيال الفقهاء والمحدثين والمفسرين..
ولا بأس عنده أن يرمي هؤلاء عن قوس واحدة، فلئن احترمهم فإنه يراهم "رجال، ونحن رجال"، وإن لم يحترمهم كثر في حديثه ضرورة تجاوز هذه الكتب الصفراء التي تحمل هذا التراث المتخلف الذي كان سبب مصائبنا وبلايانا!
ومن كان هذا حاله مع جهابذة الأمة فإننا لا نتوقع أن يرى بقية الأمة إلا مجموعة من السفهاء التي لا تفهم الدين حق الفهم، ولا تؤمن حق الإيمان، إنما هي العقول المظلمة، والقلوب القاسية والوجوه العابسة.. وهؤلاء السفهاء إنما جاءتهم الأفكار من بلاد الصحراء حيث الجهل والغلظة والبداوة، ثم وجدت تربة خصبة لها في القرى والأرياف حيث الجهل والفقر والسذاجة!
وإذا وجهت لهم اتهامات بما بذروه في الأمة من فساد وإفساد، قالوا: إنما هذا تنوير! وتحضر! وتقدم! و.... و.... إلخ.
وقد يقال: ربما كانوا صادقين؟ وما أدراك بالنوايا؟
حسنا، كنا سنحسن الظن بهم لو لم نرهم يكذبون، وهذه هي العلامة التي ذكرها القرآن في أكثر من موضع لبيان الفارق بين نوعين "المغضوب عليهم" و"الضالين"، فالأولون يعرفون الحق ويجحدونه، وأما الآخرين فيحسبون أنهم على الحق.
***
اندفعت كل هذه الخواطر إلى الذهن، عن غير ترتيب ولا قصد، حين كنت اقرأ هذه الآيات.. فأرجو أن تقرأها بعين متأملة:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
***
فقط عند قوله تعالى (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) انتبه الذهن إلى هذه اللهجة النخبوية، لا شك لأنها تُسمع كثيرا هذه الأيام، فعادت العين إلى قراءة الآيات من أولها..
إنها آيات فاضحة، تدخل إلى النفوس وتكشف ما في الخبايا، وتنبه المؤمنين إلى مجالس مغلقة يخلو فيها بعضهم إلى بعض ليسود فيها حديث التبرؤ مما يقال في العلن، وحديث الاستهزاء بأهل الدين وبالدين نفسه كذلك.
على أن المدهش في الأمر أن تكون هذه الفئة هي أول فئة يُحذر منها الله في القرآن؟ إننا في الآية الثامنة من سورة البقرة، أي في أول القرآن، وقد جاء الحديث عنهم قبل التحذير من الشيطان ومن اليهود!!
يبدو الجزء الأول من سورة البقرة، وكأنما موضوعه هو أعداء الإسلام، ففيه التحذير من هؤلاء، وبعده التحذير من الشيطان من خلال سرد قصته مع آدم وبيان سبب العداوة الأصيل القديم، ثم قصة طويلة حتى آخر الجزء عن بني إسرائيل وتاريخهم وتجاربهم مع الأنبياء وحسدهم لهذه الأمة وهذا الرسول.. وما يكاد ينتهي الجزء الأول إلا وقد اتضحت في الذهن المسلم خريطة أعدائه في هذه الحياة.
إن وجودهم في أول جزء يكون هذا موضوعه، أمر فاجأني في الحقيقة على رغم حفظي لسورة البقرة منذ الصغر، ويحن ألقى الله في روعي هذا الخاطر بدا وكأنما فُتِح في عقلي فيض نور لفهم الواقع المعاصر، ولترتيب الأولويات.. وأيضا: للبشرى في قوله تعالى (فما ربحت تجارتهم)!
وهنا تذكرت سيلا من "النخبة القديمة" التي نسيها الزمان وجافاها الدهر، ولولا أن رواد الصحوة الإسلامية ذكروهم في كتبهم في معرض الرد عليهم لما كان أحد قد عرفهم، وذلك من قبيل قول الله تعالى (فأما الزبد فيذهب جفاءا، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). فحتى تلاميذهم من النخبة الحديثة ليسوا سوى أبناء سوء يعقون آباءهم ومنهم من يسرق أفكارهم وينسبها إلى نفسه!!
لقد خفتت أسماء سلامة موسى وأحمد لطفى السيد ولويس عوض، وهؤلاء كانوا نجوم عصرهم في الصحافة والثقافة، وكان لهم جمهور وعبيد يتلقفون كل حرف بآيات الإجلال والتعظيم!
وهناك من ذهبت أسماؤهم بالكلية، فمن في هذا العصر يتذكر مثلا: محمد زكي عبد القادر، ومحمد الأسمر، ومحمود عزت موسى، ومحمد أمين حسونة، وزكريا عبده، ومعاوية محمد نور؟؟ وهؤلاء هم أعضاء جماعة دعت إلى تكوين أدب مصري مستقل عن الآداب الشرقية ولا يرتبط بها حتى في اللغة العربية التي رأوها تعجز عن أن تعبر عن خواطر المصريين؟!! وذلك تأسيا بما فعله الأوروبيين من تحطيم اللغة اللاتينية لحساب لغات محلية! ومن يتذكر الآن عبد العزيز فهمي الذي اقترح أن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية؟
من يتذكر الآن شبلي شميل وإسماعيل مظهر وغالي شكري وطابورا طويلا اعتمدت عليه جحافل الاحتلال ثم مؤسسات الاستبداد لترسيخ نفوذها وسطوتها، بل إن ثمة من خفت ذكره وهو معاصر، بل إن بعضهم ذهبت أسماؤهم وهم ما زالوا في عداد الأحياء مثل سعيد العشماوي ولا أدل على هذا المثال من حسين أحمد أمين الذي كان نجم النخبة العلمانية في الصحافة والإعلام في الثمانينات أيام مواجهة الدولة للإسلاميين، وقد اعترف في مذكراته بأن رؤية المستشار طارق البشري قد تحققت حين قال له: ستسخدمك الدولة في محاربة الإسلاميين ثم لنفاقها فإن لم تستجب تركوك كمًّا مهملا!
***
إن المعركة التي تخوضها النخبة العلمانية تنتقل من خسارة إلى خسارة، يتبين هذا بوضوح إذا تتبعت تاريخ هذه النخبة منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، كانت أجواء البدايات في غاية السواد، لقد كانت ثوابت المجتمع كله تنتهك بكل فجور، ولم يكن يرى الكاتب بأسا في أن يسلخ مصر من انتمائها العربي الإسلامي، وكان يُراد حتى تغيير اللغة العربية، ثم تطور الحال في الستينات والسبعينات والثمانينات، وهي التي خفت فيها الهجوم على الإسلام والعروبة ليناور ويراوغ ليصب الهجوم على الإسلاميين باعتبارهم المتشددين المتطرفين الرجعيين الظلاميين، وفي ثنايا الهجوم على الأشخاص تهاجم القيم الدينية نفسها ولكن باعتبارها "فهما غير صحيح للإسلام"، وأما في التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين فقد صارت النخبة تتحرس جيدا من الهجوم، فهي حتى إن هاجمت الإسلاميين أعلنت في البداية والختام احترامها للإسلام ولانتماء مصر الإسلامي، وحاولوا إظهار الصراع وكأنه ترتيب أولويات بين الانتماء الوطني والانتماء الإسلامي.. إلا أن زلات اللسان وفلتات الأقلام تفضح مكنونات الصدور.
ويبدو هذا التطور واضحا في قراءة تراث الأعلام الذين أخذوا على عاتقهم لواء المواجهة منذ بداية القرن العشرين، والمتابع لتطور كتابات: محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمود شاكر وسيد قطب ومحمد محمد حسين وأنور الجندي وجلال كشك وعبد الودود شلبي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وفهمي هويدي ومحمد عمارة وغيرهم يعرف جيدا أن أزمة النخبة مع الحالة الإسلامية تسير إلى المنحدر، لكنهم لا يرجعون! فما أشبه هذا بقول الله عز وجل عقب الآيات السابقة (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ).
لا يرجعون رغم المسار المتدهور المنحدر، تغرهم فترات البزوغ العابرة التي يستفيقون فيها مثل مثل هوجة الشيوعية في الستينات أو مواجهة العنف المسلح في الثمانينات أو الحملة الأمريكية على الإسلام في بداية هذا القرن.. هذه البزوغات –ويا للعجب- ما أشبهها بقول الله عز وجل (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
صدق الله العظيم..
نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
August 7, 2011
الحكيم الثائر الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه!!
منذ أكثر من مائة عام ونحن نقرأ في كتب أعلامنا أنهم يكتبون في حال الإحباط واليأس وأنهم يأملون في الجيل القادم، فما يلبث الجيل القادم أن يكتب للجيل الذي يليه مستبشرا به بعد أن يكون قد فقد الأمل في جيله.. فهل حين نبلغ أراذل العمر سنعيد كتابة هذا الكلام، أم أن ثوراتنا العربية ستكون الكاسرة لهذه الدائرة؟؟
اقتبست فقرات هذا المقال من كلام كتبه رجل مات منذ نحو مائة عام، فكأنه يسدي النصائح للثورات العربية الآن!! وهذا يعني أنها مائة عام من الغفلة والسذاجة التي سمحت بأن تسرق ثمرات الجهاد والتضحيات والدماء والأموال التي بذلت في ميادين الدعوة والجهاد والنضال المديد الذي لم يتوقف في أمتنا منذ قرنين يصح أن نسميهما "عصر الاحتلال والاستبداد".
وقد دهشت لقراءة ما كتبه الرجل الذي كأنما أماته الله مائة عام ثم بعثه! فاقتبست منه ما يمكن أن نسميه "نصائح المرحلة".
***
لا تثق في أعوان المستبد:
"إن العقل والتاريخ والعيان يشهد بأن الوزير الأعظم المستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه من الوزراء يكونون دونه لؤما، وهكذا تكون مراتب لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات... المستبد حريص على ظلم الناس، وهو محتاج لعصابة تعينه، فهل يُجَوِّز العقل أن ينتخب لعصابته من يشك فيه أنه لا يوافقه على مراده؟ كلا، هل ينتخب وزيرا له من السوقة لم تسبق له تعرية ولا معرفة ما انطوى عليه؟ كلا. وهل يمكن أن يكون متخلقا بالخير حقيقة وبالشر ظاهرا فيخدع المستبد بأعماله وهو وهو الذي أعزه بكلمة ويعزله بكلمة؟ كلا. المستبد لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه، فهل يأمن على بابه من لا يثق به أنه أظلم منه وأبعد منه عن أعدائه؟ كلا".
"إن كل رجال عهد الاستبداد لا خلاق لهم ولا حمية ولا يرجى منهم خير مطلقا... فإنهم لا يستصنعون إلا الأسافل الأراذل، ولا يميلون لغير المتملقين المنافقين كما هو شأن صاحبهم المستبد الأكبر، ومنها أنه قد يوجد منهم من لا يتنزل لقليل الرشوة ولكن لالا يوجد فيهم من يأبى أكثرها، ومنها أن ليس فيهم غير المستبيح مشاركة المستبد في امتصاص دم الأمة ذلك بأخذهم العطايا الكبيرة والرواتي الباهظة التي تعادل بضع أضعاف ما تسمح به الإدارة العادلة لأمثالهم"
"لا يذكر التاريخ أن الزمان أوجد نادرا بعض وزراء ندموا على ما فرطوا فتابوا وأنابوا ورجعوا لصف الأمة واستعدوا للكفارة المسيحية أو الشهادة الإسلامية"
***
طبيعة الثورات في الشرق:
"الشرقي يهتمُّ في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثمَّ لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانيةً، فيعيد الكرّة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية، فأولئك الباطنية في (تاريخ) الإسلام: فتكوا بمئات الأمراء على غير طائل، كأنَّهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية: "لا يُلدَغ المرء من جُحرٍ مرتين"، ولا بالحكمة القرآنية (إنَّ الله يحبُّ المتَّقين). أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلَّها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها".
"الشرقي سريع التصديق، والغربي ينفي ولا يثبت حتى يرى ويلمس. الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأنَّ شرفه كلّه مستودَعٌ فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلاله! الشرقي حريصٌ على الدين والرياء فيه، والغربي حريصٌ على القوة والعزّ والمزيد فيهما".
***
رحم الله عبد الرحمن الكواكبي، الذي كتب هذه الفقرات في كتابه الأشهر "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وهو كتاب عظيم فريد لا مثيل له ولا يقاربه فضلا عن أن ينافسه كتاب آخر في بابه، ولولا بضعة فقرات فيه لبلغ الكمال، ولكن سبحان من اختص نفسه بالكمال دون الناس!
وقد مات الكواكبي عام 1902م، وقد كتب في المقدمة عن كتابه: "وجعلته هديةً مني للنّاشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيُمْنِ نواصيهم"..
اللهم إنا نعوذ بك من أن نكتب للشباب عن الاستبداد مرة أخرى!
نشر في شبكة رصد الإخبارية
July 30, 2011
الدروس المستفادة من جمعة الإسلاميين
كان يوما في غاية الثراء والامتلاء بالتفاصيل، ويمكن أن يكتب كثيرا في أشياء كثيرة، غير أن أهم ما ينبغي أن يُكتب –برأيي- هي الدروس المستفادة من هذا اليوم.
ثمة ملحوظة انتشرت جدا في إعلام النخبة مفاده أن الإسلاميين نقضوا العهد ورفعوا شعارات مخالفة، وهذا قول خاطئ تماما، فالذي اتفق لم يكن إلا جماعة الإخوان المسلمين وهؤلاء التزموا بما اتفقوا عليه، غير أن الميدان لم يكن قاصرا على الإخوان، كان فيه سلفيون وأعضاء من الجماعة الإسلامية، ومن جماعة الجهاد، وإسلاميون مستقلون.. وهؤلاء أيضا فصائل وشرائح، وقد صرح د. صفوت حجازي بأن اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة المصرية (وهي الكيان الذي يضم تحالفات وائتلافات الثورة) لم يتفق مع أحد على أي شيء إلا على تسمية الجمعة "وحدة الصف والإرادة الشعبية".. أعرف أن ثمة مجموعة من الشباب حاولت صنع حالة من التوافق لكنها اكتشفت فشلها في ذلك، ربما لم يعلموا أن من حاولوا الاتفاق معهم ليسوا كل الميدان، وربما علموا وأحبوا تبرير فشلهم بالإنحاء باللائمة على الإسلاميين!!
***
الدرس الأكبر المستفاد أن الإسلاميين قوة لا يمكن تجاوزها في هذا البلد، بل هي القوة الرئيسية فيه، وقد اتخذت التيارات غير الإسلامية قرارا فادح الخطأ حين أعلنت انسحابها من الميدان فأثبتت من تلقاء نفسها ودون ضغط من أحد أنها لا تساوي شيئا ذا بال على المستوى الجماهيري، وأنها مجرد صوت عال. ولست أدري كيف اتخذوا هذا القرار الخاطئ تماما والذي لم يستفيدوا منه شيئا، بل لحق بهم ضرر انكشاف حجمهم ثم ضرر إعادة شق الصف (الذي أراد له البعض أن يبدو متوحدا، ولم يكن يستطع).
ليس هذا تعاليا ولا غرورا، ونعوذ بالله من هذا، ولا أقصد به –والله- إلا مجرد التوضيح لصورة واضحة لم يعد التشويه فيها مجديا. كما أن الخطأ الأكبر الذي يرتكبه الإسلاميون أن يتوقفوا عند هذه الصورة للمفاخرة بأعدادهم، فكم من أعداد كثرت ولم تغن عنهم من الله شيئا.
وعلى الجميع أن يتذكر أن الإسلاميين لم يحاولوا "استعراض عضلاتهم" إلا حين بدا أنهم لا يُحترمون ولا يلقى لهم بال في هذا الوطن رغم أنهم مكونه الأصيل، حين استجاب المجلس العسكري لطلب بوضع وثيقة حاكمة ومبادئ فوق دستورية، وهذه إهانة لهم وانقلاب على إرادة شعبية ما كان لهم أن يسكتوا إزاءها، ولم يكن ينفع الصبر في موطن الاستهزاء والاستفزاز، وقد قال الشافعي: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار.
***
وأما الدروس المستفادة فهي بنظري كالآتي:
دروس للإسلاميين:
1. الإسلاميون طاقة كبيرة ينقصهم اتفاق القيادات وتوحدها وإدراكها اللحظة.. كم ستكون جريمة وعارا في حق قيادات العمل الإسلامي الآن إن سرقت الثورة على يد فصائل هامشية أو على يد العسكر.
2. الإسلاميون أقرب لبعضهم من غيرهم، وفي وقت الشدة لن يجدوا أحدا معهم، لا نخبة، ولا إعلام علماني، ولا عسكر، ولا تيارات أخرى.
3. الإسلاميون بحاجة إلى ترشيد، كثير من سنوات القهر والكبت جعلت رد الفعل عفويا جدا، وفي هذه العفوية كثير من الشدة والغلظة والخطاب الجاف الذي لا يليق أن يكون سمتا للإسلاميين.
4. سلوك المجلس العسكري بعد هذه الجمعة سيحدد كثيرا من نواياه، فإن كان مخلصا فيما يعلن فسيثتمر هذه الجمعة في مقاومة ضغوط النخب العلمانية والخارج، وإن كان غير ذلك فسيبدأ في إعادة إنتاج الفزاعة الإسلامية داخليا وخارجيا، وفي ضرب القوى السياسية بعضها ببعض، فإما بدأ بإغراء الإسلاميين حتى ضرب الآخرين (كما فعل عبد الناصر من قبل) أو بدأ بالعكس (كما هو في نموذج الجزائر).. وعلى الإسلاميين أن ينتبهوا لهذا جيدا ففيه يكمن طريق المستقبل كله.
5. ضرورة الخروج من حالة رد الفعل إلى حالة المشاركة في صناعة القرار، وهو حق أصيل، ولا يستحق أحد مهما كان ومهما بلغ أن تضع فيه ثقة مطلقة، ولو كانت هذه المظاهرة قبل شهر مثلا، لاختلف الوضع بوضوح!
للمجلس العسكري:
1. ما زالت التيارات الإسلامية تثق في الجيش وتؤيد بقاءه دون غيره لإدارة الفترة الانتقالية، إلا أن هذه الثقة قد تعرضت لخدش كبير بإعلان الوثيقة الحاكمة، فكانت مظاهرات اليوم أقرب إلى العتاب، ومحاولة تشكيل ضغط مقابل ليظل الجيش مستمسكا بموقفه في حماية الشرعية.
2. الإسلاميون أحرص التيارات على الهدوء والاستقرار ولم يحاولوا النزول أو استعراض القوة إلا حين بدا انقلاب المجلس العسكري على الإرادة الشعبية والاستهانة بهم لسكوتهم.
3. من دواعي الوطنية والحرص على مصلحة البلاد ألا يُعامل هذا التيار بالتجاهل فضلا عن الإقصاء والهجوم.
4. اللحظة الآتية هي الأمثل في استيعاب هذه التيارات بما لا يخلق مشكلات خارجية أو داخلية، ذلك أن إجراء الانتخابات في أقرب وقت هو الكفيل بوجود تمثيل واسع للتيارات السياسية في ظل عدم منافسة الإسلاميين على الأغلبية البرلمانية، وفي ظل عدم استعداد كثير من الفصائل الإسلامية لدخول معركة الانتخابات إما لأنها خرجت حديثا من السجون وتحتاج الوقت لتنظيم نفسها ومؤسساتها من جديد وإما لأن العمل السياسي كله غريب عليهم ويشعرون إزاءه بالتردد.. إن أي تأجيل للانتخابات يعطي فرصة متزايدة للإسلاميين على حساب غيرهم، وفي هذا ما قد يثير مخاوف داخلية وخارجية تجعل التحول الديمقراطي أصعب إزاء هذه المخاوف التي لا يسعكم تجاهلها كما يعرف الجميع.
5. كذلك فإن الإسراع بالانتخابات هو القادر على تحويل الحراك السياسي والصراع السياسي في مصر إلى حراك مأمون الجانب، يسلك مسارات سلمية هادئة كالانتخابات والاحتكام إلى القضاء ومؤسسات الدولة، فيم يعني التأجيل للانتخابات أن يظل الوضع قلقا مضطربا عند الجميع، فالكل يخاف على نفسه ويخاف من خصمه السياسي، ولا يجد أحدهما إلا الشارع سبيلا لحل النزاع، وهو وإن كان سلميا إلى هذه اللحظة فإن طول فترة القلق والاضطراب قد تدفع إلى غير هذا، فالمندفعون والمتهورون والمتحمسون موجودن لدى كل الأطراف، وهم عامة خارج السيطرة ويستطيعون إشعال المواقف لا سيما إن تمت اختراقات خارجية دفعت بهم في إطار خطة نشر الفوضى!
للتيارات غير الإسلامية:
1. التوافق واحترام كل الأطراف أفضل للجميع، وحالة العداء الشديد والهجوم العنيف التي ترتكبها وسائل الإعلام ليست في صالح أي طرف، وهي لا تؤثر فعليا في ميزان القوى، فمن المصلحة الوطنية ألا يتم التهييج والتحريض ضد طرف أصيل، ما زال قائما ومتواجدا رغم ما نزل به في المائتي عام الأخيرة عموما، وفي الستين الأخيرة منها على وجه الخصوص.
2. سيكون أبشع ما تفعل أن تأخذ من هذا اليوم بعض التفاصيل والمواقف لكي تريح ذهنك وتثبت وجهة نظرك وتظل على رأيك، من طبيعة من يحترم نفسه أن يحاول قراءة المشهد بما يضيف إليه جديدا لا البقاء على الحال الأولى، والتركيز على الأخطاء لن تغير –على الأقل في المدى القريب. وفي ظني ولا البعيد- من تأثير وجود التيارات الإسلامية بين الناس، فمن المستفيد من حالة الاستعداء هذه إلا أطرافا غير وطنية؟
3. ما زال الإسلاميون –لا سيما المُمَثَّلون في جمعيات منظمة كالإخوان وكثير من السلفيين والجماعة الإسلامية- على استعداد لتوافق وطني في الانتقال بهذا الوطن إلى حكم ديمقراطي رشيد، وحتى إن وصل الإسلاميون إلى السلطة في ظل نظام مدني حديث فإن حرية النقد والاعتراض والهجوم ستكون أفضل منها ملايين المرات في ظل حكم عسكري –هو بطبيعته سينزع نحو الاستبداد- فحينئذ لن يكون مسموحا بالوجود إلا للمتملقين المنافقين، وسيتم ضرب الجميع.. وأولهم كل من ظن في أن الحكم العسكري خير من حكم الخصم السياسي!
4. لو أن قنواتكم وصحافتكم فتحت لرؤية هؤلاء بصدق لتغيرت كثير من المفاهيم وذهبت كثير من المخاوف وانتزعتم من صدور الكثيرين أسبابا للعداء.. ولمجرد التدليل على هذا: قارنوا بين ردة الفعل الإسلامية على لقاءيْ الشيخ حازم أبو إسماعيل مع كل من إبراهيم عيسى ويسري فودة، فعيسى حين حاول التحريض والتهجم والتسفيه من كلام ضيفه اكتسب عداوات جديدة كثيرة، على عكس ما فعله فودة الذي اكتسب احتراما كبيرا من كل المختلفين معه سابقا حين أدى دوره بمهنية واقتدار.
5. الحقيقة التي أحب تذكيركم بها، أن شق الصف وزرع الاستقطاب بدأ من صحافتكم وقنواتكم، واستمر فيها وترعرع وتضخم ونما، ومنها أيضا يمكنكم الرجوع إلى حالة التوافق الوطني.. فالكرة في ملعبكم، والأمر إليكم فانظروا ماذا تفعلون؟
***
لن يخلو عمل من سلبيات، غير أن سلبيات أي عمل لا تدفع من قاموا به إلى تغيير كل منهجهم، وهذا ما ينطبق على الجميع، والأحرى بالنقد والتصويب أن يكون هادئا محبا لكي يجد آذانا صاغية.. أقول هذا، وأعلم أن البعض يراني لا أجيده، وقد يكون الحق لديهم، غير أنني وإن بدت مني حدة فإنها تنطلق من مصلحة وطنية خالصة، والله على ما أقول شهيد!
نشر في شبكة رصد الإخبارية
July 26, 2011
إصلاح النفس بالنظر إلى مخلوقات الله
اقترح على القارئ الكريم القيام بهذه التجربة التخيلية:
اجلس وحدك خاليا من كل المؤثرات، واضغط على ذهنك وتخيل شيئا واحدا فقط: تخيل أن هذه الدنيا قد خلت من كل الكائنات الحية التي عليها، ولم يعد سوى الإنسان والجماد فحسب! وانظر ماذا ترى؟!
حتى الذين يعيشون في المدن ولا يستعملون الحيوانات في زراعة أو ركوب لا يسرهم مشهد الكون إذا خلا من مخلوقات الله الأخرى، وكلما طال بك التخيل كلما كان استفادتك من السطور القادمة أكثر، فلعلك أيها القارئ الكريم تقبل رجائي وتتخيل أكثر وأعمق.
***
ربما هي المرة الأولى التي ستشعر فيها كم أنت بحاجة إلى مخلوقات أخرى ذات روح تسري حولك، تطير أو تزحف أو تمشي، إن المتابعين لعالم الحيوان يأسرهم سلوك المخلوقات في السعي إلى الرزق ورعاية الأولاد والتخفي من الأعداء والصراع على مناطق النفوذ.. إنه شيء يثري الحياة والذهن والخيال، ويشرق في النفس إشراقة روح هائمة تبصر في غيرها مواطن دقة وروعة وجمال.
كان لا بد من العودة إلى الخالق العظيم في كتابه المسطور الذي يفسر به هذا الكتاب المنظور، فكيف أخذ القرآن الكريم بالأنظار والقلوب نحو هذه المخلوقات الأخرى؟
فوجدنا هذه الصورة:

أولاً: لذة الإنسان
وهي لذة مستفادة من طريقين: طريق المنفعة والتمتع، وطريق النظر والتأمل والتعلم.
فأما طريق المنفعة والتمتع، فلقد امتنَّ الله على بني آدم بأن خلق لهم الأنعام وذلَّلها لهم فانتفعوا بها: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}. وعدَّد -سبحانه- فوائدها {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِن رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
وحتى تلك الطيور التي تسرح في فضاء السماء الرحب مسخَّرة للإنسان: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ فهذه النحلة تقوم برحلة طويلة، وتقع على مئات الآلاف من الزهور، لكي تُخْرِج عسلاً صافيًا فيه شفاء، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وفي الآيات إشارت إلى الجمال بخلاف مجرد المنفعة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}، و{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، و{شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، فالجمال نعمة كنعمة المنفعة تماما، وحسبك أن تتخيل حجم الضيق والشدة والأزمة لو أن كل ما تنتفع به كان سيء المنظر قبيحا! ولذا قال القرطبي: "جمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر"
اعتصام الدفاع عن الشرعية
وأخيرا.. تحرك الإسلاميون.. والحمد لله رب العالمين.
تحركوا حين استشعروا الخطر، وعلموا أن المجلس العسكري لا أمان له، وأنه يستجيب لضغوط القلة المشاغبة ذات الصوت العالي، ولا يعبأ لمن لا يزعجه، ولا يقدر ثقة من يثق فيه.. ما أحلم الله بعباده، ونسأله تعالى أن تكون إفاقة دائمة حتى يتحقق الحلم المنشود أو نموت دون ذلك.
لقد علمتنا سنين القهر والعذاب ألا نثق في أحد على الإطلاق، وأن ميزان الصدق هو الأفعال لا الأقوال والشعارات والوعود والتطمينات، ولسنا بحاجة أن نفتش في التاريخ ولا أن نأتي بالوقائع، فكل ذهن يقرأ هذه السطور قادر على استدعاء سيل من الوعود والشعارات قيلت في الستين سنة الماضية ولم يُفَعَّل منها شيء.. وقد تمخضت جبال الشعارت عن اللاشيء، وقد كانت قبل ذلك تلد فأرًا!!
كما علمتنا السنين وقراءة التاريخ أن السلطة شهوة، بل هي أكبر الشهوات، وقديما قالت العرب: المُلْك عقيم، يقتل الرجل حتى ولده إن نافسه على السلطان، وأخوف ما يُخاف على السلطان أن يستبد به من يملك القوة والشوكة، فإن استطاع واستبد به وانفرد بالسلطة فموعدنا بعد جيل قادم على أقل تقدير!
هي دعوة لاعتصام إسلامي بعد يوم 29 يوليو المقبل، وقد أثبتنا طوال الأشهر الخمسة وقبلها أننا حريصون على الهدوء والاستقرار، قدمنا التطمينات للجميع، كنا أبعد الناس عن إشعال المعارك، تخلينا عن حقوق وأسرى وأسيرات في سبيل توفير الهدوء لإنهاء الفترة الانتقالية، شكلت وزارتين دون واحد من الإسلاميين ولم نغضب أو ننتقد أو نهاجم، شكلت مجالس حقوقية وهيئات رسمية ولم يترك لنا مقعد واحد ولم نحرك ساكنا، رضينا بأقل من حجمنا الذي تثبته الأعداد (ونعوذ بالله من العجب والغرور)، وحتى كتابة هذه السطور لم تنشأ إلا قناة إسلامية واحدة من بعد الثورة، ولم يسمح لنا بعد بصحيفة واحدة، ولم يوضع واحد منا في منصب رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة.. والقائمة تطول والجميع يعرفها.
ومع كل هذا لم نتكلم، ولم نعترض، ولم نهاجم.. فلا أحد يزايد علينا في الحرص على المصلحة العامة ولا ابتغاء السلامة الوطنية ولا نشود الاستقرار والهدوء.
وقد آل الحال إلى أننا تلقينا صفعة كبيرة جدا، وساخنة جدا جدا جدا، إذ أجل المجلس الانتخابات البرلمانية لشهرين، والانتخابات الرئاسية إلى أجل مجهول، ونوى وضع وثيقة حاكمة للجنة صياغة الدستور.. وكل هذا دون ذرائع!!! دون ذرائع مطلقا.. وقد كنا نخشى الذرائع فصرنا أهون من أن يُلتمس لإقناعنا ذريعة.. كأنما أتحسس موضع الصفعة على وجهي وفي قلبي وروحي!
هي دعوة لاعتصام لا يطلب إلا شيئا واحدا وحيدا: إعلان جدول زمني واضح لتسليم السلطة.
جدول زمني يقول: الانتخابات البرلمانية ستجري من كذا إلى كذا: المرحلة الأولى في الفترة الفلانية، والثانية في الفترة الفلانية، والثالثة في الفترة الفلانية، وستنعقد الجلسة الأولى في يوم كذا، وسيترك للمجلس مهلة كذا للاتفاق على لجنة صياغة الدستور، التي ستجتمع يوم كذا، لنتسلم منها صياغة الدستور يوم كذا، ويجرى عليه الاستفتاء الشعبي يوم كذا، وتعلن النتائج يوم كذا. وبالتوازي مع عملية صياغة الدستور هذه سيفتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية يوم كذا، وستسقبل الترشيحات يوم كذا، وتقدم الطعون يوم كذا، ثم تجرى الانتخابات يوم كذا، وتعلن النتائج يوم كذا، ويتم تسليم السلطة في يوم كذا.
ولابد أن المجلس –إن كان صادقا- أن يكون قد وضع مثل هذا التصور، فلا أقل أن يعلن عنه، فيريح ويستريح، ويستل من صدورنا شكوكا كثيرة ويعيد إلى نفسه ثقة مفقودة.. ونكون وإياه على الشرط الذي أعلنه، فإن استقام استقمنا وإن اعوج كان حقا علينا أن نقومه، ونعود إلى الميادين.
ولا نريد غير هذا الطلب وحده، وأما سائر الملفات فنحن أولى بها، والسلطة المدنية كفيلة أن تتولاها وتتولانا ونتولاها أيضا، فملف المحاكمات وملف الشهداء والجرحى وملف هيكلة الداخلية وملف الوزارات وكل ما سوى ذلك من الملفات، فإننا نتعهد بإدراتها وتخفيف هذا العبء الذي يبدو أنه يثقل كاهل المجلس العسكري، فهو إما لا يحسن التصرف فيه وإما لا يستطيع مواجهة ضغوط خارجية أو غيرها (هذا عند من يحسنون الظن به).
والخشية أنه إذا انفضت مليونية 29/7 دون اعتصام أن تعود الأمور سيرتها الأولى، ولربما كان المكسب الوحيد أن المجلس لن يحاول استفزاز الإسلاميين مرة أخرى كما فعل في مسألة الوثيقة الحاكمة للجنة الدستور، غير أن باقي المسيرة ستستمر كما هي، إذ سيكون المجلس قد أدرك أن التخدير الهادئ هو الحل، وأن البحث عن ذرائع يبرر بها تأجيلاته الدائمة لنقل السلطة هي السبيل المهذب اللطيف الذي ينبغي عليه استعماله فيما بعد.
إنني اسأل كل إسلامي يعترض على الاعتصام أن يعطيني دليلا واحدا لا ثاني له يدفعه إلى الثقة والاطمئنان في أعضاء المجلس العسكري، إن الإنسان بطبعه عدو ما يجهل، وتلك المرة الأولى التي أرى فيها إنسانا يثق فيمن يجهلهم!!!
فلئن كان واثقا، فإنني أتمنى عليه أن يعطيني بعضا من ثقته هذه، ومعها تصوره البديل إن لم تكن ثقته في محلها.. فلعله إن كان يملك تصورا بديلا أن يشفي صدري القلق الحيران الذي يكاد يطير خوفا من سرقة جديدة لهذه الثورة التي كانت لنا كالماء البارد بعد عطش السنين الحارقة!
وأخيرا: كم أتمنى أن تدخل كلماتي هذه إلى عقول قادة العمل الإسلامي، فإنهم كما قيل لمصعب بن عمير في أسيد بن حضير: سَيِّد مَن وراءه مِن قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان! فلئن نجحوا فإليهم يرجع الفضل عند الله ثم عند الناس والتاريخ، ولئن لم يفعلوا فضاعت الثورة وهم شهودها فأخشى أن تنزل عليهم لعنة الناس والتاريخ، وحسابهم عند الله تعالى هو أعلم بإخلاصهم ونواياهم وما قد كانوا يصنعون.
نشر في: شبكة رصد الإخبارية
July 23, 2011
قصة ثائر نادم!
حدثت هذه القصة قبل ثلاثة عشر قرنا، غير أن وجه الاستفادة منها لا يزال قائما كما هو حال التاريخ، وأولى الناس بالاستفادة منها في وقتنا هذا هم الذين أنجزوا الثورات ولم ينجزوا بعد فصول التحول نحو البناء الجديد.
***
كان داعية بني العباس الكبير بكير بن ماهان في سفر من العراق إلى السند لأن أخا له مات هناك وترك ميراثا، وهو كحال أصحاب الدعوات ومؤسسيها تجري مبادئهم في عروقهم ويتنفسونها، لهذا استطاع في طريقه إلى السفر أن يضم عددا إلى الدعوة منهم بطل قصتنا سليمان بن كثير الذي التقاه في خراسان.
اعتنق سليمان الدعوة الهاشمية بكل كيانه، وكان من أركانها المعدودين منذ بدايتها، ولم يمض كثير وقت إلا وصار مسؤول الدعوة في خراسان، المعقل الرئيسي للحركة العباسية ضد الحكم الأموي، واستطاع سليمان بن كثير أن يؤسس للدعوة في خراسان، وأن يبدع طريقة جديدة في الابتعاد عن العاصمة مرو حيث النفوذ الأموي قد استطاع كشف قادة الدعوة هناك، فسارت الدعوة في الحواضر الأخرى حتى اشتد عودها.
لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، بل إن ما قام به سليمان بن كثير –مع رفاقه المؤسسين في خراسان- هو العمل الأشق والأصعب، وقد ذهبت منهم نفوس كثيرة كشفها الأمويون، وقد عاشوا العنت والرعب والخوف والملاحقات والتعذيب الشديد من جهة السلطة، وعانوا كل ما يعانيه أصحاب الدعوات من جهة الناس.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة، حين قوي أمر الدعوة في خراسان وصار لها رجال وأتباع وأنصار كثيرون، فأراد أصحاب الدعوة في خراسان أن يُرسل إليهم الإمام العباسي (الذي كان ما زال متخفيا في الشام) رجلا من آل البيت ليقود الثورة في مرحلة إظهارها، وحين أجابهم الإمام بأن يكون قائدهم هو سليمان بن كثير، رفض سليمان هذا العرض رفضا قاطعا، زهدا وخوفا من القيام بأعباء المسؤولية الجسيمة.
والزهد في المناصب الكبرى لدى مؤسسي الدعوات الدينية أمر مفهوم، فالغالب على هؤلاء الرجال أنهم يفزعون عن الجزع ويقلون عند الطمع ويتعرضون للمخاطر لا يرجون إلا وجه الله وثواب الآخرة، إلا أن هذا الزهد والانسحاب من المسؤوليات ليس هو الطريق الصحيح دائما، فالأمر بحسب ما تحتاجه الدعوة وتتطلبه اللحظة لا بحسب ما ترتاح إليه النفس!
أرسل سليمان بموقفه هذا إلى الإمام إبراهيم العباسي، ثم جاءته بعد فترة رسالة من الإمام يحملها فتى حدث السن في أواسط العشرينات.. هذا الفتى كان خادما عند بعض أهل الدعوة في العراق، وهو مجهول النسب ومن الموالي، فتعرف عليه سليمان بن كثير قبل نحو ثلاث سنوات فاشتراه من سيده لكي يخدم الإمام وأهداه إليه!
ونزلت الصاعقة على سليمان بن كثير حين قُرِئَت الرسالة التي كان فيها القرار بأن هذا الغلام هو الذي عينه الإمام ليرأس الدعوة ويقود الثورة في خراسان!!
لم يصدق سليمان بن كثير، وهو الذي كان ينتظر أن يأتي الإمام نفسه ليقود الثورة أو يأتي واحد من آل بيته في أدنى الأحوال، فإذا الذي أتى شاب صغير كان عبدا قبل سنوات!! فماذا يستطيع مثل هذا أن يفعل أو كيف يمكن أن يقود شيوخ العرب والخراسانيين وأهل الدعوة؟!
صاح سليمان مندهشا: "صُلِينا بمكروه هذا الأمر (أي تحملنا الصعاب في هذه الدعوة)، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، حتى قُطِّعَت فيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حَزًّا بالشفار (أي قُطِّعت الألسن)، وسُمِلَت الأعين، وابْتُلِينا بأنواع المثلات (أنواع التعذيب والتشويه)، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا، فلما تَنَسَّمْنَا روح الحياة، وانفسحت أبصارنا، وأينعت ثمار غراسنا، طرأ علينا هذا المجهول الذي لا يُدرى أية بيضة تَفَلَّقَت عن رأسه، ولا من أي عش دَرَج؟!، والله لقد عرفتُ الدعوة من قبل أن يخلق هذا في بطن أمه".
وأمر كاتبه أن يكتب بهذا إلى الإمام، إلا أن مجلس الدعوة في خراسان رفض موقف سليمان بن كثير، وقرر أن يسمع ويطيع للإمام ويقبل برئاسة هذا الفتى: أبا مسلم الخراساني!
بعض المؤرخين يجعل من هذه العبارات دليلا على كِبر سليمان بن كثير وغروره، وهو ما لا دليل عليه في الحقيقة، فلو كان هذا من طبع سليمان لقبل بقيادة الثورة أولا، ثم لقبلها حين عرضها عليه الإمام مرة ثانية، أو حتى مرة ثالثة، فإن الإمام إبراهيم قد أوصى أبا مسلم الخراساني بأن سليمان إذا قبل قيادة الثورة فهي له وإن رفضها فليتولاها أبو مسلم.. وأغلب الظن أن الأمر كان خوفا حقيقيا على مستقبل الدعوة ومصيرها.
ومما يدل على هذا أيضا أن مجلس الدعوة في خراسان، وكان أيضا من ثلة من خيرة الرجال كما هو حال مؤسسي الدعوات، رفض موقف رئيسه سليمان بن كثير، وقبلوا –وهم وجوه العرب وشيوخ القبائل- أن يترأسهم فتى صغير عبد ليس له نسب صريح، وهذا في ذلك الوقت من عزائم الأمور.
فلم يجد سليمان إلا أن ينزل على رأيهم وأن يكون واحدا منهم، ولما علم بأن الإمام قد ضَمَّن رسالته أمرا لأبي مسلم يقول: "إن قبل سليمان بن كثير القيام بأمر الدعوة ونصب نفسه لذلك فَسَلِّم له، وإن كره قبول القيام فلا تَعْصِيَنَّ لسليمان أمرًا، وقدمه في جميع ما تدبرون"، قال: "إني والله ما كرهت القيام ألا أكون أضعف الناس فيه نية، ولكني أخاف اختلاف أصحابي ونحن نداري ما نداري، وأنا يدك وصاحبك الذي لا يخذلك ولا يغشك ما لم تخالفنا وتعمل ما يوهن أمرنا، قال أبو مسلم: أحسن بي الظن فَلأَنا أطوع لك من يمينك".
سارت الأمور بالنسبة للدعوة على خير وجه، ولقد كشف هذا الشاب الصغير أنه كان أهلا للعظائم الكبيرة، وأبدى من المواهب والطاقات في القيادة والزعامة والاحتواء لأصحابه وأتباعه ما جعله "صاحب الدولة"، واشتعلت الثورة العباسية وانطلقت من خراسان ولم تلبث عاما وبضعة شهور حتى كانت الدولة العباسية قد قامت على أطلال الإمبراطورية الأموية القوية!
أما بالنسبة لسليمان بن كثير نفسه فقد سارت الأمور على أسوأ وجه، إذ كان أبو مسلم الخراساني مع طاقاته الفريدة ومواهبه المدهشة رجلا مستبدا بلا رحمة، يقتل لأدنى شبهة، ولا يقبل العفو، وقد انفرد بالأمر وحده دون سائر من معه من أهل الدعوة وشيوخها، وقد بلغ من النفوذ والسطوة والسلطان ما جعله أقوى من الخليفة العباسي نفسه!
ورأى سليمان بن كثير بنفسه بعد ثلث قرن من حياته في الدعوة كيف بدأت الأمور وكيف انتهت؟ وكيف كان وإلام صار؟ وكيف اقتطف أبو مسلم ثمرة دعوة كانت تدعو إلى العدل والإنصاف وإقامة الدين والسنة فصارت على يديه إلى دماء ومظالم أخرى، ثم كيف بلغ أبو مسلم مبلغا لا يمكن معه حتى للخليفة العباسي أن يصنع شيئا!
لا ريب أن الأسى كان يقتله، فهو الذي قام بأمر الدعوة حال الخوف والكرب والضيق، وعانى في سبيل نشرها ورعاية نموها أشد المعاناة، كيف سارت به الأيام حتى جاء الغلام الصغير الذي صار الأمير صاحب الدعوة والسلطان، فلو أنه أمر بقتل سليمان بن كثير لقُتِل في الحال!
ثم جاءت لحظة رأى فيها سليمان فرصة تصحيح الوضع، إذ زار أبو جعفر المنصور –أخو الخليفة أبي العباس- خراسان، وكان معه في هذه الزيارة عبيد الله بن الحسين الأعرج، من العلويين.
حاول سليمان بن كثير أن يُعيد الأيام سيرتها الأولى، وأعماه ما نزل به عن حقيقة أن الأيام لا تعود إلى ما كانت عليه في نفس الجيل، ففكر في أن يكرر سيرته مع العباسيين ولكن هذه المرة مع العلويين، وأن يؤسس من جديد حركة تدعو لهم، فانفرد بعبيد الله بن الحسين الأعرج، وقال له: "يا هذا إنا كنا نرجو أن يتم أمركم (باعتباره من آل البيت)، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون"! ولكن عبيد الله الذي رأى سلطان أبي مسلم ونفوذه ظن أن هذه قد تكون مؤامرة من أبي مسلم لاختبار ولائه للعباسيين، وخاف إن هو كتم هذا الخبر أن يأخذه أبو مسلم بهذا الذنب، وبدافع من هذا الخوف أفضى عبيد الله إلى أبي مسلم بما كان من سليمان بن كثير.
كانت هذه في نظر أبي مسلم، بل في نظر أي دولة خيانة عظمى، وإذا كان أبو مسلم لا يتساهل فيما دون هذا من الجرائم، فكيف بهذا؟ لم يتردد في قتله، ولم يكن أحد يستطيع أن يُنكر عليه ما فعل.
وبهذا انتهت قصة أحد كبار مؤسسي الدولة العباسية، وأحد كبار الثائرين، قصة سليمان بن كثير الخزاعي، فجاءه الفشل من الباب الذي ظل طول عمره يرى فيه الأمل، ويعمل له بمنتهى الإخلاص..
وإن لكم في الأيام لعبرة.. وإن حراسة الثورات أهم من إشعالها، وإتمام فصولها نحو البناء الصحيح هو الضمانة الوحيدة لعدم الانقلاب عليها، وإن من يقطف ثمار الثورة فيملك السلطة والقوة يستطيع أن يعيد الأيام سيرتها الأولى من الظلم والفساد والاستبداد، غير أن هذا ما لا يملكه الذين ثاروا أول مرة، أولئك ما لديهم من سبيل، حتى يأتي جيل آخر بعد نصف قرن آخر فلعله يصحح مسيرة الأجداد، ولئن كان في سذاجتهم فإنه سيكررها!
نشر في: شبكة رصد الإخبارية