إصلاح النفس بالنظر إلى مخلوقات الله
اقترح على القارئ الكريم القيام بهذه التجربة التخيلية:
اجلس وحدك خاليا من كل المؤثرات، واضغط على ذهنك وتخيل شيئا واحدا فقط: تخيل أن هذه الدنيا قد خلت من كل الكائنات الحية التي عليها، ولم يعد سوى الإنسان والجماد فحسب! وانظر ماذا ترى؟!
حتى الذين يعيشون في المدن ولا يستعملون الحيوانات في زراعة أو ركوب لا يسرهم مشهد الكون إذا خلا من مخلوقات الله الأخرى، وكلما طال بك التخيل كلما كان استفادتك من السطور القادمة أكثر، فلعلك أيها القارئ الكريم تقبل رجائي وتتخيل أكثر وأعمق.
***
ربما هي المرة الأولى التي ستشعر فيها كم أنت بحاجة إلى مخلوقات أخرى ذات روح تسري حولك، تطير أو تزحف أو تمشي، إن المتابعين لعالم الحيوان يأسرهم سلوك المخلوقات في السعي إلى الرزق ورعاية الأولاد والتخفي من الأعداء والصراع على مناطق النفوذ.. إنه شيء يثري الحياة والذهن والخيال، ويشرق في النفس إشراقة روح هائمة تبصر في غيرها مواطن دقة وروعة وجمال.
كان لا بد من العودة إلى الخالق العظيم في كتابه المسطور الذي يفسر به هذا الكتاب المنظور، فكيف أخذ القرآن الكريم بالأنظار والقلوب نحو هذه المخلوقات الأخرى؟
فوجدنا هذه الصورة:

أولاً: لذة الإنسان
وهي لذة مستفادة من طريقين: طريق المنفعة والتمتع، وطريق النظر والتأمل والتعلم.
فأما طريق المنفعة والتمتع، فلقد امتنَّ الله على بني آدم بأن خلق لهم الأنعام وذلَّلها لهم فانتفعوا بها: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}. وعدَّد -سبحانه- فوائدها {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِن رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
وحتى تلك الطيور التي تسرح في فضاء السماء الرحب مسخَّرة للإنسان: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ فهذه النحلة تقوم برحلة طويلة، وتقع على مئات الآلاف من الزهور، لكي تُخْرِج عسلاً صافيًا فيه شفاء، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وفي الآيات إشارت إلى الجمال بخلاف مجرد المنفعة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}، و{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، و{شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، فالجمال نعمة كنعمة المنفعة تماما، وحسبك أن تتخيل حجم الضيق والشدة والأزمة لو أن كل ما تنتفع به كان سيء المنظر قبيحا! ولذا قال القرطبي: "جمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر"