محمد إلهامي's Blog, page 91
November 1, 2011
تضامنا مع علاء عبد الفتاح
كان مما ساءني كثيرا أن أعود إلى الانترنت بعد انقطاع أيام لأجد خبر حبس الصديق العزيز جدا علاء عبد الفتاح، الأب الروحي للمدونين، وأحد رموز ورواد هذا الجيل.. ذلك أني لم أستطع التضامن معه ولو بعبارة، وهو ما نويت ألا يفوت مني لا سيما وأن حبسه السابق في عهد المخلوع كان أيضا في أيام انقطعت فيها عن الانترنت لظروف الامتحانات في الكلية ففوجئت بنفس الأمر.
لم أقابل علاء إلا مرة واحدة لدقيقة واحدة في مقر حزب الغد ذات جمعة بعد الثورة، تمنيت أن يطول اللقاء ولكن لم يكن ذلك ممكنا، لكن العلاقة مع علاء تنطلق منذ ست سنوات وبالتحديد منذ أضاف مدونتي "المؤرخ" إلى "مجمع المدونين" بعد تغطية قمت بها في مراقبة انتخابات برلمان 2005 في دائرة منوف والسادات.. أعجبته التغطية فكتب عنها "وسع وسع للتدوين" واعتبر أنها نموذج متفوق للصحافة الشعبية (والشكر موصول لمن أوصل المدونة إليه وهو الصديق عمرو غربية).
لم تكن علاقة قوية ولا وطيدة، كانت علاقة احترام من بعيد، لقد كنت أشاهده مندهشا، جرأته وقوته وشجاعته في التدوين والحركة على الأرض، وأهم من كل هذا هو إيمانه الحقيقي بالحرية، وكلمة "الحقيقي" هذه كم تعرضت لصدمات من أناس ظنناهم ممن يؤمنون بالحرية حتى كشفت الأيام أنهم طغاة لم يتوفر لهم كرسي الحكم.
دارت بيننا عدة حوارات في أيام التدوين، مع كل حوار كنت أحترمه أكثر وأكثر وأكثر، رغم الاختلافات الهائلة في المنطلقات والأفكار، لكن الإيمان بالحرية وأهميتها كان يجمعنا، وهذا كان يكفي، بل ويكفي جدا.. وهو أيضا ما جمعنى بعلاقة احترام مع شباب مختلف تماما مثل مالك مصطفى وعمرو عزت وغيرهما، وإن كانت حواراتي مع علاء وعمرو هي الأعمق والأكثر تفصيلا.
أعلنت قبل شهرين تقريبا أني أدعو لعلاء سيف وعمرو عزت تحديدا أن يعز الله بهما الإسلام، ولست أعني بهذا ما توارد لذهن البعض من معاني سلبية، فإني أيضا اسأل الله أن يعز بي الإسلام.. إلا أني أرى في هذين تحديدا –باعتبار ما كان بيننا من حوارات طويلة أيام التدوين- قبس "الباحث عن الحق" وهو الطريق الذي لم يسلكه مخلص إلا وهداه الله للحق أو أعذره بما وصل إليه من حق.
أعلم أني أبدو مرتبكا، الكتابة بالمشاعر من الأمور التي ترهقني، فلا أنا أحيط بمشاعري فأصفها ولا أنا أستطيع ألا أكتب.. والخلاصة التي أريد الانتهاء إليها كالآتي:
- أن علاء سيف ليس مجرد ناشط سياسي، بل هو أحد رموز هذا الجيل، وهو ينتصب رمزا قائما وحده وبمجهوده المنفرد.
- فإذا علمنا مع ذلك أنه سليل عائلة تعشق الحرية وتناضل في سبيلها نضال المؤمنين الحقيقين بها فهذا يعطي له عمقا وخلفية تزيده احتراما: والده الأستاذ سيف الإسلام حمد، الحقوقي المعروف، ووالدته الدكتورة ليلى سويف الأستاذة الجامعية المعروفة، وشقيقته منى سيف المعروفة في نشاط لا للمحاكمات العسكرية.. كذلك زوجته الأستاذة منال وهي ابنة الحقوقي المعروف بهي الدين حسن!
- أعلم أن أغلب من يقرأ لي من الإسلاميين، ولربما أكون صدمت بعضهم، ولكني أحسن الظن بهم وبأنهم يعلمون أن ديننا يأمرنا أن نكتب لوجه الله لا لوجه أحد ولو لوجه جمهور الملتزمين.. وقد قلت ما أعتقد أنه الحق في موضوع علاء سيف.
- لم أكن أود أن أكتب الآتي، ولكن لعل عذري في ذلك أن "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروف".. يجب أن أعلن أني مختلف مع علاء وعائلته في كثير من الأفكار والمنطلقات، ولكني أعود فأقول بأن الاتفاق على قداسة الحرية يكفي ويكفي جدا، وهي القاعدة الأساسية التي يمكن بناء عليها حل جميع المشاكل العالقة.. لذا فإن مشكلة هذه البلد ليست في اختلاف الأفكار بين إسلامية وعلمانية ويسارية وغيرها، بل الخلاف الجوهري العميق هو خلاف حول الحرية، بين من يريد للشعب أن يمتلك قراره وبين من يرى أن الشعب غير مؤهل وغير ناضج ولا يستحق أن يعطى الحرية الكاملة لأنه سيختار الخطأ.. وهذه هي الجريمة الحقيقية التي يرتكبها العسكر والمحسوبين على العلمانية لا حبا في المساواة والعدالة وعدم التمييز بل كرها في الإسلام والدين.
- يظل علاء سيف واحدا من الذين اقتنعت معهم بأنه يمكن الالتقاء بين الأفكار المختلفة على قاعدة الحرية.. فيما قبل عصر التدوين كانت الرموز العلمانية هي مسوخ الشياطين كرفعت السعيد ونعمان جمعة وعمرو عبد السميع والسيد ياسين وحازم عبد الرحمن وباقي الحثالات التي ملأت الصحف الحكومية! في عصر التدوين اكتشفت شبابا لم يتلوث بعلاقات مع الخارج أو بمصادر تمويل أو بأفكار معلبة.. بل كان الجميع على اختلاف الاتجاهات يجاهد في تدمير سقف الحرية المفروض، ولا يمنع اختلاف الأفكار أن يقفوا جميعا صفا واحدا للدفاع عن أحدهم.
علاء.. أتمنى أن تظل كبيرا، وأرجو الله لك كل الخير، وأعتذر لك أني تأخرت في التضامن معك قولا وفعلا (لقد كنت أتزوج، فلم أعلم)، ولست أشك في أن الحبس سيزيدك قوة.. ولئن كنت آسى على أحد، فإني آسى على قوم منعهم اختلاف الأفكار من نصرة المظلوم، ولست أدري أين هم من حديث يحفظونه "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم"، وكيف نسوا ذلك الحديث الآخر "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم".. وهذا الحديث الأخير هو ذات معنى المقولة الشهيرة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".. ولكم كان الإمام أبو حامد الغزالي موفقا حين قال: "معناه تسقط مهابتهم من أعين الأشرار فلا يخافونهم" [إحياء علوم الدين 1/583]
سلام على الثوار الأحرار.. ولعنة الله على الظالمين..
اللهم لا تحرمنا الشهادة في سبيلك.
نشر في شبكة رصد الإخبارية
October 24, 2011
عن ضرورة النزول في جمعة "المطلب الوحيد"
حين ترك المصريون ميدان التحرير بعد تنحي المخلوع، كانت تملؤهم الثقة في أن ثورتهم قد نجحت، وفي أن الجيش المصري "العظيم" سيأخذ بيد الثورة حتى تسليمه إلى سلطة مدنية منتخبة بأقل الخسائر وأكثر الطرق أمانا، ذلك أن الجيش كان –ولا يزال- المؤسسة المتماسكة القادرة على حماية الخيط الأخير في حلقة انهيار الدولة.
عظيم.. هذا بحد ذاته دليل على أن الثوار لا يحبون الثورة بطبيعتهم، ولا يدمنون الاعتصامات، ولا لديهم هوس بالمظاهرات، ولا وُلِدوا ملتصقين بميدان التحرير.. لقد تركوه عندما كانت لديهم الثقة، ولذلك عادوا إليه كلما افتقدوا إلى الثقة.
لا يغيب عن بالي كلمات عبد الناصر لحسن العشماوي قبل ستين سنة حين صرح له أنه لا بد من التضييق على هذا الشعب في الرزق لكي ينشغل بحاله ويكون طيِّعا، وهو ما فهمه حسن العشماوي، ورواه بعدئذ في كتابه "مذكرات هارب" بعد أن طاردته شرطة عبد الناصر في قصة إنسانية غاية في الإثارة والمأساة!
لقد كان حسن العشماوي أحد المخدوعين في ضباط 52، وقد دفع المخدوعون حينها ثمن انخداعهم باهظا، سجون ومعتقلات ومشانق وأسر أكلت التراب ولم تجد حتى الثياب الممزقة تستتر بها، وقبلهم وبعدهم دفع الوطن من عمره وحريته وموارده ستين سنة هي في عمر التخلف الحضاري والعلمي والاقتصادي أكثر من الف سنة!
حسنا، لنتكلم بوضوح:
1. الجيش نكث عهده مع الشعب، ومضت ثمانية أشهر بدون خطوة حقيقية على مسار التحول الديمقراطي، والطريف –بل الصاعق- أن المجلس العسكري قد صرح بعدة تصريحات تنسف ما يُتوهم أنه مسار للتحول الديمقراطي، أخطرها تصريحان؛ الأول: عن أن المجلس غير ملزم بأن يكلف الأغلبية بتشكيل الحكومة فالنظام ما زال "رئاسيا"، والثاني: أن القائد العام للقوات المسلحة لن يعينه حتى الرئيس المنتخب!!
2. ثم استطاع الفريق سامي عنان ومجموعته القيام بخدعة، نعترف به فيها بالمهارة الرائعة، لمجموعة الأحزاب الثلاثة عشر، فاستخلص منهم موافقة على جدول زمني قاتل للثورة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، ثم أمسك في تلابيب هذا الاتفاق، برغم أن هذه الأحزاب لا تمثل الشعب المصري وبرغم تراجع بعض الموقعين عن الاتفاق!
3. هذه الخطوات أفضت إلى أن الفترة الزمنية لم تعد ستة أشهر، بل صارت مفتوحة بلا حد، ومليئة بالفخاخ.. وحتى لو تم كل شيء في الحد الأدنى من الزمن فإن البرلمان القادم منزوع الصلاحيات، بل حتى الرئيس المنتخب لديه بعض الخطوط الحمر!
الآن تسود الساحة نوعين من الرؤى: رؤية وطنية، ورؤية أنانية انتهازية سافلة (لا أحب التهذب في موضع الحقيقة).. وهي تلك الرؤية التي تريد الإبقاء على حكم العسكر غير الشرعي وغير الديمقراطي وغير المنتخب لأنهم يعلمون موقعهم ومكانتهم الشعبية، فهم على استعداد صريح للتضحية بالوطن ومستقبله إذا لم يكونوا ذا مكانة فيه.
وأما الرؤية الوطنية فهي تنقسم إلى تيارين، تيار يسير مع الجدول الزمني الممطوط ويريد أن يلاعب العسكر ويثق بقدرته على استدعاء الحشد الشعبي في الوقت الذي يحيد فيه العسكر عن طريق تسليم السلطة، والتيار الآخر يريد من الآن تقليص الجدول الزمني والمطالبة بانتخابات رئاسية قبل وضع الدستور، وهذا التيار هو الذي يدعو للنزول والحشد في مليونية يوم الجمعة 28/10/2011 في ميدان التحرير للضغط حتى إصدار قرار بهذا المعنى.
وأعلن أنني منحاز تماما وبكل كياني إلى هذا التيار الثاني، وأدعو للنزول يوم الجمعة في مليونية تتطور إلى اعتصام حتى يتم إصدار قرار بإجراء الانتخابات الرئاسية في إبريل أو مايو 2012 بحد أقصى.. وأسوق في دعم هذا بعض الاعتبارات:
أولا: بالنسبة لأروقة الحكم
1. لا ضرورة أبدا، بل ولا شبهة ضرورة، في أن يظل العسكر في الحكم حتى يتم كتابة الدستور والموافقة عليه في الاستفتاء الشعبي.. ما المانع أن ينتخب رئيس يمارس الصلاحيات كما هي في الإعلان الدستوري، وليُكتب الدستور على السعة.
2. كتابة الدستور في ظل رئيس مدني منتخب لم يستكمل أسباب الديكتاتورية خير ألف مرة من كتابته في ظل حكم عسكري.
3. ستثور مشكلات لا شك حول لجنة كتابة الدستور، ثم حول مواد الدستور، وهذا نقاش يطول، وقد تكون نتيجة الاستفتاء الشعبي رفض الدستور، وفي هذه الحالة ستمتد الفترة الانتقالية سنة أخرى، فهل سنة أخرى تحت حكم رئيس مدني منتخب أفضل أم تحت حكم عسكري؟
4. وفي حالة انتفاء الثقة في العسكر –الذين أجبرونا على العودة لميدان التحرير في كل قرار- فالشك قائم في تدخلهم في صياغة مواد فوق دستورية أو تعيين أعضاء في الشعب والشورى ثم إدخالهم لجنة الدستور لتفجيرها أو تفخيخها.. ففي النهاية لا مجال للمقارنة بين الثقة في رئيس مدني منتخب لا يستطيع أن يكون ديكتاتورا في شهور، وبين مجلس عسكري يزداد كل يوم ترسخا في الحكم وينجذب له مزيد من المنافقين، ويدير كل علاقات البلد الداخلية والخارجية في الكواليس دون أدنى قدر من الشفافية.
5. حتى لو جرت انتخابات نزيهة وأفرزت برلمانا نزيها، فإن الحقيقة أنه سيكون بلا صلاحيات مؤثرة لأن النظام ما زال رئاسيا، المعركة الحقيقية تكمن في انتخابات الرئاسة وتأجيل هذه المعركة إلى ما بعد سنة ونصف سيجعل قدرة العسكر على المناورة أفضل جدا، فهو سيلاعب القوى السياسية بما حصلت عليه من مكاسب، وسينسحب من المعركة كل من لا يقدر أو لا يريد المنافسة على الرئاسة.
6. والخارج، لماذا يبدو المحللون والمراقبون في مصر وكأنهم نسوا الخارج تمامًا، من ذا الذي يشك ولو لحظة أن أمريكا وإسرائيل والغرب ليسوا على الخط الساخن المفتوح مع المجلس العسكري منذ اندلاع الثورة على الأقل.. حين نترك كل هذا الوقت لإدارة البلد من خلال هذا الخط الساخن ودون أي شفافية، فيما يظل الشعب في موقع الانتظار والمفعول به، فأي الحالين أفضل: أن تكون المواجهة الآن أم بعد سنة ونصف على الأقل، هذا مع الإقرار بأن الوقت الذي خسرناه قد لا يُعوض؟!
7. إذا كان الوقت الذي مضى أثبت لنا أن الإسلاميون (وهم القوى السياسية الحقيقية الوحيدة بحكم الأمر الواقع) في العموم لا يُفضِّلون المواجهة مع المجلس العسكري مع كل ما حدث في هذه الشهور (انخداعا أو خوفا – لا فرق الآن) فلماذا نتوقع أنهم سيفكرون في المواجهة حين يتبين لهم أن العسكر قد نكثوا العهد. أغلب الظن أنهم لن يخاطروا بأنفسهم ولا بكياناتهم (التي ستكون قد أخذت حريات جزئية ومقاعد برلمانية وربما وزارات هامشية) وسيتواءمون مع الواقع ويرضون به. أقول هذا وأنا من الإسلاميين، وأقوله مقرا به وكلي حسرة!
ثانيا: بالنسبة للزخم الثوري
8. لعل أحدا لا يشك في أن الزخم الثوري يتراجع بالفعل، وإذا كانت القوى الوطنية تعاني من حشد مليونية بعد عشرة أشهر من الثورة، فكيف بها بعد سنة ونصف أخرى على الأقل.
9. يخدع نفسه جدا ذلك الذي يظن أن الزخم الثوري سيستمر، وأنه قادر على حشد الناس دائما وقتما يحب، دعونا نتذكر مثلا (وهذا المثال أهديه للإسلاميين خصوصا) أن الحشد الذي صرفه عبد القادر عودة في مظاهرة عابدين 1954 لم يُر مرة أخرى على الإطلاق رغم ما نزل بالأمة والوطن من كوارث.. وكل مطالب المظاهرة من سلطة مدنية وعودة نجيب تم سحقها دون أن ينبس أحد ببنت شفة، ولا حتى في السجون التي قُهِر فيها المعتقلون على الهتاف بحياة جلاديهم!
10. ذلك أن الوقت عنصر فاعل، فكما أن الوقت يُنسي الهموم ويداوي الجروح، فهو أيضا يرسخ المشكلات والأزمات.. ثمة لحظات فارقة تساوي أعمارا طويلة، وهذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل، كم مرة فاتتك الطائرة لأنك تأخرت دقائق فاضطررت أن تتأخر يوما أو شهرا أو تلغي السفر كله.. الثمن لم يكن تلك الدقائق، بل كان ثمنا باهظا، وهذا إن أمكن دفع الثمن وتعويض الخسارة أصلا.. ولذا فخوض المعركة في هذه اللحظة أفضل بما لا يقارن من خوضها حين تزداد الثورة تراجعا ويزداد المجلس العسكري رسوخا في الحكم.
هذه عشرة أسباب، أرى أنها فاصلة وواضحة وضرورية في الدعوة للحشد والنزول يوم الجمعة 28/10/2011.. وأتمنى على الله أن يوفق القوى السياسية والثورية، وفي القلب منها رجل المرحلة الرائع: الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، لاستكمال هذا الحشد وأن تكون مليونية وأن تتطور إلى اعتصام.. فإما أن تنجح هذه الثورة وإما أن نعد حقائبنا: إلى السجون أو إلى المهاجر، هذا إن لم يذهب بنا الطغاة الجدد إلى المشانق والمقابر..
الأمر فعلا جد خطير، ولو أن هذه الثورة لم تكن إلا استبدالا لاسم الطاغية مع الإبقاء على المنهج والنظام وفلسفة الحكم فهي ثورة فاشلة، فاشلة فاشلة فاشلة، فاشلة كأخواتها اللاتي سُرِقْن من الشعب في كل مرة..
اللهم قد بلغت..
اللهم فاشهد..
نشر في شبكة رصد الإخبارية
October 8, 2011
شهادة قانوني غربي للشريعة قبل مائة عام!
في حواره مع قناة الجزيرة مباشر مصر لفت المستشار طارق البشري النظر إلى أن المتشكك في الشريعة الإسلامية ليسوا –في العموم- من أهل القانون، بل هم من "النخبة السياسية" التي يمثل جهلها بالإسلام وبالشريعة المشكلة الأساسية في السجال السياسي والثقافي القائم.
على أنه ينبغي أن نضيف شيئا آخر، ذلك أن النظر إلى العلمانيين على أنهم مجرد أصحاب رأي مخالف هو بعض الصورة لا كلها، وتكتمل الصورة حين ننظر إلى الخارج الذي استطاع في سنوات الاستعمار ثم سنوات الاستبداد صناعة قواعد داخلية وطابور خامس ينطق باسمه على لسان عربي، ويروج لأفكاره باللغة العربية.
لكن الخارج وأذنابه قد أفلسوا إفلاسا تاما في المعركة الفكرية، وصاروا يرددون الكلام الذي مضى على إثارته أكثر من قرن من الزمان، وهو الكلام الذي أُشْبِع ردا وتفنيدا من علماء الإسلام بل من المستشرقين المنصفين، ولم يعد أحد يردده ممن يحترم نفسه ويحرص على صورته ومكانته في المجال الفكري
September 29, 2011
رحيل المجاهد المؤرخ محمود الصباغ
مائة عام إلا سبع سنوات..
هكذا عَمَّر الرجل الفذ على هذه الأرض، قضى شبابه مجاهدا، ثم جاءته الأيام بما لا يحتسب، فترك للتاريخ كتابين كشفا عن ذاكرة قوية وذهن حاضر، وأهم من هذا وذاك، كشفا عن صدق وتجرد للحق وإن خالف فيه الأصحاب والأحباب والناس جميعا..
***
في مثل هذا المكان قبل شهرين كتبتُ عن مؤرخ الفتوحات الإسلامية أحمد عادل كمال، والآن أكتب عن رفيقه الأستاذ محمود الصباغ، رفيقه في النظام الخاص للإخوان المسلمين، ورفيقه في المحنة التي انتهت بفصلهما من جماعة الإخوان المسلمين في بداية الخمسينات إبان الأزمة الشهيرة مع مكتب الإرشاد، وهو رفيقه أيضا في التأريخ للنظام الخاص.
ما لم أذكره عن أحمد عادل كمال في المقال السابق هو أنه مضى في تأريخه للنظام الخاص للإخوان المسلمين في كتاب (النقط فوق الحروف) على غير طريقة المؤرخ، بل سلك فيها طريق الداعية!
ذلك هو العيب الوحيد الذي أنتقده على الأستاذ الكبير الفذ أحمد عادل كمال، ذلك أن طريقته هذه وإن كان غرضها حسنا حميدا يتمثل في "إخماد الفتنة" فإنها أخفت عن جيلنا الحالي حقيقة التاريخ الذي حدث في تلك الفترة، وحقيقة الأدوار والأسماء والمسؤوليات، وبالتالي خفي علينا الدرس الذي يجب أن نتعظ به في مستقبلنا وحياتنا الحاضرة..
إن جزءا كبيرا من أزمة الإخوان المسلمين اليوم أنهم لا يعرفون على وجه التحديد كيف أمكن لعبد الناصر أن يلعب بقيادتهم قبل نصف قرن حتى أوردهم السجون والمهالك، ولا يعرفون كم كانت قيادتهم في ذلك الوقت تحفل بعيوب جسيمة في الإدارة والتنظيم والقرارات جعلها مليئة بالثغرات التي استطاع الأعداء النفاذ منها.. وهذه الأزمة تتجلى في أن قياداتهم حتى هذه اللحظة لم تكتب تاريخ تلك الفترة بالوضوح والجلاء والصراحة التي ينبغي أن يكتب بها التاريخ! لذا تراهم اليوم على تردد وارتباك في العلاقة مع المجلس العسكري في مصر، ونسأل الله ألا يأتي اليوم الذي يتكرر فيه ما كان قبل نصف قرن، وهو إلى هذه اللحظة مشهد يعيد نفسه بدقة مدهشة!!
***
لولا الأستاذ محمود الصباغ لظل تاريخ هذه الفترة مجهولا بالنسبة للباحثين في تاريخ الإخوان المسلمين، ولهذا فإن فضله هو فضل الرائد المتميز الذي كشف أمرا تواطأ الجميع على إخفائه، ولئن كان إخفاؤهم هذا بحسن نية إلا أنه برأيي خطأ غير مقبول على الإطلاق!
"حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين"
هذا هو الكتاب الأول للأستاذ محمود الصباغ، وهو أوثق ما كتب على الإطلاق في تاريخ النظام الخاص للإخوان المسلمين، لم يكتب مثله ولا يُتوقع أن يكتب مثله، فالرجل كان واحدا من قيادات الهيئة العليا للنظام الخاص.
وقد قَدَّم للكتاب المرشد الخامس للإخوان المسلمين مصطفى مشهور، وقد شهد بأن مؤلفه "اجتهد في تحري الحقيقة من واقع الممارسة العملية"، وعَضَّد رأي المؤلف في أن ما كُتب عن النظام الخاص من أناس لم يكونوا منه إنما شَابَهُ الخطأ والنسيان.
وهذا الكتاب لم يكن فقط مجرد رحلته هو منذ تعرفه على الإخوان وحتى انكشاف أمر النظام الخاص في حادثة الجيب الشهيرة (1948م). بل كان كتابا تتلخص فيه رسالة الجهاد التي حملها الإخوان المسلمون، بدأه بمقدمة طويلة نوعا ما عن "الجهاد فطرة وشرعا"، ما كاد فيها يتحدث عن نشأته في قرية من قرى محافظة الشرقية والفطرة السليمة التي تسود القرى حتى بدا كأن حديث الجهاد جذبه من الحديث عن نفسه فانطلق يذكر الآيات والأحاديث وضرورة الجهاد للأمم والشعوب لا سيما الشعوب المحتلة كمصر (وقت الاحتلال الإنجليزي).
كان منزل الأستاذ الصباغ الذي نشأ فيه هو المنزل المجاور لمنزل الزعيم المصري الكبير أحمد عرابي الذي عرفت به "الثورة العرابية"، ولا شك أن سيرة عرابي الملهمة كان لها أثر بعيد في نفس الفتى الذي شب على حب الجهاد.
تدرج محمود الصباغ في العمر حتى دخل الإخوان على يد مصطفى مشهور، ولم يدخلها إلا حين علم أنها ليست كالجماعات والأحزاب الأخرى التي يسمح لها الإنجليز بالحركة لأنهم يضمنون أن كل كلامها عن مقاومة الاحتلال ليس إلا شعارات فحسب، ثم دخل النظام الخاص.
لم يكن النظام الخاص مجرد تشكيل عسكري، بل كان في الحقيقة جهاز مخابرات، ولذا كان اختيار أفراده يتم بدقة بالغة بعدما تتحقق الشروط التي تثبت تمتع هذا العضو بالمهارات المطلوبة بدنيا وعقليا وكذلك بالتربية الإيمانية التي تجعله مسلما ذا رسالة!
وعرض الصباغ لقضية السيارة الجيب التي كان انكشافها حدثا هائلا في ذلك الوقت، واهتم الصباغ بأمر القضية وعرض لنصوص الشهادات والوثائق والأحكام الصادرة، ذلك أن النظام الخاص ظل منذ بدأ وحتى لحظة كتابة هذه السطور مدخلا لمن أراد الطعن في الإخوان ورسالتهم، وهو في الحقيقة مفخرة حقيقية تشرف كل من انتمى لهذه الجماعة بل تشرف كل من انتمى لهذا الوطن وكان من أهله الأصلاء لا العملاء للغرب وحكوماته.
***
"التصويب الأمين لما كتبه القادة السابقون عن التنظيم الخاص للإخوان المسلمين"
وهذا هو الكتاب الثاني للأستاذ محمود الصباغ، وفيه كان يقوم بمهمتين في وقت واحد: يستكمل تأريخه للنظام الخاص للإخوان، ويرد كذلك على ما كتب في شأنه من القادة السابقين للإخوان الذين كتبوا مذكراتهم وتعرضوا فيها للنظام الخاص.
هذا الكتاب هو الذي تواطأ الجميع على إغفاله، كما تواطأ الجميع على إظهار الكتاب الأول "حقيقة التنظيم الخاص"، والسبب –كما ذكرنا- أنه كان تأريخا واضحا جليا دقيقا يذكر الأسماء ويحمل المسؤوليات ويثبت بالدليل أن المسار الذي يتخذه الإخوان للتأريخ للفتنة والعلاقة مع عبد الناصر وتحميل المسؤولية للنظام الخاص وقيادته إنما هو مسار باطل، يستهدف تبرئة أقوام وإدانة آخرين!
يفسر الإخوان كل ما نزل بهم بأخطاء عبد الرحمن السندي وقيادة النظام الخاص، وفي البال منذ أمد أن أكتب "دفاعا عن المجاهد الكبير عبد الرحمن السندي" (اسأل الله أن يرزقنا الهمة)، على حين أن تتبع مسار الأحداث يضع الخطأ والمسؤولية عند القيادة السياسية المتمثلة في المرشد الثاني حسن الهضيبي، وبعض ممن معه مثل حسين كمال الدين مسؤول المكتب الإداري للقاهرة، وصلاح شادي وحسن العشماوي (ضابط الاتصال بين الإخوان وعبد الناصر) وعلى حين مات الهضيبي وكمال الدين قبل أن يكتبا، إلا أن صلاح شادي كتب "حصاد العمر" الذي حاول فيه تبرئة نفسه وإلصاق التهمة بالنظام الخاص وعبد الرحمن السندي، وأما حسن العشماوي فقد كتب كتابيه (الأيام الحاسمة وحصادها) و(مذكرات هارب) شرح فيها الواقع واعترف من طرف خفي بأنه كان ممن خدعهم عبد الناصر!
جاء كتاب محمود الصباغ متميزا على أكثر من مستوى:
أولا: مستوى التأريخ، وقد كان الكتاب كسابقه نموذجا في الدقة والتماسك والوضوح، ولئن اتهمه البعض بالتكرار والإطالة إلا أن هذا كان في صالح الكتاب وصالح القارئ الذي لم يعايش تلك الفترات ولا يفهم بعضا من تفاصيلها، كما أن المؤلف كان مضطرا للتكرار في الرد لأن الشبهة نفسها تكررت في الطرح في أكثر من كتاب.
ثانيا: مستوى التحليل، وذلك في شأن الأحداث التي لم يكن شاهدا عليها، فكان يربط ببراعة بين المعلومات المتناثرة والمواقف المختلفة ليخرج بتحليل متميز ورؤية متماسكة عن سير الأحداث.. ولا يخشى المؤلف في حالة ما لم يتوصل إلى نتيجة مؤكدة أن يترك المعلومات أمام القارئ معلنا أن هذا هو غاية جهده، وللقارئ أن يحكم.
ثالثا: مستوى المراجعة: إذ عرض المؤلف هذا الكتاب على رفاقه الذين كانوا طرفا في الأحداث مثل الأستاذ أحمد عادل كمال والأستاذ مصطفى مشهور وغيرهما، ونشر في كتابه رد أحمد عادل كمال ثم تعقيبه على هذا الرد، وجرت بينه وبين مصطفى مشهور سلسلة من الخطابات كاد أن ينشرها لولا أن طلب منه مشهور عدم نشرها، فقد كانت وجهة نظر مشهور كغيره ممن كتبوا في تاريخ الجماعة أنه "لا داعي للخوض في تاريخ الفتنة"!
على كل حال لا يهمنا كثيرا اختفاء ما كتبه مصطفى مشهور، ذلك أن دقة وأمانة محمود الصباغ قد شهد بهما مشهور نفسه في تقديمه للكتاب الأول "حقيقة التنظيم الخاص".
***
عاش الأستاذ الصباغ بعد خروجه من الإخوان في أزمة الخمسينيات وهو أقرب إلى المجهول، اللهم إلا بعض لقاءات في الصحافة والأفلام الوثائقية التي تناقش تاريخ الإخوان المسلمين ونظامهم الخاص، وهذه المجهولية التي عانى منها الأستاذ الصباغ لا تعيبه بقدر ما تعيب من غفلوا عنه وأغفلوه، فلم يتذكروه إلا حين فاضت روحه إلى بارئها في (13/9/2011)..
نشر في المركز العربي للدراسات والبحوث
September 17, 2011
مراقبة الطبيب في الحضارة الإسلامية
واحدة من أبرز الأزمات التي يعانيها الجيل المسلم الحاضر هو جهله بتاريخ حضارته، كثيرون يندهشون إذا عَلِموا أن المسلمين هم من عَلَّموا أوروبا النظافة، وإذا علموا أن شوارع الأندلس هي الوحيدة التي كانت تضاء ليلا في كل أوروبا، وأن المسلمين اكتشفوا العدوى قبل أوروبا بأكثر من ثمانية قرون، وغير هذا كثير..
إن هذا يكشف عن أمرين: أصالة الأمة التي تنحاز إلى هويتها وحضارتها حتى وهي لا تعرف عنها إلا النزر اليسير، وعن مسؤولية الباحثين في التاريخ والحضارة الإسلامية في كشف المزيد من صفحات هذه الحضارة الزاهرة، فبها يؤمن من كان لا يعلم، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
في السطور القادمة نرصد بعضا من إنجاز الحضارة الإسلامية في مجال الطب، وبالأخص في مجال مراقبة المهنة وتنظيم شؤونها والعاملين فيها.
***
منذ القرن الثالث الهجري ابتكر المسلمون نظام الشهادة الطبية التي تجيز للطبيب ممارسة المهنة، وكان أول من ابتكر "نظام الإجازة" هو سنان بن ثابت، فقد طلب الخليفة العباسي المعتضد (ت 279هـ) من سنان بن ثابت رئيس الأطباء امتحان جميع الأطباء ببغداد، وكانوا حوالي 860 طبيبًا، وأمر المُحْتَسِب
September 12, 2011
نحو تصحيح حقيقي لمسار الثورة المصرية
كنت من الإسلاميين الذين قاطعوا هذه الجمعة، رغم أن موقفي المستمر كان هو النزول والتظاهر بل والاعتصام حتى إعلان جدول زمني لتسليم السلطة، وكنت أتمنى أن ينزل الإسلاميون بثقلهم فيها ليضبطوها وليحافظوا على حالة الزخم الثوري التي إن تراجعت فإن الثورة تكون قد تحولت إلى حكم عسكري جديد، لكن وحيث أن هذا لم يتحقق وتم نشوء الاستقطاب بين الإسلاميين والآخرين، فكان قرار المقاطعة بنظري هو الأصوب..
الفقرة السابقة ليست إلا للتوضيح، وأرجو ألا يدور حولها نقاش، فالأمر كان وانتهى، ونحن الآن نعيش توابعه.
فيما يخص هذه التوابع، أزعم أنه لا ينبغي البحث عن تحليل الحدث بقدر ما ينبغي البحث عن خريطة الفاعلين ومراتبهم ومصالحهم، الأمر جد بسيط ويفهمه كل الناس إلا جبان أو جبان يرى نفسه حكيما أو رجل يدعي الحكمة لتبرير جبنه، ولنكن صرحاء..
قصة الذرائع هذه قصة فاشلة من أولها إلى آخرها.. إن من يملك القوة والقدرة على التصرف يملك أن يحقق مصالحه، بذريعة وبغير ذريعة، وإن احتاج للذريعة فهو يدبرها لينفذ منها إلى مصالحه وأهوائه.
فمهما اجتهد الضعيف في السكوت والانسحاب لئلا تُحسب عليه النقاط وتُنسب إليه تهمة تفجير الوضع وتضييع الحل ونسف المسار، مهما اجتهد فهو لا ينجح.. انظروا إلى الفاشلين في عصابة رام الله كيف غرقوا في العمالة لإسرائيل تحت عنوان سحب الذرائع فلا هم بلغوا منها شيئا ولا هي توقفت عن حصاد النقاط مهما بلغت صورتها من الوحشية.. ولماذا نذهب صوب رام الله؟ دعنا نتحدث هنا عن الإخوان الذين بذلوا خطابا مائعا هلاميا بل هو في بعضه خطاب تجاوز الثوابت ودخل في الشذوذ الفقهي والفكري، وما رضي عنهم العلمانيون بل ما زادوهم إلا رهقا.. انظر على الجهة الأخرى كيف يتألق الخطاب الواضح للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل.
المعنى المقصود، أن من يملك الفعل هو من يملك تسخير كل حدث لمصلحته، سواء كان هذا الحدث يصب في مصلحته بطبيعة الحال أم يبدو لأول مرة وكأنه عكس المصلحة..
حسنا، أخطأ الجميع حين ترك الميدان ثقة في العسكر ليلة خلع المخلوع غير المأسوف عليه، إلا أن الخطأ الأكبر كان في الاطمئنان إلى العسكر الذين لم يبذلوا شيئا مفيدا على مسار التحول الديمقراطي حتى لحظة كتابة هذه السطور (مساء الأحد 11/9/2011)، بل ولا بذلوا شيئا على مسار إنهاء النظام القديم إلا تحت ضغط المليونيات وبكل الرقة والرأفة والتباطئ الممكن (لو أحسنا الظن بهم).. لقد ارتكب العسكر خطأ وحيدا وتعلموه جيدا ولم يكرروه، ذلك أنهم عهدوا بالتعديلات الدستورية إلى لجنة وطنية حقيقية، فصنعت لهم هذه اللجنة مسارا محكما للتحول الديمقراطي لا يزال يمثل لهم العقبة الأصعب في طريق استيلائهم على السلطة.. من بعدها يفضل العسكر الاستعانة بالشخصيات الفاسدة من النظام السابق أو الشخصيات الضعيفة التي تستعمل في المهمات القذرة فيتسلط عليها الهجوم ثم تلقى عند أول ضغط حقيقي (وما يحيى الجمل منكم ببعيد).
دعونا من الماضي.. لنبقى في اللحظة الحاضرة ولحظة المستقبل..
لم أرتح أبدا للجمعة الماضية، البرادعي (من مكان ما) يحذر من حرب أهلية، عمر عفيفي (من أمريكا) يحذر من ثورة غير سلمية، نشطاء (من تويتر) يرددون ذات الكلام.. الاستعانة بالألتراس الذي يجيد شغب الملاعب لأول مرة.. المشهد مريب، وبعد ساعات تحولت الريبة إلى يقين!
الداخلية اتهمت أصابع خارجية، و6 إبريل اتهمت أبناء مبارك، وكلها اتهامات لا قيمة لها أطلقت بدون تحقيق ولا أدلة.. الإسلاميون كانوا الأسلم بمقاطعتهم لهذه الجمعة (بيان الإخوان والدعوة السلفية بشأن المقاطعة أكثر من ممتاز)..
حسنا، إذا كان الأمر أمر أصابع خارجية، فإن الخيانة الوطنية تكمن في تحقيق طلبات الخارج وتأجيل الانتخابات البرلمانية (المؤجلة أصلا)، وإن كان الأمر أمر قلة مندسة فالخيانة الوطنية تكمن في تعليق مسار التحول الديمقراطي بسبب القلة المندسة، وإن كان الأمر أمر خلاف بين القوى السياسية، فالحقيقة التي يعلمها الجميع أن القوى السياسية الحقيقية قد قاطعت هذه الجمعة بل وشاركت في التصدي لأعمال العنف (السلفيون حموا أقسام شرطة كانوا يُعذبون فيها.. لقطة وطنية لا يراها إعلام أعمى) وعليه، فالخيانة الوطنية تكمن في وقف الذهاب نحو الانتخابات حيث تستطيع الصناديق حسم الخلافات بالصورة الأكثر تحضرا.
غير أن الكلام لا يجدي ولا ينفع، وما لم يكن صاحب الحق ذا قوة فإنه سيموت قبل أن تفصل المحاكم في قضيته، ولئن حكمت له فإنه لن يأخذ حقا إلا بقوة.
المجلس العسكري إن كان وطنيا حقا فعليه أن يترك البلاد للشعب يقرر مصيرها، ولو فعلوها فإنهم سيدخلون التاريخ من أخلد أبوابه، فانتعاش مصر أمر سيحول مجرى تاريخ العالم كله خلال السنوات القادمة، أما إذا لم يكونوا يريدون فإنهم –بما يملكون من قوة- يستطيعون تسخير الأحداث لتخدم نيتهم في البقاء ونسف التحول الديمقراطي، ولو لم يجدوا ذريعة فإنهم –بما يملكون من سلطة- يستطيعون تدبيرها.. وليس هذا جديدا فقد فعلها عبد الناصر من قبل، عليه لعنة الله والتاريخ والمصريين والمتضررين أجمعين!
نحن في لحظة تاريخية فاصلة.. لحظة يمتلك فيها الشعب روحا ثورية تجعله طرفا في معادلة القوة أمام قوة الحاكم.. بعد فترة ستنتهي لحظة الزخم الثوري وسيعود الشعب مسالما كما كان (هذه حقائق كونية لا ينبغي أن يتغافلها أو يهرب منها أحد).. في هذه السنوات لو لم نكن أنجزنا التحول الديمقراطي فينبغي أن ننتظر الجيل بعد القادم أو الذي بعده في ثورة جديدة.. سنكون قد ذهبنا مصحوبين بلعناتهم ولعنات التاريخ أيضا!
واجب الوقت هو نزول كل القوى المخلصة إلى الشارع، التظاهر والاعتصام، حتى صدور جدول زمني لتسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة، وينبغي أن نستفيد من دروس الماضي فيتكون لهذا الاعتصام قيادة تستطيع أن تتفاوض باسمه مع المجلس العسكري.. ولا ينبغي القبول بجدول زمني مائع أو مهترئ أو ممطوط، وكل القوى السياسية –وفي القلب منها الإسلامية- تستطيع أن تضع كل قوتها في تأمين الانتخابات أو ما شاءوا من إجراءات ضرورية لهذا التحول الديمقراطي!
الإسلاميون قبل الجميع يجب أن يعلموا أنهم أبطال هذه اللحظة أو أنذالها، هم القوة الأكبر في هذه البلد، وهم القادرون على الحشد والتأثير والتجميع، وهم الذين لو فشلت هذه الثورة سيكونون أول ضحاياها (مثلما لو أنها فشلت في خلع المخلوع، لكانوا الآن في السجون أو في القبور).. إن اللقطة التاريخية الآن تشبه مثيلتها قبل نصف قرن إلى حد مدهش، إن أخطاء الهضيبي وعبد القادر عودة وآخرين (أثابهم الله على نواياهم) جعلت الحكم العسكري يتوحش في مصر ويُرْديها إلى العمالة للأمريكان والإسرائيليين.. فلو أن المشهد تكرر مرة أخرى، فنحن حقا قوم لا نستحق الحياة.. ويجب أن تتطهر منا هذه الأرض عسى الله أن يستبدل لها قوما آخرين!
نشر في شبكة رصد الإخبارية
September 3, 2011
الإسلاميون والإعلام!
أنزل الله القرآن نورا وهدى، وفي أوقات الحيرة والالتباس التي تمر بها الأمة ينبغي على الحركة الإسلامية أن تكثف من استلهامها القرآن وقراءته وتدبره، فالقرار الصحيح في اللحظات الفارقة كنز لا يعرف قيمته إلا من أدخله قرار خاطئ في نفق التيه والظلام والحسرات عمرا مديدا!
***
بدأت فكرة هذا المقال من سورة طه، وبالتحديد من اللحظة الفارقة الكبرى التي قلبت حياة الصفوة من المصريين، حين رأى السحرة معجزة الله تذهب بسحرهم، فسجدوا وقد أعلنوا أنهم آمنوا برب هارون وموسى!
ستظل تلك اللحظة ملهمة لكل أجيال المؤمنين عبر التاريخ، فإيمان السحرة هو الإيمان الكبير الذي يتمناه كل مسلم، إيمان وُلِد كبيرا قويا متينا، لم يتردد في مواجهة فرعون العصر وطاغية الزمان، ولم يتردد في التضحية بالمكانة الكبرى والفريدة في المجتمع من الألقاب والتشريفات والرواتب، وانتهى إلى التعذيب الشديد، وما جاء آخر النهار إلا وكان قد تكلل بالشهادة.. فنعم الخاتمة خاتمة المؤمنين!
غير أن ثمة ما ينبغي أن يلفت النظر في ثنايا ذلك المشهد، ذلك أن السَّحَرَة ما إن رأوا معجزة الله فآمنوا حتى بدا أنهم مستوعبون تماما لرسالة موسى، يعرفون دقائقها وتفاصيلها، أولها وآخرها، عقباتها وثمراتها وجزاءها!.. اقرأ هذه الآيات وتأملها جيدا:
(فأُلقي السَّحَرَة سُجَّدًا * قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم؟! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أيُّنا أشد عذابا وأبقى *
قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاضٍ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأتِهِ مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى)
فلقد كان السحرة يستوعبون أمر الدعوة كاملا، الله وصفاته، وجهنم والجنة، والطريق إليهما.. ذلك حال أناس قد وصلتهم الدعوة كاملة، ووصلتهم الفكرة واضحة، وما كان بقي لهم إلا الإيمان القلبي لكي يدخلوا في زمرة المؤمنين.
من هنا نعلم ذلك المجهود الخارق الذي قام به موسى عليه السلام في توصيل الدعوة التي أرسل بها إلى الناس، رغم التضييق والتعتيم الفرعوني، حتى وصلت الدعوة إلى صفوة الطبقة المصرية التي كانت تقسم "بعزة فرعون"!!
وبديهي أن موسى لم يمر على سَحَرة القُطر المصري واحدا واحدا، وهم المنتشرون الذين جُمِعوا جَمْعًا بأمر الدولة من جميع المدائن حاشرين، كما أن مصر في تلك اللحظة كانت تمتد حتى منابع النيل جنوبا وحتى الأناضول شمالا، بخلاف مساحات من الشام كمدين وما إلى جوارها شرقا!
لا يأخذنا هذا إلا إلى استنتاج واضح، بأن موسى عليه السلام أنشأ جهازا إعلاميا لتبليغ الدعوة التي أُرسل بها، وأن هذا الجهاز قد نجح في مهمته خير نجاح، فأوصل الفكرة كاملة لمناطق كثيرة ولم يبق لكثيرين إلا أن يروا المُعْجِزة الدالة على صدق النبي ليصبحوا من المؤمنين!
هذا المجهود الإعلامي نراه في قصص الأنبياء جميعا، فقد ظل نوح يسعى في دعوة قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا حتى ما وجد القوم سبيلا لمقاومة الحق الذي يعذب ضمائرهم إلا أن (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم).. أي تغطوا بثيابهم لكي لا يسمعوا كلامه، وانتهى بهم الموقف إلى أن (قالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
***
ليس الهدف في سياقنا الآن تتبع المجهود الإعلامي الذي قام به الأنبياء، فلعل هذا يكون في دراسة مستقلة، وإنما الهدف الإشارة إلى المجهود الذي بذله النبيون في تبليغ الدعوة إلى أقوامهم حتى لم يعد لهم من سبيل، فيؤمن من آمن على بينة، ويصدق فيمن لم يؤمن قول الله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوًّا)..
ويكون المتحدثون باسم الدعوة على القدر الكافي من العلم والفصاحة معا، حتى لا يكاد يكون من سبيل لوقف تأثيرهم إلا كما قال مشركوا مكة من قبل (لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه لعلكم تغلبون)، ذلك أن مجرد السماع كافٍ أن يدخل إلى القلوب بالحق فيدمغ ما فيها من الباطل! ولنا في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي عبرة، إذ بلغت حملة التنفير والتحذير من محمد (صلى الله عليه وسلم) مداها حتى إنه في زيارته لمكة وضع في أذنيه قطنا لئلا يتسرب إلى سمعه ولو من غير قصد شئ مما يقوله محمد، ثم إنه احتقر نفسه وعقله عند هذا التصرف وعرف أنه مما لا يليق بمثله وهو العاقل الشاعر سيد قومه أن يخشى من كلام لا يعرفه، وما إن سمع كلام الحق حتى أسلم، ثم أسلمت من ورائه قبيلته.
على أنه يجب أن ننتبه أيضا إلى أن حملة التنفير والتحذير لم تفت في عضد الدعوة، بل استطاعت الدعوة الوصول إلى القلوب والأفئدة، داخل مكة أو في الطائف أو في الطواف على القبائل، وكان ثمة فدائيون إعلاميون –لو صح التعبير- مثل عبد الله بن مسعود، الذي على ضعفه ونحافته، قرر أن يجلس في صحن الكعبة حيث أهم منبر إعلامي في مكة ليتلو القرآن، ولم يُثْنِه عن هذه المهمة أنهم ضربوه في المرة السابقة!
***
لدينا نقص في الأموال والكفاءات.. نعم، ولكن ما ينقصنا أكثر هو الإرادة والعزم، ثم إن معنا الحق، ومعنا الله، ولا ينبغي أن يكون الإعلام الإسلامي نموذجا من درس المسجد باعتبار أن هذا هو النوع الوحيد الذي نجيده، فذلك جهاد لا شوكة فيه!
وإنما ينبغي أن نسلك الجهاد ذا الشوكة، حين نوصل إلى الناس ما نملكه من الحق في أفضل ثوب وبأحسن أسلوب، وأن نجتهد ونجاهد ونتعلم ونتدرب ونمارس فنزداد خبرة وعلما، وأن نستعين بأهل الكفاءة الفنية ولو من غير الإسلاميين، بل ومن غير المسلمين أيضا!
ينبغي أن نقيس نجاحنا الإعلامي بذلك الذي حققه موسى عليه السلام مع السحرة، (لقد كان في قصصهم عبرة)!
نشر في شبكة رصد الإخبارية
August 27, 2011
قال التاريخ عن حكم العسكر
"لما توقفت الفتوحات، وقلَّ الغزو، وضَعُف الخلفاء، وذهبت هيبة السلطة اختلف الأمر تماما، إذ لم يعد هناك جند للجهاد، وبدأت حركات التمرد تحدث... كَثُر عدد هؤلاء الجند مع الزمن، وقوي نفوذهم لأنهم أصبحوا عصا الحاكم التي يضرب بها خصومه، وأصبح مركز قادتهم عظيما لأنهم وحدهم يستطيعون أن يوطدوا الأمن، ويُخضعوا أية قوة مهما علت، ثم غلبوا على أمر الخليفة نفسه حتى قتلوا الخليفة المتوكل على الله عام 247 هـ، وأصبح الخلفاء بعدئذ ألعوبة بأيديهم يعزلون من شاءوا ويقتلون من شاءوا ويُمثلون بمن شاءوا، واستمر ذلك حتى جاء البويهيون فسيطروا على السلطة كعسكريين، وكذلك أتى السلاجقة بعدهم، ولم يختلفوا عنهم من حيث الصفة، هؤلاء الجند أمرهم واحد سواء أكانوا عربا أم فُرْسًا أم تُرْكًا، هم عسكريون، فالأمر ليس مقتصرا على جنس أو خاصا به، فالجندي الذي رُبِّيَ تربية عسكرية، وعاش مع السيف والرمح وتعامل معهما، هو غير الذي يسوس الأمور، ويدبر الشؤون، يلين لشخص ويقسو على آخر، يستعمل الحمة ويضع كل شيء في موضعه، والجندي الذي يعيش في الثكنات، ويكون على أهبة القتال في كل وقت، ويخوض غمار المعارك حسب الأوامر التي تُعطى إليه هو غير الذي يحيا بين أهله، يخطط للمعركة من وجهة نظر سياسية، ويبحث في النتائج وما تؤدي إليه، وإن الذي يحيا حياة قاسية قد يحقد على أولئك الذين يعيشون حياة المترفين فيعمل ضدهم ويحاول أن يسلبهم ذلك، فإذا تم له سار على ما كانوا عليه.. وهذا ما يكون من العسكريين في كل وقت، وهذا التسلط العسكري على الحكم العباسي في عصره الثاني هو الذي أضعف الدولة لا لأن هؤلاء العسكريين ينتمون إلى شعب غير الشعب العربي كما يدعي دعاة العصبية العربية. وعندما خضعت الدولة للعسكريين، وسيطر الجند على مقدراتها بدأ أمرها يضعف، وشأنها ينحط، وهذا الأمر دائم، وقد يكتسب مع سيطرة العسكريين بعض الدعاية الخارجية، والهيبة المصطنعة، ولكنه أمر ظاهري ولا يلبث أن ينهار بعد زوال حكم الطاغية أو مع أول معركة وإن كانت صغيرة، لأن الشعب الذي أُذِلَّ لا يمكن أن يُقاتَل به، والفرد الذي جُوِّع لا يُمكنه أن يتحرك ويضحي بأوامر الذين جوعوه".
[المؤرخ السوري محمود شاكر: موسوعة التاريخ الإسلامي 5/24، 25 – متحدثا عن سيطرة الجند الأتراك على الدولة العباسية – صدر هذا الجزء قبل عشرين سنة 1991م]
***
وأكاد أجزم بأن المؤرخ محمود شاكر لم يقرأ كتاب الأيام الحاسمة وحصادها والتي روى فيها حسن العشماوي حديثا دار بينه وبين جمال عبد الناصر:
"جمال: إن الشعب المصري في رخاء.. وقد أثبت التاريخ لي أن هذا الشعب يثور أو يؤيد الثورات وهو في رخاء... أما إذا شغل بضيق الحال وشح الرزق انشغل عن الثورة.
حسن: أتعني أنك ستحرمه رخاء الحال لتضمن بقاءه تحت سيطرتك؟
جمال: لا.. لا طبعا... لم أقصد ذلك.. يا لك من خبيث في تحليل أقوالي" ثم يضحكان.
غير أن جمال عبد الناصر فعل ما توقعه حسن العشماوي الذي قضى بقية عمره هاربا في قصة هروب شديدة التأثير يمكن الاطلاع عليها في كتاب "مذكرات هارب".
***
وفَسَّر أستاذنا الراحل العظيم الفذ الكبير محمد جلال كشك نكسة الحضارة الإسلامية في كتابه (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية) "وعجزها عن إنجاز الثورة الصناعية، وقد كانت منها قاب قوسين أو أدنى في منتصف القرن الحادي عشر. فَسَّرْتُ ذلك بالحروب الصليبية والاجتياح المغولي، وقلت إن من أخطر نتائج هذا الحدث تراجع طبقة المثقفين والتجار وتولي العكسر مقاليد الأمور في العالم الاسلامي تحت مبرر أولوية الدفاع عن الوجود، ولو على حساب الحضارة والتمدين أو التقدم. وهكذا تجمد المجتمع، وتحول المثقف من دور المفكر المحاور المطور للمجتمع، إلى نديم أو فقيه السلطان الذي يبرر ويحلل وينظر لحكم العسكر ثم حكمتهم! وتتابع التراجع والانهيار، وحتى عندما جاءت الهبة العثمانية التي رفعت راية المسلمين على أسوار فينا، ورغم المستوى الثقافي الرفيع الذي كان لأوائل سلاطينهم إلا أنهم بحكم الروح العسكرية التي كانت تسيطر على العالم الاسلامي كله رأوا الخطر عليهم من ظهور قيادة مدنية تركية لا شك أنها وحدها كانت القادرة على إقامة المجتمع التجاري المنفتح، والسفر إلى أعالي البحار لمزاحمة تجار غرب أوروبا في العالم الجديد، ثم إنجاز الثورة الصناعية الكبري. لكن سلاطين آل عثمان استمروا في الاتجاه نفسه الذي بدأه الأيوبيون، عندما فرضوا العسكر على الرعية ولم تكن الانكشارية التي اعتمدوا عليها وسلطوها على المجتمع المدني إلا مماليك الدولة العثمانية الذين حموها بسيوفهم وإخلاصهم، ومدوا حدودها في جميع أنحاء المعمورة أو الثلاث قارات المعروفة وقتها. وفي الوقت نفسه قضوا على فرصتها في دخول العصر الحديث، ثم كانوا أعجز عن أن يخلقوا حضارة وأقوى من أن يرغموا على قبولها!
ومن دلالات التاريخ أنه كما كانت الحروب الصليبية هي التي دفعت طبقة العسكر إلى الصدارة في المجتمع الاسلامي وما ترتب على ذلك من ضياع فرصته في العصر الرأسمالي ـ الصناعي، فإن الحرب نفسها أحدثت العكس تماماً في أوروبا إذ خلصت المجتمع المدني من العسكر (ذبح عسكر المسلمين فرسان أوروبا، فحرروا عدوهم التاريخي!) واستعان ملوك أوروبا من ثم بالمثقف والتاجر في بناء الأوطان الموحدة والمجتمع المدني، ثم حضارة العصر الصناعي أو النظام الرأسمالي الذي استخدم العسكر لبناء الامبراطورية ولم يستخدمه العسكر".
[لدي الطبعة الثانية من الكتاب، وهي صادرة في عام 1974م]
***
حديث التاريخ طويل، غير أن ثمة موقفين هما أقدم ما يُعرف في هذا السياق..
الأول: حين ألقى موسى عصاه فالتقمت ما ألقاه السحرة من الحبال والعصي، أُلقي السحرة ساجدين.. غير أن الجند الذين شهدوا الموقف هم الذين قاموا بتعذيب السحرة حتى الموت!
والثاني: حين انشق البحر طريقا صلبا بين جبلين أمام موسى، كان الضلال قد استولى على قلب فرعون فانطلق خلف بني إسرائيل دون أن يفقه المعجزة ولا حتى أن يتردد أمامها خائفا.. وكذلك فعل جيشه!
قال تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)
نشر في: شبكة رصد الإخبارية
August 22, 2011
جولة في كتاب "بحرية" للجغرافي العثماني بيري ريس
ذكرنا في المقال السابق كيف اكُتشف كتاب "بحرية" الذي يعد ذروة ما وصل إلينا من التطور الجغرافي البحري للتراث الإسلامي، والذي ألفه أمير الحرب والبحر، قائد الأسطول العثماني والخبير الجغرافي والبحري محيي الدين بيري ريس (أو رئيس)، وفي هذا المقال نأخذ جولة مبسطة في كتاب "بحرية" بغية تقريب تراثنا الحضاري لعامة القراء الفضلاء.
***
بدأ كتاب "بحرية" بمقدمة شعرية طويلة، ثم جاء متن الكتاب على نهج بسيط، يبدأ أولاً بوضع الخريطة للمنطقة، ثم يبدأ في وصف الخريطة. وقد بدأ الكتاب من غاليبولي ثم استمر يزحف جغرافيًّا عبر ساحل البحر المتوسط.
كتب بيري ريس المقدمة الشعرية للكتاب بأسلوب تركي سهل وبسيط، وقسمها إلى خمسين فصلاً، بمعدل 15 بيتًا في الصفحة، تدور هذه الأقسام حول فكرتين أساسيتين، فالأقسام الأولى الثمانية عن تاريخ المخطوط والمهارات التي يحتاج إليها الملاحون كالخبرة والاستعداد الفطري في هذه المهنة والمشكلات الملاحية والمعرفة بالجغرافيا الملاحية ومقدمة في استخدام البوصلة والإسطرلاب والخرائط، وعرض موجز عن تاريخ البحار وعرض لبعضها مثل منابع النيل وزنزبار وبحر عدن والمحيط الهندي وبحر الصين والمحيط الأطلنطي
تشير البوصلة في هذه الخريطة إلى أنها "مقلوبة"، فجهة الشمال فيها إلى أسفل الخريطة، وكلما اتجهنا إلى الأعلى فإننا نتوغل في الجنوب، وإذا بدأنا من أقصى الجنوب (أعلى الخريطة) سنجد مسار نهر النيل الآتي من الجنوب، وتبدأ الخريطة عند "بول تومروت" –كما تبدو على الخريطة- على يسار النيل وهي النطق العثماني لـ "بولاق الدكرور"
عشت لحظة إنزال العلم!
حتى لحظة كتابة هذه السطور لا تزال الفرحة تغالب العقل..
لقد نزل العلم الصهيوني من على النيل، وبدا كأن النيل أشرق في قلب الليل، وهدرت الحناجر بالتكبير والصيحات والتهليل، وكادت الفرحة تذهب ببعض العقول، فالشعب ما يزال لا يصدق أنه استطاع إنزال العلم وإزالة شيء من العار الذي كلله نحو أربعين سنة!
أفاضت كل وسائل الإعلام في الوصف والتحليل ما يجعل من واجبي الآن أن أنقل بعض المشاهد الفرعية التي لم ينتبه لها أحد.
1. تعلقت الأبصار بأحمد الشحات، وقد انتبهت له وهو في الطابق الثالث من المبنى، وإني لأشهد أن هذا الشعب –كما سائر الأمة الإسلامية المباركة- هو إسلامي لحما ودما وروحا وعقلا، لقد تعلقت الأبصار بأحمد الشحات وتعلقت القلوب بالله، واستمر الدعاء والتضرع لله أن يحميه وينجيه، وكلما بدا أنه تمكن من تسلق طابق كلما ارتفع التكبير والتهليل، وارتفعت الدعوات.. إذا سقط أحمد فلم يكن يملك له أحد شيئا، لأن أسفل العمارة التي يتسلقها محاصر تماما بقوات الأمن والجماهير ممنوعة من الوصول إلى هذه النقطة تماما.. وقد رأيت كثيرا ممن حولي يدعون ودموعهم تنهمر، لا سيما من النساء والفتيات، حتى فعلها البطل! البطل حقا.. وكان موقفا عرفت فيه كيف أن واحدا فقط قد يغير من معادلة المشهد كله، ولهذا أقول لكل قارئ: لا تحتقر نفسك أو مجهودك.
2. ما لم يصوره الإعلام هو لحظة السجود الجماعي التي سجدها الناس في لحظتين: لحظة إنزال العلم الإسرائيلي، ولحظة خروج أحمد الشحات سالما على الأعناق.. هكذا يعبر المصريون عن فرحتهم، ولا عزاء لمن يريد أن ينزعهم من انتمائهم!
2. كان الحصار الأمني المحكم للسفارة يجعل كل الطرق أمام إنزال العلم مسدودة، فلم يجد الشباب إلا تسليط الألعاب النارية على العلم وكلهم أمل في إحراقه بمثل هذه الوسيلة البدائية، ولو على سبيل الرمز، وعلى طول المحاولات غير الناجحة (العلم على ارتفاع 22 طابق) لم يفقد الشباب إصرارهم، بل لما أُنزل العلم، ظلوا حتى الصباح يصوبون هذه الألعاب نحو السفارة، كأنما لا يريدون أن يهنأ أحد فيها بلحظة هدوء.
3. أذهلتني فتاة في الثلاثينيات، تبدو من إحدى المناطق الشعبية، في غاية البساطة، ظلت تهتف: "اتنحى النهار ده.. اتنحى النهار ده"، وهي تقصد المخلوع غير المأسوف عليه.. هذا الهتاف العبقري الذي اعتبر إنزال العلم هو لحظة التنحي الحقيقي لحسني مبارك يكشف كيف أن ضمير هذه الأمة يحتوي على وعي هائل يستطيع التعبير عنه في بساطة لا يدركها أصحاب التحليل والتنظير القابعون على الفضائيات!
4. بعض الناس كادت عقولهم تطير من الفرحة، شاب وقف في منتصف الطريق وهو يصرخ لكل سيارة عابرة: أنزلنا العلم.. المصريون فعلوها.. أنزلنا العلم.. أنزلنا العلم! هذا الشاب الذي وُلِد وعاش في ظل السلام والصداقة مع إسرائيل يعبر اليوم عن حقيقة معدنه، ويثبت أن زرع الأعضاء الغريبة والثقافات الغريبة قسرا إنما هي عملية فاشلة، تنفق فيها الأموال والمجهودات ثم لا تصل إلى شيء.. مصداقا لقول الله تعالى (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يُحشرون).
حاولت أن أضع نفسي مكان الإسرائيلي، الذي ينظر من علٍ إلى هذه الجموع التي تنطق بكراهيته وتريد طرده، بعد أربعين سنة من السلام المفروض عليهم والمحروس بالقهر والكبت والاستبداد، فلم أر ما يعبر عن شعوره غير "الحسرة" الواردة في الآية.. فإنا وإياه على انتظار ما بعدها (ثم يُغلبون)!
5. على أن هذا الشاب وغيره يعبر عن الطاقات المكبوتة التي لم يُتح لها من قبل أن تنطق.. وطوال الليل وحتى الصباح كان الشباب يتذكرون كيف أن أحدا لم يكن يستطيع من قبل أن يتفوه بلفظ أمام السفارة وإلا كان مصيره القتل أو الاعتقال بلا رحمة ولا أمل في الخروج.. إن الاستبداد يعيش على قتل الإنسان، وعلى سحق طاقاته، وأكثر ما يخشى الاستبداد أن تنطلق هذه الطاقات من النفوس، فإنها تزلزل عرشه.. ورحم الله عبد الرحمن الكواكبي في رائعته الخالدة "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" فقد شرح هذا المعنى في خير عبارة!
6. إن من يحكموننا لا يستحقوننا.. والشعوب دائما متقدمة في مواقفها على من يحكمها، ولعل بشائر الثورات العربية تكون تباشير فجر التغيير الذي يؤول إلى أن تحكم هذه الأمة نفسها بنفسها، وأن تختار من يحكمها ليعبر عنها تعبيرا حقيقيا، وعليه: فلا بد لكل مخلص من السعي في استكمال الثورات، وإنه حقا كما قيل: للثائر فرحتان يفرحهما: فرحة عند سقوط الطاغوت، وفرحة عند استكمال التحول إلى دولة العدل والحرية!
7. "الاحتلال دائما غبي، لأنه لم ينتصر محتل على الشعب أبدا".. من كان عند السفارة يعلم أن إسرائيل لا مستقبل لها.. والعاقل فيهم هو من سيفكر في الهروب من هذه المعركة الخاسرة!
8. على كل فرحتنا بما حدث من الشعب عند السفارة، إلا أن هذا لا يعمينا عن أشياء أخرى مهمة: الطرد الرسمي للسفير الإسرائيلي من مصر، المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، الثوار الليبيون الذين يوشكون على حسم المعركة، الثوار السوريون الذين يقدمون المثل المذهل الأسطوري ويكتبون التاريخ حقا، الثوار اليمنيون الذين صمدوا صمود أهل الإيمان "الإيمان يماني والحكمة يمانية".
***
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون)
نشر في: مفكرة الإسلام