Error Pop-Up - Close Button This group has been designated for adults age 18 or older. Please sign in and confirm your date of birth in your profile so we can verify your eligibility. You may opt to make your date of birth private.

مجلة الحداثة's Blog: مجلة الحداثة - Al Hadatha Journal, page 18

December 31, 2021

جابر عصفور وداعا: ابن المحلة الذي جعل ذاكرتنا مقاومة للنسيان

جابر عصفور جابر عصفور - مجلة الحداثة
فرحان صالح *

رسم المفكر والكاتب والتنويري المصري جابر عصفور (1944 – 2021) عبر مؤلفاته وترجماته ونشاطه الثقافي والفكري، صورة مغايرة للثقافة العربية التقليدية، فعبّر عن جيل عربي له موقعه ورؤيته للحضارة والثقافة العربيتين. كان مجتهدًا، ونشيطًا، ومثابرًا، واجه التحديات والتغيرات التي مرّ بها العالم العربي عمومًا ومصر خصوصًا، بوعي المثقف الرؤيوي.
نودّع عصفور وهو من الذين كانوا مع مجموعة من المثقفين العرب، من المساهمين بتأسيس مجلة الحداثة اللبنانية قبل انطلاقتها رسميًّا في العام 1994 في بيروت، وقد بقي من ضمن أعضاء الهيئة الاستشارية للمجلة منذ ذاك التاريخ.
في محطّاته الخمس: "النشأة، فتنة القاهرة، ذكريات تلمذة، سكندريات، وذكريات ناصرية"، يتناول جابر عصفور في سيرته "زمن جميل مضى"(*) المرحلة الممتدة من خمسينيات القرن العشرين، ولادته في المحلة الكبرى، وتعلمه في مدارسها، حتى بداية السبعينيات، أي في العام الذي توفي فيه جمال عبد الناصر..
المتابع لمضامين هذه السيرة، يجد أنها سيرة جيل عرفه الكاتب ونشأ وتعلم وعلّم وتربى سياسياً، متفاعلاً معه متأثراً ومؤثراً في زمانه وبيئته، وفي حركته السياسية والثقافية والفنية التي سادت آنذاك.
لذا، يمكننا القول: إن جابر الذي تعرف على طه حسين، وعاش جزءًا من زمانه، هو من تأثر به، وكان ذلك بعد أن قرأ مذكراته "الأيام". بدءًا من تلك اللحظة، كما يقول: "قرر جابر أن يكون طه حسين جيله"، وجابر ذاته، ومن خلال أعماله الأدبية والفكرية المنشورة، قد أضاف إلى ما بدأ به طه حسين، إضافات نوعية، متأثراً بالمدارس التي عرفت في تلك المرحلة.
إن كتاباته وعلى تنوعها – كان قد تناول فيها قضايا التنوير والحداثة - ليست سوى الدليل على ذلك. جابر عصفور الذي تأثر بطه حسين وقرأه وتأثر بليبراليته الثقافية، هو من كتب عن مراياه الفكرية المتنوعة، وهو في ما بعد من مثل جيلاً من الليبراليين المثقفين. يذكر جابر ذلك، لينتقل متحدثاً عن المؤثرات السياسية لسياسات جمال عبد الناصر ليست به كفرد، بل في الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية المصرية العربية.
لا يخفي جابر ذلك، بل يجاهر بما فعلته تلك السياسية في كيان الشعب المصري، خصوصًا حينما اتخذ ناصر قرارًا بأن يكون التعليم مجانيا ومفتوحا لكل المصريين. ومصر ما قبل عبد الناصر، كانت الأمية فيها تتجاوز الـ85 في المئة.
يعدّ جابر أن وعيه ووعي جيله الوطني بدأ ينمو ويتطور بعد كل إنجاز اجتماعي ووطني، لاسيما حينما اتخذ عبد الناصر قراره الشهير بتأميم قناة السويس، وبالأخص بعد الحرب التي خاضتها مصر العام 1956 ضد الإنجليز والفرنسيين والصهاينة، تلك الحرب التي رافقها توزيع الأرض على الفلاحين المعدمين والتي بلغ عدد المستفيدين منهم حوالي ثلث عدد سكان المجتمع المصري. أيضاً وجيله، بدأ يعيش ما تشهده مصر من تطور على المستويين الاجتماعي والاقتصادي حيث كانت مصر حسب سمير أمين وشارل بتلهايم، أكثر تطورًا من كوريا الجنوبية، وأقل تطورًا من اليابان، ناهيك عن تطور مصر عما كانت عليه تركيا وإيران، وحيث كانت صناعاتها القطنية تنافس الصناعات الأوروبية، ناهيك عن غزو صناعاتها للأسواق الأفريقية وللعديد من الأسواق الآسيوية. فضلاً عن أن مكانة مصر العالمية كانت في الموقع المقرر والقائد، وليست في الموقع المرتهن والتابع. فعبد الناصر لم يكن زعيماً عربياً فحسب، ومصر عبد الناصر من ساهم، في خلق المناخات لتحرير الشعوب العربية من الاستعمار...
لقد كنت تجد، في ذلك الزمن الجميل، أجساد أجيال من اللبنانيين والعرب خلال تلك المرحلة في بلدانهم، لكن ذاكرتهم ومشاعرهم وعقولهم كانت في مصر. لذا، تكاد تكون سيرة جابر عصفور، هي سيرة ذلك الجيل، فضلاً عن أنها سيرة إذاعة صوت العرب "أحمد سعيد، وجلال معوض"، إنها سيرة شكري القوتلي والوحدة المصرية السورية... إنها سيرة جمال عبد الناصر حبيب الملايين وسيرة "طه حسين" أحد أهم المساهمين في الثقافة المصرية العربية، كذلك سيرة جيل من الفنانين من أمثال عبد الحليم حافظ، إذ يرى جابر عصفور أن سيرة هذا المطرب "معبود العشاق"، هي امتداد لسيرة العظماء من أجيال مصر والعرب.
يلامس جابر عصفور في نصوصه التي نشر معظمها في "مجلة العربي"، الحياة الثقافية والسياسية والفنية المصرية تحديداً. وإذ ينتقل إلى زمن سابق، هو ذاته لا يخفي إعجابه بالتراث المعماري الذي عرفته مصر خلال حكم الخديوي إسماعيل، حيث يتابع الإنجازات العمرانية للخديوي إسماعيل في القاهرة، هذا الذي تأثر بفنون العمارة الفرنسية – الإيطالية، وعمل على بناء العديد من المؤسسات على طراز ما هي عليه في الغرب، آتياً بمهندسين غربيين لإنشاء العديد من المباني التي غيرت معالم وجه القاهرة، تلك المباني التي لا زالت شاهدة في تميزها في خريطة الفن المعماري لذاك العصر.
سيرة جابر عصفور، هي سيرة عائلية – مدينية – مدرسية - جامعية، هي سيرة أجيال من الأكاديميين والمدرّسين الذين عرفتهم مصر في تلك المرحلة. وجابر يتحدث عن الكيفية التي انتقل فيها من المدرسة، مدرسة الأقباط، وكيفية تشكّل وعيه الديني في المدرسة، ومن ثم انتقاله إلى الجامعة التي تعلم فيها وعلم فيها وكل ذلك بفضل عبد الناصر.
إنها سيرة المحلة الكبرى والإسكندرية، والقاهرة، هذه المدن الذي رسم عصفور صورة لبيئاتها المتنوعة. هي سيرة أساتذة تعلم منهم واستفاد من مناهجهم، الذي طبق بعضاً منها، ومن الكيفية التي يبنون عليها ويعالجون المشاكل التي تعترضهم. إنها سيرة آبائه من المدرسين، وطه حسين المثال كذلك تلميذته سهير القلماوي. انها سيرة المكتبات التي نهل منها ثقافاته الأولى، تلك المكتبات التي فتحت شهيته للمطالعة، لاسيما بائعي الكتب في سوق الأريكية، وقبل ذلك بائع الكتب "كامل" الذي عرّفه بالأعمال الروائيّة ليوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وفاروق خورشيد، الذي بدأ التضييق عليه في عهد السادات، وتم استبعاده من وظيفته، وعبد الحميد جودت السحار، وأمين يوسف غراب، ويوسف إدريس، وعلي أحمد باكثير، ونجيب محفوظ، كذلك إعجاب جابر بأرنست همنجواي الذي تأثر بأعماله الروائيّة، ودفعه لقراءة الأعمال الروائية العربية، وكان قد قرأ له: "ثلوج كليمنجارو"، "لمن تدق الأجراس"، "وداعاً للسلاح"، "العجوز والبحر".
إنها سيرة جيل رافق وتعلّم من طه حسين، من أمثال عبد العزيز الأهواني وشوقي ضيف ومحمد حسين هيكل وعز الدين إسماعيل وعبد الرحمن فهمي، ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ويوسف خليف وبنت الشاطئ وصلاح عبد الصبور ثم محفوظ عبد الرحمن وغيرهم.. سيرته هي سيرة عوني عبد الهادي ومحمد النويهي وجمال حمدان ولطفي الخولي وعبد القادر القط وعبد الغفار مكاوي وغيرهم.
يقول عصفور إن المؤثرات الأولى في حياته الثقافية، بدأت في المحلة الكبرى التي ولد فيها، وكانت الأساس الذي راكم عليه عوالمه، وبنى تراثه الثقافي والفكري. وجابر عصفور لا يخفي مغامراته، وهو الذي يعتبر نفسه بأنه كان طالباً مشاكساً.
إن زمن جميل مضى – هي سيرة مؤثرات المعلّم الأول والحبّ الأول، والأعمال الروائية والقصصية والشعرية الذي قرأها جابر. إنها سيرة كتاباته وتوجهاته الثقافية الأولى، وكيف تطورت ونمت مداركه الثقافية الحياتية، متعرّفاً على سليمان البستاني الذي قرأ له ترجمته إلياذة هوميروس، الذي رأى في لغته المترجمة لهذا السِفر الإنساني، لغة تعود بك بمفرداتها إلى العصر الجاهلي..
عصفور في سيرته يدخل بك إلى صالات السينما، وما هي الأفلام الأولى التي شاهدها. ويعرّفك على الأفلام التي شاهدها وكان بطلها عبد الحليم حافظ، وعلى الأغاني التي سمعها لهذا المطرب الذي كان ملهماً له، معيداً إليك تاريخ هذا الفنان الذي ارتبط اسمه بتاريخ ثورة يوليو، مستدركاً أسماء رفاق هذا الفنان وشركائه ليس من الشعراء الذين كتبوا أغانيه فحسب، بل الموسيقيين الذين لحّنوا لهذا المطرب العظيم، معرجاً على شركائه في التمثيل من ناديا لطفي إلى شادية إلى زينات صدقي "خفيفة الظل"، ووداد حمدي ويحيى شاهين ومريم فخر الدين.
ولن ينسى عصفور عوالم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجاة الصغيرة، تلك العوالم التي يدخلك إليها، وأنت لا تستطيع المقاومة، بل تجد نفسك منساقاً إلى رفقته في هذه الرحلة، وأنت المندهش لهذه الذاكرة، قليلة النسيان، فعصفور وهو يسرد مذكراته، ترى نفسك تعيش ما يكتب، تتخيل ما يتخيل، تسترجع ذلك الزمن وتلك الصور والمشاهد من الماضي الجميل.
يسلط جابر أعيننا على رداءة المستقبل، منتقداً نظام السادات الذي تحالف مع الإخوان المسلمين، واستند إليهم في مواجهة الناصريين واليسار اللذين ساهما في بناء مصر الناصرية.
إذ يعترف عصفور في مذكراته هذه، (بفضل الآخرين الذين تأثر بهم)، لا يسعنا إلا الاعتراف بفضله أيضاً في الحياة الثقافية العربية، وهو الذي كان حاضرًا ليس في المواقع الوظيفية التي عمل فيها فحسب، بل في عشرات الأعمال الفكرية التي قدمها للثقافة العربية. وجابر في مذكراته هذه يجعل ذاكرتنا مقاومة للنسيان.
إنه أعاد إحياء الصور التي لم ينسها جيلنا. إن مذكراته هي ذاتها مذكرات جيلنا، خصوصا الجانب السياسي منها، إنها مذكرات جيل، وإن كان قد كتبها فرد اسمه جابر عصفور. إنها مذكرات رسمت معالم ما كنّا عليه وما عرفه جيلنا من فرح، ومن أحلام ومن إحباطات.
لقد رسم جابر ما كنّا عليه وتخيلناه، ففي هذه المذكرات الكثير من الحقائق والقليل من الأوهام، وإن كان فيها أيضاً ما يمكن الوقوف عنده، والمجادلة النقدية في التعاطي معه..
سنكمل ما بدأه المفكر الكبير، الذي ساهم إلى جانب المثقفين والمفكرين العرب، في إثراء المشهد الثقافي والأدبي لأكثر من نصف قرن.
رحم الله الصديق ورفيق الدرب جابر عصفور الذي ترك بصمة في تاريخ الأدب العربي لن يُنسى. سيفتقدك أحبتك وتلامذتك، وستبقى في الذاكرة مدماكًا شامخًا من مداميك الثقافة العربية.

لروحك السلام.
· رئيس تحرير مجلة الحداثة
· صدر الكتاب عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2011 – وهذا النص كان قد شارك فيه الكاتب في "الصالون الثقافي العربي" في مصر الذي يرأسه يحيى جمال.
- ISSN: 2790-1785 - Al hadatha
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 31, 2021 04:46 Tags: مجلة_الحداثة

December 23, 2021

ISSN 2790-1785 (Print) | al-Ḥadāṯaẗ | The ISSN Por...

ISSN 2790-1785 (Print) | al-Ḥadāṯaẗ | The ISSN Portal: ISSN 2790-1785 (Print) | al-Ḥadāṯaẗالحداثة - ISSN: 2790-1785 - Al hadatha
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2021 06:57

ISSN 2790-1785 (Print) | al-Ḥadāṯaẗ | The ISSN Por...

ISSN 2790-1785 (Print) | al-Ḥadāṯaẗ - الحداثة مجلة الحداثة | The ISSN Portal: ISSN 2790-1785 (Print) | al hadatha - ISSN: 2790-1785
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2021 06:57 Tags: مجلة_الحداثة

الافتتاحية: العربية خارج أوطانها

أسعد النادري - مجلة الحداثة
أسعد النادري *
منذ بداية الفتوحات العربية اشتبكت العربية مع الآرامية في سوريا ولبنان والعراق وانتصرت عليها، وكذلك كان الحال مع القبطية في مصر والبربرية في شمال أفريقيا. واشتبكت لغتنا أيضًا مع الفارسية منذ ما قبل الإسلام، فلم تنتصر إحداهما على الأخرى وإن كان الأثر الذي تركته العربية في الفارسية أقوى وأظهر بكثير من أثر الفارسية في العربية، ولا سيما في مجال المفردات. واشتبكت العربية مع التركية والقوطية فتركت فيهما آثارًا كبيرة، في حين لم تؤثر هاتان اللغتان إلا تأثيرًا ضئيلًا في بعض اللهجات المتفرعة عن العربية.فإذا انتقلنا إلى الأمم الإسلامية شرقًا كباكستان وأفغانستان وتركستان وما تفرع منها واستقلَّ عنها من الدول، وجدنا العربية تتخذ فيها مكانة عالية تكاد تلامس القداسة على صعيد المفردات والخط، حتى إن ما يقارب 75% من مفردات اللغة الأُردية مثلًا يتألف من كلمات عربية الأصل.وأما اللغات الأوروبية الحديثة فقد اتخذ الاحتكاك بها مسارب متعددة، أهمها الحروب الصليبية التي دخل إلى هذه اللغات أثناءها عدد لا يستهان به من المفردات والتعابير، ثم الاستعمار الفرنسي والانكليزي والإيطالي لبعض أقاليم الوطن العربي، وهو استعمار أخذ من العربية وأعطاها... زد على ذلك البعثات العلمية العربية التي أُرسلت إلى الغرب فأثَّرت وتأثرت وعادت إلى الوطن العربي ناقلة ما قبسته عن الغرب وحضارته من ثقافة وآداب وعلوم.ولعلنا لا نبالغ عندما نتحدث عن اللغة العربية خارج أوطانها إذا قلنا إنها خرجت من موطنها الأصلي لتنتشر في كل مكان... وما ذلك إلا بفضل الإسلام العظيم الذي نقلها من حالتها الاقليمية المحصورة في شبه الجزيرة العربية إلى حالة عالمية لا حدود لها، فحيث وجدْتَ مؤمنًا يصلي أو يتلو القرآن وجدت في قلبه وعقله وعلى لسانه اللغة العربية الفصحى بكامل أناقتها وأرقى أساليبها.وصحيح أن العربية قد سارت في ركاب الفاتحين، وأن هؤلاء الفاتحين كانوا حفاة عراة لا يملكون من أسلحة الحضارة إلا الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يشوبه شك أو تردد، إلا أن لغتهم التي سارت في ركابهم لم تكن حافية عارية، وإنما كانت لغة عبقرية البناء، غنية القواعد، دقيقة الدلالات، محكمة البيان، غزيرة الصور... وقد استطاعت هذه اللغة في فترة قصيرة من الزمن نسبيًا أن تواكب النهضة العلمية التي صنفها وشارك فيها العرب الفاتحون والتي شملت مختلف الحقول المعرفية من رياضيات، وفلسفة، ومنطق، وفلك، وكيمياء، وفقه، وعقيدة، وغيرها.وسرعان ما خاضت لغتنا صراعاتٍ ثقافيةً ولغوية مع لغات المناطق المفتوحة في الشام والعراق وبلاد فارس وصولًا إلى الصين شرقًا، وفي مصر وبلدان أفريقيا وصولًا إلى الأندلس وفرنسا غربًا، وهي صراعات شملت لغات من عائلتها الساميَّة الحاميّة حينًا، ولغات من فصائل أخرى كالهندية الأوروبية والطورانية وغيرها حينًا آخر، فانتصرت العربية في الكثير من هذه الصراعات وحلَت محل اللغات المغلوبة، وتعايشت مع بعض هذه اللغات مؤثّرة فيها ومتأثرة بها في الوقت نفسه، وإن كان تأثيرها في معظم الأحيان هو الأبَيْنَ والأظهر، كما هو حالها مع الفارسية والتركية اللتين اقتبستا الخطّ العربي وآلافًا من المفردات والعبارات التي لم تقتصر على مسائل الفقه والعبادات، بل شملت مختلف الحقول المعرفية والعلمية.ولئن كان المجال لا يتسع للكلام على حضور العربية في جميع الأوطان الجديدة التي ارتادتها أو حلّت ضيفة فيها، وهي كثيرة على امتداد العالم، فحسبنا في هذه المقالة المختصرة أن نشير بإيجاز إلى ثلاثة من هذه الأوطان ذات الأوزان الثقيلة لغةً وثقافةً وحضارةً وأدبًا وتواصلًا تاريخيًا مع العربية وأدابها، عنيت بها ألمانيا وتركيا وفرنسا.والواقع أن حضور اللغة العربية في اللغات الأخرى، بما فيها لغات هذه البلدان، لا يُختصَرُ بعدد المفردات التي زرعتها لغتنا فيها، أو ربما استعارتها منها، بل يمتد ليشمل مختلف جوانب التأثير اللغوي والثقافي من مدارسَ وجمعياتٍ، ومعاهدَ، ومؤسساتٍ رسميةٍ وخاصةٍ تدّرس العربية في مختلف مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي.- أولًا: ألمانيافي تناولنا السريع لحضور العربية في ألمانيا بلد المفكرين والفلاسفة الكبار أمثال رودولف دوتوراك، وباول شمتز، وتيودور نولدكه، وكارل بروكلمان، وكثير غيرهم نلاحظ أن هؤلاء المستشرقين قد تركوا آثارًا مهمة على صعيد التواصل مع العربية وأدابها وثقافتها بعد أن تعمقوا في دراسة اللغة العربية والثقافة العربية.ويبرز من بين هؤلاء المستشرقين أو المستعربين الأفذاذ "يوهان ياكوب رايسكه" الذي يعدُّ أول مستعرب ألماني، ويوصف بأنه شهيد الأدب العربي. وألمانيا هذه هي بلد الاستشراق المختلف - كما يرى إدوارد سعيد - وهو الاستشراق الذي لم تكن له دوافعه السياسية، وإنما اهتم بالدراسة المهنية للنصوص لا بممارسة السلطة الاستعمارية كما كان حال الاستشراق في الدول الغربية الأخرى.وأما تدريس اللغة العربية في ألمانيا فمن الملاحظ أنه يشهد نهضة واضحة المعالم: فهناك حوالي 2500 مركز عبادة و900 مسجد تدرّس العربية في ألمانيا تدريسًا مرتبطًا بأهداف دينية تتصل بفهم الشريعة وأحكام الدين.غير أن ثمة تدريسًا للعربية يخرج عن هذا الإطار ويقدم خدماته خصوصًا لأبناء الجالية العربية المقيمة في ألمانيا والتي يقدر عدد أفرادها بأكثر من ثلاثة ملايين عربي، وهم يتزايدون يومًا بعد يوم نتيجة عاملين أساسيين هما زيادة معدل التناسل، وزيادة الهجرة إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة.- ثانيًا: تركيامعلوم أن الخلافة العثمانية التي حكمت العالم العربي دامت حوالي 600 سنة، وشملت مساحة شاسعة للتفاعل الثقافي واللغوي والحضاري بين الأمتين العربية والتركية، وما زالت رفوف الكثير من المكتبات الخاصة والعامة تحمل كثيرًا من المؤلفات التي كتبها عرب أو أتراك باللغة التركية العثمانية المطبوعة أو المخطوطة بالحروف العربية التي أبدل بها مصطفى كمال أتاتورك الحروف اللاتينية سنة 1928 إثر إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1923.واليوم، وفي ظل حكم حزب العدالة والتنمية المنفتح على العالم العربي انفتاحًا شاملًا كل المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، تشهد اللغة العربية في تركيا ازدهارًا ملحوظًا ولا سيما مع ازدياد أعداد العرب وخصوصًا السوريين من المقيمين في تركيا والنازحين إليها بعد الأحداث المؤسفة التي شهدتها سوريا بدءًا من سنة 2011، ويعبر عن هذا الازدهار نمّو مراكز تعليم اللغة العربية التي تبلغ المئات، فضلًا عن الأكاديميات المسجلة لدى وزارة التعليم التركية. كما يعبر عنه أن العربية حلّت محل الإنكليزية كلغة ثانية مطلوبة للعمل في قطاعات المهن المختلفة ولا سيما السياحة والبناء والتجارة.- ثالثًا: فرنسامعلوم أن بيننا وبين فرنسا تاريخًا من العلاقات أخذًا وعطاءً منذ أيام شارلمان، وبينها وبيننا في العصر الحديث تواصل ثقافي وفكري إيجابي تارة، ومشدود إلى الانتداب في لبنان وسوريا والاستعمار في الجزائر تارة أخرى، وتبقى صلاتنا الثقافية والسياسية والفكرية معها محكومة بمقولة "الأم الحنون" التي يفتتن بها النظام اللبناني والمتأثرون به تأثرًا عاطفيًا- سياسيًا ملحوظًا.ولفرنسا باع طويل في مجال الاستشراق، ولائحة مستشرقيها الذين اهتموا بدراسة آداب اللغة العربية وترجمة بعض آثارها لائحة غنية تضم أسماء بارزة في طليعتها:إرنست رينان، ومكسيم رودنسون مؤلف "الإسلام والرأسمالية" و"جاذبية الإسلام"، "ومحمّد"، وغيرها، ومن كبار المستشرقين الفرنسيين أيضًا جاك ريسلم صاحب كتاب "الحضارة العربية" المؤمن بحوار الحضارات والذي نال جائزة الأكاديمية الفرنسية، ومنهم أيضًا سيلفستر دي ساسي، وكارا دي فو وآخرون...غير أنه يلاحظ أن الاستشراق الفرنسي غالبًا ما تأثر بسياسات الإليزيه والمطامح الاستعمارية الفرنسية وقبل أن يكون مطية لها في كثير من الأحيان.ولعل من أبرز مؤسسات التواصل الثقافي بين العالم العربي وفرنسا معهد العالم العربي الذي تأسس أصلًا سنة 1980 بالتعاون بين الحكومة الفرنسية واثنتين وعشرين دولة عربية بهدف التعريف بالثقافة العربية ونشرها وتنمية التواصل بين العالم العربي وأوروبا عمومًا وبينه وبين فرنسا بشكل خاص.وأما على صعيد تدريس اللغة العربية في فرنسا فيقدر عدد الطلاب الذين يدرسونها في مدارس فرنسية بما يقارب العشرة آلاف فضلًا عن أكثر من أربعين ألفًا ممن يتابعون دورات لتعلم العربية في مؤسسات خاصة، مع الإشارة إلى أن العربية هي لغة شريحة واسعة من العرب الفرنسيين، وهي من الناحية الدينية لغة أكثر من عشرين مليون مسلم يعيشون في أوروبا، ومع ذلك يصنفها نظام التعليم الفرنسي لغة أجنبية في إطار لغة الأقليات!على أنه لا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن بداية الاهتمام بالعربية في فرنسا تعود إلى القرن السابع عشر عندما وجهت فرنسا رجال الدين المسيحيين لدراسة اللغة العربية بحثًا عن أدلّة هادفة إلى فهم النصوص الدينية الخاصة بالكنائس الشرقية، ولكنّ تدريس العربية غدا اليوم مسألة خلافية في فرنسا وموضوعَ أخذٍ وردّ على صفحات الصحف والمجالات والكتب، وهي مسألة افتعلها وأجَّجَ سعيرَها اليمينُ الفرنسي المتطرف بقطبيه العنصريين: مارين لوبين رئيسة الجبهة الوطنية، وإريك زمور اليهودي الموتور ذي الأصول الجزائرية.غير أن عدد الفرنسيين ذوي الأصول العربية الذي يقدره بعض الباحثين بسبعة ملايين مواطن يتمسك معظمهم بثقافته وتقاليده ولغته، يجعل من حملات لوبن وزمور العنصريّة محاولاتٍ يائسةً معاكسةً لحركة التاريخ وأحكام التطور، فهما كما قال الشاعر:
كناطحٍ صخرة يومًا لِيوهِنَها      فلم يَضِرْها وأَوْهى قرنَهُ الوعِلُ
تبقى كلمة شكرٍ من القلب لكلية الآداب في جامعة الجنان التي أتاحت لي المشاركة بهذه المقالة في المؤتمر الذي أقامته بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بتاريخ 18/12/2021، وكلمة شكر من القلب أيضًا لمجلة الحداثة ورئيس تحريرها الصديق الحبيب فرحان صالح الذي شرفني باختيار هذه المقالة افتتاحيةً لهذا العدد المميز .
**** عميد سابق لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. ومدير جامعة الجنان – فرع صيدا حاليا، وأستاذ العلوم اللغوية.** أتيح لي أن أشارك في أعمال المؤتمر العلمي الرصين الذي انعقد في جامعة الجنان في طرابلس في 17 و18 كانون الأول 2021 بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بعنوان: "اللغة العربية والعالمية" وكانت لي هذه المداخلة.الحداثة - ISSN: 2790-1785 - Al hadatha
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2021 02:50

الافتتاحية: العربية خارج أوطانها

محمد أسعد النادري أسعد النادري - مجلة الحداثة
أسعد النادري *
منذ بداية الفتوحات العربية اشتبكت العربية مع الآرامية في سوريا ولبنان والعراق وانتصرت عليها، وكذلك كان الحال مع القبطية في مصر والبربرية في شمال أفريقيا. واشتبكت لغتنا أيضًا مع الفارسية منذ ما قبل الإسلام، فلم تنتصر إحداهما على الأخرى وإن كان الأثر الذي تركته العربية في الفارسية أقوى وأظهر بكثير من أثر الفارسية في العربية، ولا سيما في مجال المفردات. واشتبكت العربية مع التركية والقوطية فتركت فيهما آثارًا كبيرة، في حين لم تؤثر هاتان اللغتان إلا تأثيرًا ضئيلًا في بعض اللهجات المتفرعة عن العربية.
فإذا انتقلنا إلى الأمم الإسلامية شرقًا كباكستان وأفغانستان وتركستان وما تفرع منها واستقلَّ عنها من الدول، وجدنا العربية تتخذ فيها مكانة عالية تكاد تلامس القداسة على صعيد المفردات والخط، حتى إن ما يقارب 75% من مفردات اللغة الأُردية مثلًا يتألف من كلمات عربية الأصل.
وأما اللغات الأوروبية الحديثة فقد اتخذ الاحتكاك بها مسارب متعددة، أهمها الحروب الصليبية التي دخل إلى هذه اللغات أثناءها عدد لا يستهان به من المفردات والتعابير، ثم الاستعمار الفرنسي والانكليزي والإيطالي لبعض أقاليم الوطن العربي، وهو استعمار أخذ من العربية وأعطاها... زد على ذلك البعثات العلمية العربية التي أُرسلت إلى الغرب فأثَّرت وتأثرت وعادت إلى الوطن العربي ناقلة ما قبسته عن الغرب وحضارته من ثقافة وآداب وعلوم.
ولعلنا لا نبالغ عندما نتحدث عن اللغة العربية خارج أوطانها إذا قلنا إنها خرجت من موطنها الأصلي لتنتشر في كل مكان... وما ذلك إلا بفضل الإسلام العظيم الذي نقلها من حالتها الاقليمية المحصورة في شبه الجزيرة العربية إلى حالة عالمية لا حدود لها، فحيث وجدْتَ مؤمنًا يصلي أو يتلو القرآن وجدت في قلبه وعقله وعلى لسانه اللغة العربية الفصحى بكامل أناقتها وأرقى أساليبها.
وصحيح أن العربية قد سارت في ركاب الفاتحين، وأن هؤلاء الفاتحين كانوا حفاة عراة لا يملكون من أسلحة الحضارة إلا الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يشوبه شك أو تردد، إلا أن لغتهم التي سارت في ركابهم لم تكن حافية عارية، وإنما كانت لغة عبقرية البناء، غنية القواعد، دقيقة الدلالات، محكمة البيان، غزيرة الصور... وقد استطاعت هذه اللغة في فترة قصيرة من الزمن نسبيًا أن تواكب النهضة العلمية التي صنفها وشارك فيها العرب الفاتحون والتي شملت مختلف الحقول المعرفية من رياضيات، وفلسفة، ومنطق، وفلك، وكيمياء، وفقه، وعقيدة، وغيرها.
وسرعان ما خاضت لغتنا صراعاتٍ ثقافيةً ولغوية مع لغات المناطق المفتوحة في الشام والعراق وبلاد فارس وصولًا إلى الصين شرقًا، وفي مصر وبلدان أفريقيا وصولًا إلى الأندلس وفرنسا غربًا، وهي صراعات شملت لغات من عائلتها الساميَّة الحاميّة حينًا، ولغات من فصائل أخرى كالهندية الأوروبية والطورانية وغيرها حينًا آخر، فانتصرت العربية في الكثير من هذه الصراعات وحلَت محل اللغات المغلوبة، وتعايشت مع بعض هذه اللغات مؤثّرة فيها ومتأثرة بها في الوقت نفسه، وإن كان تأثيرها في معظم الأحيان هو الأبَيْنَ والأظهر، كما هو حالها مع الفارسية والتركية اللتين اقتبستا الخطّ العربي وآلافًا من المفردات والعبارات التي لم تقتصر على مسائل الفقه والعبادات، بل شملت مختلف الحقول المعرفية والعلمية.
ولئن كان المجال لا يتسع للكلام على حضور العربية في جميع الأوطان الجديدة التي ارتادتها أو حلّت ضيفة فيها، وهي كثيرة على امتداد العالم، فحسبنا في هذه المقالة المختصرة أن نشير بإيجاز إلى ثلاثة من هذه الأوطان ذات الأوزان الثقيلة لغةً وثقافةً وحضارةً وأدبًا وتواصلًا تاريخيًا مع العربية وأدابها، عنيت بها ألمانيا وتركيا وفرنسا.
والواقع أن حضور اللغة العربية في اللغات الأخرى، بما فيها لغات هذه البلدان، لا يُختصَرُ بعدد المفردات التي زرعتها لغتنا فيها، أو ربما استعارتها منها، بل يمتد ليشمل مختلف جوانب التأثير اللغوي والثقافي من مدارسَ وجمعياتٍ، ومعاهدَ، ومؤسساتٍ رسميةٍ وخاصةٍ تدّرس العربية في مختلف مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي.
- أولًا: ألمانيا
في تناولنا السريع لحضور العربية في ألمانيا بلد المفكرين والفلاسفة الكبار أمثال رودولف دوتوراك، وباول شمتز، وتيودور نولدكه، وكارل بروكلمان، وكثير غيرهم نلاحظ أن هؤلاء المستشرقين قد تركوا آثارًا مهمة على صعيد التواصل مع العربية وأدابها وثقافتها بعد أن تعمقوا في دراسة اللغة العربية والثقافة العربية.
ويبرز من بين هؤلاء المستشرقين أو المستعربين الأفذاذ "يوهان ياكوب رايسكه" الذي يعدُّ أول مستعرب ألماني، ويوصف بأنه شهيد الأدب العربي. وألمانيا هذه هي بلد الاستشراق المختلف - كما يرى إدوارد سعيد - وهو الاستشراق الذي لم تكن له دوافعه السياسية، وإنما اهتم بالدراسة المهنية للنصوص لا بممارسة السلطة الاستعمارية كما كان حال الاستشراق في الدول الغربية الأخرى.
وأما تدريس اللغة العربية في ألمانيا فمن الملاحظ أنه يشهد نهضة واضحة المعالم: فهناك حوالي 2500 مركز عبادة و900 مسجد تدرّس العربية في ألمانيا تدريسًا مرتبطًا بأهداف دينية تتصل بفهم الشريعة وأحكام الدين.
غير أن ثمة تدريسًا للعربية يخرج عن هذا الإطار ويقدم خدماته خصوصًا لأبناء الجالية العربية المقيمة في ألمانيا والتي يقدر عدد أفرادها بأكثر من ثلاثة ملايين عربي، وهم يتزايدون يومًا بعد يوم نتيجة عاملين أساسيين هما زيادة معدل التناسل، وزيادة الهجرة إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة.
- ثانيًا: تركيا
معلوم أن الخلافة العثمانية التي حكمت العالم العربي دامت حوالي 600 سنة، وشملت مساحة شاسعة للتفاعل الثقافي واللغوي والحضاري بين الأمتين العربية والتركية، وما زالت رفوف الكثير من المكتبات الخاصة والعامة تحمل كثيرًا من المؤلفات التي كتبها عرب أو أتراك باللغة التركية العثمانية المطبوعة أو المخطوطة بالحروف العربية التي أبدل بها مصطفى كمال أتاتورك الحروف اللاتينية سنة 1928 إثر إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1923.
واليوم، وفي ظل حكم حزب العدالة والتنمية المنفتح على العالم العربي انفتاحًا شاملًا كل المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، تشهد اللغة العربية في تركيا ازدهارًا ملحوظًا ولا سيما مع ازدياد أعداد العرب وخصوصًا السوريين من المقيمين في تركيا والنازحين إليها بعد الأحداث المؤسفة التي شهدتها سوريا بدءًا من سنة 2011، ويعبر عن هذا الازدهار نمّو مراكز تعليم اللغة العربية التي تبلغ المئات، فضلًا عن الأكاديميات المسجلة لدى وزارة التعليم التركية. كما يعبر عنه أن العربية حلّت محل الإنكليزية كلغة ثانية مطلوبة للعمل في قطاعات المهن المختلفة ولا سيما السياحة والبناء والتجارة.
- ثالثًا: فرنسا
معلوم أن بيننا وبين فرنسا تاريخًا من العلاقات أخذًا وعطاءً منذ أيام شارلمان، وبينها وبيننا في العصر الحديث تواصل ثقافي وفكري إيجابي تارة، ومشدود إلى الانتداب في لبنان وسوريا والاستعمار في الجزائر تارة أخرى، وتبقى صلاتنا الثقافية والسياسية والفكرية معها محكومة بمقولة "الأم الحنون" التي يفتتن بها النظام اللبناني والمتأثرون به تأثرًا عاطفيًا- سياسيًا ملحوظًا.
ولفرنسا باع طويل في مجال الاستشراق، ولائحة مستشرقيها الذين اهتموا بدراسة آداب اللغة العربية وترجمة بعض آثارها لائحة غنية تضم أسماء بارزة في طليعتها:
إرنست رينان، ومكسيم رودنسون مؤلف "الإسلام والرأسمالية" و"جاذبية الإسلام"، "ومحمّد"، وغيرها، ومن كبار المستشرقين الفرنسيين أيضًا جاك ريسلم صاحب كتاب "الحضارة العربية" المؤمن بحوار الحضارات والذي نال جائزة الأكاديمية الفرنسية، ومنهم أيضًا سيلفستر دي ساسي، وكارا دي فو وآخرون...
غير أنه يلاحظ أن الاستشراق الفرنسي غالبًا ما تأثر بسياسات الإليزيه والمطامح الاستعمارية الفرنسية وقبل أن يكون مطية لها في كثير من الأحيان.
ولعل من أبرز مؤسسات التواصل الثقافي بين العالم العربي وفرنسا معهد العالم العربي الذي تأسس أصلًا سنة 1980 بالتعاون بين الحكومة الفرنسية واثنتين وعشرين دولة عربية بهدف التعريف بالثقافة العربية ونشرها وتنمية التواصل بين العالم العربي وأوروبا عمومًا وبينه وبين فرنسا بشكل خاص.
وأما على صعيد تدريس اللغة العربية في فرنسا فيقدر عدد الطلاب الذين يدرسونها في مدارس فرنسية بما يقارب العشرة آلاف فضلًا عن أكثر من أربعين ألفًا ممن يتابعون دورات لتعلم العربية في مؤسسات خاصة، مع الإشارة إلى أن العربية هي لغة شريحة واسعة من العرب الفرنسيين، وهي من الناحية الدينية لغة أكثر من عشرين مليون مسلم يعيشون في أوروبا، ومع ذلك يصنفها نظام التعليم الفرنسي لغة أجنبية في إطار لغة الأقليات!
على أنه لا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن بداية الاهتمام بالعربية في فرنسا تعود إلى القرن السابع عشر عندما وجهت فرنسا رجال الدين المسيحيين لدراسة اللغة العربية بحثًا عن أدلّة هادفة إلى فهم النصوص الدينية الخاصة بالكنائس الشرقية، ولكنّ تدريس العربية غدا اليوم مسألة خلافية في فرنسا وموضوعَ أخذٍ وردّ على صفحات الصحف والمجالات والكتب، وهي مسألة افتعلها وأجَّجَ سعيرَها اليمينُ الفرنسي المتطرف بقطبيه العنصريين: مارين لوبين رئيسة الجبهة الوطنية، وإريك زمور اليهودي الموتور ذي الأصول الجزائرية.
غير أن عدد الفرنسيين ذوي الأصول العربية الذي يقدره بعض الباحثين بسبعة ملايين مواطن يتمسك معظمهم بثقافته وتقاليده ولغته، يجعل من حملات لوبن وزمور العنصريّة محاولاتٍ يائسةً معاكسةً لحركة التاريخ وأحكام التطور، فهما كما قال الشاعر:
كناطحٍ صخرةً يومًا لِيوهِنَها فلم يَضِرْها وأَوْهى قرنَهُ الوعِلُ
تبقى كلمة شكرٍ من القلب لكلية الآداب في جامعة الجنان التي أتاحت لي المشاركة بهذه المقالة في المؤتمر الذي أقامته بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بتاريخ 18/12/2021، وكلمة شكر من القلب أيضًا لمجلة الحداثة ورئيس تحريرها الصديق الحبيب فرحان صالح الذي شرفني باختيار هذه المقالة افتتاحيةً لهذا العدد المميز .
***
* عميد سابق لكلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. ومدير جامعة الجنان – فرع صيدا حاليا، وأستاذ العلوم اللغوية.
** أتيح لي أن أشارك في أعمال المؤتمر العلمي الرصين الذي انعقد في جامعة الجنان في طرابلس في 17 و18 كانون الأول 2021 بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بعنوان: "اللغة العربية والعالمية" وكانت لي هذه المداخلة.

- al hadatha - ISSN: 2790-1785
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2021 02:50 Tags: مجلة_الحداثة

November 18, 2021

طفل الروضة في ظل التعلم من بعد

♦ جوزفين طنوس مطر *
- نبذة عن البحث:
تعدّ مرحلة الطفولة من أهم المراحل في تكوين شخصية الطفل؛ فهي مرحلة تكوين وإعداد، ففيها ترسم ملامح شخصية الفرد مستقبلًا، وتتشكل العادات والاتّجاهات، وتنمو الميول والاستعدادات، وتتفتّح القدرات وتتكوّن المهارات وتُكتشف.
وتمثّل القيم الرّوحيّة والتقاليد والأنماط السّلوكيّة، ويتحدّد خلالها مسار نموّ الطفل الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي والوجداني طبقًا لما توفّره البيئة المحيطة بعناصرها التربوية والصحية والاجتماعية فيجب تهيئة هذا كلّه لتحقق التربية المتكاملة للطفل لينمو بطريقة سوية. (لبابنة، 2010)
يبدو من المفيد لتحقيق هذه التربية المتكاملة الالتفات إلى حاجات ومتطلّبات خاصة بطفل الرّوضة، فقد حظيت مرحلة الطفولة المبكرة باهتمام كبير من المربّين وعلماء النّفس والفلاسفة منهم الفيلسوف روسو (Rousseau) الذي أجاد التكلم على الطفولة المبكرة، وعلى حرية الطفل ومراعاة احتياجاته ومتطلباته.
يُذكر أيضًا التربوي فروبل وماريا مونتسوري (Montessori & Froebel) اللّذين أنشآ دور رياض الأطفال، وعنت بتقديم العناية والرعاية لهم، إضافة إلى تعليمهم المبادئ الأساسية عن طريق اللعب، مع الاهتمام بتنمية الطفل جسميًّا وعقليًّا وانفعاليًّا. (خلف، 2005)
من هنا يأتي دور البيئة التعليمية الغنية بالمثيرات التي تحثّ الطفل على حبّ الاكتشاف والتعلّم ودور الأنشطة المتنوعة التي تراعي الخصائص الفردية لكل طفل وتراعي أنماط التعلم المختلفة (سمعي، بصري، لغوي، حركي، رياضي منطقي أو رياضي اجتماعي حسّي) (محمد، 2014، ص135) كما تعمل على مراعاة الطريقة البنائية التي تقوم على المناهج الحديثة وتساعد على إثارة الطفل وزيادة مشاركته (المالكي، 2014، ص633). إضافة إلى ذلك، إنها تلبي حاجاته للعب وتوفر له الألعاب بأنواعها بحيث يشعر بالحرية والراحة أثناء وجوده في دور الأطفال (الناشف، 1997).
توفر هذه البيئة التعليمية المتطلبات الأساسية للنمو المتكامل والسليم للطفل. وهذا ما تسعى أن تقدّمه كل دور أطفال في العالم عمومًا ولبنان خصوصًا.
لكن مع انتشار فيروس كورونا، تغيرت نواحٍ كثيرة في يومياتنا والتعليم. ولأنّ فيروس كورونا المستجد حصل فجأة من دون مقدمات، تمّ في عدّة دول ومنها لبنان جعل التعلم الحضوري تعلمًا من بعد لجميع المراحل ومن ضمنها رياض الأطفال التي تعدّ مرحلة تأسيسية تعتمد بشكل كبير على المحسوسات.
ولا شك أنه للانتقال من بيئة تعليمية وجوهية إلى بيئة تعليميّة آلية افتراضية، تبعات على الوسائل والأدوات التعلمية وبالتالي على الأسلوب التعليمي. باختصار تبعات على قدرات طفل الروضة ومهاراته.
***
* باحثة لبنانية، حائزة شهادة دكتوراه في التربية من الجامعة اللبنانية
مجلة الحداثة - صيف/خريف 2021 - عدد 217 /218 - Al Hadatha Journal
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 18, 2021 10:34 Tags: مجلة_الحداثة

November 15, 2021

مجلة الحداثة: عوامل استمرارية الجماعات الدينية وظاهرة العنف في مجتمع طائفي – صيف/خريف 2021

غلاف مجلة الحداثة صيف خريف 2021
صدر العدد الجديد من مجلة الحداثة - al hadatha journal – فصلية ثقافية أكاديمية محكمة (صيف / خريف 2021 – عدد 2017 - 220) تحت عنوان:عوامل استمرارية الجماعات الدينية وظاهرة العنف في مجتمع طائفي - أبحاث في قصيدة النثر والترجمة والتعليم والإعلام والجودة والتنميةوضم عدد الجديد من المجلة التي تصدر بترخيص من وزارة الإعلام اللبنانية (230 ت 21/9/1993) ويرأس تحريرها فرحان صالح، عددًا من الملفات والأبحاث الأكاديمية، واستهل بافتتاحية، تحت عنوان: Ø³Ù„طة اللّغة ولغة السلطة للدكتورة مهى الخوري نصّاركما كتب رئيس التحرير كلمة بعنوان: حسن حنفي وداعًاومن الملفات التي ضمّها العدد:
في العلوم الاجتماعية:Sexual violence in the Lebanese confessional denomination society - Christiane Saliba
Le Role des facteurs religieux et sociaux au niveau de la survie du groupe religieux composé des moniales chrétiennes maronites du couvent saint Joseph-Jrebta - Richard Rbeiz
في التربية والتعليم:طفل الرّوضة في ظل التّعلّم من بعد - جوزفين مطر
La reformulation: Pont ou obstacle dans l’enseignement/apprentissage du français au cycle secondaire au Liban? - Paulette AYOUB
في الأدب والفلسفة:قصيدة النثر العربية والوقوف على "قشرة الموز" - بحث في إشكالية التعريف والسمات والشكل والتمايز - كامل صالح
مفهوم الأدب في كتاب "أدب الّطبيب"لإسحق بن عليّ الرُّهاويّ- أليسار إبراهيم
A Lacanian Analysis on the duality in Mohja Kahf’s The Girl in the Tangerine Scarf - Roudayna Fayad
"فن العيش الحكيم" لشوبنهاور: التجربة هي النّص والتفكير هو الحاشية - هيثم صالح
في الترجمة:Feminist Translation of Saudi Discourse: Omaima Alkhamis’ Albahriyat as a Case Study - Bodoor Alzeer - Baya Koudja
La localisation des campagnes diffusées par les ONG: quels enjeux idéologiques? - Sandy Hallak 
في الإعلام:تحديات الإعلام اللبناني بين القوانين والواقع الجديد - هنيدا عيروت
فيليب الحتي: شاهد على عصر - هيثم صالح 
في التنمية والجودة الصحية:FINANCIAL INCLUSION A PERSPECTIVE FOR LEBANON - Layla Tannoury - Mariella Afif
La démarche Qualité dans les Laboratoires de biologie médicale au Liban Sa situation par rapport à la norme ISO 15189 - Rita Khattar - Maha Nehmé (MD)
وضم باب نوافذ:عبد الناصر في ضيافة طلعت حرب (سيرة سياسية... رغبات حياة) - فرحان صالح
فوبيا - أمل سالم
روح الشاعر تعرف (نصوص) - محمد ناصر الدين
يشار إلى أن العدد الأول من المجلة صدر في بيروت في العام 1994. لمزيد من التفاصيل، موقع المجلة الترويجي:https://alhadathamagazine.blogspot.com
الحداثة - ISSN: 2790-1785 - Al hadatha
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2021 08:08

مجلة الحداثة: عوامل استمرارية الجماعات الدينية وظاهرة العنف في مجتمع طائفي – صيف/خريف 2021

مجلة الحداثة عوامل استمرارية الجماعات الدينية وظاهرة العنف في مجتمع طائفي - صيف خريف 2021 by مجلة الحداثة صدر العدد الجديد من مجلة الحداثة
- al hadatha journal – فصلية ثقافية أكاديمية محكمة (صيف / خريف 2021 – عدد 2017 - 220) تحت عنوان:
عوامل استمرارية الجماعات الدينية وظاهرة العنف في مجتمع طائفي - أبحاث في قصيدة النثر والترجمة والتعليم والإعلام والجودة والتنمية
وضم عدد الجديد من المجلة التي تصدر بترخيص من وزارة الإعلام اللبنانية (230 ت 21/9/1993) ويرأس تحريرها فرحان صالح، عددًا من الملفات والأبحاث الأكاديمية، واستهل بافتتاحية، تحت عنوان:
سلطة اللّغة ولغة السلطة للدكتورة مهى الخوري نصّار
كما كتب رئيس التحرير كلمة بعنوان: حسن حنفي وداعًا
ومن الملفات التي ضمّها العدد:
في العلوم الاجتماعية:
Sexual violence in the Lebanese confessional denomination society - Christiane Saliba

Le Role des facteurs religieux et sociaux au niveau de la survie du groupe religieux composé des moniales chrétiennes maronites du couvent saint Joseph-Jrebta - Richard Rbeiz

في التربية والتعليم:
طفل الرّوضة في ظل التّعلّم من بعد - جوزفين مطر

La reformulation: Pont ou obstacle dans l’enseignement/apprentissage du français au cycle secondaire au Liban? - Paulette AYOUB

في الأدب والفلسفة:
قصيدة النثر العربية والوقوف على "قشرة الموز" - بحث في إشكالية التعريف والسمات والشكل والتمايز - كامل صالح

مفهوم الأدب في كتاب "أدب الّطبيب"لإسحق بن عليّ الرُّهاويّ- أليسار إبراهيم

A Lacanian Analysis on the duality in Mohja Kahf’s The Girl in the Tangerine Scarf - Roudayna Fayad

"فن العيش الحكيم" لشوبنهاور: التجربة هي النّص والتفكير هو الحاشية - هيثم صالح

في الترجمة:
Feminist Translation of Saudi Discourse: Omaima Alkhamis’ Albahriyat as a Case Study - Bodoor Alzeer - Baya Koudja

La localisation des campagnes diffusées par les ONG: quels enjeux idéologiques? - Sandy Hallak

في الإعلام:
تحديات الإعلام اللبناني بين القوانين والواقع الجديد - هنيدا عيروت

فيليب الحتي: شاهد على عصر - هيثم صالح

في التنمية والجودة الصحية:
FINANCIAL INCLUSION A PERSPECTIVE FOR LEBANON - Layla Tannoury - Mariella Afif

La démarche Qualité dans les Laboratoires de biologie médicale au Liban Sa situation par rapport à la norme ISO 15189 - Rita Khattar - Maha Nehmé (MD)

وضم باب نوافذ:
عبد الناصر في ضيافة طلعت حرب (سيرة سياسية... رغبات حياة) - فرحان صالح

فوبيا - أمل سالم

روح الشاعر تعرف (نصوص) - محمد ناصر الدين

يشار إلى أن العدد الأول من المجلة صدر في بيروت في العام 1994. لمزيد من التفاصيل، موقع المجلة الترويجي:
https://alhadathamagazine.blogspot.com
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 15, 2021 08:08 Tags: مجلة_الحداثة

November 4, 2021

الافتتاحية: سلطة اللغة ولغة السلطة

مهى الخوري نصار - مجلة الحداثة
♦ مهى الخوري نصّار *
مفهوم السلطة واسع ومتداخل، تتعامل معه مختلف العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على نحو يرتكز على بعض معانيه وتشكّلاته، ويسقط سواها، وبذلك لا تعريف موحّد لهذا المفهوم. ولكن ما يمكن أن تتّفق عليه جميع التعريفات هو محوريّة دور اللّغة في إحداث السلطة. انطلاقًا من هذا، يصبح تعريف السلطة أسهل حين نقرنه باللّغة وحين نسعى إلى عرض المعطيات المشتركة في ما بينهما من مثل المجتمع والفكر والذات والتواصل.تضعنا هذه المنطلقات أمام معادلة مفادها أنّ اللّغة أداةٌ للفكر، وأنّ الذات في المجتمع تفكّر داخل اللّغة بهدف التواصل، وبذلك فإنّ ثمّة علاقة تفاعليّة تحاوريّة بين اللّغة والسلطة من حيث المكوّنات المشتركة. صحيح أنّ ما تنتجه اللغة على المستوى الواقعيّ الخارجيّ المنطوق قد يكون تعبيرًا صادقًا عن الذات الداخليّة، وهذا ما يدخل في إطار (التواصل لمجرّد نقل الخبر) إلّا أنّ ذلك لا ينفي إمكانيّة أن يكون مناقضًا أو منقوصًا أو مزيّفًا أو مغلوطًا فيه بالنسبة إلى الذات المفكّرة الداخليّة، وهذا ما يدخل في إطار (التواصل بوصفه أداةً في خدمة تطويع الأفكار). في الحالة الأولى، يمكن النظر إلى اللّغة بوصفها أداة تأثير، إذ لا معنى للواقع خارج نطاق اللّغة ولا تمظهُر للذات الداخليّة إلّا من خلال اللّغة. أمّا في الحالة الأخرى فتتّضح إمكانيّة تعدّي اللّغة وظيفتها التأثيريّة، وذلك حين ترتبط بالسلطة التي تسعى إلى التحرّر والإصلاح والوعي وإرضاء المواطنين في الظاهر والعلن، ولكن كما هو معلوم فهي تميل في الغالب، عبر آليّات وتقنيّات وممارسات واستراتيجيّات خطابيّة خفيّة، تتيحها لعبة اللّغة، إلى فرض هياكلها السلطويّة وإلى التأسيس لسيادة فكر معيّن يحيلنا إلى أيديولوجيّات وثقافات ونزاعات وفضاءات وإلى شبكة من العلاقات المضلّلة، المتوتّرة... فتصبح اللغة إذّاك وسيلة تعبير لنزاعات الهيمنة، وأداة لإظهار معارضة الفعل للقول، واستقلاليّة فعل السلطة عن فعل الإخبار، ومن ثمّ لكشف الأقنعة، ولتفكيك النوايا المكبوتة المشفّرة والحيل المخبوءة المحوكة، لأهداف متعدّدة منها التسويق السياسيّ (لغايات انتخابيّة أو تبريريّة لبعض الأفعال والمواقف...)، أو بغية التدمير والعنف والإخضاع، ومن ثمّ تكريس السيطرة والتسلّط. وهذا ما يؤكّد تعريف المفكر الفرنسي ميشال فوكو (Michel Foucault) للّغة بوصفها أداةً للسلطة، إذ قال: إنّ تطوير أشكال معيّنة من اللّغة يستجيب لاحتياجات أصحاب السلطة ويعتمد على استعمال خاص للسلطة من خلال مختلف ممارسات الخطاب. أضف إلى ذلك، أنّه يؤكّد طبيعة اللّغة الاستلابيّة القاهرة التي يمكن لها أن تجعل من الخطاب أداة تبليغ وحسب، أو أن تجنح به لتحوّله إلى وسيلة توجيه وخيانة وتزييف وتطويع وإخضاع، وهذا كلّه ضمن مبدإ سلطة الكلمات التي تخلق المعنى الكفيل بخلق الرابط الاجتماعيّ. وبذلك فإنّ اللّغة تحتوي على قوّة كامنة، غير ظاهرة، وغير واضحة للعلن، تبقى مستترة تحت عباءة القوالب والبنى والتراكيب اللّغويّة بما تتضمّنه من عناصر لسانيّة وسيميائيّة وأسلوبيّة وتداوليّة وإيقاعيّة كفيلة بإحالة المتلقّي على المستوى الإدراكي إلى أبعاد اجتماعيّة ونفسيّة وسياسيّة واقتصاديّة وسوسيولسانيّة معيّنة...وقد يمكننا القول إنّ سلطة اللّغة الخفيّة تستمدّها من قدرتها على إلزام متكلّميها ببنية تركيبيّة تقيّدها قواعد وضوابط ذات طابع قمعيّ، لا يسمح لهم بأيّ تجاوز أو تخطّ أو مراوغة... وهذا ما أشار إليه الناقد الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes) في أطروحته التي تحدّث فيها عن السلطة الداخليّة البنيويّة للّغة. وقد وافقه العالم اللغوي الروسي رومان ياكبسون (Roman Jakobson) الرأي فقال: إنّ اللّغة سلطة تشريعيّة، وإنّ اللسان قانونها، وأوضح أنّنا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأنّنا ننسى أنّ كلّ لسان تصنيف، وأنّ كلّ تصنيف ينطوي على نوع من القهر. وبذلك فإنّ اللّغة تتعيّن لا بما تخوّل قوله، بل بما تُرغِم على قوله، إذ يجد كلّ فرد نفسه ملزمًا على احترام سنن اللّغة التي يفرضها عليه النظام الاجتماعيّ، كي يحقّق مقصديّته التواصليّة.إلّا أنّ لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) رأيًا مغايرًا في هذا الإطار، إذ إنّه رأى أنّ اللّغة في حدّ ذاتها لا سلطة لها، وأنّها تكتسب سلطتها من وضعيّات الذوات الفاعلة، أو المتحدّثين، الذين لهم السلطة لاستعمال اللّغة بطرق شتّى، والذين يمتلكون قسطًا من الحرّيّة في الممارسة والتعبير والتركيب والتحريك بين العلامات داخل بنية اللّغة.ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أنّ الوضعيّات التي يمتلك فيها المتكلّمون السلطة، ويستعملون فيها اللّغة لغايات معيّنة، هي التي تعطي اللّغة السلطة التي تفتقدها في حال غياب هذه الوضعيّات. وجدير بالذكر أنّ اللّغة تتغيّر بتغيّر أصحاب السلطة في النسيج الاجتماعيّ، أو نوع النظام المؤسّساتيّ السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو التربويّ، إن كان ديمقراطيًّا أو شبه ديمقراطيّ أو استبداديًّا أو غير ذلك...خلاصة القول، أنّى كان المصدر الذي تستمدّ منه اللّغة سلطتها، أمن صرامة بنيتها أو من وضعيّات متكلّميها، تبقى لها سلطة، ويبقى لها سلطان كفيل بتجسيد النهضة والتنامي والازدهار والرقيّ من ناحية وبترسيخ الخداع والفساد والتدهور والانحطاط من ناحية أخرى مقابلة.ويبقى القول إنّ استخدام اللّغة لا يمكن له أن يكون متاحًا لأيٍّ كان في أيّ ظرف كان، فمن يودّ توجيه الكلام، لا سيّما من أصحاب السلطة، يجب أن يكون مؤهَّلًا للقيام بذلك من ناحية الوضعيّة التي يتكلّم فيها، وبذلك كلّ ذات متكلّمة ينبغي لها أن تكون شرعيّة، ذات مصداقيّة أي أن تبني لذاتها صورة معيّنة لدى سامعها، أن تجذبه، من ثمّ أن تنظّم خطابها على نحوٍ مغرٍ ومقنِع، لكي تلج إلى عالم المتلقّي الخطابيّ وتؤوله على نحو صحيح، أضف إلى ذلك ضرورة معرفة المتكلّم استعمال ماديّة اللّغة على المستوى الشكليّ المورفولوجيّ، وعلى مستوى قواعد التأليف والتركيب، وعلى مستوى الألاعيب الدلاليّة، لكي يعمد بعد ذلك المتلقّي إلى استخلاص العلامات الشكليّة لأفعال اللّغة على نحو نسقيّ، وإلى تأويل مستخلصاتها الشكليّة بكثير من الحنكة والحذر.سلطة اللّغة هي إحدى الأفكار المركزيّة التي ينطلق منها مجال التنمية البشريّة بأكمله، في سياق ما يُعرَف بـــِ: "البرمجة اللّغويّة العصبيّة"، أو "برمجة الأعصاب لغويًّا" التي تعبّر عن إمكانيّة برمجة أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا وتغييرها، وتاليًا عن إمكانيّة التحكّم في لغتنا الخاصّة بنا، المنطوقة وغير المنطوقة (لغة الجسد) الكفيلة بالسيطرة عبر سلطتها على جهازنا العصبيّ وآلية إدراكه للعالم عبر الحواس، والعمل على تغييرها بالتحسين أو التعديل، أي إعادة برمجة دماغ الإنسان باعتماد التأكيدات اللّغويّة الإيجابيّة الجديدة لتغيير الاعتقادات والاقتناعات السلبيّة السابقة.**** باحثة وأكاديمية لبنانية - رئيسة الفرقة البحثية في قسم اللغة العربية وآدابها في المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية***مجلة الحداثة - صيف/خريف 2021 - عدد 217 /218 - Al Hadatha Journalالحداثة - ISSN: 2790-1785 - Al hadatha
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2021 13:59

الافتتاحية: سلطة اللغة ولغة السلطة

مهى الخوري نصار - مجلة الحداثة
♦ مهى الخوري نصّار *
مفهوم السلطة واسع ومتداخل، تتعامل معه مختلف العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على نحو يرتكز على بعض معانيه وتشكّلاته، ويسقط سواها، وبذلك لا تعريف موحّد لهذا المفهوم. ولكن ما يمكن أن تتّفق عليه جميع التعريفات هو محوريّة دور اللّغة في إحداث السلطة. انطلاقًا من هذا، يصبح تعريف السلطة أسهل حين نقرنه باللّغة وحين نسعى إلى عرض المعطيات المشتركة في ما بينهما من مثل المجتمع والفكر والذات والتواصل.تضعنا هذه المنطلقات أمام معادلة مفادها أنّ اللّغة أداةٌ للفكر، وأنّ الذات في المجتمع تفكّر داخل اللّغة بهدف التواصل، وبذلك فإنّ ثمّة علاقة تفاعليّة تحاوريّة بين اللّغة والسلطة من حيث المكوّنات المشتركة. صحيح أنّ ما تنتجه اللغة على المستوى الواقعيّ الخارجيّ المنطوق قد يكون تعبيرًا صادقًا عن الذات الداخليّة، وهذا ما يدخل في إطار (التواصل لمجرّد نقل الخبر) إلّا أنّ ذلك لا ينفي إمكانيّة أن يكون مناقضًا أو منقوصًا أو مزيّفًا أو مغلوطًا فيه بالنسبة إلى الذات المفكّرة الداخليّة، وهذا ما يدخل في إطار (التواصل بوصفه أداةً في خدمة تطويع الأفكار). في الحالة الأولى، يمكن النظر إلى اللّغة بوصفها أداة تأثير، إذ لا معنى للواقع خارج نطاق اللّغة ولا تمظهُر للذات الداخليّة إلّا من خلال اللّغة. أمّا في الحالة الأخرى فتتّضح إمكانيّة تعدّي اللّغة وظيفتها التأثيريّة، وذلك حين ترتبط بالسلطة التي تسعى إلى التحرّر والإصلاح والوعي وإرضاء المواطنين في الظاهر والعلن، ولكن كما هو معلوم فهي تميل في الغالب، عبر آليّات وتقنيّات وممارسات واستراتيجيّات خطابيّة خفيّة، تتيحها لعبة اللّغة، إلى فرض هياكلها السلطويّة وإلى التأسيس لسيادة فكر معيّن يحيلنا إلى أيديولوجيّات وثقافات ونزاعات وفضاءات وإلى شبكة من العلاقات المضلّلة، المتوتّرة... فتصبح اللغة إذّاك وسيلة تعبير لنزاعات الهيمنة، وأداة لإظهار معارضة الفعل للقول، واستقلاليّة فعل السلطة عن فعل الإخبار، ومن ثمّ لكشف الأقنعة، ولتفكيك النوايا المكبوتة المشفّرة والحيل المخبوءة المحوكة، لأهداف متعدّدة منها التسويق السياسيّ (لغايات انتخابيّة أو تبريريّة لبعض الأفعال والمواقف...)، أو بغية التدمير والعنف والإخضاع، ومن ثمّ تكريس السيطرة والتسلّط. وهذا ما يؤكّد تعريف المفكر الفرنسي ميشال فوكو (Michel Foucault) للّغة بوصفها أداةً للسلطة، إذ قال: إنّ تطوير أشكال معيّنة من اللّغة يستجيب لاحتياجات أصحاب السلطة ويعتمد على استعمال خاص للسلطة من خلال مختلف ممارسات الخطاب. أضف إلى ذلك، أنّه يؤكّد طبيعة اللّغة الاستلابيّة القاهرة التي يمكن لها أن تجعل من الخطاب أداة تبليغ وحسب، أو أن تجنح به لتحوّله إلى وسيلة توجيه وخيانة وتزييف وتطويع وإخضاع، وهذا كلّه ضمن مبدإ سلطة الكلمات التي تخلق المعنى الكفيل بخلق الرابط الاجتماعيّ. وبذلك فإنّ اللّغة تحتوي على قوّة كامنة، غير ظاهرة، وغير واضحة للعلن، تبقى مستترة تحت عباءة القوالب والبنى والتراكيب اللّغويّة بما تتضمّنه من عناصر لسانيّة وسيميائيّة وأسلوبيّة وتداوليّة وإيقاعيّة كفيلة بإحالة المتلقّي على المستوى الإدراكي إلى أبعاد اجتماعيّة ونفسيّة وسياسيّة واقتصاديّة وسوسيولسانيّة معيّنة...وقد يمكننا القول إنّ سلطة اللّغة الخفيّة تستمدّها من قدرتها على إلزام متكلّميها ببنية تركيبيّة تقيّدها قواعد وضوابط ذات طابع قمعيّ، لا يسمح لهم بأيّ تجاوز أو تخطّ أو مراوغة... وهذا ما أشار إليه الناقد الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes) في أطروحته التي تحدّث فيها عن السلطة الداخليّة البنيويّة للّغة. وقد وافقه العالم اللغوي الروسي رومان ياكبسون (Roman Jakobson) الرأي فقال: إنّ اللّغة سلطة تشريعيّة، وإنّ اللسان قانونها، وأوضح أنّنا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأنّنا ننسى أنّ كلّ لسان تصنيف، وأنّ كلّ تصنيف ينطوي على نوع من القهر. وبذلك فإنّ اللّغة تتعيّن لا بما تخوّل قوله، بل بما تُرغِم على قوله، إذ يجد كلّ فرد نفسه ملزمًا على احترام سنن اللّغة التي يفرضها عليه النظام الاجتماعيّ، كي يحقّق مقصديّته التواصليّة.إلّا أنّ لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) رأيًا مغايرًا في هذا الإطار، إذ إنّه رأى أنّ اللّغة في حدّ ذاتها لا سلطة لها، وأنّها تكتسب سلطتها من وضعيّات الذوات الفاعلة، أو المتحدّثين، الذين لهم السلطة لاستعمال اللّغة بطرق شتّى، والذين يمتلكون قسطًا من الحرّيّة في الممارسة والتعبير والتركيب والتحريك بين العلامات داخل بنية اللّغة.ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى أنّ الوضعيّات التي يمتلك فيها المتكلّمون السلطة، ويستعملون فيها اللّغة لغايات معيّنة، هي التي تعطي اللّغة السلطة التي تفتقدها في حال غياب هذه الوضعيّات. وجدير بالذكر أنّ اللّغة تتغيّر بتغيّر أصحاب السلطة في النسيج الاجتماعيّ، أو نوع النظام المؤسّساتيّ السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو التربويّ، إن كان ديمقراطيًّا أو شبه ديمقراطيّ أو استبداديًّا أو غير ذلك...خلاصة القول، أنّى كان المصدر الذي تستمدّ منه اللّغة سلطتها، أمن صرامة بنيتها أو من وضعيّات متكلّميها، تبقى لها سلطة، ويبقى لها سلطان كفيل بتجسيد النهضة والتنامي والازدهار والرقيّ من ناحية وبترسيخ الخداع والفساد والتدهور والانحطاط من ناحية أخرى مقابلة.ويبقى القول إنّ استخدام اللّغة لا يمكن له أن يكون متاحًا لأيٍّ كان في أيّ ظرف كان، فمن يودّ توجيه الكلام، لا سيّما من أصحاب السلطة، يجب أن يكون مؤهَّلًا للقيام بذلك من ناحية الوضعيّة التي يتكلّم فيها، وبذلك كلّ ذات متكلّمة ينبغي لها أن تكون شرعيّة، ذات مصداقيّة أي أن تبني لذاتها صورة معيّنة لدى سامعها، أن تجذبه، من ثمّ أن تنظّم خطابها على نحوٍ مغرٍ ومقنِع، لكي تلج إلى عالم المتلقّي الخطابيّ وتؤوله على نحو صحيح، أضف إلى ذلك ضرورة معرفة المتكلّم استعمال ماديّة اللّغة على المستوى الشكليّ المورفولوجيّ، وعلى مستوى قواعد التأليف والتركيب، وعلى مستوى الألاعيب الدلاليّة، لكي يعمد بعد ذلك المتلقّي إلى استخلاص العلامات الشكليّة لأفعال اللّغة على نحو نسقيّ، وإلى تأويل مستخلصاتها الشكليّة بكثير من الحنكة والحذر.سلطة اللّغة هي إحدى الأفكار المركزيّة التي ينطلق منها مجال التنمية البشريّة بأكمله، في سياق ما يُعرَف بـــِ: "البرمجة اللّغويّة العصبيّة"، أو "برمجة الأعصاب لغويًّا" التي تعبّر عن إمكانيّة برمجة أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا وتغييرها، وتاليًا عن إمكانيّة التحكّم في لغتنا الخاصّة بنا، المنطوقة وغير المنطوقة (لغة الجسد) الكفيلة بالسيطرة عبر سلطتها على جهازنا العصبيّ وآلية إدراكه للعالم عبر الحواس، والعمل على تغييرها بالتحسين أو التعديل، أي إعادة برمجة دماغ الإنسان باعتماد التأكيدات اللّغويّة الإيجابيّة الجديدة لتغيير الاعتقادات والاقتناعات السلبيّة السابقة.**** باحثة وأكاديمية لبنانية - رئيسة الفرقة البحثية في قسم اللغة العربية وآدابها في المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية***مجلة الحداثة - صيف/خريف 2021 - عدد 217 /218 - Al Hadatha Journalمجلة الحداثة - al hadatha
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2021 13:59 Tags: مجلة_الحداثة

مجلة الحداثة - Al Hadatha Journal

مجلة الحداثة
Al Hadatha Journal - A Refereed Academic Quarterly
مجلة فصلية أكاديمية محكّمة تُعنى بقضايا التراث الشعبي والحداثة
تصدر في لبنان منذ العام 1994 بناء على ترخيص من وزارة الاعلام (230 ت 21/9/1993)
ISSN/2790
...more
Follow مجلة الحداثة's blog with rss.