عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 71

November 13, 2021

November 12, 2021

November 11, 2021

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تناقضات الماركسية – اللينينية

تقوم الأفكار الماركسية – اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين. إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوروبية هامة، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجا لذروة التطور التقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة.
فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا، القوميون الروسيون، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لانحلال رأسمالية الدولة الشمولية الروسية، بالجمع بين هذه الماركسية الأوروبية مع استبداد الدولة المركزية، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه (الماركسية – اللينينية).
علينا أن نرى بادئ ذي بدء، أن هذا الجمع المتناقض، هو افتقار هذه الماركسية الأوروبية في نشأتها، إلى أن تكون نظرية إنسانية، أي أن منشأها الأوروبي في غرب أوروبا تحديداً، يمنعها أن تكون نظرة لمختلف التجارب الإنسانية، فلكي تصل أن تكون نظرية إنسانية يلزمها أن تدرس تجارب مختلف الشعوب ومستويات تطورها، وهذا هو الأمر الذي لم يتوافر.
فحتى القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوروبية خاصةً كبديهية مُلزمة، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين. أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه، وهو يخضع للبحوث المستمرة. ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوروبية الغربية، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد .
أي أن الماركسية كنظرية أوروبية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية، أما اللينينية فأمرُها يختلف، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية، من دون أن تُرفد بتجارب الأمم غير الأوروبية، وبهذا فإن السيادة الأوروبية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءاً منها، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوروبية ممكناً، بفضل هذا التفوق.
إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسية وتفحصها وتنقدها، في العالم الثالث، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية.
إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية، ومن هنا لعبت (اللينينية) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وإفساد الماركسية على المدى العالمي.
وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوروبي ديمقراطي شعبي؛ وبين الفكر المعارض الروسي، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوروبا الغربية لها، وأمانة روسيا في احتضانها.
فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة، في حين أن أوروبا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية.
وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات (العلمية) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف.
كان من أولى الخرافات (العلمية) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي (نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي)، فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية، وبين المسارين تضيع روسيا.
فأوروبا الغربية حين انتقلت إلي الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون، فبدءاً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابوية وظهور البروتستانتية، ثم مجيء عصر النهضة، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ..
أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاع وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمي عصر نهضة روسي، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوروبا الغربية وروسيا، وإذا أمكن لأوروبا أن تنتج الماركسية ضمن نظريات علمية عدة، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلي أيديولوجيا، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وان تخنقها.
فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أي نظرة علمية أخري أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ٠..
بمعنى أن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية، وهو أمر على سبيل المثال لم يتم حتى اليوم في روسيا، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل. وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم.
وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكى يخرج من حالةِ القطيع التاريخي.
لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ..، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية، المُجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي.
لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقه، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة اُستبدلت بسهوله بمؤسسات جديدة، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون.
إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . .
أي أن البنية المتحولة من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً، فأبقت الكتل الجماهيرية من دون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع (الآسيوي) للجمهور، ولم يتأورب، أي لم يتحدث؛ ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ..

تجاوز اللينينية

قامت أحزاب ماركسية عربية نادرة بإعلان تخليها الرسمي عن (اللينينية)، كالحزب الشيوعي العراقي، في حين قامت أحزاب نادرة أخرى بتغيير أسمائها، وقد اشتغلت مراجعات عربية تقدمية كثيرة، لأنتاج وعي عربي تقدمي مستقل، وهناك ثروة من الأدبيات النقدية للفترات السابقة.
وبطبيعة الحال فإن هذه المراجعات والتغييرات ليست من أجل إرضاء القوى والسلطات العربية المحافظة، بل من أجل شحن أدوات النضال والتفهم الأوسع للتاريخ والوضع العربيين.
فقد تشكلت اللينينية كصيغة متطرفة لتجاوز أوضاع شديدة التخلف، وقدمت صيغة مبسطة، بالقفز فوق التشكيلة الرأسمالية، الأمر الذي تسبب بالكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية، خاصة في الأقطار العربية التي أخذت هذه الصيغة بشكل تبعي، في حين أن قدراتها الكفاحية والموضوعية كانت بعيدة حتى عن الإمكانيات الروسية والصينية وغيرها، التي استطاعت رغم الأخطاء كافة من تحقيق معدلات تنمية كبيرة مع مشكلات كبيرة كذلك.
ولا يعني ذلك التخلي عن مساهمات لينين الكبيرة في الثقافة والفكر العالمي، فقد قدم هذا القائد الكثير من المواقف الشجاعة والمؤلفات القيمة، وللأسف فإن فكره لم يُتابع بشكل نقدي موضوعي في بلده أو في العالم وهو القائد الذي رفض أشكال العبادة الفردية كافة، فما بالك بالتحنيط، وكان يثور حتى على الاحتفال بعيد مولده من قبل أصدقائه!
لكن التحنيط تشكل على أساس نشوء دولة دكتاتورية كبيرة ساهم هو نفسه فى تكونها وترسيخها، وفيما بعد نمت على أساس سياسي وبوليسي، وارتفع على أكتاف العمل والتضحية فيها دكتاتوريون قساة لا إنسانيين.
ولا شك أن أفكارا تجاوز المرحلة الرأسمالية بحرياتها وبرلماناتها وصحافتها الحرة، تمثل الخطأ الجوهري الذي ارتكبه لينين وشاع في الدول الشرقية الاستبدادية بتاريخها الطويل، والتي تتشارك فيها الطبقات الاستغلالية والمستغلة في ذات الإرث الشمولي.
لكن يُفترض أن لا تكتفى الأحزاب التقدمية العربية بهذه التصفية العامة، وبفك الارتباط السياسي، بقدر ما تبدأ البحث عن خصوصيات تطور الشعوب العربية، وقراءة مفاتيح التغيير في مناطقها بصورة غير جامدة كما كانت الصياغات السابقة.
ويتمثل مظهر الصيغة اللينينية كمدرسة دكتاتورية وليس كإرث ديمقراطي نهضوي، في أولئك الذين يصرون على تحقيق (الاشتراكية) مستمرين في ترديد الكليشهات القديمة، في حين أننا عاجزون عن تحقيق مهمان مثل تغيير وضع المرأة أو تعديل أوضاع الريف التي لم تتحقق حتى الآن.
وليست أطروحات القفز هذه سوى تخل عن المهمات الحقيقية الممكنة على الأرض، واستمرار هياكل الأحزاب الشمولية التي تيبست بسبب هذا الانفصام عن الواقع.
وهذه الأطروحات تقود إلى التقوقع والاختناق الفئوي وا لانحصار السياسي، بدلاً من فتح السبل للتحالفات الواسعة مع الجماعات الديمقراطية المختلفة، ولا تتشكل هذه التحالفات سوى في التوجه لتحقيق مجتمع ديمقراطي حديث، وقد أدت هذه العقلية الانفتاحية في العديد من الدول في أوروبا الشرقية إلى تحول الأحزاب التقدمية إلى أنماط سياسية مرنة جديدة، تخلت عن تبعيتها للنموذج الروسي، وضفرت بين تقاليدها القومية والنظرية التقدمية، فجمعت بين الدفاع عن رأسمالية الدولة (القطاع العام) وبين عمليات الإصلاح والخصخصة.
وتبدو نتائج الحزب الشيوعي الروسي وريث الحزب الشيوعي السوفيتي غير مشجعة في الانتخابات البرلمانية، ويبدو أن ذلك عائد لخوف المواطنين الروس من عودة الحزب إلى السلطة، وتغييب الحريات العامة التي تمتعوا بها أخيرا .
إن ذلك يعود لتمسك الحزب باللينينية كما تم تحنيطها من قبل الدولة الشمولية على مدى العقود الماضية، حيث لا تبدو مراجعة عميقة من قبل الحزب لها، فالإرث القديم طويل وثقيل.

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-618f0fdc9dd03', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', onClick: function() { window.__tcfapi && window.__tcfapi( 'showUi' ); }, } } }); });
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 11, 2021 17:03

عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تناقضات الماركسية – اللينينية

تقوم الأفكار الماركسية – اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين. إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوروبية هامة، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجا لذروة التطور التقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة.
فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا، القوميون الروسيون، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لانحلال رأسمالية الدولة الشمولية الروسية، بالجمع بين هذه الماركسية الأوروبية مع استبداد الدولة المركزية، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه (الماركسية – اللينينية).
علينا أن نرى بادئ ذي بدء، أن هذا الجمع المتناقض، هو افتقار هذه الماركسية الأوروبية في نشأتها، إلى أن تكون نظرية إنسانية، أي أن منشأها الأوروبي في غرب أوروبا تحديداً، يمنعها أن تكون نظرة لمختلف التجارب الإنسانية، فلكي تصل أن تكون نظرية إنسانية يلزمها أن تدرس تجارب مختلف الشعوب ومستويات تطورها، وهذا هو الأمر الذي لم يتوافر.
فحتى القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوروبية خاصةً كبديهية مُلزمة، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين. أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه، وهو يخضع للبحوث المستمرة. ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوروبية الغربية، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد .
أي أن الماركسية كنظرية أوروبية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية، أما اللينينية فأمرُها يختلف، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية، من دون أن تُرفد بتجارب الأمم غير الأوروبية، وبهذا فإن السيادة الأوروبية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءاً منها، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوروبية ممكناً، بفضل هذا التفوق.
إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسية وتفحصها وتنقدها، في العالم الثالث، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية.
إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية، ومن هنا لعبت (اللينينية) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وإفساد الماركسية على المدى العالمي.
وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوروبي ديمقراطي شعبي؛ وبين الفكر المعارض الروسي، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوروبا الغربية لها، وأمانة روسيا في احتضانها.
فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة، في حين أن أوروبا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية.
وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات (العلمية) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف.
كان من أولى الخرافات (العلمية) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي (نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي)، فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية، وبين المسارين تضيع روسيا.
فأوروبا الغربية حين انتقلت إلي الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون، فبدءاً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابوية وظهور البروتستانتية، ثم مجيء عصر النهضة، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ..
أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاع وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمي عصر نهضة روسي، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوروبا الغربية وروسيا، وإذا أمكن لأوروبا أن تنتج الماركسية ضمن نظريات علمية عدة، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلي أيديولوجيا، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وان تخنقها.
فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أي نظرة علمية أخري أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ٠..
بمعنى أن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية، وهو أمر على سبيل المثال لم يتم حتى اليوم في روسيا، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل. وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم.
وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكى يخرج من حالةِ القطيع التاريخي.
لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ..، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية، المُجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي.
لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقه، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة اُستبدلت بسهوله بمؤسسات جديدة، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون.
إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . .
أي أن البنية المتحولة من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً، فأبقت الكتل الجماهيرية من دون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع (الآسيوي) للجمهور، ولم يتأورب، أي لم يتحدث؛ ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ..

تجاوز اللينينية

قامت أحزاب ماركسية عربية نادرة بإعلان تخليها الرسمي عن (اللينينية)، كالحزب الشيوعي العراقي، في حين قامت أحزاب نادرة أخرى بتغيير أسمائها، وقد اشتغلت مراجعات عربية تقدمية كثيرة، لأنتاج وعي عربي تقدمي مستقل، وهناك ثروة من الأدبيات النقدية للفترات السابقة.
وبطبيعة الحال فإن هذه المراجعات والتغييرات ليست من أجل إرضاء القوى والسلطات العربية المحافظة، بل من أجل شحن أدوات النضال والتفهم الأوسع للتاريخ والوضع العربيين.
فقد تشكلت اللينينية كصيغة متطرفة لتجاوز أوضاع شديدة التخلف، وقدمت صيغة مبسطة، بالقفز فوق التشكيلة الرأسمالية، الأمر الذي تسبب بالكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية، خاصة في الأقطار العربية التي أخذت هذه الصيغة بشكل تبعي، في حين أن قدراتها الكفاحية والموضوعية كانت بعيدة حتى عن الإمكانيات الروسية والصينية وغيرها، التي استطاعت رغم الأخطاء كافة من تحقيق معدلات تنمية كبيرة مع مشكلات كبيرة كذلك.
ولا يعني ذلك التخلي عن مساهمات لينين الكبيرة في الثقافة والفكر العالمي، فقد قدم هذا القائد الكثير من المواقف الشجاعة والمؤلفات القيمة، وللأسف فإن فكره لم يُتابع بشكل نقدي موضوعي في بلده أو في العالم وهو القائد الذي رفض أشكال العبادة الفردية كافة، فما بالك بالتحنيط، وكان يثور حتى على الاحتفال بعيد مولده من قبل أصدقائه!
لكن التحنيط تشكل على أساس نشوء دولة دكتاتورية كبيرة ساهم هو نفسه فى تكونها وترسيخها، وفيما بعد نمت على أساس سياسي وبوليسي، وارتفع على أكتاف العمل والتضحية فيها دكتاتوريون قساة لا إنسانيين.
ولا شك أن أفكارا تجاوز المرحلة الرأسمالية بحرياتها وبرلماناتها وصحافتها الحرة، تمثل الخطأ الجوهري الذي ارتكبه لينين وشاع في الدول الشرقية الاستبدادية بتاريخها الطويل، والتي تتشارك فيها الطبقات الاستغلالية والمستغلة في ذات الإرث الشمولي.
لكن يُفترض أن لا تكتفى الأحزاب التقدمية العربية بهذه التصفية العامة، وبفك الارتباط السياسي، بقدر ما تبدأ البحث عن خصوصيات تطور الشعوب العربية، وقراءة مفاتيح التغيير في مناطقها بصورة غير جامدة كما كانت الصياغات السابقة.
ويتمثل مظهر الصيغة اللينينية كمدرسة دكتاتورية وليس كإرث ديمقراطي نهضوي، في أولئك الذين يصرون على تحقيق (الاشتراكية) مستمرين في ترديد الكليشهات القديمة، في حين أننا عاجزون عن تحقيق مهمان مثل تغيير وضع المرأة أو تعديل أوضاع الريف التي لم تتحقق حتى الآن.
وليست أطروحات القفز هذه سوى تخل عن المهمات الحقيقية الممكنة على الأرض، واستمرار هياكل الأحزاب الشمولية التي تيبست بسبب هذا الانفصام عن الواقع.
وهذه الأطروحات تقود إلى التقوقع والاختناق الفئوي وا لانحصار السياسي، بدلاً من فتح السبل للتحالفات الواسعة مع الجماعات الديمقراطية المختلفة، ولا تتشكل هذه التحالفات سوى في التوجه لتحقيق مجتمع ديمقراطي حديث، وقد أدت هذه العقلية الانفتاحية في العديد من الدول في أوروبا الشرقية إلى تحول الأحزاب التقدمية إلى أنماط سياسية مرنة جديدة، تخلت عن تبعيتها للنموذج الروسي، وضفرت بين تقاليدها القومية والنظرية التقدمية، فجمعت بين الدفاع عن رأسمالية الدولة (القطاع العام) وبين عمليات الإصلاح والخصخصة.
وتبدو نتائج الحزب الشيوعي الروسي وريث الحزب الشيوعي السوفيتي غير مشجعة في الانتخابات البرلمانية، ويبدو أن ذلك عائد لخوف المواطنين الروس من عودة الحزب إلى السلطة، وتغييب الحريات العامة التي تمتعوا بها أخيرا .
إن ذلك يعود لتمسك الحزب باللينينية كما تم تحنيطها من قبل الدولة الشمولية على مدى العقود الماضية، حيث لا تبدو مراجعة عميقة من قبل الحزب لها، فالإرث القديم طويل وثقيل.

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-618e687b2f8a6', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', onClick: function() { window.__tcfapi && window.__tcfapi( 'showUi' ); }, } } }); });
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 11, 2021 17:03

November 5, 2021

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الولادة العسيرة لليسار الديمقراطي الشرقي

    إن تداخل اليسار في الشرق مع ولادات الرأسماليات الحكومية الشرقية فيها أدى إلى مشكلات في تطور اليسار نفسه وفي قضايا أخرى كالعقلانية والديمقراطية، فقد حدث التباسٌ تاريخي كبير.

    كانت هذه لحظة لقاء معقدة وتركيبية، وذات إشكاليات متعددة، تضافر فيها اليسار الغربي مع الشمولية الشرقية، والرغبة في القفزة النهضوية مع الاستبداد، وتسريعُ الحداثة مع هياكل اقتصادية متخلفة جامدة، وتم جلب أحدث الأفكار التقدمية لوعي شعوب دينية تعيش في قرون سابقة!

    أسرعت قوى سياسية في تنميط موديل سياسي يساري نهضوي رأت فيه الشفرة الموجزة والمتكاملة وجعلت من الدكتاتورية طريقة سياسية لحل كل هذه الإشكاليات، جعلت من ذلك مصدراً نضالياً حماسياً مهماً وشفرة سحرية لحل القضايا كافة التي تحتاج إلى قرون من التطور البطيء العقلاني.

    تداخل الموديل التاريخي العابر مع اطلاقيات مقدسة وجعل نفسه بديلاً يؤدي إلى زوال الرأسمالية في العالم ككل، وتوجه لإزالة الأديان والقوميات (الشوفينية) وإحلال لغة قومية لشعوب أخرى.

    إن الطريق الرأسمالي الحكومي الشرقي عامة وصل إلى طريق مسدود، وعادت الرأسمالية السوداء والفوضوية وعادَ الدين المحافظ ليتبوأ مكانة مقدسة، وعجزت اللغة القومية أن تكون لغة عالمية للشعوب التي عادت للغاتِها وتقاليدها العتيقة.

    وهذا ليس سوى النتيجة للبناء الأول، فما تم تشكيله بسرعة ينهار بسرعة وعبر فوضى غير عقلانية! ومن النقيض للنقيض، لصعوبة تكوين البدائل الوسيطة التي لا تتشكل إلا من خلال تطور تاريخي متدرج وموضوعي.

    أخذ اليسار الشمولي ينهار وينعزل ويتفتت إلى قوى كثيرة، ولم يقدم إجابات على الأسئلة المعقدة والمركبة للشعوب الشرقية، واستمرت أصوات يسارية قليلة ونادرة في مثل هذا الزحام بين يسار شمولي متآكل تاريخياً وقوى رأسمالية بيروقراطية امتلأت بالفساد وبنهج العصابات، وبين قوى شعبية عاملة يئست أو تجمد وعيها واضطربت أفكارها بين يسار شمولي وعد بالجنة، وبين جنان رأسمالية في الغرب تهفو إليها! ورجع بعضها للأفكار القديمة وقفز آخر نحو المجهول، يتشبث بليبرالية واهنة في بلدانه أو يلتحق.

    كان نجاح اليسار الشمولي في تصعيد التنمية الهائلة لهذه البلدان وبين إخفاقات الديمقراطية والتطور الاجتماعي المتكامل، بين خلق نهضة كبرى لا أحد قادر على إنكارها، وبين دهس الشعوب ورفض حرياتها وتعبيرها عن ذواتها، تناقضات ضخمة استعصت على الحل التاريخي الملموس في ظرف زمني قصير قياساً لعمر الحضارات!

    وكان غياب التطور المتكامل الجامع بين النهضة الصناعية والتحديث والديمقراطية، له ثمن فادح، في قفزة القوى الدكتاتورية الحكومية العسكرية والاستخباراتية إلى سدة الحكم، وفي تدمير الكثير من إنجازات القطاعات العامة، وتصعيد مليونيرات من الأقبية السرية للبيروقراطية، وفي انهيار المؤسسات العامة للثقافة ودعم الدول للمفكرين والمبدعين.

    كان السؤال الخطير هو لماذا عجزت هذه التجارب العالمية الهائلة عن إنتاج يسار يجمع بين التنمية والديمقراطية، بين تقدير الأديان ونقد جوانبها المحافظة السلبية، بين قيادة القوى الاشتراكية المفترضة واحترام المؤسسات الديمقراطية التي تكونت في بدء الثورات؟

    ولماذا تم مجاملة القوى الحاكمة وعدم نقدها وتسلق قنواتها السياسية؟

    كانت هزيمة الاشتراكية الديمقراطية التعددية وسيطرة النموذج (الشمولي) علامة خطيرة في تطور شعوب الشرق، رغم أنه كان في خلال عقود نموذج الحلم المستقبلي.

    لابد من بحث نتائج هذه العملية الآن، بعد سنوات من الصراع بين الموديلات السياسية المختلفة، خاصة بين اليسار الشمولي واليسار الديمقراطي، ماذا حدث؟ وما هي نتائج الانهيار؟ وهل ظهر يسار ديمقراطي يجمع بين التنمية والديمقراطية؟ بين احترام الأديان والتقاليد وشق الطريق لصعود قوى الكادحين؟

    ماذا تقول الأحزاب الشيوعية عن تجاربها؟ وهل ظهرت أحزاب اشتراكية ديمقراطية؟ وما هي أوجه الاختلاف بينها؟ وهل ثمة صيغ متقاربة ومتداخلة؟ أليست الأحزاب القومية والدينية سوى نسخ مختلفة بعض الشيء عن سابقاتها؟

    كان الانقسام بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب الشيوعية يعود للانقسام بين الغرب والشرق، بين الأمم الغربية التي شكلت تطورها، ولم تعد بحاجة إلى التسريع، سوى أمم معقدة في التاريخ الغربي كالأمتين الألمانية والإيطالية اللتين تطورتا ولكنهما تأخرتا عن اللحاق بركب الاستعمار وعن تصيد مستعمرات كان قد انتهى تقسيمها. إن الأصل في الصراع بين الفريقين السياسيين الاشتراكيين هو تعبيرهما عن أمم مختلفة ذوات تطور قاري مختلف. وليس هو الصراع بين البرجوازية والطبقة العاملة.

    كانت الاشتراكية في كل من العالم الشرقي الاستبدادي والعالم الغربي الديمقراطي، تأخذ لونـَها وسماتها من الأبنية القارية هذه، ومن تلوينات الشعوب حسب درجاتِ تطورِها وتعبيرها عن نضالها في كل من التقسيمين القاريين المختلفين.

    كان لا يمكن للأمة الصينية أن تأخذ الاشتراكية الديمقراطية لأنها تقع في التقسيم الشرقي الاستبدادي، كان عشرات الملايين من الفقراء والقلة من العمال تريد إجراءات سريعة للعيش، وللحصول على العمل والأكل، وللسلامة من الأمراض الفتاكة، وللحصول على قطع أرض للزراعة وبيت متواضع، في حين كان العمال البريطانيون يأكلون بشبع، ولديهم مساكن، وأحزاب علنية حوارية منذ عقود طويلة، فكان لا يمكن أن يتوافقوا مع (الشيوعية) والثورة على الرأسمالية، كانوا يريدون استمرار عيشهم الطيب رغم كل المنغصات والسلبيات، كانوا يريدون الإصلاحات الصغيرة المضمونة وليست الثورات الخطرة!

    ولكن ماذا سوف يخسر الفلاحون الروس من الثورة؟

    إن الأمم الشرقية والأمم الغربية تركت بصمات أوضاعها على المنحى الاشتراكي العالمي، وكان غياب الممارسة السياسية الديمقراطية وسيطرة العامية المتحمسة والأوضاع السيئة الرهيبة والغزو الاستعماري كلها تجعل أغلبية هذه الأمم الشرقية تسلكُ طريقاً مختصراً سريعاً نحو (الاشتراكية) بكل ما فيه من حوادث عنيفة، وهو طريق مختصر فيه إنجازات وتحولات وفيه كوارث كذلك، ولكنه ليس طريق الاشتراكية بل طريق التقدم القومي!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 05, 2021 18:30

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : الولادة العسيرة لليسار الديمقراطي الشرقي

    إن تداخل اليسار في الشرق مع ولادات الرأسماليات الحكومية الشرقية فيها أدى إلى مشكلات في تطور اليسار نفسه وفي قضايا أخرى كالعقلانية والديمقراطية، فقد حدث التباسٌ تاريخي كبير.

    كانت هذه لحظة لقاء معقدة وتركيبية، وذات إشكاليات متعددة، تضافر فيها اليسار الغربي مع الشمولية الشرقية، والرغبة في القفزة النهضوية مع الاستبداد، وتسريعُ الحداثة مع هياكل اقتصادية متخلفة جامدة، وتم جلب أحدث الأفكار التقدمية لوعي شعوب دينية تعيش في قرون سابقة!

    أسرعت قوى سياسية في تنميط موديل سياسي يساري نهضوي رأت فيه الشفرة الموجزة والمتكاملة وجعلت من الدكتاتورية طريقة سياسية لحل كل هذه الإشكاليات، جعلت من ذلك مصدراً نضالياً حماسياً مهماً وشفرة سحرية لحل القضايا كافة التي تحتاج إلى قرون من التطور البطيء العقلاني.

    تداخل الموديل التاريخي العابر مع اطلاقيات مقدسة وجعل نفسه بديلاً يؤدي إلى زوال الرأسمالية في العالم ككل، وتوجه لإزالة الأديان والقوميات (الشوفينية) وإحلال لغة قومية لشعوب أخرى.

    إن الطريق الرأسمالي الحكومي الشرقي عامة وصل إلى طريق مسدود، وعادت الرأسمالية السوداء والفوضوية وعادَ الدين المحافظ ليتبوأ مكانة مقدسة، وعجزت اللغة القومية أن تكون لغة عالمية للشعوب التي عادت للغاتِها وتقاليدها العتيقة.

    وهذا ليس سوى النتيجة للبناء الأول، فما تم تشكيله بسرعة ينهار بسرعة وعبر فوضى غير عقلانية! ومن النقيض للنقيض، لصعوبة تكوين البدائل الوسيطة التي لا تتشكل إلا من خلال تطور تاريخي متدرج وموضوعي.

    أخذ اليسار الشمولي ينهار وينعزل ويتفتت إلى قوى كثيرة، ولم يقدم إجابات على الأسئلة المعقدة والمركبة للشعوب الشرقية، واستمرت أصوات يسارية قليلة ونادرة في مثل هذا الزحام بين يسار شمولي متآكل تاريخياً وقوى رأسمالية بيروقراطية امتلأت بالفساد وبنهج العصابات، وبين قوى شعبية عاملة يئست أو تجمد وعيها واضطربت أفكارها بين يسار شمولي وعد بالجنة، وبين جنان رأسمالية في الغرب تهفو إليها! ورجع بعضها للأفكار القديمة وقفز آخر نحو المجهول، يتشبث بليبرالية واهنة في بلدانه أو يلتحق.

    كان نجاح اليسار الشمولي في تصعيد التنمية الهائلة لهذه البلدان وبين إخفاقات الديمقراطية والتطور الاجتماعي المتكامل، بين خلق نهضة كبرى لا أحد قادر على إنكارها، وبين دهس الشعوب ورفض حرياتها وتعبيرها عن ذواتها، تناقضات ضخمة استعصت على الحل التاريخي الملموس في ظرف زمني قصير قياساً لعمر الحضارات!

    وكان غياب التطور المتكامل الجامع بين النهضة الصناعية والتحديث والديمقراطية، له ثمن فادح، في قفزة القوى الدكتاتورية الحكومية العسكرية والاستخباراتية إلى سدة الحكم، وفي تدمير الكثير من إنجازات القطاعات العامة، وتصعيد مليونيرات من الأقبية السرية للبيروقراطية، وفي انهيار المؤسسات العامة للثقافة ودعم الدول للمفكرين والمبدعين.

    كان السؤال الخطير هو لماذا عجزت هذه التجارب العالمية الهائلة عن إنتاج يسار يجمع بين التنمية والديمقراطية، بين تقدير الأديان ونقد جوانبها المحافظة السلبية، بين قيادة القوى الاشتراكية المفترضة واحترام المؤسسات الديمقراطية التي تكونت في بدء الثورات؟

    ولماذا تم مجاملة القوى الحاكمة وعدم نقدها وتسلق قنواتها السياسية؟

    كانت هزيمة الاشتراكية الديمقراطية التعددية وسيطرة النموذج (الشمولي) علامة خطيرة في تطور شعوب الشرق، رغم أنه كان في خلال عقود نموذج الحلم المستقبلي.

    لابد من بحث نتائج هذه العملية الآن، بعد سنوات من الصراع بين الموديلات السياسية المختلفة، خاصة بين اليسار الشمولي واليسار الديمقراطي، ماذا حدث؟ وما هي نتائج الانهيار؟ وهل ظهر يسار ديمقراطي يجمع بين التنمية والديمقراطية؟ بين احترام الأديان والتقاليد وشق الطريق لصعود قوى الكادحين؟

    ماذا تقول الأحزاب الشيوعية عن تجاربها؟ وهل ظهرت أحزاب اشتراكية ديمقراطية؟ وما هي أوجه الاختلاف بينها؟ وهل ثمة صيغ متقاربة ومتداخلة؟ أليست الأحزاب القومية والدينية سوى نسخ مختلفة بعض الشيء عن سابقاتها؟

    كان الانقسام بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب الشيوعية يعود للانقسام بين الغرب والشرق، بين الأمم الغربية التي شكلت تطورها، ولم تعد بحاجة إلى التسريع، سوى أمم معقدة في التاريخ الغربي كالأمتين الألمانية والإيطالية اللتين تطورتا ولكنهما تأخرتا عن اللحاق بركب الاستعمار وعن تصيد مستعمرات كان قد انتهى تقسيمها. إن الأصل في الصراع بين الفريقين السياسيين الاشتراكيين هو تعبيرهما عن أمم مختلفة ذوات تطور قاري مختلف. وليس هو الصراع بين البرجوازية والطبقة العاملة.

    كانت الاشتراكية في كل من العالم الشرقي الاستبدادي والعالم الغربي الديمقراطي، تأخذ لونـَها وسماتها من الأبنية القارية هذه، ومن تلوينات الشعوب حسب درجاتِ تطورِها وتعبيرها عن نضالها في كل من التقسيمين القاريين المختلفين.

    كان لا يمكن للأمة الصينية أن تأخذ الاشتراكية الديمقراطية لأنها تقع في التقسيم الشرقي الاستبدادي، كان عشرات الملايين من الفقراء والقلة من العمال تريد إجراءات سريعة للعيش، وللحصول على العمل والأكل، وللسلامة من الأمراض الفتاكة، وللحصول على قطع أرض للزراعة وبيت متواضع، في حين كان العمال البريطانيون يأكلون بشبع، ولديهم مساكن، وأحزاب علنية حوارية منذ عقود طويلة، فكان لا يمكن أن يتوافقوا مع (الشيوعية) والثورة على الرأسمالية، كانوا يريدون استمرار عيشهم الطيب رغم كل المنغصات والسلبيات، كانوا يريدون الإصلاحات الصغيرة المضمونة وليست الثورات الخطرة!

    ولكن ماذا سوف يخسر الفلاحون الروس من الثورة؟

    إن الأمم الشرقية والأمم الغربية تركت بصمات أوضاعها على المنحى الاشتراكي العالمي، وكان غياب الممارسة السياسية الديمقراطية وسيطرة العامية المتحمسة والأوضاع السيئة الرهيبة والغزو الاستعماري كلها تجعل أغلبية هذه الأمم الشرقية تسلكُ طريقاً مختصراً سريعاً نحو (الاشتراكية) بكل ما فيه من حوادث عنيفة، وهو طريق مختصر فيه إنجازات وتحولات وفيه كوارث كذلك، ولكنه ليس طريق الاشتراكية بل طريق التقدم القومي!

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-6185dab74ed45', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', } } }); });
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 05, 2021 18:30

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ماركس الرمزي وشبحية دريدا

إنها مسافةٌ كبيرةٌ تلك التي تفصلُ بين ماركس ودريدا، بين منظر الطبقات العاملة الغربية وبين المثقف الذي أسهمَ في صنعِ رؤيةٍ تُسمى «التفكيكية». ثمة مهمةٌ تحويليةٌ للأول على صعيد تغيير موقع تلك الطبقات العاملة، فتغدو سياسية بالدرجة الأولى، في حين يتوجه دريدا لتغيير مفاهيم ثقافية وطرح فلسفة جديدة.
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه «أطياف ماركس»، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك «البيان الشيوعي» بعبارة «شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!».
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ «البيان» على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
«حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين».
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية “الحديثة”، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
«الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان».
وتُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لأحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
«وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ «الفصائل» بإسقاط النظام المجتمعي القائم».
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.
إن الزمنَ الاجتماعي يحلقُ بلغةِ (البيان) في جميع أقطار العالم، وهذا التحليق مؤاتٍ لأسبابٍ كثيرة.
إنها لغةٌ سياسيةٌ اجتماعية إبداعيةٌ تنفصلُ عن لحظتِها المدموغة بذاك النمو النسبي ذي التاريخية المحددة، وهي تستوعبُ صراعاتهِ العامةَ المجردةَ – الملموسةَ، وتحيلُها إلى مخططٍ مجرد، فتُسقطُ أوروبيتَها على بقيةِ أنحاء العالم، وقد رأينا كيف كان تمثُل الصراعات الاجتماعية الأوروبية في فقرةِ البيان؛ (حرٌ وعبدٌ، ونبيلٌ وعامي إلى آخر الفقرة)، تشيرُ إلى تحليلٍ لتاريخٍ أوروبي واضح وصريح، من دون أن تظهرَ بالمقابل تحليلاتٌ للشرق، أو حتى للغرب اللاتيني، ونحن نعرفُ كيف اهتم ماركس بتحليلِ أمريكا الشمالية التي هي امتدادٌ لأوروبا الغربية، ولكن ماعدا أقطار الرأسمالية الغربية المتطورة هذه، فإن بقيةَ العالم تقعُ في الظل، ومن هنا حين تعولمُ لغةُ البيانِ الشيوعي، وتصدرُ أوامرَ للعمال في جميع أنحاء العالم تقومُ بأوروبةِ الحركة العمالية العالمية منذ البداية، وتسحبُها إلى مستواها، وتجعلُ مهماتِها السياسية مهماتٍ عالمية.
تلعب لغةُ البيانِ العاطفيةِ الهائجة والموضوعيةِ المتداخلة بها، دوراً أكبر من أي كراس وكتاب ماركسي آخر! إنها لغةٌ حميمة، وناتجةٌ من كفاحِ شوارع صاخب، ومن تراكماتٍ فكرية كبيرة لبعض المثقفين الألمان بدرجةٍ خاصة، والصياغة ذات تراكيب معينة مبهرة:
(ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم/ فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً).
(شبحٌ ينتابُ أوروبا – شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدتْ في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني).
إنها لغة أدبية شعرية قصصية متداخلة، وتحولت الأفكارُ إلى لوحاتٍ، بأسلوب شعبي متأجج بالكرامة، و(البيان) بهذا يتابعُ الكتبَ الدينية بلغاتِها التعبيرية الأخاذة، كما أنه يتحول إلى دعوةٍ دينيةٍ بهذه الإطلاقية والتعميمية المفارقةِ للظروفِ المتباينة للقارات والشعوب، فألغتْ العلميةَ، في غيابِ تحليلاتِها الجزئيةِ الدقيقة لكل الأرض، وصادرتْ الأبحاثَ المُفترضةَ بفرضِ لغةٍ جاهزة، وبشعاراتٍ من مستوى أوروبي، تتشكلُ فيه حرياتٌ كبيرةٌ نوعاً ما، وقد أبعدَ الأديانَ عن السياسة المسيطرة، في حين انه عندما تنتقلُ لغةُ البيانِ هذه لشعوبٍ أخرى تعيشُ في ظروفٍ مختلفةٍ من حيث الصناعة والحريات والثقافة، فإن لغةَ البيان المقاربة للدين لغةً، ووعداً بتحقيق الجنة، الأرضية هذه المرة، تصيرُ لها قراءات مختلفة ومقبولة لأسبابِ الزمن التاريخي المتنامي، فالأوروبةُ تغدو قبل عدة قرون من صياغة (البيان) عالمية في استغلالِها للموارد الخام في القارات الأخرى، وتغدو رحلاتَ استكشافٍ وغزواً وفرضَ حماياتٍ تجارية وتغلغلاً للجيوش الخ..
إن الزمنَ التاريخي الراكد لعصورَ الإقطاع، حيث البشرية مفتتة إلى قارات وعوالم ذات صلات واهنة، يتسارعُ بشكلٍ كبيرٍ عبرَ زمنِ الآلة، التي تقومُ باختزالِ المسافاتِ الجغرافية أولاً، ثم بنشر العلاقات الرأسمالية في العديد من البقاع، واختراعاتها المختلفة وأنواعها الأدبية والعلمية والثقافية عموماً، وكلُ حدثٍ من هذا هو تسريعٌ للزمن الأوروبي، الذي يغدو زمناً عالمياً متسارعاً. إن تعددَ الأزمنةِ في زمانٍ عالمي كبير، تفرضهُ تشكيلةٌ عالميةٌ واحدةٌ هي التشكيلة الرأسمالية أخذتْ تبزغُ من عصر النهضة، من قلبِ أوروبا الغربية، لكن لهذه التشكيلة مستوياتِ تطورٍ مختلفةٍ، فمن بلدان تضخُ الموادَ الخام، إلى بلدانٍ تصنعُها، إلى بلدانٍ تتداخلُ فيها هذه العملية المركبة، فتظهرُ أزمنةٌ مختلفةٌ للتشكيلة الرأسمالية التي تتحول من أوروبية إلى كونية، لكونِها أوجدتْ أمكنةً مختلفةً لها، تجرى فيها عملياتُ إنتاجٍ متعددةٍ الأشكال. فيتسارعُ الزمنُ في جانب ويبطىءُ في جانب آخر، ثم يتداخل في زمانٍ متقاربٍ متنوع كذلك، لأن وحدة التشكيلة لا تتم بشكلٍ تام.
تستطيع لغةُ (البيان) أن تنفذَ لعمالِ العالم مع مرورِ هذا الزمنِ الاجتماعي، المتعددِ المستويات، فالبلدانُ الرأسماليةُ المتطورة تستوعبها، بشكلٍ يعبرُ عن مستواها، فهي تهضمُها ببطءٍ، وان المطالبَ المباشرة للعمال تحظى بلغاتِ اهتمام متنوعة، من قمعٍ في البلدان الأقل تطوراً والتي تعيش في بقايا إقطاعٍ مؤثرٍ كأسبانيا، في حين تتحقق تلك المطالب المباشرة في إنجلترا وهولندا وفرنسا، أما المطالب الكبرى بسيطرة العمال على الحكم وإلغاء الطبقات فلا تتحقق، ليس فقط لنمو الرأسمالية وتوسعها خارج بلدانها وإنشائها لمستعمرات وارتفاع مستوى معيشة عمالها، بل كذلك لعدم إمكانية تحقق الاشتراكية أو الشيوعية، في هذه القرون. إن الرأسمالية الأوروبية هي قائدةٌ لتشكيلة عالمية، تظهر هنا في بداياتها، وعبر استعمارها تقوم بنشرها، وتغدو هي في ذروتها.
إن التشكيلة الرأسمالية كتشكيلةٍ عالميةٍ كانت تحققُ بعضَ زمنيتِها المحدودة في القرن التاسع عشر. إن أي تشكيلةٍ تغدو تشكيلةً بشرية، لترابط تاريخ الإنسان، والتشكيلة البشرية لها زمنيةُ مئاتِ السنين، لقيامها على قوى إنتاج محددة تنتشر وتغدو عالمية وتتعرض للاصطدام بعلاقات إنتاج تغدو قيوداً فتحدث عمليات الثورات عبر مستويات بشرية مختلفة لتصعدَ علاقاتُ إنتاجٍ جديدة، ثم تزولَ عبر قرون كذلك. لقد عرفنا ذلك تطبيقاً على التاريخ الأوروبي في؛ (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) لكن تبلورها وفهمها البشري لم يكن ممكناً في تلك الافتتاحية للزمن الرأسمالي، إن الزمنية هنا مهمة، لكن البيان يختزلها.
إن جمل (البيان) الأولية التي قرأناها مراراً مهمة هنا كذلك، لتجعلنا نحسُ بإيقاعِ الزمنِ السريع المؤدلج:
(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمالَ العالم اتحدوا)، إيقاعُ اللغةِ هنا المتسارعُ من الأوروبي للكوني، يقفزُ على عدةِ ألوف من السنين: التشكيلة العبودية لها أكثر من خمسة آلاف سنة! التشكيلة الإقطاعية تقارب الألفين أو أكثر، الرأسمالية الصناعية الأوروبية لها قرنان أو ثلاثة قرون بالكثير!
لكن وعي ماركس بكون التشكيلة أوربية/ عالمية، يختزلُ تجاربَ الشعوب الأخرى عبر النيابة الأوروبية، ويختزلُ التشكيلةَ نفسها، قبل أن تكونَ بشريةً، وقبل أن تتجلى على هذه المساحة الأرضية الواسعة، وتدخل فيها قوى إنتاج البشرية كلها لتتجاوزها عبر تباين مستوياتها وقواها كذلك.
تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي (رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
إن التناقض الكبير بين الغرب والشرق، تأسس في مرحلية الاستعمار بين (الشرق العامل البروليتاري والشرق المالك البرجوازي). هذا ما تعمم في فترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
إن هذا التعميمَ ايديولوجي مضللٌ بطبيعة الحال، ولكنه كان يمتلك شيئاً من الموضوعية أيضاً. وفي انتقال الماركسية الشعبوية المعتمدة على (البيان) قامتْ بالارتكاز على مثل هذه التعميمات ثم جرتها لتاريخ الشرق.
في (اللينينية) تكرست شعبوية البيان، الذي كانت له امتدادته في كتب ماركس، مثل (الايديولوجية الألمانية) حيث يدعو للثورة البروليتارية من دون ضرورة لوجودِ أسسٍ واسعة للنظام الرأسمالي، وهذا كان لينينيةً ألمانيةً، لكن حتى هذه (الأيديولوجية..) لم تُطبع في حياة ماركس، فغدت الماركسية تمشي كدين مقدس.
أي أن لينين في توجهه لثورة اشتراكية لم يكن يصدر من وازع شخصي محض، وكان اختراق مسألة التشكيلة الرأسمالية وتجاوزها قد بدأ من ماركس نفسه:(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمال العالم اتحدوا). إن إمكانية اختراق نظام رأسمالي – إقطاعي، وإقامة نظام ديمقراطي، وذي إصلاحات تقدمية، مختلف عن تحطيم التشكيلة الرأسمالية.
إن النظامَ الرأسمالي يختلفُ عن (التشكيلة) الرأسمالية، فإزالة التشكيلة أمر يعني إزالة مفردات النظام الرأسمالي الأولية كالنقود والدولة والطبقات والسوق.. الخ، ويعني نظاماً عالمياً، لكن تغيير النظام الرأسمالي وتمزيق جوانب كبيرة منه ليس مثل ذلك.
هذا الخلط بين النظام والتشكيلة، بين الإصلاحات وإلغاء الرأسمالية، كانت قد صُوبت من ماركس نفسه في رأس المال، من دون وضوح كلي منه، وليس في البيان كما أشرنا سابقاً، لكن هذا التصويب تم تجاهله وراحت الحركة الماركسية في الشرق ترتكز على البيان بدرجة أساسية.
وفي تطبيق الثورة الروسية سنة 1917 وبعد التأميمات وغيرها عادت إلى السوق والنقود وتطوير الرأسمالية سنة 1921، بعد أن حُجمت الدكتاتورية اللينينية لكن الدكتاتورية الروسية العامة لم تُحجم بل تفاقمت.
هذا جعل من الماركسية بالنسبة إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مجموعة من الأشباح السياسية والعسكرية على قول دريدا، لكنها بالنسبة إلى جزء كبير من الشرق ظلت حليفاً مهماً ثم قائداً كونياً.
مهما كانت النتائج للبيان فإن ماركس ظهر كشخصية عالمية فاعلة في تاريخ الرأسماليات، كنقيض لها وكمؤسس لها أيضاً! بين أن يكون قائداً لزوال الرأسمالية وقائدا لتشكيل الرأسمالية، هذه هي القراءات المعقدة للشعوب، في تفاوت مستويات تطورها، وفي تباين فهمها للماركسية.
سوف نحاول أن نرى ذلك عبر قراءة دريدا للماركسية عبر كتابه السابق الذكر: (أطياف ماركس). هذا الباحث الذي تم الاحتفال بأعماله في البحرين وصدر كتابٌ عنه هذه السنة 2009.
لا يُذكر هذا الباحث الفرنسي المولود في الجزائر بأي شيء مثير، ربما حادثة واحدة صغيرة اضطُهدَ فيها، لكنه باحث غارق في الكتب والأبحاث. هو جزء من ذلك المناخ الذي أشرنا إليه، حيث الفئات الوسطى الصغيرة التي تم صُنع شريط فكري لها من قبل البنية الرأسمالية المسيطرة، عبر الظاهراتية الممتدة من كانط، التي يقومُ فيها الفكر بمناقشة سطوح الظاهرات المتبدلة دوماً في موجات أشبه بموضات الملابس والتسريحات، وهو حين رفض تحليل الواقع كبنية، لم يرفض أن يحلل ظاهراته المتطايرة منه، المفصولة عنه، تجنباً لخروجه من دائرة التداول السلعي، ومن الاصطدام بجذور الواقع والسلطات، رغم أن ذلك لم يكن كلياً، فهناك بعض التيارات التي استندت إلى تطور الوعي الديمقراطي والوعي التقدمي وطورت أدوات التحليل كذلك كالبنيوية الوظيفية مثلاً.
إن موجات الوعي هذه الأشبه بالموضات تغدو أشباحاً، فهي أشبه بالنجوم فترة ثم تغوص في مياه العتمة، لا يبقى منها شيءٌ كثير، تزول لعدم ارتباطها بموجات اجتماعية كبيرة، ولهذا نرى دريدا يكرس كتابه لمناقشة الأشباح حين يناقش شخصية ماركس التي (ملأت الدنيا وشغلت الناس).
شخصية باحثة مثل دريدا انجذب ليناقش الأشباح حين يناقش تلك الشخصية الحافلة بالأحداث والمؤججة للأحداث، ويملأ كتابه الشديد الغموض بهذه المناقشات التحليلية المجردة الملموسة المتقطعة المتناثرة، الأدبية، داخل كيان يفترض أن يكون غير أدبي، لكون الظاهرات الأدبية توجه التحليل خارج البنى الاجتماعية المرفوض تحليلها والغوص فيها بأوروبا والعالم.
لدينا أشباح كثيرة وأهمها شبح الملك هاملت من مسرحية شكسبير المعروفة. ويقوم بربط شبح هاملت بشبح الشيوعية الوارد في (البيان) وفي كتب أخرى لماركس.
يظهر شبحٌ في بداية مسرحية هاملت للأمير الابن هاملت ويدعوه للانتقام لمقتل أبيه. الشبح هو الأبُ القتيل نفسه، ويظهر في حالة درامية عنيفة مليئة بالظلال التعبيرية، ويتشكل كقفزة غير واقعية، مضادة للمسار التكويني الواقعي للبناء الدرامي الشكسبيري هنا. إن هذا القطع الايديولوجي في هذه المسرحية الواقعية، يرتبط بمسارات لا فنية، وأسطورية شرقية، لكنها أُخذت كتفعيل للفعل الدرامي من الخارج، من الوهم.
بين الجذور الأسطورية الشرقية للشبح، وظهور المسرحية الشكسبيرية هذه في بداية عصر النهضة الأوروبي، العقلاني المتنامي، ثمة قطيعة كبيرة مع النص الماركسي، مع مفردة الأشباح التي ظهرت في البيان. ولكل مقطع في سياقه الزمني، وبنيته، دلالات.
لكن دريدا ضخم تضخيماً كبيراً من (الشبحية)، وغدت مسرحية هاملت هي المحللة، وغُيّب ماركس كثيراً، فهذه تحدث القطيعة مع النص الماركسي في بنيته الاجتماعية، وقطعه عنها، وتعليقه في الفضاء الشبحي، ثم إطلاق العنان للخيال والمنولوجات الذاتية والتدفق اللغوي ذي العتمة الشديدة والتعميمات الغريبة الغامضة ثم ظهور لبعض التحليلات السياسية المفاجئة العميقة الجيدة الطالعة بجزر نائية لا تمتلك أي علاقات مع الشبحية تلك ثم العودة الدائمة للشبحية الشكسبيرية.
يدعو دريدا في كتابه (أطياف ماركس)، إلى قراءة ماركس ويقول: (وسيكون من الخطأ إذا لم يُقرأ ماركس وتُعاد قراءته ومناقشته)، ص41.
يبدو ماركس هنا باستمرار كشبح، كطيف زائل، (ولابد من تقدير جهوده على الأقل)، والاعتراف بدوره!
إن الأشباحَ تحيي ذواتها وتشبحُ الرموزَ التاريخية الباقية في بحار الزمن الاجتماعي، إنها هي التي ذابت أو تكاد تغرق في موضات الوعي السائد، وفي موجات الوعي المُبتلعة، والتي تصيرُ نجوماً في سماء الاستهلاك الثقافي تتصورُ انها الركائز الباقية، وليست أشباحاً، ليست جزءًا من حطام ثقافي، قابل للتجدد في حطام آخر وهكذا.
والاهتمام بماركس كشفقةٍ فكريةٍ غربية ضرورية لأسباب:
(ومنذ اللحظة التي أخذت فيها آلة الدوغمائيات والمعدات الأيديولوجية (الماركسية): (دول، أحزاب، خلايا، نقابات، وأمكنة أخرى من أمكنة الإنتاج العقدي) بالاختفاء، فإنه لم يَعُد لنا عذر)، ص 41.
لقد زالت الشموليات الشرقية الاشتراكية وأصبح لماركس إذًا مكانة ما. إن غياب التحليلات الموضوعية تقود إلى نتائج إحسانية مثل هذه.
لقد رأينا كيف انتشرت الأفكار الماركسية في الشرق وفي أمريكا اللاتينية بشكل عاصف، وكيف قُرئت هذه الأفكار في كثير من الأحيان، بمستويات تناقضاتها الداخلية: أي بكونها دعوة للثورة الاشتراكية الراهنة، وبكونها قراءات إصلاحية لأنظمة متخلفة ولأنظمة رأسمالية متطورة كذلك. إن فقرات كثيرة في (كتاب البيان) (تكرر ذكره أكثر من عشر مرات في كتاب الأطياف) و(كتاب الأيديولوجية الألمانية) (تكرر أربع مرات)، هذان الكتابان الشبابيان غير الناضجين لماركس وأنجلز، قد تم نشرهما باعتبارهما هما الفكر الماركسي وفيهما فقرات تدعو للثورة الاشتراكية المباشرة العنيفة وإزالة الطبقات فوراً وغيرها من المهام التي تتحقق في قرون وبشكل متدرج.
وحين اتحدتْ هذه الفقراتُ بثوراتِ الشرق الاجتماعية والوطنية تحولتْ الأنظمةُ إلى الاشتراكيةِ المُزيّف فهمها، التي صارت متحدة بالغيب الديني (الماركسي)، وهي ليست سوى رأسماليات حكومية، ودكتاتوريات، أُنجزتْ فوق ضلوع العمال، ولكنها في مجريَي التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي لدول الشرق حققت إنجازات اقتصادية كبرى، وأخطاء رهيبة كذلك، ثم تقزمت كثيراً وتشوهت بشكل هائل في دول صغيرة الخ. وقد تداخلت فيها الثنائيات المختلفة: ديمقراطية ودكتاتورية، ماركسية عمالية وبيروقراطية رأسمالية، تضحية واستغلال الخ.
لكن هذا لا يعني توقف التجربة وعدم إعادة إنتاجها بشكل ديمقراطي، وهذا يتطلب من باحث أن يقرأ ذلك ولا يعتمد على الاختزالات والظلال الأدبية السريعة المروق وعلى تيار الوعي والرموز الفلسفية المبهمة في خضم قراءة مارد سياسي.
لكن الوصول إلى الاستنتاجات الفكرية يبقى هو المهم، إن الجمل الماركسية المقطوعة السياق التي غدت في اللينينية حجر الزاوية، تبقى مجرد وقود في حطب آسيوي، ومجرد تحريك لدكتاتوريات قومية كامنة كبرى، وفيها كذلك أدوات اجتماعية وسياسية مستمرة، ونهضة لملايين الكادحين، لكن المهم والباقي ليست تلك الفقرات غير الموضوعية، لكن ما يبقى هو المنهجية، أي درس الظاهرات في خضم البُنى الاجتماعية واكتشاف قوانينها. هذه التي ترفضها أغلبية الفئات الوسطى الصغيرة المتذبذبة في الغرب والشرق، والمتلاعبة فوق حبال صراع الطبقات، الراكضة وراء مصالحها المحدودة، التي تصنع منها رؤىً.
إن شبحية شكسبير في مسرحية هاملت تعودُ لتضييعهِ قوانينَ السببية الاجتماعية، مثلما ضيعها دريدا، وفي الأدب يغدو ذلك فناً، وفي الفلسفة يصيرُ غفلةً، لكنه يعتمد على نظرة الكاتب الذي توصل لبعض السببيات الاجتماعية ودمجها في إبداعه، ولم يتوصل لسببيات أخرى، فتغدو ثغرة في الوعي الواقعي المباشر السائد في المسرحية الشكسبيرية، وهذه الشبحية الافتتاحية المُشعلة لحدث المسرح والمفجرة لشخصية هاملت، تعود لطابع السحرية الباقي الذي يدخل كتعويض عن ذلك الفقدان التحليلي، وهو أمرٌ سيغني تفكيكية دريدا في عدم تحليل ماركس.
أما ترديد ماركس للشبحية فهو يأتي في مسار آخر، وفي لغة تعبيرية أخرى، وفي بنية أخرى، في لغة صراع سياسي كوني، في مبارزة غير متكافئة بين طبقات شعبية صاعدة وأعمدة المال والطغيان في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، ويُقصدُ فيها استخدام اللغة الدينية السحرية على سبيل السخرية، هذه اللغة السائدة في الرموز التي وجه إليها النقد ذاك. هي عملية تقزيم لتلك الرموز السائدة في الحكم، وإعلاء للعمال على مسرح الحقائق والعلم كما يتفهمه، كما يشير دريدا نفسه في بعض مواقع الكتاب الخاطفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: رأس المال الحكومي الشرقي، منشورات ضفاف – بيروت، كلمة للنشر- تونس، منشورات الاختلاف – الجزائر، دار الأمان – الرباط.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 05, 2021 16:04

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ماركس الرمزي وشبحية دريدا

إنها مسافةٌ كبيرةٌ تلك التي تفصلُ بين ماركس ودريدا، بين منظر الطبقات العاملة الغربية وبين المثقف الذي أسهمَ في صنعِ رؤيةٍ تُسمى «التفكيكية». ثمة مهمةٌ تحويليةٌ للأول على صعيد تغيير موقع تلك الطبقات العاملة، فتغدو سياسية بالدرجة الأولى، في حين يتوجه دريدا لتغيير مفاهيم ثقافية وطرح فلسفة جديدة.
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه «أطياف ماركس»، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك «البيان الشيوعي» بعبارة «شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!».
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ «البيان» على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
«حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين».
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية “الحديثة”، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
«الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان».
وتُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لأحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
«وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ «الفصائل» بإسقاط النظام المجتمعي القائم».
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.
إن الزمنَ الاجتماعي يحلقُ بلغةِ (البيان) في جميع أقطار العالم، وهذا التحليق مؤاتٍ لأسبابٍ كثيرة.
إنها لغةٌ سياسيةٌ اجتماعية إبداعيةٌ تنفصلُ عن لحظتِها المدموغة بذاك النمو النسبي ذي التاريخية المحددة، وهي تستوعبُ صراعاتهِ العامةَ المجردةَ – الملموسةَ، وتحيلُها إلى مخططٍ مجرد، فتُسقطُ أوروبيتَها على بقيةِ أنحاء العالم، وقد رأينا كيف كان تمثُل الصراعات الاجتماعية الأوروبية في فقرةِ البيان؛ (حرٌ وعبدٌ، ونبيلٌ وعامي إلى آخر الفقرة)، تشيرُ إلى تحليلٍ لتاريخٍ أوروبي واضح وصريح، من دون أن تظهرَ بالمقابل تحليلاتٌ للشرق، أو حتى للغرب اللاتيني، ونحن نعرفُ كيف اهتم ماركس بتحليلِ أمريكا الشمالية التي هي امتدادٌ لأوروبا الغربية، ولكن ماعدا أقطار الرأسمالية الغربية المتطورة هذه، فإن بقيةَ العالم تقعُ في الظل، ومن هنا حين تعولمُ لغةُ البيانِ الشيوعي، وتصدرُ أوامرَ للعمال في جميع أنحاء العالم تقومُ بأوروبةِ الحركة العمالية العالمية منذ البداية، وتسحبُها إلى مستواها، وتجعلُ مهماتِها السياسية مهماتٍ عالمية.
تلعب لغةُ البيانِ العاطفيةِ الهائجة والموضوعيةِ المتداخلة بها، دوراً أكبر من أي كراس وكتاب ماركسي آخر! إنها لغةٌ حميمة، وناتجةٌ من كفاحِ شوارع صاخب، ومن تراكماتٍ فكرية كبيرة لبعض المثقفين الألمان بدرجةٍ خاصة، والصياغة ذات تراكيب معينة مبهرة:
(ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم/ فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً).
(شبحٌ ينتابُ أوروبا – شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدتْ في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني).
إنها لغة أدبية شعرية قصصية متداخلة، وتحولت الأفكارُ إلى لوحاتٍ، بأسلوب شعبي متأجج بالكرامة، و(البيان) بهذا يتابعُ الكتبَ الدينية بلغاتِها التعبيرية الأخاذة، كما أنه يتحول إلى دعوةٍ دينيةٍ بهذه الإطلاقية والتعميمية المفارقةِ للظروفِ المتباينة للقارات والشعوب، فألغتْ العلميةَ، في غيابِ تحليلاتِها الجزئيةِ الدقيقة لكل الأرض، وصادرتْ الأبحاثَ المُفترضةَ بفرضِ لغةٍ جاهزة، وبشعاراتٍ من مستوى أوروبي، تتشكلُ فيه حرياتٌ كبيرةٌ نوعاً ما، وقد أبعدَ الأديانَ عن السياسة المسيطرة، في حين انه عندما تنتقلُ لغةُ البيانِ هذه لشعوبٍ أخرى تعيشُ في ظروفٍ مختلفةٍ من حيث الصناعة والحريات والثقافة، فإن لغةَ البيان المقاربة للدين لغةً، ووعداً بتحقيق الجنة، الأرضية هذه المرة، تصيرُ لها قراءات مختلفة ومقبولة لأسبابِ الزمن التاريخي المتنامي، فالأوروبةُ تغدو قبل عدة قرون من صياغة (البيان) عالمية في استغلالِها للموارد الخام في القارات الأخرى، وتغدو رحلاتَ استكشافٍ وغزواً وفرضَ حماياتٍ تجارية وتغلغلاً للجيوش الخ..
إن الزمنَ التاريخي الراكد لعصورَ الإقطاع، حيث البشرية مفتتة إلى قارات وعوالم ذات صلات واهنة، يتسارعُ بشكلٍ كبيرٍ عبرَ زمنِ الآلة، التي تقومُ باختزالِ المسافاتِ الجغرافية أولاً، ثم بنشر العلاقات الرأسمالية في العديد من البقاع، واختراعاتها المختلفة وأنواعها الأدبية والعلمية والثقافية عموماً، وكلُ حدثٍ من هذا هو تسريعٌ للزمن الأوروبي، الذي يغدو زمناً عالمياً متسارعاً. إن تعددَ الأزمنةِ في زمانٍ عالمي كبير، تفرضهُ تشكيلةٌ عالميةٌ واحدةٌ هي التشكيلة الرأسمالية أخذتْ تبزغُ من عصر النهضة، من قلبِ أوروبا الغربية، لكن لهذه التشكيلة مستوياتِ تطورٍ مختلفةٍ، فمن بلدان تضخُ الموادَ الخام، إلى بلدانٍ تصنعُها، إلى بلدانٍ تتداخلُ فيها هذه العملية المركبة، فتظهرُ أزمنةٌ مختلفةٌ للتشكيلة الرأسمالية التي تتحول من أوروبية إلى كونية، لكونِها أوجدتْ أمكنةً مختلفةً لها، تجرى فيها عملياتُ إنتاجٍ متعددةٍ الأشكال. فيتسارعُ الزمنُ في جانب ويبطىءُ في جانب آخر، ثم يتداخل في زمانٍ متقاربٍ متنوع كذلك، لأن وحدة التشكيلة لا تتم بشكلٍ تام.
تستطيع لغةُ (البيان) أن تنفذَ لعمالِ العالم مع مرورِ هذا الزمنِ الاجتماعي، المتعددِ المستويات، فالبلدانُ الرأسماليةُ المتطورة تستوعبها، بشكلٍ يعبرُ عن مستواها، فهي تهضمُها ببطءٍ، وان المطالبَ المباشرة للعمال تحظى بلغاتِ اهتمام متنوعة، من قمعٍ في البلدان الأقل تطوراً والتي تعيش في بقايا إقطاعٍ مؤثرٍ كأسبانيا، في حين تتحقق تلك المطالب المباشرة في إنجلترا وهولندا وفرنسا، أما المطالب الكبرى بسيطرة العمال على الحكم وإلغاء الطبقات فلا تتحقق، ليس فقط لنمو الرأسمالية وتوسعها خارج بلدانها وإنشائها لمستعمرات وارتفاع مستوى معيشة عمالها، بل كذلك لعدم إمكانية تحقق الاشتراكية أو الشيوعية، في هذه القرون. إن الرأسمالية الأوروبية هي قائدةٌ لتشكيلة عالمية، تظهر هنا في بداياتها، وعبر استعمارها تقوم بنشرها، وتغدو هي في ذروتها.
إن التشكيلة الرأسمالية كتشكيلةٍ عالميةٍ كانت تحققُ بعضَ زمنيتِها المحدودة في القرن التاسع عشر. إن أي تشكيلةٍ تغدو تشكيلةً بشرية، لترابط تاريخ الإنسان، والتشكيلة البشرية لها زمنيةُ مئاتِ السنين، لقيامها على قوى إنتاج محددة تنتشر وتغدو عالمية وتتعرض للاصطدام بعلاقات إنتاج تغدو قيوداً فتحدث عمليات الثورات عبر مستويات بشرية مختلفة لتصعدَ علاقاتُ إنتاجٍ جديدة، ثم تزولَ عبر قرون كذلك. لقد عرفنا ذلك تطبيقاً على التاريخ الأوروبي في؛ (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) لكن تبلورها وفهمها البشري لم يكن ممكناً في تلك الافتتاحية للزمن الرأسمالي، إن الزمنية هنا مهمة، لكن البيان يختزلها.
إن جمل (البيان) الأولية التي قرأناها مراراً مهمة هنا كذلك، لتجعلنا نحسُ بإيقاعِ الزمنِ السريع المؤدلج:
(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمالَ العالم اتحدوا)، إيقاعُ اللغةِ هنا المتسارعُ من الأوروبي للكوني، يقفزُ على عدةِ ألوف من السنين: التشكيلة العبودية لها أكثر من خمسة آلاف سنة! التشكيلة الإقطاعية تقارب الألفين أو أكثر، الرأسمالية الصناعية الأوروبية لها قرنان أو ثلاثة قرون بالكثير!
لكن وعي ماركس بكون التشكيلة أوربية/ عالمية، يختزلُ تجاربَ الشعوب الأخرى عبر النيابة الأوروبية، ويختزلُ التشكيلةَ نفسها، قبل أن تكونَ بشريةً، وقبل أن تتجلى على هذه المساحة الأرضية الواسعة، وتدخل فيها قوى إنتاج البشرية كلها لتتجاوزها عبر تباين مستوياتها وقواها كذلك.
تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي (رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
إن التناقض الكبير بين الغرب والشرق، تأسس في مرحلية الاستعمار بين (الشرق العامل البروليتاري والشرق المالك البرجوازي). هذا ما تعمم في فترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
إن هذا التعميمَ ايديولوجي مضللٌ بطبيعة الحال، ولكنه كان يمتلك شيئاً من الموضوعية أيضاً. وفي انتقال الماركسية الشعبوية المعتمدة على (البيان) قامتْ بالارتكاز على مثل هذه التعميمات ثم جرتها لتاريخ الشرق.
في (اللينينية) تكرست شعبوية البيان، الذي كانت له امتدادته في كتب ماركس، مثل (الايديولوجية الألمانية) حيث يدعو للثورة البروليتارية من دون ضرورة لوجودِ أسسٍ واسعة للنظام الرأسمالي، وهذا كان لينينيةً ألمانيةً، لكن حتى هذه (الأيديولوجية..) لم تُطبع في حياة ماركس، فغدت الماركسية تمشي كدين مقدس.
أي أن لينين في توجهه لثورة اشتراكية لم يكن يصدر من وازع شخصي محض، وكان اختراق مسألة التشكيلة الرأسمالية وتجاوزها قد بدأ من ماركس نفسه:(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمال العالم اتحدوا). إن إمكانية اختراق نظام رأسمالي – إقطاعي، وإقامة نظام ديمقراطي، وذي إصلاحات تقدمية، مختلف عن تحطيم التشكيلة الرأسمالية.
إن النظامَ الرأسمالي يختلفُ عن (التشكيلة) الرأسمالية، فإزالة التشكيلة أمر يعني إزالة مفردات النظام الرأسمالي الأولية كالنقود والدولة والطبقات والسوق.. الخ، ويعني نظاماً عالمياً، لكن تغيير النظام الرأسمالي وتمزيق جوانب كبيرة منه ليس مثل ذلك.
هذا الخلط بين النظام والتشكيلة، بين الإصلاحات وإلغاء الرأسمالية، كانت قد صُوبت من ماركس نفسه في رأس المال، من دون وضوح كلي منه، وليس في البيان كما أشرنا سابقاً، لكن هذا التصويب تم تجاهله وراحت الحركة الماركسية في الشرق ترتكز على البيان بدرجة أساسية.
وفي تطبيق الثورة الروسية سنة 1917 وبعد التأميمات وغيرها عادت إلى السوق والنقود وتطوير الرأسمالية سنة 1921، بعد أن حُجمت الدكتاتورية اللينينية لكن الدكتاتورية الروسية العامة لم تُحجم بل تفاقمت.
هذا جعل من الماركسية بالنسبة إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مجموعة من الأشباح السياسية والعسكرية على قول دريدا، لكنها بالنسبة إلى جزء كبير من الشرق ظلت حليفاً مهماً ثم قائداً كونياً.
مهما كانت النتائج للبيان فإن ماركس ظهر كشخصية عالمية فاعلة في تاريخ الرأسماليات، كنقيض لها وكمؤسس لها أيضاً! بين أن يكون قائداً لزوال الرأسمالية وقائدا لتشكيل الرأسمالية، هذه هي القراءات المعقدة للشعوب، في تفاوت مستويات تطورها، وفي تباين فهمها للماركسية.
سوف نحاول أن نرى ذلك عبر قراءة دريدا للماركسية عبر كتابه السابق الذكر: (أطياف ماركس). هذا الباحث الذي تم الاحتفال بأعماله في البحرين وصدر كتابٌ عنه هذه السنة 2009.
لا يُذكر هذا الباحث الفرنسي المولود في الجزائر بأي شيء مثير، ربما حادثة واحدة صغيرة اضطُهدَ فيها، لكنه باحث غارق في الكتب والأبحاث. هو جزء من ذلك المناخ الذي أشرنا إليه، حيث الفئات الوسطى الصغيرة التي تم صُنع شريط فكري لها من قبل البنية الرأسمالية المسيطرة، عبر الظاهراتية الممتدة من كانط، التي يقومُ فيها الفكر بمناقشة سطوح الظاهرات المتبدلة دوماً في موجات أشبه بموضات الملابس والتسريحات، وهو حين رفض تحليل الواقع كبنية، لم يرفض أن يحلل ظاهراته المتطايرة منه، المفصولة عنه، تجنباً لخروجه من دائرة التداول السلعي، ومن الاصطدام بجذور الواقع والسلطات، رغم أن ذلك لم يكن كلياً، فهناك بعض التيارات التي استندت إلى تطور الوعي الديمقراطي والوعي التقدمي وطورت أدوات التحليل كذلك كالبنيوية الوظيفية مثلاً.
إن موجات الوعي هذه الأشبه بالموضات تغدو أشباحاً، فهي أشبه بالنجوم فترة ثم تغوص في مياه العتمة، لا يبقى منها شيءٌ كثير، تزول لعدم ارتباطها بموجات اجتماعية كبيرة، ولهذا نرى دريدا يكرس كتابه لمناقشة الأشباح حين يناقش شخصية ماركس التي (ملأت الدنيا وشغلت الناس).
شخصية باحثة مثل دريدا انجذب ليناقش الأشباح حين يناقش تلك الشخصية الحافلة بالأحداث والمؤججة للأحداث، ويملأ كتابه الشديد الغموض بهذه المناقشات التحليلية المجردة الملموسة المتقطعة المتناثرة، الأدبية، داخل كيان يفترض أن يكون غير أدبي، لكون الظاهرات الأدبية توجه التحليل خارج البنى الاجتماعية المرفوض تحليلها والغوص فيها بأوروبا والعالم.
لدينا أشباح كثيرة وأهمها شبح الملك هاملت من مسرحية شكسبير المعروفة. ويقوم بربط شبح هاملت بشبح الشيوعية الوارد في (البيان) وفي كتب أخرى لماركس.
يظهر شبحٌ في بداية مسرحية هاملت للأمير الابن هاملت ويدعوه للانتقام لمقتل أبيه. الشبح هو الأبُ القتيل نفسه، ويظهر في حالة درامية Ø

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 05, 2021 16:04

عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ميراث شمولي

كان يُفترض أن تكونَ ثقافةُ اليسارِ والقوى التحديثية ثقافةً موضوعية تدمج العقلانية بموضوعاتها وتحليلاتها، لكن هذا لا يحدث بشكل عام ومستقيم، لأن البرجوازية الصغيرة المدنية وهي تشكلُ تنظيمات شموليةً متحزبة لذاتها بشكل متعصب، سوف تؤلهُ تاريخَها ومبادئها وقياداتها وتدخلها في نطاق المقدس، ومن هنا يتوارى النقدُ والتحليل الموضوعي.
حين تتحلل البرجوازيةُ الصغيرةُ السياسية في المدن وتضعفُ مقاومتها بسبب هذا التعصب والانغلاق، سوف تورثُ خصائصَ سلبيةً للقوى البرجوازية الصغيرة الطالعة في الريف والبادية.
من الصعب وجود وعي نقدي موضوعي عند وعي يحيل التنظيمات والأفكار والشخوص والدول إلى كائناتٍ مقدسة، كذلك فإن تُرب العالم الثالث الاجتماعية غير منتجة للديمقراطية فأغلبها تعيد إنتاج الاستبداد الديني والاستبداد السياسي.
إن الوعي (الشيوعي) يرى الاتحاد السوفيتي ورموزه كائنات مقدسة، في احتفالاتها وسياساتها وتاريخها، وسوف يرى القومي وسوف يرى البعثي ذاتَ الخصائص في الدول والزعماء الذين يحرقُ البخور السياسي لهم.
سوف يخرجُهم من دائرةِ الواقعي، ومن إمكانيةِ وجود أخطاء عميقة ضاربة في هذا البناء كما جرى فعلاً. ولهذا سوف تكون سياستهُ اليومية قائمةً على انتصار هذا النموذج غير القابل للهزيمة، وسوف تشتغل التكتيكاتُ تبعاً لهذه القدرية الدينية، وسوف تدخلُ أنصافُ الحقائق والتاريخُ المؤدلج الرسمي وتجزئةُ التحليل واقتصاره على ما ينفعُ الذات ولا يضرها، وتُخفى جوانب عن القواعد وتظهر جوانب، وتصبحُ النفعيةُ الانتهازيةُ متغلغلةً ويصبحُ الرفاقُ شلة مستفيدة بدلاً من تنظيم ثوري. ويأتي المذهبي المرتكزُ على الدين الإسلامي بعد أن صدأت آلاتُ الأحزاب (الثورية) القديمة، من دون أن يَعرفَ لماذا صدأتْ إلا لكونِها مخالفة للتعاليم الربانية بحسب فهمه، وليس لأنها تستندُ على قوى اجتماعية متذبذبة نفعية وخاصة من قبل القادة الذين كرسوها لهم، ولم تقم على التنظيمات الجماعية وديمقراطيتها ومؤتمراتها وكتبها النقدية الفاحصة، فهو سيقومُ بذات الفعل، ويطبقُ نفسَ المبادئ الداخلية الاجتماعية المريضة وليس أشكالها الخارجية السطحية.
وهذا التاريخ الذي يعتبرهُ انتصارا غيبياً هو كارثة عليه، لأنه سوف ينسخُ أسوأَ ما فيه، بدلاً من أن يكون هو كتنظيمٍ ثمرةٍ لتاريخٍ سياسي غني ديمقراطي.
إنه سينهضُ فوق عضلات الكادحين ويطوعها من أجل صعوده، وستكون معركته من أجل انتصار (دولة الحق)، ويتحالفُ مع المخالفين للشريعة فقط لأنه يوظفهم لأجل مصلحته، هنا تغدو الانتهازية فاقعة، وخاصة في الدول التي ليس لها تراث حزبي سياسي عريق، ويكون الهدف علو شأن جماعته من أجل الكراسي والحصص المالية والمنافع.
التراث السلبي للجماعات (العلمانية) من انتهازية وشمولية وتحايل على التحليلات السياسية الموضوعية وجعلها لخدمة الذات ومصالحها، تغدو في الطبقات السفلى للخطاب السياسي الطائفي (النبيل)، غائرةً وجزءًا من مرض الطبقة المتذبذبة الانتهازية، وفي المطبخ تُعدُّ الأكلات المسمومة للشعب، وتُتبل بالجمل العظيمة والكلمات الفخمة التي تذهب لرموز المقدس وتضعها في أعلى الدوائر، تسحرُ الجمهورَ وتُدخلُ السمومَ في عظامهِ السياسية لكي يقوم بالأفعال المغايرة لأخلاقية الإنسان.
الموضوعية والحقيقة تتطلبان الدفاع عن مصالح الشعب من خلال الأدوات المتاحة السلمية العقلانية ويتم تصاعدها عبر التاريخ وإمكانيات الشعب الموحد لا الطائفة، فيجري نقد الواقع والتحالف مع القوى الأخرى المشاركة في ذات الأهداف بحسب طابع وظروف البلد المعني، وقراءة درجة تطوره، ويُصنع الممكن المعقول المفيد للأغلبية من السكان، ولا يجري اللجوء إلى وسائل العنف والكذب والتهويل والخداع.
حين تريد أن يكتبوا نقداً ضد دولة متفاقمة الخطر العسكري على المنطقة يسكتون، فقط لأنهم يشاركون الطرفَ الديني نفس التوقير لهذه الدولة، من دون أن يروا الأخطار المحدقة الهائلة من طرقها في السياسة على الحياة والتطور في المنطقة.
هنا مثال ملموس على كيفية التحايل وعدم النقد الموضوعي والوصول بهذا النقد إلى آفاق من التطور الديمقراطي الحقيقي، لأنك بالسكوت عن دولة خطرة على البشر تؤدلج رأيك ولا تطوره، ويعكس ذلك طرق الحربائية السياسية وقتلها للتحليل الموضوعي.
عدم نقد القوى العليا في المراحل السابقة والأنظمة الشمولية السابقة أهل لموت التحديثية التابعة لها، فتدهورت الرؤى العقلانية الموضوعية النقدية، فتماشت مع صعود قوى شمولية جديدة فيزداد الوعي السياسي تدهوراً عبر هذا التاريخ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 05, 2021 14:14