عبـــــــدالله خلــــــــيفة : ماركس الرمزي وشبحية دريدا

إنها مسافةٌ كبيرةٌ تلك التي تفصلُ بين ماركس ودريدا، بين منظر الطبقات العاملة الغربية وبين المثقف الذي أسهمَ في صنعِ رؤيةٍ تُسمى «التفكيكية». ثمة مهمةٌ تحويليةٌ للأول على صعيد تغيير موقع تلك الطبقات العاملة، فتغدو سياسية بالدرجة الأولى، في حين يتوجه دريدا لتغيير مفاهيم ثقافية وطرح فلسفة جديدة.
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه «أطياف ماركس»، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك «البيان الشيوعي» بعبارة «شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!».
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ «البيان» على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
«حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين».
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية “الحديثة”، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
«الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان».
وتُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لأحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
«وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ «الفصائل» بإسقاط النظام المجتمعي القائم».
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.
إن الزمنَ الاجتماعي يحلقُ بلغةِ (البيان) في جميع أقطار العالم، وهذا التحليق مؤاتٍ لأسبابٍ كثيرة.
إنها لغةٌ سياسيةٌ اجتماعية إبداعيةٌ تنفصلُ عن لحظتِها المدموغة بذاك النمو النسبي ذي التاريخية المحددة، وهي تستوعبُ صراعاتهِ العامةَ المجردةَ – الملموسةَ، وتحيلُها إلى مخططٍ مجرد، فتُسقطُ أوروبيتَها على بقيةِ أنحاء العالم، وقد رأينا كيف كان تمثُل الصراعات الاجتماعية الأوروبية في فقرةِ البيان؛ (حرٌ وعبدٌ، ونبيلٌ وعامي إلى آخر الفقرة)، تشيرُ إلى تحليلٍ لتاريخٍ أوروبي واضح وصريح، من دون أن تظهرَ بالمقابل تحليلاتٌ للشرق، أو حتى للغرب اللاتيني، ونحن نعرفُ كيف اهتم ماركس بتحليلِ أمريكا الشمالية التي هي امتدادٌ لأوروبا الغربية، ولكن ماعدا أقطار الرأسمالية الغربية المتطورة هذه، فإن بقيةَ العالم تقعُ في الظل، ومن هنا حين تعولمُ لغةُ البيانِ الشيوعي، وتصدرُ أوامرَ للعمال في جميع أنحاء العالم تقومُ بأوروبةِ الحركة العمالية العالمية منذ البداية، وتسحبُها إلى مستواها، وتجعلُ مهماتِها السياسية مهماتٍ عالمية.
تلعب لغةُ البيانِ العاطفيةِ الهائجة والموضوعيةِ المتداخلة بها، دوراً أكبر من أي كراس وكتاب ماركسي آخر! إنها لغةٌ حميمة، وناتجةٌ من كفاحِ شوارع صاخب، ومن تراكماتٍ فكرية كبيرة لبعض المثقفين الألمان بدرجةٍ خاصة، والصياغة ذات تراكيب معينة مبهرة:
(ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم/ فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً).
(شبحٌ ينتابُ أوروبا – شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدتْ في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني).
إنها لغة أدبية شعرية قصصية متداخلة، وتحولت الأفكارُ إلى لوحاتٍ، بأسلوب شعبي متأجج بالكرامة، و(البيان) بهذا يتابعُ الكتبَ الدينية بلغاتِها التعبيرية الأخاذة، كما أنه يتحول إلى دعوةٍ دينيةٍ بهذه الإطلاقية والتعميمية المفارقةِ للظروفِ المتباينة للقارات والشعوب، فألغتْ العلميةَ، في غيابِ تحليلاتِها الجزئيةِ الدقيقة لكل الأرض، وصادرتْ الأبحاثَ المُفترضةَ بفرضِ لغةٍ جاهزة، وبشعاراتٍ من مستوى أوروبي، تتشكلُ فيه حرياتٌ كبيرةٌ نوعاً ما، وقد أبعدَ الأديانَ عن السياسة المسيطرة، في حين انه عندما تنتقلُ لغةُ البيانِ هذه لشعوبٍ أخرى تعيشُ في ظروفٍ مختلفةٍ من حيث الصناعة والحريات والثقافة، فإن لغةَ البيان المقاربة للدين لغةً، ووعداً بتحقيق الجنة، الأرضية هذه المرة، تصيرُ لها قراءات مختلفة ومقبولة لأسبابِ الزمن التاريخي المتنامي، فالأوروبةُ تغدو قبل عدة قرون من صياغة (البيان) عالمية في استغلالِها للموارد الخام في القارات الأخرى، وتغدو رحلاتَ استكشافٍ وغزواً وفرضَ حماياتٍ تجارية وتغلغلاً للجيوش الخ..
إن الزمنَ التاريخي الراكد لعصورَ الإقطاع، حيث البشرية مفتتة إلى قارات وعوالم ذات صلات واهنة، يتسارعُ بشكلٍ كبيرٍ عبرَ زمنِ الآلة، التي تقومُ باختزالِ المسافاتِ الجغرافية أولاً، ثم بنشر العلاقات الرأسمالية في العديد من البقاع، واختراعاتها المختلفة وأنواعها الأدبية والعلمية والثقافية عموماً، وكلُ حدثٍ من هذا هو تسريعٌ للزمن الأوروبي، الذي يغدو زمناً عالمياً متسارعاً. إن تعددَ الأزمنةِ في زمانٍ عالمي كبير، تفرضهُ تشكيلةٌ عالميةٌ واحدةٌ هي التشكيلة الرأسمالية أخذتْ تبزغُ من عصر النهضة، من قلبِ أوروبا الغربية، لكن لهذه التشكيلة مستوياتِ تطورٍ مختلفةٍ، فمن بلدان تضخُ الموادَ الخام، إلى بلدانٍ تصنعُها، إلى بلدانٍ تتداخلُ فيها هذه العملية المركبة، فتظهرُ أزمنةٌ مختلفةٌ للتشكيلة الرأسمالية التي تتحول من أوروبية إلى كونية، لكونِها أوجدتْ أمكنةً مختلفةً لها، تجرى فيها عملياتُ إنتاجٍ متعددةٍ الأشكال. فيتسارعُ الزمنُ في جانب ويبطىءُ في جانب آخر، ثم يتداخل في زمانٍ متقاربٍ متنوع كذلك، لأن وحدة التشكيلة لا تتم بشكلٍ تام.
تستطيع لغةُ (البيان) أن تنفذَ لعمالِ العالم مع مرورِ هذا الزمنِ الاجتماعي، المتعددِ المستويات، فالبلدانُ الرأسماليةُ المتطورة تستوعبها، بشكلٍ يعبرُ عن مستواها، فهي تهضمُها ببطءٍ، وان المطالبَ المباشرة للعمال تحظى بلغاتِ اهتمام متنوعة، من قمعٍ في البلدان الأقل تطوراً والتي تعيش في بقايا إقطاعٍ مؤثرٍ كأسبانيا، في حين تتحقق تلك المطالب المباشرة في إنجلترا وهولندا وفرنسا، أما المطالب الكبرى بسيطرة العمال على الحكم وإلغاء الطبقات فلا تتحقق، ليس فقط لنمو الرأسمالية وتوسعها خارج بلدانها وإنشائها لمستعمرات وارتفاع مستوى معيشة عمالها، بل كذلك لعدم إمكانية تحقق الاشتراكية أو الشيوعية، في هذه القرون. إن الرأسمالية الأوروبية هي قائدةٌ لتشكيلة عالمية، تظهر هنا في بداياتها، وعبر استعمارها تقوم بنشرها، وتغدو هي في ذروتها.
إن التشكيلة الرأسمالية كتشكيلةٍ عالميةٍ كانت تحققُ بعضَ زمنيتِها المحدودة في القرن التاسع عشر. إن أي تشكيلةٍ تغدو تشكيلةً بشرية، لترابط تاريخ الإنسان، والتشكيلة البشرية لها زمنيةُ مئاتِ السنين، لقيامها على قوى إنتاج محددة تنتشر وتغدو عالمية وتتعرض للاصطدام بعلاقات إنتاج تغدو قيوداً فتحدث عمليات الثورات عبر مستويات بشرية مختلفة لتصعدَ علاقاتُ إنتاجٍ جديدة، ثم تزولَ عبر قرون كذلك. لقد عرفنا ذلك تطبيقاً على التاريخ الأوروبي في؛ (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) لكن تبلورها وفهمها البشري لم يكن ممكناً في تلك الافتتاحية للزمن الرأسمالي، إن الزمنية هنا مهمة، لكن البيان يختزلها.
إن جمل (البيان) الأولية التي قرأناها مراراً مهمة هنا كذلك، لتجعلنا نحسُ بإيقاعِ الزمنِ السريع المؤدلج:
(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمالَ العالم اتحدوا)، إيقاعُ اللغةِ هنا المتسارعُ من الأوروبي للكوني، يقفزُ على عدةِ ألوف من السنين: التشكيلة العبودية لها أكثر من خمسة آلاف سنة! التشكيلة الإقطاعية تقارب الألفين أو أكثر، الرأسمالية الصناعية الأوروبية لها قرنان أو ثلاثة قرون بالكثير!
لكن وعي ماركس بكون التشكيلة أوربية/ عالمية، يختزلُ تجاربَ الشعوب الأخرى عبر النيابة الأوروبية، ويختزلُ التشكيلةَ نفسها، قبل أن تكونَ بشريةً، وقبل أن تتجلى على هذه المساحة الأرضية الواسعة، وتدخل فيها قوى إنتاج البشرية كلها لتتجاوزها عبر تباين مستوياتها وقواها كذلك.
تتمكن لغةُ (البيانِ) من الاستحواذ على الألبابِ الشرقيةِ خاصةً وهي تدخلُ التاريخَ العالمي. كان البيانُ قد دخلَ في حلقةِ التاريخ الأوروبي لكنه لم يشكلْ التحولات التي وَعد بها، لكن العواصفَ انتقلت لآسيا.
إن التاريخَ الأوربي المعاصر فككَ لغةَ البيان عبر زمنيتهِ الخاصة، فقبلَ بالنسبي فيها ورحل المطلقَ إلى تاريخ الإنسانية الكلي القادم، تخلى عن ماركس الشاب وقدر ماركس الكهل، وناضلَ من أجل تغيير معيشة الطبقات العاملة، ولم يعطها فرصةَ الحكم وتغيير البناء الرأسمالي، فظلت أحزابُ النسبي كالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الواجهةِ والحكم لأنها آمنت بالنسبي ورحلتْ المطلقَ، وغيرتْ ما تعلق بالنسبية الاجتماعية، متفهمة النظامَ الرأسمالي، في حين قاومت أحزابُ المطلق هذه النسبية المحدودة في تصورها واستمرت في العمل لإزالة الرأسمالية تماماً خاصة الأحزاب الشيوعية، فرحلتْ مع المطلق القادم غير العائش في النسبي.
لكن هذه النسبية أخذتْ تتعمق، وعلى العكس فإن الرأسمالية أخذت تنتشرُ بتوسع، وتتعمقُ في شرق أوروبا وجنوبها، ودخلت أوروبا في حروب منهكة دمرت الكثير من قواها العاملة، فراحت تتحدُ في رأسماليةٍ قارية، ثم ان الرأسماليات الكبرى في العالم راحت تتطورُ تقنياً بشكلٍ هائل، وحدث نقصٌ في قواها العاملة، واستدعتْ قوى العالم الثالث إليها، وثوّرت قوى الإنتاج ودخلتْ مرحلة أكثر تطوراً في التقنيات، واستغلت القارات الأخرى بتوسع.
وهي سلسلة من التطورات المعقدة جعلت الخصمين الاجتماعيين البروليتاريا والبرجوازية يعيشان في صراع نسبي سلمي طويل، لكن ظلَ الحراكُ الفكري لدى الفئة الوسطى الصغيرة، (البرجوازية الصغيرة) هذه التي سوف توجد كل أنواع الفنون والآداب والفلسفة وغيرها، وسوف تستمرُ بصخب وثورة في الفراغ المطلق وفي الوجود النسبي وفي تفجيرٍ للأشكالِ المجردةِ في الفنون كالتعكيبية والسريالية، وفي المسرح اللامعقول وفي الرواية: الرواية المضادة وغلبة تيار الوعي، وفي الفلسفة سوف تحتل الظاهراتية الأداةُ التكوينيةُ للمعمارِ الفلسفي المكانَ الأبرزَ في تشكيلِ عماراتِ الفلسفة الكبيرة: الوجودية، والبنيوية، والتفكيكية الخ.
إن تكون وعي البرجوازيات الصغيرة في هذا الحراك يستندُ إلى (جمود) الخصمين الاجتماعيين العمال والبرجوازية، وهو جمود يبتعد عن صياغة أشكال الوعي بشكل عام. فالمواد الخام قد تأتي منهما، ولكن القيام بالثورات الفكرية والتعبيرية سيتركز في هذه الفئات المطحونة والقلقة والمنتجة الفكرية، بين قوتي الرحى الرأسمالية، وإذا كان للطبقتين الكبريين المتصارعتين إنتاجٌ فكري، فعبرها كذلك، فهي التي تتداولُ البضائعَ الفكرية السابقة، وتفحصها بين فئاتها المتنوعة، وقد رفضت كلتا الأداتين الفكريتين للطبقتين السابقتي الذكر، وهما الماركسية والليبرالية السياسية، اللتان تتمحوران حول توجهات المادية الجدلية أو المادية السوقية. كان لابد لها من الاستقلال والتفرد، من رفضِ المادية خاصةً كفلسفة، فرفض المادية يعني رفض عمليات الحفر في البُنى الاجتماعية وتحليل الظاهرات والتغلغل في اكتشاف القوانين الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذه عملية تربطها بالكادحين، وبنقد عالم الرأسمالية الموضوعي وبكل الحراك الصراعي الذي ينجمُ عنه، من تشكيل ثورات فكرية في الجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، لكن كل هذا لا يدخل في السوق الرأسمالية، فعالمُ الرأسمالية الفكرية قائمٌ على المادية السوقية، بكل ظلالِها، من صعود لرمزيي البرجوازية الصغيرة وتحويلهم إلى نجوم في الفلسفة والأدب والفنون، كمستوى راقٍ للثقافة البرجوازية، أو تحويلهم إلى منتجي أدب فضائحي وفنون سوداء مختلفة تجذب وتكسب الملايين. إن البرجوازية المالكة هي التي تحدد توزيع الإنتاج الثقافي وأقسامه ونموه، والبروليتاريا هي المستهلك الأكبر، التي يوجه الإنتاج الثقافي لتخديرها أو لتشجيعها على الإنتاج وعيش التسلية بعد هلاك العمل.
في المستوى الراقي لعبت الأدواتُ الظاهراتية دورها كركيزة لهذا العالم الثقافي المتنوع الواسع ذي الآثار الهائلة، وقد ارتكزت عموماً على رفض الاعتراف بالواقع، وشكلت واقعاً مختلقاً، هو الكلمة أو الأدب أو البُنية أو الرموز المقطوعة عن البنى الموضوعية للعالم.
كان هذا الخيارُ هو خيارٌ طبقي بامتياز، كان إلغاءً لعالم الطبقتين المتصارعتين، ورفضَ أعتبارهِ أساساً للوعي. وهو جاءَ بسبب تلك النسبية التي أشرنا إليها، وكون إطلاقية ماركس وتلك الدعوة الثورية لكسح البرجوازية لا تستند إلى أساس راهن.
وهي الدعوةُ المباشرةُ التي تخلى عنها في كتابه الناضج التاريخي (رأس المال)، ولكن الفصائل التي دعاها للعمل كانت قد نهضت في أقطار الأرض على إيقاعات الزمن الاجتماعي المختلفة، والتصقَ (البيانُ) بها أكثر بكثير من رأس المال. لما قلنا من نضاليته الشعبية البسيطة، ولاختزاله، ولخياليته في جانب ولعلميته في جانب آخر، وتركزت الدعوة عند من يستفيد منها بدرجة أساسية وهم العمال.
صار للبيان ولهذه الماركسية مساراتٌ مختلفة، لطبيعة محتواها المتعدد الوجوه ولتناقضاتها الفكرية الداخلية، ولنموها في قاراتٍ مختلفة، التحقتْ بالرأسمالية على أنحاء متفاوتة في الزمن وفي الأشكال والمراحل.
وفي حين سارت لغاتُ (البيان) بوفرةٍ واتساع هائل في الشرق مشتْ ببطءٍ في الغرب، وكان هذا التناقضُ البارزُ وجهاً لتناقضٍ عميقٍ أخذَ يتكشفُ بقوةٍ هائلةٍ في التاريخ البشري المعاصر. كان الغربُ يصيرُ هو المالكُ الأساسي للخيرات، هو الاستعمار المهيمن على المواد الخام الثمينة والرخيصة، هو المحولُ لها: ثرواتٍ أسطوريةً وتقنيات رفيعة وطبقات مستمتعة ثرية وخدماً فكريين وفنيين كثيرين، وعلماء متخصصين لتطوير المصانع وتضليل العالم الخ.
كانت الطبقتان المالكة والعاملة تصنعان السلعَ المادية وكانت البرجوازية الصغيرة تصنعُ السلعَ الثقافية.
إن التناقض الكبير بين الغرب والشرق، تأسس في مرحلية الاستعمار بين (الشرق العامل البروليتاري والشرق المالك البرجوازي). هذا ما تعمم في فترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
إن هذا التعميمَ ايديولوجي مضللٌ بطبيعة الحال، ولكنه كان يمتلك شيئاً من الموضوعية أيضاً. وفي انتقال الماركسية الشعبوية المعتمدة على (البيان) قامتْ بالارتكاز على مثل هذه التعميمات ثم جرتها لتاريخ الشرق.
في (اللينينية) تكرست شعبوية البيان، الذي كانت له امتدادته في كتب ماركس، مثل (الايديولوجية الألمانية) حيث يدعو للثورة البروليتارية من دون ضرورة لوجودِ أسسٍ واسعة للنظام الرأسمالي، وهذا كان لينينيةً ألمانيةً، لكن حتى هذه (الأيديولوجية..) لم تُطبع في حياة ماركس، فغدت الماركسية تمشي كدين مقدس.
أي أن لينين في توجهه لثورة اشتراكية لم يكن يصدر من وازع شخصي محض، وكان اختراق مسألة التشكيلة الرأسمالية وتجاوزها قد بدأ من ماركس نفسه:(حر وعبد، ونبيل وعامي/ فلترتعد الطبقات السائدة/ يا عمال العالم اتحدوا). إن إمكانية اختراق نظام رأسمالي – إقطاعي، وإقامة نظام ديمقراطي، وذي إصلاحات تقدمية، مختلف عن تحطيم التشكيلة الرأسمالية.
إن النظامَ الرأسمالي يختلفُ عن (التشكيلة) الرأسمالية، فإزالة التشكيلة أمر يعني إزالة مفردات النظام الرأسمالي الأولية كالنقود والدولة والطبقات والسوق.. الخ، ويعني نظاماً عالمياً، لكن تغيير النظام الرأسمالي وتمزيق جوانب كبيرة منه ليس مثل ذلك.
هذا الخلط بين النظام والتشكيلة، بين الإصلاحات وإلغاء الرأسمالية، كانت قد صُوبت من ماركس نفسه في رأس المال، من دون وضوح كلي منه، وليس في البيان كما أشرنا سابقاً، لكن هذا التصويب تم تجاهله وراحت الحركة الماركسية في الشرق ترتكز على البيان بدرجة أساسية.
وفي تطبيق الثورة الروسية سنة 1917 وبعد التأميمات وغيرها عادت إلى السوق والنقود وتطوير الرأسمالية سنة 1921، بعد أن حُجمت الدكتاتورية اللينينية لكن الدكتاتورية الروسية العامة لم تُحجم بل تفاقمت.
هذا جعل من الماركسية بالنسبة إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مجموعة من الأشباح السياسية والعسكرية على قول دريدا، لكنها بالنسبة إلى جزء كبير من الشرق ظلت حليفاً مهماً ثم قائداً كونياً.
مهما كانت النتائج للبيان فإن ماركس ظهر كشخصية عالمية فاعلة في تاريخ الرأسماليات، كنقيض لها وكمؤسس لها أيضاً! بين أن يكون قائداً لزوال الرأسمالية وقائدا لتشكيل الرأسمالية، هذه هي القراءات المعقدة للشعوب، في تفاوت مستويات تطورها، وفي تباين فهمها للماركسية.
سوف نحاول أن نرى ذلك عبر قراءة دريدا للماركسية عبر كتابه السابق الذكر: (أطياف ماركس). هذا الباحث الذي تم الاحتفال بأعماله في البحرين وصدر كتابٌ عنه هذه السنة 2009.
لا يُذكر هذا الباحث الفرنسي المولود في الجزائر بأي شيء مثير، ربما حادثة واحدة صغيرة اضطُهدَ فيها، لكنه باحث غارق في الكتب والأبحاث. هو جزء من ذلك المناخ الذي أشرنا إليه، حيث الفئات الوسطى الصغيرة التي تم صُنع شريط فكري لها من قبل البنية الرأسمالية المسيطرة، عبر الظاهراتية الممتدة من كانط، التي يقومُ فيها الفكر بمناقشة سطوح الظاهرات المتبدلة دوماً في موجات أشبه بموضات الملابس والتسريحات، وهو حين رفض تحليل الواقع كبنية، لم يرفض أن يحلل ظاهراته المتطايرة منه، المفصولة عنه، تجنباً لخروجه من دائرة التداول السلعي، ومن الاصطدام بجذور الواقع والسلطات، رغم أن ذلك لم يكن كلياً، فهناك بعض التيارات التي استندت إلى تطور الوعي الديمقراطي والوعي التقدمي وطورت أدوات التحليل كذلك كالبنيوية الوظيفية مثلاً.
إن موجات الوعي هذه الأشبه بالموضات تغدو أشباحاً، فهي أشبه بالنجوم فترة ثم تغوص في مياه العتمة، لا يبقى منها شيءٌ كثير، تزول لعدم ارتباطها بموجات اجتماعية كبيرة، ولهذا نرى دريدا يكرس كتابه لمناقشة الأشباح حين يناقش شخصية ماركس التي (ملأت الدنيا وشغلت الناس).
شخصية باحثة مثل دريدا انجذب ليناقش الأشباح حين يناقش تلك الشخصية الحافلة بالأحداث والمؤججة للأحداث، ويملأ كتابه الشديد الغموض بهذه المناقشات التحليلية المجردة الملموسة المتقطعة المتناثرة، الأدبية، داخل كيان يفترض أن يكون غير أدبي، لكون الظاهرات الأدبية توجه التحليل خارج البنى الاجتماعية المرفوض تحليلها والغوص فيها بأوروبا والعالم.
لدينا أشباح كثيرة وأهمها شبح الملك هاملت من مسرحية شكسبير المعروفة. ويقوم بربط شبح هاملت بشبح الشيوعية الوارد في (البيان) وفي كتب أخرى لماركس.
يظهر شبحٌ في بداية مسرحية هاملت للأمير الابن هاملت ويدعوه للانتقام لمقتل أبيه. الشبح هو الأبُ القتيل نفسه، ويظهر في حالة درامية عنيفة مليئة بالظلال التعبيرية، ويتشكل كقفزة غير واقعية، مضادة للمسار التكويني الواقعي للبناء الدرامي الشكسبيري هنا. إن هذا القطع الايديولوجي في هذه المسرحية الواقعية، يرتبط بمسارات لا فنية، وأسطورية شرقية، لكنها أُخذت كتفعيل للفعل الدرامي من الخارج، من الوهم.
بين الجذور الأسطورية الشرقية للشبح، وظهور المسرحية الشكسبيرية هذه في بداية عصر النهضة الأوروبي، العقلاني المتنامي، ثمة قطيعة كبيرة مع النص الماركسي، مع مفردة الأشباح التي ظهرت في البيان. ولكل مقطع في سياقه الزمني، وبنيته، دلالات.
لكن دريدا ضخم تضخيماً كبيراً من (الشبحية)، وغدت مسرحية هاملت هي المحللة، وغُيّب ماركس كثيراً، فهذه تحدث القطيعة مع النص الماركسي في بنيته الاجتماعية، وقطعه عنها، وتعليقه في الفضاء الشبحي، ثم إطلاق العنان للخيال والمنولوجات الذاتية والتدفق اللغوي ذي العتمة الشديدة والتعميمات الغريبة الغامضة ثم ظهور لبعض التحليلات السياسية المفاجئة العميقة الجيدة الطالعة بجزر نائية لا تمتلك أي علاقات مع الشبحية تلك ثم العودة الدائمة للشبحية الشكسبيرية.
يدعو دريدا في كتابه (أطياف ماركس)، إلى قراءة ماركس ويقول: (وسيكون من الخطأ إذا لم يُقرأ ماركس وتُعاد قراءته ومناقشته)، ص41.
يبدو ماركس هنا باستمرار كشبح، كطيف زائل، (ولابد من تقدير جهوده على الأقل)، والاعتراف بدوره!
إن الأشباحَ تحيي ذواتها وتشبحُ الرموزَ التاريخية الباقية في بحار الزمن الاجتماعي، إنها هي التي ذابت أو تكاد تغرق في موضات الوعي السائد، وفي موجات الوعي المُبتلعة، والتي تصيرُ نجوماً في سماء الاستهلاك الثقافي تتصورُ انها الركائز الباقية، وليست أشباحاً، ليست جزءًا من حطام ثقافي، قابل للتجدد في حطام آخر وهكذا.
والاهتمام بماركس كشفقةٍ فكريةٍ غربية ضرورية لأسباب:
(ومنذ اللحظة التي أخذت فيها آلة الدوغمائيات والمعدات الأيديولوجية (الماركسية): (دول، أحزاب، خلايا، نقابات، وأمكنة أخرى من أمكنة الإنتاج العقدي) بالاختفاء، فإنه لم يَعُد لنا عذر)، ص 41.
لقد زالت الشموليات الشرقية الاشتراكية وأصبح لماركس إذًا مكانة ما. إن غياب التحليلات الموضوعية تقود إلى نتائج إحسانية مثل هذه.
لقد رأينا كيف انتشرت الأفكار الماركسية في الشرق وفي أمريكا اللاتينية بشكل عاصف، وكيف قُرئت هذه الأفكار في كثير من الأحيان، بمستويات تناقضاتها الداخلية: أي بكونها دعوة للثورة الاشتراكية الراهنة، وبكونها قراءات إصلاحية لأنظمة متخلفة ولأنظمة رأسمالية متطورة كذلك. إن فقرات كثيرة في (كتاب البيان) (تكرر ذكره أكثر من عشر مرات في كتاب الأطياف) و(كتاب الأيديولوجية الألمانية) (تكرر أربع مرات)، هذان الكتابان الشبابيان غير الناضجين لماركس وأنجلز، قد تم نشرهما باعتبارهما هما الفكر الماركسي وفيهما فقرات تدعو للثورة الاشتراكية المباشرة العنيفة وإزالة الطبقات فوراً وغيرها من المهام التي تتحقق في قرون وبشكل متدرج.
وحين اتحدتْ هذه الفقراتُ بثوراتِ الشرق الاجتماعية والوطنية تحولتْ الأنظمةُ إلى الاشتراكيةِ المُزيّف فهمها، التي صارت متحدة بالغيب الديني (الماركسي)، وهي ليست سوى رأسماليات حكومية، ودكتاتوريات، أُنجزتْ فوق ضلوع العمال، ولكنها في مجريَي التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي لدول الشرق حققت إنجازات اقتصادية كبرى، وأخطاء رهيبة كذلك، ثم تقزمت كثيراً وتشوهت بشكل هائل في دول صغيرة الخ. وقد تداخلت فيها الثنائيات المختلفة: ديمقراطية ودكتاتورية، ماركسية عمالية وبيروقراطية رأسمالية، تضحية واستغلال الخ.
لكن هذا لا يعني توقف التجربة وعدم إعادة إنتاجها بشكل ديمقراطي، وهذا يتطلب من باحث أن يقرأ ذلك ولا يعتمد على الاختزالات والظلال الأدبية السريعة المروق وعلى تيار الوعي والرموز الفلسفية المبهمة في خضم قراءة مارد سياسي.
لكن الوصول إلى الاستنتاجات الفكرية يبقى هو المهم، إن الجمل الماركسية المقطوعة السياق التي غدت في اللينينية حجر الزاوية، تبقى مجرد وقود في حطب آسيوي، ومجرد تحريك لدكتاتوريات قومية كامنة كبرى، وفيها كذلك أدوات اجتماعية وسياسية مستمرة، ونهضة لملايين الكادحين، لكن المهم والباقي ليست تلك الفقرات غير الموضوعية، لكن ما يبقى هو المنهجية، أي درس الظاهرات في خضم البُنى الاجتماعية واكتشاف قوانينها. هذه التي ترفضها أغلبية الفئات الوسطى الصغيرة المتذبذبة في الغرب والشرق، والمتلاعبة فوق حبال صراع الطبقات، الراكضة وراء مصالحها المحدودة، التي تصنع منها رؤىً.
إن شبحية شكسبير في مسرحية هاملت تعودُ لتضييعهِ قوانينَ السببية الاجتماعية، مثلما ضيعها دريدا، وفي الأدب يغدو ذلك فناً، وفي الفلسفة يصيرُ غفلةً، لكنه يعتمد على نظرة الكاتب الذي توصل لبعض السببيات الاجتماعية ودمجها في إبداعه، ولم يتوصل لسببيات أخرى، فتغدو ثغرة في الوعي الواقعي المباشر السائد في المسرحية الشكسبيرية، وهذه الشبحية الافتتاحية المُشعلة لحدث المسرح والمفجرة لشخصية هاملت، تعود لطابع السحرية الباقي الذي يدخل كتعويض عن ذلك الفقدان التحليلي، وهو أمرٌ سيغني تفكيكية دريدا في عدم تحليل ماركس.
أما ترديد ماركس للشبحية فهو يأتي في مسار آخر، وفي لغة تعبيرية أخرى، وفي بنية أخرى، في لغة صراع سياسي كوني، في مبارزة غير متكافئة بين طبقات شعبية صاعدة وأعمدة المال والطغيان في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، ويُقصدُ فيها استخدام اللغة الدينية السحرية على سبيل السخرية، هذه اللغة السائدة في الرموز التي وجه إليها النقد ذاك. هي عملية تقزيم لتلك الرموز السائدة في الحكم، وإعلاء للعمال على مسرح الحقائق والعلم كما يتفهمه، كما يشير دريدا نفسه في بعض مواقع الكتاب الخاطفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبـــــــدالله خلــــــــيفة: رأس المال الحكومي الشرقي، منشورات ضفاف – بيروت، كلمة للنشر- تونس، منشورات الاختلاف – الجزائر، دار الأمان – الرباط.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 05, 2021 16:04
No comments have been added yet.