عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تناقضات الماركسية – اللينينية
تقوم الأفكار الماركسية – اللينينية على التجميع المركب بين فلسفتين متضادتين. إن الماركسية فلسفة ديمقراطية على المستوى الفلسفي وعلى المستوى الاجتماعي، فماركس قام بدراسة قوانين البنية الاجتماعية الرأسمالية وتوصل عبر بحوث مطولة إلى نتائج أوروبية هامة، وحين جسد نتائج هذه الدراسة في العمل السياسي أشار إلى ضرورة العمل النضالي من داخل قوانين هذه البنية واعتبر الاشتراكية تتويجا لذروة التطور التقني والعلمي والأخلاقي والكفاحي داخل هذه المنظومة.
فيما بعد قام شموليو رأسمالية الدولة في روسيا، القوميون الروسيون، كما سيظهرون في المجرى التاريخي لانحلال رأسمالية الدولة الشمولية الروسية، بالجمع بين هذه الماركسية الأوروبية مع استبداد الدولة المركزية، وإنتاج خليط نظري متناقض اسمه (الماركسية – اللينينية).
علينا أن نرى بادئ ذي بدء، أن هذا الجمع المتناقض، هو افتقار هذه الماركسية الأوروبية في نشأتها، إلى أن تكون نظرية إنسانية، أي أن منشأها الأوروبي في غرب أوروبا تحديداً، يمنعها أن تكون نظرة لمختلف التجارب الإنسانية، فلكي تصل أن تكون نظرية إنسانية يلزمها أن تدرس تجارب مختلف الشعوب ومستويات تطورها، وهذا هو الأمر الذي لم يتوافر.
فحتى القوانين الأعم للمادية التاريخية المتعلقة بالتشكيلات: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، لم تؤخذ عند مثقفي الأمم غير الأوروبية خاصةً كبديهية مُلزمة، وتم رفضها لدى العديد من الباحثين. أي أن نمو الأمم تاريخياً لم يتم التأكد العلمي الكامل منه، وهو يخضع للبحوث المستمرة. ومن هنا فإن هذه التشكيلات رُئيت من خلال التجربة الأوروبية الغربية، التي توفرت لديها أدوات وقوى البحث الكبرى والديمقراطية الثقافية التي أمكن خلالها الوصول إلى قراءات موضوعية لا يكرسها جهازُ سلطةٍ مستبد .
أي أن الماركسية كنظرية أوروبية غربية تشكلت على أرض بحثية ديمقراطية، أما اللينينية فأمرُها يختلف، ومع هذا فإن الماركسية يتجلى جانب القصور فيها في طرحها نفسها كنظرية عالمية، من دون أن تُرفد بتجارب الأمم غير الأوروبية، وبهذا فإن السيادة الأوروبية – الأمريكية على العالم يمكن أن تغدو الماركسية جزءاً منها، وبهذا يصبح اختزال تجارب ومستويات الشعوب غير الأوروبية ممكناً، بفضل هذا التفوق.
إن جرَ الماركسية من إطارها القاري إلى التداول العالمي، سيعضدهُ ولا شك غيابُ الجامعات العلمية التي تدرسُ الماركسية وتفحصها وتنقدها، في العالم الثالث، بحكم اعتبار الماركسية لدى هؤلاء نظرية انقلابية مدمرة مع ارتباطها بالدولة الروسية فيما بعد، وكذلك لتطورات الماركسيات وتناسخاتها في العالم الثالث التي اتحدت مع الأبنية الشمولية.
إن جذر القضية يقع في أزمة روسيا ودول العالم الثالث في الانتقال السلس إلى الرأسمالية، ومن هنا لعبت (اللينينية) باعتبارها الحلقة الأولى في نشر وإفساد الماركسية على المدى العالمي.
وكان الجمع بين النظرة الماركسية كنتاج أوروبي ديمقراطي شعبي؛ وبين الفكر المعارض الروسي، قد كرسته ثقافة روسيا المتخلفة، فعبر هذا المحيط الشمولي تم تداول الماركسية وتصوير خيانة أوروبا الغربية لها، وأمانة روسيا في احتضانها.
فروسيا المتخلفة التي تملك بحراً من الفلاحين هي الجديرة بتطبيق النظرية العمالية الحديثة، في حين أن أوروبا التي تملك ذلك البحر العمالي والعلوم لم ترتفع إلى مستوى تطبيق الماركسية وإنجاز الاشتراكية.
وفي سبيل هذا الزعم ابتكر العقل الشمولي الحكومي الروسي مجموعة من الخرافات (العلمية) لتبرير هذه القفزة غير العقلانية ولحرق المراحل وقيادة العالم الثالث في هذا السبيل الصعب المكلف.
كان من أولى الخرافات (العلمية) التي ابتكرها العقل الشمولي الروسي هي (نظرية الحلقة الأضعف في مسار التطور الرأسمالي)، فقد قام هنا بتعميم المسار الروسي باعتباره مساراً رأسمالياً، في حين أن هذا الوعي الروسي نفسه يضع روسيا في خانة الدول الإقطاعية، وبين المسارين تضيع روسيا.
فأوروبا الغربية حين انتقلت إلي الرأسمالية من الإقطاع احتاجت إلى عشرة قرون، فبدءاً من تفكك الإقطاع وانكسار سطوة البابوية وظهور البروتستانتية، ثم مجيء عصر النهضة، ثم عصر الكشوفات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم عصر الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فعصر الثورات الرأسمالية والاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين الخ..
أما روسيا فكانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متحجرة عند الإقطاع وأخذت في القرن العشرين تتململ اجتماعياً لما يمكن أن يُسمي عصر نهضة روسي، وبهذا فإن ثمة بوناً شاسعاً بين إمكانيات أوروبا الغربية وروسيا، وإذا أمكن لأوروبا أن تنتج الماركسية ضمن نظريات علمية عدة، أمكن لروسيا أن تحيل نظرية علمية كالماركسية إلي أيديولوجيا، بمعنى أن تقوم أجهزةُ الدولة بتبني هذه النظرية العلمية وان تخنقها.
فكان على روسيا لتستوعب الماركسية أو أي نظرة علمية أخري أن تتشرب بيئتها الاجتماعية والثقافية الكثير من النظريات والآراء التي تحفرُ في البناء الاجتماعي وتخرجه من التكلس الأبوي والنظام الإقطاعي والأمية الخ٠..
بمعنى أن النظريات العلمية في أوربا الغربية هي تتويجٌ طويلٌ لعصر نهضة أبعد النظرات الدينية الشمولية وحفر تعددية دينية ديمقراطية، وهو أمر على سبيل المثال لم يتم حتى اليوم في روسيا، وتتكرس المسيحية الأرثوذكسية كفكر مسيحي مُغلق، تتماهى فيه الألوهية وتقديس التماثيل والصور وحكم الكنيسة الهائل. وهو ما تحقق في الماركسية – اللينينية على مستوى تحويل الزعماء إلى أيقونات وأصنام للهيمنة على الشعب المقدس لهم.
وعلى مستوى الديمقراطية فلم يجرب الشعب الروسي الانتخابات كشكل أولي من العملية الديمقراطية، فهو من الشعوب المتخلفة المتكتلة وراء القيصر والكنيسة، وكان يحتاج إلى زمن موضوعي لكى يخرج من حالةِ القطيع التاريخي.
لم تقم هذه الرؤية السياسية النخبوية بالحفر في هذه الكتل الشعبية المتخلفة، وهي الإشكالية الكبرى التي تواجهها نظم العالم الثالث كذلك، وسيتم الإبقاء على أبويتها الاجتماعية وتدني مكانة المرأة فيها، وسيطرة المؤسسات الفوقية وضعف وجود الفردية المبدعة الخ..، أي على كل الخصائص السلبية التي أنتجتها أنظمة ما قبل الرأسمالية، المُجسَّدة في روحية القطيع والجمود والحفظ النصوصي.
لم يحدث هذا الحفر النهضوي والديمقراطي وتفجر الفردية وتفكك الكتل الأبوية الإقطاعية، وانغمار البلد بتعددية فكرية وفلسفية واشتراك الجمهور في هذه الاتجاهات والانقلابات الفكرية العميقه، ولهذا فإن المؤسسات السياسية القيصرية القديمة اُستبدلت بسهوله بمؤسسات جديدة، فحدث تغير في الشكل ولم يتغير المضمون.
إن المؤسسات السوفيتية لم تحدث فيها الانتخابات الديمقراطية إلا في توصيل مندوبي الأحزاب، وسرعان ما رُفضت التعددية الحزبية، وهيمن طاقمٌ بيروقراطي واحد، فتم دفن المؤسسة البرلمانية الشعبية والصحافة الحزبية ثم الحرة الخ . .
أي أن البنية المتحولة من الإقطاع إلى الرأسمالية شهدت سيطرة المؤسسات الحكومية مجدداً، فأبقت الكتل الجماهيرية من دون الدخول في عصور النهضة والتنوير والإصلاح الديني والتغيير الديمقراطي الواسع، وبالتالي تم الحفاظ على الطابع (الآسيوي) للجمهور، ولم يتأورب، أي لم يتحدث؛ ولم يُعط الفرصة ليعرف التنوع والحداثة في الأسرة وتنوع الأفكار وفعالية المؤسسات الشعبية الخ..
قامت أحزاب ماركسية عربية نادرة بإعلان تخليها الرسمي عن (اللينينية)، كالحزب الشيوعي العراقي، في حين قامت أحزاب نادرة أخرى بتغيير أسمائها، وقد اشتغلت مراجعات عربية تقدمية كثيرة، لأنتاج وعي عربي تقدمي مستقل، وهناك ثروة من الأدبيات النقدية للفترات السابقة.
وبطبيعة الحال فإن هذه المراجعات والتغييرات ليست من أجل إرضاء القوى والسلطات العربية المحافظة، بل من أجل شحن أدوات النضال والتفهم الأوسع للتاريخ والوضع العربيين.
فقد تشكلت اللينينية كصيغة متطرفة لتجاوز أوضاع شديدة التخلف، وقدمت صيغة مبسطة، بالقفز فوق التشكيلة الرأسمالية، الأمر الذي تسبب بالكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية، خاصة في الأقطار العربية التي أخذت هذه الصيغة بشكل تبعي، في حين أن قدراتها الكفاحية والموضوعية كانت بعيدة حتى عن الإمكانيات الروسية والصينية وغيرها، التي استطاعت رغم الأخطاء كافة من تحقيق معدلات تنمية كبيرة مع مشكلات كبيرة كذلك.
ولا يعني ذلك التخلي عن مساهمات لينين الكبيرة في الثقافة والفكر العالمي، فقد قدم هذا القائد الكثير من المواقف الشجاعة والمؤلفات القيمة، وللأسف فإن فكره لم يُتابع بشكل نقدي موضوعي في بلده أو في العالم وهو القائد الذي رفض أشكال العبادة الفردية كافة، فما بالك بالتحنيط، وكان يثور حتى على الاحتفال بعيد مولده من قبل أصدقائه!
لكن التحنيط تشكل على أساس نشوء دولة دكتاتورية كبيرة ساهم هو نفسه فى تكونها وترسيخها، وفيما بعد نمت على أساس سياسي وبوليسي، وارتفع على أكتاف العمل والتضحية فيها دكتاتوريون قساة لا إنسانيين.
ولا شك أن أفكارا تجاوز المرحلة الرأسمالية بحرياتها وبرلماناتها وصحافتها الحرة، تمثل الخطأ الجوهري الذي ارتكبه لينين وشاع في الدول الشرقية الاستبدادية بتاريخها الطويل، والتي تتشارك فيها الطبقات الاستغلالية والمستغلة في ذات الإرث الشمولي.
لكن يُفترض أن لا تكتفى الأحزاب التقدمية العربية بهذه التصفية العامة، وبفك الارتباط السياسي، بقدر ما تبدأ البحث عن خصوصيات تطور الشعوب العربية، وقراءة مفاتيح التغيير في مناطقها بصورة غير جامدة كما كانت الصياغات السابقة.
ويتمثل مظهر الصيغة اللينينية كمدرسة دكتاتورية وليس كإرث ديمقراطي نهضوي، في أولئك الذين يصرون على تحقيق (الاشتراكية) مستمرين في ترديد الكليشهات القديمة، في حين أننا عاجزون عن تحقيق مهمان مثل تغيير وضع المرأة أو تعديل أوضاع الريف التي لم تتحقق حتى الآن.
وليست أطروحات القفز هذه سوى تخل عن المهمات الحقيقية الممكنة على الأرض، واستمرار هياكل الأحزاب الشمولية التي تيبست بسبب هذا الانفصام عن الواقع.
وهذه الأطروحات تقود إلى التقوقع والاختناق الفئوي وا لانحصار السياسي، بدلاً من فتح السبل للتحالفات الواسعة مع الجماعات الديمقراطية المختلفة، ولا تتشكل هذه التحالفات سوى في التوجه لتحقيق مجتمع ديمقراطي حديث، وقد أدت هذه العقلية الانفتاحية في العديد من الدول في أوروبا الشرقية إلى تحول الأحزاب التقدمية إلى أنماط سياسية مرنة جديدة، تخلت عن تبعيتها للنموذج الروسي، وضفرت بين تقاليدها القومية والنظرية التقدمية، فجمعت بين الدفاع عن رأسمالية الدولة (القطاع العام) وبين عمليات الإصلاح والخصخصة.
وتبدو نتائج الحزب الشيوعي الروسي وريث الحزب الشيوعي السوفيتي غير مشجعة في الانتخابات البرلمانية، ويبدو أن ذلك عائد لخوف المواطنين الروس من عودة الحزب إلى السلطة، وتغييب الحريات العامة التي تمتعوا بها أخيرا .
إن ذلك يعود لتمسك الحزب باللينينية كما تم تحنيطها من قبل الدولة الشمولية على مدى العقود الماضية، حيث لا تبدو مراجعة عميقة من قبل الحزب لها، فالإرث القديم طويل وثقيل.


