مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog, page 21

February 8, 2011

"أنت" فارس هذا الزمان الوحيد

في عام ٢٠٠٦ اختارت مجلة "التايم "الأميركية الشهيرة مستخدمي الشبكة العنكبوتية -أي أنا وأنتم – كشخصية العام بدلاً من تسمية شخص بعينه كما جرت العادة. كان اختيارها مدفوعاً بإيمانها بتعاظم دور المستخدمين كمساهمين في صياغة محتوى الشبكة، وليس كما كان الأمر في بداية عصر الإنترنت حينما كان أقصى ما يفعله جُلنا هو التصفح والقراءة. فتطبيقات الجيل الثاني من الويب ومن ضمنها الشبكات الاجتماعية كان لها دور بارز في تمكين المستخدم العادي من إثراء المحتوى الرقمي بنفسه. وهذه المساهمة في العالم الشبكي كان لها انعكاس وتأثير على كثير من مجريات عالمنا الواقعي، والأمر أوضح ما يكون في الحالة الإعلامية. بالمقابل فإنه قبل حوالي عشرين سنة من ذلك، كان أمل دنقل يكتب قصيدته الشهيرة" لا تصالح" عشية زيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات لفلسطين المحتلة وإبرامه معاهدة كامب ديفيد مع قادة الاحتلال الصهيوني، في تلك القصيدة كان الشاعر – وهو ابن بيئته وزمانه – يعوّل كثيراً على القائد البطل ويسميه" فارس هذا الزمان الوحيد" وهو يرجوه ألا يفرط في وطنه ولا في الحقوق القومية، فهل ما زال العربي اليوم يبحث عن المخلص..عن مهديه المنتظر ليرفع عنه المظالم ويملأ الأرض عدلاً ونوراً ويستعيد الحقوق المسلوبة؟

منذ النشوء أو الاستقلال والمواطن العربي يحتفي بأبطاله، وبشكل أدق ببطله الأوحد، وهو حاكم ذلك القُطر الذي عمل جاهداً على أن يظل وحده في الصورة.. ملهب الجماهير ومحقق آمالها، ولما كانت مؤسسات المجتمع المدني مغيبة أو مشلولة في جل الأقطار العربية، فقد كان من الطبيعي على كل من يحلم بالإصلاح أن يحلم بتغيير رأس الهرم، وهو تغيير سيأتي به الله – جل جلاله- هكذا من السماء بانقلاب عسكري أو ثورة أو تعيين من قبل الحاكم السابق، وليس عن طريق تدرجه في مناصب تبني شخصيته وخبرته وخوضه لانتخابات عادلة يساهم الشعب فيها لإيصال الرجل المناسب لسدة الحكم. ولهذا ظل العرب يصفقون لكل حاكم شمولي أو ديكتاتور ينجح في دغدغة عواطفهم – لا سيما القومية- بكلمتين قبل أن يفطنوا إلى أن هؤلاء الأبطال هم أكثر من جر الويلات على بلدانهم خاصة وعلى الأمة العربية عامة بغض النظر عن النيات والأهداف والظروف الدولية واختلال موازيين القوى، فالعبرة بالنتائج. ولعل من أهم ما يميز هذه النوعية من الحكام أنها تصرف أنظار الجماهير عن الشأن المحلي إلى الخارجي القومي تحت شعارات مثل: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولهذا فليس من المستغرب أن تكون شعبيتهم أقوى وأكبر خارج بلدانهم. من يتابع ما جرى في تونس الخضراء من انقلاب شعبي أو ما يجري حالياً في قاهرة المعز وأخواتها من مظاهرات شعبية تطالب بإسقاط النظام المصري سيدرك أن المشهد قد تغير كثيراً وكثيراً جداً. فكأنما الشعوب العربية قد استيقظت فجأة من سباتها أو من سكرتها الطويلة لتجد أنه لا فلسطين تحررت، ولا هذه الجموع الجائعة شبعت، ولا هذه البلدان "انصلحت"، فكيف تحرر أخاك الأسير وأنت نفسك مكبل اليدين والقدمين وعلى فمك شريط لاصق؟

لهذا السبب فإن مظاهرات اليوم لم تكن من أجل فلسطين أو العراق في المقام الأول ..كلا فقد كانت من أجل تونس ومصر ابتداء، ولهذا فإن الشعارات التي رُفعت كانت تتحدث عن المطالب الشعبية المحلية: محاربة الفساد والغلاء والبطالة وسوء استخدام السلطة وقوانين الطوارئ والمطالبة بحقوق الإنسان والمشاركة الشعبية والحريات الدينية.

في مظاهرات تونس ومصر، لم نشاهد أعلام فلسطين تُرفع ولا أعلام أمريكا تُحرق، وذلك لا يعني أبداً أن الشعوب العربية قد تخلت عن قضيتها القومية والإسلامية الأولى وإنما هي فقط أدركت أخيراً فقه الأولويات الشعبية وأنه يستحيل أن تحل مشكلات الآخرين وأنت تسبح في مشكلاتك المستعصية. كما أن شماعة التدخل الغربي وتحميله كافة إخفاقاتنا قد بدأت تئن من الثقل، فلا أحد يستعمرك ما لم تكن لديك القابلية لذلك كما قال مالك بن نبي منذ أكثر من نصف قرن، ودور المواطن يكون في العمل على أن يصل للكرسي من يثق في أنه سيقدم مصالح وطنه وأمته على مصالح الآخرين. فالحاكم الذي ليست لديه شرعية شعبية عند أهله ووطنه هو الذي يستمد شرعيته من الأجنبي القوي.

ثورات اليوم الشعبية في بلاد العرب يقودها مواليد جيل الثمانينيات وما تلاها بشكل رئيس، جيلنا الذي ولد بعد كامب ديفيد ولم يعرف خلال الثلاثين سنة الماضية سوى الهزائم تلو الهزائم، والإحباط تلو الإحباط، والجيل الذي من الله عليه في الوقت نفسه بفضاءات مفتوحة تتيح له الوصول إلى المعلومة بعيداً عن فلترة وسائل الإعلام ومصادرة موظف الجمارك فعرف أن الحقائق والمعرفة قوة! ولما عرفها كفر بهم جميعاً..بالأحزاب التاريخية وشعاراتها الإنشائية والزعامات الاستثنائية الديكتاتورية وبكل المثقفين والمنظّرين الذين خدعوه أو ساهموا بطروحاتهم في تخديره، وأدرك أن الأفراد الذين يعتقدون أنهم آلهة يجب أن تعبد من دون الله لم يصلوا إلى هذه المرحلة إلا لأنهم وجدوا من يرفعهم فوق قدرهم ..فقرر الناس هذه المرة ألا يعبدوا سوى خالقهم وألا يرفعوا صورة أحد ولا يهتفوا سوى باسم الشعب..كل الشعب دون استثناء لطائفة أو دين..فكلهم شركاء في الوطن..لقد أدرك الشعب أخيراً أنه هو وحده فارس هذا الزمان الوحيد.


الخبر كما نشرته الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2011 21:14

February 2, 2011

حتى قطرات المطر يمكن أن تفتت الحجر


ثلاث مقالات كتبتها في جريدة الوطن عن كارثة جدة العام الماضي عناوينها: (مدن الملح) و (جدة يا وهج الشمس) و (هل نحن حقاً ضد الفساد؟)، كما كتبت تدوينة نشرتها في مدونتي قبل أسابيع بعنوان (سفاري جدة)، فماذا يمكن أن أضيف هنا؟



هل أكتب عن تجربتي الشخصية التي عايشتها على أرض الحدث هذه المرة وعن تجارب الآخرين حولي؟ أأكتب عن والدي الذي أمضى ليلته في المستشفى؟ ليس لأنه كان مريضاً – لا قدر الله – بل لأنه واحدٌ من مئات الآلآف من الأطباء والمعلمين والموظفين وأرباب الأسر الذين توجهوا صباحاً لمقرات عملهم فعلقوا فيها لأكثر من أربع وعشرين ساعة في بعض الأحيان. هل أتحدث عن أخي الشاب الذي كان في مقر عمله ففوجيء ومن معه بالمياه تجتاح المكان وتجبرهم على الفرار؟ هل أحكي بالتفصيل عن مغامرة العودة إلى المنزل والتي ابتدأت في الساعة الحادية صباحاً وانتهت في التاسعة مساء وتخللها القلق والحيرة خاصة بعد أن انقطع اتصالنا به؟ أم أنشر هنا صورة له لدى وصوله المنزل والتي تشبه شخصاً عاد لتوه من الجبهة أو مناجم الفحم؟ هل أحكي عن صديقتي التي حُرمت من طفلها – ابن الخامسة – لثلاثة أيام متواصلة؟ أم عن مصائب الصديقات العالقات والجيران؟


هل أردد القصص المزعجة عن عجز أكثر من جهاز حكومي عن التعامل مع الأحداث كما يجب وترك الناس يواجهون مصيرهم "بالبركة"؟ أم عن فشل وبلادة وسائل الإعلام السعودية وخاصة التلفزيون الرسمي الذي كان منشغلاً -حقيقة لا مبالغة-إما بالزراعة في "فيفا" أو بسباق الخيل؟ هل أتحدث عن الشائعات التي سادت حول عمليات الإنقاذ "بالواسطة" التي تمت في بعض المؤسسات التعليمية النسائية؟ أم أسلط الضوء على مكابرة الأجهزة المعنية لفترة طويلة عن تأكيد وجود ضحايا رغم ما قاله شهود العيان؟ مهما كتبت هنا فسيكون كلاماً مكرراً كتبته أنا أو كتبه غيري..فلا جديد "وسط المطر" حينما يتعلق الأمر بالقصص المأساوية أو تقصير الأجهزة الحكومية، أو حتى المطالبة بالمحاسبة والسؤال عن آخر أخبار – طيبة الذكر- لجنة التحقيق في كارثة سيول جدة، أو الجهود الإغاثية والتطوعية الشعبية..فهل من جديد يبرر هذا المقال إذن؟


الجواب هو نعم..فالجديد هو موقف الناس في جدة مما حصل، في العام الماضي كان الحزن والرعب سيدا الموقف، وبعد أن هدأت الأمطار والعواصف كانت هناك حملة فتية تطالب بتقديم المسوولين للمحاسبة، وتلقت أمانة جدة آنذاك النصيب الأكبر من اللوم والتقريع. اليوم الصورة تتغير تدريجياً، بالطبع لا تزال الناس خائفة وحزينة ولكن يبدو بأن الغضب هو الحالة الأكثر تعبيراً لوصف مشاعر سكان المدينة المنكوبة..الغضب من استمرار ما يعتبرونه مهزلة عاماً بعد آخر دون أن يُقدم شخصٌ واحد للعدالة، وإحساس بالخذلان من الجهات المعنية التي أثبتت التجارب بأنهم دائماً دون مستوى الحدث بغض النظر عن المبررات..فما حدث ما كان يجب أن يحدث..وإياك أن تستفز أحدهم بتحميلك السماء مسؤولية الكارثة..فالمطر نعمة من خالق الأرض والسماء..لكن الفاسدين والمفسدين هم من سرقوا فرحتهم الفطرية به وحولوه إلى قنبلة إنشطارية تدمر الأخضر واليابس.


أو إذا أردت أن تستفزهم أكثر فاكتب مقالاً تلوم فيه المواطن " الفاسد" على سكنه في العشوائيات وطالب الحكومة بأن تصادر أرضه دون تعويض، ولدي ثلاثة أسئلة هنا لأصحاب هذا الطرح: ما الذي يجبر المواطن بالأصل على أن ينشيء بيتاً في حي عشوائي يفتقر للخدمات؟ والسؤال الثاني: لماذا برأيهم يحدث هذا الزحف المجنون إلى المدن الكبرى؟ والسؤال الثالث: هل مخطط أم الخير عشوائي؟ بل هل أحياء الجامعة والحمراء والأندلس وفلسطين -وقد غرقت- عشوائيات؟


أهل جدة انتبهوا أيضاً بأن أمانة مدينتهم ليست سوى جهاز واحد وسط عشرات الأجهزة الحكومية والمؤسسات الخاصة المسؤولة عما جرى..ومن الخطأ والظلم تحميلها وحدها المسؤولية. ففي ظل غياب الشفافية والمحاسبة، وتفشي الواسطات والمحسوبيات، وانعدام التخطيط السليم، وعدم وجود جهة متمكنة لإدارة الكوارث فإن هذا أقل ما يمكن يحصل.


الطريقة الأمثل لقياس حجم الغضب الذي يستوطن قلوب وعقول سكان العروس هو بملاحظة تغلب هذا الغضب على مشاعر الخوف والتحفظ حينما يأتي الأمر لانتقاد المسؤول أياً كان، أصبح الناس يتحدثون بصراحة ولسان حالهم يقول لقد طفح الكيل! وما الذي يمكن أن يحصل لهم أكثر مما حصل؟ حين تتعرض لتجربة مريرة تقف فيها بين الحياة والموت أو حين تفقد حبيباً أو قريباً أو تخسر بيتك وأغلى ممتلكاتك..فما الذي يبقى لتخشى عليه؟


بدأت الأمور الآن بالعودة إلى طبيعتها في جدة، وإن كان ذلك يتم ببطء شديد لمن لديهم مصالح يجب أن تُقضى، وبدأ أهل جدة – لاسيما شبابها – يخرجون من حالة الإرتباك الأولية ويطرحون الأسئلة الصعبة والتي لم تعد لماذا حصل هذا لهم؟ بل لماذا تتجدد هذه المأساة؟ وماذا حصل لشعار محاسبة "كائناً من كان"؟ وماذا يجب أن يفعلوا ليس فقط لإغاثة المنكوبين فحسب بل لمنع تكرر ذلك مجدداً؟


الأجوبة التي ستأتيهم قد تتشابه أو تختلف، لكن الأكيد هو أن حراكاً شعبياً شاباً وضع المطر بذوره العام الماضي بدأت سيقانه تشق سطح الأرض وتبرز على السطح اليوم. قوية هي حبة المطر وقادرة على أن تفتت بهطولها المتواصل قوة الحجر.. ومعظم النار من مستصغر الشرر..قطرة هي اليوم ولكن من يدري فربما تغدو غداً..أو ربما بعد غد..بحر.



المقال كما نشرته الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 02, 2011 04:46

January 26, 2011

دفاعاً عن الطبيبة..دفاعاً عن الشريعة



هكذا إذن..طبيبة المدينة الأربعينية التي رفعت قضية تطالب برفع وصاية والدها وتمكينها من الزواج الشرعي وهو حتى يكافئها نسباً (للمهتمين بنقاء العروق على طريقة هتلر) ولتتمكن من اللحاق بالفرصة الأخيرة لتكون أماً..لم تكن سوى ابنة عاقة تريد الخروج عن طاعة والدها الطيب.

لا لم يشفع لها علمها ولا دينها ولا عمرها ولا استقلالها المالي ولا حقيقة وجود عدة أخوات من نفس الأب في سن الزواج محرومات منه لدى مولانا القاضي ليستفتِ قلبه وعقله والشرع الذي يُفترض أن يحكم به من أجل أن يمنحها هذا الحق الفطري والاجتماعي والديني الذي تتمتع به حتى القطط المشردة.


يقولون بأن للقضية "ملابسات" لا نعرفها، وأن لدى القضاة قرائن نجهلها، وأن الصحف تكذب، وأن هناك حملة تغريبية وعلمانية وليبرالية تستهدف القضاء الإسلامي في بلاد التوحيد، حسناً.. سنصدقكم بشرط أن تشرحوا لنا ماذا يجري هنا؟ اعتبروه من باب تفقيه الناس في دينهم والذي هو -كما درستمونا- فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وكلنا آذانٌ صاغية.


اشرحوا لنا ابتداء إن كنتم تعتقدون بأن المرأة كائن حي ومن صفاته أنه يأكل ويشرب ويتنفس ويتزاوج ويربي صغاره للحفاظ على النسل مثل بقية الكائنات الحية من طائفة الثدييات، فإذا كان الجواب بنعم، فلم إذن تُحرم من هذا الحق دون وجود سبب معقول..بالنسبة لنا نحن الدهماء والعامة على الأقل؟


وضحوا لنا أيضاً كيف تنطبق قاعدتكم المفضلة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" هنا؟ أية مصلحة تتحقق حين يحال بين المرء والطريقة الوحيدة المباحة لإشباع غرائزة في ظل الفساد المتفشي في هذا الزمان كما تخطبون بنا كل جمعة حفظكم الله؟ كما نريد أن نفهم -صدقاً-الحكم الفقهي فيما لو أن إنساناً، بغض النظر عن جنسه، مُنع من الزواج منعاً باتاً ثم أقدم على الفاحشة..هل يُقام عليه الحد؟


سيدي القاضي/الفقيه/العالم/الشيخ/الامام/طالب العلم/المحتسب/ولي الأمر..هل تعلم أن للمرأة أيضاً شهوات ورغبات كما للرجل وأنها لا تتزوج فقط للستر والنفقة ولأنها تحتاج محرماً وسائقاً وُمعَّرفاً وحامياً ولكي تصبح أماً، فهي تريد كل ذلك طبعاً، ولكنها تريد وتحتاج الزواج لذاته أيضاً..جسدياً ومعنوياً؟ فكيف توفقون -يا رعاكم الله- بين مباركتكم لعضل النساء واهتمامكم بتحصين الرجل ومراعاة شهوته بحيث أجزتم نكهات متعددة من الزوجات، بالإضافة إلى الزواج العادي المتعارف عليه، مثل زواجات المسيار والمسفار والفريند والنهاري والليلي والصيفي والشتوي؟ كما أنكم ولا تتوانون – حفظكم الله-عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة الأرضية والفضائية في التذكير بسنة التعدد وكيف أن فيها مصلحة البلاد والعباد..وأن امرأة واحدة لا تكفي لنسبة لا يستهان بها من رجال..فكيف يحق لرجل أن تكون له أربع نساء مراعاة لحالته في حين أن تحرم كثير النساء من أن يكون لها ربع رجل؟


نفهم تماماً بأن المذهب المعمول به في بلاد الحرمين لا يجيز النكاح إلا بولي، ولكننا نعرف أيضاً بأن هذا الولي يمكن أن يكون ظالماً أو سفيهاً أو فاقداً للأهلية، وعدالة الشريعة لم تجعل المرأة أسيرة لأمثال هؤلاء بل أباحت لها أن ترفع للقاضي أمرها فيصبح هو وليها ويسمح لها بالزواج بعد أن يستمع لها ويدرس حالتها، أفلم يكن هذا ما فعلته طبيبة المدينة..كيف صارت "عاقة" إذن؟ ملف القضية بالنسبة لنا (نحن الجهلاء والدهماء والعامة) واضح: امرأة راشدة عمراً وعلماً، وترغب في الزواج، فحرمت منه، وتعرضت لضرب وإذلال، فهربت لدار الحماية التي تقيم فيها رغم إمكانياتها المادية منذ عشر سنوات، وتقدم لها خطاب أكفاء (من نفس قبيلتها واختلاف الفخذ) فلجأت للقاضي تريد الحرية والستر..فلماذا تم الرفض؟ ثم لماذا بدلاً من ذلك تعاقب ليس فقط بضياع بقية عمرها في الوحدة والحرمان وإنما بالحكم بعقوقها (والعقوق كبيرة عظيمة) وبتسليمها لوالدها/جلادها؟


مقالي ربما يُصنف ضمن الحملة المشبوهة ضد القضاء الشرعي، والحقيقة الساطعة هي أن جل من تستفزه هذه القضايا هم أولئك الذين يؤيدون الأحكام الشرعية، ويؤمنون بأن الإسلام دين ومنهج حياة، وهو صالح لكل زمان ومكان، وأنه ليس ثمة دستور أعدل من شرع الله، لأن هذه القضايا تأتي كهدايا على أطباق من ذهب لكل من يريد فصل الدين عن الدولة، ولكل من ينادي بحقوق الإنسان كما رأتها السيدة "إلينور روزفلت" وليس كما قررها نبي الأمة الإسلامية. والحقيقة الثانية هي أن السبب الأكبر لانتشار العلمانية بين بعض المسلمين ليس ضعف الشريعة وإنما ممارسات من رفعوها شعاراً مطاطياً ثم مارسوا باسمها كل أنواع الظلم والفساد والتمييز..أفراداً كانوا أو جماعات.


قضية طبيبة المدينة – فرج الله عنها- ليست إلا حلقة في مسلسل الأحكام القضائية المثيرة للعجب من طلاقات النسب، وفتاة القطيف وأخواتها في المدن الأخرى، وقضايا العنف الأسري، والتي ناهيك عما وقع فيها من ضرر على أطراف القضية، قد فتنت البعض في دينهم، فنحن إذ نكتب عنها لا ندافع عن شخوصها وأفرادها بعينهم فقط وإنما ندافع عن الشريعة الإسلامية التي باتت تُلمز بالنقص والإجحاف من وراء الأحكام الصادرة بقضاياهم، فعلى صفوف المدرسة الابتدائية علمونا حديث تغيير المنكر..فنحن ننكره باللسان..فمن يملك تغييره بالفعل؟


المقال كما نشرته جريدة الوطن السعودية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2011 00:43

January 18, 2011

ولا بد لليل أن ينجلي ..

ما حدث في تونس الخضراء هو حدث استثنائي بكل المقاييس.. لجيلنا الشاب على وجه الخصوص، فهو لم يشهد أية ثورة قبلاً ولم يعرف أي انقلاب. التغيير الوحيد الذي خبره كان لنظام ديكتاتوري مثل النظام الصدامي السابق وتم بواسطة جندي من الخارج له أجندته الخاصة التي ليست لها علاقة بمصالح المواطن العراقي، جاء وعينه على النفط وقلبه على الكيان الصهيوني. بل إنه قد سام – ولا يزال- الشعب العراقي سوء العذاب، ودمر اللحمة الوطنية، وفوق ذلك فشل بامتياز، رغم مرور سبع سنوات على الاحتلال، في تحقيق الأمن أو العدالة أو الرخاء أو الاستقرار السياسي والتصالح الوطني. ولهذا السبب فالنموذج العراقي للتحرر والديمقراطية بالنسبة للشباب العربي يمثل أسوء ما يمكن أن يحصل لقُطر عربي، ولهذا فإن النموذج التونسي قد جعلهم يدركون أن إرادة الشعوب قادرة فعلاً على صنع المعجزات.. من قال بأن زمانها قد ولى؟

الجميل في الانتفاضة التونسية هو عفويتها وطهرها، فهي تطور طبيعي للأحداث التي سبقتها، لم يخطط لها حزب بعينه أو فصيل بذاته، لم تصبغها أيديولوجيا من أي نوع، لم يُنظّر لها معارضون مترفون من لندن وباريس وواشنطن، لم تحرض عليها قناة معارضة مشبوهة ولا إذاعة غوغائية تبث من وراء الحدود، ليس لها رموز ولا قادة ولا شيوخ ولا مرجعيات، ولم ترفع شعارات رنانة دبجها منتفعون. للثورة بطل واحد فقط اسمه محمد البوعزيزي..الرجل الذي أحرق نفسه ليشغل الضوء في ظلام وطنه..الرجل الذي مات فأحيا – بأمر الله – شعباً بأكمله.

صفعة مهينة من شرطية لبائع خضرة لأنه رفض أن يزيح عربته تم تعزيز إهانتها بسلطة باركت الفعل ولم تنتصر للشاب العشريني، كانت السبب في أن تزيح عرش سلطة مطلقة كانت متنكرة في ثياب جمهورية على طريقة "الجمولوكيات" العربية. فليس الجوع وحده سبب قيام الثورات، إنما امتهان الكرامة أيضاً، إنه إحساس المرء بأنه لا يملك من الأمر شيئاً، وبأن الموت يستوي مع الحياة..من قال بأنه بالخبز وحده يحيا الإنسان؟

الشباب العربي لا يطالب هذه الأيام بالخبز بقدر ما يطالب بالمحاسبات المالية والشفافية والمساواة وحرية التعبير والتمكين من المساهمة في تنمية الأوطان.

فإن تحقق كل ذلك، ومع وجود الثروات الطبيعية الهائلة في الأقطار العربية فإن مشكلات البطالة والإسكان والفقر ستجد لها حلولاً، فدول أوروبا رغم كثرة عدد السكان ورغم رأسماليتها إلا أنها توفر نظاماً اجتماعياً معيشياً ممتازاً لسكانها من مواطنين ومقيمين شرعيين ولاجئين. فواجبات الدولة كما المواطن واضحة كالشمس، وحين يخل أحد الطرفين بها فإن النظام قادر على تصحيح المسار حتى يعود للعلاقة شكلها الأول. فالقانون يلزم المواطن كائناً من كان بدفع الضرائب ويعاقبه بشدة لو تهرب منها، والديمقراطية تسمح للفرد أن يغير الحكومة التي أخلت بالتزاماتها نحوه.

يقدم الكثيرون النصائح للتونسيين الآن، خاصة من الكتاب العرب الذين يبدو موقف بعضهم مما حصل في تونس مريباً، فهذه المرة لا توجد يد دولية أجنبية أو تدخلات إقليمية تبرر التحفظ على التغيير الذي حصل، ربما أن لديهم موقفاً ما من الثورات عموماً وهذا أمر يمكن فهمه، فالثورات ليست دائماً الحل الأنجع، والنموذج التونسي لا يصلح للاستنساخ، فله تركيبته السكانية الخاصة وظروفه السياسية المميزة، وقد وصل الشعب هناك إلى منطقة اللا عودة. أو ربما يبررون ذلك التحفظ بالخوف من الانفلات الأمني وهذا حق..ولكنه ضريبة كل تغيير، والوضع في تونس لم يخرج عن السيطرة، والجيش أخذ موقعه ليحفظ الأمن والخسائر البشرية قليلة بحمد الله بالنسبة لحجم الحدث. فهل ينحاز هؤلاء المثقفون فعلاً لخيار المواطن أم لمن يحكم هذا المواطن؟

أصحاب الأيديولوجيات أيضاً لهم كلمة هنا، فالإسلاميون يحثون أهل تونس على العودة لشرع الله واختيار من يطبق هذا الشرع، وهذا مفهوم ولكن ألم يكن بعضهم بالأمس فقط يطبلون للنظام المخلوع ويمدحونه ويحذرون من مغبة الخروج عليه؟ وهؤلاء لهم مواصفاتهم الخاصة الضيقة لمن يجب أن يتولى زمام تونس. أما الليبراليون الذين طالما تباكوا على الحريات وحق الشعوب في تقرير المصير جل همهم الآن ألا تتأثر العلمانية ومكتسباتها في تونس، ومواصفاتهم في الرجل القادم هي ألا يشبه في شيء الرجل الذي تريده الفئة الأولى، بل بعضهم يصل في أحلامه بأن لا يجعل الدين الإسلامي شرطاً للرئاسة في بلد تصل نسبة المسلمين فيه إلى ٩٩٪، وينص دستوره "الوضعي" على الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد..حتى أمريكا وأوروبا لا يمكن أن ترضيا بحاكم غير مسيحي ولو بالاسم، ها هو الرئيس أوباما ما زال يعاني من استغلال خصومه لاسمه الأوسط "حسين" لوصمه بالإسلام الذي يضطر للتبرؤ منه والتأكيد على مسيحيته.

يا أهل تونس أنتم لا تحتاجون نصائح أحد، فلا تصغوا لهم كثيراً، تونس عروسٌ رفعتم الحجر عنها وآن للخُطاب أن يتقدموا لها، فزوجوها فقط لمن تتيقنون بأنه سيصون عرضها ويحمي شرفها ويرعى أولادها..ففدية فك أسرها كانت غالية جداً..كانت روح محمد البوعزيزي رحمه الله وغفر له.


المقال كما نشرته الوطن













 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 18, 2011 21:20

January 11, 2011

مهن الظل المنسية!

وأعني بمهن الظل تلك التي يزاولها أصحابها بشكل نستطيع أن نصفه بأنه غير رسمي مع الإقرار بعدم وجود قرارات إدارية تعنى بهذا النوع مع العمل التجاري. ولغياب هذا التنظيم عدة أسباب، لعل من أبرزها في بعض الحالات أننا لا نريد الاعتراف بوجود هذه المهن ولا أصحابها، مع أننا جميعاً نستفيد منهم، ونتعامل معهم بشكل يكاد يكون مستمراً.

هناك أمثلة عديدة يمكن أن تُطرح حين يأتي الحديث عن مهن الظل هذه، أحد أمثلتها هي الدروس الخصوصية التي للأسف تتفشى حالياً لدى الطلبة من الحضانة وحتى الجامعة.. وتلك قضية أخرى.

أيضاً، لما كان عمل المرأة لا يزال قضية شائكة نتشاكس حولها كل يوم على صفحات الصحف، فإنه ليس من الغريب أن تحتل نصيب الأسد من مهن الظل هذه. فهناك مثلاً المغنيات أو ما يطلق عليهن "الطقاقات" في بعض المناطق، أو "اللعابات" في مناطق أخرى، أو "المنشدات" لدى فئات معينة في المجتمع. وإن اختلفت المسميات يظل نوع العمل واحداً وهو الترفيه عن المدعوات في الأفراح والليالي الملاح، سواء كان ذلك باستخدام الدفوف أو بالعزف على آلة "الأورج"، وسواء غنت المغنية (أبكي علي ما جرى لي) أو غردت المنشدة (يا طيبة)..، وجودهن واقع لا يكاد يخلو منهن حفل. وهناك أيضاً المزيّنات اللاتي يأتين للبيوت لتقديم خدمات تجميلية وترفيهية متنوعة، بالإضافة إلى النساء اللاتي يعملن من بيوتهن لتقديم المأكولات والحلويات المختلفة، ومعهن العاملات في مجالات لف الهدايا ولوازم الأفراح وتجهيزاته المختلفة، بل صار لدينا مؤخراً سيدات مستقلات يتولين إدارة تنظم الحفلات أو ما يعرفن في العالم الغربي بـ(Wedding Planner).

لا يوجد نظام ضريبي في بلادنا، ولا يوجد نظام يُلزم هؤلاء الناس الذين يعملون في الظل بأن يسجلوا نشاطهم لدى أي جهة، وبالتالي لا توجد أي رقابة على ما يقومون به ولا على الخدمة التي يقدمونها، ولعدم وجود عقود في الغالب بالرغم من أننا نتحدث عن معاملات تجارية قيمتها آلاف الريالات، فإنه ليس ثمة قانون يحمي أصحابها ولا يحمي الناس منهم.

فماذا لو أن المدرس الخصوصي مثلاً لم يحضر الدرس الأخير قبل موعد الامتحانات؟ أو لو أن الطالب لم يقم بعد نجاحه بتسديد كامل المبلغ؟ هل يشتكي أحدهما الآخر في قسم الشرطة مع علمهما بأن الدروس الخصوصية مخالفة للنظام بالأصل؟

وماذا يحصل حين تمتنع المغنية عن إمتاع الجمهور في ليلة فرح تكلف أهلها الكثير فيها؟ ومن الذي يحدد أصلاً إذا ما كانت هذه السيدة تملك حنجرة صالحة للغناء وأن صوتها لا يمكن اعتباره من الضجيج الملوث للبيئة؟ وهل هناك معيار يحدد ما هو الثمن الذي تستحقه هذه المطربة أو تلك؟ الأسعار تتفاوت ما بين ألف إلى أربعين ألف ريال في الليلة (فيما أعلم). بل ماذا باستطاعة أهل العرس أن يفعلوا فيما لو امتنعت الفرقة عن بكرة أبيها عن الحضور ليلتها؟ هل بوسعهم أن يرفعوا قضية ضدها أمام محكمة شرعية يرى جل قضاتها بأن الغناء حرام أصلاً؟ هل نحتاج إلى نقابة أو جهة مسؤولة عنهن؟

وبالنسبة للعاملات في مجال التجميل، من يضمن بأن المواد التي يستعملنها مثل الصبغات والكريمات صالحة للاستخدام ولن تتسبب بأية أضرار للبشرة؟ وفيما يتعلق بالعاملات في مجال المأكولات.. ماذا يحصل لو أصيب أحدهم بالتسمم الغذائي نتيجة استخدام مواد منتهية الصلاحية؟

في المقابل أيضاً، هل يملك البائع أية حقوق فيما لو أخل الطرف الثاني (المشتري) بالعقد "الشفهي" ولم يعطه قيمة أتعابه؟

إن استمرار بل وتكاثر هذا النوع من المهن رغم كل هذه المخاطر والمجازفات من قبل الطرفين يعكس شيئاً إيجابياً هنا، وهو التزام الكثير من الناس بهذه العقود الشفهية، وذلك عائد لأسباب دينية وأخلاقية وليس التزاماً بالقانون ولا خوفاً منه. ذلك أمر جيد، ولكنه قطعاً لا يمكن الركون إليه وحده في عالم المال والأعمال وفي المعاملات الدنيوية بين الناس. فحتى لو عدنا للجانب الشرعي، سنجد أن الإسلام يحث على الصدق والأمانة ويحرم التدليس والظلم والسرقة، ولكنه في الوقت نفسه يقيم نظاماً عقابياً لمن يثبت قيامه بالمخالفة، وهناك تشديد في مسألة توثيق العقود بأنواعها كتابياً سواء في التجارة أو الدين أو الوصية.

لا شك أن تكاليف الحياة كثيرة وأن طلب الرزق الحلال أمر مطلوب ومرغب فيه، ومع شح الوظائف أو عدم ملاءمتها لظروف الإنسان، فإن المرء سيبحث عن مجالات أخرى للدخل، لا سيما إذا كان صاحب حرفة أو هواية أو ملكة ما تتيح له أن يحقق مكاسب ممتازة من عمل يحبه ويجيده، وهذا الأمر أوضح ما يكون حين يتعلق بالمرأة، التي لديها من العوائق ما يجعل فكرة العمل من بيتها ملحة. فهناك المسؤوليات الأسرية، وصعوبة المواصلات، وضيق مجالات العمل، وعدم موافقة ولية الأمر، والقناعات الدينية، وبالتالي فتشجيعها للعمل من بيتها أمر مطلوب. لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو هل يمكن القيام بذلك وفي الوقت نفسه تلافي السلبيات التي قد تقع؟

العاملون في المجال الاقتصادي أو التجاري هم الأقدر على الإجابة عن هذا السؤال، وأنا واثقة بأن الجواب سيكون بنعم. وحينما يكون هناك نظام ـ على علاته ـ فإنه يمكننا أن نعمل من خلاله أو نطوره، لكن حين يغيب النظام من الأساس فإننا سنبقى في المربع الأول.. تائهين لا نعرف بأية اتجاه نمضي.


المقال كما نشرته الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2011 22:48

January 8, 2011

سفاري جدة


فيلم دعائي باحترافية عالية، اُستخدمت فيه أحدث تقنيات الجرافيكس الرقمية، انتجته أمانة جدة لتحملنا معها عشرين سنة إلى الأمام لنلقي نظرة على المدينة

الحلم. شاهدتُ الفيلم (كيف تكون جدة عام 2030) على موقع (اليوتيوب) حتى النهاية، وللحظة ما من عمر الزمن أردت أن أؤمن..أردت أن أصدق بأن ما أراه هنا خطة علمية مدروسة لمدينتي التي أعشق وسترى النور ذات يوم. وحين انتهى الفيلم ألقيت نظرة فاحصة على كل ما كُتب تعليقاً على هذه الدعاية من جهاز حكومي هو أمانة مدينة جدة، فلفت نظري هذا الكم الهائل من اليأس والحباط وعدم الثقة، وهي أمور ظهرت في شكل سخرية مريرة من الفيلم ومن بعض المشاريع الموعودة فيه. بعض التعليقات اللاذعة جعلتني أتعجب فمنذ متى أصبح السعوديون أصحاب نكتة على هذا النحو؟ يقولون النكات هي وسيلة لينفس المرء عن احباطاته وهمومه، وهي تزدهر عادة لدى الشعوب التي تعاني من أزمات متتالية في ظل يأس شعبي من إمكانية تغير الأوضاع السيئة ومحدودية القدرة على النقد الصريح، فتأتي النكتة اللاذعة لتقدم النقد مواربة، فلعل الضحكة تكون طوق الأمان من الوقوع في المتاعب. فهل وصل سكان جدة إلى هذه المرحلة؟



ماذا كان يمكن نتوقع من أهل مدينة كانوا يعتقدون بأنهم يعيشون في عروس البلاد وواجهتها العالمية فإذا بهم يفيقون ذات أربعاء حزين على كارثة غرق مدينتهم التي استحالت إلى فينيسيا الصحراء، ليس بسبب كارثة طبيعية بالمقام الأول وإنما لأن مشاريع تصريف مياه الأمطار كما مشاريع الصرف الصحي، بتلك الميزانيات الضخمة، لم تصمد أمام أول اختبار حقيقي؟


كيف نطلب من هؤلاء الذين باتوا يحلمون فقط بأن يتحقق لهم الأمان من الموت غرقاً في شوارع مدينتهم، والأمن واحد من أبسط ضرورات الحياة ومتطلبات العيش في تجمع حضاري مدني، أن يصدقوا بأن مدينتهم ستتحول إلى جنة عدن الأرضية كما تبشر بذلك الأمانة في فيلمها؟ تلك الخضرة الباهرة التي ستلف شوارع العروس حتى ليظن المرء أننا في مراعي نيوزيلندا، وتلك الشلالات التي تنافس غابات الأمازون، بل وأكثر من ذلك تلك السفاري المدهشة التي لا يضاهيها سوى سفاري كينيا الطبيعية..رحم الله منتزه الأنعام الجميلة!


وأضف إلى ما سبق المشاريع الثقافية والعلمية والتجارية والسكنية ومشاريع القطارات والمواصلات العامة التي من الصعب تخيلها مادام البصر الذي يجيل النظر في جدة لا يرى سوى شوارعاً مصابة بالجدري، ومادامت خلايا الشم في الأنف تزكمهاالروائح الكريهة، ومادامت النفس تصاب بالدوار من كثيرة الاختناقات المرورية.


وعلى افتراض بأن هذه الخطط قابلة للتطبيق، وأنها مدروسة ولها جدول زمني وميزانية، فهل سترى النور فعلاً ولو بعد عشرين سنة؟ كم عدد المشروعات في جدة بشكل خاص والبلاد بشكل عام، التي أُعلن عنها بشكل مكثف وضخم، ثم لم يسمع بتنفيذها أحد؟ أو التي وصلت تكلفتها إلى أربعة أضعاف ما تستحق أو أكثر؟ دعونا لا نغرق في التفصيلات حتى لا يتشعب الحديث، لكن الإجابة على عجالة هي أكثر مما ينبغي، والنتيجة الحتمية لذلك هي حالة فقدان الثقة التي تفشت عند الناس إلى الدرجة التي بات إقناعهم بوجود شيء إيجابي حقيقي حولهم مهمة بالغة التعقية والصعوبة. فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولكن أهل جدة يواجهون وللسنة الثانية علي التوالي مياه الأمطار بصدور عارية، ولازال شهداء العام الماضي ينتظرون العدالة التي اغتربت طويلاً.


لو سألت واحداً من أهل جدة عن مشاعره اليوم تجاه المطر لقال بعفوية: "أعوذ بالله..صلي على النبي يا شيخ..إن شاء الله ما تنزل مطره!" في حين أن أسلافه كان يفرحون به ويهتفون" خير..خير" حين تلوح الغيوم السوداء في الأفق، فمن سرق منهم فرحة ابن الصحراء البدائية بغيث السماء؟ من حوّل المطر من مهرجان سنوي للعب الأطفال في الهواء الطلق إلى بعبع يخشاه حتى الكبار الذين سيفرضون حظر التجول على أسرهم وقت هطوله؟


أهل جدة يا أمانتنا الموقرة تواضعت أحلامهم كثيراً، لم يعودوا يحلمون بأن تتعافى المدينة من جدري الاسفلت، ولا أن تختفي رائحة العفن التي تفوح من البحر والبحيرات، ولا حتى أن يصبح لديهم حدائق ومتاحف ومراكز ثقافية تليق بمدينتهم العريقة بوابة الحرمين وعاصمة البلاد التجارية، اليوم حلمهم الوحيد هو أن يشعروا بالأمان على أرواحهم وأرواح من يحبون، والأمن على ممتلكاتهم التي وضعوا فيها تحويشة العمر من منازل وسيارات ومحلات تجارية..أعطوهم ذلك وسيعدونكم بأن لا يسألوا أبداً عن ماذا حل بسفاري جدة الموعودة.



-هذه هي النسخة الثانية المعدّلة من المقال

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 08, 2011 03:10

December 28, 2010

عامان على ذكرى المجزرة

أكتب مقالي هذا في صبيحة يوم السابع والعشرين من ديسمبر، وكنتُ قد نويت الكتابة عن موضوع محلي مختلف تماماً، حتى تذكرت ماذا يعني هذا التاريخ .. فما أسرع ما تغرق الذاكرة العربية في النسيان! فاليوم يصادف الذكرى الثانية لمجزرة غزة، أجل الذكرى الثانية ..لا.. ليست الخمسين ولا الستين ولا السبعين..حدث هذا بالأمس فقط، أنا وأنتم – قراء هذه السطور- كنا موجودين على ظهر هذا الكوكب حين وقعت هذه الأحداث وتابعناها – البعض رغماً عنه – عبر الشاشات الفضائية والأرضية، وعبر الأثير الإلكتروني الرحب، وغردنا بشأنها على تويتر وتبادلنا الروابط على الفيسبوك والبريد الإلكتروني، وكتبنا مئات المقالات على الصحف الورقية والمدونات الشبكية، وبعضنا – حيث سمح الزمان والمكان – خرج في الشوارع ليتظاهر مطالباً العالم فقط بأن يواجه نفسه في المرآة إن كان يجرؤ على ذلك! ومتسائلاً بمرارة كيف تسمح البشرية التي شبت عن الطوق، وأدركت فظائع الاحتلال وحق الشعوب في تقرير المصير باستمرار هذه المجزرة المهزلة لشعب صغير أعزل يحاصر ويجوع وتمطره البوارج والمدافع والدبابات بنيران حارقة وبأسلحة محرمة دولياً لتجبره على أن يغادر أرضه ويُسلّم شرفه؟

ما حصل في غزة قبل عامين بالضبط لا يمكن أن نطلق عليه سوى مجزرة .. وهي مجزرة استمرت لاثنين وعشرين يوماً قتل فيها أكثر من ألف وأربعمائة مواطن فلسطيني، وجرح أكثر من خمسة آلاف، وذلك بدعوى استهداف مسلحي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، في حين أن الواقع يقول بأن معظم هؤلاء الضحايا كانوا مدنيين..طلاب مدارس وجامعات..نساء وأطفالا..آباء وأولياء أمور بالكاد يجدون الخبز اليومي لأسرهم في ظل الحصار الظالم..أسر بأكملها قُضي عليها مرة واحدة. حجم الكارثة كان كبيراً لدرجة أن منظمة الصليب الأحمر الدولي نفسها تظاهرت ضد إسرائيل، فمستشفيات غزة فاضت بمن فيها. بل إن إسرائيل قصفت حتى مدارس ترفع راية الأمم المتحدة. فالعدوان كما الحصار يستهدفان بالأساس الشعب الفلسطيني كعقاب له على ما يبدو على خياره السياسي الحر، وأيضاً لأن المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي هدفه إخلاء الأرض العربية سواء تحقق هذا بالتهجير أو الإبادة فكل الطرق تؤدي إلى روما..أو إلى القدس.

ما جدوى الكتابة عن غزة اليوم؟ هل هذه لطمية" فش الخلق"؟ هل هكذا هم العرب يحبون البكاء على الأطلال بدلاً من التركيز على قضايا التنمية القُطرية وعلى المشكلات المحلية؟ ألم ينته زمن الشعارات؟ ألا يجدر بالكاتب أن يبتعد عن هذه القضايا" المزعجة"ويكتب عما ينفع وطنه أكثر ولا يورطه في المشكلات أو التصنيفات:عروبي..قومي..إسلاموي..راديكالي..أصولي..أو ما هو أسوأ من ذلك..إرهابي؟

ابتداء ليس العرب وحدهم من يحيون ذكرى مصائبهم، بل لعلهم في ذلك أقل بكثير من غيرهم، فها هو عدوهم المباشر لا يزال يقتات من مجزرة الهولوكست ويبتز دول أوروبا بعد مضي أكثر من خمس وستين سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولا تكاد تخلو عواصم أوروبا وأمريكا الهامة ومدنها الرئيسية من متحف يذكر بفظائع النازية وجريمة العداء للسامية التي يراد لها أن تترسخ في الذهنية العالمية كأبشع جريمة إنسانية. هذا بالرغم من أن تلك المأساة انتهت، والمسؤولين تمت مطاردتهم ومحاكمتهم، بل لا يزال بعض الجنود والضباط الصغار الذين عملوا في معتقلات النازية يُطاردون دولياً حتى اليوم لتقديمهم للمحاكمة رغم أن أعمارهم تجاوزت الثمانين..فالحق لا يموت. فلماذا حين يتحدث العربي أو المسلم عن مأساة لا تزال قائمة، ومجزرة لم تجف دماء شهدائها يصبح غوغائياً ومضللاً ورجعياً؟

كانت حرب العاشر من رمضان ١٣٩٣هجرية المعروفة بحرب أكتوبر/ تشرين ١٩٧٣م..آخر الحروب التي شاركت فيها الجيوش العربية قبل أن يتم تحييدها، وفي ظل غياب الخيار العسكري الرسمي من الخارج، واقتصار المقاومة الداخلية على أهل فلسطين بسبب إغلاق الحدود، باتت الخيارات أمام الإنسان الذي يريد أن يناصر فلسطين من أي جنس أو ملة محدودة جداً، وتتفاوت بشدة ما بين دولة وأخرى. والمثير للعجب هنا أن هذه الخيارات أكثر تنوعاً وتأثيراً في الدول الغربية نفسها، في حين تتقلص كثيراً في الدول الشقيقة التي تتشارك مع فلسطين في التاريخ واللغة والدين والجوار والمصالح المشتركة كما تعلمنا ذات زمن جميل في حصص الجغرافيا. ففي الوقت الذي كان يخيم فيه عشرات النشطاء الإنجليز أمام مبنى وستمنستر البريطاني العريق في لندن في أجواء برودة تدنت إلى ما دون الصفر دون أن ينهرهم أفراد الشرطة الذين يحرسون المكان، كان هناك أكثر من رئيس تحرير صحيفة عربية يشطب جملة هنا أو يحجب مقالاً هناك لأنه ينادي بحق فلسطين أو يحذر من مغبة التطبيع!

مقاومة التطبيع والمقاطعة هما آخر أسلحة الإنسان الذي يرغب ليس فقط في دعم فلسطين وإنما في أن يحمي إنسانيته من أن تتعرض هي بدورها لمجزرة، فحين تبرر مصافحتك لقاتل، أو أنسك مع مغتصب، أو لعبك مع عصابة من اللصوص، بدعوى أنه لا يجب خلط الأوراق، أو حين تعتقد أن شراءك لمنتج كمالي ما من شركة تعرف تماماً بأنها أول من يستثمر في المستوطنات، أو يدعم الكيان الصهيوني بأي شكل من الأشكال، حين تفعل أياً من هذه الأمور فأنت لم تقف على الحياد، بل قد اخترت أن تنحاز للظالم ولو رمزياً، وحين تنحاز للظلم وأهله فإنك كإنسان تبدأ بالتحلل داخلياً.. فلن يموت جسدك لكن لن يبقى لك سواه.. سامحينا يا غزة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 28, 2010 22:55

December 20, 2010

القادة .. يولدون أم يُصنعون؟

هذا السؤال القديم تجدد في بريطانيا مؤخراً بعد أن ترشح الأخوان (ديفيد وإدوارد ميلاباند) لرئاسة حزب العمال وفاز إدوارد على شقيقه، الذي يبكره عمراً وخبرة سياسية. أربع سنوات عمرية تفصل أحدهما عن الآخر وسوى ذلك فقد سارا في الطريق نفسه تقريباً. فقد ارتادا نفس المدارس ونفس الجامعة (أكسفورد) ودرسا نفس التخصص، والتحقا بنفس الحزب، واختارا نفس المهنة: السياسة. ثم قررا أخيراً هذا العام أن يتنافسا على نفس المنصب القيادي في حزب العمال، الذي انتقل للمعارضة بعد خسارته الانتخابات الماضية. فإذا افترضنا بأننا أمام شخصين: لهما جينات متشابهة، وتربيا في بيئة واحدة، وقدِّم لهما مستوى تعليمي متطابق تقريباً.. فلماذا فاز الثاني على الأول؟ ما الذي جعل الناخب يرى أن مستقبل الحزب يحتاج قائداً مثل إدوارد وليس ديفيد؟



ابتداءً من هو القائد؟ القائد في المعركة أو المؤسسة أو الجماعة أو الأمة هو ذلك الشخص الذى لديه القدرة لمعرفة ماذا يريد (أو يحتاج) من حوله، ولديه رؤية واضحة عن كيفية إيصالهم إلى وجهتهم. فهو يعرف الطريق ويسير فيه ويقود الآخرين معه. هو ذلك القادر على أن يقود من حوله من خلال أفعاله، وله القدرة على إبراز طاقات كل فرد في الجماعة بما يحقق المصلحة العامة لها. فالرئيس في عالم اليوم ليس بالضرورة هو القائد، فللقادة صفاتهم الخاصة..فهل يولدون بها؟





حيّر هذا السؤال العامة كما علماء النفس والإدارة زمناً، فهناك من يعتقد بأن المرء يولد بهذه المميزات سواء بالاستعداد الفطري أو الوراثة، ويضربون أمثلة بغاندي أو بيل غيتس على اعتبار أنهما وُلِدا لأبوين محاميين. وآخرين يعتقدون أنها مكتسبة ويضربون أمثلة بقادة تاريخيين من خلفيات أسرية وتعليمية متواضعة مثل إبراهام لنكولن. وتقول بعض الدراسات أن الجواب الأقرب للدقة هو: أنهم يولدون ويصنعون، الأول بنسبة الثلث والثاني بنسبة الثلثين. وحينما نتحدث عما تعلق بالولادة لا نتحدث عما يكتسبه المرء من أبويه (وتأثير ذلك ليس هيناً) بقدر ما نتحدث عن جملة صفات وطبائع يتمايز بها الناس عن بعضهم. فصفات مثل :الجرأة، والذكاء الاجتماعي، والاستعداد لأخذ المبادرات، والاهتمام بالآخرين، والقدرة على إظهار هذا الاهتمام بشكله الصحيح، أمورٌ نلاحظ أنها تبدأ بالبروز عن أشخاص بعينهم منذ الطفولة، لكنها دون تشذيب لا تصل بصاحبها إلى دفة القيادة. فالمرء يحتاج إلى أن يوضع في تجارب حقيقية أو تخيلية (محاكاة) من أجل تحفيزها وصقلها، وهو هنا مخير في أن يقدم بشجاعة على تلقي هذه الدروس التي تهبها الحياة أو حتى عبر الدورات التدريبية وبين أن يؤثر السلامة والراحة.


وعودة إلى الأخوين ميلاباند، فقد فاز إدوراد ربما لأنه ظهراً جريئاً وواثقاً في حملته الانتخابية، ولأنه راهن على قيادات النقابات العمالية الكثيرة في بلاده، فقد استمع لمشكلاتهم وحاورهم واستطاع أن يظهر كشخص متفهم بصدق لمتطلباتهم في المرحلة المقبلة وقدَّم تصوراً مقبولاً لهم عن كيفية الوصول إليها..فلم يكن غريباً إذن أن يختاروا الشخص الذي سيأخذهم معه إلى هدفهم قائداً لهم.


هل تريد أن تكون قائداً؟ إذن اخرج من منطقة الراحة وتعلم كيف يتصرف القادة مع من حولهم.


المقال في القافلة الأسبوعية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 20, 2010 23:20

December 8, 2010

وما دخل السياسية والدين في الرياضة يا عالم؟

هكذا إذن .. فازت الشقيقة قطر بشرف إستضافة مونديال ٢٠٢٢ الكروي، محققة بذلك سبقاً عربياً وآسيوياً كأول دولة تفوز بهذا الشرف منفردة. ومما زاد في حلاوة النصر هو أن المنافسة كانت مع دول مثل الولايات المتحدة وإستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. أفلا يحق لنا كعرب أن نفرح؟ ألا يعتبر هذا نصراً مؤزراً للمسلمين على أمريكا كما صرح فضيلة الشيخ القرضاوي من دوحة الخير؟! لماذا نسمع هذه الأصوات النشاز التي تعلن عدم سعادتها بالفوز القطري؟ هل هو الحسد والغيرة من إنجاز كبير لدولة صغيرة في حين فشلت دولة عربية كبرى قبل أعوام؟ لماذا يحشر البعض موضوعاً سياسياً هنا؟ ألا يحق لنا لعالمنا العربي المنكوب أن يعيش لحظات من الفرح بعيدآً عن قرف السياسة وشعاراتها البالية؟



كانت هذه جملة من الأسئلة التي طرحها من أسكرتهم لذة النصر، ولأن الغالبية كانت مهللة لهذا "الإنجاز"، فقد حان الوقت ربما لنسمع للطرف الآخر. لتلك الأقلية التي لم تشارك في الحفلة، لأنها رأت في الفوز القطري تعدياً على ثوابت الأمة الصامدة رغم كل معاهدات السلام، وهو ثابت عدم التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني. فقلوب الجميع كانت مع قطر حتى عُرضت تلك اللقطة من ملف التقديم والتي يظهر فيها طفل يقول بأنه لو تأهلت إسرائيل لكأس العالم في قطر فستكون فرصة ليأتي المشجعون للدوحة ليتعرف العرب والإسرائيليون على بعضهم البعض..وبعدها يظهر مشهد لطفل اسرائيلي وعربي يلعبان الكرة! وما أستغربه أن وسائل الإعلام التي تتصيد مجرد تواجد مسؤول عربي في ممر من ممرات الأمم المتحدة وقت مرور الوفد الإسرائيلي لتنشره على صدر صفحتها الأولى، أو تبثه في مقدمة نشرتها الإخبارية، متهمة دولته بخيانة القضية الفسطينية، لم تعلق على هذا الأمر الخطير ولو لمماً! وجريدة القدس العربي هي أول من ينطبق عليها هذا الوصف، فلو كان الحديث عن السعودية أو مصر لكان عبدالباري عطوان قد دبج افتتاحية عصماء تتحدث عن الدم العربي الذي بيع لأجل كرة من الجلد..فسبحان من يغير ولا يتغير!



هل نحن حقاً ينقصنا معرفة بجيراننا اللطفاء؟ لا أظن ذلك، فنحن نعرفهم جيداً..نعرفهم في دير ياسين وقانا..نعرفهم في مدرسة بحر البقر المصرية..نعرفهم في حريق المسجد الأقصى..نعرفهم في محمد الدرة الذي قتل في أحضان والده وأمام عدسات المصورين..نعرفهم في جسد الرضيعة إيمان حجو الذي اخترقته الرصاصات الغادرة..نعرفهم في عدوان غزة..ولا نريد أن نعرف المزيد.



بالأمس..كانت تستخدم ورقة التطبيع لتحقيق مكاسب سياسية وحث إسرائيل أن تعطينا شيئاً من فتات أرضنا، اليوم تواضعت أحلامنا كثيراً، صارت ورقة التطبيع تستخدم للفوز "بشرف" استضافة بطولة رياضية. الفوز القطري رغم قوة منافسية، ورغم كل ما أثير عن صغر حجم البلاد، وعدم توفر البنية التحتية اللازمة، وارتفاع درجة الحرارة، وكون سجل منتخب البلاد يخلو حتى من منجزات على صعيد المنطقة أو القارة، يجعل من الصعب على الكثيرين أن يقرؤا الإنجاز القطري خارج سياق قضية التطبيع. وسواء تأهلت إسرائيل أم لم تتأهل..فإن الخطورة تكمن هنا في هذه السنة السيئة التي تجرأت عليها دولة عربية، وهي التلويح بورقة التطبيع للحصول على مكاسب قُطرية. فغداً حين ترغب دولة بالفوز باستضافة دورة أو مؤتمر لن يكون من المستغرب أن تحذو حذوها، وهكذا نكون قد خذلنا فلسطين وحرقنا ورقة تفاوضية مهمة. من المسلم به أن السياسة هي فن الممكن، وأن لكل دولة خطوط حمراء قد تضطر للتنازل عنها تحت ضغوط شديدة، لكن أن يحصل ذلك من أجل أمر لا يراه الكثيرون ضرورياً فتلك مصيبة.



العالم الغربي لن يأتي إلى منطقتنا ليتعرف على بلادنا ويجرب العيش ضمن قيم مجتمعنا كما نفعل نحن حين نسافر لبلدانهم، وإنما سيأتي بقيمه إلينا وعلينا نحن التكيف معها. فهاهي المطالبات تتوالى للحصول على ضمانات بأن استهلاك الكحول سيكون في قطر كما هو الحال عليه في الغرب، ومطالبات أخرى لضمان عدم التعرض للمثليين في الأماكن العامة، وأن لا يُطلب من النساء مراعاة أية ضوابط في اللباس. وقد يقول البعض بأن علينا أن نفصل السياسة والدين عن الرياضة، وإلا عشنا في عزلة دولية، فهل نحن وحدنا فعلاً من نعيش أسرى الماضي وأوهام الشعارات والمباديء؟



راقبوا مباريات المنتخب الانجليزي مثلاً مع المنتخب الأرجنتيني والشحن النفسي الذي يسبقها بحيث يشوش كل منهما على تحية العلم للآخر بسبب حرب الفوكلاند في الثمانينات، بل استمعوا إلى تصريحات الرئيس أوباما على الفوز القطري. أو اشرحوا لنا لماذا إذن تم استثناء العراق من المشاركة في بطولة كأس الخليج منذ العام ١٩٩٠ وحتى سقوط نظام صدام حسين في ٢٠٠٣؟ ولماذا قاطعت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وحلفاؤهما الدورات الرياضية التي أقيمت في موسكو ولوس انجلوس أيام الحرب الباردة؟ ألم تتظاهر جماعات حقوق الإنسان في أوربا مطالبة دولها بعدم المشاركة في أولمبياد بكين  ٢٠٠٨ بسبب سجل الصين السيء في مجال حقوق الإنسان؟



فإذا كان العالم كله لا ينسى دماء أبنائه حتى لو انتهت المعارك وتحررت الأراضي، فلماذا يُطلب منا أن نتنازل وننسى ونحتفل؟ وإلا اعتبرنا حاسدين أو رجعيين أو غوغائيين؟ في حين أن أرضنا محتلة.. وأختنا تبيت أسيرة.. ودماء شهيدنا لم تجف.. ومقدساتنا لم تزل تئن؟


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 08, 2010 01:43

December 3, 2010

مغامراتي في لندن: يوم السباق الكبير!

البداية:


كنت أراقب إعلاناتهم كل عام ..تلك التي تمولها منظمة أبحاث السرطان بالمملكة المتحدة ( Cancer Research UK) تعرض سيدات من كافة الأعمار وهن يخضن هذا الماراثون المميز المعروف باسم "سباق من أجل الحياة" ( Race for Life) في أرجاء مختلفة من المملكة المتحدة لدعم أبحاث السرطان خاصة تلك المتعلقة بسرطان الثدي، الذي يشكل النسبة الأعلى انتشاراً من هذا المرض الخبيث بالنسبة النساء. كنت ازداد حماسة عاماً بعد آخر..وأعد نفسي بأن أشارك في هذا السباق ذات يوم إن استطعت.. ولكن ذلك لم يحدث .



فالسباق كان يحصل في مدينتي التي كنت أقيم فيها " نوتنجهام " مرة واحدة في العام، وكنت إما أن لا أعرف به إلا بعد فوات الأوان، أو أن لا أتواجد في المكان وقتها لسبب أو لآخر. وحين انتقلت إلى لندن، عرفت بأن الفرصة أمامي أكبر، لتعدد التواريخ التي يمكنني أن أشارك فيها، ولأن معظمها يقع في فصل الصيف حيث يطيب الجو، فعقدت العزم على المشاركة، خاصة بعد أن أدركت بأن أيامي في هذا البلد الجميل باتت معدودة. وحين علمت بأن صديقتي العزيزة تغريد قد قررت أن تركض أيضاً وسجلت اسمها سلفاً لتركض في حديقة " الهايد بارك " مسافة ٥ كليومترات لصالح المنظمة نفسها، فقد حسمت أمري وسجلت في نفس التاريخ وهو الأحد ١٨ يوليو ٢٠١٠.


بعدها أيضاً قمت بإنشاء صفحتي الخاصة بجمع التبرعات للسباق والتي حددت فيها المبلغ الذي أنوي جمعه، ووضعت روابطها لأحث الناس على التبرع لصالح هذه الحملة، كما أنني تبرعت بدوري لها أيضاً.



أمر آخر ساهم في تشجيعي على الركض هو قراءتي في وقت مبكر من العام لكتاب الروائي الياباني الرائع ( هاروكي موركامي ): ( عن ماذا أتحدث عندما أتحدث عن الجري ) ( What I Talk About When I Talk About Running ) ، حيث شارك الرجل في أكثر عشرات المارثونات العالمية ولا يزال. أسلوبه المدهش في تسجيل ذكرياته عن ممارسته لهذه الرياضة الجميلة حتى بعدما تقدم به العمر، ووصفه الدقيق لحالته العقلية والنفسية قبل وأثناء وبعد يوم السباق، كلها كانت كفيلة باستفزاز حماسة الشباب في داخلي مغلفة بالكثير من الغيرة من هذا الشيخ الرياضي !




لماذا نركض لأجلهم؟


فكرة جمع تبرعات خيرية من خلال سباق أو سوق خيري أو شراء منتج أو حضور احتفال لا تروق للبعض في ثقافتنا العربية، إنهم يرونها دليلاً على مادية العالم الغربي، الذي يحتاج لحوافز حتى يتبرع ! في حين أن العربي والمسلم كريم بطبعه، ولا يحتاج لكل هذه المغريات لتجود نفسه لفعل الخير، وهي وجهة نظر احترمها، ولكنني أيضاً أتحمس للأفكار الخلاقة.


فالنفس تحتاج إلى تحفيز، خاصة إذا كنا نتحدث عن التبرع لصالح أبحاث ما أو خدمة مجتمع، وهي أمور لا تبدو شديدة الضرورة والإلحاح للمتبرع بالقدر نفسه الذي يبدو عليه التبرع بالمال من أجل الغذاء والدواء والكساء والمأوى بشكل مباشر كما تعودنا. وللأمانة فإنني أفضل أن أتبرع وأنا سعيدة وراضية بل ومتحمسة على أن أتبرع استجابة لصراخ هؤلاء الأشخاص الذين يقفون في طرقات المصلين الذين يغادرون المساجد بعد صلوات الأعياد.. لا فرق في ذلك بين من كان يصلي في المسجد الحرام في مكة المكرمة أو خارج من مسجد " ريجنت بارك " في لندن !


أضف إلى ذلك بأن في المشاركة في السباق هي نوع من الرياضة المفيدة التي يحتاجها الجسم ليبقى بإذن الله سليماً، فمن المعروف بأن الأكل الصحي مع ممارسة الرياضة بانتظام يساهمان في تحسين مناعة الجسم وصموده في وجه الأمراض. ومادمنا نتحدث عن محاربة مرض في المقام الأول، فلما لا نضرب عصفورين بحجر واحد؟



في بريطانيا عشرات بل مئات السباقات الخيرية التي تقام كل عام، ليس للجري فقط وإنما هناك ماراثونات للدراجات أو السباحة أو تسلق الجبال وغيرها، بل هناك ماراثونات تجمع بين أكثر من رياضة ( السباحة والجري وركوب الدراجات ) وتعرف ب ( ترايثلون ) . بالنسبة لي كان ماراثون الجري هو الأكثر ملائمة لأسباب عديدة ولهذا لم أفكر في الخيارات الأخرى، أما لماذا اخترت الركض لصالح هذه المنظمة دون سواها؟ فلأنها : تهتم بمرض خبيث لا تكاد تنجو منه أسرة ما في هذا الزمان، وقد فقدت ابن عمي الغالي صلاح محمد مكّاوي ( عمو صلاح ) قبل أربع سنوات  بسبب هذا المرض، الذي انتزعه منا شاباً في منتصف الأربعينات تاركاً في نفسي شخصياً حسرة لن تنتهي لأنني لم أتمكن من أن أقول له وداعاً..مات سريعاً فور معرفته بالنبأ بطريقة غبية من فني بالمستشفى..لم يصمد أكثر من ستة أشهر..أنا لم أعتبره يوماً ابن عمي بل عمي، فكثيراً ما لا عبني وأنا طفلة..وحتى بعد أن كبرنا و " تغطينا " بقي في مخيلتي كعمو صلاح فقط ! رحمه الله وأكرم مثواه وأعان زوجته وأطفاله الثلاثة ( أكتب عنه الآن فتتساقط دموعي كما يحصل معي في كل مرة ..محرج أن يحصل هذا وأنا الآن في مكان عام : ( ).



والسبب الثاني، لأن المنظمة  تهتم بشكل خاص بسرطان الثدي المرض الأشد فتكاً بالنساء، ولأن السباق خاص بالنساء أيضاً، وبصراحة كامرأة مسلمة فهذا يلائمني أكثر ويريحني..أعني أن أكون وسط أمواج خالصة من النساء. ولعل السبب الثالث هو أن أوقات السباقات ومواعيدها والأماكن التي تجري فيها أيضاً ملائمة تماماً. فلأنني كنت أعمل وقتها في شركة " شل " ، فلم أكن راغبة بعد عناء أسبوع طويل في العمل في أسافر إلى خارج لندن لأعدو .. وهكذا بدأت المغامرة !



التدريب والاستعدادات


لم أسجل وأدفع رسوم الاشتراك إلا قبل الموعد المحدد ببضعة أسابيع، ولذلك كان الوقت المتاح لي من أجل التمرين قصير نسبياً، خاصة وأنا أعمل في وظيفة مرهقة من التاسعة وحتى السادسة تقريباً مع ساعتين في المواصلات ذهاباً وإياباً، فلا يبقى معي سوى حوالي ساعة للتدريب يومياً، وبعض الوقت في عطلة نهاية الأسبوع. ومع أنني كنت أذهب إلى النادي الرياضي وإن بشكل غير منتظم، ومع تعودي على المشي لمسافات طويلة وطويلة جداً نتيجة لاقامتي الطويلة في بريطانيا ولسفراتي المتعددة إلا أنني ما أن بدأت بالتدرب على الجري حتى كاد يغمى علي ! فلياقتي الأسطورية كانت ( فشنك ) وبدأت أشعر بشيء من الاختناق وألم في الحلق في الأيام الأولى حتى كدت أيأس، ثم قررت أن لا أعذب نفسي وأن أزيد سرعتي بشكل تدريجي، ومما هون علي أن السباق يخيرنا بين فئتين : الراكضين والراجلين، فقلت لنفسي في أسوء الأحوال سأنضم إلى الفئة الثانية. فترة التدريب كانت صعبة رغم كل النصائح التدريبية والغذائية التي قرأتها على الشبكة، وجعلتني أعد نفسي بأنه إذا ما كانت هناك مرة قادمة، فسأبدأ بالتدرب قبلها بشهرين أو ثلاثة حتى أكون أكثر لياقة واستعداداً. لكنها مرت على كل حال، وخف الألم كثيراً وصرت أفضل قليلاً وأسرع أيضاً.



حين وصلني رقمي في السباق عبر البريد والقميص ( التي شيرت ) الذي اشتريته من المنظمة حين اشتركت شعرت بحماسة أكبر فذهبت لأشتري بقية العدة . استشرت البائعة بشأن حذاء رياضي ملائم للجري الطويل وقد ساعدتني كثيراً ( سأفتقد والله لطف البائعات هذا في السعودية !) ، ثم جاء وقت اختيار الزي نفسه وهنا كان علي أن أواجه السؤال التالي : كيف يمكنني أن أركض بحجابي وبثياب محتشمة ولا تعيق حركتي وتجعلني أظهر أنيقه في الوقت نفسه؟ هذا السؤال مهم جداً للنساء، لأن الحياة في الخارج والرغبة في ممارسة النشاطات دون التفريط في الواجبات الدينية هي معضلة حقيقية. يعني لا بد من أفكار إبداعية بحيث أستطيع أن أجعله ملائماً لي، وبعد زيارات متعددة لمحلات الرياضة، أخذت بعض الأفكار من هنا وهناك وتوصلت إلى زي خاص يحقق الحدد الأدنى مما أردت والحمدلله.








في الهايد بارك !


وجاء اليوم الكبير، إستيقظت مبكراً، تناولت فطوراً خفيفاً، وأخذت معي زجاجة مياه معدنية وانطلقت من محطة قطار DLR ( بلاك ول ) إلى ( بانك ) ومنها أخذت خط المترو ( سنترال لاين الخط الأحمر ) إلى ( هولبرن ) ومن هناك أخذت ( البكاديلي لاين - الخط الكحلي ) إلى ( هايد بارك كورنر ) ، في رحلة استغرقت أكثر من ٥٠ دقيقة ( استخدام المترو في لندن بشكل يومي هي إحدى سلبيات الحياة في لندن التي سأكون سعيدة بالتخلص منها !) .


صديقتي تغريد كانت قد سبقتني إلى هناك مع ولديها اللذان حضرا لتشجيعنا واستيقظا مبكرا في يوم صبيحة أحد ! وصلت في حوالي الساعة العاشرة عشرة والثلث، كانت الحديقة الشهيرة مزدحمة جداً بالنساء من كل عمر وجنس ولون، وقد ارتدت معظمهن اللون الزهري الجميل وهو اللون الذي أصبح شعاراً عالمياً لمحاربة مرض سرطان الثدي، وأرقامهن مثبته على قمصانهن من الأمام في حين علقن على ظهورهن عبارات وصوراً ورسومات تحتفي بقريب أو بعيد راح ضحية هذا المرض أو مازال يصارعه. كانت قراءة تلك العبارات واحدة من أكثر الأشياء تأثيراً طوال فترة السباق..من أمثلة هذه العبارات : ( في ذكرى عمتنا أو جدتنا التي غيبها السرطان قبل أعوام..لن ننساكِ ) أو ( من أجل ابن أختي البالغ من العمر ثمان سنوات..الذي لا يزال يقاتل بشجاعة ) أو ( من أجل كل مرضى السرطان في العالم ) ..وللأسف بأني لم أتمكن من أكتب شيئاً على ظهري لأنني لم أستوعب تماماً عندما كنت في المنزل الهدف من البطاقة الثانية الفارغة التي وصلتني مع رقمي في السباق فكتبت عليها اسمي ! ( غشيمة ومتعافية :) )!





عندما وصلت كانت تمارين الاحماء قد ابتدأت وكانت هناك شاشات كبيرة في أرجاء متفرقة من الحديقة لتمكننا من مشاهدة لما تقوم به المدربات على المنصة على أصوات موسيقى حماسية جميلة..الأجواء كانت مدهشة..فالجو بديع وشمس الصيف الانجليزية حنونة علينا..بدوت كطفلة تائهة في مدينة الملاهي التي تزورها للمرة الأولى..أخذت أراقب كل من حولي..فهناك من حضرن جماعات واتخذين زياً موحداً..وهناك من ارتدين ملابس غريبة أو وضعن باروكات شعر فسفورية..لكن صاحبة أغرب زي بلا منازع هي فتاة " البنك بانثر " ( تجدون صورتها الظريفة هنا -اضغط أي صورة للتكبير )!






قبل السباق كان الكل مشغولاً إما بالتمارين أو بأخذ الصور أو بتثبت الأرقام أو بالتعرف على الآخرين، وبالرغم أنني كنت وحدي قبل أن ألتقي صديقتي إلا أنني لم أشعر بالوحدة إطلاقاً بل بالانتماء لهذه الجموع التي تبذل مالها وجهدها ووقتها لأجل هدف نبيل تؤمن به.








أسرع .. أسرع مثل الريح !


من منكم يذكر " لبنى السريعة " ؟ حسناً كنت أحب لبنى ومازلت أذكر ما يقوله لها مشجعوها " هيا هيا .. هيا لبنى أسرع أسرع مثل الريح !" ( قلت سابقاً أنني كنت مدمنة أفلام كرتون وأحفظ حلقات كاملة .. هاكم الدليل !).





بصعوبة ووسط الزحام..التقيت بتغريد وأبنائها..ولم نضيع وقتنا أبداً فقد استغلت كل واحدة منا الأخرى لالتقاط الصور ! بعدها بدقائق بدأ المنظمون يطلبون منا اختيار الفئة التي نريد الانضمام لها : الجري أو المشي..والأمر عائد للمتسابقة فيمكن أن تجري أو تمشي بغض النظر في الفئة التي شاركت فيها..لكن لأنه قديماً قيل رحم الله من عرف قيمة نفسه فلا داعي أن تدخل العجوزه في فئة الجري وتمشي ( تاتي حبه حبة.. ) ثم تتذمر لأن هناك دبابة عابرة للقارات دهستها وهي تركض !


والحقيقة أن كاتبة هذه السطور كانت في حيرة من أمرها تشارك مع أي فئة؟ كرامتها كانت تقول ( إنت شباب ومحلك مع بطلات الجري ) وعقلها كان يقول ( بكره وراكِ دوام وخلينا في ساعة رحمان ) ..ثم حسمت تغريد الأمر باختيارها فئة المشي..وأغرتني بفلسفتها ( خلينا نسير أزكيا..نحنا نروح مع الماشين دول ونجري فنقوم نغلبهم !) وطبعاً أنا ما صدقت ! فكان ردي ( أنا صراحة كنت أبغى أروح أجري..أنا متدربة وتعبانه على نفسي..لكن عشان خاطرك بس :) ..وعشان ما نتفرق عن بعض ونطفش..حأضغط على نفسي وأجي معاكِ :) ) .


وإن لم أكن مخطئة فعدد المتسابقات في فئتنا كان أكثر بمراحل من الفئة الأولى، وكنت ترى فيه الجميع : من تجري ومن تمشي بسرعة ومن تمشي ببطء ومن تمشي بالعكازات ومن تدفع طفلها في العربة ومن تدفع نفسها على العجلات، كان اصرار النسوة المشاركات رغم ظروفهن العمرية والصحية المتفاوتة أمراً مثيراً للإعجاب.



قبل أن يبدأ السباق كانت هناك كما ذكرت بعض الاستعراضات الإحمائية وأذكر منها أغنية ( Girls Just Wana Have Fun ! ) ، كما كانت هناك بعض الخطب القصيرة، إذ شرح لنا باحث من جامعة " امبريال كولج " العريقة كيف تساهم هذه التبرعات في تمويل الأبحاث التي تجريها الجامعة العريقة فيما يتعلق بمرض السرطان وآخر ما توصلوا إليه في هذا المجال.



حين انطلقت الصافرة في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً كنا في فورة الحماس فبدأنا السباق ونحن نحاول الجري، ولكن تدافع الجموع جعل مهمتنا شبه مستحيلة فأخذنا نمشي بخطى متسارعة حتى ما إذا ما وصلنا للمقدمة وخف الزحام انطلقنا نجري بحماسة وكأننا ننافس على الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الأولمبية ! لكن بعد قليل ستسقط الأقنعة وسأكتشف بأنني عداءة أولمبية من الدرجة الحادية عشرة..فمستوى اللياقة سيظهر على حقيقته، لكنني لم أيأس..وقررت أن أواصل السباق بين العدو والمشي بشكل يشبه ما يقوم به الرجال في هرولة السعي ( مع الفارق في التشبيه وحفظ الاحترام لمقدساتنا ).


وهكذا افترقنا أنا وتغريد مرات عديدة لفارق الخبرة وعامل السن ( مع تحياتي وتقديري لأم ريان :) ) ، مع اعترافي بأن استراتيجتها كانت أفضل حيث أنها كانت تشحن قواها بما يكفيها لتركض من جديد، أما أنا فكنت أركض لفترات طويلة حتى تنقطع أنفاسي وأستهلك طاقاتي وأصبح مضطرة لأن أخفف من سرعتي كثيراً ( تذكرون حكاية الأرنب والسلحفاة؟ ).






وبما أن سباقنا العظيم هذا كان عبارة عن ٥ كليومترات ( ليست قصيرة حال الجري صدقوني !) ، فقد كانت هناك لوحات تعلمنا بذلك كلما اجتزنا أحدها، مما يساعد في رفع درجة حماستنا ويقوي عزائمنا..خاصة مع وجود متطوعين ومتطوعات عندها يصفقون ويلوحون لنا ويشجعوننا. أيضاً كان هناك بعض زوار الحديقة والعمال الذين اصطفوا على جانبي المضمار ليلوحوا لنا أيضآً. ربما كنت سأشعر ببعض الحرج لو كان هناك بعض أهل الخليج الذين يكتسحون لندن في الصيف..لكن بما أن السباق قد بدأ قبل الظهر فقد كنت متأكده من أنهم يرقدون بسلام في فنادقهم :) !







خط النهاية يلوح في الأفق


أخيراً وبعد أكثر من ساعة من الجري المضني بدأ خط النهاية يلوح من بعيد..فدبت الحماسة في نفوس الجميع فجأة وتحول كثر من الراجلين إلى عدائين دوليين :) يسابق كل منهما الآخر بشراسة..قررت أن أضغط على نفسي قليلاً ولا أتوقف هذه المرة إلا بعد أن اجتاز هذا الخط الذي ظهر من بعيد كسراب..وقد كان..وتلك اللحظة التي اجتزت فيها الخط ثم قفزت في الهواء ووجهي تعلوه ابتسامة النصر كانت لقطة مميزة من حياتي.. استرجعها بابتسامة الآن وأنا أخط هذه الكلمات..وتمنيت من كل قلبي لو أن أحدهم قد التقط لي صورة آنذاك فقد كنت مستعدة أن ادفع له مقابلاً لأحصل عليها !



بعد السباق الذي أنهيناه في ساعة وعشرين دقيقة حصلنا على الميداليات وعلى حقيبة تذكارية..وانطلقنا وصديقتي نأخذ المزيد من الصور التذكارية !!( معليش سعوديات وعندنا عقد من زمن الطفولة فلم يكن مسموحاً لنا نجري في حوش المدرسة فيعني قدروا ظروفنا المعنوية..ومعرفتنا شبه التامه بأن التجربة قد لا تتكرر أبداً ) .



بعدها كان الجوع قد بلغ منا مبلغاً فذهبنا للغداء في مطعم بيتزا قريب وشهير ( على ذمة تغريد أنه كان المفضل لدى الأميرة ديانا !) وكأننا قررنا بحزم أن نسترد كل الكيلوجرامات التي يمكن أن نكون خسرناها - لا سمح الله !- في السباق.



وقد أعلن في نهاية اليوم عن نجاح الحملة في جمع مبلغ كبير صفقنا له ( بصراحة السباق كان في يوليو ونحن الآن في ديسمبر وبالتالي ذاكرتي المعطوبة تعتذر عن المشاركة الآن ) ، لكن حصيلة ما تم جمعه من السباقات المختلفة في ٢٠١٠ حتى لحظة كتابة هذه السطور هو ( 38 , 138 , 468 ) جنيهاً استرلينياً !



وفي الختام..


هذه التدوينة هي عربون شكر إلى كل أولئك الذين دعموني وساعدوني في أن أصل سريعاً للمبلغ الذي أردت أن أجمعه من السباق وهو ٥٠٠ جنيه استرليني.. أي ما يقارب ٣٠٠٠ آلاف ريال سعودي..فلهم أقول ممتنة لثقتكم وشاكرة لدعمكم..وأسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناتكم وأن نرى جميعاً قريباً ذلك اليوم الذي تتخلص فيه البشرية جمعاء من هذا المرض الخبيث.




 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 03, 2010 07:08

مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.