سفاري جدة
فيلم دعائي باحترافية عالية، اُستخدمت فيه أحدث تقنيات الجرافيكس الرقمية، انتجته أمانة جدة لتحملنا معها عشرين سنة إلى الأمام لنلقي نظرة على المدينة
الحلم. شاهدتُ الفيلم (كيف تكون جدة عام 2030) على موقع (اليوتيوب) حتى النهاية، وللحظة ما من عمر الزمن أردت أن أؤمن..أردت أن أصدق بأن ما أراه هنا خطة علمية مدروسة لمدينتي التي أعشق وسترى النور ذات يوم. وحين انتهى الفيلم ألقيت نظرة فاحصة على كل ما كُتب تعليقاً على هذه الدعاية من جهاز حكومي هو أمانة مدينة جدة، فلفت نظري هذا الكم الهائل من اليأس والحباط وعدم الثقة، وهي أمور ظهرت في شكل سخرية مريرة من الفيلم ومن بعض المشاريع الموعودة فيه. بعض التعليقات اللاذعة جعلتني أتعجب فمنذ متى أصبح السعوديون أصحاب نكتة على هذا النحو؟ يقولون النكات هي وسيلة لينفس المرء عن احباطاته وهمومه، وهي تزدهر عادة لدى الشعوب التي تعاني من أزمات متتالية في ظل يأس شعبي من إمكانية تغير الأوضاع السيئة ومحدودية القدرة على النقد الصريح، فتأتي النكتة اللاذعة لتقدم النقد مواربة، فلعل الضحكة تكون طوق الأمان من الوقوع في المتاعب. فهل وصل سكان جدة إلى هذه المرحلة؟
ماذا كان يمكن نتوقع من أهل مدينة كانوا يعتقدون بأنهم يعيشون في عروس البلاد وواجهتها العالمية فإذا بهم يفيقون ذات أربعاء حزين على كارثة غرق مدينتهم التي استحالت إلى فينيسيا
الصحراء، ليس بسبب كارثة طبيعية بالمقام الأول وإنما لأن مشاريع تصريف مياه الأمطار كما مشاريع الصرف الصحي، بتلك الميزانيات الضخمة، لم تصمد أمام أول اختبار حقيقي؟
كيف نطلب من هؤلاء الذين باتوا يحلمون فقط بأن يتحقق لهم الأمان من الموت غرقاً في شوارع مدينتهم، والأمن واحد من أبسط ضرورات الحياة ومتطلبات العيش في تجمع حضاري مدني، أن يصدقوا بأن مدينتهم ستتحول إلى جنة عدن الأرضية كما تبشر بذلك الأمانة في فيلمها؟ تلك الخضرة الباهرة التي ستلف شوارع العروس حتى ليظن المرء أننا في مراعي نيوزيلندا، وتلك الشلالات التي تنافس غابات الأمازون، بل وأكثر من ذلك تلك السفاري المدهشة التي لا يضاهيها سوى سفاري كينيا الطبيعية..رحم الله منتزه الأنعام الجميلة!
وأضف إلى ما سبق المشاريع الثقافية والعلمية والتجارية والسكنية ومشاريع القطارات والمواصلات العامة التي من الصعب تخيلها مادام البصر الذي يجيل النظر في جدة لا يرى سوى شوارعاً مصابة بالجدري، ومادامت خلايا الشم في الأنف تزكمهاالروائح الكريهة، ومادامت النفس تصاب بالدوار من كثيرة الاختناقات المرورية.
وعلى افتراض بأن هذه الخطط قابلة للتطبيق، وأنها مدروسة ولها جدول زمني وميزانية، فهل سترى النور فعلاً ولو بعد عشرين سنة؟ كم عدد المشروعات في جدة بشكل خاص والبلاد بشكل عام، التي أُعلن عنها بشكل مكثف وضخم، ثم لم يسمع بتنفيذها أحد؟ أو التي وصلت تكلفتها إلى أربعة أضعاف ما تستحق أو أكثر؟ دعونا لا نغرق في التفصيلات حتى لا يتشعب الحديث، لكن الإجابة على عجالة هي أكثر مما ينبغي، والنتيجة الحتمية لذلك هي حالة فقدان الثقة التي تفشت عند الناس إلى الدرجة التي بات إقناعهم بوجود شيء إيجابي حقيقي حولهم مهمة بالغة التعقية والصعوبة. فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولكن أهل جدة يواجهون وللسنة الثانية علي التوالي مياه الأمطار بصدور عارية، ولازال شهداء العام الماضي ينتظرون العدالة التي اغتربت طويلاً.
لو سألت واحداً من أهل جدة عن مشاعره اليوم تجاه المطر لقال بعفوية: "أعوذ بالله..صلي على النبي يا شيخ..إن شاء الله ما تنزل مطره!" في حين أن أسلافه كان يفرحون به ويهتفون" خير..خير" حين تلوح الغيوم السوداء في الأفق، فمن سرق منهم فرحة ابن الصحراء البدائية بغيث السماء؟ من حوّل المطر من مهرجان سنوي للعب الأطفال في الهواء الطلق إلى بعبع يخشاه حتى الكبار الذين سيفرضون حظر التجول على أسرهم وقت هطوله؟
أهل جدة يا أمانتنا الموقرة تواضعت أحلامهم كثيراً، لم يعودوا يحلمون بأن تتعافى المدينة من جدري الاسفلت، ولا أن تختفي رائحة العفن التي تفوح من البحر والبحيرات، ولا حتى أن يصبح
لديهم حدائق ومتاحف ومراكز ثقافية تليق بمدينتهم العريقة بوابة الحرمين وعاصمة البلاد التجارية، اليوم حلمهم الوحيد هو أن يشعروا بالأمان على أرواحهم وأرواح من يحبون، والأمن على ممتلكاتهم التي وضعوا فيها تحويشة العمر من منازل وسيارات ومحلات تجارية..أعطوهم ذلك وسيعدونكم بأن لا يسألوا أبداً عن ماذا حل بسفاري جدة الموعودة.
-هذه هي النسخة الثانية المعدّلة من المقال
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

