حتى قطرات المطر يمكن أن تفتت الحجر


ثلاث مقالات كتبتها في جريدة الوطن عن كارثة جدة العام الماضي عناوينها: (مدن الملح) و (جدة يا وهج الشمس) و (هل نحن حقاً ضد الفساد؟)، كما كتبت تدوينة نشرتها في مدونتي قبل أسابيع بعنوان (سفاري جدة)، فماذا يمكن أن أضيف هنا؟



هل أكتب عن تجربتي الشخصية التي عايشتها على أرض الحدث هذه المرة وعن تجارب الآخرين حولي؟ أأكتب عن والدي الذي أمضى ليلته في المستشفى؟ ليس لأنه كان مريضاً – لا قدر الله – بل لأنه واحدٌ من مئات الآلآف من الأطباء والمعلمين والموظفين وأرباب الأسر الذين توجهوا صباحاً لمقرات عملهم فعلقوا فيها لأكثر من أربع وعشرين ساعة في بعض الأحيان. هل أتحدث عن أخي الشاب الذي كان في مقر عمله ففوجيء ومن معه بالمياه تجتاح المكان وتجبرهم على الفرار؟ هل أحكي بالتفصيل عن مغامرة العودة إلى المنزل والتي ابتدأت في الساعة الحادية صباحاً وانتهت في التاسعة مساء وتخللها القلق والحيرة خاصة بعد أن انقطع اتصالنا به؟ أم أنشر هنا صورة له لدى وصوله المنزل والتي تشبه شخصاً عاد لتوه من الجبهة أو مناجم الفحم؟ هل أحكي عن صديقتي التي حُرمت من طفلها – ابن الخامسة – لثلاثة أيام متواصلة؟ أم عن مصائب الصديقات العالقات والجيران؟


هل أردد القصص المزعجة عن عجز أكثر من جهاز حكومي عن التعامل مع الأحداث كما يجب وترك الناس يواجهون مصيرهم "بالبركة"؟ أم عن فشل وبلادة وسائل الإعلام السعودية وخاصة التلفزيون الرسمي الذي كان منشغلاً -حقيقة لا مبالغة-إما بالزراعة في "فيفا" أو بسباق الخيل؟ هل أتحدث عن الشائعات التي سادت حول عمليات الإنقاذ "بالواسطة" التي تمت في بعض المؤسسات التعليمية النسائية؟ أم أسلط الضوء على مكابرة الأجهزة المعنية لفترة طويلة عن تأكيد وجود ضحايا رغم ما قاله شهود العيان؟ مهما كتبت هنا فسيكون كلاماً مكرراً كتبته أنا أو كتبه غيري..فلا جديد "وسط المطر" حينما يتعلق الأمر بالقصص المأساوية أو تقصير الأجهزة الحكومية، أو حتى المطالبة بالمحاسبة والسؤال عن آخر أخبار – طيبة الذكر- لجنة التحقيق في كارثة سيول جدة، أو الجهود الإغاثية والتطوعية الشعبية..فهل من جديد يبرر هذا المقال إذن؟


الجواب هو نعم..فالجديد هو موقف الناس في جدة مما حصل، في العام الماضي كان الحزن والرعب سيدا الموقف، وبعد أن هدأت الأمطار والعواصف كانت هناك حملة فتية تطالب بتقديم المسوولين للمحاسبة، وتلقت أمانة جدة آنذاك النصيب الأكبر من اللوم والتقريع. اليوم الصورة تتغير تدريجياً، بالطبع لا تزال الناس خائفة وحزينة ولكن يبدو بأن الغضب هو الحالة الأكثر تعبيراً لوصف مشاعر سكان المدينة المنكوبة..الغضب من استمرار ما يعتبرونه مهزلة عاماً بعد آخر دون أن يُقدم شخصٌ واحد للعدالة، وإحساس بالخذلان من الجهات المعنية التي أثبتت التجارب بأنهم دائماً دون مستوى الحدث بغض النظر عن المبررات..فما حدث ما كان يجب أن يحدث..وإياك أن تستفز أحدهم بتحميلك السماء مسؤولية الكارثة..فالمطر نعمة من خالق الأرض والسماء..لكن الفاسدين والمفسدين هم من سرقوا فرحتهم الفطرية به وحولوه إلى قنبلة إنشطارية تدمر الأخضر واليابس.


أو إذا أردت أن تستفزهم أكثر فاكتب مقالاً تلوم فيه المواطن " الفاسد" على سكنه في العشوائيات وطالب الحكومة بأن تصادر أرضه دون تعويض، ولدي ثلاثة أسئلة هنا لأصحاب هذا الطرح: ما الذي يجبر المواطن بالأصل على أن ينشيء بيتاً في حي عشوائي يفتقر للخدمات؟ والسؤال الثاني: لماذا برأيهم يحدث هذا الزحف المجنون إلى المدن الكبرى؟ والسؤال الثالث: هل مخطط أم الخير عشوائي؟ بل هل أحياء الجامعة والحمراء والأندلس وفلسطين -وقد غرقت- عشوائيات؟


أهل جدة انتبهوا أيضاً بأن أمانة مدينتهم ليست سوى جهاز واحد وسط عشرات الأجهزة الحكومية والمؤسسات الخاصة المسؤولة عما جرى..ومن الخطأ والظلم تحميلها وحدها المسؤولية. ففي ظل غياب الشفافية والمحاسبة، وتفشي الواسطات والمحسوبيات، وانعدام التخطيط السليم، وعدم وجود جهة متمكنة لإدارة الكوارث فإن هذا أقل ما يمكن يحصل.


الطريقة الأمثل لقياس حجم الغضب الذي يستوطن قلوب وعقول سكان العروس هو بملاحظة تغلب هذا الغضب على مشاعر الخوف والتحفظ حينما يأتي الأمر لانتقاد المسؤول أياً كان، أصبح الناس يتحدثون بصراحة ولسان حالهم يقول لقد طفح الكيل! وما الذي يمكن أن يحصل لهم أكثر مما حصل؟ حين تتعرض لتجربة مريرة تقف فيها بين الحياة والموت أو حين تفقد حبيباً أو قريباً أو تخسر بيتك وأغلى ممتلكاتك..فما الذي يبقى لتخشى عليه؟


بدأت الأمور الآن بالعودة إلى طبيعتها في جدة، وإن كان ذلك يتم ببطء شديد لمن لديهم مصالح يجب أن تُقضى، وبدأ أهل جدة – لاسيما شبابها – يخرجون من حالة الإرتباك الأولية ويطرحون الأسئلة الصعبة والتي لم تعد لماذا حصل هذا لهم؟ بل لماذا تتجدد هذه المأساة؟ وماذا حصل لشعار محاسبة "كائناً من كان"؟ وماذا يجب أن يفعلوا ليس فقط لإغاثة المنكوبين فحسب بل لمنع تكرر ذلك مجدداً؟


الأجوبة التي ستأتيهم قد تتشابه أو تختلف، لكن الأكيد هو أن حراكاً شعبياً شاباً وضع المطر بذوره العام الماضي بدأت سيقانه تشق سطح الأرض وتبرز على السطح اليوم. قوية هي حبة المطر وقادرة على أن تفتت بهطولها المتواصل قوة الحجر.. ومعظم النار من مستصغر الشرر..قطرة هي اليوم ولكن من يدري فربما تغدو غداً..أو ربما بعد غد..بحر.



المقال كما نشرته الوطن

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 02, 2011 04:46
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.